مقالات

تجليات العنصرية الغربية.. من وحدة الوجود إلى النظام العالمي الجديد!

لم يكن ما قام به هتلر أمراً استثنائياً في الحضارة الغربية، أو شذوذاً في نظرتها الإنسانية إلى بقية البشر وحضاراتهم ككائنات أدنى في مقابل التفوق المزعوم لعرق الرجل الأبيض، فقد سبق هتلر إبادة ما يزيد عن 70 مليون من السكان الأصليين للقارة الأمريكية على يد الرجل الأوروبي المهاجر، فضلاً عن استعباده لأضعاف هذا الرقم من أفريقيا مات معظمهم في طريقهم إلى أوروبا وأمريكا، فضلاً عن استعباده الشعوب التي احتلها سواء أكان احتلالاً حلولياً يمتاز بالفصل العنصري كما في استراليا وجنوب أفريقيا وأخيراً فلسطين، أو احتلالاً استعمارياً يستنفذ الثروات الطبيعية للبلد المحتل كما كان في الهند ومصر وبقية المستعمرات القديمة في العالم، التي انطلق الأوروبي إليها حاملاً شعلة أنواره الإنسانية إليها..

هتلر ومآلات وحدة الوجود

كل ما فعله هتلر أنه دفع عقيدة تفوق العرق الأبيض إلى منتهاها، تلك العقيدة التي دعمتها فلسفة هيجل التي هي في حقيقتها إعادة إنتاج لعقيدة وحدة الوجود الفرعونية والهندوسية وما شابهها من عقائد في الفلسفات الشرقية القديمة، وتأثرت بها الفلسفة اليونانية على يد فيثاغورس وأفلاطون وأفلوطين، ومن بعد ذلك انتشرت كتعاليم سرية (سحرية) يسمونها الحكمة القديمة أو الهرمسية، والتي أثرت بشكل مباشر في معظم علماء وفلاسفة عصر النهضة والتنوير مثل (دافنشي، ونيوتن، وبالتأكيد هيجل)؛ تلك الفلسفة التي تنتهي عند من لديه تصور لمآلها المنطقي؛ إلى أن الإنسان الأوروبي بوصفه -كما يزعم الأوروبي- صاحب أرقى فكر بين أجناس البشرية هو التجلي الأعلى للإله أو الروح المطلق.

هيجل (مصدر الصورة: ويكيبيديا)

في الحقيقة فإن هذا الاعتقاد لا يختلف كثيراً عن الفرعونية حين كانت حضارتها هي السائدة والتي انتهت إلى أن الفرعون هو التجلّي الأعلى للإله إذ قال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24]، فهذه نتيجة طبيعية لفكرة إله هو الموجودات نفسها أو الموجودات عبارة عن ظاهريات لروحه، وهو ينمو ويتطور عبر التاريخ ويتجلى من خلال هذه الظواهر الوجودية وأعلاها الإنسان وعقله، والإنسان الأعلى هو الأوروبي -كما في سياق نزعة الأنسنة الغربية- بلا جدال وبالتالي فهو الذي يحل محل ادعاء فرعون “الربّ الأعلى”.

إن من يتأمل مقولة “وحدة الوجود” فإنه سيجد أن مآلها الحقيقي هو أن لا وجود للذات الإلهية أصلاً وأن الوجود الفعلي للمخلوقات بجمادها وكائناتها الحية وكونها وقوانينها، أو ما يسمونه “الطبيعة” وبالتالي فهي رغم تسميتها بالفلسفة المثالية التي لا اختلاف بينها وبين الفلسفة المادية سوى الزعم بأن الطبيعة الحية العاقلة للكون والمادة فإنها مرادف للرب الخالق عندهم، وهي فكرة تبنتها معظم الفلسفات المثالية وأصحاب وحدة الوجود، وهي باطلة بهذا الوجه دون أدنى شك، ولسنا هنا في مجال تفنيدها، ويمكن التوسع في ذلك من خلال مطالعة عدة ردود صُنّفت خصيصًا للرد عليها، كردود ابن تيمية رحمه الله تعالى في ردوده على فلسفة أرسطو ونظرية الفيض والقائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد

تعود هذه الفلسفة إلى أصول مشرقية وفرعونية وأخرى اختلطت بالروحانية الصوفية الهندية والعربية المتأخرة عنها والمتأثرة بها، ثم عادت لتختلط بالمنطق الأرسطي ونظريات الفيض وتطوراتها في عصور التنوير والحداثة، وانتهت عند هيجل كمثالية مطلقة فيما سماه ظاهريات الروح والعقل المطلق وتطور عنها مدارس مختلفة وتطبيقاتها في حركات العصر الجديد والثيوصوفيا وغيرها، التي ترى أن هناك مجموعة من البشر مصطفاة بالحكمة الإلهية (والتجلي الأعلى للإله هو الأوروبي ومن تحالف معه في هذه الحالة) وهي وحدها الجديرة بحكم البشر وتحديد مصير هذا الكوكب.

