الأكوان المتعددة: علم أم خيال؟ (3 من 3)

image_print

بعد استعراض أهم فرضيات الأكوان المتوازية على تنوعاتها واختلافاتها، نأتي إلى استعراض مجموعة من الاستنتاجات والردود على هذه الفرضيات.

وسنناقش فيما يلي أهم الاستنتاجات التي تستحق التوقف والنقد:

1- الملاحظ أن جميع هذه الفرضيات تؤدي إلى أنه مع هذه الأعداد الكبيرة جداً للأكوان المفترضة، فإنه ليس غريباً أن يوجد كون واحد ككوننا تنشأ فيه حياة وتكون مناسبة لكائنات ذكية تكتشف قوانين هذا الكون، وهذه هي فكرة المبدأ البشري.

2- فكرة الأكوان المتعددة قامت في أساسها على الاحتمالية الموجودة في ميكانيكا الكم، وهذا يقودنا إلى سؤال هام وهو: هل ما ينطبق على العالم الذري وتحت الذري يمكن أن ينطبق على العالم المشاهد والمحسوس أمامنا، ففكرة تواجد الإلكترون في مكانين في آن واحد كما في العالم الذري هل يمكن أن يحدث مثيل لها في عالمنا المشاهد على مستوى الأجسام الكبيرة؟ فضلاً عن أن تحدث في أكوان كبيرة جداً تقاس فيها المسافات بسرعة الضوء؟

3- مع كل اكتشاف علمي أو عند ظهور أي نظرية جديدة يسارع بعض المسلمين -من الشيوخ وعلماء الدين- لإنزال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على هذه النظريات، وهذا أمر لسنا مضطرين إليه، فهذه النظريات لم يتم إثباتها علمياً، والغالب أنه لن يتم حتى إثباتها في المستقبل المنظور على أقل تقدير.

4- يقول فيلسوف العلوم الشهير كارل بوبر: “إن معيار الوضعية العلمية لنظرية ما هو إمكانية تكذيبها أو تفنيدها أو اختبارها”[1] وبمعنى آخر لكي نقول عن نظرية إنها علمية يجب أن تخضع للاختبار والتكذيب، والعكس صحيح، وهذا يقودونا إلى التساؤل حول الأكوان المتعددة: هل هناك دليل على وجود هذه الأكوان؟ وهل هذه الفرضيات يمكن اختبارها علمياً حتى نتبين صحتها من خطئها؟

روجر بينروز

5- يقول روجر بينروز الرياضي الإنكليزي الملحد وصديق ستيفن هوكينغ: “ما معنى أن تقول عن شيء إنه موجود وأنت لن تستطيع من حيث المبدأ ملاحظته؟”[2]، وانطلاقاً من هذا الكلام فأين هي آثار الأكوان المتعددة في كوننا حتى نستنتج ونلاحظ وجودها؟ بينما تبدو آثار الله تعالى ظاهرة في كونه ودالة على عظيم صنعه وقدرته، ويلاحظها الصغير والكبير ويدركها العامي البسيط والعالم المتعمق، وقديماً قال أعرابي بسيط لبيب:” البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على العليم الخبير؟”.

6- تنص “شفرة أوكام” على وجوب اختيار التفسير الأقل تعقيداً عندما توجد عدة تفسيرات لظاهرة ما، ومن هذا المنطلق فأمام التصميم الدقيق Fine Tuning لهذا الكون لدينا اختياران؛ إما الاختيار بين إله واحدٍ خالق لهذا الكون أو بين مجموعة فرضيات الأكوان المتعددة، ولا شك أن الاختيار الأقل تعقيداً والأمثل هو وجود الإله.

