مقالات

الأفلام والمسلسلات .. هل هي بريئة حقًا؟

“صنّاع الأفلام والمسلسلات لا يأبهون بنا ولا يدرون بوجودنا أصلًا”، “هي شركات ربحيّة فحسب”، “لمَ أنتم غارقون بنظرية المؤامرة”، “لمَ نظنّ أنّا مركز الكون؟”، “أنا أميز الجيد من السيء”، “مشاهدتي لما يفعلون لن تجعلني أفعل مثلهم”، “هذا استعراض للواقع وليس ترويجًا”، “كل المسلسلات والأفلام هكذا”. نرى هذه التعليقات وما يشابهها، تقال لكل من ينتقد ويحذِّر من أثر بعض المسلسلات والأفلام وما تبثه من “أفكار وقيم”

حسنًا.. سنبدأ بما يتعلق بـ “نظرية المؤامرة”

نظرية المؤامرة

سننسى أن هوليوود قامت بجهود المهاجرين اليهود كما هو مبيّن في كتاب “An Empire of Their Own: How the Jews Invented Hollywood” وغيره. وسننسى كذلك أن هؤلاء اليهود كانوا يعيشون كأقليات منبوذة منغلقة، وبالتالي كان الدين محورًا رئيسًا في حياتهم فهم ليسوا كالأمريكي المسيحي والعربي المسلم اللذان قد لا يعرفا من دينهما إلا اسمه.

كما ولن نلاحظ الأثر اليهودي الواضح في محتوى هوليوود سواء في الأفلام التي ترسخ التعاطف مع اليهود كـ (Schindler’s List) و (the life is beautiful) و (the pianist) أو الأفلام التي تعرض قصص الأنبياء بتصور يهودي كفيلم (Noah).

 ولن نتطرق إلى وعد بلفور  الذي بدأ بـ إلى “اللورد روتشيلد”، ورغم ذلك لا أثر لعائلة روتشيلد المصرفيّة بأي من قوائم أغنى أغنياء العالم.

وبالطبع لن نتحدث عن الجمعيات السرية أو الرموز الماسونية الموجودة بكل وضوح في إعلان حقوق الإنسان الذي أقرته الثورة الفرنسية، والموجودة بوضوح أشد على الدولار الأمريكي.

سننسى كل ذلك، لا وجود للمؤامرات، لا في السياسة ولا في الاقتصاد، صنّاع الأفلام هم مجرد آلات لا يحملون أي فكر أو معتقد يريدون نشره.

هل أنت سعيدٌ الآن يا صديقي؟

لكن أليس من المفترض أنك مسلم تؤمن بالله، تفعل ما أمرك وتجتنب ما نهاك؟ -وحتى إن كان قارئ هذه الكلمات غير مسلم-؛ ألا يُفترض أنه من البديهي التحذير من المحتوى الذي يروِّج للبذاءة والانحلال بل وللإباحية بكافة صورها وأشكالها؟ أليس تزيين الحرام والترويج له هو عملٌ شيطاني بامتياز؟ ألم تبدأ معركة إبليس مع الإنسان منذ خلق آدم؟ ألم يقل إبليس (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)؟ … سأترك الجواب لك

لننتقل الآن لمن يدّعي أن الأفلام والمسلسلات عندما تعرض أمرًا ما فإنها بذلك لا تروج له، وسنسأل:

هل عرض الشيء ترويجٌ له؟

من قال لك يا صديقي أنّ الترويج لشيء يعني أن يُقال لك “تعال قم بكذا”، “افعل ذلك وستكون سعيدًا”؟

الأمر لا يسير كذلك يا صديقي؛ فعندما تقوم الشركات بحملات إعلانية فإنها تهدف إلى نشر صورة علامتها التجارية لتراها في كل مكان، وهنا ليس بالضرورة أن يُقال لك بشكل مباشر: “استعمل منتَجنا”، فعندما تقوم شركة مشروبات غازية مثلًا برعاية “برنامج أو مسابقة ما”، فإنها تكتفي بوضع مشروبها أمام مقدم البرنامج أو لجنة تحكيم المسابقة، وهذا أسلوب تستخدمه كبرى الشركات، من خلال عرض منتجاتها في الأفلام، فيما يُعرف بـ (product placement).

أفيخاي أدرعي (تويتر)

وفي عصر الصورة؛ ترويج الأفكار لا يختلف كثيرًا عن ترويج السلع، خذ مثلًا المدعو أفيخاي أدرعي (المتحدث باسم الجيش الصهيوني) والذي ينهال عليه متابعوه العرب والمسلمون بأقذع الشتائم وأبشع الألفاظ، أتظنه يكترث لذلك؟ لفترة طويلة وبشكل تراكمي يتلقون كلامه ويأخذ حيزًا من تفكيرهم بل ويصبح محل نقاش … وهذا هو المهم.

ولا يختلف أسلوب صناع المحتوى السينمائي والتلفزيوني عن أسلوب أفيخاي ومن وراءه من الموساد، فعندما ترى فكرةً أو فِعلًا ما -مهما بلغ من القذارة والانحطاط- يتكرر أمامك على أنه أمرٌ طبيعيٌ مقبول، فمع الوقت لن يستنكر قلبك ما تراه، خاصةً إن قام به نجمك المفضل أو بطل العمل الذي تقف في صفه وتتعاطف معه -أو يُراد لك ذلك-. وهنا يكون يا صديقي قد زال من قلبك “أضعف الإيمان”. لذا راقب قلبك فالانحراف البسيط في البداية يغيّر وجهتك كليًا عند انتهاء الرحلة.

تلقّيك لما تبثه الشاشة من أفكار مسمومة سيجعلك تتقبل رؤيتها على أرض الواقع؛ فهي أمر “منتشر” و”عادي”. أنا وانت وهو وهي؛ نحن هم المجتمع، فتقبلك لذلك يعني على المدى الطويل تقبل المجتمع كله له، ولك يا صديقي بالشذوذ أوضح مثال.

والأمر لم يقف عند السحاق واللواط، بل تجاوزته إلى السفاح، تخيّل أنّ أحد “أعظم المسلسلات في التاريخ” فيه مشاهد إباحية بين الأخ وأخته وبين الأب وابنته وبين العمّة وابن أخيها، ولا يشمئزُ أحدٌ من ذلك، بل يدعون غيرهم لمشاهدته.

نتفليكس (يوتيوب)

ولديك مثلًا شبكة نتفليكس -أكبر شبكة لبث “المحتوى الترفيهي” والتي تترجِم مسلسلاتها لأكثر من مئة لغة- التي في أحد مسلسلاتها تستغل فكرة السفر عبر الزمن لتُظهر أن السحاق منتشر في المجتمع منذ خمسينيّات القرن الماضي، كما تُريك مثلًا بطلي المسلسل يبكيان لأنهما لن يستطيعا الاستمرار سويًا فقد اكتشف البطل أن حبيبته هي عمته، وأن حبهما سيتحطم بلا حولٍ منهما ولا قوة، فلن تملك يا صديقي إلا التعاطف معهما ومقت ما أدى لانهيار حبهما، بل قد تسعد لأجلهما إن تناسيا صلة القرابة وقررا الاستمرار سويًا. هذا ولا يخلو أي من منتجات نتفليكس تقريبًا من العري والإباحية والجنس بكافة أشكاله، لتكون النتيجة منتَجًا إباحيًا على شكل مسلسل يشاهده أفراد العائلة بلا قلق أو خجل.

ألا ترى يا صديقي الانحدار الذي وصلنا إليه؟

وسموم الشاشة تمسي أشد فتكًا عندما يتعلق الأمر بالعقائد، فترى النبي سليمان ساحرًا، وفرسان الهيكل أبطالًا أشداء وفرسانًا نبلاء، بل إبليس نفسه تم تصويره على أنّه الملاك الوسيم المرح الطيب الذي يحب الخير للناس، لكن والده الظالم (الإله) هو من أشاع عنه صورةً سيئة، كيف لن تتعاطف مع هذا يا صديقي؟

وحتى في المسلسل الذي يتحدث عن السفر عبر الزمن تم أخذ الموضوع لبعدٍ فلسفي، وبشكل صريح تم تقديم الزمن على أنه هو الاله، “فالإله ليس كيانًا يفكر ويتصرف بل مبدأ فيزيائي غير رحيم” وتم إعلان الحرب عليه، وكذلك تم تضمين فكرة أن الزمن قادر على الخلق من خلال المفارقة الزمنية (Bootstrap Paradox) حيث إن عاد شخصٌ بالزمن والتقى بنفسه وهو صغير وأعطى نفسه شيئًا ما فإن هذا الشيء لن يُعرف مصدره وسيكون جزءًا من حلقة زمنية غير منتهية (الكبير يعطي الشيء للصغير والصغير يكبر ويعطيه للصغير مرة أخرى … وهكذا)، ومع أن المفارقات الزمنية تصادم المنطق، إلا أن المسلسل يدّعي أنها تحدث معنا باستمرار. هذا عدا عن التأكيد على فكرة الجبرية وأن البشر مسلوبو الإرادة، وكذلك بث بعض الشبهات والأفكار الإلحادية عن عبثية الخلق، وغيرها من الإسقاطات والإشارات الدينية التي لا يمكن إغفالها، بدءًا من أسماء الشخصيات وانتهاءً بأهدافها، وكل هذا في مسلسل عن السفر عبر الزمن.

وبعد أن تسري في جسمك كل هذه السموم، ومع الأخذ بالاعتبار أن الخطاب السائد هو الخطاب الليبرالي الـ ما بعد الحداثي الإنسانوي، الذي يقدّس حرية الفرد ويميع الثوابت ويطمس الهوية ويساوي الحق بالباطل، قد ترفض يا صديقي حتى إعطاء حكمٍ على ما ترى.

ومع ما هو منتشر من جهل بالدين وعدم الاعتزاز به فقد يتبادر إلى ذهنك يا صديقي تساؤل: “لمَ لا؟” … لمَ نعتبر هذا خطاً، لمَ السحاق واللواط والشذوذ خطأ؟، لمَ لا يكون إبليس مظلومًا حقًا؟ خصوصًا أنّ الغيبيات والأخلاق هي أمور دينية بحتة، فيكون الأمر قد بدأ بمشاهدة مادة ترفيهية وانتهى بمشاكل عَقدية وأفكارٍ إلحادية، أو على أقل تقدير يَنتُج إسلامٌ كنسي مكانه المسجد فحسب دون أن يكون له أثر يذكر في حياة الناس وسلوكهم.

لماذا يا صديقي تريد أن تظل مجرّد مستهلكٍ لأي محتوًى يُقدم لك؟ لمَ ترضى بأن تكون مجرد وسيلة لزيادة أرباح هذه الشركات؟ بل تسمح لهم بأن يشكِّلوا عقلك وتفكيرك ويعرِّضوك لما شاؤوا من معتقداتٍ أفكار. لماذا يا صديقي؟

أبهذه التبعية والانسلاخ عن الهوية والتشوهات الفكرية، تَنتج النهضة الحضارية؟