أم على قلوب أقفالُها؟
تعددت القوانين والأنظمة ويبقى دستور الحياة واحد، دستور إلهيٌ قائم على أساس تربوي وأخلاقي يرمي بالأساس إلى توجيه الخَلق للصراط المستقيم وإشراق غسق الانحلال عن العقيدة والدعوة السمحة واللينة المليئة بالبراهين الشافية لأسئلة النفوس البشرية إلى الاستمساك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، فكان من رحمة الإله وحكمته أن أنزل آيات القرآن الكريم التي تُنزل السكينة على الصدور، المُضمدة للجراح والحاملة بين أحضانها: أصول الفقه، الإعجاز (العلمي، البياني، الغيبي، والتشريعي)، والعظة والعبرة من الأقوام السالفة[1].
حيث تعددت أساليب الدعوة في القرآن الكريم فمنها ما يخاطب الألباب ومنها ما يخاطب الأفئدة، فكان من أهمها أسلوب الترغيب والترهيب، الذي أكده المفسرون، فهذا الزمخشري ينص على أن “من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار”، ويذكر ابن كثير أنه “كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن…فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة، وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة، وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهذا وبهذا؛ لينجع في كل بحسبه”[2]، فتمّثل هذا الأسلوب بآيات الوعد التي تُحفز في نفس المؤمن الحماسة للشروع بفعل الأوامر المُكَلَّف بها ليحوز على الثواب الدنيوي والآخروي كما عَهِد له سبحانه في قرآنه العظيم فقال تعالى في سورة الدخان: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ(53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ(54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ(55)لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيم(56) فَضْلا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(57)}.
كما أنّ هذه الآيات المباركة تُوثِّق رباط الوداد بين العبد وربه لإنها تبعث في خافقه الشعور بالرضا الُمنطلق من طبيعة العلاقة الرابطة بين الله والمؤمن المبنية على عماد العطاء الرباني المعنوي والمادي للعبد الأوَّاب كثير الطاعات، بالإضافة إلى جعلها المسلم حليمًا على حاله أياً كان وزاهداً في ترف الدنيا ومتاعها لأنه مُتيّقن بالفوز العظيم من اللطيف الكريم وأنّه لا يُضيع أجر المحسنين، فكان هناك الكثير من الأمثلة على آيات الوعد لأشخاص صبروا وأطاعوا الله فبشرهم بأنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا وما سيتمتعوا به من شراب وطعام لا مثيل له في الحياة الدنيا، فهذا جزاء العمل الصالح المُصَدّق باليقين (ومَن أحسنُ منَ اللهِ حُكماً لِقَومٍ يوقنون (المائدة(50)}.[3].
وهكذا يجب أن يكون ظن العبد بربه أنه الرحيم المعطاء مع عدم تعتيمه على الجانب الآخر الذي صرف الله تعالى الأنظار إليه بآيات الوعيد المُلاصقة لآيات التبشير لردع استمالة أهواء بني آدم للشهوات ولاستقامة زيغ قلوبهم عن الحق، مثلما جاء بسورة الدخان التي تحدثنا عنها مُسبقا فهي لم تقتصر فقط على ذكر البُشريَات فقال تعالى عز وجل: ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ(47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48))، فهذه الآيات العظيمة لها وَقعٌ خاص في الروح فهي تُثير الوجل والرعب فيها عندما تصدح و تتردد في المسامع مما يجعل الإنسان الحائد عن الطاعات المُنغمس بالمعاصي والذنوب يُفكر بالرجوع والإنابة إلى الله والعزم على التوبة النصوحة التي ستُنجيه من هذه الأهوال العظيمة الواصفة لعذاب أهل النار وشرابهم ودركاتهم وكيفية نمط حياة الخلود في جهنم وبئس المصير، فهذا المضمون الخطير والمخيف الذي أنذرت به الآيات ليستدرك كلٌ منا نفسه ويَهُم بتصحيح ذاته سواء أكان ملتزما فيزداد التزاما وطاعةً واتقاناً للعبادات ليلوذ بالفرار من الدنو من هذا العقاب إلى الفردوس الأعلى بإذن الله ورحمته، فإن لم يكن كذلك أي كان مُنقاداً وراء الشهوات ومُنحلاً عن الطاعات فيستذكر عاقبته الوخيمة والعياذ بالله، لذا يجب على الإنسان التفكر بآيات الوعد والوعيد والسعي لأخذ كل الدروس المُستفادة منها والناصحة له مع الإطلاع على القصص القرآني الذي رافق العديد والعديد من آيات التبشير والتنبيه لتعلم البشرية جمعاء أن وعد الله حق وأن ما أرسله مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام لم يكن سدى أوعبثا. [4]
فنرى نماذجا جما لمن أعموا أعينهم وصموا آذانهم عن الآيات ولم يأخذوا بالحكمة والدرس الذي تشير إليه، فمنهم من نال وعيده لأنه لم يذعن لها ولم يؤمن بها كمن استهزؤوا بالبعث ومآل من لا يصدق به؛ لذا على الإنسان المسلم القويم الحرص على عدم تجاهل آيات الوعيد وعليه أن يستنهض الهمة للأعمال الصالحة كي لا يكون من النادمين الذين كانوا يمترون بوعيد الله الحق يوم لا ينفع فيه بيع ولا خُلّة ، وليكن حاله كحال الصحابة رضيَ الله عنهم عندما أنصتوا إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن العذاب حيث وَجِلَت قلوبهم منها وزادتهم إيمانا كما قال تعالى : {إِنَّما المُؤمِنون الّذينَ إذا ذُكِرَ اللّه وَجِلَت قُلُوبُهُم وإذا تُلِيَت عليهم آياتُهُ زادَتهُم إيماناٌ}[5].
وبالحديث عن أهمية آيات الوعد والوعيد والدروس المُستفادة منها يتوجب على الإنسان الموازنة بينها فلا يجوز أن يكتفي بالقليل من الطاعات التي يظن بها أنه ضمن الفوز الأعظم بل يجب عليه المواظبة والإكثار من الأعمال الصالحة ما دام به نبض، محبةً لله و إقبالاً عليه وبالمقابل لا يجعل علاقته بالله علاقة خوف ورهبة شديدة تجعله ينظر إلى الله بأنه شديد العقاب فقط، بل عليه أن يكون وسطاً بين رغبته برحمة الله وكرمه وجناته العُلا وبين رهبته من العزيز الجبار ذي البطش الشديد، فروى الترمذي من حديث أنس: إني النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: «كيف تجدك؟» قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف». (الترمذي)[6]، فنسأل الله دائماً الثبات والطاعة، فقال عز وجل: (يُثّبتُ اللهُ الذين آمنوا بالقَول ِالثّابت في الحياةِ الدّنيا و فِي الآخِرةِ و يُضِلُ اللهُ الظّالمينَ ويَفعلُ اللهُ ما يشاء ( (سورة ابراهيم (27))[7].
وبعد هذه الكلمات المُطَولة والحروف التي حاولت جاهدة إصابة المُرام الذي كان مفاده أن ” لا مندوحة من التسليم بأن الكفار والمشركين والمنافقين والظالمين والمكذبين لا تلحق بهم شفاعة، ولا يكون لهم عفو، لما أكّده القرآن من وعد ووعيد. ولن يخلف الله وعده، سواء في الجنة أم في النار” (فرد، 2014م) [8] ، ولا جرم أنّ الكلمات حملت بين طياتها مدى أهمية هذه الآيات الكريمة وغايتها العظيمة التي أتضح لنا من خلالها كم هي كبيرة محبة الله لنا و رحمته الواسعة بنا حيث ولّى وجوهنا شَطرَ كل ما هو صالح لحياتنا في الدنيا والآخرة عن طريق سوره وكلماته التي تُرّتل في كل بيت مسلم مؤمن بالله تعالى مع أنه هو الغني عنا ونحن الفقراء إليه، فإن أراد الفرد منا أن يكتشف مطالب القرآن و مُراده عليه أن ينفض النقع عنه الذي كساه بسبب طول الهجران ثم يتلوه حق تلاوته حتى يكون من الفائزين (الُّذين آتيناهُمُ الكتابَ يتلونَهُ حقَّ تلاوتِهِ أولئكَ يؤمنون به ومن يكفر بهِ فأولئك هم الخاسرون (البقرة (121))[9].
وقال عليه الصلاة والسلام: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ, وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ, وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرّ…) (البخاري) [10]، فلا يقرأه كلمحٍ بالبصر دون أن يفقه جماله الكامن وإعجازه النادر على مر العصور والأزمان كي لا يكون من الخاسرين.
لذا فلتحرص أخي المسلم على التفكر بالقرآن وفهم وتطبيق أوامر الله عز وجل التي وردت فيه، كما قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (سورة محمد (24))[11]، واضعاً نُصب عينيك السعي وراء رضا الله لأن التجارة مع الله لم ولن تبور لأنه لا يخلف الميعاد ، ولتكن مخافة الله تاجاً على رأسك فلا تتبع الشهوات ولا تلتفت إلى تشريعات البشر التابعة لهواهم (والله يريد أن يتوبَ عليكم ويريدُ الذين يتبعون َ الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً (سورة النساء آية (27))[12].
د.فضل حسن عباس. (1991). إعجاز القرآن الكريم [1]
دراسات قرآنية . (22 4, 2012). تم الاسترداد من اسلام ويب: https://www.islamweb.net/ar/article/174203 [2]
أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي،. (1999). الكتاب الحاوي في تفسر القرآن الكريم. لبنان: دار الكتب العلمية [3]
أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي،. (1999). الكتاب الحاوي في تفسر القرآن الكريم. لبنان: دار الكتب العلمية [4].
محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي [6].
الشيخ عارف هنديجاني فرد. (2014م). الوعدُ والوعيدُ في القرآن الكريم. لبنان: جمعية القرآن الكريم [8].
محمد بن اسماعيل البخاري. (بلا تاريخ). صحيح البخاري برقم 5427.[10]
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!