7- وجود شيء ما رياضياً لا يعني وجوده فيزيائياً أو واقعياً؛ وهذا ينطبق بالطبع على فرضية الأكوان المتعددة، فإثباتها رياضياً لا يعني إثبات وجودها الفيزيائي كما يفترض عالم الكونيات تيغمارك [انظر المقال الثاني من هذه السلسلة]، فالرياضيات تحتوي مثلاً على الأعداد العقدية وعلى اللانهاية، فهل هذه أشياء يمكن أن توجد على أرض الواقع؟ كما أن الرياضيات يمكن تشبيهها بلغة لفهم الكون، وعندما يتعلم أحد الأشخاص لغة ما كالفرنسية على سبيل المثال فهو يتعلمها ليفهم ما يقوله الفرنسيون عن أشياء موجودة بالفعل، إلا أنه إذا صنع كلمة في ذهنه مستخدماً الحروف الفرنسية فهذا لا يعني أن الكلمة الجديدة ستكون موجودة واقعيا بالفعل. وفكرة تيغمارك ليست جديدة، وإنما تعود في أصلها إلى حوالي خمسة قرون قبل الميلاد مع الفيثاغوريين الذين اعتقدوا “أن البنى الرياضية هي في أساس الأشياء جميعها جواهر”[3] ثم اعتبر أفلاطون أن الرياضيات جوهر الأشياء جميعا[4]، وما فعله تيغمارك هو أنه طبق الفكرة السابقة وأدخلها على فرضيات الأكوان المتعددة.

8- من الجدير بالملاحظة أن فرضيات الأكوان المتعددة بنيت على فرضيات علمية أخرى لم يتم إثباتها علمياً حتى الآن؛ وقد حصل هذا مع بعض تنبؤات نظرية التوسع الكوني، ونظرية الأوتار، وتفسيرات العوالم المتعددة في ميكانيكا الكوانتم لهيو إيفريت وغيرها.

9- هل يمكن القول إن فرضية الأكوان المتوازية نوع من الفلسفة أو الميتافيزيقا؟ والجواب الراجح هو نعم، حيث يقول بول ديفيز: “إن فكرة الأكوان المتعددة أو الوقائع المتعددة (multiple realities) بقيت في دوائر الفلسفة لقرون غير أن التبرير العلمي لها هو أمر جديد”[5]، فالعلماء المعاصرون من الملحدين خاصة تلقفوا هذه الفكرة الفلسفية التي وردت بتصورات مختلفة من عدد من الفلاسفة مثل ليبنتز ووليام جيمس وغيرهما، وحاولوا أن يلبسوها لباس العلم بطريقة ما، فالفكرة أصلها فلسفي وتدخل في إطار النقاشات الفلسفية.

أخيراً حتى لو سلمنا جدلاً بوجود هذه الأكوان المتعددة اللانهائية، أو ذهبنا بعيداً إلى أن العلم سيثبت يوماً ما بطريقة ما وجود هذه الأكوان، فهنا يُطرح سؤال بديهي: من أنشأ كل هذه الأكوان؟ ومن أين كانت نقطة الانطلاق؟ ومع هذا السؤال تعود الحلقة المكررة إلى بدايتها ويعود الملحدون إلى ترديد نفس الأسطوانة المشروخة عن نشأة هذا الكون الواحد وعن كيفية نشأة الحياة على الأرض، وتبدأ أحاديث الصدفة والعشوائية ويبقى الملحدون يدورون في هذه الحلقة المفرغة، حتى إن ظنوا أنهم وسعوها بافتراضات عجيبة مثل افتراض الأكوان المتعددة اللانهائية!


الهوامش

[1] غنار سكربك نلز غيلجي، تاريخ الفكر الغربي ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة،2012، ص883

[2] Paul Davies ,mind of god,Simon&Schuster,1992 p.191

[3]غنار سكربك نلز غيلجي، تاريخ الفكر الغربي، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة،2012، ص65

[4] المصدر السابق، ص116

[5] http://www.nytimes.com/2003/04/12/opinion/a-brief-history-of-the-multiverse.html?pagewanted=all

مصادر تمت الاستفادة منها في أجزاء السلسلة:
-لقاءات تلفزيونية ومحاضرات لدكتور باسل الطائي أستاذ الفيزياء الكونية في جامعة اليرموك في الأردن.

-عبد الله العجيري، شموع النهار، تكوين للدراسات والأبحاث، 2016.

-عمرو الشريف، خرافة الإلحاد، مكتبة الشروق الدولية، 2014.

-ستيفن هوكينغ، تاريخ موجز للزمان، دار التنوير، 2016.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد