أزمة تعريف الدين

image_print

من العبث أن يشرع الإنسان في دراسة علم ما في معزل عن فهم حقيقته وكنهه ومباحثه الأساسية. فكيف بمن يماري حول حاجتنا إلى الدين، أو يشكك حول بعض حقائقه، أو يجادل حول تشريعاته، متخطيا التعريف الشامل عن معنى (الدين)!

أساطير الأولين

يخبرنا القرآن الكريم أن عددًا غفيرًا من الناس كانوا ينظرون إلى الدين على أنه خرفات وأوهام ورثتها الشعوب من الأمم السالفة ولا حاجة لإعادة بعثها إلى الحياة في العصور الحديثة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْۙ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24]، بل إن مصطلح (أساطير الأولين) يتكرر في القرآن بغزارة، لأن البشر تختلف حول تعريفاتهم عن الدين، ولكن الغالبية كانت تتفق حول كونه خرافة من مخلفات العصور القديمة. وعلى هذا الأساس، أخرج لنا الغرب عشرات المفكرين الذين أنكروا الدين بهذا الدافع حتى لو اختلفت نظرياتهم حول تفسيره. والعامل الذي يجمع كل تلك النظريات أنها كانت تقع في مغالطة (المصادرة على المطلوب)، فهي تفترض بطلان وجود الإله والغيب والنبوات أولًا، ثم تشرع في رسم ملامح النظرية ثانيًا، وعندي أن المشكلة لم تكن في المصادرة على المطلوب بقدر خطر اختزال مفهوم الدين في تعريفات سطحية أبعد ما تكون عن حقيقته ومقاصده الكبرى. فللغرب في عصر التنوير أمثلة كثيرة من محاولات تعريف الدين والتعامل معه وكأنه مجرد ظاهره إنسانية شأنه شأن اللغة، وإليك بعض الأمثلة:

أعرض جون لوك عن الدين بحجة أن العلم التجريبي يوفر للإنسان الحقائق اليقينية، ومن ثم لا حاجة لدين مشكوك في عصمته العلمية! أما كارل ماركس فذهب إلى تعريف الدين على أنه وليد صراع مادي بين الطبقات الاجتماعية المقهورة وبين الطبقات المنعمة، وقال الكلمة الشهيرة في وصف الدين بأنه “أفيون الشعوب” الذي تستخدمه الطبقات القاهرة لتستعبد وتسيطر على المقهورة فحسب. فعند ماركس كل النصوص الدينية بمختلف مواضيعها من قصص الأولين والأنباء المستقبلية والتشريعات التفصيلية كانت من تأليف بشري إثر أزمة اقتصادية!

ويذهب سيغموند فرويد إلى أن الدين نشأ في حضارات ما قبل التاريخ نتاج جلد عنيف للذات من قِبَل من ارتكبوا إثما أدى إلى حالة من الندم والكبت العنيف، ثم تحول الكبت إلى محرمات دينية، فكان الدين!

فالدين عند هؤلاء، إما مجرد مصدر آخر للمعرفة في علوم الطبيعة، أو مجرد أفيون يستخدمه الطغاة في استعباد الضعفاء، أو مجرد حالة نفسية من الكبت ولّدت تأليف الدين لرسم الحلال والحرام وتوفير مساحة آمنة لعشاق دموع الندم ولهواه جلد الذات!

جون لوك (على اليمين)، كارل ماركس (في الوسط)، سيغموند فرويد (على اليسار)

تعريف الدين

الدين في تعريفه وفي هدفه الأكبر هو الهداية في شؤون الغيب التي لا يهتدي إليها الإنسان عن طريق عقله المجرد وحده. إذ إن العقل البشري مؤهَّلٌ أن يكتشف كل أسرار المادة ويفك أعقد ألغازها، ولكنه يقف أمام الغيب وكأنه يقف أمام جبل شاهق لا يدري ما وراءه. فهو إما أن يجازف ويحاول عن طريق الديانات الباطنية التي تدعي قدرة كل إنسان على الاتصال بالغيب، ثم يقف حائرا بين معرفة الغيب وشكوك التعرض إلى الهلاوس، أو أن ييأس ويرضى بما قدر له من نصيب محدود في المعرفة ويكون وجوديا ماديا. أو أن يسعى للبحث في الدين لعله يصل إلى أطراف من الحقيقة قد تهديه إلى الحق المطلق!

والإنسان لا يرضيه معنى الحياة السطحي المتوفر له الآن من أمور معيشته الشخصية، فهو في بحث دائم عن اكتمال المعنى. والعقل المجرد يربط الجزئيات الصغيرة ليشكل معنى محدود، ولكنه يقف أمام الأسئلة الكبرى وهو عاجز عن توفير إجابات كاملة بعيدا عن اتباع الظنون ومكر الأهواء!

فالدين هو الهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى التي لا يجيب عنها الإنسان وحده. وهو السبيل الآمن للإجابات اليقينية بلا مجازفات، وبه يتملك الإنسان رؤية كاملة شاملة عن الوجود بأسره، وتلك الحكمة من نزول الدين أول الأمر! فقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]

فبالدين تكتمل نعمة الخالق على الإنسان، لتكون النعمة الأولى هي الإيجاد والإنعام المادي الذي يتلقاه كل البشر، وبهدايته وإرشاده في تساؤلاته الكبرى تتم نعمة الله عليه، وهو مصداق قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

أما تعريف الدين لغويا، فإن اللغة العربية تمتاز بتغير معنى الكلمة بمجرد تغيير تشكيل الحروف. فقد تتحول (كَبَر) – بفتح الكاف والباء – من معنى ازدياد السن وبلوغ العجز إلى (كِبر) – بكسر الكاف – معنى الغرور والنرجسية. فتغيير التشكيل من الفتحة إلى الكسرة يغير المعنى من المادية إلى المعنوية. ولذلك الدين يأتي على وزن (دين) بفتح الدال، وهو القسط المادي من الأموال الذي يلتزم به الإنسان. فما إن أصبحت (دين) بكسر الدال، أصبحت قسطًا معنويًّا يسدده الإنسان. ولما كان الإسلام ينص أنه لا إله إلا الله، وأن ما من نعمة إلا وهي من الله، فكانت العلاقة بين الخالق والمخلوق هي علاقة المتفضّل بمتلقي الفضل العاجز عن رده! فالدين معناه اللغوي هو محاولة تسديد الدين الإلهي على الإنسان، فيصبح الإنسان مدينًا لله لأن الله متفضِّلٌ عليه!

الغالب والمغلوب

لمّا كان الدين -بمعناه الغربي- هو الاستسلام الكامل لكهنوت الكنيسة في كل شؤون الحياة من أول حكم الدولة إلى احتكار العلوم والمعارف كلها. كانت العالمانية هي الملاذ الوحيد لبناء الحضارة وتقدم الأمم في نقطة فاصلة في التاريخ الغربي، بين عصور الظلام التي تمسكت بالكهنوت الكنسي وبين عصر التنوير الذي تحرر العقل من الكنيسة فتقدم. فلا عجب أن ينظر هؤلاء إلى الدين – المسيحية المحرفة – على أنه أساطير الأولين!

ولكن المشكلة الكبرى في هذه الأيام، أن المسلم المعاصر بات ينظر إلى السيناريو الغربي على أنه تحرر من الدين – بإطلاق – لا تحرر من الديانة المسيحية التي تشربت بالوثنيات والتحريف! فأصبح المسلم المعاصر ينظر إلى الإسلام مثلما ينظر الغربي إلى المسيحية، وبما أن النهضة الغربية كانت تحت قيادة العالمانية، توهم بعض المسلمين أن العالمانية هي الملاذ الأخير لنهضة إسلامية حديثة!

وعندي أن الغالبية لو صدقت مع أنفسها أكثر لاعترفت أنها تنظر إلى الدين على أنه أساطير الأولين حقًّا، ويبرهن على ذلك الواقع المعاصر. فالدين عندهم لا علاقة له بالرؤية الكونية الشاملة، ولا بالهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى! ونادرًا ما تجد من يثق في أهلية الدين على قيادة البشرية أكثر ممن يثق في أهلية فلسفات البشر على القيادة! بل تجد أن منهم من حصر الدين في لائحة طويلة من المكروهات والمباحات، ومنهم من حصر الدين في مراسم ميتة لا تظهر إلا في الأعياد والمناسبات، ومنهم من حصر الدين في الحديث عن القصص القرآني من باب التسلية، ومنهم من حصر الدين في التقليد الموروث والاتباع الأعمى، مما يحجر قدرات العقل ويعطل بناء الحضارة!

وعندي أن الحوار مع العلمانيين الذين ولدوا على الإسلام لا يبدأ من تصحيح مفاهيمهم الخاطئة، بل إننا بحاجة إلى أن نرجع خطوة إلى الوراء حتى نعرف الدين الذي نجادل حوله أولا. ونحن بحاجة بأن نرسم خطا أحمر بين السيناريو الأوربي عن السيناريو الإسلامي. فالأول كان تحريرًا للعقل من سلطان الخرافة، والثاني هو دين حق يرسم للعقل طريق الحقيقة ويحذره من الوقوع في الخرافة!

فوثوق المسلم في قدرة العالمانية لقيادة الركب الإنساني مع كامل إعراضه عن الدين ينبع من عدم الاقتناع بصحته لا محالة. فكيف يقر الإنسان أن الدين نزل من الله الذي خلق ثم يتهم الدين أنه لا يتماشى مع طبيعة البشر أفرادا ومجتمعات! وكيف يكون الإنسان المنصف معترفا بحاجته إلى الدين لأن العقل وحده يعجز عن إدراك الحقائق الكلية ثم يتمرد المسلم على الدين بدعوى أن العقل وحده يكفي!؟

أما عن انتشار فلسفات الغرب ورؤاه كالعالمانية، والليبرالية، والماركسية –فيما مضى- وتوغلها بين المسلمين بإرادتهم فما ذلك إلا لمشكلة نفسية لا فكرية. فمن يفتقر إلى ثقته بذاته واعتزازه بهويته سيتبع كل غالب مهما كان بين يديه بضاعة مزجاة، وسيعرض عن كل مغلوب مهما كان بين يديه الدواء الشافي! أو كما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب. والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها!” [المقدمة]


مصادر للتوسع

كتاب (الدين) د. محمد عبد الله دراز

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد