الهوية الفرعونية وخيوط العنكبوت
بعد تلك الزفّة الهائلة التي تَمَّت في مصر لما يسمى بالمُومْياوات المَلَكيّة وما صاحبها من حشد إعلامي قبل الحدث وبعده، تعالَت أصوات الكثيرين منادية بضرورة الرجوع إلى ماضينا العريق والعودة إلى هُويتنا المفقودة، وتجدّد الجدل القديم حول حقيقة الهوية المصرية هل هي الفِرْعَوْنِيَّة أم الهويّة العربية الإسلامية؟
إنّ ما وصَلَنا من الحضارة الفرعونية أو على الأقل ما يُدَرَّس منها في المدارس والجامعات إنما هو خليط من الوثنية والإيمان بآلهة الطبيعة، والرمز لها برموز مختلفة واعتقاد تأثيرها في الكون، ثم الإيمان بنوع من الحياة بعد الموت يَمْثُلُ الميت بِحَسَبِه أمامَ مجلسٍ من الآلهة يحاسبه على أعماله، ويفحص مدى إيمانه بالآلهة والتزامه بتقديم القرابين لها.
نُقِلَتْ لنا تلك الثقافة الدينية مع جملةٍ من تاريخ مصر القديم مدونةً على أبنية المعابد ومِسلّاتها الشاهقة وتماثيلها محكمة الصنع والبنية، أو مدفونة في مقابر تَضُمّ مع جسد الميت المحنّط جزءًا كبيرًا من ثروته وأدوات معيشته التي كانوا يعتقدون أنها لازمةُ للحياة بعد الموت. كل ذلك في حِزْمة من الأساطير تدور حول صراع الآلهة وإيقاع بعضها ببعض ومحاولة بعضها الاستئثار بالإلهية دون البعض الآخر([1] ).
ومن المؤسف أن البعض قد أثلج صدورَهم ما رأَوْه في الموكب المذكورِ من ترانيمَ وأناشيد وثنيّة ورقصات تحتوي على إشارات شركيّة، فكل هذا من وجهة نظرهم رجوعٌ إلى الأصل، وتمسُّك بالهُوية التي ضاعت مع الزمان، فضاع بها المصري بين أمم الأرض، وتحوّل من المصري القائد والراعي والإله والعالِم والفنان وصانع الحضارة إلى المصري المتسوّل على موائد الحضارات المُتَفَتِّتِ في فضاء الهُويات.
أرضُ الحضارات
لقد تَكَوَّنَتْ على ضفاف النيل العديدُ من الحضارات بدايةً من الحضارة المصرية القديمة بعصورها المختلفة والتي كان الوجود العربي مكوِّنًا أساسًا من مكوناتها، “فلقد عرفت مصر قبل الإسلام فرعي العرب الكبيرين: القحطانيون الزُرَّاع كانوا يعبرون البحر ويستقرون في الوادي ويختلطون بسكانه، والعدنانيون كانوا يجوبون الصحراء الشرقية بدوًا رُحَّلًا، ولهذا لم يختلطوا كثيرًا بالمصريين، وهم الذين حاربهم الفراعنة طويلًا. ومعنى ذلك بوضوح أن تعريب مصر سبق في بدايته الفتح العربي والعصر الإسلامي، وأنه قديم في مصر مثلما كان قديمًا في السودان، وإنْ كان الفتح نفسه هو الخطوة الحاسمة”([2]).
ثم كانت مصر امتدادًا مؤثرًا للحضارة اليونانية والرومانية، وعلى أرضها نشأتْ الحضارة القبطية ثم ازدهرت الحضارة العربية الإسلامية. وفي كل هذه الحضارات كان التعدد الديني سمة من سمات النسيج البشري المصري، خاصة الوجود اليهودي، ثم الانتشار المسيحي الذي طبع مصر بطابعه الثري في كل جوانب الحياة الروحية والمادية قرونًا عديدة امتدت حتى بعد الفتح الإسلامي لها، “وثمة هنا مفارقة طريفة: وهي أن درجة انتشار كل من الأديان الثلاثة في مصر تكاد تتناسب عكسيًّا مع درجة ارتباط رسولها بمصر. فموسى أشدهم ارتباطًا بمصر، ولد وعاش وربي بها، بل يعدّه البعض مصريًّا بالأصل، ومع ذلك فلم تنتشر اليهودية في أوجها إلا انتشارًا جزئيًّا محليًّا جدًّا. أما عيسى فقد جاءها طفلًا وأقام بها بعض الوقت، ولم تنتشر المسيحية في أوجها إلا نصف انتشار على الأكثر. أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو وحده من بين أصحاب الرسالات الثلاث الذي لم يجئ إلى مصر، وإن كان وحده الذي أصهر منها، ومع ذلك فقد قُدِّرَ للإسلام أن ينتشر بها الانتشار الأكمل والأشمل”([3]).
استوعب المصريّون كل هذه الحضارات وأثَّروا فيها وتأثّروا بها، واحتضنت أرض مصر من كل حضارة أعظم فلاسفتها وأقواهم فيها أثرًا، ففي الزمن القديم عاش فيها هرمس الهرامسة الذي يُعتَقَد على نحو واسع أنه كان نبي الله إدريس -عليه السلام-([4]).

مع تشوه رسالة إدريس، أعاد الوثنيون المصريون تقديمه في صورة إله أو حكيم يحمل صفات إلهية اسمه “تحوت” Thot
وحين حطَّتْ المسيحية في مصر رحالها نبغ فيها أوريجين الفيلسوف السكندري الكبير (185 ـ 254م) منحدرًا من أسرة وثنية اعتنقت المسيحية وتحمّلت أشد الأذى والاضطهاد في سبيلها، وقد تركت تلك الحوادث أثرًا عميقًا في نفسه فأقبل على الكتب الدينية دارسًا وشارحًا لعباراتها كاشفًا لغوامضها محاولًا التوفيق بينها وبين الأفكار العريقة لمدرسة الإسكندرية الفلسفية. وقد بلغ أوريجين في ذلك الغاية القصوى حتى أضحى من المؤكد أنه ليس هناك أحد ترك أثرًا واضحًا في اللاهوت المسيحي بعد القديس بولس مثلما فعل أوريجين([5]).
كما احتضنت مصر واحدًا من أعظم فلاسفة اليهود على الإطلاق، موسى بن ميمون، الذي كان طبيبًا خاصًّا للملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي، وكتب العديد من الكتب في الدين والفلسفة، مما خلَّدَ اسمَه ضمن كبار فلاسفة العصور الوسطى وكان محل تقدير من العامة والخاصة، ويَعدُّه اليهود أكبر فلاسفتهم على الإطلاق حتى قال ناعيه: من موسى إلى موسى لم يقم مثلُ موسى([6]).
التغير المصري الأعمق والأتمّ
تفاعل المصريّون مع كل هذه الحضارات تفاعلا واعيًا وعميقًا، لكن تفاعلهم مع الحضارة العربية الإسلامية كان أشد عمقًا وأكثر شمولًا، حتى أنهم ككثيرٍ غيرِهم قبلوا الإسلام دينًا وثقافةً ولغةً، فصارت مصر إحدى الحواضر الإسلامية التي مثَّلتْ في تاريخ الإسلام نبعًا صافيًا فياضًا لعلوم القرآن والسنة واللغة، ولعلوم الفلسفة والطب والفلك والفيزياء كذلك، وأضحت حصنًا حصينًا ضد كثير من الحملات العسكرية العاتية التي استهدفت بيضة الإسلام وشأفته بل سلامَ العالم وأمنَه.
إنّ مَرَدَّ هذا القبول التام للإسلام هي أسباب ثلاثة: التسامح الديني، وإدارة المسلمين الرفيقة والعادلة لشؤون البلاد، وقرب التصور الإسلامي للإله من تصور الكثير من المسيحيين غير المؤمنين بالتصور الرسمي الكنسي([7]).
وهذا يؤكده ما قام به عمرو بن العاص حين فتح مصر إذ أمَّنَ نصارى مصر على كنائسهم وأديرتهم ثم سمح للبابا آنذاك بنيامين الأول أن يعود ليباشر عمله في أمان بعد أن ظل مختفيًا لسنوات هربًا من الرومان وبطشهم.
