آيات الأحكام.. فقه خالص أم تزكية؟

image_print

لا شك أن تلاوة القرآن ومجالسته وتدبره من أشد ما يعين المسلم على الإيمان والتقوى، ويبعث في القلب خشوعًا لا يُتحصل عليه من قبل أي عبادة أخرى كما يفعل كلام الله، إلا أن عوام المسلمين يميلون في استحسانهم إلى آيات القصص والعبر المستخلصة من حياة الأنبياء، لما فيها من سلوى وبشرى للمؤمنين، وهم على صدق استحسانهم هذا، قد ينظرون إلى آيات الأحكام كآيات المواريث والطلاق والشهادة وغيرها على أنها تحوي أوامر ونواهٍ جامدة وكأنها فقه خالص لا تزكية فيها للنفوس، لذا أشير في هذا المقال -في التفاتات متواضعة- إلى بديع لطف الله في ثنايا آيات الأحكام، وكيفية تدبر هؤلاء الآيات الكريمات.

الأمر الإلهي بين الاتباع وصدق التجربة الروحية .. هل من تعارض؟

يشير د. فضل الرحمن -وهو مفكر إسلامي وفيلسوف ولد في باكستان- في كتابه “الإسلام” أن الصحابة رضي الله عنهم انشغلوا بالمهمة الدعوية للإسلام على حساب انشغالهم بالأوامر الإلهية لا المعاني الروحية، وأنهم عزفوا عن سؤال النبي عن تلك التجارب الروحية لما كان عليهم من مسؤولية هائلة في تبليغ دين الله إلى أصقاع الأرض. فيقول: “لم يطرح أغلب الصحابة أسئلة كثيرة حول طبيعة هذه المعاني الروحية، لأنهم كانوا مهيئين لغرض أخلاقي يقوم على أساس ديني، ومن المرجح أن عملهم قد جعلهم ينفرون من البحث في أسرار الروح الغيبية. إن ما كان يهمهم إنما هو الأوامر الإلهية وليس الأسرار الصوفية”.1 وقوله هذا مردودٌ لعدة إشكالات: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينظرون إلى الدين نظرة إجلال وخشوع، وكان ذلك يتضح في تسليمهم التام وخضوعهم لله ويتمثل ذلك في قولهم للنبي: “الله ورسوله أعلم” عن كل سؤال يطرحه. ثانيًا أن التصوف أو التزكية الروحانية لم تكن الغاية، بل كانت وسيلة للوصول إلى رضا الله، ومن الغريب أن نضع مسارًا واحدًا على كل مؤمن ليسير فيه حتى ينال رضا الله وعفوه، وأن يُبشر عشرة منهم بالجنة أو يُشهد لبعضهم في القرآن بالفوز لهو أدعى إلى تصديق أنهم وفقوا في فهمهم عن الله بين الظاهر والباطن، لأن الانشغال بالأوامر الإلهية لا ينفي صدق التجربة الروحية، بل من المفترض أن يُصدق عليها، إذ إن الدقة التي ينشغل بها الفقه في ضبط العبادات والمعاملات على أكمل وجه إنما غرضها الأول الوصول إلى مرتبة التقوى. وإن المسلم إنما ينبغي له أن يراجع عباداته الظاهرة والباطنة معًا حتى يصل إلى مرتبة الإحسان والتقوى.

د. فضل الرحمن

هناك قاعدة عامة لابد من إرسائها قبل الحديث عن آيات الأحكام: هل لابد من وجود تعارض بين الظاهر والباطن حقًا؟ أم أن الظاهر من شأنه أن يرتقي بالباطن؟ إذا اقتطعنا من الصيام شقه الظاهري في الامتناع عن الطعام والشراب والنكاح، لمَ قد يقول الله سبحانه وتعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}؟ [البقرة: 183]، إن الله يخبرنا أن هذه العبادات الظاهرية كالصيام تؤدي في نهاية المطاف إلى تحصيل التقوى. إذن عبادة ظاهرية سلوكية تُفضي إلى عبادة قلبية. وكذلك المسلم الذي يمتنع عن الفحشاء والمنكر والبغي مُستعينًا بالصلاة على ذلك، إنما ورث في قلبه تقوى من الله، منعته هذا التقوى عن ارتكاب كل تلك المعاصي. وكذلك في قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم} [التوبة: 103] فإخراج الصدقة كان نتيجته التزكية وتخلص القلب من أدران النفاق ووسيلة للتخلق بمقام الإخلاص.

