مقالات

عرض الأزياء.. كيف تحول البشر إلى علّاقات ثيابٍ متحركة؟

من واجهات المحلات، إلى عروض الأزياء مروراً بإعلانات الملابس والحليّ ومستحضرات التجميل وصفحات المجلات، عارضو الأزياء مُستخدَمون في قطاعات كثيرة في عالم اليوم، وعن طريقهم يتم إقناع الزبائن بملاءمة البضائع لهم وحاجتهم لشرائها، فهذه الصناعات بعدما قامت لترِيح الإنسان وتؤدي له حاجاته، باتت متعاظمة بنفسها تُذِل كثيرين في خدمتها، وتملي عليهم نمط حياتهم كاملاً، ابتداءً بما يأكلون ويشربون، وانتهاءً بكيف يمشون ومتى يقفون وكيف يتكلمون أو يتبسّمون.

ومع أن الشركات توجهنا لأن نتجاهل الأفراد الذين يتم التسويق من خلالهم، وألّا نفكّر إلا في المنتج المقصود، إلا أننا نتساءل في هذا المقال:

ماهي هذه المهنة التي يحترفها العارضون؟ وكيف نجحت بتحويل بشرٍ كرّمهم الله إلى أدوات لا تُرى إلا لأجل الأشياء التي يستعرضونها؟ وبعد كل هذا، كيف دخلت هذه المهنة بيوتنا واستهوت فتياتنا وحوّلت كثيراً منهنّ إلى عاملات فيها بكل يسرٍ وسهولة؟

متطلبات وأهداف
ورد في موقع CollegeGrad الموجه للباحثين عن وظائف؛ تحت عنوان “متطلبات مهنة عرض الأزياء”: لا يشترط أي تحصيل علمي أو أكاديمي لمهنة عرض الأزياء، وكذا الخبرة المهنية فهي غير مهمة لمعظم الوكلاء، ولا يلزم التدريب أو الحصول على أي ترخيص رسمي كذلك.

إن المهم الذي يَسأل عنه الموظِّفون هو: العمر والوزن والطول وقياسات الجسم بشكل رئيسي[1].

وفي شرح أدقّ لهذه المحددات ورد في مصدرٍ آخر أن أقل طول مقبول لدخول الفتاة إلى هذه المهنة هو 176 سم، أما وزنها فينبغي أن يكون أقل من الوزن الوسطي لأقرانها على الأقل[2]!

هكذا بكل بساطة يقال إن هناك مهنة تهمّش العقل، ولا تتطلب إلا معايير شكليّة دقيقة لممارستها، ثم لا يعتبر ذلك تسليعاً للجسد أو انتقاصاً من الكرامة.

إن العجيب ليس وجود هذه المعايير، وإنما نجاح المهنة في استقطاب الفتيات وإقناعهن بأن المنافسة على المقدمة فيها أمر شرفي يستحق السعي والجهد. فنرى مواقع كثيرة تقدم مقالات مفصلة ترشد الفتيات إلى الطريق الأكثر فعالية لكسب الصدارة لدى المصممين المشهورين.

تقول واحدة من هذه الإرشادات الموجهة لليافعات (فوق سن الثانية عشرة) حرفياً: “شكلك الخارجي يجب أن يكون جذاباً وملفتاً. الوكلاء والمصممون يبحثون عن الكمال الجسدي في تجارب الأداء، لذلك تجنبي المبالغة باستخدام المكياج أو ارتداء الألوان الفاقعة، واحرصي على المشي بانسيابية أمام الحكام ليتم اختيارك للوظيفة”[3] وتقول أخرى: “إن أول شيء تحتاج العارضة الطموحة إلى معرفته هو مميزاتها الجمالية، وكيفية إبرازها بأفضل طريقة ممكنة، ما الذي يجعل وجهك مثيراً للاهتمام أو مختلفاً على الأقل؟ هل هو الفراغ بين أسنانك؟ أم عينيك الناعستين؟ كل هذه قد تكون ميزات تجعل عملاء التوظيف يذكرونك في تجارب الأداء[4]!”

وقد نتساءل هنا: ما الذي يجذب الفتيات لهذا الوسط غير الطبيعي؟ ما الذي قد يستهوي مراهقة بعمر الثالثة عشرة لتترك مدرستها ثم تأخذ 50 صورة لنفسها، ترسلها لوكيل عارضين من أجل تجربة أداء ستدخلها بين آلاف الفتيات الأخريات اللواتي يشابهنها في الوزن والطول، ليطلب منها هناك أن تصمت، أو تبتسم، أو تعبس، أو تمشي بكبر وخيلاء، ثم يتم الحكم عليها بناءً على ذلك لا غير؟!

كان هذا سؤالاً يلح عليّ أثناء بحثي في موضوع عرض الأزياء، فهذه مهنة مهينة فعلاً، وهذا يقرّ به بعض الداعين إليها حتى، فهذه إحداهن تقول في ختام كلام طويل عن طرق النجاح كعارضة: “يبدو الحديث في هذا الأمر سطحياً، صحيح؟ هذا لأنه كذلك فعلاً، ففي النهاية عارضات الأزياء هن علّاقات ملابس فاخرة لا أكثر، ودورهن في صناعة الموضة هو جعل الملابس تبدو جميلة لكي تُباع. لا يمكننا اللف والدوران حول حقيقة أن هذه صناعة يقودها الشكل الخارجي وحده[5]!” وليت الكاتبة اكتفت بهذا الكلام في مقالها، بدل أن تغرر بكثيرات وترشدهن درب الغواية والريادة فيها أيضاً.

وهنا يتكرر السؤال: لماذا تطلب فتاة عملاً كهذا؟

والجواب –كما وجدت- في أمرين:

أولهما: المال الوفير الذي تظن الفتاة أنها ستحصّله بمجرد عبورها على ممشى العرض أو وقوفها أمام كاميرا لبضع دائق، وثانيهما حلم الشهرة والنجومية الذي يستهوي كثيراً من اليافعات فيجعلنه هدفاً وشرطاً للسعادة، خصوصاً مع تقديس المشاهير في الإعلام وجعلهم قدوات للأجيال الجديدة، وكذلك تندفع الفتاة لهذا العمل المهين لأجل أوهام، ولا تفكّر في واقعية ذلك كله أو المقابل الذي ستدفعه لتحصيله.

تقول عارضة سابقة: كنت في الرابعة عشرة حين أرسلت لي وكيلتي أول فرصة لي كعارضة، كان إعلاناً طرقياً لمحطة راديو تظهر صورتي عملاقةً عليه، ظننته سيبدو بريئاً، لكنهم كتبوا تحت الصورة: “لا يوجد موعدٌ سيءٌ لا تصلحه الأغنية المناسبة”، كيف ألمحوا إلى أنني في موعد وأنا طفلةٌ في الرابعة عشرة من عمري![6]

وتقول أخرى: “كان الظهور على أغلفة المجلات مؤلماً، الجميع يحكم على شكلك ووزنك وموافقتك لمعاييرهم، وهذا لم يكن يعطيني أي قوة في وقتها، كنت في السابعة عشرة وأريد الاختباء، شعرت أنني لا أملك أي سلطة على نفسي[7]“، وبالرغم من أن العارضة لا تقدم جهداً ذهنياً أو عضلياً كبيرين في مهنتها، إلا أنها تفقد نفسها، ولا تملك أي سيطرة على هويتها التي تستخدمها الشركات للربح المادي فقط.

ومن جهة أخرى فإنّ الإحصاءات تظهر أنّ نسبة أقل من 10% فقط من العارضات هن من يحقق ثروة حقيقية عبر هذه المهنة، أما البقية فهنّ يعملن بأجر يتراوح بين 8-11$ في الساعة في الولايات المتحدة الأمريكية -أي أجر قريب من الحدّ الأدنى قانونياً-، وتكون الوظائف غير ثابتة أو متوقعة[8]. ومع ذلك كله فإن مهنةً العرض تجذب الفتيات الحالمات بالاستقلالية وامتلاك دخلهن الخاص، ففي ظل التفكك الأسري وارتفاع قيمة المال الذي تشهده المجتمعات الغربية، كان لازماً أن تصير مهنٌ تعطي دخلاً “سهلاً” للصغيرات مطلوبةً وإن كانت ستجعلهنّ رقيقات مستعبدات في الطريق.

جديرٌ بالذكر أن هذه المجتمعات التي تسمح لفتاة في سن الرابعة عشرة أن تترك بيتها، تسافر إلى مدينة بعيدة، وتوقع عقداً مع وكالة لا ترى فيها إلا قياسات جسدها، لترتدي ما تأمرها به، وتنشر صورها التي تختار في الطرقات وعلى أغلفة المجلات[9]، وتعرضها خلال ذلك لكثير من الاستغلال المادي والجنسي، هي نفسها التي ترفض زواج الفتاة ما لم تنهِ تعليمها الجامعي، وتعتبره حرماناً لها من طفولتها!

آثار مدمرة
عام 2006 بدأت النسبة العالية للمريضات باضطرابات تناول الطعام وبالأخص فقدان الشهية العصبي (ِAnorexia Nervosa) والشره العصبي Bulimia Nervosa)) في مهنة عرض الأزياء تتلقى انتباهاً إعلامياً كبيراً، تحديداً بعد وفاة العارضة آنا كارولينا بفقدان الشهية العصبي عن عمر 21 سنة، حيث لم يتجاوز وزنها عند الوفاة 40 كغ.[10] وبعد جدل كبير ووفاة عدد من العارضات بنفس المرض؛ أُقِرَّ في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا عام 2015 قانون يحدد أقل وزن يسمح به قانونياً لعارضة الأزياء وتُعاقب الشركة إن وظفت عارضات بوزن أقل منه.[11]  أما في الولايات المتحدة الأمريكية حيث لا توجد قوانين مشابهة، فمتوسط وزن العارضات يساوي ذلك الذي تسميه الأمم المتحدة بـ”المجاعة” (starvation)[12].

في الصورة: ايزابيل كارو، عارضة أزياء سابقة، طالبت بسن قوانين تحدد وزن عارضات الأزياء في الولايات المتحدة، توفيت بمرض Anorexia Nervosa عام 2010 عن عمر 28 سنة. المصدر:

Is It Time To Set Weight Minimums For The Fashion Industry? : Shots – Health News : NPR

وقد لوحظ أن العارضات يتبعن ممارسات مرضية خطرة ليكْبِتْنَ الإحساس بالجوع ويحققن النحافة المطلوبة كتناول كرات القطن والمناديل الورقية والتقيؤ العمد بعد كل وجبة.[13] تقول العارضة السابقة Zuzanna Buchwald: “كنت رياضيّة حين دخلت هذا العالم. طلبت مني وكالتي أن أتوقف عن ممارسة الرياضة وأمتنع عن تناول الطعام ريثما أفقد بعض العضل. تبعت توجيهاتهم حتى أصبت بفقدان الشهية العصبي ومن ثم الشره العصبي. كنت ضعيفة ومنهكة دوماً، انقطعت دورتي الشهرية لثلاث سنين وتحول لون أسناني إلى الرمادي، جفت بشرتي جداً، بدأ شعري بالتساقط، كانت تجربة مريرة. كنت أفعل كل ما يقال لي لأنني أريد الحفاظ على وظيفتي، لكنني لم أشعر يوماً أنني قوية أو جميلة”[14].

وقد أظهرت دراسة مسحية منهجية عام2015 أن اهتمام العارضات بالشكل الخارجي والنحافة الذي هو أعلى بكثير منه في غيرهن يجعل نسبة إصابتهن بمتلازمة اضطراب الأكل الجزئية مرتفعاً شكل ملحوظ.[15] والمشكلة لن تحل بتحديد وزن أدنى للعارضات، فالصناعة نفسها قائمة على كون الجمال في النحافة، والعارضة إنما يتم اختيارها لأنها تحقّق معايير الجمال تلك، فرفع الحد الأدنى للنحافة لن يحل المشكلة في كونها معياراً للجمال.

وعلى صعيد آخر بيّنت دراسة محكمة أن نسبة العارضات المدمنات على الكحول والمخدّرات أكثر من ضعفها في أقرانهن[16].

ولنا أن نفكّر هنا: كيف صار الإنسان خادماً لأقمشة مقطّعة مستعداً لفعل أي شيء في سبيلها لمجرد أن الذي جمعها معاً مصمم مشهور؟ كيف تحولت الثياب من وسيلة لستر العورة إلى قاضٍ على الوزن والجمال والحياة؟ وكيف يُسمح لشخص مريض أن يقول لفتاة إنها تحتاج لخسارة عدة سنتيمترات من محيط خصرها وإلا كانت غير صالحة للاستخدام![17]

وقد صدق ابن تيمية -رحمه الله- حين قال: ومن لم يكن خالصاً لله، عبداً له وحده، لا شريك له بحيث يكون الله أحب إليه مما سواه، استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه.[18]

من عارضة إلى فاشنيستا إسلامية
إننا اليوم نرى الذي وصفه ابن تيمية -رحمه الله- في أوضح صوره، عبوديةٌ للبشر والأضواء والأقمشة، والعجب أننا نرى كثيرًا من الفتيات المسلمات ينافسن على تقليده، فبالرغم من كل الذي ذكرناه في عرض الأزياء من مهانة وظلم وتسليع للإنسان إلا أن بريقه الخادع جذب كثيراً من فتيات المسلمين، فصرن ينافسن على النسخة الملطّفة منه تحت مسمى الـ “فاشنيستا”، وهي كلمة تترجم حرفياً إلى “تابعة الموضة”، أو الأنثى التي تكرس جزءاً من وقتها لاستعراض ملابس أوحلي أو ذوق في تنسيقها معاً أو مهارة في استخدام المكياج، ثم نشر صور ذلك كله في منصات التواصل الاجتماعي إما لغرض مادي (حين يكثر متابعوها وتتواصل معها الشركات لتستعرض منتجاتها، فتصير عارضة حقيقية) أو لغرض نفسي (من حيث أعداد المتابعات والإعجابات).

ومع أن ذلك لا يتّسق مع الحجاب الشرعي وأمر الله تبارك وتعالى بعدم إبداء الزينة، إلا أننا بتنا نرى فاشنيستات “إسلاميات” أخذن على عاتقهن عرض الملابس الموافقة للموضة مع بضع إضافات تغطي الشعر والجسد (غالباً)، ثم تقديم ذلك لمن تشعر بالحرمان لعدم القدرة على مواكبة الموضة باللباس الشرعي، فلا تختلف فاشنيستا إسلامية عن غيرها حقيقةً إلا بقليل من القماش، أما التبرّج والتجمّل والتركيز على صورة الجسد والجمال الخارجي فهو نفسه الذي لدى غيرها.

وكذلك نشأت شريحة كبيرة من المسلمات اللواتي يعرضن الأزياء لعدد غير محدود من الناظرين دون مغادرة بيوتهن، وكل ذلك عبر صفحات الإنستغرام والفيس بوك، حيث يطلبن الإعجاب، ويسعين لنيل رضا الجمهور من أجل مزيد من الشهرة و”التأثير”، ويعتقدن أنّهن خير مثال للمرأة المسلمة العصرية التي لم يمنعها حجابها من اتباع الموضة.

عسى الله أن يهدينا وشباب وشابات الإسلام سبل الرشاد، وينير بصائرنا ويوجهنا لما فيه خير دنيانا وآخرتنا، إنه على كل شيءٍ قدير.


الهوامش والمصادر:

[1] Models: jobs, career, salary and Education Information, CollegeGrad.

Models: Jobs, Career, Salary and Education Information (collegegrad.com)

[2] Tina Kells, Modeling For Girls, Liveabout dotcom. 2018.

Do You Have What It Takes to Be a Model? (liveabout.com)

[3] Kristine Tucker, Tips on Getting Discovered as a Model. Chron.

 Tips on Getting Discovered as a Model (chron.com)

[4] Format Team, How to Become a Model: A Beginner’s Guide, Format. 2020.

How to Become a Model: A Beginner’s Guide (format.com)

[5] Tina Kells, Modeling For Girls, Liveabout dotcom. 2018.

Do You Have What It Takes to Be a Model? (liveabout.com)

[6] Former Model Shares Dark Side of Glamorous Life, The 700 Club. 2015.

https://www.youtube.com/watch?v=QPbYM_lYgaU

[7] 9 Models on the Pressure to Lose Weight and Body Image | The Models | Vogue, 2019

https://www.youtube.com/watch?v=MKd38G338Qw

[8] Catie Watson, How Much Does a Model Make an Hour? Chron. 2019.

https://work.chron.com/much-model-make-hour-21379.html

[9] للمزيد: اقرأ قصة العارضة السابقة نيكول ويدر

Nicole Weider, Project Inspired: Tips and Tricks for Staying True to Who You Are. 2015. Zondervan.

[10] 21-Year-Old Anorexic Model Dies in Brazil.  Fox News. 2006.

21-Year-Old Anorexic Model Dies in Brazil | Fox News

[11] (المصدر السابق)

[12] Vanessa Rancano, Is It Time To Set Weight Minimums For The Fashion Industry?  NPR. 2015

https://www.npr.org/sections/health-shots/2015/12/22/460682633/is-it-time-to-set-weight-minimums-for-the-fashion-industry

[13] (المصدر السابق)

[14] Model Zuzanna Buchwald Reveals Her Agent Told Her To Stop Eating, 2016.

https://www.youtube.com/watch?v=6rdzoXWOAHc

[15] Zancu, S.A., Enea, V. Eating disorders among fashion models: a systematic review of the literature. Eat Weight Disord 22, 395–405 (2017). https://doi.org/10.1007/s40519-016-0293-5

[16] Santonastaso, P., Mondini, S., & Favaro, A. (2002). Are fashion models a group at risk for eating disorders and substance abuse?. Psychotherapy and Psychosomatics, 71(3), 168-172.

[17] 9 Models on the Pressure to Lose Weight and Body Image | The Models | Vogue, 2019

https://www.youtube.com/watch?v=MKd38G338Qw

[18] ابن تيمية، العبودية. ص 140