ثم ماذا؟

قد تظن أن في الكلام المتقدم مبالغة، إلا أن هذه جزء من الحقيقة، ولن يكون من المدهش أن تعلم أن معظم صناع قرارات الغرب الحقيقيين بشقيه الأوروبي والأمريكي ينتمون لهذا الفكر المتعالي بتياراته ومدارسه المختلفة، والذي ساهم في تغذيته بجانب الهيجلية أفكار الفيلسوف الألماني “نيتشه” بثلاثيته الشهيرة: الإنسان الأعلى وإرادة القوة كغاية تنتهي إليها كل إرادة حرة، وأخيراً العود الأبدي الذي تنتمي أصوله لعقيدة التناسخ، والذي استبدَل اليوم الآخر في الشرائع السماوية بتكرار لكل ما قمت به في حياتك وإعادة تكرار ذلك للأبد، وبالتالي إذا امتلكت زمام العالم مرة فستظل تكرر هذه الملكية إلى الأبد.

نيتشه

ثم جاءت “الداروينية الاجتماعية” لتنهي أي صراع أخلاقي داخل هذا الكيان المتغطرس، وتحوله إلى حيوان مفترس ذكي، يسعى للاستيلاء على موارد بقية البشر الأضعف كرتبة أدنى في التطور، والقضاء على أولئك الذين لا يستحقون الحياة لا لشيء إلا لأن هذه هي طبيعة الحياة؛ فالأقوى يسود، والبقاء للأصلح ومن وجهة نظر الرجل الأبيض فهو الأصلح للبقاء؛ إذ هو الأقوى والأذكى والأكثر تقدما ومالاً، وعلى بقية البشر أن يختاروا أحد اثنين؛ إما الموت جوعاً وقتلاً ومرضاً، أو الدخول في زمرة عبيد الرجل الأبيض ويعملون كبطاريات تزود آلة بقائه بالوقود.

والشاهد من عرض هذا كله؛ إيضاح مقصدنا بأن صنائع هتلر والحلفاء الذين قاموا بجرائم لا تقل بشاعة عن جرائمه لم تكن في بشاعتها مجرد ظاهرة شاذة في الفلسفة الإنسانية الغربية، وكذلك الاحتلال الصهيوني لفلسطين لا يتعارض عقدياً أو فكرياً مع الرجل الأبيض فهما كيان متقارب منسجم، وكلاهما ينتمي لنفس النطاق الفلسفي والفكري، وإن كان الصهيونية -يهوداً كانوا أو من يعتنقونها كعقيدة من غيرهم، وفيهم عربٌ للأسف- أشد عنصرية ودناءة وغدراً حتى بشعوب الغرب نفسه.

صراعات وحروب.. ما الدوافع؟

في الواقع فإن ما يحدث في العالم من حروب، هو نتيجة مباشرة لهذه الفلسفة التي تلبس ثوب الحملان والدفاع عن حقوق الإنسان، وستتطور استراتيجياتها قريباً -كما تقول بعض الآراء- إلى عمليات إبادة جماعية إذا تسنّى لمن يقودونها وسائل ذلك دون الإضرار بأنفسهم، وتبرير ذلك سيكون الندرة وقلة موارد كوكب الأرض خصوصاً الطاقة، وأنه قريباً لن يكفي ذلك الجميع، ولابد من اتخاذ قرار بمن يمكنه أن يبقى ومن لابد من التخلص منه، وهذا الخفض في عدد سكان الكوكب جاء كتوصيات في مؤتمرات النخبة كـ”نادي روما”-.

منذ عام 1972 بدأ يتردد اسم نادي روما كمنظمة علمية عالمية مرموقة، خصوصاً حين أصدر تقريره الأول الذي جاء بعنوان (القيود على النمو [1]The Limits to Growth) إذ اقترح التقرير أن النمو الاقتصادي لا يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى بسبب استنفاد الموارد- وكذلك في تقرير هنري كسينجر بخصوص الدول الفقيرة عالية الكثافة السكانية المسمى ” مذكرة الأمن القومي“NSSM-200″، والتي تسمى أيضًا بتقرير كيسنجر. كان موضوعه “آثار النمو السكاني في جميع أنحاء العالم على الأمن الأمريكي والمصالح الخارجية.”[2]  وهذا كذب وافتراء على كوكب الأرض ولكن كل الدراسات الرسمية تدعم هذا الزعم، لكن هناك دراسات أخرى محترمة تنفيه تماماً مثل كتاب [صناعة الجوع: خرافة الندرة، فرانسيس مورلابيه].

