مقالات

الفلسفة الوجودية وطبيعة النفس البشرية

تعتبر الفلسفة الوجودية أن الطبيعة البشرية مرنة وقادرة على القيام بمجموعة هائلة من الخبرات، وأن الأشخاص في عملية مستمرة من التطور، وذلك استنادًا إلى الفكرة الأساسية التي تقف عليها وهي أن الوجود يسبق الماهية الحقيقية، إذ الإنسان هو من يصنع ماهيته، فالمعتقد الأساس في منظور هذه الفلسفة أنه: طالما أنني موجود فأنا أصنع نفسي باستمرار ويجب عليّ أن أعيد ابتكار نفسي يوميًا، أي أنّ الإنسان هو من يحدد شخصيته وقدراته ومستقبله.

يشير العديد من الفلاسفة والمفكرين إلى أن المعضلة الأولى في هذه الرؤية تبدأ من قضية القلق الوجودي، أي أن طول التفكير في هذه المسألة يؤدي إلى شعور عميق بالقلق، حيث إن الفرد واقع تحت ضغط الضرورة والمسؤولية لخلق شيء ما بدلاً من الفراغ الذي يعيشه في كثير من الأحيان، وإحساسه بأن كل شيء يمر سريعاً، وأنه لا يستطيع أبداً التمسك بالحاضر، فالحاضر يمضي سريعاً ويصبح من الماضي، وأنه لم يعد كما كان ولا كما يرغب في أن يكون، وبذلك يجد الفرد نفسه في مكان ما في المنتصف، يتصارع مع معطيات الماضي وإمكانيات المستقبل، دون أي معرفة مؤكدة بما يعنيه كل ذلك.

 الفلسفة الوجودية: أبعادٌ وآثار

في الكتاب المشترك المعنوَن بـ Individual Therapy in Britain أي العلاج الفرديّ في بريطانيا، والذي أشرفت على تحريره الأكاديمية ويندي درايدن Windy Dryden خصصت الأكاديمية الهولّندية إيمي فان ديورزين سميث جزءًا من بحثها في الكتاب حول الأبعاد الأساسية للفلسفة الوجودية، فأشارت إلى أن تحديد الوجود البشري في هذه الفلسفة يتركّز في أربعة أبعاد أساسية: البعد المادي والبعد الاجتماعي والبعد النفسي والبعد الروحي. في كل بعد من هذه الأبعاد، يواجه الناس العالم ويشكلون مواقفهم منه كل حسب تجربته الخاصة. فهذه المواقف هي التي تحدد موقفنا من واقعنا، ومن الواضح أن هذه الأبعاد الأربعة متشابكة ومترابطة، وما حال الفرد إلا كالممتد ما بين قطب موجب يمثل ما يطمح إليه في كل بُعد، وقطب سالب يمثل ما يخافه ويتجنبه.

ففي البعد المادي يعتقد الوجوديون أن الفرد يتعلق ببيئته ومعطيات العالم من حوله بشكل طبيعي، وهذا يشمل موقف الفرد من جسده، واحتياجاته الجسدية، وموقفه تجاه محيطه الملموس، وممتلكاته المادية، كأحوال الناس وممتلكاتهم والمناخ، والصحة والمرض.

يعدّ الجهد في هذا البعد -بشكل عام- منصبًّا بين البحث عن الهيمنة -كما في التكنولوجيا، أو الرياضة- وبين الحاجة لتقبل القيود الطبيعية كما في علوم البيئة أو الشيخوخة)، ويهدف الناس عموماً في هذا البعد إلى ترسيخ الأمن من خلال الصحة الطبية وجمع الثروة، إلا أن الحياة لا تقدم لهم الكثير من الحقائق التي تدعم آمالهم مما يسبب لهم خيبات الأمل، وإدراك ذلك يمكن أن يؤدي إلى التوتر.

البعد الاجتماعي في الفلسفة الوجودية

ترى الكاتبة أن الإنسان في البعد الاجتماعي يتواصل مع الآخرين من خلال التفاعل مع العالم من حوله، ويشمل هذا البعد استجابة الفرد للثقافة التي يعيش فيها، وموقفه تجاه الطبقة والعرق الذي ينتمي إليه، والآخر الذي لا ينتمي إليه كذلك؛ ومن ثم فإن المواقف تتراوح هنا ما بين الحب والكراهية، وما بين التعاون والمنافسة.

يمكن فهم التناقضات بين القبول والرفض، أو الانتماء والعزلة، فبعض الناس يفضلون الابتعاد عمن حولهم قدر الإمكان، بينما يحرص آخرون على بناء العلاقات وترسيخ قبوله بشكل عام بين الناس من خلال الالتزام بالقواعد والعادات والآداب العامة، ومن ثم فإنه يمكن بحسب هذه الرؤية أن يحقق الفرد الهيمنة على الآخرين بشكل مؤقت من خلال اكتساب الشهرة أو غيرها من أشكال القوة، إلا أن أتباع هذه الفلسفة يؤمنون أننا جميعاً سنواجه الفشل والوحدة عاجلاً أم آجلاً.

البعد النفسي الوجودي

في البعد النفسي الوجودي يتعلق الفرد بنفسه، وبهذه الطريقة تشير الكاتبة إلى أنه يصنع عالمه الشخصي بشكل خاص.

يتضمن هذا البعد وجهات نظر حول شخصياتنا وخبراتنا السابقة واحتمالات خياراتنا الوجودية المستقبلية، ولذا فإنه غالبًا ما يتمّ اختبار التناقضات هنا بالنظر إلى نقاط القوة ومقارنتها بنقاط الضعف.

في البعد النفسي ترى الناس يبحثون عن الإحساس بالهوية والانتماء والشعور بالجوهر وقدرات الذات غير المحدودة؛ إلا أن هذا الحال يوصل الإنسان حتماً إلى العديد من الأحداث التي تظهر له عكس ذلك، وتغرقه في حالة من التوتر والارتباك والتفكك.

على سبيل المثال فإن النشاط والسلبية مركزان مهمان هنا، حيث إن تأكيد الذات شكل من أشكال النشاط بحسب الكاتبة، كما أن الاستسلام شكل من أشكال السلبية، كما أن إعادة التفكير في الموت قد يجلب القلق والارتباك للكثير لمن يؤمن بأهمية ذاته.

الوجودية والبعد الروحي

تشير الكاتبة إلى أن الإنسان في البعد الروحي الوجودي يتعلّق بالغيب، وبالتالي فإنه يصنع إحساسًا بالعالم المثالي ويمتّن النظرات الأيديولوجية والفلسفية، وقد يجد بعض الناس راحتهم المثالية في الطرق العلمانية، وذلك في تناقض واضح بين ارتباط الروح المعنوي والمادية العلمانية، وفي هذا البعد غالباً ما يكون فكر الناس متذبذبًا بين الهدف والعبثية، والأمل واليأس، إلخ.

الاضطراب والصحة النفسية

تشير الكاتبة إلى أن الاضطراب والصحة النفسيين وجهان لعملة واحدة، والعيش بشكل سليم يعني التوافق في العيش مع كليهما، فالصحة النفسية تعني القدرة على أن تكون شفافاً ومنفتحاً على ما يمكن أن تجلبه الحياة بشقيها السلبيّ والإيجابي. وحين نحاول التهرّب من الجانب السلبي من الوجود نتعثّر بالتأكيد، تماماً كما نتعثر حينما لا نرى الجانب الإيجابي منه.

في مواجهة الإيجابية والسلبية في الإحساس الوجودي تنشأ القوة اللازمة للاستمرار قدماً وبالتالي فإن الصحة النفسية –في منظور الفلسفة الوجودية المعاصر- لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال التصالح مع الحياة والعالم والنفس وفهم ما يدور حولنا، وكأن الصحة النفسية تصبح مرادفًا للحكمة في هذه الرؤية.

لا نشير هنا إلى أن هذه الرؤية الوجودية حول الصحة النفسية صائبة أو خاطئة إلا أننا نحاول أن نقارب بين هذه الرؤية ومفردة الحكمة التي تتشكل نتيجة التخلّق بصفات الصبر والصدق.

التغيير نحو الأفضل

 تشير الكاتبة إلى أن التغيير في الحياة نحو الأفضل إنما هو جزء من عملية طويلة من التحول، وعلى الرغم من أن الناس يعتقدون في كثير من الأحيان أنهم يسعون لذلك التغيير، إلا أنه في كثير من الأحيان تعكس حياتهم محاولاتهم للحفاظ على الوضع الراهن. قد يصبح الفرد مقتنعاً بحتمية التغيير، وقد يصبح أيضاً مدركاً للكثير من الطرق التي حافظ بها على هذا التغيير. في كل دقيقة من اليوم يصنع الناس الخيارات التي تحدد اتجاه حياتهم. في كثير من الأحيان يتم الشروع في هذا الاتجاه بشكل سلبي: أي يتوافق فقط مع توقعات الأشخاص السلبية أو المتواضعة للمستقبل. لكن يتم اكتساب البصيرة في إمكانية إعادة تفسير الموقف واختيار المزيد من القرارات البناءة للتغيير نحو الأفضل. هذا يتطلب من الفرد أن يتعلم كيف يعيش بشكل متعمد وواع، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال إدراكه لكيفية توظيف الموقف اليومي والإطار الذهني بشكل يحفظه من التلقائية التي تكرر نفس الاخطاء. ليس من السهل كسر قوة العادة، ولكن هناك دائماً أوقات يتم فيها كسر العادات بالقوة. الأزمات هي الأوقات المناسبة لمراجعة أنماط التفكير والسلوك القديمة. هذا هو السبب في أن أطباء النفس الوجوديين يتحدثون عن الانهيار باعتباره اختراقاً محتملاً، وأنه في كثير من الأحيان يلاحظ الناس بدهشة أن الكارثة أو النقمة التي حاولوا جاهداً تجنبها كانت في الحقيقة نعمة بالنسبة لهم. في أوقات الأزمات، يتم إعادة تركيز الانتباه على الأولويات بحيث يمكن أن تكون الخيارات واضحة أكثر من ذي قبل.

سواء كان هذا الحدث مفروغاً منه (كما في الهجرة أو الزواج) أم لا (كما في الكوارث الطبيعية أو فاجعة الموت) فإن له تأثيراً كبيراً. عندما يكون من الصعب علينا إخفاء جوانب الوجود التي نفضلها نكون مضطرين لإعادة تقييم مواقفنا وقيمنا. في أعقاب تلك الفوضى يجب أن نتخذ القرارات حول كيفية المضي قدماً وكيفية إقامة نظام جديد في حياتنا. اذ يمكننا أن نتسامح مع عدم اليقين في مثل هذه المواقف بدلاً من الهروب نحو روتين جديد، فمثل هذه الأوقات يمكن أن تكون فرصة لتصحيح اتجاه الحياة.

ترى الكاتبة أنه بمجرد مواجهة الأزمة بهذه الطريقة، يصبح من السهل الانفتاح على التغيير مرات أخرى كذلك. يمكن للناس أن يتعلموا إعادة تقييم قيمهم وإعادة تقييم أولوياتهم باستمرار، وبالتالي تحقيق المرونة التي تسمح لهم بالاستفادة القصوى من الحياة.

*هذا المقال عبارة عن ترجمةٍ لتلخيص مقال الكاتبة إيمي فان ديو ريزين سميث في كتاب Individual Therapy in Britain


المصدر:

Deurzen-Smith, E. van (1984) ‘Existential therapy’, in W. Dryden (ed.), Individual Therapy in Britain. London: Harper & Row.

عصر الحداثة وما بعدها والإنسان ذو البعد الواحد

في رواية جورج أوريل المشهورة 1984 والتي تتكلم عن ميل الدولة لتنظيم تفكير الناس وفق ما تريده من مصالح، فتكذب وتغير الحقائق، وهكذا ما يكون اليوم صحيحًا يغدو غدا باطلا، وما يكون اليوم أبيض سيغدو بعد يوم أسود، وكل هذا يجري وفق مسميات مثيرة للضحك والبكاء في نفس الوقت فوزارة الحقيقة هي من تتولى هذه الأعمال، أما وزارة الحب فهي مسؤولة عن قتل الناس وتسميم حياتهم.

ضمن هذه الرواية وأحداثها ثمة حدث مثير للاهتمام، وهي أن لجنة من الحزب اجتهدت لوضع لغة جديدة للاستعمال بين الناس وهدفت هذه اللغة إلى إخراج كثير من كلمات اللغة المستعملة بحجة أنها مترادفات ولا حاجة لنا إليها فما الضرورة في استخدام كلمات كالعشق والوله والهيام إذا كان الحب يعبر عن مضمونها؟  وعندما تختزل اللغة ستختزل تفكير الناس وعند ذلك يتم تسطيح آمالهم ومشاعرهم وطموحاتهم!

لكن ما الضير في ذلك؟ فلتبقَ اللغة لغة رياضية رشيقة بقلة مفرداتها.

جريمة الاختزال

إن اختزال اللغة يعني اختزال الإنسان إلى مستوى يبقى فيه الإنسان عائما في السطح، حاله كحال لوحة استخدمت فيها درجة واحدة من لون الأحمر مثلا، فكما هو معلوم فإن لكل لون درجات متعددة، وكل درجة تعطي معنى وجمالا، وتكامل هذه الدرجات مع بقية الألوان يبث في النفس جمالا فريدا. وكذلك اللغة فإنها ليست مجرد أداة لتوصيل للأفكار فقط، بل هي أعمق من ذلك، فهي وعاء فكري للإنسان به يفكر ويعبر ويشرح ما يشعر به، وكلما كانت الكلمات المستخدمة أكثر دقة في التعبير عن الحالة كلما كان المعنى الذي يصل إلى الشخص أعمق، لكن ما الذي سيحدث إن قلمنا أظافر اللغة وقللنا من المفردات المستخدمة وجعلنا هذه اللغة أكثر علمية كقواعد الرياضيات؟

سيكون التواصل سطحيا مقتصرا على كلمات يتآكل المعنى فيه من كثرة الاستخدام اليومي إلى أن نبقى عائمين في سطح لغوي هش، وتبقى اللغة عاجزة عن وصف عمق الفكرة أو عمق المشاعر، وإذا اختزلت اللغة وبقيت عائمة في سطح لغوي فإن الإنسان وتفكيره نفسه سيبقى سطحيا عائمًا مختزلًا.

وهكذا فإن الأمر سيتجاوز الحال من اختزال اللغة إلى اختزال الفكر واختزال الإنسان، ومن تسطيح المعرفة إلى تسطيح الوجود برمته، وتحويل الإنسان إلى كائن سائل وسطحي.

ومن هنا فإن جملة ما نعانيه في هذه الأيام وخاصة في فترة ما بعد الحداثة هو اختزال القضايا الكبرى في جملة من الكلمات أو في تفسير سطحي لا يعدو تقييمها وفق نظرة خارجية.

لقد أثّر هذا في تعامل الناس مع القضايا الاجتماعية الحياتية، ففي كتبه التي تناول فيها مفهوم السيولة، تكلم أستاذ الاجتماع زيجمونت باومان عن تحول المفاهيم الكبرى وانزياحها لتصبح في تعاملاتنا اليومية مجردة عن معانيها وقد وصفها بانها أصبحت كالماء السائل لا تقف في مكانها لأنها خاوية من المعنى، فما كان سابقًا قيمة كبرى كالحب أصبح اليوم مجرد علاقة سطحية لا تعدو كونها إشباعًا لشهوة مؤقتة، وما كان رابطة بين شخصين كالصداقة أصبح اليوم محكومًا بتقلبات السوق؛ إلا أن أكبر ما يؤرق هنا هو أن تُختزَل القضايا الكبرى وتُسطَّح لتصبح ذات بعد واحد وأفق ضيق، فالإنسان بما فيه من عمق وبما تعتريه من أحوال وما يحكم سلوكه من مؤثرات أخلاقية وعقدية واجتماعية قد تم اختزال قصته إلى تطور، وهذا التطور ليس فقط مقاربة بيولوجية بل غدا نموذجا يفسر ماهية الإنسان وسلوكه وأخلاقه، وكذا الحال في مكانة الدين لدى البشر في أحوالنا المعاصرة فقد تم اختزاله إلى كونه مجرد محتوى طقوسي ثقافي أو قاموسًا للدلالات الأنثروبولوجية.

هذه السطحية أحدثت تغيرات كبيرة على مستويات التفكير والتعامل مع القضايا الاجتماعية ذات التعقيد البالع ومن ثم فقد اختزِل الإنسان إلى مجرد حيوان يتطور كغيره من الحيوانات، ومن هنا صار ينظَر لحالات المثلية الجنسية على أنها أمر طبيعي لا يحتوي على إشكاليات سلوكية أخلاقية بل على أنها نتيجة طبيعية لتأثيرات جينية، أي يتم التعامل معها على المستوى البيولوجي. وعلى هذا فلا إشكالية البتة فيها، وعلى هذا المستوى البيولوجي يتم التعامل مع كل شيء يخص الإنسان، وإذا تم النظر إلى الإنسان من هذا المستوى فلن تبقى هناك قيمة مرجعية أو معيارية وسيغدو كل شيء مشروعًا بالنسبة لحيوان بيولوجي.

حتى الفلسفة!

انسحب هذا الأمر على كثير من مستويات التفكير والمفاهيم الفلسفية، بل إن الفلسفة ماتت كما أعلن الفيزيائي ستيفن هوكينج –رغم أنه كان ذا فكر سطحي في الفلسفة- وهذا طبيعي جدا، لأن الفلسفة تنطلق من مبدأ أن الإنسان كائن مفكّر، وتتعامل معه وفق مستوياته المتدرجة والعميقة، وإن كانت الفلسفة قد ماتت، فهذا يعني أن التفكر والتأمل وغيرها من مصطلحات تعنى بوعي الإنسان لم يبق لها مكان من الإعراب في عالم بيولوجي سطحي..

إن الحرية التي كانت في وقت سابق أساس عصر التنوير والحداثة أصبحت اليوم مفرغة من معناها عندما تم النظر إلى الإنسان على أنه مخلوق لا يستطيع تجاوز قوانينه البيولوجية التطورية.

إنسان المتاهة .. مؤثرو العالم الافتراضي!

في عالمنا المدفوع بالجشع نحو المال والكسب، وفي العالم الافتراضي السطحي المفتوح تصدر الشاشات والمنشورات أشخاص يتكلمون عن كل شيء بشكل سطحي لا اختصاص لهم سوى أنهم من جملة ما أصبح معروفا بـ” المؤثرين” أو ” صناع المحتوى”، ومع كمية الغش الموجود في هاتين التسميتين فإن لهؤلاء الأشخاص سلطة معرفية وعلمية في كافة المجالات تقريبًا، ونظرة على بعض قنوات اليوتيوب نرى مصداق هذا فهؤلاء المتصدرون يتحدثون عن مسائل علمية شائكة أو مواضيع فلسفية معقدة في دقائق معدودة مصدرين الحكم في هذه الأمور دون أن يكون لهم خلفية علمية أو اجتماعية معينة. ومع ضيق وقت الناس أصبحت هذه المقاطع أو المنشورات بمثابة مراجع يستقي الناس منها توجهاتهم

خاتمة لعلها تكون عميقة!

عبر تاريخنا الإسلامي ثمة مدح للصمت، ومدح الصمت ليس باعتباره صمتا بل لأنه وسيلة للتفكير العميق والتأمل الذي يفضي إلى قول ما هو أقرب للصواب وذلك كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) [أخرجه البخاري]، وهذا الأمر أصبح غريبًا في عالم مليء بالضجيج…

التفكر والتدبر والتعقل والتذكر كلها مصطلحات أساسية في تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة على حد سواء وهي تشير إلى مستويات متعددة من التفكير التي تجعل الإنسان إنسانًا، لكن الأمر اليوم مختلف جدا…  لكن اليوم ثمة اختزال للإنسان وهذا الاختزال يتم لصالح تسطيحه وتسطيح الإنسان يعني قطعه عن السماء وحبسه في عوالم سُمِّيَت زورًا وبهتانا وزارة الحب والحقيقة وليس لها من عمل إلا نشر الكره والخديعة الكبرى.

النسبية اللطيفة.. هل يطبقها أهلها فعلاً؟

إن من أهم ما أفرزته عقلية ما بعد الحداثة الذي انتشرت في ستينات وسبعينات القرن الماضي في أمريكا وأوروبا فكرةُ النسبية التي باتت رائجة وجذّابة للكثيرين اليوم، بوصفها طريقةً محترمةً ولبقة لإنهاء الخلافات المزعجة، والتجاوز عن النقاشات التي أرهقت الشعوب على مرّ قرون طويلة، من دون أن يصلوا إلى حلٍّ يرضي جميع الأطراف لها[i]، فلم يعد مستغرَباً أن نسمع شابّين يتحدثان عن الدين باستخدام عباراتٍ مطّاطة ومفتوحةٍ مثل: “برأيي أن الإله واحدٌ، لكنني أفهم أنّك ترى الأمر بشكل مختلف”، بينما يردّ الآخر ببساطة: “أحترم رأيك، لكن من وجهة نظري أن هناك مئات الآلهة في العالم، وطالما أن الكثيرون يؤمنون بذلك، فلا يمكننا إغفاله!”

ثم ينتهي النقاش على أنّ تجاوز الخلاف ممكن دون الحاجة لإقناع أحدٍ برأي أحد، أو ادّعاء أحدٍ أنه متأكد من صدق مقالته؛ لأنّه من غير الممكن القيام بمصادرة الحقيقة أو ادّعاء امتلاكها كاملة، وطالما أن لكلّ شخص منهما قناعاته فمن قال إنه يجب أن يكون بينهم مخطئ ومصيب؟ ومن يهمه ذلك فعلاً طالما أن من الممكن تجاهل الأمر والعيش معاً بسلامٍ دون التفكير فيه؟

لباقةٌ انتقائية

هذه هي النسبية التي تسوّق اليوم في إطار المحبة والسلام والتعايش، فهي التي لا تعترف بالحقيقة المطلقة، بل وتلوم الذي يدّعي وجودها، وتتجاوز الأسئلة المصيرية مدّعيةً أن اختلاف وجهات النظر يعني وجود أكثر من حقيقة، ما دام لكل شخصٍ فكره ومنظوره وفهمه للكون من حوله، لكن ترى هل يمكن تطبيق هذه الآلية الفكرية -إن صحت تسميتها كذلك- على كل أمور الحياة؟ وهل يقوم روّادها بذلك فعلاً؟

عام 2015 ظهر الإعلامي والكاتب المحافظ (بين شابيرو) في لقاءٍ تلفزيوني مشترك مع عدد من الناشطين في مجال حقوق المتحوّلين جنسيّاً لمناقشة الأمر، وكان من بين المتحدّثين على المنصّة رجلٌ متحولٌ جنسياً لأنثى يدافع عن القضية بشكلٍ مستميت. شابيرو الذي حاول كشف زيف نظرية الجندر بالأدلة العلمية المجردة حول الجينات التي تحدد الجنس قوبل بتهديدٍ مباشرٍ من الرجل المتحوّل الذي قال أمام الجمهور وعلى الكاميرات: “توقف عن ذلك فوراً، وإلا ستعود لبيتك في سارة إسعاف!”[ii]

بالرغم من فداحة التهديد ووضوحه إلا أنه لم يقابَل من قبل المتحدّثين على المنصة أو المذيع ذاته إلا بلومِ (بين) ودعم المهدِّد، بحجة أن (بين) كما قيل: “لم يكن محترماً في نقاشه”، ولم يتدخل أحدٌ للدفاع عن حقّه بامتلاك وجهة نظرٍ مختلفة على الإطلاق.

إنّ الغرب الذي يروج للنسبية على أنّها جزء أساسي من احترام الآخر والإنسانيّة في التعامل معه وتقبّله، لا يرضاها حقيقةً في التعامل مع الثوابت التي اختارها لمجتمعاته، ولا يحترم وجهات نظر سواه فيما يتعلق بها.

وكذلك هي قضية حقوق مجتمع LGBTQ وميزاته اليوم، حيث لا يسمح لأحد يريد الانتماء للمنظومة الغربيّة أو العيش على أرضها أن يتعامل بأي رفضٍ تجاه أي شخص من هؤلاء مهما كانت العقيدة التي تم قبولها منه واحترامها له في العقلية النسبية، وقد يتم بكل بساطة إطلاق عبارات نمطية على هذا المخالف تحت عنوان الهوموفوبيا، وكذلك ضمّه في مجموعات شريرة وتشويه سمعته وتهديده وطرده من عمله لمجرد أن يعبّر عن الفكرة المخالفة بنظرةٍ أو كلمة.

لقد تجاوز الأمر التنميط والاعتداء الفردي في كثير من الدول الغربية اليوم، إلى أعمق من ذلك، فمناداة شخص باستخدام الضمائر التي لا يرضى بها، باتت جريمةً يعاقب عليها القانون ولا يتعاطف مع مرتكبها وإن كانت ببراءة أو حسن نية[iii]، فيمكن اليوم أن نرى رجلاً عادياً في هيئته الخارجية وخشونة صوته، ثم نفاجأ بأنه يريد أن ينادى بضمائر المؤنّث، وواجب الجميع في هذه الحالة هو الموافقة والقَبول، بلا أي مساحة للخلاف أو احترام وجهات النظر في الفلسفة النظرية وغير المثبتة التي بُنيت عليها حقوق المتحوّلين.

وهذا ما بات مطبّقاً في كندا، حيث تمّت الموافقة على تعديل في قانون حقوق الإنسان عام 2017 لينصّ على إمكانية أن يغرَّم الشخص أو يحكَم عليه بالسجن إن تحدّث مع أحدهم باستخدام الضمائر التي لا يريد[iv]، وفي السادس عشر من مارس هذا العام اعتقل روبرت هولاند وحوكم بتهمة استخدام الضمائر الخاطئة مع ابنته التي وُلِدت أنثى وتريد العبور جنسياً لتكون ذكراً، ولم تأبه المحكمة بأقوال هولاند أن ابنته متعبةٌ نفسياً وبأنه كان يحاول مساعدتها، وحكَمَت عليه بالعنف الأسري وأعطته إنذاراً بالسجن إن عاد لمناداة ابنته بالضمائر الخاطئة[v].

احترام آراءٍ أم فرض دينٍ جديد؟

مما سبق يظهر أن النسبية كمفهوم لا علاقة لها لا باحترام الآراء ولا بقبول الآخر، إنما هي من مفرزات تحييد الغيب والمرجعيّات الدينية، وتحجيم الإيمان وأثره، وفرض دين ليبرالي جديد على الأفراد يما يتناسب مع الفكر الغربي الحالي وما يتضمّنه من تقديس حقوق الإنسان التي اخترعها أصحاب الصوت المرتفع والسلطة الغالبة، ولعل أصدَقَ الأدلة على ذلك تظهر للمتأمّل في خطاب الأمم المتحدة ونشاطاتها.

ففي تقريرها الخاص بالحرية الدينية الصادر العام الماضي ورد التشديد على ضرورة منع التمييز الجنسي، والتمييز ضد أفراد مجتمع LGBT+ تحت أي مظلة دينية، لأن حق الحرية الدينية يحمي الأفراد، لا محتوى دينهم، وبالتالي فإن المتحدّث عن الأمم المتحدة يدعو الدول الأعضاء إلى منع أي تمييز جنسي موجود في القوانين، بغض النظر إن كان ذاك التمييز نابعاً عن الأديان أم لا، وقال المتحدث حرفياً إن هذا المنع ينبغي أن يتضمن منع تجريم الزنا، ومنع تجريم الأشخاص بناءً على ميولهم الجنسية الحقيقية أو تلك التي يؤمنون بها أو هويتهم الجنسية، وكذلك منع تجريم الإجهاض[vi].

أي أن الأمم المتحدة مستعدّة لتقبّل الأديان مالم تأتِ بما يخالف دينها الليبرالي المستحدث الخاص، فالتعددية بصورتها اللطيفة المتصدّرة إنما هي حكمٌ على الجميع بأن الصورة الوحيدة المقبولة للدين هي تلك الهامشية المحصورة في الكنائس والمساجد، ولذا فلا حاجة للاكتراث بذاك الدين ولا للتفكير فيه لأن علاقة الفرد بخالقه ينبغي أن تظل محصورة في مكان واحدٍ لا تنعكس على شيءٍ من علاقاته مع البشر ولا من أفكاره التي يحمل عنهم، وطالما أن الفرد ملتزم بالقوانين والأطر المفروضة عليه، ومندمج في محيطه، لا يزعج باختلافٍ في غير موضعه أحداً، فلا حاجة للخلاف البتة لأن دينه ذاته سيمحى مع الوقت لتحلّ محله الانتماءات والمنطلقات الليبرالية المرضيّ عنها فقط.

أما إن تجرأ أي فردٍ على توسيع رقعة تأثير دينه أو مجرد العيش باتساق معه، فسيجد بالمرصاد كل ما تتم محاربته في الحديث عن النسبية والتعددية وقبول الخلاف، لأن الأمر مجرد تبديل مقدسات، من الله إلى حرية الإنسان ورغباته المتغيّرة وقيمه السائلة ونتاج لوبياته الخبيثة التي تطبّع الناس مع جديدٍ من المنكرات كل عام.


الإحالات

[i] انظر مقال ما بعد الحداثة بقلم عرابي عبد الحي عرابي على موسوعة السبيل:

https://al-sabeel.net/%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9/

[ii] https://www.youtube.com/watch?v=YgQy70_LPS4

New York Pronoun Law. [iii]

https://fairygodboss.com/career-topics/new-york-pronoun-law

[iv] Controversial Gender Pronoun Laws In Canada. 2018

https://bjhspatriotpages.com/news/2018/01/15/controversial-gender-pronoun-laws-in-canada/

[v] Father jailed in Canada for using incorrect pronouns. 2021

https://www.independentsentinel.com/father-jailed-in-canada-for-using-incorrect-pronouns/

[vi] Use of religious beliefs to justify rights violations must be outlawed says UN expert. March 2020

https://news.un.org/en/story/2020/03/1058411

توجهات العمارة في تيار ما بعد الحداثة

أنتجت الفلسفات المتعددة أنماطًا معماريّة مختلفة، لعل آخرها نمط التكثيرية، والمحاكاة مع الطبيعة، وقد أتاح ذلك ظهور فلسفات جديدة تتخذ من أفكار ما بعد الحداثة ديدنًا لها، وهنا يمكن أن نتساءل إلى أين يمكن أن تتجه هذه الأفكار؟

بينما لم تكن أطروحة فينتوري بالتأكيد بيانًا سياسيًا، إلا أن كلماته تقرَأ اليوم على أنها دعوة لمجتمع شامل، حيث قال: “أتحدث عن بنية معقدة ومتناقضة حول ثراء التجربة الحديثة وغموضها، أرحب بالمشكلات وأستغل الشكوك، أحب العناصر الهجينة بدلاً من “النقية”، والمساومة بدلاً من “النظافة”، أنا مع الحيوية الفوضوية على الوحدة، يجب أن تجسّد بنية التعقيد والتناقض الوحدة الصعبة التضمين بدلاً من الوحدة السهلة للاستبعاد.” (1)  وقد أدّت أفكاره للتوجه تحو فكرة التعددية التي بلغت أوج الترويج لها من خلال بيارك انجلز في عام 2009.

ما بعد ما بعد الحداثة: نعم هو الأكثر(Yes is More)
سنأخذ مثالاً على مفهوم (نعم هو الأكثر) من خلال دراسة مشروع (كوبنهاجن المستقبل –منتزه سوبركيلين) وهو أحد أعمال وإشراف المعماري بيرك انجلز، والذي حاز على جائزة آغا خان في العمارة بسبب تركيزه على دمج وصهر الأقليات في المجتمع.

منتزه سوبركيلين

مفهوم الجمال والقيمة الجمالية في المشروع
يقول جيكوب فيغنير، الفنان من الفريق الاستشاري في مشروع (منتزه سوبركيلين) والمسؤول عن القطع الفنية الموزعة في المشروع: “أعتقد أنه يشكّل نوعًا غريبًا .. أعني الأشياء التي لها وظيفة ولكنها مجمّعة معًا ولديهم هذا النوع من الجماليات التي تتعارض مع بعضها البعض، وهو على ما يبدو شيء لطيف، يبدو المكان جيدًا على ما أعتقد”(2).

مفهوم الهوية والانتماء: جدلية السياق
حتى نفهم الهوية، من الجيد تعريف السياق الذي يجعل الإنسان ينتمي وينحاز لفئة معينة من زمان ومكان وأحداث وأشخاص، إذ إن المكان العام بشكله المجرد لا قيمة عاطفية له، إلا أن الذكريات في الإنسان هي ما تجعله يشعر بالانتماء للسياق وتدفعه ليستجيب بعاطفته للمكان، ومن المهم جدًّا التفصيل في مفهوم السياق ومفهومي الزمان والمكان في هذا العصر حتى نحافظ على المعنى والهوية دون عبثية ودون تسطيح لهذه المفاهيم حتى لا نخسر جوهر القضية.

تصاميم متناقضة خارجة عن السياق. هذا لتأكيد أهمية السياق من أجل الانسجام مع المحيط

تصاميم متناقضة خارجة عن السياق. هذا لتأكيد أهمية السياق من أجل الانسجام مع المحيط

تسطيح الهوية بالتمسك بالمادة
حين نقول إننا نشتاق لتراب الوطن -على سبيل المثال-، فإننا نقول ذلك بشكل مجازي، فنحن لا نركض لشم وتجميع التراب حين وصولنا لوطننا، وإن تحمس بعض الأشخاص وفعلوا ذلك بالفعل، فإنه أمرٌ مبالغٌ فيه أو هو مظهر لعاطفة زائدة؛ إذ ليس الأصل من مفهوم الاشتياق للمكان تلمّس جدرانه وأجزائه، لكن بعض المعماريين أخذوا الموضوع بشكل حرفي، وهو ما حصل في مشروع (منتزه سوبركيلين)، حيث خُصّص مكان من المشروع لفتاتين سافرتا لإحضار تراب من فلسطين ووضعه في بعض أجزاء المنتزه.

قد نرى بعض الأشخاص في زمن الحرب من تأخذهم العاطفة ويبدأون بتجميع أحجار بيتهم المدمر للاحتفاظ بذكريات البيت، وهذا موضوع محزنٌ جدًّا ويدفع للتعاطف، إلا أنها لا تخرج عن كونها ردة فعل عاطفية لا يمكن بناء منظومتنا الفكرية وتوضيح مفهوم الهوية والانتماء بناء عليها، إذ الموضوع أعمق وأكبر من ذلك.

تراب أحمر من فلسطين في منتزه سوبركيلين

تسطيح الهوية بالتمسك بالزمان
إلى جانب تسطيح الانتماء للمكان، سيتم تسطيح الزمان في العمارة، وستصبح في المستقبل مثل بيع السلع اليومية كالأجبان، حيث أصبح للزمن قيمة وعُرِّف المنتج الأقدم بأنه الأكثر جودة، فقط لكونه قديمًا ونقيًّا لم تلمسه أيدي البشر الحداثيين، فالتاريخ لم يعد مصدرًا للمعرفة والفهم فحسب، وإنما أصبح مقدسًا بذاته لأن عامل الزمن مرّ عليه، وإن لم يكن يرمز لشيء معين.

صور مشروع منتجع شرعان في العلا

قد يكون الاتجاه مقبولًا لمن يهتم بالتاريخ الأصيل بهدف أن تكون المعلومات المستخرجة أصيلة وصحيحة، إلا أن هذا الاتجاه يلجأ لجعل الأرض والبشر والزمن المعيار لتحديد قدسية المكان، وحينها يصبح المكان مقدسًا لقدمه، بغض النظر إن كان فيه قيمة ثقافية أم لا. وهو ما سنراه أكثر في دراسة المشروع (منتجع شرعان في العلا).

مشروع (منتجع شرعان في العلا)
سيتضمن المنتجع الذي ينحَتُ في جبال العلا بالمملكة العربية السعودية -المتوقّع إنجازه في عام 2023-، أجنحة فندقية، ومنتجعاً صحياً، وموقعاً لعقد القمم. كما يتميز المنتجع بتصميم مستوحىً من مملكة الأنباط وهو من تصميم المعماري الفرنسي جون نوفيل.

الإنصات لصوت الطبيعة Genius Loci
يوضح الفيديو السابق النمط المستخدم في العمارة، وهنا نرى أهمية هوية المكان عند المعماريين، لكن الهوية هنا غير مرتبطة بالثقافة أو للناس بل متعدية لها بهدف فهم إيحاءات المكان وطبيعة الميتافيزيقا، وهو ما يعرف في العمارة بمفهوم “Genius loci”. حيث نشأ مصطلح “Genius loci” من الأساطير الرومانية ويشير إلى الروح الحامية للمكان. أو الطابع السائد أو الجو العام للمكا ويقصد به  رئيس أو روح مكان.(3)

في الدين الروماني الكلاسيكي، كان “Genius loci” يمثل الروح الواقية للمكان، وغالبًا ما كان يصور في الأيقونات الدينية كشخص يحمل سمات مثل الوفرة أو باتيرا أو على هيئة ثعبان، وقد تم تخصيص العديد من المذابح الرومانية الموجودة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية الغربية لمواقع “Genius loci” معينة.(4) وهذا يذكر بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}. ]الجن: 6[

من المهم الإشارة إلى أن من جملة عمليات تسطيح مفهوم الهوية حصره برموز من المادة أو الزمن، مما يجعل المعنى الكامن فيه بلا معنى، حيث يجعله التسطيح شيئًا ثانويًّا قد يتركه الإنسان حالما يرى أنه غير فعال أو مستدام، أو عندما يدرك أنه موجود لبعد عاطفي وحسب، مما يجعل العاطفة بحد ذاتها لا معنى لها وبذلك يتشتت ويثقل ويأخذ من مساحة المكان ويصبح مثل الرمز والوثن بلا عملية أو وظيفة له، ومع الوقت، إما يتخلى عنه الإنسان لعدم وجود وظيفة له أو أن يتوجه لعبادته وتقديسه لأنه الشيء الوحيد الذي تبقّى دليلًا للحفاظ على هويته، وبكلا الحالتين فقد تم تسطيح مفهوم الهوية ليصبح مفهوماً متنقلاً غير مستدام وعائقًا في الحياة العملية.

التحيز والإقليمية
الطبيعة تحكم والمعماري يرفع يديه ويستسلم للعفوية والفوضى، وهنا نعود لحركة (نعم هو الأكثر)، حيث نرى أن المكان أصبح يحدّده المستخدم وليس المعماري، فعندما تترجم الهوية بإحضار تراب من بلد ما، أو وضع رمز على شكل عيادة طبية من مكان ما، فإننا نرى أمامنا أن العبثية تحاول إيجاد معنى بطريقة أكثر عبثية.

نرى في حركة (نعم هو الأكثر) أنها تحاول إيجاد معنى وهوية للثقافات المختلفة من خلال إحضار رموز مختلفة مهما كانت رأسمالية، تاريخية، ثقافية، دينية، وطنية.. إلخ، وبنفس الوقت تحاول إيجاد الترتيب والتنظيم والهيكلية في المدينة من خلال ضم كل الثقافات للخضوع للمجتمع التعددي والاندماج القسري.

هو وهم الحرية والانفتاح إذًا، أحضر ما تريد من بلدك وثقافتك، يمكنك إحضار الزعتر والملوخية، لكنك يجب أن تعيش في نهاية المطاف مثلنا وتستمتع بما نراه مناسبا لك، ونريد أن نأكل معك أيضا.

تدافع الحيوانات الإقليمية عن منطقتها ضد الغزاة

يمكن اعتبار هذا الواقع بأنه اشتراكية جديدة على مستوى عالمي، حيث يخضع كل البشر لسلطة رموز الأم الطبيعة، وحين نجعل هويتنا وكينونتنا مقتصرة على الحيز الذي نحتله خاصة عند فقدان معنى الوطن الذي غدا ظاهرة عالمية، فإن ذلك سيعيدنا لغريزتنا الحيوانية في القتال من أجل الحيز للتعبير عن هويتنا، كما في الصورة الأخيرة، حيث نرى مدافعة الحيوانات عن منطقتها ضد الغزاة.


الهوامش:

  1. https://cutt.ly/Nh8ls6N
  2. https://cutt.ly/ph8lUvj
  3. https://cutt.ly/Fh8lInI
  4. https://cutt.ly/8h8lOQx

مصادر الصور:

https://cutt.ly/Ph8lQG5

https://cutt.ly/0h8lPZ2

https://cutt.ly/Sh8lWON

https://cutt.ly/yh8lENR

https://cutt.ly/Gh8lR0A

خيارات الإسلاميين لتجاوز أزمة الحداثة

أصدر المفكر الجزائري د. عبد الرزاق بلعقروز في عام 2013 كتابه القيم “أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي”، ووضع في خلاصة نقده للمفكرين العرب الذين حاولوا الخروج من أزمة الخطاب الإسلامي عبر استعارة أدوات ما بعد الحداثة من الغرب، وقدم قراءة واعية لفكر إسماعيل الفاروقي وطه عبد الرحمن باعتبارهما نموذجين ناضجين لتجاوز أزمات الغرب وإحياء الحضارة الإسلامية، مركزا على مسائل الحداثة وأزمة الحقيقة والتعارف والعقلانية والكونية.

يتساءل الكاتب: ما الذى يملكه الخطاب الإسلامى المعاصر من أجل الإسهام فى التحولات المعاصرة؟ وهل يؤسس هذه الخطاب رؤاه الفكرية منفصلا عن خطاب الحداثة وما بعدها؟

ويقول بلعقروز إن مُمكنات الخروج من نفق الطور الحداثي المُظلم، وإصلاح العطب في هذا المشروع لن تكون ممكنة دون إعادة تفعيل التوجيه الديني وقيم الإيمان في بناء الإنسان وملء العالم بالمعنى من جديد، لأنه لا فتوحات ممكنة تلوح سوى بأربعة شروط، وهي:

1- أن يستفتح الإنسان من جديد، من أجل أن يفتح اللّه له، ويعيد ترتيب الصّلة معه، لأن الذات دون إيمان ودون معنويات تنتج أنماط الحياة التي لا تُطاق.

2- أن ينتهي الإنسان عن غيه وظلمه وتخريبه للعالم، أي تدمير المعنى والعالم المحسوس.

3- أن يحذر من السقوط في أزمات المشروع الحداثي الغربي، لأنه لن يثْمر إلا عودة المآزق وفقدان الأمن الوجود ونَسْبنة المعرفة واختزالها في المصلحة، واختلال التوازن القيمي، ومن ثم الوصول إلى العَمى الوجودي والعبث السُّلوكي والتَّخريب للأرض.

4- التَّفكير في الارتقاء إلى مستوى الحدث الحضاري من أجل فهم هذه المشكلة بعمق، أي فهم الحداثة الغربية بعمق والكشف عن الفقر المعنوي والأخلاقي الذي ينخر أساساتها، وإعادة ترتيب سُلّم القيم الضائعة وبلورة نموذج إدراكي جديد للعالم.

ويرى المفكر الجزائري أننا لم نتعامل مع الحداثة في طورها الغربي بشكل ناضج بعد، فنحن فاقدون للرؤية والمنهج والإرادة، كما أننا لم نفهم الحضارة الإسلامية بعمق وشمول حتى نبحث في تراثنا المعنوي والأخلاقي الضخم ونفسّره من جديد.

ويعتبر أن النهضة تبدأ بإعداد قادة في الفكر من أجل إنجاز وظيفة الفهم المزدوج للحضارة الغربية وأسسها بعمق، وفهم الحضارة الإسلامية بعمق أيضا.

ويسعى في كتابه إلى رصد جوانب الاجتهاد في الخطاب الإسلامي المعاصر الساعية إلى بلورة رؤى فاعلة مستقلة عن سياق الحداثة.

ومن مباحث الكتاب المهمة أنه بيّن حدود النظريات التواصلية الغربية التي تأثر بها الفكر العربي المعاصر، وشدد على الحاجة إلى الأخذ بالرؤية التَّعارفية التي اقتبسها من قوله تعالى {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، مستندا في الأساس إلى المبدأ القرآني لرؤية الإنسان للوجود من خلال التوحيد، فوحدانية الله هي أساس كل شيء، ومن ثم انفصال الذات الإلهية عن الإنسان والعالم المخلوق دون حلول ولا اتحاد، وتأتي بعد ذلك الرؤية التعارفية بناء على مفاهيم: التَّكريم الإنساني {ولقد كرمنا بني آدم}.، ووِحدة الإنسانية (دون تمييز عرقي)، والاختلاف التّكاملي (وليس التفاضلي العنصري).

وفي نقده لأزمة الحقيقة والقيمة، يشرح بلعقروز كيف هيمنت الاتجاهات الارتيابية على الفلسفة الغربية فيما بعد الحداثة، ثم استعرض أفكار إسماعيل الفاروقي التي تتجاوز هذه الاتجاهات وتؤسس الرؤية على وحدة الحقيقة والقيمة والحياة، وتستمدها من وحدانية الله.

أما أزمة العقلانية فقد عرضها المؤلف في فكر محمد أركون، ثم استعرض نقد طه عبد الرحمن لأركون الذي فضح افتتانه بمناهج العلوم الإنسانية الغربية ومحاولته تطبيقها على المعرفة الإسلامية، حتى في نصوصه المقدّسة، حيث كشف طه أن ادعاءات أركون لا ترقى إلى تصورات الفقهاء، ويقول إنه لو كانت مذاهب الفقهاء فعلا امتدادا لتناحُرات السّياسيين لما اختصّت بالوفاء لشروط الاستدلال والبناء النّسقي، فالسّلطة لا تخاطب العقل بل تتوسل العاطفة.

وفي الفصل الخامس والأخير، ينقد المؤلف طرح “الفلسفة الكونية” لدى المثقفين الحداثيين العرب، ويطرح البديل المتمثل في “الفلسفة المقارِنة” التي تدرك العالم بالمعنى الاختلافي، معتبرا أن الفلسفة الكونية تؤدي للانغراس في أنماط فكرية أخرى لا تخرج من عمق معاناتنا ولا تستجيب لمشكلاتنا.

الموقف من الحداثة.. بين الاستلاب والاستيعاب

خواطر على هامش كتاب “الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربية” للدكتور محمد عادل شريح
إن الموقف من الفكر الغربي والحضارة الغربية يبقى من أهم الأسئلة المطروحة على المستوى النظري بين رافض قطعي لها ولمنتجاتها، ومتبن لها كليا، وبين الموقف المعتدل القائل بأخذ ما يناسبنا وينسجم مع مجتمعنا ومبادئنا. وهذا الأكثر شيوعا والذي ينتمي إليه العدد الأكبر من المفكرين والباحثين لأنه يعتبر موقفا وسطيا يتيح لصاحبه مجالا أكبر للمرواغة والمناورة.

لكن قبل أن يعطي المؤلف رأيه في هذا الفكر ومنتجاته الحضارية، يقدم دراسة معمقة لأهم أسسه ومرتكزاته، وهي: الإنسانوية، العقلانية، الطبيعية، التأليه الطبيعي، التقدمية، الوضعية، والمادية.

وعند البحث عن معاني هذه المصطلحات، يستنتج توافقا نظريا وعمليا بينها، وملخصها التركيز على الإنسان وإعطائه المركزية والسيادة على كل شيء، باعتباره قادرا على وضع معاييره الخاصة، واعتبار العقل المصدر الجديد للحقائق، ونفي كل أشكال الميتافيزيقيا (الدين والغيب)، واعتبار الطبيعة المادية هي الوجود كله، وإعطاء معنى آخر للألوهية، وهي أن الإله موجود مع إنكار تدخله في شؤون الحياة، وأن الحياة تسير تلقائيا نحو الأمام، والإقرار بأولية المادة في الوجود و ثانوية أي شكل آخر للوجود.

يستعرض كتاب “الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربية” أهم المبادئ الأساسية المكونة للحداثة الغربية وانعكاسها على الثقافة العربية، حيث يرى المؤلف أن الموقف من الفكر الغربي الحديث يكتسب أهميته من حيث حضوره في فكرنا لا شعوريا. وعلى الرغم مما يثيره هذا الأمر من الجدل، فما زالت هناك الكثير من الجوانب التي تستحق البحث فيه حتى اليوم؛ لأننا لو ألقينا نظرة على الساحة الثقافية العربية وما أنتجته على مدار قرنين حتى يومنا هذا لوجدناها مشبعة بروح الغرب وثقافته إلى درجة كبيرة.

من خلال هذا السرد السريع نستنتج أن الفكر المادي الغربي منظومة متكاملة لا يمكن الأخذ ببعضها دون الولوج فيها، وهي تمتاز بعدم التجانس الحضاري مع غيرها، أي أنها تفرض منطق الهيمنة والإلغاء في تعاملها مع الآخر، وذلك بشكل يخالف السيرورة التاريخية للحضارات.

لذلك، يجب علينا قبل إصدار موقف منها أن نستعيد عافيتنا الفكرية، وأن نخرج من دائرة التبعية المفروضة علينا، ثم نصدر حكمنا انطلاقا من منظومتنا الفكرية الخاصة التي تكرس المبدأ الإلهي أصلا للوجود والمعرفة والاجتماع، والتي نستنتج من خلالها أن الفكر الغربي ومنطلقاته النظرية يقعان على النقيض من حقائقنا الكونية الكبرى، لكنها لا تشكل نقضا لرؤيتنا الأكثر شمولا للحركة والتاريخ.

إن الفكر الغربي بقيمه المادية وبنتائجه المشاهدة حاليا ما هو إلا مؤشر للانحطاط، وهذه حقيقة لا يستطيع إدراكها إلا من تحرر من أسر عبودية الأشياء لأن قيمة حضارة ما تقاس بما توفره من شروط تحقق غاية الوجود الإنساني على مستوى الفرد والجماعة.

لكن الفكر الغربي يمثل واقعا مفروضا سواء قبلناه أو رفضناه، لذلك يجب استيعاب هذا الفكر عبر إدراك مذاهبه وعقائده استنادا إلى منطلقاته الفكرية، ولا يعني ذلك إقراره أو التصديق على مبادئه، بل فهم مبررات وجوده والأسباب التي أدت إليه، على الرغم من كل ما يحمله من تناقض مع أبسط حقائق الوجود والفطرة الإنسانية، فضلا عن مشاركة المثقفين في الغرب الذين باتوا يدركون مخاطر هذه الحضارة، سعيا إلى تقديم حلول للأزمات المعرفية والأخلاقية والروحية التي أنتجتها الحضارة الغربية.

أعتقد أن استيعاب هذه الحضارة بالشكل الموصوف أعلاه هو الذي سيقود إلى إلغاء معادلة الأستاذ والتلميذ، فهذه المعادلة تحولت إلى عقدة نقص وعقبة أمام الإبداع الفكري الحر، ما سيحول الموقف من رفض سلبي عاجز ومكابر إلى رفض بناء ومؤشر لرؤية حضارية لها خصوصية مستمدة من إدراك معنى خاتمية الرسالة المحمدية والعقيدة الإسلامية.

الليبرالية

ترجّح معظم الموسوعات العالمية أن مصطلح الليبرالية مشتق من الكلمة اللاتينية liber والتي تعني “الحُر”، ويصعب على الباحثين اليوم وضع تعريف جامع ومانع لهذا المصطلح، إذ تعترف موسوعة لالاند الفلسفية بالالتباس الحاصل في هذا المصطلح ولا سيما مع تشعب المفاهيم المتداولة له بين الأحزاب والحركات السياسية، كما تقرّ الموسوعة العربية العالمية بغموض هذا المصطلح لتبدل معناه بصورة ملحوظة مع مرور الزمن.

ويمكن القول إن الليبرالية تيار فكري ينطلق من مبدأ الحرية وتحقيق الفرد لذاته في المجالات المختلفة، وحسب موسوعة لالاند فإن الليبرالية تدل على العقائد التي تعتبر ازدياد الحرية الفردية من مُثلها. وعليه فإن جميع التعريفات التي وُضعت لهذا المصطلح تتخذ من المذهب الفردي الذي يرى أن الحرية الفردية هدف وغاية ينبغي تحقيقها، ثم تتنوع هذه التعريفات بحسب المجال التي تعرَّف من خلاله.

ففي السياسة ترتكز الرؤية الليبرالية على مفاهيم المواطنة وحماية الحريات السياسية والمدنية وتأييد النظم الديمقراطية البرلمانية، وفي المجال الاجتماعي والثقافي تؤيد الليبرالية الحرية في الاعتقاد والتعبير وقضايا الأحوال الشخصية والممارسة الجنسية، أما في الاقتصاد فتؤكد المدرسة الليبرالية (الرأسمالية) على المنافسة الحرة وحرية التملك والعمل والاستثمار.

الليبرالية الكلاسيكية
بدأت بوادر الليبرالية بالظهور في عصر النهضة الأوروبية بالقرن الخامس عشر الميلادي، وذلك تزامنا مع حركة العلمنة التي دعت لتحرير العقل العلمي من سلطان الكنيسة ولإعفائه من الالتزام بالولاء لما يتناقض مع أولى بديهياته، كما نادت بإطلاق حرية العقل في التجريب والملاحظة بعيداً عن المسلّمات الأولية المتناقضة في النصوص اليهودية-المسيحية. وتأثر رواد هذه الحركة الأوائل بالمنهج العلمي النقدي في فلسفة العالم الأندلسي ابن رشد وفي ما تُرجم عن المنهج العلمي التجريبي لعلماء مسلمين آخرين مثل جابر بن حيان والحسن بن الهيثم، كما تأثروا بنزعة “الحرية الفردية” عند الإغريق.

توماس هوبز

ويعد الفلاسفة الإنجليز والفرنسيون أبرز رواد الليبرالية الكلاسيكية، ففي بدايات القرن السابع عشر طرح توماس هوبز أفكاره عن الحقوق الفردية والمساواة بين المواطنين وعن الشخصية الاعتبارية للنظام السياسي، كما تحدث عن ضرورة تمثيل جميع القوى السياسية في السلطة.

وكان هوبز يؤمن بفكرة “ذئبية” الإنسان، بمعنى أن البشر يميلون للتوحش والتغلب على الآخرين وسلب حقوقهم في الحالة الطبيعية، ولكن حاجتهم لتأسيس المجتمعات دفعتهم لوضع “عقد اجتماعي” يتفق فيه المواطن مع السلطة (بشكل غير معلن) على الالتزام بالقوانين المشتركة في مقابل حصوله على الحماية من السلطة، وبهذا فقد قيّد هوبز الحرية الفردية بالقدر الذي يتطلبه قيام المجتمع.

جون لوك

وفي منتصف القرن السابع عشر، عرض الفيلسوف الإنجليزي جون لوك نظريته الليبرالية التي مال فيها لمزيد من التحرر الفردي قياسا إلى هوبز، حيث أعطى للفرد حق مقاومة السلطة “الغاشمة”، انطلاقا من مبدأ الدفاع عن النفس، كما تميز لوك عن غيره من فلاسفة العقد الاجتماعي بتقييد السلطة بقبول الأفراد لها، ما يعني منح المواطنين حق سحب الثقة منها.

ووضع لوك أفكاره في كتاب “رسالتان في الحكم”، وقال فيه إن الوظيفة العليا للدولة هي حماية الثروة والحرية، وإنه يجب على الشعب تغيير الحكومة عند تقصيرها في ذلك. وساهم كتابه هذا في تحريك الأميركيين للقيام بالثورة.

جان جاك روسو

أما الفيلسوف السويسري الفرنسي جان جاك روسو فخالف سابقيه هوبز ولوك في افتراضهما كون الحالة الأصلية للمجتمع البشري قائمة على  التوحش، بل توقع أن الناس كانوا في تلك الحالة يعيشون حالة اكتفاء ذاتي وسلام، ويحتكمون إلى مبادئ أخلاقية فطرية. ورأى أن تأسيس المجتمعات جاء لعوامل اقتصادية مما دعا لإنشاء قيم اجتماعية جديدة وعلى رأسها الجشع والمنافسة وحب التملك، والتي أدت بدورها لنشوء قيمة الملكية الخاصة.

وعند هذه المرحلة انقسم الناس -حسب روسو- إلى مالكين وعمّال، ثم رأى المالكون أنه لا بد من تأسيس حكومة لحماية أملاكهم، وذلك على أساس عقد اجتماعي ينص على توفير المساواة والحماية للجميع بالرغم من أن الهدف غير المعلن هو تكريس “اللامساواة”.

وبما أنه من الصعب العودة إلى المجتمعات الفطرية البسيطة، ينصح روسو بإقامة أنظمة ديمقراطية يشارك فيها كافة المواطنين، بحيث تعبر القوانين عن الإرادة العامة للشعب، ولا تكتسب السلطة شرعيتها دون إجماع النظام الاجتماعي عليها. وكان لروسو فضل في التأكيد على أهمية احتفاظ المجتمع بالمعايير الأخلاقية لكبح عجلة التدهور والانهيار، وقد تأثر زعماء الثورة الفرنسية بأفكاره السياسية.

فولتير

في عام 1725، نُفي الكاتب الفرنسي المتمرد فولتير إلى إنجلترا ليعيش فيها ثلاث سنوات، فتأثر هناك بالنظام الملكي الدستوري الذي يحد من سلطات الملك وبالمستوى المرتفع نسبيا لحرية التعبير والاعتقاد، وعاد إلى بلاده ليحمل هذه الأفكار ويروج لها بقوة.

وشارك فولتير في المشروع الضخم الذي قاده دالامبير لكتابة أضخم موسوعة (دائرة معارف) في ذلك العصر، فكانت موسوعة “الإنسكلوبيديا” الفرنسية منبرا فكريا وعلميا ضخما لصياغة شتى أنواع المعارف من المنظور العلماني الليبرالي، وتم على أساسها بناء الفكر الحداثي للقارة الأوروبية ولشعوب العالم التي خضعت لها عسكريا وثقافيا.

الإنسكلوبيديا

وكان مونتيسكيو من أهم كتاب الموسوعة، وهو صاحب نظرية فصل السلطات في الأنظمة الديمقراطية، وقد كان لكتابه “روح القوانين” دور مهم في التشجيع على الانتقال من الحكم الملكي إلى الأنظمة الجمهورية، وساهمت أفكاره في صياغة الدساتير الغربية وإعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا.

وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر وضع الإنجليزي جون ستيوارت ملْ كتابين مهمين أسماهما “في الحرية” و”أسس اللبرالية السياسية”، وأوضح فيهما أن الليبرالية لا تتناول نظريات حرية الإرادة من الناحية الفلسفية بل تبحث في الحرية المدنية الاجتماعية.

ودعا ملْ لحرية الفكر والاعتقاد، كما أيد تقييد الحرية الفردية بضوابط القانون والأخلاق، مشيرا إلى أن “ما يخص الفرد وحده هو من حقوقه, وأن ما يخص المجتمع فهو حق للمجتمع”، كما رأى أنه إذا تمكن كل مواطن من أن يعرف قدر ما يستطيع ولم يتوفر له في المقابل من السلطة إلا قدرا محدودا فسنتجنب حينئذ السقوط في دولة استبدادية “تمسخ مواطنيها”.

وانتقد ملْ الديمقراطية نفسها معتبرا أنها تكرس هيمنة الأكثرية لتسلب حرية الأقلية، ولو كانت الأقلية فرداً واحداً، ورأى أنه بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية فإنها تنتقص من الحرية الفردية. كما أيد حق المواطن في الاعتراض والاحتجاج، وانتقد تناول المبادئ على أنها مسلمات لا تحتمل النقد، كما اعتبر أن المجتمع الديني مؤسس على الإجماع في الرأي وعلى تحريم النقد والنقاش وأن نظامه السياسي مؤسس على الاستبداد.

وتابع ملْ تطبيق رؤيته لحرية الفرد ليصل بها إلى درجة اعتراضه على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يُعد من فروض الكفاية في المجتمع الإسلامي، إذ كان يعتبرها بمثابة القيام بمهام الإله، وقال إن من يقوم بهذا العمل فإنه “يعتقد أن الله لا يكره فقط من يعصي أوامره، بل سيعاقب أيضاً من لم ينتقم في الحال من ذلك العاصي”، مع أن النهي عن المنكر في المفهوم الإسلامي ليس انتقاما ممن يمارسه. لكن ملْ لم يطبق مفهومه هذا عندما يتعلق الأمر ببيع المواد الضارة كالسموم مثلا أو عند مناقشته لمسائل تحديد النسل وضرورة التعليم، بل طلب من الدولة التدخل كي لا يبقى المواطن جاهلا ولا يسمم الآخرين، معترفا في النهاية بأن الإنسان قد لا يعرف مصلحته بنفسه دائما وأن ممارسته للحرية الفردية يجب أن تكون مقيدة.

آدم سميث

الليبرالية الاقتصادية
ارتبط الفكر الليبرالي منذ نشأته بالطبقة الوسطى (البورجوازية) الصاعدة في أوروبا، والتي كانت تحشد قواها للتمرد على النظام الإقطاعي حيث كانت طبقة النبلاء الحاكمة تتحالف مع رجال الكنيسة لتكريس واقع طبقي مجحف، فطالب جون لوك مبكرا بمنح كل المواطنين الحق في تملك الأرض ووسائل الإنتاج معتبرا الملكية الخاصة من أبسط حقوق الإنسان، وكانت هذه بداية التوجه نحو الاقتصاد الرأسمالي، والذي سنخصص له لاحقا مقالا مستقلا.

وفي القرن الثامن عشر، بدأ الفيلسوف الاسكتلندي آدم سميث بوضع أسس علم جديد هو الاقتصاد السياسي، وأقام نظريته على فكرة “اليد الخفية” التي تدعو إلى ترك الأفراد يسعون لتحقيق مصالحهم الاقتصادية الخاصة دون أي تدخل من السلطة، فتقوم يد خفية بتحقيق المصلحة العامة للمجتمع تلقائيا، بينما يجب أن يقتصر دور الدولة على حماية الحقوق الفردية بالقانون دون تدخل. وكان يقول إن الفرد عندما يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة فهو غالباً ما يحقق مصالح الجماعة بشكل أكثر فاعلية مما يمكن تحقيقه عندما يعمل باسم المصلحة العامة. وأصبح شعار هذه المرحلة هو “دعه يعمل، دعه يمر”.

أما الفرنسي جان باتيست ساي فوضع قانونا للأسواق زعم فيه أن عرض السلع يخلق في المقابل طلباً موازياً له، وقال إن الطلب إذا قل عن العرض في سلعة ما فسيتم تعويض الخلل في السلع الأخرى بحيث يبقى التوازن قائما بالمجمل، وبهذا قام النظام الرأسمالي على الإنتاج الصناعي المتسارع وتحرير التجارة من القيود وفتح الأبواب أمام الاستثمار في الديون والمضاربات. ويمكن لنا ملاحظة التشابه بين مفاهيم الحرية المختلفة في كل من المجالات الاقتصادية والسياسية والفكرية تحت مظلة الفكر الليبرالي، حيث أصبحت حرية الفرد مفهوما شبه مقدس يسعى الجميع لتبريره وإثبات عدم تعارضه مع المصالح العامة.

عاطلون عن العمل ينتظرون دورهم للحصول على حساء مجاني في شيكاغو

لكن نظرية ساي فشلت لاحقا، فسرعان ما ظهرت الأزمات في النظام الرأسمالي وكانت أبرزها أزمة الكساد العظيم عام 1929، حيث انتشرت البطالة وعجزت الحكومات عن تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها، فاضطر الاقتصاديون –وعلى رأسهم جون ماينارد كينز- إلى ابتكار مفهوم الليبرالية الاجتماعية، حيث أصبح من واجب الدولة توفير فرص العمل وتقديم الرعاية الصحية والتعليم مع الحقوق المدنية للمواطنين، ووضع حد أدنى للأجور وتوفير معاشات للمتقاعدين، فضلا عن ضرورة تدخل الدولة لإحداث نوع من التوازن ما بين العرض والطلب.

وفي ستينيات القرن العشرين، ظهرت مدرسة شيكاغو لتعيد الدعوة إلى تطبيق الليبرالية الكلاسيكية تحت مسمى النيوليبرالية، وفي الثمانينيات تبنت هذه السياسة كل من إدارة رونالد ريغان الأميركية وحكومة مارغريت تاتشر البريطانية، فتراجع دور الدولة مجددا وأفسح المجال لرجال الأعمال للسيطرة على الاقتصاد، فتضخمت الشركات العابرة للقارات وتغوّلت ظاهرة العولمة، حيث أصبحت ميزانيات بعض الشركات تعادل ميزانيات عدة دول مجتمعة، وتضاعف حجم الهوة بين فقراء العالم وأغنيائه ليصل إلى أرقام لم يعرفها التاريخ من قبل، وتكرر ظهور الأزمات المالية العالمية حتى كانت الأخيرة عام 2008، حيث طالب الكثير من الاقتصاديين في العالم بإلجام ما أسموه “الليبرالية المتوحشة”، بل دعا بعضهم للاستفادة من الاقتصاد الإسلامي عندما ظهر أن المصارف الإسلامية هي الوحيدة التي لم تتعرض لخطر الإفلاس. وسيأتي بيان هذه المراحل مفصلا في مقال الرأسمالية.

الليبرالية الثقافية
تستند الليبرالية في جانبها الثقافي إلى العلمانية الدنيوية التي مهدت لظهور الليبرالية في أوروبا قبل نحو خمسة قرون، فالعلمانية أسقطت القدسية عن الإله في البداية، ثم سمحت بإحلال الإنسان مكانه كما فعل التيار الإنساني (الهيوماني) أو برفع العقل لمرتبة التقديس كما فعل التيار (العقلاني)، وفي كلتي الحالتين صعد الفكر الليبرالي للمناداة بفردية الإنسان واحترام حريته.

ونظرا لقوة تأثير المد الليبرالي في أوروبا إبان عصر النهضة، تأثر المتدينون أنفسهم من البروتستانت بمبادئ الحرية، فانشقوا عن الكنيسة الكاثوليكية لتأسيس مذهبهم الإصلاحي متبنين بعض الأفكار الليبرالية مثل التخلص من طبقة الكهنوت الكنسية والإعلاء من قيمة الفرد الذي أصبح بإمكانه التعبد بدون واسطة رجال الكنيسة ممن اعتادوا منح صكوك الغفران للتائبين.

جون ملتون

وفي منتصف القرن السابع عشر، وضع الشاعر البريطاني جون ملتون رسالة تعد من أوائل الكتابات التي دافعت عن حرية التعبير والصحافة وحملت اسم “أريوباجيتكيا”، واستند في كتابتها إلى المنظور البروتستانتي التطهري، حيث يريد الرب أن تكون للناس صحافة حرة ليتمكنوا عبرها من الاطلاع على الحقيقة. وكان ملتون ليبراليا معتدلا حيث اكتفى بالدعوة إلى التحرر من سلطة الحكومة وطالب بتقييد النقد الموجه للمقدسات الدينية، لكن الجيل التالي من الليبراليين أخذ يطالب بالتحرر من كل القيود ومناقشة كل المسائل مهما كانت حساسة، كما رأى أن يخضع كل شيء للنقد سواء كان نظام الحكم أو العقيدة الدينية. وبهذا تجاوز الليبراليون مفهوم ملتون للحقيقة التي كان يختصرها في إرادة الرب لتصبح الحقيقة نسبية.

تطور الأمر لاحقا على يد جون ستيوارت ملْ الذي يعد من مؤسسي مدرسة النفعية، وهي مدرسة فكرية تحدد القيمة الأخلاقية للفعل بمقدار إسهامه في النفع الشخصي أو العام، وبما أن ملْ كان من رواد الليبرالية أيضا فقد طرح مفهومه لحرية التعبير من منطلق المنفعة، حيث رأى أن الأصل في حرية التعبير هي كونها أمرا نافعا للمجتمع الإنساني مما يستلزم الدفاع عنها.

ويقدم الليبراليون حججا عقلية لدعم موقفهم المؤيد لحرية الفكر والتعبير، وأولها أن الإنسان ليس معصوما عن الخطأ، فليس لأحد الحق في ادعاء صواب موقفه دون تمحيص وعرض على الآراء الأخرى، كما لا يمكن التحقق من صحة أي رأي فردي طالما ظل مقتصرا على صاحبه، فقد يكون الحق مع شخص واحد فقط وسيكون من المفيد للمجتمع أن يُعرض هذا الرأي ويُعلن في الصحافة والبرلمان ليُستفاد منه.

وترتبط حرية الرأي والفكر والتعبير في الليبرالية بقاعدة أساسية هي نسبية الحقيقة، حيث تُنزع القداسة عن كل رأي أو مذهب وتوضع كل القناعات والعقائد والآراء على طاولة النقد بالتساوي. وقد يكون هذا المنهج النقدي سليما ومنطقيا عندما يكون منطلَقا للبحث عن صحة أي دين أو رأي، بحيث يصل الباحث في مرحلة تالية إلى الحقيقة ويتمسك بها، لكن الليبراليين يصرون على أنه لا يمكن الوصول للحقيقة أصلا، وعلى أن كل الآراء والعقائد المطروحة ستظل نسبية وقابلة للصواب والخطأ، وهذا أمر غير منطقي ويتنافى مع الواقع، فهناك حقائق في هذا الكون لا يمكن نفيها، وأولها وأبسطها وأكثرها بداهة هو وجود الإنسان نفسه، كما أن الافتراض المسبق بأن التوصل للحقيقة سيؤدي للتعصب ولاضطهاد الآخرين والتحقير من شأن معتقداتهم هو افتراض غير واقعي، وحتى في حال صحته فهو ليس مبررا لنفي إمكان التوصل للحقيقة، ويؤكد خصوم الليبرالية أن هذا المبدأ الليبرالي ليس سوى ردة فعل على التعصب الكنسي الذي كان سائدا في القرون الوسطى، ثم أصبح ردة فعل أقوى على الحماس الأعمى الذي تبناه البروتستانت أيضا.

أصبحت فلورنسا الإيطالية معقل الليبرالية في عصر النهضة فور وصول عائلة مديتشي للحكم واحتوائها للجمعيات السرية

الليبرالية والماسونية
تعد المطالب الليبرالية من الأفكار الأثيرة لدى الماسونية، حيث تجهر الماسونية منذ انطلاق عملها المنظم في القرون الثلاثة الأخيرة بإشاعة حرية التعبير وعلمنة التشريعات ومساواة الأديان من منظور دنيوي، وقد كان الكثير من رواد الفكر الليبرالي أعضاء في المحافل الماسونية.

شعار محفل الشرق الفرنسي الأعظم

وعلى سبيل المثال، كان فولتير عضوا في منظمة النور البافارية (الإليوميناتي) التابعة للماسونية، وعضوا في محفل الأخوات التسع في باريس، ومن أشهر أقواله التي تعد شعارا لليبراليين “قد أختلف معك في الرأي إلا أني على استعداد للموت دفاعا عن حقك في أن تعبر عن رأيك”.

ويجد الباحثون تقاطعا كبيرا بين المبادئ الماسونية والأفكار التي بثها رواد الليبرالية، ففي المؤتمر الماسوني العالمي الذي انعقد في نابولي الإيطالية عام 1869 تم الإعلان عن مجموعة من المبادئ وأهمها “حرية العقل ضد السلطة الدينية واستقلال الإنسان ضد الكنيسة والدولة” إضافة إلى “ضرورة محو الأديان وكل سلطة دينية” [State Secrets: A Documentation of the Secret Revolutionary Mainspring Governing Anglo-American Politics, Léon de Poncins, 1972].

أما نشرة الشرق الأعظم الفرنسي الصادرة عام 1923 فنصت على أنه ينبغي ألا يتردد الماسون في شن حرب على جميع الأديان، وأن سلاحهم في ذلك “فكرة حرية العقيدة”، ونجد هذا الهدف مجسدا في شعار نوادي الروتاري المنبثقة عن الماسونية “الأديان تفرقنا والروتاري يوحدنا”، كما نجده في إحدى الدوريات الصادرة عن محفل هولندا الأعظم عام 1823 حيث نصت على أن الماسونية تسعى “لعبادة الإنسانية” بحيث يصبح “كل إنسان إله نفسه”، مشيرة إلى أن تسويق هذا الهدف سيتم تحت شعار توحيد البشر وضمهم في عائلة واحدة.

الحرية والإخاء والمساواة على عملة فرنسية من عام 1851

وإذا كانت الثورة الفرنسية التي انطلقت عام 1789 قد رفعت شعارات ليبرالية تتلخص في الحرية والإخاء والمساواة، فقد أقر الماسون في مواقف ووثائق كثيرة أن هذه الشعارات كانت من وضعهم، ففي مؤتمر الشرق الأعظم الفرنسي الذي انعقد سنة 1904 قال الماسوني بونيه إن الكتّاب والفلاسفة الذين كتبوا موسوعة “الإنسكلوبيديا” الفرنسية في القرن الثامن عشر كان يؤلفون هذا العمل الضخم في المحافل الماسونية مستلهمين شعارها الذي لم يكن معروفاً عند عموم الناس آنذاك وهو الحرية والإخاء والمساواة، ثم أثنى على كل من دالامبير وديدرو وهلفتيوس وفولتير وكوندروسيه ودولباخ، باعتبارهم من الماسون العظام الذين وضعوا أسس المعرفة الجديدة لعصر التنوير في تلك الموسوعة، ومازال مثقفو العالم الليبراليون ينظرون إليها بصفتها منارة للتنوير العالمي دون التفات لأصلها الماسوني [اليهود والماسون في الثورات والدساتير، بهاء الأمير، 58].

نجحت الماسونية عقب الثورة الفرنسية في التدخل بصياغة التشريعات والقوانين والدساتير في الدول الغربية بما يحقق مصالحها تحت مسمى الليبرالية، ففي محفل اتحاد الشعوب خطب الماسوني الفرنسي بيبر دوفاي عام 1891 بين زملائه قائلا “أؤكد لكم أن القوانين التي شرعت وأقرت منذ عشرين سنة، وأيضا تلك التي ستشرع وتقر قريباً في مجلس الدولة، كلها قد تمت صياغتها وإقرارها مسبقا في محافلنا، كقوانين الزواج والطلاق، والقوانين الخاصة بعلمنة التعليم، وقوانين فصل الكنيسة عن الدولة”، وقد أقر النائب الماسوني لافار بذلك في خطبة له داخل البرلمان الفرنسي عام 1904، حيث قال “إننا نفاخر بينكم بالقول إن كل القوانين الاجتماعية والاقتصادية، بل وكل القوانين السياسية التي ازدانت بها الجمهورية قد سبقت دراستها دراسة وافية في المحافل الماسونية” [اليهود والماسون في الثورات والدساتير، بهاء الأمير، 66].

الليبرالية في العالم الإسلامي
تسللت الأفكار الليبرالية إلى العالم الإسلامي من خلال الجمعيات الماسونية والإرساليات التبشيرية في أواخر العصر العثماني، وذلك بالتزامن مع ضغط الدول الأوروبية، وكان الحكم العثماني يعاني آنذاك من عوامل التخلف بسبب الفساد الاقتصادي والإداري وعقلية الخمول المنسوبة للتصوف والإرجاء، فاستورد الإصلاحيون الليبرالية من باب الإصلاح والإنقاذ، وكان على رأسهم الكاتبان ضياء باشا ونامق كمال اللذان حاولا في منتصف القرن التاسع عشر إيجاد الروابط بين الفكر الليبرالي والإسلام.

الطهطاوي

وفي العالم العربي، تأثر المصري الأزهري رفاعة الطهطاوي بالفكر الليبرالي أثناء رحلته إلى باريس عام 1826، فترجم أعمال المفكرين الليبراليين وساهم في نشرها بين العرب، ثم سطع نجم مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده الذي ساهم في تحديث التعليم الأزهري، كما ينسب إليه تلاميذه إبداع مدرسة تجديدية في الفقه الحنفي والعقيدة الأشعرية، بينما يراه خصومه من رواد التغيير نحو الليبرالية في مطلع القرن العشرين، ويستشهدون بالدعم الذي لقيه من الحاكم الإنجليزي لمصر كرومر.

وشهدت تلك المرحلة تأسيس الكثير من الجمعيات والأحزاب الليبرالية على يد أتباع الأقليات الدينية من اليهود والمسيحيين والنصيريين (العلويين) والإسماعيليين، ومن أهمها جمعية الاتحاد والترقي التي يُنسب تأسيسها ليهود الدونمة الأتراك في سلانيك, كما ساهمت المحافل الماسونية في دعمها بشدة، وكان لها دور جوهري لاحقا في إسقاط الخلافة.

شعار حزب الوفد يجمع الهلال والصليب

وفي مصر، تأسس حزب الوفد عام 1918 على يد سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد، حيث سعى مؤسسوه لإعلان استقلال مصر عن الاحتلال البريطاني وتأسيس دولة ديمقراطية حديثة. أما في سورية فتعود جذور التيار الليبرالي إلى فجر الاستقلال، وكما هو الحال في مصر فإن رواده هم طلائع البورجوازية المتنفذة والطبقة المثقفة التي تلقت تعليمها على يد الغرب والكثير من أبناء الأقليات الدينية، وقد تلقى هذا التيار ضربات موجعة منذ أواخر الخمسينيات عندما اشترط جمال عبد الناصر حل الأحزاب السياسية للانضواء تحت حكومة الوحدة بصيغتها الاشتراكية.

وفي منطقة المغرب العربي، كانت تونس تشهد مخاضا فكريا منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث سار خير الدين التونسي على النهج التوفيقي للطهطاوي باحثا عن جذور الليبرالية في الإسلام، وفي عام 1934 رفع الحبيب بورقيبة شعارات ليبرالية عند تأسيس الحزب الحر الدستوري الذي تولى مهمة تأسيس الدولة المستقلة مع جلاء المستعمر، لكنه لم يلبث أن تخلى عن شعارات الحرية والديمقراطية باستيلائه على السلطة واكتفى بتطبيق العلمانية بالقوة.

وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، انتشرت الليبرالية بسرعة في معظم الدول العربية، وظهر دورها في الإعلام والجمعيات والأحزاب السياسية بالرغم من منافسة التيارات القومية اليسارية ومن الرفض الذي أبداه علماء الدين، وقد ظلت معظم هذه الأفكار مقتصرة على الجانب العلماني، مع بعض التأثير على الجانب الاقتصادي، دون أن تؤثر كثيرا على  الجوانب السياسية ومجال حرية التعبير والإعلام. وقد أدى انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي في مطلع التسعينيات إلى تزايد النفوذ الليبرالي في العالم العربي، وإلى درجة انقلاب الكثير من اليساريين إلى المدرسة الليبرالية.

وفي الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، تسببت هجمات نيويورك وما تلاها من أحداث في ارتفاع أصوات الليبراليين بقوة في المملكة العربية السعودية للمطالبة بإصلاحات سياسية وثقافية ودينية كعلاج للتطرف، ثم أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عام 2004 عن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يشمل المنطقة العربية مع دول إقليمية أخرى بما فيها الكيان الصهيوني، وتُرفع من خلاله الشعارات الليبرالية المعروفة كإطار إصلاحي ضروري لإخراج المنطقة من أزماتها الخانقة، وهو مشروع لقي رفضا واسعا من قبل الكثير من المثقفين العرب، بينما أيده الليبراليون الجدد في وسائل الإعلام التي تخضع لنفوذهم.

وقد حظيت الليبرالية بدفعة أخرى مع اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، حيث رفع الكثير من الشباب الناشطين شعارات التحرر والديمقراطية وحرية التعبير، ومع أنها تواجه تحديات من قبل خصومها الإسلاميين واليساريين، إلا أنها لم تعد حبيسة أوساط النخب المثقفة بل أصبحت شعاراتها متداولة على ألسنة الكثير من الشباب، وهي تتغلغل عبر أفكار بعض خصومها التقليديين أنفسهم الذين يعملون على إعادة صياغتها ومراجعتها، حيث يتزايد الحديث عن تيار “الإسلام الليبرالي”، وعن يسار جديد يخلط الاشتراكية بحرية السوق وينادي بالمزيد من حرية التعبير.

موقف الإسلام من الليبرالية
كما هو الحال مع تيارات فكرية أخرى، حاول الكثير من الإسلاميين في العصر الحديث البحث عن نقاط مشتركة بين الليبرالية والإسلام، فكانت البداية كما أسلفنا مع ضياء باشا ونامق كمال، وتبلورت أكثر مع رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، ثم تواصلت هذه الجهود إلى أن برز تيار إسلامي يُسمى بالإسلام الليبرالي، وهو ليس تيارا جديدا في الإسلام أو خارجا عنه، بل يسعى رواده لمحاولة التوفيق بين مبادئ الليبرالية وما جاء في الوحي، حتى لو اضطروا في سبيل ذلك إلى الأخذ بالآراء المرجوحة والنصوص الضعيفة، ويجدون في هذه العملية طريقا لتقريب الإسلام إلى ثقافة العصر.

وعلى سبيل المثال، يشدد هؤلاء الباحثون على ما أقره القرآن الكريم من حرية الاعتقاد في قوله {لا إكراه في الدين} و{من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، كما يؤكدون على ما تضمنه الإسلام من احترام عقائد الآخرين عندما أوصى القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بالرد على خصومه بقوله {لكم دينكم ولي دين}.

ويشيرون أيضا إلى قيمة العقل في الإسلام، وإلى حث القرآن على نبذ التقليد والتبعية للآخرين، كما يستشهدون بالآيات القرآنية التي تنفي الكهنوت عن الإسلام وتجعل الإيمان قرارا فرديا محضا، ليؤكدوا بذلك على أن “الحرية الفردية” التي تقوم عليها الليبرالية كلها ليست سوى إحدى أهم مبادئ الإسلام، بل يستنتج بعضهم أن الليبرالية ليست إلا وسيلة لتحقيق إحدى غايات الإسلام المتمثلة في محاربة التسلط الكهنوتي على فردية الإنسان وعقله وإرادته.

في المقابل، يرى فريق من العلماء المسلمين أنه لا يمكن الجمع بين الإسلام والليبرالية، كما يؤكد بعضهم أن تبني الليبرالية على الطريقة الغربية كفر مُخرج عن الملة، وذلك بناء على الأدلة الآتية:

1- أن الليبرالية تقوم الاستحلال، أي الاعتقاد بإباحة المحرمات، مثل القول بأن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج لا يعدو كونه حرية شخصية، وكذلك العلاقات المثلية بين الشواذ والسحاقيات، فالاعتقاد بإباحة هذه المحرمات يتناقض مع الإسلام حتى دون ممارستها، وحتى لو كان الذي يعتقد بإباحتها يمارس كل أركان الإسلام دون تقصير، حيث أجمع العلماء على أن المستحل لما حرمه الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة ومتواتر هو كافر وخارج عن الإسلام.

2- أن الليبرالية تشترط نفي الحقيقة وتمييعها بذريعة نبذ التعصب والمساواة بين جميع المعتقدات، وهذا موقف مسبق وغير عادل، وهو مغالطة منطقية تسمى “الاحتكام إلى النتيجة” [انظر المغالطات المنطقية]، كما أن الشك بالحقائق الكبرى التي تشكل أركان الإيمان يُخرج الإنسان عن دين الإسلام حتى لو كان ممارسا لشعائره، حيث يقول القرآن في سورة الحجرات {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}.

3- أن الليبرالية تتناقض مع العبودية لله والاستسلام له، فهي تفترض مسبقا التجرد عن التبعية لأي مصدر تشريعي أو عقائدي (أيديولوجي)، وترفع من قيمة الحرية الفردية والعقل والحكم الديمقراطي إلى درجة تأليه الإنسان وتقديس القانون البشري، وعليه فإن الأنظمة الليبرالية لا تحكم بالشريعة ولا تقيم حدودها، بينما ينص القرآن الكريم على وجوب تحكيم الشريعة في عدة آيات، ومنها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [انظر: حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها، عبد الرحيم بن صمايل السلمي].


أهم المراجع
عن الحرية، جون ستيوارت ملْ، ترجمة عبد الله أمين غيث، المكتبة الأهلية، عمان، 2012.

أسس اللبرالية السياسية، جون ستيوارت ملْ، ترجمة وتحقيق إمام عبد الفتاح إمام وميشيل متياس، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996.

تطور الفكر السياسي، جورج سباين، ترجمة راشد البراوي، دار المعارف، القاهرة، 1971.

حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها، عبد الرحيم بن صمايل السلمي، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، جدة، 2010.

اليهود والماسون في الثورات والدساتير، بهاء الأمير، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2012.

الليبرالية المتوحشة: ملاحظات حول التوجهات الجديدة للرأسمالية المعاصرة، رمزي زكي، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1993.

Guide to Classical Liberal Scholarship, http://mason.gmu.edu.