مقالات

البحث في الدين

يرى بعض النقاد أنه من الصعب الحصول على منهج علمي لدراسة الأديان، وذلك لأن الدين يشمل مسائل غير موضوعية تتعلق بالجانب النفسي، فيصعب على الباحث بحثها من خلال المناهج التجريبية، كما أن البحث يتأثر بثقافة الكاتب وتكوينه الفكري وتراكماته المعرفية.

كما أن طريقة التعرف على حقيقة بعض الغيبيات التي يقدسها الآخرون لا تكون سوى بطرق غير محسوسة، لذا يزعم الكثيرون أن الباحثين في معتقداتهم من الخارج لا يتفهمون حقيقة ما يؤمنون به.

لكن التسليم بهذه الاعتراضات يجعلنا عاجزين عن دراسة الدين، وهي لا تبرر اقتصار البحث على جوانب الحياة المختلفة من طبيعة وفكر واجتماع ونفس ثم استثناء الدين، فبعض علماء الاجتماع يرون أن الدين هو أعلى مظاهر الطبيعة الإنسانية، وأنه ظاهرة محورية في صياغة التصورات الفكرية وأنماط الحياة في كثير من المجتمعات.

لذا يصر الباحثون في مقارنة الأديان على إمكانية دراسة الدين موضوعيا، وذلك بوصفه ظاهرة ذات أبعاد متداخلة ومتضايفة، فهناك بعد نظري مثل أصول العقائد، وبعد عملي يشمل المنظومة الأخلاقية والتعبدية، وبعد تنظيمي إداري يتجسد في منظومة الكهنوت، وبعد عاطفي يتجلى في الفنون والآداب.

اتجاهات مقارنة الأديان عبر التاريخ
إذا نظرنا إلى الاتجاهات العامة لهذه الدراسات طوال التاريخ البشرية فيمكن تلخيصها بثلاثة اتجاهات رئيسة:

1- الاتجاه الإلحادي: ظهرت ملامحه الأولى في الفلسفة اليونانية، خاصة عند بروز الفلسفة الطبيعية عند الفيلسوف طاليس (624-546 ق.م) الذي قدّم تفسيرات عقلية عن أصل العالم وطبيعته، دون الرجوع إلى التفسيرات اللاهوتية أو الأسطورية، وترافق ذلك بالاستخفاف بالتعاليم الدينية وقيمتها المعرفية ثم الاعتقاد بأنها إنتاج بشري، وتطور الاستخفاف والتشكيك إلى معاداة الدين والسعي إلى إبعاده من الحياة الاجتماعية [انظر مقال “وجود الله“].

وتقول المؤرخة كارن أرمسترونغ في كتابها “تاريخ الإله” إنه منذ نهايات القرن السابع عشر وظهور الحداثة الغربية أعلنت المذاهب الفلسفية الكبرى استقلالها عن فكرة وجود الخالق، وظهر في هذا العصر كل من كارل ماركس وتشارلز داروين وفريدريك نيتشه وسيغموند فرويد الذين بدأوا بتحليل الظواهر المعرفية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية بدون أي وجود للإله.

وفي هذا العصر دعا بعض علماء الأنثروبولوجيا الثقافية إلى دراسة الدين بوصفه ظاهرة إنسانية طبيعية، قابلة للدراسة عبر أطر موضوعية محايدة، إلا أن دراساتهم كانت لا تقر للدين بأصل مقدس إلهي، ولم يميزوا بين الدين والسحر والخرافة والأسطورة، كما لم يميزوا بين الدين المنزل والدين الوضعي. فكانت أبحاثهم تنطلق من مبدأ اعتبار الدين نتيجة للتطور البشري، دون اعتقاد باحتمال وجود أي مصدر غيبي للدين.

وهناك أيضا من حاول تناول الدين على أنه ظاهرة اجتماعية ويمكن دراسة معالمها الظاهرية والنفسية دون البت بعدم قدسيتها أو العكس، ومع ذلك فإن هؤلاء الباحثين لم يعترفوا للدين بأي قدسية وبلا أصول غيبية لوجوده، فكانت النتيجة نفسها.

2- الاتجاه الإيماني التبريري: وهو الذي ينطلق من اعتقاد مسبق بصدق الدين والدفاع عنها، وهو موجود في كل الديانات الكبرى. ويتضمن هذا الاتجاه تيارين: الأول يميل إلى الشرح وبيان العقائد وتبسيطها لمعتقديها من خلال النصوص المقدسة لديه. أما الثاني فيستخدم الأدوات العقلية والنصوص النقلية للدفاع عن الدين الذي يعتقده من خلال نفي وجود أي تناقض بين العقل ومعتقداته، ثم بيان فضيلة دينه عن غيره من الأديان، وهو النهج الجدلي الكلامي الذي يُنتقد كثيرا بافتقاره إلى الموضوعية.

3- الاتجاه الموضوعي ذو الطابع الأنثروبولوجي القيمي: ويُحسب للعالم المسلم أبو الريحان البيروني أنه كان من رواد هذا الاتجاه، وهو يتفق مع الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة في أهمية دراسة التراث الثّقافي والمعرفي للمجتمع في معرفة دينه، لكنه يختلف مع الحداثيين في كون الدين جزءًا من الإنتاج البشري التطوري أو مقارنة الدين بالسحر والخرافة.

كما يختلف البيروني مع الأنثروبولوجيا الحديثة في الهدف، فهو يوضح في مؤلفاته أن هدفه من التأليف هو “الوصول إلى الحق”، بينما يرى الحداثيون أنه لا ينبغي للباحث أن يتخذ أي قرار حتى لو كان متوافقا مع منهجية البحث. علما بأن البيروني كان ينتقد منهج الكلاميين في الدفاع عن معتقداتهم بالحجج الجدلية إلا أنه وصل إلى النتيجة نفسها بإصدار حكم قيَمي على الأديان التي درسها، حيث لم ينطلق أصلا من منطلق إلحادي يستبعد وجود وحي وإله كما فعل أصحاب الاتجاه الأول.

مقارنة الأديان في التاريخ الإسلامي
انفتح الفكر الإسلامي منذ القرن الثاني للهجرة على أديان العالم وجعلها موضوعا مستقلا للدراسة، فوضع رواد هذا المجال مناهج علمية للبحث، فدرسوا أديان العالم من حيث المقارنة فيما بينها وتأريخها ونقدها.

وأشاد باحثون غربيون معاصرون بالتراث الإسلامي الغزير والموضوعي في هذا المجال، ومنهم إيريك ج. شارب الذي رأى أن شرف كتابة أول تاريخ للأديان يعود إلى الإمام أبي الفتح الشهرستاني صاحب كتاب “الملل والنحل”

يعد كتاب “الفصل في الملل والأهواء والنحل” لابن حزم من أهم الموسوعات الدينية في التاريخ

أما بينارد دولا بولي فيقول في كتابه “الدراسة المقارنة للأديان” إن ابن حزم الأندلسي هو رائد مقارنة الأديان في الفكر الإنساني كله.

ويقول آدم متز إن أكبر فرق بين الخلافة الإسلامية والدول الأوروبية المسيحية في القرون الوسطى كان يتلخص في وجود عدد كبير من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين ممن يتمتعون بقدر من التسامح لم يكن معروفا في أوروبا، ومن مظاهر هذا التسامح نشوء علم “مقارنة الأديان”، وهذا ما يؤكده مؤرخ الأديان إريك شارب في قوله إن الانغلاق الصارم والتعصب كانا وراء الاعتقاد بأن أي دراسة للأديان الأخرى لن تقود إلا إلى تناقض حاد مع المسيحية.

وما زال هذا الانغلاق قائما حتى اليوم في كبرى المدارس اللاهوتية الغربية، حيث يدرس الطلاب معظم أديان العالم الكبرى في حين يتجاهل واضعو المناهج ذكر الإسلام، فضلا عن مناقشته ونقده.

ويقول المستشرق فرانز روزنتال إن الغرب يعترف اليوم بأن مقارنة الأديان هي إحدى الإنجازات العظيمة للحضارة الإسلامية التي أسهمت في التقدم الفكري للإنسانية، كما يرى المستشرق الألماني إدوارد سخاو أن مؤلفات البيروني هي حجر الأساس لعلم الأنثروبولوجيا الديني.

ومن أهم العلماء المسلمين الذين كتبوا في مقارنة الأديان: الجاحظ، والجبائي، والقاضي عبد الجبار، وابن حزم الأندلسي، وأبو الوليد الباجي، وأبو الحسن الأشعري، والباقلاني، والبيروني، والجويني، والغزالي، والشهرستاني، وابن تيمية، والمسعودي، والمقريزي، وكثيرون غيرهم.

مناهج البحث لدى المسلمين

1- منهج التأريخ: أصَّل علماء الإسلام هذا المنهج قبل أوروبا بأكثر من عشرة قرون، وكان بعضهم يكتب في الجدل والنقد كتاباً ثم يكتب في التأريخ والوصف كتاباً آخر؛ مثل أبي عيسى الوراق (القرن الثالث الهجري) الذي كتب في الجدل كتاب “الرد على فرق النصارى الثلاث” وكتب في التأريخ كتاب “مقالات الناس واختلافهم”.

2- منهج التحليل والمقارنة: وهو يشمل دراسة جانب أو أكثر من ديانتين أو أكثر ثم المقارنة بينهما، أو دراسة ديانة واحدة من كل جوانبها بالمقارنة مع ديانة أخرى، أو دراسة مؤسس الديانة وأسفارها بالمقارنة مع مؤسس وأسفار أخرى.

3- المنهج التحليلي النقدي: من أهم الأمثلة على تحليل أسس الأديان الأخرى دراسة ابن حزم لنصوص العهدين القديم والجديد، حيث تركت كتاباته أثرا عميقا لدى الأوروبين بعد ترجمتها في اكتشاف عيوب المسيحية.

4- منهج المناظرات الكلامية الجدلية، سواء كانت حية ومباشرة أو مدونة في رسائل وكتب، ومن الأمثلة عليها رسالة راهب كلوني في جنوب فرنسا إلى أمير سرقسطة في الأندلس، وجواب القاضي أبي الوليد الباجي عليها.

ميرسيا إلياد أستاذ في تاريخ الأديان من رومانيا توفي عام 1986

دراسة الأديان في العصر الحديث
يؤكد ميرسيا إلياد صاحب “الموسوعة الدينية” أن مصطلح مقارنة الأديان لم يكن معروفا لدى الأوروبيين حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حيث أطلقه لأول مرة البريطاني ماكس مولر، ويقول إلياد إن تأخر ظهور المصطلح في أوروبا معناه غياب رؤية علمية ذات أسس منهجية لدراسة الأديان عن الأوساط العلمية الأوروبية.

اهتم الاتجاه العلمي السائد لدى الغرب في عصر النهضة الحديث بالبحث في أصل الأشياء، فبعد أن كان ذلك محصورا في الجوانب التجريبية اتسع ليشتمل على العلوم الإنسانية، وانتقل من السؤال عن أصل الإنسان البيولوجي وتطوره؛ إلى السؤال عن أصل دينه وتطور معتقداته.

لذا يغلب الطابع الوضعي على أبحاث الدين في الغرب، بحيث تُنحى جانبا الاعتبارات اللاهوتية التي ترى الدين تجليا لفضل الله على خلقه بالهداية، بينما يحرص الباحث الديني الغربي على التعامل مع الدين من منطلق كونه ظاهرة متكررة من الظواهر الإنسانية التي تخضع للتفسير.

ويبدو أن النظريات المقترحة لتفسير نشأة “الظاهرة الدينية” نظريات اختزالية بالمجمل، فهي تحاول أن تستخلص من الظواهر الدينية محددات عامة تفسر بها الدين على نحو عام، دون أن تلتفت إلى خصوصية دين بعينه؛ في ذاته أو في ظروفه التاريخية والاجتماعية.

