مقالات

“الرحلة”.. عندما يتحول الدين إلى فنتازيا تاريخية!

تسعى شركة مانجا للإنتاج -التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان الخيرية والمعروفة بـ “مسك الخيرية”- إلى “إلهام أبطال المستقبل”، من خلال إنتاج “الرسوم المتحركة وألعاب الفيديو والقصص المصوّرة ذات الرسالة الهادفة”. وبناء على هذا التعريف نرى إطلالة الشركة علينا قبل أشهر قليلة بفيديو تشويقي لما وُصِف بأنه أول “فيلم أنمي سعودي ياباني” يحمل اسم “الرحلة”.

ووفق الشركة، فـ “الرحلة” فيلم إثارة وتشويق و”فنتازيا تاريخية” مستوحى من “تاريخ شبه الجزيرة العربية ومن الحضارات القديمة في المنطقة” ويروي قصة خزّاف اسمه أوس “يمر بتجربة إنسانية كبيرة ويدافع عن مدينته ضد غزو يأتيها من الخارج”.

لوغو شركة مانغا للإنتاج واستوديو توي أنميشن، منتجة فيلم "الرحلة" والاستوديو الذي قام بالتنفيذ

وشارك في إنتاج الفيلم استوديو توي أنيميشن Toei Animation، أحد أقدم استوديوهات الأنمي القائمة إلى الآن -إن لم يكن أقدمها-، والذي خرّج مَن أصبحوا بعد ذلك أساطيرًا في هذه الصناعة، أمثال هاياو ميازاكي وأوسامو تيزوكا، كما أن الأداء الصوتي في الفيلم كان على يد نخبة من المؤدين، كهيروشي كاميا صاحب الأداء الصوتي لشخصية ليفاي أكرمان من أنمي “هجوم العمالقة” وكذلك الحال بالنسبة لباقي طاقم العمل من إخراج وإنتاج.

وقبل أيام ظهر إلى النور الفيديو التشويقي الثاني للفيلم، لنكتشف أن قصة الفيلم تدور حول غزو أبرهة الأشرم للكعبة! وهكذا تصبح الحوادث والقصص القرآنية “فانتازيا تاريخية” عن “حضارات قديمة في المنطقة”! وهكذا يُلهَمُ “أبطال المستقبل” وتصنّع “أجيال صالحة مؤمنة معتزة بتاريخها وثقافتها” من وجهة نظر شركة مانغا للإنتاج ورئيسها التنفيذي (عصام البخاري)، الذي لم ينطق كلمة “الإسلام” ولو مرة واحدة طيلة مقابلة أجريت معه للحديث عن الفيلم، بل قل: كانت مقابلة تفوح منها رائحة القومية المنتنة.

“الرحلة” في عصر الصورة

باتت الصورة -التي لطالما كان لها بريقها- الآن مدعومة من قبل الإمبراطوريات الرأسمالية بما لديها من نفوذ اقتصادي وقدرات تكنولوجية، بل إن الدول بشتى أشكالها -الديموقراطية منها والقمعية- تستخدمها لتحقيق أهدافها؛ فتوحّشت الصورة وتغلغلت في مفاصل حياتنا وتفاصيل أفكار الإنسان كافّة، ورسمت حاضره وماضيه ومستقبله وحددت له الحقيقة والخيال، بل وأفقدته ذاتَه واستنزفت عمره وأنهكت روحه.

الترفيه في عصر الصورة هو المطلب والهدف، والغاية والوسيلة، فهذا العصر مُغرِقٌ في الماديات، مفرّغ من أي قيمة متجاوِزة، محكومٌ بآليات السوق، عصر سائلٌ لا مكان فيه لقِيَم متعالية، ومعانٍ سامية، وثوابت مقدسة، وحقائق راسخة، عصر نُزِعت فيه القداسة عن غير الصورة!

وما “الرحلة” إلا محاولة لنزع القداسة عن الدين، أقدس المقدسات الذي فيه معنى حياة الإنسان ومفتاح نجاته.

وبداعي الترفيه –أو بحجّته-، يصبح تحريف الدين مجرد “تعديل طبيعي في الحبكة لأغراضٍ درامية ولزيادة جرعة الإثارة والتشويق، وأمرًا لا يستحق من الجدل الكثير”، كما أن “الفن ليس مطالبًا بنقل الحقيقة والتقيد بالواقع”، و”هذا عمل ترفيهي خيالي (فنتازيا تاريخية)، وليس عملًا وثائقيًا”. ففي عصر الصورة تتغير المعايير والمقاييس والمبررات والأحكام، في سبيل تحقيق “متعة المُشاهِد”.

فلا عجب إذن إن وجدنا هذه “الفنتازيا التاريخية” انتقلت إلى عالم الأفلام والمسلسلات، ليتحول الدين في نهاية المطاف إلى مجرد مادة ثرية ينهل منها المؤلفون والأدباء، وأساطير مثيرة تُحاك حولها الحبكات وتُنسَج منها القصص والحكايات، القائمة بطبيعتها على الخيال والمبالغات وتفاصيل لا توجد إلا بمثل الإسرائيليات، لتَرسُم تصوراتنا وتشكل انطباعاتنا وتكُون مصدر معلوماتنا عن كل ما يتعلق بديننا وعقيدتنا. وفي نهاية المطاف، تختلط السردية الدينية للتاريخ بالأساطير في عصر الصورة.

هذه هي الصورة التي ستُرسم لأبرهة في ذهن كل من سيشاهد الفيلم

بعد أن يحوّل “الرحلة” قصص القرآن إلى “فنتازيا تاريخية”، يكون الدين قد استُبيح بأيدٍ عربية -مع الأسف- ليتحول إلى نمط شبيهٍ أو قريبٍ من قصص ألف ليلة وليلة، مداره الحديث عن القصص الأسطورية المحضة، فلا غرابة إذن إن قامت جهات الإنتاج الأجنبية -الغربي منها والشرقي، الأمريكي منها والياباني- باستكمال هذه “الرحلة” الفجة من تحريف الدين الإسلامي واستباحته. كأن نجد شركةً مثل (نتفليكس) تعيد كتابة تاريخنا وتصوير ديننا، ليس للعالم الغربي فحسب، بل حتى للشباب العربي بما يعانيه من انهزام حضاري وخضوع لسلطة “الثقافة الغالبة” ورضوخٍ لقوة الصورة.

وحتى إن زالت الغشاوة وذهب سحر الصورة، وظهرت التعليقات المعترِضة والردود الغاضبة، فهذا غالبًا لن يغير من الواقع شيئًا البتة، فنحن أمام “رحلة” مدعومة من أعلى السلطات في الدولة، رحلة تحريف دينٍ، واستئصال قِيَمٍ، وتغييب وعي، وتزوير تاريخ، ومسخ ثقافة، وطمس هوية، وتشويه مجتمع.

إن محض إدخال الدين إلى نطاق سيطرة الصورة، يعني أن صاحب الصورة هو من يرسم شكل هذا الدين، ويقدمه كما يشاء للفئة التي يشاء. ولك أن تتخيل الحال عزيزي القارئ حينما يكون صاحب الصورة ليس ذو نفوذٍ سياسي واقتصادي فحسب، بل صاحب أعلى سلطة في الدولة، فكيف يمكنه تشكيل هذا الدين وتقديمه على الصعيدين المحلي والعالمي؟ خصوصًا إن استخدم الأنمي في سبيل ذلك!

الأنمي.. ذلك الوافد الجديد القديم

رغم ما تحمله الأفلام والمسلسلات الحية في طياتها من خيال وأساطير إلا أنها لا تُقارن بما يمكن أن يتضمنه الأنمي من خيال بحكم طبيعته، مما قد يعني أن خطره أشد وأثره أكبر، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار أن الفئة التي يستهدفها الأنمي تشمل أعمارًا أصغر نسبيًا، هذا بالإضافة إلى الصورة الوردية المرسومة في المخيال الاجتماعي عن الأنمي خصوصًا واليابان عمومًا.

ولا أدل على انتشار الأنمي من تبنّي الدولة له واستعانتها به لاجتذاب ومخاطبة شبابها!

فشبكة mbc المقرّبة من السلطة، هي أول جهة عربية تتبنى الأنمي في المنطقة وتبثه بشكله الياباني المترجم الخام، من خلال قناتها mbc action ومنصتها الرقمية (شاهد)، وبهذا تضمن وصوله إلى أكبر فئة من الشباب، وكل هذا حدث منذ بضعة أشهر فحسب.

إلا أن “الرحلة” لم تبدأ الآن، فما يحدث ليس وليد اللحظة، ولا هو مجرد استغلال لوسيط رائج حاليًا، بل إن الأمر ظاهر للعيان منذ ما يقارب العشرين عامًا، مع إطلاق mbc لقناتها الثالثة (mbc3) والتي كانت مخصصة لبث الرسوم المتحركة الأجنبية -الأمريكية في الغالب- مع وجود واضحٍ للأنمي الياباني طبعًا، وكان ذلك أيضًا دون إجراء أي تعديل رقابي يراعي الدين أو القيم أو الأعراف، أو حتى عمر الفئة المستهدفة.

مثال ذلك مسلسل الرسوم المتحركة الفرنسي الكندي Totally Spies! والذي عُرف عربيًا بالجاسوسات، والذي نشأت على أفكاره العديد من الفتيات، وبطلاته شابات كل ما يستحوذ على اهتمامهن هو مواكبة آخر صرعات الموضة وإقامة العلاقات الرومنسية مع الشبان. وهذا يعطي لمحة عن طبيعة الأفكار التي تحاول قنوات mbc ضخها عبر مختلف قنواتها، أفكار أوصلتنا اليوم إلى ظواهر كانتشار “الفاشينيستات” اللواتي يجدن ملايين المتابعين والمتابعات.

شبكة قنوات mbc التي تعد من أضخم الشبكات في المنطقة العربية وأكثرها تنوعًا -إن لم تكن الأضخم- تحاول تشويه الإسلام وضخ الثقافة الأجنبية الغربية عبر كل ما تبثه من برامج وأفلام ومسلسلات عربية وأجنبية.

وفي المقابل، وعلى مدار سنين، نجد النقيض تمامًا في طبيعة وثقافة المجتمع المتلقي للمحتوى -بأعرافه وقوانينه وتقاليده-. والجدير بالملاحظة هنا أن المتحكم بالنقيضين هي الجهة ذاتها، بالتالي فإن هذا التناقض الصارخ -وما يؤدي إليه من أزمة حادة في الهوية -قد تصل إلى معاداة كل ما هو عربي إسلامي ووصمه بالتخلف- لم يكن غالبًا بمحض الصدفة؛ بل إن الدور الذي لعبته شبكة قنوات mbc في ضخ الأفكار الأمريكية أوجد لها مكانًا بين تسريبات ويكيليكس، ليس اليوم بل قبل أكثر من عشر سنوات!

هذه الشبكة هي من تروج الآن للأنمي في المنطقة، مما سيدفع إلى مزيد من الانسلاخ عن الهوية العربية والإسلامية، ولكن هذه المرة لصالح اليابان، فالأنمي هو سفير اليابان إلى العالم. وصانع القرار في هذه الشبكة، هو ذاته من يريد استخدم الأنمي لتحريف دين الإسلام ونزع القداسة عنه!

في ظل كل هذا، يستحق الأنمي حيزًا أكبر في الفضاء الإسلامي الفكري والدعوي والتوعوي، ويجدر بمن يهتم بنهضة الأمة وصلاح شبابها أن يوليه مزيدًا من الانتباه والاهتمام ومحاولة الفهم، لكي لا يتحول الإسلام وقيمه إلى “فنتازيا تاريخية”!

مسلسل DARK.. “هكذا خُلق العالم”!

مسلسل Dark هو مسلسل ألماني من إنتاج نتفليكس، يتكون من ثلاثة أجزاء صدر أولها عام 2017 وآخرها كان في يوم 27 يونيو-حزيران 2020. وتدور أحداث المسلسل في بلدة صغيرة في ألمانيا، حيث تبدأ القصة باختفاء بعض الأطفال، ليتبين أن حادثة مشابهة وقعت قبل 33 عام بالضبط، ومن هنا تنطلق أحداث المسلسل في خطوط وحلقات زمنية متشابكة ومترابطة في عوالم وأبعاد متعددة.

مغلِّفًا ذلك بقصة مشوقة، يطرح المسلسل العديد من الأفكار والعقائد والفلسفات، وسنحاول فيما يلي توضيح بعضها والذي قد يؤدي لحرق كثير من الأحداث:

الإلحاد والزمن وحتمية “صانع الساعات”
تتمحور قصة المسلسل حول السفر عبر الزمن، وهنا تم تقديم الزمن من منظور فلسفي بشكل متدرج خلال الأجزاء الثلاثة. فالمسلسل منذ بدايته يقوم -وبشكل مباشِر- بطرح العديد من الأسئلة الوجودية على المشاهِد ومن ذلك:

“دائمًا ما كان الإنسان في حيرة بسبب أصله، تكوينه، أخلقنا الله، أم نحن نتيجة للتطور؟ لو كان بإمكاننا رؤية الماضي والمستقبل في الوقت نفسه، الأصل والنهاية، الكون أكمله في نفس اللحظة، ربما نجد الإجابة على السؤال الأهم على الإطلاق: ما الإنسان؟ من أين أتى؟ ماذا يدفعه؟ ما هدفه النهائي؟”

وبالمقابل، أحد الشخصيات -ويدعى “نوح”- وهو في المسلسل ضمن فئة متوسطة بين العوام والنخبة ويخاطب العوام، يقول: “لا يوجد إله، لا يوجد سوى الفوضى، الإله ليس له خطة”، و”الله غير موجود، لكننا نؤمن بهذه الكذبة لأننا نفضل أي كذبة على أن نشعر بالألم”. يقول ذلك وهو يرتدي زي قس!

أما الإيمان بالله فهو في المسلسل عند بعض العوام السذج فحسب والذين ذكروا ذلك في مشهد أو اثنين. هذا عدا عن الشبهات الإلحادية عن عبثية الخلق والتي تم طرحها هنا وهناك على شكل أسئلة مباشرة أو تعابير منتقاة.

وحسب المسلسل، السبيل لمعرفة الصواب من الخطأ والخير من الشر هو “بالرضوخ إلى صوتنا الداخلي، بعدم اتباع أحدٍ سوى أنفسنا”، وفي الوقت نفسه “نحن لسنا أحرارًا فيما نفعل لأننا لسنا أحرارًا فيما نرغب”، و”جميع تصرفاتنا مدفوعة بالرغبة” وبقدر ما نحاول كبت تلك الرغبة، لا نستطيع تحرير أنفسنا من العبودية الأبدية لمشاعرنا”.

يطرح المسلسل فكرة النسبية المطلقة للخير والشر والتي تؤدي إلى تساوي الحق والباطل في نهاية المطاف، ويظهر ذلك من خلال معيار المسلسل للصواب والخطأ، وعبارات مثل “الخير والشر مسألة متعلقة بالمنظور”، بل حتى قطبي الصراع في المسلسل (آدم وحواء) ليس فيهما حق وباطل، فكلٌ منهما مدفوع بأهداف نبيلة كالحب والأمومة، كما وأنه طيلة المسلسل تقريبًا طرفي الصراع كانا الشخص نفسه في عمرين مختلفين (آدم وجوناس) ويظهر ذلك في كلام آدم: “ما كنت أبدًا لأقدر على التفوه بتلك الكلمات التي قالتها لي شخصيتي الأكبر سنًا في ذلك الوقت لأنني لم أستطع أن أفهم كيف لي أن أريدَ يومًا ما أراده هو”، وهذا يتوافق مع “مبدأ القطبية” أحد المبادئ الهرمسية السبعة المذكورة في كتاب “كيباليون” والذي سيتكرر معنا ذكره في المقال، حيث ينص مبدأ القطبية على أن الأضداد متطابقة في طبيعتها لكن مختلفة في درجتها، فالنقيضين يلتقيان، وكل الحقائق ليست سوى أنصاف حقائق، ويمكن التوفيق بين جميع المفارقات

بالتالي فالمسلسل يرى أننا مسيرون، رغباتنا الدفينة تقودنا في خطوط وحلقات وعُقد زمنية مترابطة متكررة لا تتغير، فالكون “ما هو إلا عقدة كبيرة لا يمكننا الفرار منها”. “فالحتمية السببية تمنعنا من تغيير مسار الأحداث، لكن من الطبيعي أن نعتقد أننا نلعب دورًا في حياتنا وأن أفعالنا يمكن أن تغير الأشياء”.

في مقاله، ربط “تيم بوهويس” هذا بعدمية نيتشه -العدمية التي تظهر جلية في نهاية المسلسل كما سنرى-، حيث يرى نيتشه بأن “كل ما يمكن أن نتوقعه في هذه الحياة هو المعاناة، لكن عجزنا في التعامل مع معاناة لا معنى لها يجعلنا نتوقع أسباب وتفسيرات للكون. هذه الجهود عقيمة، حيث لا يمكننا تقليل المعاناة، وكلما حاولنا ذلك، أضعفنا ذلك أكثر”.

ومن هنا رأت النخبة في مسلسل Dark -متمثلة في شخصية “آدم”- أنّ “الإله الذي تعبده البشرية منذ آلاف السنين، الإله الذي يبقي كل شيءٍ متماسكًا ليس سوى الزمن نفسه، ليس كيانًا يفكر ويتصرف، بل مبدأً فيزيائي لا يمكن التفاوض معه، الإله هو الزمن والزمن ليس رحيمًا”. وللخروج من هذا “العبث القاسي”، أعلنت النخبة “الحرب على الإله” من خلال منظمة سرية تدعى “Sic Mundus” والتي سنتحدث عنها باستفاضة في الفقرات القادمة.

وبالحديث عن الحتمية السببية ومنظمة Sic Mundus، فإنه تجدر الإشارة إلى أن صورة أفراد المنظمة تكون موجودة في كتاب “كيباليون” الهرمسي والذي يحتوي النص التالي: “يفهم الهرمسيون فن وأساليب الارتفاع فوق المستوى العادي للسبب والنتيجة، إلى حد معين، ومن خلال الصعود عقليًا إلى مستوى أعلى يصبحون مسببين بدلاً من أن يكونوا نتائج. تُحرَّك الجموع طوال الطريق، مذعنين للبيئة، لإرادة ورغبات الآخرين الأقوى منهم، للصفات الوراثية، للمقترحات؛ وغيرها من الأسباب الخارجية التي تحركهم مثل البيادق على رقعة الشطرنج للحياة. لكن الأساتذة، الذين يرتفعون إلى مستوى أعلى، يسيطرون على مزاجهم وشخصياتهم وصفاتهم وقواهم، بالإضافة إلى البيئة المحيطة بهم، ويصبحوا محركين بدلاً من أن يكونوا بيادق. يساعدون في لعب لعبة الحياة، بدلاً من يُلعبَ يبهم وتحركهم البيئة وإرادة الآخرين. يستخدمون مبدأ السبب والنتيجة بدلًا من أن يكونوا أدواته”.

لقد تم تضمين فكرة أن الزمن قادر على الخلق، من خلال المفارقات الزمنية كمفارقة (Bootstrap Paradox) حيث إن عاد شخصٌ بالزمن والتقى بنفسه وهو صغير وأعطى نفسه شيئًا ما فإن هذا الشيء لن يُعرف مصدره وسيكون جزءًا من حلقة زمنية غير منتهية (الكبير يعطي الشيء للصغير والصغير يكبر ويعطيه للصغير مرة أخرى … وهكذا)، وبنفس الطريقة، نجد الأم التي تنجب ابنتها وتكبر الابنة -بعد أن تسافر إلى الماضي- وتنجب أمها. ومع أن المفارقات الزمنية تصادم المنطق، إلا أن المسلسل يدّعي أنها تحدث معنا باستمرار.

بعد فشل خطة آدم الهادفة إلى التخلص من “هذا العبث القاسي” عن طريق تدمير عالمه والعالم الموازي له، يتم إعلامه -في النهاية- بأن الحل موجود في العالم الثالث، فهذين العالمين نشآ عن عالَم خارجهما، فيه “صانع ساعات” كان يجرب اخترع آلة زمن فأنشأ هذين العالمين عن طريق الخطأ.

تمثال كوبرنيكوس

فكرة وجود “صانع ساعات” ينشئ العوالم، مبنية على “الحتمية الميكانيكية” التي سيطرت على الفكر الأوروبي منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر إلى أن ظهرت فيزياء الكم ونظرية هايزنبرغ (اللايقين) في القرن العشرين، فأسقطت مبدأ الحتمية واستعاد الإنسان تواضعه. فقبل ذلك، “في النصف الثاني من القرن السادس عشر ومع شيوع نظرية كوبرنيكوس، وتقديم إسحاق نيوتن لقانون الجاذبية وقوانين الحركة، وما رافق هذه النظريات من اكتشافات علمية كبرى، تغيرت نظرة الإنسان للكون، وسيطرت النظرة الآلية الميكانيكية على العلماء والفلاسفة حتى أصبح الكون يُشبّه بالساعة، وهكذا تحول الإله في نظرهم إلى ساعاتي رفيع المقام، بل تخيلوه إلها ساكنا غائبا عن العمل، لأن قوانين الطبيعة والكون أصبحت حتمية فلم يعد للإله دور حسب فهمهم، لكنهم أبقوا مع ذلك على دور الإله الخالق في تكوين الكون بالبداية” [انظر مقال “العلمانية” من موسوعة السبيل]. وهذا ما قدمه مسلسل Dark، حيث اقتصر دور “صانع الساعات” على صناعة آلة الزمن وإنشاء العالمين، وتكفل “المبدأ الفيزيائي” -الزمن- بالباقي. بل أضاف المسلسل أن خلق العوالم كان بغير قصد، وأدى إلى خلل يجب التخلص منه.

من كان يعلم بفشل خطة آدم وأخبره بالحل بعد فشله، والذي أعطى صانع الساعات مخططات بناء آلة الزمن داخل العالمين، كانت “كلوديا” والملقبة بـ “الشيطان الأبيض”. وهذا ينقلنا للحديث عن البعد الشيطاني في مسلسل Dark:

“وهكذا خُلق العالم” – “Sic Mundus Creatus Est”
إن مسلسل Dark في جوهره يقدم تصوره عن العالم وكيفية خلقه، وهو تصور مبني على المعتقدات الغنوصية الهرمسية الشيطانية. فكل الحلقات والعقد الزمنية الناشئة بين العالمين (عالم آدم وعالم حواء) أصلها ابن آدم الناتج عن زواج آدم من عالم (والذي يرى الخلاص بحل العقد الزمنية ودمار العوالم) مع حواء من العالم الموازي (والتي تريد بقاء هذه العقد واستمرار الحياة لكيلا يموت ابنها)؛ بمعنى آخر، العالمان نشآ عن اتحاد الذكورة والأنوثة، النور والظلام، الموت والحياة وهذا من معتقدات الهرمسية والقبالاه (الباطنية اليهودية).

بالإضافة إلى أن الجمعية السرية التي يقودها آدم، تدعى Sic Mundus Creatus Est وهي عبارة لاتينية تعني: “هكذا خُلق العالم”، وهي مأخوذة مما يسمى “اللوح الزمردي” والذي يحتوي التعاليم الأساسية للهرمسية ومنه تطورت متون هرمس، التي هي أساس الباطنية الغربية والسحر والخيمياء حسب موسوعة السحر والخيمياء. ويظهر اللوح الزمردي في المسلسل، هو والعديد من الرموز الغنوصية الأخرى مثل شجرة الحياة القبالية، ورمز الأوروبوروس الثيوصوفي.

وبالعودة إلى الجمعية السرية، فقد أسسها “آدم” وأحد أبرز أعضائها كان يدعى “نوح”، وهذا يتوافق مع ما يزعمه الغنوصيون القباليون من أن فلسفتهم قديمة قدم البشرية، وأنها بدأت مع آدم عليه السلام نفسه، ثم نقلت عنه إلى نوح عليه السلام. وحتى مقر هذه الجمعية فهو موجود خلف كنيسة، وهذه دلالة على أنهم الجهة (الباطنية) المقابلة للدين الظاهر، وقد تم الإعلان صراحة بأن هذه الجمعية هي كيان يحمل فكرا مناقضا للدين ومحارب للإله.

قد يشير هذا الرمز إلى العوالم الثلاث، عالم النور (عالم حواء)، وعالم الظلام (عالم آدم)، وعالم “صانع الساعات”

والمحرك لهذه الجمعية من الخفاء كان “الشيطان الأبيض”، فلأن البشر لن يتخلوا عن رغباتهم، أبقى الشيطان آدم وحواء في ظلام (Dark) جهلهم، إلى أن نفذوا ما أرادوا، ليبين لهم أن لا جدوى مما يقومون به، ومن ثم منح “الشيطان الأبيض” الطيب العلم لآدم (وهذا بحد ذاته تصور شيطاني)، وأرشده إلى الحل لكسر العقدة وعلاج الخلل، والحل يكمن في التوجه إلى عالم “صانع الساعات” ومنع “صانع الساعات” من خلق هذين العالمين أصلًا.

فتصور مسلسل Dark عن الجنس البشري ووجوده، تصور سوداوي شيطاني، فآدم وحواء هما “خلل في المصفوفة”، “عقدة في الخيط، عقدة لا يمكن فكها لكن يمكن قطعها”، لا حل إلا بألا يوجدا أصلًا. والفردوس الذي أرادت جمعية ى Sic Mundus Creatus Est الوصول إليه، هو دمار العوالم، العدم. وحتى في آخر مشاهد المسلسل -في حلقة عنوانها “الفردوس”- خيمت العدمية على المشهد؛ الأصدقاء يتبادلون أطراف الحديث حول مائدة الطعام، جميعهم تمنوا الزوال! فالراحة كانت بانتهاء العالم ليتحرر الإنسان من كل شيء، من رغباته وحاجاته، في ظلام (Dark) لا نهائي، دون ماض أو حاضر أو مستقبل!

ختامًا.. لمسة نتفليكس
إن ما تقدم هو محاولة لتفكيك وتحليل جزء بسيط من مسلسل Dark المليء بالفلسفات والعقائد والأفكار الإلحادية الغنوصية، والتي حاول المسلسل تغليفها وتدعيمها باقتباسات الفلاسفة والعلماء كآينشتاين ونيتشه تارة، وبنظريات كفيزياء الكم وقط شرودنجر والأكوان المتعددة تارة أخرى. ورغم ذلك لم تنس نتفليكس وضع لمستها الخاصة، لذا فإن المسلسل المتخم بالأحداث لم يخل من إقحام المشاهد “غير اللائقة”، والترويج للشذوذ من خلال قس شاذ هنا، وفتاة شاذة هناك، بل حتى أنها استغلت فكرة السفر عبر الزمن لتُظهر أن السحاق منتشر في المجتمع منذ خمسينيّات القرن الماضي، كما أظهرت بطلي المسلسل يبكيان لأنهما لن يستطيعا الاستمرار سويًا حين اكتشف البطل أن حبيبته هي عمته، وأن حبهما سيتحطم بلا حولٍ منهما ولا قوة، لكي لا تمتلك حينها سوى التعاطف معهما ومقت ما أدى لانهيار حبهما، بل وربما سعدت لأجلهما لو أنهما تناسيا صلة القرابة وقررا الاستمرار سويًا.

فنتفليكس، منصة ذات رسالة شيطانية تحاول بثها بشتى الطرق وعلى كل المستويات، الصريحة والمبطنة، العقائدية والفلسفية والأخلاقية!