وحتى وإن جرَتْ سياسة الولاة بعد ذلك تجاه جموع الشعب على العسف أحيانًا والعدل أخرى إلا أن العلاقات بين طوائف الشعب كان فيها من التسامح والتعايش القسط الوافر. يقول صاحب كتاب (تاريخ الأمة القبطية)([8]): “ومن حسن الحظ أن علاقاتهم الشخصية مع أفراد المسلمين المتوطنين بينهم لم تكن غيرَ مُرْضِيَةً وأنَّا لَمْ نر في التاريخ ما يدل على وجود تعصُّبات دينية بل ربما وجد بين المسلمين مَنْ أنصفَهم وذبَّ عنهم”.
آثارٌ لا تُمْحَى وهُوِيَّةٌ لا تزول
من بين الآثار العريقة الكثيرة العجيبة التي تَعُجُّ بها أرض مصر تبقى آثار الحضارة الإسلامية شاهدة على تَشَرُّبِ كل شبر من تلك الأرض المباركة حضارة الإسلام وثقافته، فبينما تتركّز آثار الحضارات الأخرى في منطقةٍ مَّا هنا أو هناك تنفرد آثار الحضارة الإسلامية بتوزعها على جميع الأنحاء والنجوع والقرى في القطر المصري، وتلك الآثار التي تتنوع بين مساجد ومدارس وزوايا وتكايا وخوانك ما زال الكثير منها إلى الآن يَعِجُّ بالحياة والحركة مواصلًا دوره الثقافي والديني دون أن يتنكّر لماضيه أو يبخل على حاضره، أو يتحول لبناء صامت يحكي عن فترة قد انقطعت عنها الحياة أو انقطع هو عنها فلم يعد قادرًا على مسايرتها. وفي حِسْبة رياضية بسيطة يقارن جمال حمدان بين المدة الزمنية لتاريخ مصر القديم وتاريخها العربي الإسلامي فيخرج بنتيجة حاسمة هي أن طول تاريخنا العربي يعادل نحو ثلث إلى نصف تاريخنا الفرعوني تقريبًا، ونحو ربع تاريخنا كله([9]).

جمال حمدان
لكن هل يعني ذلك انقطاعًا تامًّا بين الحضارة الإسلامية والعربية وبين غيرها من الحضارات التي سبقتْها على أرض مصر؟
يحلو للبعض أن يعتقد هذا موهمًا أن مصر تعيش مرحلة من الغربة عن ثقافتها وماضيها منذ الفتح الإسلامي إلى الآن، متنكرًا بقوله هذا للواقع والتاريخ. فلم يُؤْثَرْ عن المسلمين أنهم حطموا تمثالًا أو خربوا معبدًا أو طمسوا أثرًا ينتمي لحضارات سابقة بل تركوها مصدرًا للمعرفة والثقافة والعبرة والعظة. وما زالت اللغة المصرية المتداولة تحمل في طياتها كلمات تُنسَبُ إلى اللغة المصرية القديمة تزيد على ألف كلمة([10]). فالقول بالاستيعاب وليس بالانقطاع هو الأقرب للقَبول تاريخًا وواقعًا. فمصر كما وُصِفَتْ بحق “وثيقة من جلد الرِّقِّ، الإنجيلُ فيها مكتوب فوق هيرودوت، وفوقَ ذلك القرآن، وخلف الجميع لا تزال الكتابة القديمة مقروءةً جلية([11]) “.
لعل ممّا ساعد وزاد من وتيرة ذلك الاستيعابِ الثناءُ المستمر على مصر وذكرُها بالمحامد في النصوص الدينية الإسلامية فالقرآن يذكرها تصريحًا وتلميحًا مرات عديدة ويذكر أنها كانت مبعث الرسل وملجأ الأنبياء. ولئن ذكر الله أن أشهر فراعنة التاريخ فرعون موسى كان جاحدًا مكذبًا فلقد ذكر أن زوجَهُ كانت مسلمة موحدة وأنه كان من ملئه مؤمن يكتم إيمانه وأن الجدة الكبرى لخاتم الأنبياء كانت من صميم أهل مصر وأن يوسف وقومه لقوا فيها الحفاوة والتكريم. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم النيل والفرات ينبعان من أصل سدرة المنتهى. [البخاري: 5610] وسيناء هي التي شرفت بحديث موسى إلى ربه، وهي أول موطن للشجرة التي أثنى الله عليها بقوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ} [المؤمنون: 20]. كل هذا الثناء وذكر مصر دائمًا في موضع المدح في القرآن والسنة فضلًا عن مكانتها المكانية والزمانية ميزها بمحل رفيع في الثقافة الشعبية المصرية حتى غدا كل مصري يؤمن إيمانًا عميقًا بأن مصر جزء لا يتجزأ من أرض الإسلام وتاريخه وحضارته وتراثه وثقافته، بل يؤمن أنها درة بلاد الإسلام وكنانة الله في أرضه والحصن الحصين التي يجد فيها كل مسلم الأمن والأمان والسرور والترحاب، فأضحتْ مصر بذلك مركزًا من المراكز الكبرى للحضارة الإسلامية يؤمها العلماء والفلاسفة والفقهاء من كل حدب وصوب فيلقَوْن بها والتقدير والحفاوة. وقد عبَّر الشافعي عن ذلك أحسن بيان وأبلغه حين كتب إلى ابن عمه يخبره عن مصر وأهلها: وسألتَ عن أهل البلد الذي أنا به، وهم كما قال عباس بن مرداس السلمي:
إذا جاء باغي الخير قلن بشاشةً | له بوجوه كالدنانير: مرحبًا | |
وأهلًا ولا ممنوعَ خيرٍ تريده | ولا أنت تخشى عندنا أن تُؤنَّبَا([12]) |
إن الدعوة إلى انسلاخ مصر من عروبتها وإسلامها واحتمائها بحضارة قديمة ميتة ـ مهما كان بهاؤها وبريقها ـ لهي دعوة إلى تحويل مصر إلى عضو مقطوع عن تاريخٍ وثقافةٍ وتراثٍ حافلٍ وعن جسد عربي وإسلامي فائرٍ بالحياة والتجدد، ودعوة لتحول مصر إلى بلد ضعيف ضئيل الحجم والتأثير وفقدِه شيئًا فشيئًا لقواه الناعمة التي تحلق به حول العالم ومن أهمها الأزهر الشريف بماله من امتداد روحي وثقافي على مستوى العالم الإسلامي أجمع. إن أمثالَ تلك الدعوات تشبه من يدعو ساكنًا مقيمًا آمنًا لهجر قصره الحصين المنيف والاحتماء ببيت نسج من خيوط العنكبوت! وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
(1) انظر مثلًا: والاس بدج، آلهة المصريين (ص321 وما بعدها)، ترجمة: محمد حسين يونس. طبعة مكتبة مدبولي ـ القاهرة ـ 1998م.
(2) جمال حمدان، شخصية مصر (ج4/ص643). طبعة مكتبة الأسرة ـ القاهرة ـ 2020م.
(4) انظر: د. مصطفى النشار، مدرسة الإسكندرية الفلسفية (ص114)، طبعة دار المعارف ـ القاهرة ـ 1995م.
(6) د. إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون ـ حياته ومصنفاته ـ (ص26)، طبعة دار العلوم ـ القاهرة ـ 1936م.
(7) انظر: د. مراد هوفمان، الإسلام في الألفية الثالثة (ص68)، تعريب: عادل المعلم ـ يس إبراهيم، طبعة دار الشروق ـ القاهرة (بدون تاريخ).
(8) يعقوب نخلة روفيله، تاريخ الأمة القبطية (ص81)، مطبعة متروبول (الطبعة الثانية سنة 2000م).
(9) جمال حمدان، شخصية مصر (ج4/ص645). ـ مرجع سابق ـ.
(10) جمعها وشرحها سامح مقار في كتابٍ من ثلاثة أجزاء بعنوان: أصل الألفاظ العامية من اللغة المصرية القديمة.
(11) انظر: جمال حمدان، شخصية مصر (ج4/ص590) ـ مرجع سابق ـ.
(12) انظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان (ج5/ص162). طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت (بدون تاريخ).