وقد أوضحنا في مقال “الدين والتدين” أهم النظريات الغربية التي تحاول تفسير الظاهرة الدينية، وتبين لنا أنها تنطلق جميعا من قاعدة علمانية تشيئ الإنسان والوجود، لكن هناك من يرى أن الدين فطرة ونزعة إنسانية، برزت بأشكال متعددة من التدين، ويميل أصحاب هذه النظرية غالبا بأن الديانة الأولى للإنسان كانت التوحيد وليست التعدد، وهذا ما تقره الأديان السماوية.

ومن الملاحظ في دراستنا للنظريات اللادينية أن أصحابها يميلون إلى الاعتقاد ببراءة القدماء، وافتراض أنهم كانوا يبحثون عن الحقيقة فلم يجدوها سوى في الأساطير لإشباع النهم الغريزي إلى المعرفة وتقديم أجوبة على الأسئلة الوجودية، ولكن الذي وضع هذه الأجوبة ليس هو الإنسان الذي نتحدث عنه، بل هو شخص أو شيطان أو مجموعة قليلة من الأشخاص أو الشياطين. فوضعُ الأساطير يشبه كتابة أي عمل أدبي معاصر، أي هو عمل فردي اختياري وليس قرارا تم اتخاذه في مؤتمر شعبي أو عبر صناديق الاقتراع، فهناك من تعمد وضع تلك القصص الخرافية التي تتضمن تفاصيل وأحداثا عن الخلق وتصارع الآلهة وتناسخ الأرواح، ولم يكن لديه أي دليل على أن العالم الماورائي قد حدثت فيه كل تلك التفاصيل الغيبية التي لا تقتصر على التأويلات الاحتمالية لظواهر الطبيعة أو على رؤى تخيلية لكائنات ما ورائية تفسر ما لا يستطيع فهمه، بل كان واضع الأساطير يقدم ملاحم أدبية (شعرية أو مسرحية) مفصلة تتضمن أحداثا وحوارات وقرارات وهو يعلم أنها لم تحدث.

قد يصدق افتراض البراءة على العوام الذين اضطروا لاتباع الكهنة والسحرة والشامانات عندما لم يجدوا خيارا آخر لتحصيل المعرفة والأجوبة على الأسئلة، لكن هذا لا يعني أن الأساطير وُضعت لتقديم الأجوبة المحيرة للإنسان القديم؛ بل ربما لتضليل العوام من قبل النخبة المسيطرة.

 

جيمس فريزر

المناهج الحديثة لمقارنة الأديان
في بداية العصر الأوروبي الحديث، اتسم النشاط في حقل “علم الأديان” بمحاولات جمع المادة العلمية التي يمكن الحصول عليها من الأديان المختلفة والاجتهاد في فهمها بمساعدة علم اللغات وعلم الأساطير، وسرعان ما تلقف الباحثون المنهج التاريخي الذي يحاول تتبع مسيرة الأديان تاريخيا، وارتبط ذلك بالمنظور التطوري الذي اكتسح جميع فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية بعد أن أخرج من مجاله الطبيعي (البيولوجي)، فبات يُنظر للأديان على أنها حلقة في التطور الطبيعي للحياة الإنسانية، وأصبح الهدف هو دراسة “نشأة الأديان”، وذلك بالاستعانة بعلوم اللغة والآثار والحفريات وعلم الإنسان.

ظهرت في الأفق أيضا علوم النفس والاجتماع لتساعد على إيجاد إجابات “علمية” للأسئلة المتعلقة بنشأة الدين، فانصرف البحث نحو الأديان البدائية والمظاهر السحرية والخرافية، وكانت حصيلة كل ذلك ظهور نظريات “تايلور” و”فريزر” و”سبنسر” و”دوركايم” وغيرهم التي أصبحت اليوم على لسان كل متحدث بدون سؤال عن سندها العلمي وقوامها العقلي وبراهينها العلمية.

