مقالات

عندما يغدو الصخب القادم من القاع لحنا

مظلم جدّاً هذا القاع، حتى إنّ القدم باتت لا تقوى على الصّعود، والوهن يعتري ما يتمّ إظهاره من وهم الصّمود.

هذا الانحدار يبدأ بتعب في عضلات الروح لأنّها اعتادت أن ترقى، ثمّ يليها اقتناع بالظلام، ويوماً بعد يومٍ تصبح مخنوقة غرقى، ثمّ تأتي مرحلة الدفاع المستميت عن موقع هذا الظلام، وتبدأ ببثّ براهين أنّ الأوكسجين يتواجد في الأعماق، وأنّ نظرية التنفّس خارج القاع تكاد تذوي ولن تبقى.

تلك هي المراحل: (هبوط ثمّ غرق ثمّ اقتناع ثمّ دفاع)، وتلك المراحل هي نفسها التي جعلت الجفن يغلق نور العين المنيرة، والرّان يغطّي نور البصيرة، فهذا الزمن الذي فيه المفاهيم تُقلب، والمبادئ تُقولَب، وبات الثابت المرتقي نحو التكامل، متّهمًا بالرّجعيّة لعدم قبوله الانحدار نحو القاع، وممانعة فقه مرونة ما في هذا العصر من تعامُل!

التفكير بين الحقائق الملموسة والأفكار المدسوسة
يرضع أحدنا لبناً نقيّاً يبني فيه العقل والإدراك، ويهبه الله تعالى كلّما تقدّم به العمر تمييزاً بين الحقّ والباطل وبين الخطأ والصّواب، ثمّ يأتي أحدهم ليعطي معلومة مغلوطة، ويشوّه مبادئ نقيّة وفطرة زكيّة.

لا شيء يحدث على دفعة واحدة، فلن يأتي أحدهم ويقول لك –مثلاً- إن اللبن أسود؛ إذ إنّ عينك ما زالت تميّز بين الألوان، ولكن يبدأ الأمر بوضع نظرية تؤلَّف في سراديب مظلمة، تخبرك أنّ الرؤيا أحياناً قد يحكمها الوهم حتى أنّ العين قد تريكَ لوناً غير موجوداً، وهنا فإنهم يقرّون بما تراه ولكن يتمّ الطعن بالنظريات والاحتجاج.

أولئك لن يقولوا لك لا يوجد سنّة نبوية لأنّها حقيقة مسلّم بها، ولكن سينفذون من خلال ناقلها كالإمام البخاري مثلاً، وسيمضون الليالي والأيام في وضع نظريات حسابية فقط ليقولوا لك هذا الكتاب غير صحيح وتبدأ رحلة الطعن والتجريح، بذلك ينالون من جيل ركيزته كتاب الله تعالى وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم.

وعلى هذا قِس! بكلّ ما يحدث حولنا.

 تأمّل قليلاً، انظر لكلّ الصخب القادم من ذاك القاع، صخب الكلمات الفارغة، والنظريات التافهة، والمحاضرات الضحلة، إن أبحرنا في جوهر هذه الأشياء وجدناها سراباً دون جوهر، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: لمَ قد يعتاد أحدنا عليها ويراها موضوعاً عاديّاً لا داعي لنقضه حتى إنّه لا ينزعج له خاطر ولا يتكدّر بتكرارها على مسمعه؟

ألفة الأفكار المسمومة
لكل شيء سبب، وثمة أسباب عديدة تدفع الإنسان ليألف الأفكار المسمومة، أبرزها وأهمها هو ضعف الأساس وقلّة عتاد الروح، ونمثّل لذلك بأن تشحن هاتفك بنسبة عشرين بالمئة ولديك رحلة تستغرق يوماً كاملاً دون تيار كهربائي، في هذه الحالة فإنّ انتهاء بطاريّة الهاتف وانقطاع الاتصال به أمرٌ وارد وشبه قطعي، ولنفرض أننا خلال هذه الرحلة احتجنا لإجراء اتصال، فمن المنطقي أننا سنقبل أي هاتف يتمّ تقديمه لنا بسبب خواء هاتفنا، ومن يقدّم الهاتف سيكون بين مساعد بحقّ أو مخادِع.

ذاك الهاتف هو الروح وتلك الرحلة هي الدنيا، وإننا بدون اتصال دائم وتعلّم مستمرّ لن نستطيع الصمود أمام العواصف التي تعترض هذه الرحلة، وكلّما ثقُل العلم صعُب الاهتزاز.

وهذا السبب له علاج مضمون، وهو استغلال الوقت فيما ينفع الإنسان ويصلح روحه وأعماله، وهذا ما ورد عن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث رواه عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك.) [حديث صحيح]

وكما ورد عن سيدنا عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه:

إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها              فَعُقبى كُلّ خافِقَةٍ سُكونُ

وَلا تَغفَل عَنِ الإِحسانِ فيها                     فَما تَدري السُكونُ مَتى يَكونُ

أما السبب الثاني فيعود لقوّة فرض الأفكار، وههنا دعنا نجرّب أن نفتح مواقع التواصل الاجتماعي ومنابر البثّ دون أن نبحث عن شيء، سنجد أنّ الباطل مروّج له بشكل احترافي من برامج وأفكار، وقد بات الإنسان لا يرى إلا ما يتمّ زرعه في عقله كالمنوَّم مغناطيسيّاً، يموج مع العاصفة كيفما ماجت، وقد وضّح القرآن هذا المبدأ في آياته حيث ذكر استراتيجية فرعون في صناعة وعي قومه عندما يقول: {مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ} [غافر:29]

وهذا ما يتمّ الآن، حيث يُفرَض على الجيل ما يحطّم بناء أرواحهم وعقولهم، ويُنفَذ إليهم من أجمل الأبواب وألطف الكلمات، فتُشوَّه المفاهيم ويبدأ الجدال العقيم.

وعلاج هذا الأمر يبدأ بنشر الوعي ولو على نطاق صغير، وكلّما اتّسعت دائرة علاقاتك كلّما كان النفع أوسع.

أما السبب الثالث فيعود إلى قلّة الفِراسة والإدراك واتباع طريق اللامبالاة بما يصيب أوصال هذه الأمّة، وهذا غالباً إنّما يأتي من قلّة فقه لعلّة الوجود على الأرض، إذ إنّ الإنسان خُلق ليكون خليفة الله تعالى في الأرض والخليفة الذي مراده البناء فطِن نبيه لا راكن سفيه.

وهناك سبب رابع وهو ضعف الحجّة لدى بعض المتصدرين للعلم والفتيا واختيارهم لإبداء الرأي بما يعرفون وما لا يعرفون، فقد قيل: ”من تصدّر قبل أوانه فقد تصدّى لهوانه”، هذه الأمّة تغرق والغريق لا تنقذه قشّة وإنما يحتاج لقارب وذوي خبرة في التجديف والاتجاهات.

فكيف يتصدّى طالب لم يتعلّم شيئاً عن الفقه لشبهات الفتوى؟ وكيف يتصدّى شابّ لم يسمع بعلم التزكية لدحض الخلط بين الاستكانة والتوكّل؟ وكيف يخوض في نقاش الملحدين من سمع بالمصطلح ولم يفقه تاريخه وأبعاده؟ وكيف يتصدّى للموعظة من لا يفهم مراد الله من مراده؟!

 

تلك المحاولات لن تكون بلسماً للأمّة بل ألماً فوق الألم، وثقلاً فوق الثقل، فطوبى لمن امتلأ ثمّ تصدّر لدحض الشبهات.

إنّ الغيرة على الأمّة أمر محمود وبإذن الله يُثاب من يشعر بها، ولكن الغيرة العمياء التي لا تكون وفق منهجية مدروسة لا يُعوّل عليها، وإنّما يُخشى من نتائجها.

فمن أراد أن يكون له يد خير في شرف الإنقاذ كان لزاماً عليه طلب العلم من أهله، لا من كلّ طارق يطرق الباب، ثمّ بعد ذلك تصبح روحه مؤهلة، لمعرفة طرق الدعوة والخطاب.

وإنّ لكلّ اختصاص أهله، فلن يكون المرء جامعاً العلم كلّه وهذا ما نراه جليّاً في حديث رسول الله صلّى الله عيه وسلّم عندما وضع لكلّ صحابيّ من أصحابه وسامَ تميّزِه واختصاصِه حيث جاء في الحديث الذي يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (أرحَمُ أمَّتي بأمَّتي أبو بَكْرٍ، وأشدُّهم في دينِ اللَّهِ عُمرُ وأصدقُهُم حياءً عُثمانُ، وأقضاهُم عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وأقرأُهُم لِكِتابِ اللَّهِ أبيُّ بنُ كَعبٍ، وأعلمُهُم بالحلالِ والحرامِ مُعاذُ بنُ جبلٍ، وأفرضُهُم زيدُ بنُ ثابتٍ ألا وإنَّ لِكُلِّ أمَّةٍ أمينًا، وأمينَ هذِهِ الأمَّةِ أبو عُبَيْدةَ بنُ الجرَّاحِ.) [الصحيح المسند، صحيح على شرط الشيخين]

ما تقدّم كله يدفعنا للقول: إنّ الركيزة الأساسية لبناء أيّ فرد تنطلق من الأسرة وإن اختلّ أحد هذا الرّكن اختل ثبات البنيان.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ)، ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].