مقالات

الإنسان بين السوبر واللامبالاة!

يتسارع عصرنا بكل تفاصيله، ولا يبدو أننا سنرى مخرجًا من أفكار هذا العصر إلا بالعودة للأصول، في ظل السعي المرهق للوصول إلى الإنسان “الأعلى” أو السوبر، الذي يستنفد جهده وروحه..

وهنا قد يسأل سائل: هل السعي للكمال خسارة؟!

سنعرّج على جواب هذا السؤال، عندما سنحلل أسباب السباق اللاهث، وطريقة ترتيب الأولويات، إلا أننا الآن سنقف عند جذور هذه الفكرة وتطوراتها، والمقابل لها في دين الإسلام.

نيتشه وفلسفة السوبرمان

الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، هو أحد ثلاثة فلاسفة تأثروا بفلسفة كانط، كان قد طالب بنوع جديد من الناس، وهذا النوع هو الإنسان الأعلى أو الإنسان المتفوق (Superman) أو الأوبامنش.

نيتشه

نيتشه

يذكر نيتشه في كتابه (هكذا تكلّم زرادشت) مقتبسات وشذرات فكرية تجسد دعوة رجل الدين الفارسي زرادشت الذي نزل يدعو الناس إلى الإنسان الأعلى (Superman)، أي الأرقى والأشجع من الإنسان الحالي والذي عايشه نيتشه.

عمومًا فالكتاب عبارة عن رواية أدبية بث فيها نيتشه أفكاره على لسان زرادشت، وقد اشتهر عن نيتشه أنه أعلن إلحاده، وأنه سعى بعد ذلك لإيجاد البديل عن الإيمان بالله، فجاء بفكرة الإيمان بالإنسان الكامل “السوبرمان” وجعلِه إلهاً جديداً للإنسانية.

يقدّم نيتشه في كتابه فكرة أنّ على الإنسان أن يكون شجاعاً وأن يعتاد الاعتماد على نفسه في كل الأمور مستبعدًا بذلك فكرة التوكّل الكلّيّة على الله، إذ ليس ثمة أحد قادر على مساعدة الإنسان لنفسه إلا نفسه، ومن ثمّ يدعوه لقطع الاعتماد على الله.

إن الإنسان بنظر نيتشه يجب أن يكون أشبه بشخص خارق ضدّ الصدمات من الناحية النفسية، إذ بنظره ليس بالضرورة أن يكون الأوبامنش أو السوبرمان قويًا جسديًا ولا ذكيًّا للغاية، ولكن من المفترض أن يكون السوبرمان متفوقًا نفسيًا، بأن يتمتع بنفسية غير قابلة للكسر.

يرى نيتشه أنّ واجب الحضارة هو خلق إنسان جديد، وهو الإنسان الأعلى (Superman)، أي الإنسان الصلب القوي والشجاع الذكي، والمستقل أخلاقياً عن القيم الدينية القديمة.

أين الخلل؟

ليس من المستغرب أن يتبادر إلى الذهن تساؤل عن مكمن الخطأ في هذه النظرية التي قدّمها نيتشه، ولربما نجد أحدًا يوائم بين هذه النظرية وبين السعي للكمال، ألا يتفق مع المفهوم الذي طالبَنا به شرعنا الحنيف بالسعي للكمال والوصول لنسخة أفضل منّا؟ ألا يتفق هذا الأمر مع المقولة المنسوبة للشيخ محمد الغزالي: (لا تقل اللهمّ خفّف حِمْلي، ولكن قل اللهمّ قوّ ظهري)؟!

إلا أن الجواب على ذلك، هو أنّ شرعنا الحنيف يدعونا إلى الرحلة نحو الكمال، حيث تستوجب منا الاعتماد على ركيزتين أساسيتين:

الركيزة الأولى: علاقة الإنسان بخالقه عزّ وجلّ، أما الركيزة الثانية: علاقة الإنسان بنفسه وبما حوله.

وقد كان هناك محاولات على مرّ العصور بالانسلاخ من أحد هاتين الركيزتين إلا أنّ من حاول حظي بمسيرة ونتيجة ناقصة.

ولا بدّ لمن فَقِهَ الركيزة الأولى وامتثَلَ لها على نحو صحيح أن تتولّد عنده الركيزة الثانية وفق منهج قويم.

محمد الغزالي

محمد الغزالي

وبالمقابل فإن في كلمة الشيخ الغزالي آنفة الذكر رسالة لطيفة لصاحب الهدف وهي أنّ الله لا يضع الثمار على غصن ضعيف، وإنما يضع الثمار على شجرة يؤمَل منها الخير، لذلك كان هذا القول دعوة للجدّ والمثابرة لا لجلد الذات ولا للسعي الماديّ المتجرّد من الروح، وهنا تكمن المفارقة بين نظرية نيتشه وهذا القول على سبيل المثال.

فنيتشه يدعو إلى شخص لا يعاني ولا يتألم، فهو يجرّد الإنسان من مشاعره ويجعله حائطاً أصمّ لا يُرى إلا التفوق، رغم أنّ التفوق يكمن في الرحلة ذاتها لا في الوصول، والتفوق يكمن بالحفاظ على التوازن بين الروح والجسد، فلا قيمة لأهداف خالية من الروح، ولا مدد لمركب لم يكن اللهُ وجهته الأساسية.

بين الإنسان السوبر والإنسان المسلم

إن جئنا لأشرف خلق الله سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم فإننا سنجده خلال رحلة الدعوة قد واجه الكثير من المحن والصعوبات، ولكن النقطة الأساسية هنا والتي يجب أن نبني عليها الاتجاه هو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم ينطوِ على ذاته ويكفّ عن المحاولة، كما أنه في الوقت ذاته لم يطالِب من حولَه بأن يتجرّدوا من شعورهم في سبيل الوصول للتفوّق الذي يؤذي الروح، بل جعل الروح والعلاقة مع الله تعالى هي الأساس الذي تُبنى عليه ولادة الإنسان المتحلّي بالقيم والفضائل ومعمر الأرض بالخيرات.

فكان أن ربط النبيّ صلّى الله عليه وسلّم همّة الرعيل الأوّل بعزيمة ربّانية، لأنّ الذين يربطون جهدهم بتحقيق إنجازات محدودة فحسب يصيبهم الخور كثيرًا، وتجدهم كثيرًا ما يحتاجون إلى بداية عزم جديد، وقد تنكسر منهم العزائم، وتسكن إرادتهم بعد حدوث إنجازاتهم المحدودة، أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد تعمَّد أن يربط إرادة أمته وعزائمهم بربهم، فكان اعتمادهم عليه سبحانه هو مصدر قوتهم، وتوكّلهم على قدرته هو المثبِّت لعزائمهم، فيقول في حديثه صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله يحبّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفْسَافَها) [حديث صحيح: الصحيح الجامع]

بينما ألقى نيتشه على الإنسان ثقله الماديّ وجرّده من الجانب الرّوحي، مع العلم أنّ الجانب الرّوحي هو البراق الذي يعرج بالإنسان نحو سماوات الفضيلة والفهم والإدراك.

السوبرمان

ونجد هذا المعنى الأنقى، والتوجيه الأرقى جليّاً في محادثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع الصحابي خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه، عندما جاء خبّاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يشتكي من أذى قريش لهم قبل الهجرة قال خبّاب رضي الله عنه: (شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) [أخرجه البخاري].

إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم لم يطالب خبّاب بأن يكون سوبرمان، ولم يقل له أطلق العملاق الذي في داخلك، ولم يستغرب ضعفه وضعف المسلمين، ولم ينهره لبثّه الشكوى! وإنّما مرّر له مراده بتذكيره بمن لاقى الأشدّ فصبر.

لقد راعى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم جانب الضعف الإنساني وطالبهم بالصبر، ثمّ طمأن قلب خباب بأن ذكّره بالرّابط الأهمّ وهو الله تعالى؛ إذ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر) فربطه بالله ولم يربط إتمام الأمر على عاتق الأفراد، فالمطلوب من الإنسان السعي والتوكّل على الله تعالى.

 

اللاإنجاب.. الدعوة إلى الانقراض الطوعي

تزايدَت في الآونة الأخيرة –على سبيل المثال- أنشطة حركة “VHEMT” والتي تختصر جملة: (حركة الانقراض الطوعي للبشر)[1] الداعية إلى إيقاف ما سمَّوه “جريمة الإنجاب”، وامتدَّ التأثُّر بها إلى شباب بعض الدول العربية تحت عناوين متعددة اشتهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، كحملة “شباب ضد الإنجاب” ومجموعة “مغاربة لا إنجابيون” ومجموعات أخرى تحمل نفس الفكرة، لتجتمع هذه المبادرات في صفحة واحدة سُمِّيت “ضدّ التناسل”[2] على موقع “فيسبوك”، حيث أصبح لها حضور واضح بين متابعيها المؤمنين بالظلم في إنجاب الأطفال في هذا العالم.

يذكر أحد مديري الصفحة “أن إعلان إطلاق الحملة كان اختباراً لوقع الفلسفة اللاّ إنجابيّة على وعي المتلقي العربي. وأن المتابعة الكبيرة لصفحتهم كانت على عكس توقعاتهم”، مرجعًا ذلك إلى “ما يمر به العالم من حروب وأزمات وكوارث طبيعية فجعل اليأس يتسرّب لشباب المنطقة”، واصفاً دعوتهم والجهود التي يبذلونها بـ”الدعوة الأخلاقيّة بعيداً عن أي تصنيفات أخرى”[3].

بدايات فلسفة اللاتناسل
أولى إشارات هذه الدعوة تأتينا من اليونان القديمة في صورة مسرحيات أو أشعار ناقمة على الحياة، وربما ضمن شذرات ألقاها بعض الفلاسفة كأرسطو، وقد كان لبعض الفلاسفة في التاريخ الإسلامي آراء تميل إلى نصرة هذه الفلسفة كالشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري (363 هـ – 449 هـ) بدعواه لعدم الإنجاب، ولعل بيته الشعري الشهير:

هذا ما جناه أبي عليَّ *** وما جنيتُ على أحد

يوضِّح ذلك، ليؤيدها فلاسفة العصور الحديثة كالفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، والروائي الروماني إميل سيوران كما في كتابه “مثالب الولادة”، وديفيد بينتار صاحب كتاب “الأفضل أن لا تكون” وآخرون كثيرون.

الإعلام والدعوة لعدم الإنجاب
إنه من المثير حقًّا أن النقاش حول هذه الأفكار كان –إلى مدة ليست ببعيدة- محصوراً بين الأكاديميين في أروقة الجامعات ومراكز البحث، إلا أن الإعلام تكفَّل بإخراج هذه الأفكار من حيز الدوائر الفلسفية والأكاديمية وأدخلها في صميم التأثير في التجمعات الشعبية والجماهيرية، فأنتِجَت في أزمنة متفاوتةٍ العديد من المسلسلات والأفلام والأغاني العالمية، كفيلم “ليون lion” عام 2016، وفيلم “التوت البري” عام 1975 ومسلسل (True Detective) أو (محقق فَذ) والتي تدور حول هذه القضية وتؤيدها وتدعو لها.

إن الفكرة الأهم التي سعى المسلسل آنف الذكر لإثباتها وتبنّاها في كل حلقاته ضرورة “إيقاف الإنجاب” ضمن إطار دراميٍّ مشوِّق، فيكشف توالي الأحداث في المسلسل تناقض شخصيتي “رستن” وزميله في التحقيق “هارت”، فتصرفات “رستن” متطرفة في نظر المجتمع، على خلاف “هارت” الذي يقف على الناحية الأخرى تماماً، وبعد التعمُّق في المتابعة نجد أن المحرك الحقيقي الذي لتشاؤم (روستن) تجاه ذاته والعالم فَقدُه لطفلته الصغيرة في حادث مأساوي أنهى زواجه وغيَّر حياته وفكره، لتتحوَّل رغبته في الانتقام لموت ابنته إلى هوَس فكري في إثبات أنه يجب على البشرية أن تكف عن الإنجاب وأن تسعى إلى الانقراض الطوعي قبل أن تكون النهاية كارثية بالأسلحة النووية أو الكوارث الطبيعية.

حجج فلسفة “اللاإنجاب”
تتنوَّع الحجج التي تسوقها الفلسفة اللاتناسليّة، فثمة أسباب مادية مباشرة، كالحروب مثلاً، فمن الذي يرغب يوماً في أن يستخرَجَ ولده مُهشّما من تحتُ الرّكام كما هو الحال في حلب أو غزّة، أو أن يراه قد أسقطَ العلاج الكيماويّ شعرَه وأنحلَ جسمَه وما زال ينتظرُ موتَه المحتّم، أو أن يراه متشوِّه الجثة في انفجارٍ لا يُعرَف مدبّرُه؟[4].

ومن الحجج أيضا الفقر وعدم كفاية الموارد الطبيعية، فالاستمرار في الإنجاب سيسبب ازدحامًا سكانيًّا هائلًا، وبحسب التقديرات إذا استمر ارتفاع في المواليد في قارة إفريقيا على ذات الوتيرة الحالية فإن عدد سكانها سيقترب من ملياري إنسان تقريباً في عام 2050م، إلا أن القارّة السمراء لن تنتج من الطعام في عام 2025 ما يزيد عن حاجة 25% من عدد سكانها[5].

ومن الحجج أن “اللاإنجاب” أفضل للبيئة، فتقليل عدد البشر يخفف من انبعاثات سياراتهم وآلاتهم واحتياجاتهم التي تؤثر في الغلاف الجوي، كما يحتجُّ ديفيد بينتار -رئيس قسم الفلسفة بجامعة كيب تاون في جنوب إفريقيا- بأن “الإنجاب في ذاته قرار لا واعٍ وأنه نتيجة تابعة لممارسة الجنس، ولذا فإنه من العبَثِ الإتيان بأفراد جدد لهذا الوجود، وإن أخذ بعض الأشخاص هذا القرار بشكل واعٍ، فإنهم يفعلون ذلك لأسباب ليس من ضمنها مصلحة الطفل نفسه، وأن إنجابه سيكون شيئًا جيدًا بالنسبة إليه لا بالنسبة للطفل نفسه”[6]، وعليه فإنه يرى أن الإنجاب منحصر في مصلحة أبويه لا مصلحته هو، وعلى ذلك فإن الندم على عدم الإنجاب ليس ندماً على عدم تحقق مصلحة الابن بل لعدم تحقق مصلحة الأبوين.

مغالطات وتوهمات
إن الاستنادات التي يقدمها دعاة “الانقراض الطوعي للبشرية” ليست حقائق مطلقة، بل هي عوارض نسبية ناتجة عن أمور أخرى، فلا الفقر أو الحروب أو الكوارث الطبيعية ذات وجود موضوعي مطلق، ولا هي في حال وجودها مستمرة بذاتها، فالحروب تقوم على التنافس وتهدف إلى السيطرة والسلطة والتحكم بالموارد المالية والثروات الطبيعية وتعمل في سبيل ذلك على إخضاع الأطراف الأخرى بشتى الوسائل.

وكذلك الفقر والأمراض، فهي تابعة لأسباب تتقدم عليها، ومن ثمَّ، فإن الأجدر –برأيي- البحث عن حلول لإصلاح الأحوال الاقتصادية والسياسية إيقاف السيطرة على ثروات الآخرين والتعاون معهم لإنشاء عالم خالٍ من الطغيان قوي بالمرحمة التي تسود أركانه، إذ إن الدعوة لإيقاف الإنجاب لن تحل هذه المشكلات البتة.

مغالطة “اللامعنى في الوجود”
لقد بات من القطعيّ أن الفلسفة العدمية تنظرُ إلى الحياة بتشاؤم مفرط وتُلْبِس تأويلاتها السوداوية كل أمر ذي قيمة جوهرية، فليس من الغريب أن نرى العدميين يفكرون في قضية التناسل والإنجاب على نحو تشاؤميٍّ مفرِط، فـ”الحياة بلا معنى” خاصةً وأن الدعاوى التي تُساق لتسويغ الدعوة إلى إيقاف الإنجاب ذات وجاهة عاطفية محرجة!

فلنفترض أن الإنسان تخلَّص من كل الآلام، فإن ألم التفكير في الوجود وتناقضاته يملأ حياة الناس، وهذه دعاية لا بأس بها يشهرها دعاة “اللاتناسل” في الترويج لرؤاهم، فالبحث عن معنى الوجود وحيثياته وغاياته بحد ذاته يولِّد لديهم القهر والعذاب، وليست أحوال الناس ولا الحروب أشدَّ ما يقض مضجعهم، بل محض الوجود وإن كانوا في جنة النعيم.

حسنٌ، فلنفرض أن الحياة وهمٌ لا معنىً لها، ولنسأل: أهذا الذي تدَّعون حقيقة لا تقبل الجدل أم أنها مشاعر مكبوتة يتم التنفيس عنها بتخليطات نثرية وشعرية؟

إن لم تكن مقولتهم هذه –الأساسية في دعوتهم- حقيقةً، فإن الإصرار عليها أحد أكبر الأخطاء التي يتصف به دعاة “اللاتناسل”، وذلك –بطبيعة الحال- تعامل سمِج مع حقيقة المعنى في قضية الوجود الإنساني باعتبارها أمراً ثنويًّا زائفاً لا يستحق إلا المحو كما يمحى الخطأ الإملائي عن بياض الصفحة.

إنهم بذلك يصادرون حقّ من يبحث عن معنى الحياة في الوجود، بل لعلهم إن نجحت دعواهم فإنهم سيجبرون أولئك الذين وجدوا المعنى على أن لا يتكاثروا ويوصلوا ما تعلموه لأولادهم.

مغالطة “ممانعة الانتحار” و”الدعوة الاختيارية للانقراض”
يكرر دعاة “اللاتناسل” أنهم لا يحبذون الانتحار ولا يدعون إليه، وأن جل ما يهمهم إيقاف التكاثر لينقرض الجنس البشري تدريجيًّا.

أليست هذه دعوة للانتحار المقلوب، أو قل أليس هذا انتحارًا بطيئاً!؟

وبطبيعة الحال فإن الاعتراض على هذه المغالطة من قِبَلِ مناهضٍ للتناسل ستثير تشاؤمه، لأنه سيعد الكلام ههنا تقوُّلاً على ما يظن أنها قناعته، ذلك أن اللاتناسليين يطالبون بعدم التكاثر فحسب، وفي سبيل ذلك يسيلون أحبار الطابعات ويُعمِلون عقول المفكرين والمخرجين والمصورين لإنتاج الأفلام والمسلسلات التي تدعم فكرتهم، لتغيير قناعة الناس سلميًّا وذاتيًّا.

حسنٌ، إن هذا كذب لا يمكن الاعتماد عليه.

فلو أن اتحادًا من جماعات “اللاتناسل” استطاع تكوين حكومات في عدة بلدان، وسَلَّمت لهم تلك البلاد بعدم الإنجاب، إلا أن ثلَّة هنا وهناك من النساء والرجال رفضوا ذلك، فماذا سيقول لهم “اللاتناسليون” حينها؟

بطبيعة الحال إنهم أمام خيارين: استخدام القسر والعنف لتنفيذ فلسفتهم، فتصبح دعوتهم إيديولوجيا كريهة تنتهج الوحشية لتستمر، أو السماح للناس بالإنجاب وذلك أيضًا يثبت أن واقع فلسفتهم لا يتوافق مع عموم البشر.

الوهم الأكبر: “لا داعي لاستمرار الحياة”
إنّ الاستمرار في الوجود عبر التكاثر أمرٌ أكثر تعقيداً من الحجج التي يسوقها المتشائمون أو تلك التي يقدمها المدافعون عن فطرة الاستمرار؛ إذ إن دوامَ الحياة قضيّة ذات أبعاد مختلفة لا يمكن اختزالها بالتشاؤم أو التفاؤل، ففي هذا الكوكب عشرات من الأيديولوجيات والدعوات الفكرية التي تمتلك كلٌّ منها مئات الملايين من المؤمنين بها، والذين يسعون لأن يجسِّدوا دعواهم على الوجه الأتم والمثال الأكمل، فكما أن اللا تناسليين يظهرون نموذجهم المثالي بالتوقف عن الإنجاب، فإن العلماء يرون في استمرار الحياة استمرارا للعلم، وكذلك يرى الطيبون في الإنجاب استمراراً للتعامل الحسن مع الناس، وعلى مثل ذلك يمكن التشقيق بمئات الأمثلة، وبالمثل فإن الأشرار يرون في استمرار الحياة استمراراً للقوة والسيطرة… إلخ بحسب المواقع التي يشغلونها

“العدم خير من الوجود”
يقدم لنا اللاتناسليون هذا الكلام باعتباره حقيقة مطلقة، على أيِّ حال، كيف يمكن لنا أن نعرف أن العدم خير من الوجود؟

إن المشكلة في هذه المغالطة أن القائل نفسه لا يعرف العدم، ولا يدركه أصلاً، ولا يمكن لامرئ أن يصفه أو يظهر حقيقته بشكل محسوس، فالعدم هو العدم، اللا وجود.

إن المطلوب مني ومن كل إنسان موجود أن يتمثل أفضل الطموحات وأن يحدد لنفسه أسمى الأخلاق والتعاملات الإنسانية وأن يعيش عليها ولها، وحينها سيتحقق له ولكل إنسان أن (الوجود خير من العدم) فعند ذلك يتحقق المعنى مقابل تلاشي اللامعنى.


الهوامش:

[1] ينبغي التنبه إلى أن الفلسفة اللاإنجابية تنقسم إلى قسمين رئيسين، أولهما: الدعوة إلى الاكتفاء بإنجاب طفل واحد لدواع أمنية واقتصادية وإحصائية، وثانيهما: الدعوة إلى التوقف عن الإنجاب مطلقاً، وهذه الأخيرة التي يهدف المقال التوقف عندها.

[2] https://www.facebook.com/AntinatalismInArabic

يذكر أن محمود ماهر عبد الهادي مدير لهذه الصفحة ولغيرها من الفعاليات التي تدعو إلى التوقف عن الإنجاب، وله لقاءات عديدة على وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة يدعو فيها لدعم حملة (ضد التناسل)

[3] ينظر المقال المنشور على شبكة رصيف 22، بعنوان “ضد التناسل”حملة عربية تهدف لانقراض البشرية، على الرابط الآتي: https://raseef22.com/life/2017/08/22/%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%B3%D9%84-%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%87%D8%AF%D9%81-%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B6-%D8%A7%D9%84/

[4] ينظر مقال: “عن الإتيان بطفل إلى العالم”، د. همام يحيى، على مدونات الجزيرة عبر الرابط الآتي:

http://blogs.aljazeera.net/blogs/2016/10/24/%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%B7%D9%81%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85

[5] ينظر مقال عمار منلا حسن، على موقع حبر، بعنوان هل تجد الفلسفة اللاإنجابية فرصة في مجتمعاتنا، على الرابط الآتي: https://www.7iber.com/society/about-antinatalism/

وفيه ذكر الكثير من احتجاجات اللا تناسليين

[6] نقلاً عن مقال الفلسفة اللاإنجابية، لماذا لم يعد العالم بحاجة إلى مزيد من الأولاد، عبد الرحمن أبو الفتوح، منشور على موقع ساسة بوست

https://www.sasapost.com/antinatalists/