يؤكد حديث رسول الله (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين) [متفق عليه] معرفة الأحكام وتتّبع دقتها سواء كانت عن طريق الفقه أو من خلال سياق الآيات الكريمة يحيلنا ذلك إلى الخيرية التي يريدها الله، ويذكر المسلم بعدل الله وأمره بالقسط ولطفه في مواطن الشدة وحلمه في مواطن الغفلة، فمعرفة الحكم الفقهي غاية ووسيلة إلى ما هو أبعد وأبعد. إذن المسلم في جهاد دائم، مطالب فيه بالتوفيق بين الظاهر والباطن، أن تستقيم صلاته على أفضل ما يكون ليتحصل على التقوى، وأن يجاهد وساوس قلبه دائمًا ليرقى في صلاته إلى مقام الإحسان، وهكذا دواليك.

أيكم زادته هذه إيمانا؟

المسلم الحق لا يتشدق بما يتشدق به المنافقون الذين ينظرون إلى آيات الله كالصم {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} [التوبة: 124]، كل آيات القرآن تنفع أو تبشر أو تهدي أو توقظ في القلب معنًا كان مغيبًا من قبل، أو تقسم لقارئها من خشية الله ما شاء الله له فيها، بما في ذلك آيات الأحكام.

{اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن}. [الطلاق: 6]، هذه إحدى آيات الأحكام في الطلاق، ينهى الله فيها الرجال عن إخراج المطلقات من البيوت قبل انقضاء العدة. إن لطف الله جلي في قوله {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} أي لا تؤذوهن بالكلام أو الفعل حتى لا تضيق عليهن أنفسهن فيتنازلن عن حقوقهن بدافع الخلاص من هذا الضيق. إن اعتداد الله بنفسية أمته في حالة الفراق، وأمره للرجل بالإحسان إلى مطلقته لهو من بديع رأفة الله، ثم يلتفت الله في بقية الحكم إلى نفسية الرجل الذي سينفق من سعته رغم افتراقه عن زوجته {لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا} [الطلاق: 6] أي أن الله يبشر هذا المنفق رغم ضيق حاله باليسر، لاتباعه رضوان الله في أمر النفقة وبذله من ماله.

{كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين} [البقرة: 180]، هذا موضع آخر لآية من آيات أحكام المواريث، يأمر بها الله عباده عند الموت بالوصية لأهله إحسانًا لهم، وإحسانًا لله وشكرًا على ما آتاه الله في أن يورث ما كان يملك بالمعروف. رفق الله في قوله {حقًا على المتقين} أوجب الوصية على فئة من عباده، المتقين، الذين يتبدى لهم يوم القيامة أمام ناظرهم، ولا يبغون أن يتناحر الورثة من بعدهم في متاع قليل، يعلمون أن ما بين أيديهم هو إحدى الأمانات التي وكلها الله لهم في الدنيا.

كيف نتدبر آيات الأحكام على وجه صحيح؟

التدبر القرآني مهمة منوطة بكل مؤمن {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء: 82]، لكن لابد لها من شروط، أن يطلع المسلم على تفسير الآية من أمهات كتب التفاسير أولًا أو من اجتهادات العلماء في هذا الصدد، ثم يقرأ الآية الكريمة بمفرده بعد فهمه لسياق المعنى المراد، ويتتبع بداية الآية ونهاياتها، ويستفهم عن دلالة ذكر أسماء الله الحسني في نهايات الآيات.

ففي آيات الطلاق من سورة البقرة، ينتقل ذكر الله في نهايات الآيات بين السمع والاطلاع والشهادة إلى الحلم والمغفرة والحكمة، لأن الطلاق أمر مكروه في ذاته، ثقيل على النفس، فكان لابد من ذكر اسم الله السميع والعليم والبصير للتذكير بشهادة الله حتى يقوم الناس بالقسط، وكان لابد من ذكر اسم الله الحليم والغفور لما في أوامر الله من مشقة يعلمها الله ولا يوفق في استدراكها إلا محسن لله.

إن هذا يأخذ بأيدينا إلى القول: إنه لا بُدَّ أن يستن المسلم بما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم أثناء قراءته للقرآن، أن يطلب الرحمة في كل موضع رحمة، وأن يتعوذ من مواضع العذاب، وأن يسبح في مواضع التسبيح. وإن التخلق بالصبر على أخذ الكتاب بقوة والمجاهدة في فهم أنواره وهداه، حرى بمن فعل هذا أن يهديه الله إلى سبيله وأن يبصره ببصائر القرآن، بل ويحصل له ما هو فوق اجتهاده2 {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69].

الإحالات

  1. 1. فضل الرحمن، الإسلام، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017، الطبعة الأولى، ص214.
  2. 2. ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، دار السلام للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، 2002م، الطبعة الثانية، تفسير سورة العنكبوت، ص747.

 

 

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد