مقالات

كورونا والدين والخشية من الموت

عجيبٌ أمرُ هذا الإنسان، يحثُّ الخُطا ويشيد الحصون هاربًا من الموت، يهرب من عدو يعلم يقينًا أنه مهزوم أمامه لا محالة، وأن العدو سيتمكن منه في نهاية المطاف، لكنه فقط يريد أن يُطيل أمد الصراع، وأن يحظى بأكبر قدر ممكن من الحياة؛ يلزم بيته، يلتزم بالتعليمات الطبية الصارمة، يبالغ في غسل يده، يعقم بيته ومَحَلَّتَه، يرتدي قُفَّازًا وكمامة، ويرش المطهرات خوفًا من أن يقتحم عليه العدو الحصن في غفلة وحتى يضمن هزيمة العدو في لحظةِ أن يتجرأ ويكسر باب حصنه المنيع. وربما يخشى البعض أن يموت وسط هذا الضجيج والزحام فيُنسى اسمُه ولا يحتفل بموته!

اختراع يضمن البقاء
تقول الحضارة الحديثة المنكرة للخالق: لا بأس، اهرب ما استطعت، فلربما استطعنا يومًا أن ننجيك من الموت نهائيًّا، وإن لم نستطع فيكفيك أنك عشت حياة ملؤها اللذة والسعادة، وليس هنالك حياة أخرى فلا تخف ولا تحزن!

 لكنها الأماني والآمال التي لم تتحقق يومًا، فلا الإنسان استطاع أن يمنع الموت، ولا هو عاش حياة رغدة خالية من الآلام والمنغصات والقلق والاضطرابات.

ثم لو افترضنا -مجرد افتراض- أن هذا الإنسان المتمرد استطاع يومًا ما أن يمنع الموت، وتوصّلت مختبراته العلمية إلى عقار يمنح الناس الخلود ويقيهم شر المَنون، هل ستسعد البشرية حقًّا بهذا؟

سيكون هذا اليوم حتمًا بداية النهاية للبشرية وبداية تعاستها الحقيقية! إذ ستضيق موارد الأرض المحدودة عن إمداد كل هؤلاء البشر بالغذاء والماء والدواء بل وبالهواء، سيتقاتل الناس ويتفانون ويقيد بعضهم حركة بعض، لن ينتظروا الموت بل سيخترعونه اختراعًا، سيقتلون أفرادهم ويُفنون جماعاتِهم حتى يضمنوا بقاء نوعهم! وستكون المفارقة العجيبة أن الموت نفسه سيكون ذلك الاختراع الذي يضمن البقاء!

أن تقتل الحضارة الإنسان
لم تستطع الحضارة المنكرة للخالق أن تمنح الإنسان الاطمئنان المرجو له كإنسان، فعصرُنا هو عصر القلق الداخلي العميق، وزلزلات لا تنتهي لفكر الإنسان ووجدانه، وتهافت محموم على قضاء لذات لا تشبع أبدًا، وكيف تشبع وأمامها كل يوم إغراء وإغواء من نوع جديد!

 المدنية الحديثة تحتقر إنسانية الإنسان حتى في تسميتها له، فهو في عرفها (دافع ضرائب، يد عاملة، مواطن رشيد) إنه ينتمي فقط للمكان وما يمليه من أعراف وتقاليد، يعمل كالترس في الآلة بكل جهده وقوته، فإن كلَّ أو ضَعُف استبدل به غيرُه ثم عاش هو وحيدًا أو رُمِيَ به بعيدًا في دور العجزة والمسنين، وهذا الإنسان أحادي البعد (يعمل لحاجات جسده وغرائزه الآنية فقط).

في فرنسا -قائدة المدنية الحديثة- وفي بلدان أوروبية أخرى تصاعدت موجة التغيير رغم ما تغيّر مسبقًا، فضنُّوا على الإنسان بلقب أب أو أم حتّى، فصار يُكتب في المستندات الرسمية: والد أول (مكان كلمة الأب) ووالد ثان (مكان كلمة الأم)، فالعلاقة بين الأب وأولاده أو بين الأم وأولادها لابد أن تبقى في إطار الجسد فحسب، علاقة ولادة فقط، ليست علاقة أبوة وأمومة بما لهاتين الكلمتين من دَلالات وظلال نفسية وعاطفية أو بالأحرى إنسانية عميقة تنفر منها المدنية الحديثة، وكذلك حتى يضمنوا لمثليي الجنس القدرة والحق في تبني الأولاد دون أن يضطروا لإحراجهم في الخلاف حول أيهما يُسَمِّي نفسَه أبًا وأيهما يسمي نفسه أمًّا، لكن الطفل المسكين نفسه سيُحْرَمُ حقُّه في أن ينمو نموًّا طبيعيًّا كباقي أقرانه بين أبوة ذكورية وأمومة أنثوية.

أساس الالتزام واحد
حين رأى هؤلاء الناس الموت يدور حول بيوتهم جراء انتشار وباء كورونا تحصنوا ببيوتهم والتزموا التعليمات بدقة، حتى من لم يلتزم بها تراه على معرفة بتفاصيلها، وهو مع ذلك يحاول أن يلتزم بها قدر الاستطاعة.

 إنها الخشية من الموت إذن هي صاحبة السر الأكبر في هذا كله، في قراءة التعليمات بدقة والتزامها بصرامة، وتأنيب النفس على ما يفوت منها، خوفًا من أن يكون في هذا الفوت ضرر محقق.

 أليس هو الأساس نفسه الذي بنى عليه الدين تعاليمه!  أليس هو التحذير من الموت وما بعد الموت!

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)}. الملك: 2

 نعم إنه الأساس نفسه، إنه هو بعينه!
إن الدين أمر الناس بالتزام تعاليم محددة فردية ومجتمعية طلبًا لنجاتهم وسعادتهم فيما قبل وما بعد الموت، وخشية أن يأتيهم الموت وهم عنه غافلون!

 لكن الفرق هنا أن تعاليم الحضارة الحديثة تحذر الناس أن يصابوا فيفقدوا شيئا من منافع جسدهم أو تنقص لذاتهم، فالجسد -في عُرْفِها- ما هو إلا وعاء للحياة في نهاية الأمر -أي حياة!- أمَّا التعاليم الدينية فتحذر الناس أن يصابوا فيكونوا قد ضيعوا أمانة الجسد التي ائتمنهم الله عليها، أو يصبحوا عاجزين عن استكمال رسالتهم الحياتية في فعل الخير والدعوة إليه وهداية الناس إلى الله، فـ }الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ{ [مسلم: 2664]

 التعاليم الكورونية تحذر الناس أن يموتوا، والتعاليم الدينية تحذرهم أن يموتوا وهم غير مستعدين!، لذا كان الدين أكثر واقعية وأوسع كرمًا وأفسح أملًا بكثير جدًّا من المدنية الحديثة التي أُسِّسَ جزء كبير منها ـ بل الجزء الأهم والأساس فيها ـ على الإلحاد وإنكار الخالق!

 الوباء يُقلِق والإيمان يُطمئِن
قال القرآن للناس: }كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ{. [آل عمران: 185] فكلهم سيموتون حتمًا لا مناص من هذا، لكن ذلك لا يعني أن يُهملوا أسباب السلامة على هذه الأرض، ولا يعني ذلك بكل تأكيد أن عليهم إهمال التشبث بالحياة قدر ما يستطيعون، بل يعني فقط أن يعمل الإنسان لسلامته وسعادته في الحياة الآخرة كما يعمل لسلامته وسعادته في الحياة الأولى، }وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ{. [آل عمران: 185]  

 قال الدين للناس: إن الموت دائمًا يدور حول بيوتكم بل دخل بيوتَكم قسرًا أكثر من مرة واختطف منها أحب الناس إليكم، فما الذي جعلكم الآن أكثر وعيًا به وأشد فرارًا منه؟ هل لأنه الآن أسرع وتيرة وأعلى صوتًا؟

محقون أنتم فالغافل لابد له من تنبيه، فها قد نُبِّهتُم فأفيقوا، واعلموا أن الموت موجود في كل لحظة وفي كل آن لا ينفك عنه زمان ولا مكان فكونوا دائمًا على استعداد!

 قال الدين للإنسان: الموت حق لا جدال فيه، لكن لا تخف ولا تحزن، سأُكَرِّمُكَ في حياتك وبعد مماتك! سأسميك عبدًا لله، ومؤمنًا، وتقيًّا، وأبًا وأمًّا، وأخًا وأختًا، وخليفة في الأرض! حتى وإن سميتك كافرًا وظالمًا وجحودًا فإن الدين لا يلغي معاني الإنسانية فيك، وذلك كله لتقلع عن ظلمك وجحودك وكفرانك وتستعيد طمأنينتك وإنسانيتك وإيمانك، سيناديك ربك حتى حال شرودك عنه: يا عبادي، يا أيها الناس، يا أيها الإنسان. لن يسميك الدين أبدًا دافع ضرائب أو يدًا عاملة، لن يربط بينك وبين قيمتك الاقتصادية بل سيربط بينك وبين قيمتك الإنسانية والأخلاقية، فالدين لن يعتبرك شيئًا بل إنسانًا.

وماذا أيضًا؟
يقول الدين للإنسان: لا تخف حتى وإن مِتَّ وسط الفوضى والضجيج والصخب لن ينتهي بك المطاف أن يصير جسدك عرضة للموازنة بين تكاليف حرقه أو سحقه أو دفنه أو الاستفادة منه كقطع غيار ومادة خام، لن تكون رقمًا بين أرقام كثيرة، أو تكون فقط اسمًا تائهًا بين أسماء عديدة على لوحة كبيرة تنصب في الشوارع والميادين، يمر من تحتها آلاف الناس كل يوم فلا يُلقون لها بالًا ولا يعيرونها اهتمامًا، بل سيجعل الناس إخوانك في الإنسانية يجتمعون لموتك ويدعون لك باسمك ويطهرونك غاية التطهير، وإن لم يستطيعوا؛ فلا أقل من الصلاة عليك حتى وهم بعيدون عنك، ولا أقل من الدعاء لك عند موتك وكلما ذُكِرْت، ولا أقل من أن يواروا جسدك التراب مستورًا مكرمًا، حتى تكون آخر صورة لك في أذهانهم صورة إنسان مكرم كامل الإنسانية لا صورة رمادٍ محترق أو جسدٍ ممزق.

 يقول الدين للإنسان: لا تتقاتل مع أخيك الإنسان طلبًا لأرزاقكم على هذه الأرض من الماء والهواء والغذاء فقد خلقها الله تَسَعُ الجميع وتكفي الجميع، }وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ{ الزمر: 10، }وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ{ هود:6، ابحث عن حقك واحرص عليه لكن دون أن تتعدى على حقوق غيرك من المخلوقات، حتى وإن أصابك نصَبٌ في حياتك لكنك لم تَظلم ولم تَغدر ولم تَسرق ولم تَنهب فسوف أعوضك عندي دارًا ليس فيها شُحٌّ مصطنع في الموارد، ولا أزمةُ إسكان، ولا أزمة زواج، ولا أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية ولا حكام متسلطون، ولا خوف من مستقبل لا تدري ما فيه، بل }لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ{. الحجر: 48

 إن أزمة كورونا أيقظت في الإنسان مشاعر الخشية من الموت والأخذ بأسباب السلامة منه، وهي المشاعر ذاتها التي دأب الدين على إيقاظها ودعوة الناس من خلالها، لكن الدين بَسَطَ دروب الأمل أمام الإنسان وأعطاه طوق نجاة من بحار أوهامه وتشتته وحفظ كرامته حيًّا ومَيْتًا، ودعاه ليس فقط للنجاة من الموت، وإنما للنجاة والسعادة كذلك فيما بعده.

فلماذا يا تُرَى اتبع كثيرٌ من الناس تعليماتِ كورونا ولم يتبعوا تعاليم الدين؟!

تجربة مع الموت: وصايا وعبر (1)

إنها الساعة الثانية ليلاً (1)، أنا الآن في مشفى مدينة كلّس التركيّة، والناس من حولي نائمون، هناك هدوء تام وصمت مطبق، لا تسمعُ سوى أصوات الأجهزة الطبية التي تتابع حالة المرضى، في خضمّ هذه الحالة، كنتُ أشعر بقرب الموت مني، فأردت أن أكتب هذه الوصية لي ولكل من يصاب بكورونا.

إن خبرتنا بكورونا قليلة وغير ناضجة، كما أن تعاملنا معها يغلب عليه العاطفة والسرعة في تعاطي العلاجات السريعة والشعبية، والاكتفاء بهذا خطير، لأنه يؤدي إلى تفاقم المرض، ولا يوقفُ تمكّنه من الرئتين والدم، بل قد لا يشعر الإنسان بتدهور حالته إلا بعد فوات الأوان، وحينها يصبحُ العلاج صعبًا ومتعبًا (2).

لقد شاع لدى الكثير من الناس الاستهتار بالمرض، وعدم المبالاة به بسبب كثرة حالات الشفاء، والتغاضي عن الحالات الكثيرة جدًّا للوفيات باعتبار أن أغلبها لكبار السن، وهذا ليس صحيحًا فهناك حالات وفيات كثيرة لمن هم دون الخمسين، كما تفيد تقارير المشافي بأن أكثر حالات الوفاة أو تأزم المرض كان بسبب التأخر للمجيء للمشفى وأخذ العلاجات اللازمة، وهذا ما يجب أن يتلافاه الناس

كورونا والتجربة المريرة
أُصبتُ بكورونا في 26 /11/2020 ومع ذلك لم أهتم كثيرا فقد بدأت باتباع وصفات الأصدقاء: عكبر النحل، الزنجبيل، الفوارات، السموط الهندي وغيرها، ولكن المرض كان يتفاقم يوميًّا، ويزداد ضيق النَّفَس وتزداد الآلام في صدري وخاصرتي، فأُخِذتُ إلى المشفى، وكنت أشعر بوضعي الصحي يتدهور وكأنني أتجه باتجاه فقدان الوعي، ولمَّا اطَّلع الدكتور على نتائج التحليل والتصوير، قال: لقد تضررت الرئة بشكل شديد، وأصابها التهاب قويّ، كما أن الدم تعرّض لالتهابات شديدة، قال ذلك وهو يقلّب النظر بيني وبين ابني، حينها قلت له وأنا أستشعر الحاجة لله: (على الله).

حصلت معي مضاعفات شديدة، وازدادت حالتي سوءًا، وحين جاء الأطباء تفاجؤوا بسرعة نبض القلب وشدة الالتهابات في الرئتين والدم، وأخذوا يتهامسون وينظر بعضهم إلى بعض وإليّ، وبقيتُ مستقرًّا في ممرّ المشفى -لشدّة ارتفاع عدد المرضى بالفايروس- حتى تهيّأ لي مكانٌ أُدخِلتُ إليه لاحقًا.  

الموت وسكراته، خواطر وعِبَر
أعود الآن إلى تلك اللحظات والخواطر التي كانت تنتابني أثناء الانتظار، فقد كنت أتوقّع مغادرة الحياة بين لحظة وأخرى، وأتوقع فقداني للوعي بين لحظة وأخرى، ما الذي عليّ فعله؟ كيف أودّع الحياة وأغادرها؟

بدأت بإملاء وصيتي لولدي(3)، وسَبَّبَ هذا خوفًا عليّ عند العائلة والأولاد، لكني هدّأتهم بأن قلت لهم: إنّ الوصية سنة، ولا بد منها سواء كان الإنسان سيعيش أم سيموت، شعرت ببعض الراحة حين انتهيت من الوصايا التي كنت أسابق فيها الوقت، فما كنت أدري اللحظة التي أتوقف فيها عن القدرة على الكلام، وأفقد الوعي، حيث كنت أشعر في كل لحظة أشعر بتدهور زائد في جسمي، وازديادٍ لضربات القلب، وضيق النفس وآلام شديدة في جوانبي.

بدأت أفكّر بسكرات الموت، ترى كيف ستكون؟ كيف ستخرج الروح؟ هل سيُخفِّف الله عز وجل عني آلام الموت؟ أم سيشدِّد عليَّ، وكل هذا واردٌ بالنسبة للمؤمن، قد يُشدَّد عليه الموت لتكفير سيئاته، وقد يُخفَّف عنه مكافأة له على بعض أعماله الخيّرة.

وفجأة يرد على ذاكرتي قول الله عز جل: ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [ سورة الأحزاب: 21 ] . وكان نزول هذه الآية على قلبي بردًا وسلامًا، أنساني كل ما يخطر في البال من آلام الموت، فقد أصبحت أتذكر حبيبنا وسيدنا وقرة أعيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقاسي من آلام الموت، وسكرات الموت، ويقول: ألا إنّ للموت لسكرات (4)، صلّى الله عليه وسلم، وقيل له، إنك يا رسول الله تُوعَك كما يوعك رجلان منا؟ قال أجل. قيل: ذلك أنّ لك أجران، قال: نعم (5)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يُشَّدد عليه الموت كما يُشَّدد على رجلين من أمته، لأن له أجر النبوة، وأجر الإيمان، ومع أنه سيد ولد آدم، وحبيب رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، إلا أنه لمْ ينجُ من شدة الموت وسكراته، فكان هذا الخاطر يجعلني أستهين بالموت، بل وأستلذُّ به، فمن أنا بجوار حبيب قلوبنا، ونور أبصارنا، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخذت هذه الآية تتكرّر على مسمعي وكأنها تنزل لأول مرة: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)) .

صرت أتذكر أيضًا سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وسيدنا نوح، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى، عليهم السلام، ثم امتدَّ شريط الذكريات لأتذكر سيدنا أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وسائر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كل هؤلاء العظماء تذوقوا آلام الموت، وتجرعوا سكراته، وهم خِيرةُ الله من خلقه، فمن أنا بجانب هؤلاء العظماء، حتى أخاف من سكرات الموت، أو أطلب ما لا يحق وما لا ينبغي لي.

ومن الخواطر التي غمرتني وخففتْ عني قول سيدنا بلال رضي الله : (( واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه )) (6) طبعا إخواني لست في موقع بلال رضي الله عنه -حاشا لله- لكن التَشبُّه بالكبار في المواقف الصعبة مطلوب، فأنا تشبَّهتُ ببلال في هذا الموقف العصيب بالنسبة لي .  

أجل فإن من أنا ذاهبٌ ومقبل عليهم كرام، كرام، كبار عظماء.  سأرى بعد الموت إذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وصحبَه والأنبياء َوالأولياءَ والصالحين، هذا كان يملأ قلبي ثلجًا وسرورًا، ويجعلني أنسى الموت والفراق والأهل والأحبة، وأنني سأرى والدتي وأختي اللتان سبقتاني منذ سنوات إلى لقاء الله عز وجل.

الأمر الآخر الذي خفّف عني من الخوف من الموت وسكراته هو موضوع العقبة التي لا بد منها، فالموت عقبة أمام كل مؤمن، ولا بد أن يمرَّ بهذه العقبة، كأس لا بد يشربها المؤمن ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾، فحين يموت الإنسان المؤمن يكون قد تجاوز هذه العقبة، وشربَ هذه الكأس التي لا بد منها، ويكون قد ارتاح من عقبة تنتظره في طريقه الذي لا مفر منه ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [ الأعراف: 34 ]  .

ولذلك سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما رأى النبيَّ صلى الله عليه قد لحق بالرفيق الأعلى قال: أما الميتة التي كتبها الله عز وجل عليك فقد مُتّها ولا يجمع الله عليه موتتين أبدًا (7)، فقد أدرك سيدنا أبو بكر أن هذه الميتة موعد مع كل إنسان، سواء كان نبيًّا أو مؤمنًا أو غيره، ومن نِعَم الله عز وجل على المؤمن أن يتجاوز هذه العقبة بخير وبحسنى وخاتمة طيبة على الإيمان بالله عز وجل (8)

من الأمور التي كانت تثلج صدري وتخفف عني؛ هو أن هذا المرض الكورونا يشبه الطاعون الذي جعله الله عز وجل شهادة لكل مؤمن، فقلتُ لعل الله عز وجل يريد أن يتخذَ ويصطفيَ من عباده المؤمنين شهداء بهذا المرض؛ لكثرة ما لاقت هذه الأمة من محن وشدائد؛ فهو بابٌ من أبواب الشهادة، وقد رأينا كيف قضى بهذا المرض عددٌ كبير من أهل العلم والصلاح والفلاح والجهاد، فرجوت الله عز وجل إن كُتب لي الأجلُ بهذا المرض أن يجعلَه شهادة لي، وأن يكون سببًا في نيلي الشهادة التي لا يرزقها الله عز وجل إلا لمن يصطفي من عباده.


الهوامش:

  1. هذا المقال الأول من سلسلة مقالات كتبتها أثناء مرضي بكورونا، أثناء وجودي في مشفى مدينة كلّس- تركيا، وذلك تعبيرًا عن حالة شعورية عشتها أثناء فترة المرض في المشفى لمدة أسبوع، وهي تجربة شخصية وعظية مغموسة بأعماق من التجربة المباشرة، تدخل في باب الذكرى ﴿فَذَكِّرْ إِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ﴾
  2. أنصح كل إنسان يصاب بكورونا وتبدأ الأعراض جدية عليه كأعراض الكريب أن يسارع في الذهاب إلى المشفى، وتعاطي الأدوية الرسمية الحكومية، وبعدها لا مانع أن يأخذ أي أدوية عربية أو اجتماعية أخرى متداولة مثل: عكبر العسل، والزنجبيل، والسموط الهندي، والفوارات المختلفة، فهذه كلها علاجات مفيدة، ولكنها ثانوية وتأتي بعد العلاجات الطبية النظامية والرسمية. ولا أنصح بالإهمال في هذا الأمر فقد يؤدي إلى عواقب خطيرة.
  3. دائمًا كانت وصيتي بحمد الله عز وجل مكتوبة، إلا أنّني لم أقم بتجديدها، والمفروض أن يتم تجديد الوصية دائما بحسب معطيات الحياة الجديدة وتطوراتها، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا ينام الإنسان إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه [أخرجه البخاري رقم الحديث: 2738]، فطلبتُ التلفون من ابني وبدأت بإرسال وصايا: لزوجتي، ولأولادي، ولإخوتي، ثم كانت وصية مهمة لإخواني في سوريّة.
  4. ينظر: المعجم الكبير للطبراني (23/ 31) 78 .
  5. صحيح البخاري رقم الحديث: 5648 .
  6. يُنظر: الشفا، عياض بن موسى اليحصبي (2/ 19) .
  7. صحيح البخاري، برقم:1241.
  8. تذكرت ههنا وفاة والد زوجتي الشيخ عبد الرحمن بكّور الذي توفي في مرضه بكورونا قبل مرضي بأيام قليلة، ووجدتني أقول لنفسي: هنيئًا لعمي الشيخ عبد الرحمن بكّور، لقد نجّاه الله من هذه الموتة.

قسوة القلب.. داء الروح الذي كشفه الوباء

لا يختلف اثنان اليوم على كون فيروس كورونا المستجد من أكبر الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، فحتى منتصف مايو 2020، لقي أكثر من 290 ألف شخص حول العالم مصرعهم بالوباء.

وبينما قيادات العالم في توجس وترقب مما قد تجلبه الأيام القادمة؛ تجد كثيراً من شبابنا غارقين في لهو وسخرية وغفلة أمام هذا الابتلاء الربّاني، فلا هم يشعرون بعظم الامتحان و قرب الموت، ولا هم يفرّون إلى الله ليكشف الغمة. فما توصيف هذه الحال؟ وما الذي أدى بنا إليها؟

الوباء يمتحننا فهل ننجح؟
أخبرنا الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم كثيراً من أحوال الأمم السابقة لنتعظ بحالهم ونتجنب أخطائهم. ومن تلك الأحوال أنه سبحانه أرسل إلى أقوامٍ غابرةٍ ابتعدت عن سبيل الرشد أنواعاً من الابتلاء، من ضيق عيشٍ وفقرٍ وأمراضٍ، لعلهم تحت وطأة الشدة يفيقوا من غفلتهم ويتضرعوا إلى الله مولاهم، ويتذللوا له ويدعوه وحده أن يرفع عنهم البلاء بقلوبٍ مخلصة فيكون البلاء منحةٍ لهم إن ردهم لدينهم [1,2]. قال تعالى:{ولقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]

لكنّ هؤلاء الأقوام لم ينتفعوا بهذه الفرص كما ينبغي. لم يلجؤوا إلى الله ولم يرجعوا عن عنادهم، ولم ترد الشدة إليهم وعيهم ولم تفتح بصيرتهم، ولم تلين قلوبهم وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم مايقعون فيه. ذلك لأن قلوبهم تحجرت فلم تعد الشدة تردها إلى الله ، وماتت فلم تعد الشدة تثير فيها الإحساس [1,2]. قال سبحانه: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: 43]

فالقرآن يخبرنا أنّ من لا يدفعه البلاء للفرار إلى الله إنما هو مريضٌ بقسوة القلب، وأن هذا المرض خطرٌ عظيم أشدّ من البلاء نفسه بكثير، إذ أنه يهدد الروح الباقية لا الجسد الفاني. ففي الآية التالية تظهر عاقبة من لم يعتبر بالمحنة:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: [44-45] إنه الاستدراج الذي يتبعه أخذٌ قوي شديد من الله سبحانه على حين غرة ولهو، أعاذنا الله وإياكم.

فالآيات السابقة ترشدنا أن نتعامل مع البلاء باعتباره تذكرة ودفعةً تردّنا لدرب الحق، لا أن نتجاهل آيات الله فيه ونواجهه بالسخرية والغفلة. وفيروس كورونا المستجد هو نوعٌ من المحن التي أرسلها الله لنا كما أرسل إلى من قبلنا من عجيب الآيات ليعتبروا ويتذكروا. قال تعالى: {ولَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130] لكن آل فرعون لم يتعظوا كما نعلم، فخسروا بذلك دنياهم وآخرتهم.

فهذا الذي يسميه الغرب عدواً هو في حقيقته آية من آيات الله أرسلها على عباده، وسيكشفها إذا شاء بأمره، ولكن المهم هو حالنا نحن أمامها. هل ستردنا إلى الله أم ستظهر حقيقة مرضٍ في قلوبنا؟

إن مواجهة البلاء والأزمات بالنكات والتذمر واللهو لا تدل على صلاح القلب، فهذه الأساليب وإن بدت في ظاهرها طرقاً بريئة لتنفيس مشاعر سلبية متعلقة بالحجر، فهي في حقيقتها حيلٌ من الشيطان ليمنعنا عن التأمل في حقيقة الامتحان، فهو يقنعنا أننا نتسلى عن الهموم بينما تنبت الغفلة في قلوبنا وتورثنا تهاوناً بآيات الله سبحانه. ومن حيل الشيطان التي لحظتها في كثير ممن أحسبهم على خير أنه أوهمهم أن إيمانهم بالله وتوكلهم عليه تجاوز بهم الخوف من الموت فصار الوباء بالنسبة لهم أمراً عادياً، وهذه خدعةٌ خطيرة في ذاتها، فالمؤمن كلما زاد قرباً من الله ازداد خشية منه سبحانه، ولا تناقض بين الرجاء والخوف [3]. ولما كان كيد الشيطان ضعيفاً عاد سبب نجاحه في حيله إلى قسوة في قلوبنا التي لم تعد الشدة تدفعها لصدق اللجوء لمولاها.

ولذا أدعوكم ونفسي للتأمل في حقيقة القسوة لنصل إلى مسبباتها وطرق علاجها.

قسوة القلب وخطورتها
قال القرطبي: القسوة هي الصلابة والشدة واليبس والقلب القاسي هو الذي لا يعي الخير ولا يفعله [4]، وقيل: القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه [5]، أوتصلبه ونبوته عن اتباع الحق [6]. وروي عن مالك بن دينار قوله: “ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب “[4].

وقد تتبعتُ مفردة القسوة في القرآن الكريم فوجدت التحذير والتخويف والذمّ مرتبطين بها دوماً. من ذلك قوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلالٍ مبين} [ الزمر: 22] فالله عزّ وجل يتوعد بالعذاب الشديد لأصحاب القلوب المتصلبة التي لا تلين بالذكرى [1]. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من قلبٍ لا يخشع ومن عين لا تدمع [صححه الألباني].

وقسوة القلب سبب لفساد النفس وخسرانها، إذ أن القلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود التي تصدر كلها عن أمره ويستعملها فيما شاء فكلها تحت سلطانه وقهره تكتسب منه الاستقامة والزيغ وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله. فهو ملكها وهي المنفذة لأمره، ولا يستقيم لها شيءٌ من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته [7]. ولذا كانت العناية بحال القلب من ضرورات الدين، وقد قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: إن أشرف ما في الإنسان قلبه فهو العالم بالله العامل له الساعي إليه. ومن عرف قلبه عرف ربه، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم ونفوسهم، فمعرفة القلب وصفاته أصل الدين وأساس طريق السالكين [8]. وفي رواية النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَلَا وَإِنَّ في الجسد مضغةٌ إذا صلحت صلح الجسد كله، وَإِذَا فسدت فسد الجسد كله، أَلَا وهي القلب” [متفق عليه].
والقلب هو الذي ينظر الله إليه من العبد، فقد قال صلى الله عليه وسلم:  “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” [صحيح مسلم].

و حبذا لو وجدنا في البلاء الذي نمر به فرصةً لنتبصر في أنفسنا ونقيّم قلوبنا، أقاسيةٌ هي أم لينة؟ هل تدفعها المحن إلى اللجوء إلى الله؟ أم أنها تهرب من الموعظة نحو الملهيات والمشتتات؟ هل تضحك أمام الآية أم تخشع؟ فالأوان لتصحيح المسار لم يفت، وباب التوبة مفتوحٌ طالما في العمر بقية.

الأسباب والعلاج
معرفة أسباب قسوة القلب طريقٌ لمعالجتها وإغلاق أبوابها، وقد وصف علماء الأمة أسباباً عديدة للقسوة: أهمها الشرك بالله بكافة صوره وأشكاله كاعتقاد النفع والضرر في غيره سبحانه، والرياء والتحاكم إلى غير شريعته، وابتغاء غير وجهه بالعمل. ومنها كثرة المعاصي والذنوب بجملتها، فإن تراكمها يولد غطاءً على القلب يفسده ويقسيه [4]، قال سبحانه وتعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14].

وفي هذا المعنى قال ابن المبارك:

رأيت الذنوب تميت القلوب    ويورثك الذلَّ إدمانُها

وترك الذنوب حياة القلوب     وخيرٌ لنفسك عصيانها

ومن أسباب قسوة القلب نقض العهود والمواثيق [4]، كما قال سبحانه: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} [المائدة:13]

ومنها كثرة الكلام بغير ذكر الله وكثرة الضحك وكثرة الأكل و كثرة النوم فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل [4, 9].

وآخرها كثرة الخلطة، وفي ذلك قال ابن القيم رحمه الله: أما ما تؤثره كثرة الخلطة: فتملأ القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، وتوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما، وضعفا، وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم. فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟ [9]

ومن أبرز ما نلاحظ في هذه الأسباب كون معظمها من المباحات، كالطعام والنوم والخلطة بالناس، لكن المبالغة فيها تفسد القلب وتقسيه وتشغله عن ذكر الله والتقرب إليه. فالأكل باعتدال يقوي الجسد على طاعة الله، أما الإسراف فيه فيضعف الروح ويثقل الجسد عما خلق له ويورث كثيراً من الأسقام.

أما عن معالجة قسوة القلب فهي تبدأ بصدق الالتجاء إلى الله وطلب الهداية منه وإعانته على الخشوع والتذلل إليه والانتفاع بآياته، فذلك كله لا يكون إلا بتوفيق الله عزّ وجلّ وفضلِه، ومن ثمّ بمراقبة النفس وإبعادها عن أسباب القسوة السابق ذكرها. ولا شكّ أن ذلك يتطلب جهداً وإخلاصاً لله تعالى في القول والفعل.

ومن سبل تليين القلب كثرة ذكر الله وتلاوة القرآن وتدبر معانيه [4]، قال تبارك وتعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23]

ومنها كذلك كثرة ذكر الموت وزيارة القبور والإحسان لليتامى والمساكين، فعن أب هريرة رضي عن أَبِي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال له: “إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم” [أخرجه أحمد وصححه الألباني].

هذا غيضٌ من فيض في معاني إصلاح القلب ومعالجته. أدعوكم لمراجعة المصادر أدناه للاستزادة، أعاننا الله وإياكم على الانتفاع بما علمنا، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

والحمد لله رب العالمين.


المصادر

  • ابن كثير. تفسير القرآن العظيم
  • سيد قطب. في ظلال القرآن
  • ابن الجوزي. تلبيس اإبليس
  • ابن رجب الحنبلي. ذم قسوة القلب
  • ابن منظور. لسان العرب
  • العز بن عبد السلام. شجرة المعارف
  • ابن القيم. إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان
  • ابن قدامة المقدسي. مختصر منهاج القاصدين
  • ابن القيم. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

كورونا والصحة النفسية.. الوباء يبرز آثار غياب الدين عن المجتمعات

في صبيحة يوم  الأحد السادس والعشرين من شهر أبريل الفائت استفاقت عائلة الطبيبة لورنا برين، رئيسة قسم الطوارئ في مشفى بنيويورك، على فاجعة انتحار ابنتهم الطبيبة المرموقة عن 49 عاماً.

لورنا كانت تعالج المرضى في أكثر الولايات الأمريكية تأثراً بوباء كورونا، حيث وصل عدد الحالات فيها إلى أكثر من 300 ألف حالة في 4 مايو 2020، حسب قناة CNN – وكما يقول والد الطبيبة فإن عملها أودى بحياتها [1].

لورنا ليست الضحية الوحيدة للضغط النفسي المترافق مع وباء كورونا رغم أن حالتها قد تكون الأكثر وضوحاً حتى الآن، فبحسب دراسة حديثة  في مدينة ووهان الصينية فإن واحدا من كل خمسة طلاب بالمدارس يظهر أعراضاُ اكتئابية بسبب إجراءات الحجر الصحي [2].

كما أظهرت دراسة منفصلة في ووهان الصينية أن حوالي نصف العمال في القطاع الصحي يعانون من القلق أو الاكتئاب جراء المرض [3].

إضافة إلى ذلك أعرب مسؤولون في مركز التحكم بالأوبئة في الولايات المتحدة الأمريكية (CDC) عن قلقهم بشأن تزايد حالات الاكتئاب والانتحار جراء العزلة الاجتماعية والقلق والخوف من العدوى [4]، كما توقع أطباء نفسيون في رابطة الأطباء الأمريكيين(AMA)  تزايداً حاداً في حالات القلق، الاكتئاب، إدمان المخدرات، الوحدة، العنف المنزلي وإساءة معاملة الأطفال تزامناً مع الوباء [5].

أما في بريطانيا فقد أصدرت هيئة الصحة العقلية إرشادات عامة للمواطنين للتعامل مع الضغط النفسي والاقتصادي في ظل الوباء ترقباُ للأسوأ [6].

 كل ذلك يجري تزامناً مع وباء عضوي لا يؤثر على العمليات الدماغية، لكن العوامل الكثيرة التي سببها الوباء تتدخل في صياغة أسباب هذا الضغط النفسي ومنها كالخوف من المرض، العزلة الاجتماعية، تدني الوضع الاقتصادي، القلق من المستقبل، إغلاق المرافق الترفيهية كالمولات والمقاهي، إغلاق عيادات الطب النفسي، وغيرها.

وليقيني أن ما منّ الله به علينا من دين هو الشريعة الكاملة التي لم تُغفل من جوانب النفس شيئاً، بدأت بتوصيل النقاط بين مشاهداتي في الغرب، الدراسات العلمية و تعامل الإسلام مع كل ذلك لتضح الصورة الكاملة ويكون لنا فيها عبرة.

القلق من المستقبل ومشاعر عدم الاستقرار والخوف تحديداُ هي أمور لاحظتها بوضوح بين كثير من زميلاتي ومعلميّ في الجامعة. فالوباء الحاليّ أمرٌ مفاجئٌ وغير متوقع لمعظم الأمريكيين الذين اعتادوا الشعور بالسيطرة على حياتهم وأهدافهم وتربَّوا على أنهم يملكون تحقيق غاياتهم إن عملوا بجد ونظموا أوقاتهم بالدقة الكافية.

هذه المفاهيم السائدة في المجتمعات الغربية، رغم أنها تولد انتاجيَّة مادية سريعة، إلا أنها تخلِّف هشاشة نفسية وانكساراً أمام الأزمات التي قد تقلب الموازين وتشعر الإنسان بضعفه. فهؤلاء صُدموا بمحدوديتهم وقلة حيلتهم أمام فيروس لم تتمكن شبكات الأنباء من التنبؤ بخطورته. فجأةً تأخَّر الاقتصاد ونفذ مخزون المحال التجارية من المعقمات والكمامات وغيرها وخسر الكثيرون وظائفهم وأُجبروا على نمط حياة جديد لم يكن في الحسبان. كلُّ هذا أدّى بالناس إلى شعورٍ عارمٍ بالصدمة.

فاجأتني في بداية الأمر ردة فعل زميلاتي غير المسلمات تجاه الوباء، تحديداً ما كنّ يصفنه بعدم التأكد (uncertainty) من المستقبل وما قد يجلبه وكونهنّ على حافة الانهيار إن فُتِح الموضوع أمامهنّ. كنت أقارن ذلك بعقلية الإيمان المطمئنة التي منّ الله بها علينا والتي تُشعر الإنسان أنّه أضعف من أن يملك غده، وكان لسان حالي يقول: ومتى كنّا متأكدين من المستقبل أصلاً؟ شعرت حينها بقيمة المرونة التي يوطنها الإيمان في النفس.

العقيدة الإسلامية تربّي في المؤمن الاعتماد على خالقه تبارك وتعالى وتؤصل فيه حقيقة كونه عبداً لله ينبغي أن يتوكل عليه ويسلم له أمره، فمنه وحده المدد والقوة. تتجلى هذه المعاني بوضوحٍ جليّ في أذكار المسلم اليوميّة التي علّمنا نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم. فإذا أصبح المسلم أو أمسى يقول “حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم”. فيذكر نفسه بأن اعتماده على الله الذي يملك قدره وحده وهو يكفيه في كل أمر من أمور الدنيا والآخرة [7]. وإذا خرج من منزله قال “بسم الله توكلت على الله ولاحول ولا قوّة إلا بالله” مفوضاً أمره لمولاه سبحانه [7] معترفاً بحقيقة عبوديته له فهو المتحكم في كل الخلق مالك الملك. ولنتأمّل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما أخذ بمنكبيّ ابن عمر رضي الله عنهما وقال له: “كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل”، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: “إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك.” (رواه البخاري)

فالحال الطبيعي أننا لا نملك ضمانات عن المستقبل ونعلم أنّنا لله وإليه راجعون في أي وقت يختاره سبحانه. وقد روي عن الصحابية أمّ سليم رضي الله عنها لما قبض ولدها وأرادت أن تنبئ زوجها بذلك قولها له: أرأيت لو أن قومًا أعارُوا عاريتَهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، أَلَهُم أنْ يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسِب ابنك. (رواه البخاري)

وهذا لا يعني أن التدين الحقّ والتوكل يدعوان لترك الأخذ بالأسباب أوأنهما يبعثان روح الانهزام في الإنسان، بل على العكس، فالنبي صلّى الله عليه وسلم خرج من مكّة إلى المدينة عند الهجرة مستتراً بالليل متخفياً مع صاحبه رضي الله عنه متوجهين جنوباً نحو غار ثور مع أن وجهتمهما كانت يثرب في الشمال. هذا وهو النبي الكريم الذي عصمه الله من الناس، ليعلّمنا أن المسلم يخطط ويأخذ بالأسباب ومن ثم يتوكل على الله الذي يدبر الأمر كيف يشاء.

وقد قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: لو عرف الناس ماهية التوكل لعلموا أنه ليس بينه وبين الأسباب تضاد. ذلك أن التوكل اعتماد القلب على الوكيل وحده، وذلك لا يناقض حركة البدن في التعلق بالأسباب ولا ادخار المال. فقد قال تعالى: “ولا تؤتوا السّفهاء أموالكمُ الَّتي جعل الله لكم قياماً” أي قواماً لأبدانكم. والذي أمر بالتوكل أمر بأخذ الحذر فقال: “خذوا حِذركم” وقال: “وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة”. فالتوكل لا ينتفي الاحتراز [8]. والحقيقة أنني لم أكن أستشعر نعمة التوكل إلى أن رأيت من يفقدها وشعرت بمقدار الضياع الذي يصيبه إن اختلت القوانين التي ألِفها في الكون. فلله الحمد والمنّة سبحانه.

 من الجدير بالذكر هنا أن كون هذه المعاني جزءاً مهماً من عقيدة الإسلام لا يستوجب ضرورةً أن يستحضرها جميع المنتسبين للدين الإسلاميّ في حال البلاء، فالبُعد عن القرآن وهدي النبيّ عليه الصلاة والسلام ينسي المرء حقيقة وجوده، وفقره وضعفه. وهذا شائعٌ خصوصاً بين من يقيمون في الغرب -كما أشار د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي في أحد دروسه- إذ من السهل عليهم نسبة النتائج للأسباب الدنيوية وحدها وقد يغفلون عن قيمة الاعتماد على الله سبحانه وتفويض الأمر إليه، فمثلا إن قالت شركة أمازون إن الطرد سيصل في اليوم الفلاني، فهو حتماَ سيصل! ويغيب عن الذهن بسهولة استحضار معية الله؛ خصوصاً مع نمط الحياة السريع الصاخب. لذلك كان الذكر والتواصي بالحق والصبرمن الضرورات الأساسية في حياة المسلم.

الأمر الآخر الذي وجدته سبباً للأزمات النفسية في ظل الوباء هو بروز الأسئلة الوجودية لم تعد المُلهيات كافية لإسكاتها، ومن أهم هذه الاسئلة مشكلة وجود الشر وتحديداً الأوبئة في العالم.

الإنسان في الغرب قبل أزمة كورونا توهّم أنّ الشر لن يصل إليه لأنه في موضع قوّة وعلم بالنسبة لغيره، فهو في بلاد متقدمة عسكرياً، غنيّةٍ ماديّاً وتملك كافة أشكال الترفيه والمتعة، ومن هنا كان بروز وباءٍ لا يقدر الناس على احتوائه سبباً في شعورهم بالتهديد، وبالتالي اضطرت النفوس مواجهة مشكلة الشر. بدأت التساؤلات حول أصل الشر وسببه وغير ذلك، وبينما قابلت نسبة كبيرة من الناس هذا الاشكال بالهروب إلى وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الأفلام أو الألعاب الالكترونية، وجد آخرون أنفسهم مجبرين على مواجهة الواقع، فكان التعب النفسي. فالجهل يولد الخوف وهذا يتزايد مع الوقت إن لم يجد الإنسان مايشبع به تساؤلاته.

وجدت هذا بشكل واضح في مقالات تتحدث عن العاملين في القطاع الصحي وكيف صدمتهم قسوة الوباء والموت وشعروا بقلة حيلتهم غير الاعتيادية أمام ذلك مما أدى بهم إلى الشعور بالعجز والإحباط الشديدين [1].

لا أنكر هنا صعوبة التعامل مع وباء عالمي مثل فيروس كورونا المستجد ولا أقلل من قيمة ما يفعله من يعمل في القطاع الصحي، بل نحتسبهم في سبيل الله إن كانوا من أهل الإيمان، ولكن كل ذلك ينبغي أن يُعتبر في ضوء قوله تبارك وتعالى {ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصّابرين}، فالله أخبرنا أنه لابد أن يبتلي عباده بالمحن ليتبين الصادق من الكاذب والصابر من الجازع وهذه سنته تعالى في عباده لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان ولم يحصل معها محنة لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر [9].

فالمؤمن لا يتفاجأ بالمحن لأن الله أخبره أنها قادمةٌ لا محالة وأنها لخيرٍ حتى وإن كان ظاهرها شراً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو الذي لا ينطق عن الهوى: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كلّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له” (رواه مسلم).

فسبحان من منحنا أكبر نعمة وتفضل علينا بما لا يسعنا شكره إذ قذف في قلوبنا الإيمان، وله الحمد أن أرانا واقع من يعيش بلا هدي القرآن إذا امتحن أو أصيب كيف يكون. فكلّ زخرف الحضارة الغربية لا يساوي شيئاً مقابل لحظة طمأنينة في النفس لقضاء الله تبارك وتعالى وقدره. نسأله أن يهدينا ويهدي بنا، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.


المصادر

1- https://www.washingtonpost.com/nation/2020/04/28/nyc-doctor-lorna-breen-coronavirus/

NYC emergency doctor dies by suicide, underscoring a secondary danger of the pandemic, Washington Post

2- https://jamanetwork.com/journals/jamapediatrics/fullarticle/2765196

Mental Health Status Among Children in Home Confinement During the Coronavirus Disease 2019 Outbreak in Hubei Province, China, Journal of The American Medical Association

3- https://jamanetwork.com/journals/jamanetworkopen/fullarticle/2763229

Factors Associated With Mental Health Outcomes Among Health Care Workers Exposed to Coronavirus Disease 2019, Journal of The American Medical Association

4- https://www.cdc.gov/coronavirus/2019-ncov/daily-life-coping/managing-stress-anxiety.html Coronavirus Disease 2019 (COVID-19), Stress and Coping, CDC

5- https://jamanetwork.com/journals/jamainternalmedicine/fullarticle/2764404

The Mental Health Consequences of COVID-19 and Physical Distancing. The Need for Prevention and Early Intervention, Journal of The American Medical Association

6- https://mentalhealth-uk.org/help-and-information/covid-19-and-your-mental-health/

Managing your mental health during the coronavirus outbreak, Mental Health UK

7- شرح حصن المسلم .سعيد بن علي بن وهف القحطاني.

8- تلبيس إبليس. الإمام ابن الجوزي

9- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي

 

كورونا.. المخلّص المنتظر

لطالما تغنّى المسلمون سنةً وشيعةً بالمهديّ المنتظر وارتقبوا مجيئه لتخليصهم من الهزائم التي تنتابهم، والتي أقعدت شبابهم وكهولهم، فهو قادم بلا ريب، بل هو عقيدة لا بد من اعتناقها لترتاح في زمن الانتظار الطويل ولتقنع نفسك بأن الأرض ستُملأ عدلا بعد أن ملئت جوراً وظلماً.

ولأن هذا المهدي لما يأت ولا يعلم أحد إلا الله متى سيأتي، ولأن الراسخين في العلم يدركون جيداً وأنّ على المسلم أن يكون هو المهدي وأن يعمل ما استطاع {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} [سورة التوبة: 105]، كان لا بد لهذا العقل الجمعي أن يبتكر وسائل أخرى لاقتلاع الظلم من الأرض فالنفس الجمعية المسلمة تكره الظلم بفطرتها وتميل نحو العدل والحق جملة وعموماً.

لذا فإنها تتلقى الأخبار الكونية التي يرسلها الله سبحانه على عباده في عموم الأرض وتتأوّلها على أنها عذاب أرسله الله للفجرة من عباده ليأخذهم بالسنين ونقص الثمرات فيقتلع شأفتهم ويقضي على ظلمهم وجورهم وينصر دينه.

والحق أنه سبحانه قال {وما نرسل الآيات إلا تخويفا} [ سورة الإسراء. 59]، وأخبرنا أنه أخذ من قبلنا بالبلاء ليربي عباده ويردهم إليه، أو ليمحق الظالمين فقد أرسل الريح والمطر والطوفان والجراد والقمل والدم وغيرها من الآيات العظيمات فيمن خلا من الأمم وقص علينا القصص.

غير أننا في زمن توقف الوحي ولم نعد نملك الأحكام القطعية في هذه الآيات عموماً، والأولى للمسلم في هذه المواقف أن يكف لسانه وأن يسأل الله خيرها وخير ما أرسلت به ويستعيذ به من شرها وشر ما أرسلت به وأن يطيع أمر ربه: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [سورة الإسراء: 36].

ابتلاءٌ مختلف
فيروس كوروناكان هذا الحال والأعاصير والزلازل والبراكين والحرائق تجتاح بلاد الغرب وضمير المسلمين مرتاح بأن العذاب ينزل بأهله وأنهم يستحقون ما ينزل الله فيهم، حتى جاء هذا الفيروس الصغير (كورونا) وبدأ رحلته في بلاد غير المسلمين الذين استمروا بالتعليق نفسه، حتى إذا اجتاحهم الوباء وعصفت ببلاد المسلمين الجائحة بدت تلك التعليلات في غير سياقها فكان أن أجاب من ذهب ذلك المذهب منهم: “لنا بلاء ولهم عقاب”.

لكن.. من نحن كي لا ينزل فينا العقاب؟ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح تغير لونه وهوالذي تلقى وعد الله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [سورة الأنفال: 33].

ومن هنا فقد مضى آخرون يتحدثون عن غضب الله أنزله على عباده فابتلاهم وأغلق مساجده وبيته في وجوههم في محاولة لتفسير المصيبة التي اجتاحت بلاد المسلمين.

وقد ورد عن العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله يوم الاستسقاء أنه “ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة”، غير أنّ أحداً لا يملك أن يحدد الذنب الذي أنزل البلية وذنب من وفي أي مكان وأي زمان.

التغيير المنتظر
ولما كان هذا الوباء عامّاً  قد نزل بسكان الأرض كافة وأن تداعياته تبدو لكل ذي نظر ذات تأثير عميق في المجتمع البشري كله، فقد شاع بين الناس قولهم إن ما بعد كورونا لن يكون مثل ما قبلها، فها هو يترك آثاراً نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية وربما يكون له آثار ديمغرافية!

لما كان الأمر كما ذكرنا فقد استبشر كثير من المسلمين بأن هذا الجندي المأمور بأمر الله قادم ليعز الله به دينه ويستخلف المستضعفين من عباده وهو من حسن الظن الجميل بالله غير أنه يتغافل بطريقة أو بأخرى عن سنة الله في التغيير التي تقوم أساسا على مبدأ جوهري هو {حتى يغيروا ما بأنفسهم} [سورة الرعد: 11] إن لهذا التغيير شروطاً جوهريةً أوردها صاحب كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين) منها:

*  أنه يبدأ في محتويات الأنفس من أفكار وقيم وثقافة وعادات وتقاليد ثم ينتقل إلى الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وسائر ميادين الحياة.

* وأنّه لا يحدث إلا أذا قام القوم مجتمعين وليس الأفراد بتغيير ما في أنفسهم[1].

إن الوباء العاصف قادر على التغيير الجزئي فهو يجعل الأنفس أكثر إحساساً بالضعف والعجز والحاجة إلى الالتجاء إلى الله ومن ثم الإيمان به ودعائه وربما الالتزام بأحكامه.

لكن التغيير الحقيقي ليس إلا استجابة لقوم أرادوه وأعدوا له عدته واستغلوا  كل حادثة في سبيل إحقاق الحق وإبطال الباطل.

إن هذا الدين عزيز والله معز دينه باستعمالنا أو باستبدالنا فلا تخبرونا أن الغرب يدخل في دين الله أفواجا بينما كنا قعودا عن أي دعوة أو عمل!

إن هذا الدين عزيز ولا يعزه دخول أي ملك أو مشهور، بل إن من يدخله يحمل من عزته فلا تظلموا أنفسكم.

لا ريب أن ما بعد كورونا ليس كما قبلها، ولا ريب أنها فرصة للتغيير الإيجابي في الأنفس ليتحول هذا التغيير سلوكاً عملياً يغير الله به حال الأمة إلى الأفضل بإذنه… لكن لا ريب أيضا أن هذا التغيير لا يكون ونحن منهمكون في حاجات الجسد ولسان حالنا {شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا} [سورة الفتح: 11].


[1] الكيلاني؛ ماجد عرسان: هكذا ظه جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، دار القلم، دبي ط 3، 2002

هل مكة محفوظة من الطاعون والأوبئة؟

يتداول الكثيرون مؤخرا أقوالا عن حفظ إلهي لمكة المكرمة من الطاعون، ويشكك بعض المغرضين في صحة الإسلام بسرد روايات تاريخية تنفي ذلك، كما يستغلون انتشار وباء كورونا في مكة للتشكيك أيضا، فما صحة كل ذلك؟

ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ مكة -حرسها الله تعالى- محفوظةٌ من الطاعون. وعمدتهم في ذلك: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا سُريج، قال: حدثنا فُليح، عن عمر بن العلاء الثقفي، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقبٍ منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون)([1]).

وهذا القول ليس بصحيح، وفيما يلي بيان ذلك:

أولاً: أن هذا الحديث ضعيفٌ لا حجَّة فيه.

ففي إسناده:

1- عمر بن العلاء بن جارية الثقفي وأبوه، وهما مجهولان.

ذكرهما البخاري وابن أبي حاتم([2])، وسكتا عنهما، وذكرهما ابن حبان في الثقات([3]).

ولم أقف على من وثقهما من أهل العلم.

قال ابن أبي حاتم: “عمر بن العلاء الثقفي مديني، روى عن أبيه عن أبي هريرة، روى عنه فليح بن سليمان، سمعت أبي يقول ذلك”.

وقال: “وقلت لأبي: هو أخو الأسود بن العلاء، فقال: لا أدري، هو شيخ مديني”([4]).

2- فُليح بن سليمان المدني، متكلَّم في حفظه وضبطه، وضعَّفه كثير من الأئمة.

فهو وإن أخرج له الأئمة الستة، فقد تُكلم فيه، “فضعفه: النسائي، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود، ويحيى القطان، والساجي، وقال الدارقطني وابن عدي: لا بأس به”([5]).

وقال الحافظ ابن حجر: “أخرجه عمر بن شبَّة في كتاب مكة، عن شريح([6]) عن فليح عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، ورجاله رجال الصحيح”([7]).

وتعقبه محققو المسند بقولهم: ” كذا قال في إسناده (العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه)، وهو وهمٌ، إما من صاحب كتاب مكة([8])، أو من الحافظ ابن حجر، فالحديث لا يُعرف إلا عن عمر بن العلاء، عن أبيه”([9]).

ثانياً: أن الحديث رواه الشيخان والإمام مالك في الموطأ من حديث نُعيم بن عبد الله المُجْمِر عن أبي هريرة بلفظ: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) ([10]).

ورواه أحمد من حديث ذكوان السمَّان عن أبي هريرة بلفظ: (على أبواب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال)([11]).

ورواه البخاري من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال، قال: ولا الطاعون إن شاء الله)([12]).

ولذا قال الحافظ ابن كثير عن رواية أحمد: “هذا غريبٌ جدًا، وذِكْرُ مكة في هذا ليس بمحفوظ، أو ذِكْرُ الطاعون، والله أعلم”([13]).

وقال ابن الملقن: “ورد بإسنادٍ ضعيفٍ أنها لا يدخلها طاعون أيضًا”([14]).

ثالثاً: أن الحديث –على فرض ثبوته- ليس صريحًا في نفي دخول الطاعون إلى مكة.

فقد تابع الإمامَ أحمد في روايته عن سريج بن النعمان: ابنُ أبي خيثمة، ولكن بلفظ: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، المدينة على كل نقبٍ منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون) ([15]).

وهي ظاهرة في أنَّ النفي خاصٌ بالمدينة.

وأما رواية أحمد فمحتملة، ولفظها: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون)([16]).

فيتحمل أن يكون الضمير عائدًا للمدينة فقط، بدلالة إفراد كلمة (منها) ولم يقل منهما.

قال السمهودي: ” كذا هو لا يدخلها بالأفراد، فيحتمل عودها للمدينة فقط”([17]).

رابعاً: أن الواقع يؤكد ضعف هذا الحديث، فقد وقع الطاعون في مكة في بعض الأزمنة، خلافًا للمدينة فلم يقع فيها الطاعون قط.

قال ابن تغري بردي: “فيها أعني (سنة تسع وأربعين [وسبعمائة] ([18])) كان الوباء العظيم … وعمّ الدنيا حتى دخل إلى مكّة المشرّفة، ثم عمّ شرق الأرض وغربها، فمات بهذا الطاعون بمصر والشام وغيرهما خلائق لا تحصى([19]).

وقال برهان الدين الحلبي عن المدينة: “ولم يتفق دخول الطاعون بها في زمن من الأزمنة، بخلاف مكة فإنه وجد بها في بعض السنين، وهي سنة تسع وأربعين وسبعمائة”([20]).

وقد أقر الحافظ ابن حجر بوقوع الطاعون في هذا العام، ونقل عن شهاب الدين بن أبي حجلة قوله: “أن مكة لم يدخلها الطاعون قط، إلا هذه المرة، فمات بها خلق كثير من أهلها والمجاورين بالطاعون، وتواتر النقل بذلك”([21]).

لكنه في الفتح حاول التشكيك في تسميته طاعوناً([22]).

خامساً: المنفي في هذه الأحاديث هو دخول الطاعون لا الوباء، والطاعون أخص من الوباء، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، ولذا فالنصوص الشرعية لا تدل على امتناع دخول الأوبئة إلى المدينة النبوية حفظها الله من كل سوء.

قال الحافظ ابن حجر: “وقد وقع فيها الوباء بالموت الكثير في زمن عمر رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري من طريق أبي الأسود الدؤلي قال: (أتيت المدينة وقد وقع بها مرض، وهم يموتون موتا ذريعًا) …، وأما الطاعون فلم يُنقل قط أنه وقع بها من الزمان النبوي إلى زماننا هذا، ولله الحمد”([23]).

قال ابن القيم: “الطاعون – من حيث اللغة -: نوعٌ من الوباء، قاله صاحب الصحاح، وهو عند أهل الطب: ورمٌ رديءٌ قتَّال يخرج معه تلهُّبٌ شديدٌ مؤلمٌ جدًا يتجاوز المقدار في ذلك، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر أو أكمد، ويئول أمره إلى التقرُّح سريعًا، وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع: في الإبط، وخلف الأذن والأرنبة، وفي اللحوم الرَّخوة…

قال الأطباء: إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة، والمغابن، وخلف الأذن والأرنبة، وكان من جنس فاسد: سُمِّي طاعونًا…”.

ثم قال: ” ولما كان الطاعون يكثر في الوباء، وفي البلاد الوبيئة، عُبِّرَ عنه بالوباء، كما قال الخليل: (الوباء: الطاعون، وقيل: هو كل مرض يعم).

والتحقيق: أن بين الوباء والطاعون عمومًا وخصوصًا، فكلُّ طاعونٍ وباءٌ، وليس كلُّ وباءٍ طاعونًا، وكذلك الأمراض العامَّة أعمُّ من الطاعون فإنَّه واحدٌ منها”([24]).

الخلاصة
الثابت في السنة النبوية الصحيحة: نفي دخول الطاعون إلى المدينة، “فلم تزل محفوظة منه مطلقًا في سائر الأعصار، كما جزم به ابن قتيبة، وتبعه جمعٌ جمٌّ من آخرهم النوويّ”([25]). وأما الأوبئة فلا يوجد ما يدل على امتناع دخولها للمدينة.

وليس في النصوص الشرعية ما يدل على امتناع دخول الطاعون -فضلا عن الأوبئة- إلى مكة.

نسأل الله أن يحميها وسائر بلاد المسلمين من الطاعون ومن كل وباء.

والله أعلم


([1]) مسند أحمد (10265).

([2]) ينظر: التاريخ الكبير للبخاري (6/180)، (6/510)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/362)، تعجيل المنفعة (2/47).

([3]) ينظر: الثقات لابن حبان (5/249)،  (7/173).

([4]) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/125).

([5]) نصب الراية (1/381)، وينظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/85)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (8/602)، تهذيب التهذيب (8/303)، تحرير تقريب التهذيب (3/165).

([6]) كذا في المطبوع، والصواب: سُريج.

([7]) فتح الباري (10/191).

([8]) إن كان عمر بن شبة رواه كما ذكر الحافظ فهو خطأ منه بلا شك، فقد خالفه في ذلك: الإمام أحمد، وسعيد بن منصور، وابن أبي خيثمة، وإن لم يكن رواه كذلك، فيكون الحافظ وهم من اسم عمر بن العلاء إلى العلاء بن عبد الرحمن.

([9]) مسند أحمد (16/185).

([10]) موطأ مالك (3320)، صحيح البخاري (1880)، صحيح مسلم (485).

([11]) مسند أحمد (8917).

([12]) صحيح البخاري (7134) .

([13]) البداية والنهاية (19/189).

([14]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (12/531).

([15]) تاريخ ابن أبي خيثمة – السفر الثالث- (1/ 146).

([16]) وكذا رواه سعيد بن منصور عن فليح بن سليمان، كما في تاريخ دمشق لابن عساكر (14/ 308).

([17]) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (1/158).

([18]) (749هـ) .

([19]) النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة (10/ 233) .

([20]) السيرة الحلبية (2/ 119).

([21]) بذل الماعون في فضل الطاعون (ص379) .

([22]) فتح الباري (10/ 191).

([23]) بذل الماعون (ص104).

([24]) زاد المعاد في هدي خير العباد (4/35).

([25]) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (1/ 155).