اقرأ.. وربك الأكرم
لمّا كان القرآن كتاب هداية في الأساس، فإنه لم ينزل ليقيم الحجج العقلية وتفصيل أدلة الحق فحسب، وإنما لوضع الطريق أمام عقل الإنسان للوصول إلى الهدى والخضوع له حبًّا وفهمًا؛ إذ إن هداية الإنسان لا تكون ببيان أدلة الحق ودحض خرافات الباطل ببساطة. فالإنسان ليس عقلا فلسفيًّا جافًّا فحسب، وعملية الهداية ليست مجرد برمجة العقل كما تبرمج الأجهزة الألية، بل إن الإنسان خليط بين عقل ومشاعر. فكل إنسان لديه صراع ما بين العقل والهوى، ولكن يتفاوت الناس في حدة هذا الصراع، ويتفاوتون بين من غَلَب عقله هواه ومن غلب هواه عقله، وعلى قدر غلبة أحدهما يكون إخماد الآخر.
أصل الداء والدواء
يكون الإنسان الذي غلبه هواه أقرب للكفر منه للإيمان، لأنه أصبح أسير نزواته ويبحث عمّا يحقّق له اللذة والراحة، غير مكترثٍ لا بحق ولا بباطل، أما الإنسان الذي يغلب عقله هواه، فيكون أقرب للحكمة والرشاد، وترسم أمامه معالم الطريق وسبل الهداية، لأنه آثر الحق على مشاعره وميوله الشخصية. وقد لخّص القرآن كل سبل الضلال والهداية في آيتَين، بين في أولاهما أن أول طريق الضلال هو الاستسلام لنزوات الهوى، فقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه} [ص: 26]، أما ثانيهما فأشارت إلى أن أول طريق الهدى يبدأ من مسايسة الهوى وحمل النفس على اتباع الحق، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
أشار القرآن إلى أصل الداء ومكمن الخطر، ليخمد سلطان الهوى وليعلي طاقات العقل. ولكن القرآن تفرد عن غيره من الكتب. إذ إن الكتب المعنية بالقضية الوجودية عادة ما تبدأ بنفي رأي الآخر وإقامة الأدلة على المراد إثباته، فهي بذلك جواز سفر للعقل حتى يهاجر بين دروب الفكر والفلسفة. ولكن القرآن كان له مسلك آخر فريد، إذ إنه قبل أن يدعو العقل لحلبة الجدل وصراعات الفكر، بدأ الوحي بوضع العقل في مواجهة أمام نفسه، وقبل أن تتخطّف علامات الاستفهام ذلك العقل فترهقه، فليقف العقل أولًا ليسأل ذاته، من أنا!؟
{اقرأ باسم ربك}
اقرأ، وانطلق في قراءتك من اسم الله الخالق، إذ إن القراءة لا تبدأ من لا مكان، فلا بد للقارئ أن يبدأ من أرضية ما تكون هي نقطة البداية والانطلاق. فالإنسان الملحد يؤمن أن عقله نشأ من عملية تطورية صدفية عشوائية، ومن ثم، تصعب عليه الثقة في عدد من مبادئ العقل كـ السببية وقبول النقيضين، وقضيّة أن البعض أصغر من الكل، لأن المسطرة التي لم تجد من يصممها ويضبط معياريتها قياساتها باطلة ولا شك!
أما المسلم، فقراءته لا تبدأ إلا من نقطة (الإيمان اليقينيّ) وهو الثقة في وجود إله صمم هذا العقل وأحكم مبادئه العقلية، فتكون الثقة في صفات الإله الذي صمّم العقل هي المرجعية التي على أساسها يثق الإنسان في أحكام عقله وآرائه الشخصية وحكمه على الأمور بين صواب وخطأ وحق وباطل.
من هنا، لا مكان للقراءة إلا إذا نبعت من إيمان مسبق وثقة في العقل ويقين في صفات مصمم هذا العقل! وأي قراءة لا تبدأ من هذا الاعتقاد إنما هي محض عبث، إذ إن الآية تأتينا بصيغة الماضي (الذي خلق)، فالإنسان كان المرحلة الأخيرة في قصة الوجود، بعدما كان الله، فخلق فسوى، وقدر فهدى، فالإنسان جاء متأخرًا ليقرأ عن تفاصيل ما خلقه الله، ودقة تقديره. ولا يمكن لقارئ أن يبدأ في القراءة، إلا إذا انطلق من هذه المسلمات. (وجود إله صمّم العقل)، ثم (هذا الإله خلق الكون وأحكم مخلوقاته وفق قوانين وسنن ثابتة مطردة يمكن دراستها)، ثم (القراءة لكشف ما حدث في الماضي من خلق الخلق وتصميم القوانين، ولكنه لم يدخل في مخزوننا المعرفي بعد).
والإنسان بفطرته يسأل في الوجود بدلا من السؤال ألف، ولكن أكثر سؤال وجودي يلح عليه، هو وجوده الشخصي (من أنا؟). ولا يرضى بالإجابات السطحية من تبيان النسل والسبب المادي من علاقة جنسية بين الأب والأم. فأول ما نزل من الوحي طرق أكثر سؤال أرّق الإنسان أول ما دب على الأرض، من أنا؟ من أين؟ وما الذي حدث؟
من علق
ينتقل القرآن في السياق إلى قول الله تعالى {خلق الإنسان من علق} [العلق: 2]، ففي هذه الآية إشارة إلى أصل الإنسان المادي. ولكنها في نفس الوقت تشير إلى العملية التكوينية التدريجية في الإنسان كما ذكرت في القرآن في غير موضع. وهي بشكل غير مباشر، تشير إلى خط النهاية الذي تنتهي عنده القصة، وهي طبيعة الإنسان البالغ وحقيقته المادية، ومدى تفاعله مع بيئته وهذا الكون المادي المحيط به. ومن هنا، يتفكر الإنسان في حواسه المادية وطبيعة عقله وحدوده. فالإنسان يسمع ويرى، ولكنه سمعه وبصره محدود جدًّا بالنسبة للمجال السمعي والبصري لكائنات أخرى. ولو كان الإنسان قادرًا على أن يسمع ويرى، فهو في النهاية مقيَّد بحدود موقعه الجغرافي، ولو تحكّم الإنسان في موقعه ووقف على مرتفع شاهق ليوسع مجال بصره، فهو في النهاية مقيد بمحدودية حواسه الخمسة!
وعندي أن إدراك طبيعة الحس وحدود العقل عند القارئ أهم وأولى ما يبدأ به؛ لأن الإنسان الذي يغوص في بحار المعرفة دون أن يحكم موقفه الإبستيمولوجي واهم، إذ أنه لا توجد معرفة من لا مكان، والإنسان شاء أم أبى، شعر أم لم يشعر، يقرأ انطلاقا من موقف معرفي ما، حتى لو لم يقرأ عن الفلسفة سطرا. ومن يدّعي التبرّؤ من موقف ما في نظرية المعرفة هو يلعن الهواء الذي يتنفّسه، فحتى من يدّعي نسبته إلى السفسطة متناقض، لأن (إثبات أن السفسطة حق) يعني أن المعرفة ممكنة، وأن الإثبات والنفي ممكن!