هنري كسينجر

الثورات والحروب والأزمات العالمية.. استراتيجية النظام العالمي الجديد

أمر خيالي وموهوم لدرجة المرض بنظرية المؤامرة (التي يغالي فيها البعض لدرجة نسبة كل الأحداث إليها، ويزدريها البعض نفياً لها تماماً، متجاهلين الواقع والحجم الهائل لمجموعة الوثائق والدلائل وتطابقها مع أحداث هذا الواقع في كثير من الأحداث) أليس كذلك؟؛

ولكنها عملية قد بدأت آلياتها تدخل حيز التنفيذ بالفعل منذ عهد الثورات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية التي قام بها من يحكمون عالمنا من وقتها حتى اليوم من داخل اتحاد منظمات وجمعيات سرية (بدأت قريباً في الإعلان عن نفسها)، فمعظم ما يحدث الآن في تحولات العالم ونظمه السياسية واقتصادياته هو آليات نتجت عن هذه الثورات وما وقع خلال أحداثها من تغيير في بنية النخبة التي تحكم هذا العالم، وتقوم بتحويل أنظمة الحكم في دوله من وقتها لدمجها داخل نظام عالمي واحد.

لعله من المهم والمفيد أن تدرَس تواريخ الثورات بما فيها الملونة الحديثة والربيع العربي وأحداثها والحروب التي وقعت بعدها، كحروب نابليون والحربين العالميتين، والنظم السياسية والاقتصادية التي تلتها، والديون التي نتجت عنها وأصبحت دول العالم وأولها الولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا وألمانيا بسببها في أسر خدمة مديونية ربوية ضخمة للنخبة المالية خصوصاً آل روتشيلد وأذرعهم في أوروبا وأميركا والعالم، والمتمثلة بشكل أساسي في البنوك المركزية برئاسة الاتحاد الفيدرالي الذي يتولى كمؤسسة خاصة طباعة الدولار الذي يعتمد علية اقتصاد العالم كله، وقد تم تحويل معظم احتياطي ذهب العالم إلى خزائنها بعد اتفاقية ”بريتون وودز ” عام 1944م التي جعلت الدولار المعيارَ النقدي الدولي لكل عملات العالم، حيث تعهدت أمريكا بموجب تلك الاتفاقية وأمام دول العالم بأنها تمتلك غطاءً من الذهب يوازي ما تطرحه من دولارات.

المقر الرئيسي للاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأمريكي)

لقد استُبدل احتياطي الذهب بتلك العملة التي لا تساوي الورق الذي طبعت عليه، حتى خرج الرئيس نيكسون في السبعينات على العالم فجأة في مشهد لا يتصوره أحد حتى في أفلام الخيال العلمي ليصدم كل سكان الكرة الأرضية جميعًا بأن الولايات المتحدة لن تسلم حاملي الدولار ما يقابله من ذهب، وليكتشف العالم أن الولايات المتحدة كانت تطبع الدولارات بعيدًا عن وجود غطاء من الذهب وأنها اشترت ثروات الشعوب وامتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء لا غطاء ذهبي لها!

ثم أضف إلى دراسة ذلك التحولات التي تبعت تلك الثورات والحروب في النظام العالمي بداية من القضاء على النظم الملكية وتشكيل عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى ثم الأمم المتحدة بعد الثانية، ثم سقوط الاتحاد السوفيتي وتحول النظام العالمي فعلياً إلى حكم اتحاد شركات عملاقة عابرة للقارات بقوة القطب الأوحد (الولايات المتحدة) ثم الآن وما يحدث من انهيار للنظام الديمقراطي داخل الديمقراطيات الكبرى وتغول الشركات والحديث عن نظام عالمي جديد بعد أن أصاب الشلل النظام الحالي؛ كل هذا ستجده إن تأملته بتفاصيله منتج استراتيجية طويلة المدى، وقد يختلف التكتيك والخطوات والأدوات من وقت لأخر، لكن الإطار العام ثابت وفي اتجاه واحد، وهو تحقيق هدف إقامة سلطة عالمية تشكل الدول فيها ما يشبه الاتحاد العالمي، حيث تعمل حكومات الدول مديرين تنفيذيين للنخبة المالية والصناعية والتكنولوجية في العالم والقوى القديمة التي تولدت عنها هذه النخب! ومن يقاوم ذلك يوضع في جدول الدول المارقة.

هذا التحول بحاجة إلى أزمات كبرى تنتهي بحرب كبرى، أزمات بدأنا نسمع عنها كالأوبئة العالمية وتلوث البيئة العالمي وانهيار الاقتصاد العالمي وضعف نظام الأمم المتحدة، أزمات تحتاج لتحالف وتنسيق دولي ونظام عالمي أقوى فاعلية يمكنه تطبيق القرارات الدولية ولو بالقوة على الدول المارقة والكيانات التي لا تلتزم بقرارات الحكومة العالمية، ديكتاتورية عالمية شمولية ستجعلها الأزمات الطاحنة والحروب العالمية واسعة النطاق مطلباً شعبياً لمعظم سكان الأرض، ولكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.


[1] https://www.clubofrome.org/publication/the-limits-to-growth/

[2] https://rawabetcenter.com/archives/107655