اعتمد علماء مقارنة الأديان على رصد تأثير دين في دين آخر من خلال التشابه والأسبقية، الأمر الذي تعرض لانتقادات كثيرة، فالتشابه بين الأديان قد يعود إلى تطابق الاستعداد لدى المتدينين وتماثل البيئة ومراحل نمو الأفكار الدينية بين شعبين في منطقتين نائيتين دون أي تواصل بينهما، وقد رأى أستاذ الأديان في معهد فرنسا جورج أدوميزيل أن تشابه أسماء الآلهة في اللغات الهندية-الأوروبية ليس دليلا مقنعا على أنها نابعة من أصل مشترك، لذا اهتم بالبحث عن أصل اجتماعي يفسر فيه نشوء فكرة الثالوث الإلهي لدى كل من الرومان والهنود.

وفي رأينا، قد يكون التأثير صحيحا عندما يتعلق التشابه بشعائر وعقائد يمكن تفسيرها بعوامل طبيعية واجتماعية وغريزية، لكن التطابق أو التشابه بين بعض الأديان في التفاصيل الدقيقة والكثيرة يجعل المصادفة أمرا مستبعدا، وربما مستحيلا، فحتى في حال عدم ثبوت اتصال أمتين متباعدتين عن بعضهما، فإن هذا لا ينفي أن يكون مصدر الأفكار الذي تتلقى منهما هاتين الأمتين واحدا، سواء كان هذا المصدر هو الإله (الوحي) أو الشياطين.

على الرغم من الاكتشافات “العلمية” الغزيرة في أبحاث الأديان خلال القرن التاسع عشر فقد بقيت الأديان غير مفهومة، ما أشعر بعض العلماء بحاجة ملحة إلى منهج جديد يسمح للمتدين بأن يعبر عن نفسه وعن عقيدته بحرية، ويترك الظواهر الدينية تتحدث بنفسها، لذا نادى بعض العلماء في هولندا والبلاد الإسكندنافية بتطبيق “المنهج الظاهراتي” (الفينومينولوجي) في دراسة الدين، وبدأ ذلك بعد الحرب العالمية الأولى.

حدد فان ليون آلية عمل المنهج الظاهراتي للتوصل إلى فهم الدين عبر خمس مراحل، ففي الأولى يتم رصد الظواهر الدينية وتصنيفها لتسهيل تتبعها؛ مثل وضعها ضمن خانة “الأساطير” و”القرابين” وهكذا، لكن هذا لا يخلو من مغالطة تحويل الملاحظات إلى نظريات بشكل متسرع. ولتجنب التسرع يسعى الباحث في المرحلة الثانية لمعايشة الظاهرة وتجربتها بطريقة اختيارية ومنهجية لا بطريقة قهرية ولا شعورية. وفي المرحلة الثالثة يحاول الظاهراتي التجرد من كل أفكار سابقة ويدرس الظاهرة، وفي المرحلة الرابعة يدرك حقائقها بوضوح، ثم تأتي المرحلة الأخيرة عندما يواجه الظاهراتي الحقيقة التي تجلت له ويتحقق من فهمه لها.

يدرس الظاهراتيون الإسلام من خلال دراسة الطقوس التي تمارسها بعض المجتمعات المسلمة مما يؤدي إلى الخلط بين الدين الأصلي والعادات والبدع
(wikimedia)

والظاهراتي لا يهتم بالتطورات التاريخية للدين ونشأة الأديان، فهدفه الأساسي تحرير نفسه من كل منطلق غير ظاهراتي والبحث عن الفهم الدقيق للظاهرة الدينية سعيا وراء معرفة حقائقها، دون التقيد بأية نظرية سيكولوجية أو ميتافيزيقية أو لاهوتية أو فلسفية.

والحقيقة أن هذه المشاركة في التجربة ستظل ادعاءً غير واقعي، فالنقاد يتساءلون عما إذا كان من الممكن أن يعتنق الإنسان الظاهراتي الإسلام حقا ليدرس الإسلام، فحتى إذا صار مسلما فمن الصعب الاقتناع بأن هذا “الاعتناق الوظيفي” للدين سيوفر له التجربة الحقيقة التي يريدها. ويضاف إلى ما سبق أن تعريف المنهج الظاهراتي مازال محل جدل بين الباحثين منذ ظهوره على يد الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل عام 1913، لذا تقول أستاذة الأديان في جامعة “ليدز” أورسولا كينغ إن “مفهوم الظاهراتية يتعدد بعدد الظاهراتيين أنفسهم”.

