مقالات

الاستغراب.. أنواعه ومشكلاته والدافع لدراسته

لن يكون صعبًا أن يلاحظ المتابع عمومًا للقضايا الثقافية أن الاستغراب هو نقيضٌ للاستشراق بشكل ما، لكن سائلاً قد يقول: لماذا ندرس الغرب؟ وكيف لنا أن ندرس هذا العالم الذي سبقنا بمراحل عديدة أو بعدة قرون؟

إن الأمر ليس صعباً أو مستحيلاً؛ فإننا إذا رجعنا إلى بداية الدعوة الإسلامية وجدنا أن المسلمين الأوائل حينما خرجوا لنشر الدعوة الإسلامية في العالم كانوا على معرفة بعقائد وعادات وتقاليد الأمم الأخرى، وكانوا يعرفونها سياسياً واقتصادياً وجغرافياً، ولذلك فإنّ المسلمين الأوائل لم يجدوا صعوبة في التعرُّف على الشعوب الأخرى والتفاعل معها وأخذ ما يفيدهم مما لدى تلك الأمم من وسائل المدنيّة، إذ أخذوا الديوان والبريد وبعض الصناعات المهمة مثل صناعة الورق التي طورّها المسلمون حتى أصبحت صناعة إسلامية.

الاستغراب ظاهرةً وعلمًا

قد يعني الاستغراب ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية معاصرة، يتميز الأفراد الذين يجسّدونها بالميل نحو الغرب والتعلّق به ومحاكاته. وإذا أردنا تعريف الاستغراب بوصفه علمًا: فهو الاختصاص الذي يهتم بدراسة الغرب من جميع النواحي العقدية والتشريعية، والتاريخية والجغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

ربّما كانت أهم الأسباب التي جعلت العرب يتجهون بأنظارهم إلى الغرب، ضعف الانتماء الإسلامي، وتردّي الحالة العربية سياسيًّا وتنمويًّا؛ كلّ ذلك كان يدفع بقوة إلى مراجعة الذات ووضع اليد على المشكلات، والبحث عن الحلول؛ في سبيل نهضة الشرق، وتأكيد الهوية.

وقد اتّخذت محاولات استنهاض الشرق أشكالا عدّة، ولعلّ دراسة أحوال الأمم المتقدمة المتطورة كان أحد هذه الأشكال، حيث اتجهت أنظار بعض المفكرين إلى الغرب، بوصفه آخذاً بزمام التقدم التقني والعلمي للحضارة المعاصرة؛ وذلك للإفادة من تجربته في التطّور والتقدم الذي أحرزه في معظم الأصعدة.

ولو رجعنا بالزمن قليلاً إلى الوراء لوجدنا أن الاستشراق الذي مارسه الغرب خلال تاريخ طويل ومسارات مختلفة، قد ضمن له السيطرة والتفوق المادّي والعلمي على الشرق، بحيث كان الغرب هو الدارس، والشرق هو المدروس، والغرب هو الفاعل، والشرق هو المفعول- على حد تعبير بعض المفكرين- حتى أصبح الشرق فيما بعد مجرّد منفّذ لسياسات الغرب ومخطّطاته، ومستهلكٍ لمصنوعاته ومنتجاته.

صورة تعبر عن الاستشراق السابق للاستغراب

كيف ندرس الغرب؟

لا بد من التخطيط الفعّال في هذه القضية إن أردنا أن ننجح حقاً في معرفة الغرب والإفادة من المعطيات الإيجابية للحضارة الغربية. ويحتاج هذا الأمر إلى تضافر الجهود والتأسيس الرسمي المتين لذلك، أو لمراكز عديدة في الجامعات العربية والإسلامية تنسق فيما بينها المشاريع لوضع الخطط اللازمة لهذه الدراسات ونشرها. ولكن حتى يتم ذلك لا بد من التفكير في الطريقة المثلى لهذه الدراسات.

لقد تفاوتت مواقف المسلمين حيال هذه القضية، وربمّا أخذت البعض العزّة بالإثم، فرأى ضرورة رفض الغرب وحضارته رفضاً مطلقاً، والإبقاء على دينه في إطار ضيق، ووجد أنّ العزلة عن الآخرين هي الحلّ الناجع، ودعوة الإسلام مقصورة على حضور الجامع!

وربما استعلى البعض الآخر، فرأى أن الله قد سخّر الغرب لخدمة الشرق، فلا ضير حينها أن نأخذ منه في دنيانا ما نعمّر به آخرتنا، حيث سوّغ تخلفه وضعفه بنظرة دينية تنطوي على سذاجة بالغة، وكأن الله تعالى لم يأمرنا بالأخذ بالأسباب بقوة والسعي في الأرض لبناء الحضارة!

وربّما انساق البعض الآخر نحو الغرب، فانخلع من بيئته، وتجرّد من ثقافته، ورأى في الحضارة الغربية قدوة يحتذى بها في جميع المجالات، حتى أنّه غدا يتفاخر في كتاباته باقتباس مقاطع من كلام الغربيين، ولكأنها نصوص مقدسة، تضفي على كلامه صفة العلم الرفيع والفهم الشديد!

وربّما توجس البعض الآخر خيفة، فرأى في الانفتاح على الغرب آثاراً سيئة على الفرد المسلم؛ بل المجتمع برمّته، حيث إنه يضعف التمسك بالثوابت الاعتقادية، ويذيب الهوية الدينية، وكأن الانفتاح على الغرب يعني بالضرورة تبني أفكاره واعتناق معتقداته.

خير الأمور الوسط

إلى جانب ما تقدم، نجد بعض العلماء يحاولون دراسة الغرب دراسة واعية، فيأخذ منها النواحي الإيجابية التي تفيد الشرق في مسيرته نحو التقدم، فالحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحقّ بها، هذا من جانب، ومن جانب آخر يكشف النواحي السلبية في الغرب التي لا تقبلها بيئتنا ولا ديننا ولا ثقافتنا.

لعل الموقف الأخير الذي يسعى إلى دراسة الغرب قد أصبح اتجاهاً بارزاً يفرض حضوره في الساحة العربية والإسلامية خاصة والشرقية عامّة؛ نتيجة الصدمة الحضارية التي بلغت أوجها إبّان الحملة الفرنسية على مصر(1798-1801م)، حين رأى شيخ الأزهر -آنذاك- حسن العطار(1250ه-1835م) بعد اقترابه من علماء الحملة الفرنسية أنه لا بد من دراسة الغرب، وما وصل إليه من علوم ومعارف، للحاق بركب الحضارة ، فظهرت بوادر تأسيس علم جديد يسمى (علم الاستغراب) في مقابل علم الاستشراق، وما يزال إلى وقتنا الحاضر في طور التأسيس، مع خلاف قائم-إلى الآن- بين من يعدّه علماً، و من يعدّه مجرّد حركة، ومن يعدّه ظاهرة.

لوحة عن نابليون بفترة الحملة الفرنسية على مصر، وهي بداية دراسة الاستغراب

ومن الإنصاف القول: بأن المستغرب حين يدرس الغرب، فليس ضرورياً أن يكون هدفه طمس معالم الحياة الدينية والثقافية، وحمل المجتمع على تقليد الغرب، -وإن كان ذلك قد نتج -عن قصد أو غير قصد- من فعل بعض المستغربين؛ بل إن هدف الاستغراب كعلم -لا كظاهرة- مواجهة ظاهرة التغريب والتبعية للغرب.

مشكلات الاستغراب

على أيّ حال فإن الاستغراب ما يزال يعاني من مشكلات عديدة ويواجه تحديات مختلفة، كمشكلة التخلف، حيث يرفض عدد من المفكرين وصف الاستغراب بالعلم؛ لأنّهم يرون أن التخلّف الذي يعيشه الشرق مانع من قيام هكذا علم، فهو يحتاج إلى كثير من الأدوات المادية والمعرفية لتأسيسه ونشره، إضافة إلى أنه اختلافه عن الاستشراق من حيث الظروف؛ إذ إنّ هذا الأخير قد نشأ في بيئة متقدّمة علمياً ومادياً، مما سهّل من ظهوره كعلم.

ومن التخلّف تبرز مشكلة التبعية حيث إنّ عدداً من المستغربين قد خطّوا لأنفسهم مناهج تماثل أو تقارب مناهج المستشرقين،بل ربما تبنّوا أفكارهم في عدد من القضايا. وهذا ما يدعو إلى التساؤل عن مدى استقلال المستغربين في دراساتهم أو تبعيتهم للمستشرقين. إلى غير ذلك من تحدّيات ومعوّقات تقف في طريق الاستغراب.

  ولئن حاول بعض المفكرين التغلّب على هذه المشكلات، إلا أنّ الحلول المطروحة لم تفلح- إلى حد الآن- في صياغة تطوّر كامل لما يمكن أن يسمّى علم الاستغراب.

مجالات الاستغراب ووسائله

لقد تنوّعت مجالات الاستغراب، فهناك استغراب اجتماعي، يدرس بيئة المجتمع الغربي وعاداته وتقاليده، وعلاقاته الأسرية، والتفرقة العنصرية والجريمة وغيرها من الظواهر الاجتماعية.

وثمّة أيضًا استغراب اقتصادي، يبحث في النظم الاقتصادية للدول الغربية، وناتجها المحلي، وأسواق الأوراق المالية، ومعدّلات التضخم ومستويات المعيشة والعمالة وغيرها من الأحوال الاقتصادية.

وهناك استغراب سياسي، يدرس النظريات السياسية الغربية، ويحلّل الأنظمة السياسية الحاكمة في دول الغرب، وسلوكها السياسي وأثرها في المجتمع، كما يبحث أيضاً في تاريخ الفكر السياسي، والحريات العامة وحقوق الإنسان وغير ذلك من علوم السياسة.

وثمّة استغراب ديني، يتناول الاعتقادات الدينية الشاذة في الغرب، والشعائر والعبادات والطقوس والقيم الأخلاقية المّتصلة بها، والكتب المقدسة، والحركات أو الطوائف الدينية في الغرب.

ولعلّ هذا النوع الأخير من الاستغراب يعدّ من أعظم مجالاته خطرا؛ لأنّ الدين هو الذي يشكل هويّة الأمة ومصدر إلهامها الذي يطبع جميع مظاهر الحياة، وبكل تأكيد فإن هناك أيضًا أنواع عديدة أخرى من الاستغراب.

وهذا التنوع في المجالات يستوجب تعدد الوسائل التي تعين المستغرب في أداء مهمته، ومن هذه الوسائل: إرسال البعثات العلمية إلى بلاد الغرب، لدراسة علومه وثقافته وبيئته ودياناته.. إلخ.

هذه الوسيلة تعد أبرز الوسائل التي اعتمد عليها محمد علي حاكم مصر، إذ ابتعث عدداً من طلاًب الأزهر إلى فرنسا، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي؛ للقيام بمهمة الاستغراب، إلا أن أثر تلك البعثات جرّت على المسلمين نقل عادات الغرب وأفكاره وتطبيع الشعوب بها، ومن الوسائل أيضا الترجمة حيث يمكّن لمراكز الترجمة أن تضطلع بمهمة الاستغراب؛ من خلال نقل التراث الغربي إلى اللغة الأمّ، ثمّ يقوم المختصون بدراسته وتحليله ونقده.

ختاماً: لا بدّ من القول: إنّ البحث في الاستغراب يقي من الصدمة الحضارية، التي قد تظهر عند الاطلاع على حضارة الغرب، فهو عامل من عوامل تحويل ردّ الفعل تجاه الغرب إلى فعل نافع، وذلك حين يدرس الشرق حضارة الغرب دراسة واعية، فيأخذ منه ضالّته من الحكمة، وفي الوقت ذاته ينقد الغرب وثقافته وبيئته.

وكذلك يساهم الاستغراب -إذا كان موضوعيًّا- في ردم الهوة بين الشرق والغرب، الأمر الذي يؤصل للحوار والجدال بالتي هي أحسن بين الشعوب والأمم المختلفة. بما يمكّن من تلافي الصراع بين الحضارات.


المصادر والمراجع:

  • نحو تأصيل إسلامي لعلم الاستغراب: محمد إلهامي، دار التقوى، القاهرة.
  • أخطاء المنهج الغربي الوافد في العقائد والحضارة واللغة: أنور الجندي.
  • حوار المشرق والمغرب: دكتور حسن حنفي.
  • من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: أحمد الشيخ، القاهرة.
  • حوارات في علم الاستغراب: مجموعة من المفكرين والباحثين، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية.
  • كنه الاستغراب: د. علي إبراهيم النملة.