المعرفة بين الأساس والسلوك
وفي التطرق إلى أسس المعرفة في أول آيات الوحي حكمة بالغة، لأن الإنسان بطبعه يميل إلى الكبر والغرور وبالفرح ما أوتي من علم كما بين القرآن في غير موضع، كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] وقوله تعالى: { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ} [غافر: 83] وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس:24] وقوله: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِۦ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس: 39]، ولو غرق الإنسان في العلوم والمعارف عن الكون والحياة قبل أن يعلم حدود عقله ومحدودية حواسه وقلة علمه لتمكّنت أوهام العظمة منه! ولأنكر الغيب ببساطة أنه لا يراه بحواسه، ولنظر إلى الأقدار الإلهية وهو خصيم مبين لمجرد أن عقله لا يفهم منتهى الحكمة. فالإنسان الذي يظن أن عقله قد أحاط بكل شيء علما لا يمتلك مساحة للتصالح مع أي فجوة معرفية بداخله، بل إن إحالة تلك الفجوة إلى الخرافة والعبثية هي هوايته ودأبه.
فمن يعتقد في عقله المحدودية يمتلك مساحة للتواضع أمام المطلق، أما من يعتقد في عقله الإطلاق يسعى جاهدا لتسطيح كل ما هو أعمق من فهمه، ولعن كل ما ابتعد عن علمه! وعندي أن إشارة القرآن لطبيعة الإنسان ومحدوديته هو لحفظ الإنسان الذي يوشك على القراءة من أكبر منزلق قد يلقي به في ظلمات الضلال، وهو الكبر!
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] وبحسب ما فسرها ابن عباس: عظمة لم يبلغوها. أي أن يعتقد الإنسان في نفسه مكانه هو في حقيقة الأمر أقل منها وأحقر!
ولا يصل القارئ إلى تلك المرحلة إلا بعدما يبدأ بالقراءة عن كل شيء، قبل أن يقرأ عن نفسه هو. ففي الآية، نجد أن الإنسان هو القارئ الذي يقرأ عن نفسه، فيكون هو الدارس والمدروس! وهو الذي يرتل قوله (خَلَقَ الإنسانَ) [العلق: 2] في حين أنه هو الإنسان. فيخرج عن ذاته ليرى نفسه كأنه غائب، أو كأنه من فصيلة أخرى. ومن هنا فقط يتحرر من أسر بصره وطباع جبلته ودونية طينيته التي تهبط به إلى الأرض، ليرى ذاته بعين الواقعية الحق، التي لا تجامل ولا تداهن! ويدرس حواسه وعقله ويكأنه يدرس كائن ما من فصيلة نادرة. ويخلص لحقيقة نفسه فور علمها، قبل علم أي شيء، وقبل أن يحترف الإخلاص للأشياء!
وربك الأكرم
فالقارئ الذي بدأ بالقراءة عن حقيقة نفسه هو الأكثر حكمة، والأنضج وعيًا. والقارئ الذي بدأ بالقراءة عن كل شيء عدا حقيقته هو الأقرب للغرور والأكثر كبرا!
ولما كانت قضية الهداية والضلال رهن موقف الإنسان من هواه وأمراض قلبه، أصّل القرآن للدواء النفسي والمعرفي في أول ثلاث آيات من الوحي. ففيها سلامة الصدر من الكبر والتحقق بالتواضع، ويكفي بتجرد الإنسان من ميوله لنفخ ذاته ليرى نفسه على حقيقتها مجاهدة للنفس وزهد في اتباع الهوى. وعليه مدار الهداية والضلال.
ويكفي بما فيه هذه الآيات الثلاث من تأصيل إبستيمولوجي لموقف الإنسان من القراءة والمعرفة. هنا فقط، تكون القراءة ذا نفع. وتقلّ قصص من ضلوا بسبب ما قرأوا، وتزداد قصص المهتدين بالقراءة. ومن بين كل أسماء الله الحسنى، يتجلى اسم الله (الأكرم) لا اسم الله (الكريم). إذ إن الأكرم هو اسم تفضيل من وسع الكرم. إذ أن القارئ يقف على باب الكرم الإلهي بين توفيق في الفهم، وإرواء ظمأ الفضول، والإرشاد في عالم تتخطّفه الظلمات.
وتظل الدعوة قائمة، في أبدية القول الإلهي: {اقْرَأْ، وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!