ولعل أخطر ما يشوب نتائج المنهج الظاهراتي من نقص في عين النقاد هو أنه يعجز عن فهم الأديان على حقيقتها، بل يكتفي بدراسة ظواهرها فيخلط بين سلوك المنتمين لدين معين وبين الدين نفسه. وعندما يتعلق الأمر بدراسة دين الإسلام على سبيل المثال، لا يستطيع الباحث الظاهراتي الغربي أن يفرق بين السنة والبدعة، ولا بين الوحي الإسلامي الثابت والآراء الدخيلة عليه، وهذا الدمج نراه كثيرا في أعمال المستشرقين، ومن أمثلته الحديثة مؤلفات الألمانية آنا ماري شميل (توفيت عام 2003)، مع أنها تزعم أن منهجها “يحاول النفاذ إلى قلب الدين من خلال دراسة الظواهر أولا”.

في كتابها “الكشف عن آيات الله: دراسة ظاهراتية للإسلام” الصادر عام 1994، نجد أن شيمل بذلت جهدا هائلا في البحث عن ظواهر الإسلام ودراستها، بما يشمل الشعائر والآراء والأذكار والعادات والتقاليد والمقدسات الزمانية والمكانية لبعض المجتمعات المسلمة، واعتبرت أن هذه الظواهر جميعا تعبر عن الإسلام نفسه من خلال المعاني والحقائق التي تنبئ عنها، فعلى سبيل المثال بحثت في الفصل الأول عن المكانة الخاصة في الثقافة الإسلامية لبعض الحيوانات والألوان وأشياء أخرى كالماء والأشجار والنور، وفي الفصل الثاني تتعرض لما أسمته بقدسية المكان والزمان والعدد، فحاولت مثلا حصر الأعداد التي تحتل مكانة معينة فظهر لها أن جميع الأعداد من 1 إلى 10 لها مكانة ما، إضافة إلى الأعداد 12 و14 و17 و18 و19 و40 و72 و73 و99. وينتهي هذا الفصل دون توضيح لما وراء ذلك، بل دون تمييز بين أصالة بعض تلك الأعداد في الإسلام وبدعيتها، فالمنهج يقتضي دراسة جميع الظواهر ثم اعتبارها جزءا من حقيقة الإسلام ذاته، مع أن المسلم العادي يعلم أن كثيرا من تلك الظواهر لا تمس دينه بشيء، بل إن بعضها تسلل إلى الإسلام من عادات وخرافات معادية له.

ختاما، نحاول في هذا الموقع أن نستفيد في دراستنا للأديان والمذاهب والتيارات الفلسفية من المناهج الوصفية والأنثروبولوجية والظاهراتية والكلامية معا، ونقر -كما فعل البيروني- بأننا نسعى إلى اكتشاف الحق واعتناقه وبيانه للناس، كما نؤمن بأن الاكتفاء بالحجج الكلامية لا يجدي في عصر الانفتاح وثورة المعلومات والاتصالات، ولا نزعم في الوقت نفسه بأن مقالاتنا المحدودة بحجم معين كافية لاستيعاب مواضيعها، إلا أنها قد تكون بمادتها المكثفة مدخلا وافيا للفهم واتخاذ الأحكام الموضوعية في سبيل التعرف على الحق.


أهم المراجع
فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.

د. دين محمد محمد ميرا صاحب، بحث بعنوان “الاتجاه الظاهراتي في دراسة الأديان في الغرب: رؤية نقدية”، مجلة الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام أباد، العدد السادس، 1998.

عبد الرزاق حاشي، دراسة بعنوان “علم مقارنة الأديان بين سؤالي المفهوم والإمكان: دراسة تحليليّة مقارنة”، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد 67، 2012.

موقع موسوعة مقاتل من الصحراء: http://www.moqatel.com