مقالات

البهائية وتأويلاتها الباطنية للقرآن الكريم (1 من 2)

عندما يكون هناك فراغ فكري تصبح الأمة نهبا للتيارات الوافدة عليها من كل حدب وصوب لملء الفراغ، وذلك على حساب عقائد الأمة التي يقوم عليها تراثها الفكري والحضاري، والأمة الإسلامية –بفعل عوامل عديدة لا مجال لبسطها في هذا البحث- عاشت حالة من الفراغ الفكري، سببه الرئيس الجهل بحقائق الإسلام ومبادئه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما مكن لكثير من الفلسفات المادية، والمذاهب الباطنية الهدامة، أن تجد لها مكانا في عقول بعض المسلمين، وتفسد عليهم تصوراتهم وما فيه حياتهم. وكانت البهائية من أبرز هذه المذاهب الخطيرة التي وجدت لها مكانا في ديار المسلمين، ولم تأت بجديد، إنما نبشت ما قبرته الأيام من ضلالات الإسماعيلية وغيرهم من الفرق والطوائف الباطنية الغالية “أي المتطرفة”، إضافة إلى ما ورثته من خرافات ديانة البابية.

الجذور التاريخية للبهائية
البهائية وريثةُ البابية التي تنتسب إلى الباب: علي محمد الشيرازي، والباب لفظة كثيرة التداول في أدبيات الفرق الباطنية، يطلقونها على بعض أركان دعواتهم، فالباب عندهم هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يوجد داخل البناء، فهو إذن واسطة للمعرفة، متخذين من حديث يتردد على ألسنة المسلمين يقول “أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها”[1] سندا لصحة مزاعمهم، ولم تشتهر هذه اللفظة بمثل ما شهرها به علي محمد الشيرازي، الذي أسمى نفسه الباب، وتبعه أناس تلقبوا فيما بعد بالبابية، وكان عدد من اجتمع حوله من كبار تلامذة الرشتي ثمانية عشر شخصا أطلق عليهم لقب أصحاب أو شهداء “حي”[2]، وأمرهم بالانتشار في إيران والعراق يبشرون به وبدعوته، وأوصاهم بكتمان اسمه حتى يظهره هو بنفسه، ثم عاد إلى إيران، وهناك أعلن عن دعوته، واشتهر اسمه، فثار المسلمون عليه، ثم جمع والي شيراز بينه وبين علماء إيران، فناظروه وأظهروا ما في دعوته من ضلال، فاعتقله الوالي في سجن شيراز، ولكن هذا الاعتقال لم يمنعه من الادعاء بأنه يوحى إليه، فقرر الوالي قتله لولا لجوء الباب إلى التقية، فأخفى معتقده وأظهر ما يخالف ذلك، ونفى أنه يزعم أنه واسطة بين الناس والإمام المنتظر، فأطلق الوالي سراحه، ليبدأ الدعوة لمذهبه من جديد، فأمر الشاه ناصر الدين باعتقاله، وفي معتقله ألف الباب كتابه “البيان”، وزعم أنه أوحي إليه به، وأنه ناسخ للقرآن الكريم، فثار عليه العلماء، وأصدر الشاه ناصر الدين أوامره بإعدام الباب، وعلقت جثته في ميدان عام بمدينة تبريز، ثم أخفى أتباعه جثته في تابوت ودفنوه خارج طهران، ثم نبشوا القبر وأخرجوا التابوت حين طلب عباس أفندي الملقب بـغصن الله الأعظم -نجل البهاء- نقل الجثة إلى ثغر “حيفا” في فلسطين حيث تم دفنه هناك[3]، ليصبح المكان فيما بعد قبلة للبابيين، ثم البهائيين، حيث تم دفن جثة بهاء الله بجوار الباب في بهجة الكرمل، على منحدرات جبل الكرمل.[4]

نشأة البهائية

مقر البهائية في حيفا تحت رعاية الكيان الصهيوني

البهائية نحلة ورثت البابية، لتعبد من دون الله “حسين علي بن الميرزا عباس المازنداني”، الملقب “بالبهاء”. عرف البهاء البابية على يد أحد دعاتها في طهران، وأصبح من كبار دعاتها. ولما دبر البابيون مكيدة لاغتيال الشاه ناصر الدين، تبين للحكومة الإيرانية أن للبهاء وإخوانه يدا في تدبير هذه المكيدة الفاشلة، فأودعوهم السجن ريثما يصدر الأمر بالقصاص منهم، إلا أن تدخل القنصل الروسي والسفير الإنجليزي لدى الشاه حال دون ذلك، فصدر الأمر بنفيهم إلى بغداد.

وصرح “بهاء الله” بأنه لم ينج من الأغلال والسلاسل إلا بجهود قنصل الروس، فقال في سورة الهيكل: “يا ملك الروس: ولما كنت في السلاسل والأغلال في سجن طهران نصرني سفيرك”[5].

وكان الباب قد أوصى بخلافته من بعده للميرزا يحيى الملقب بـ”صبح أزل”، وجعل أخاه الميرزا حسين “الملقب ببهاء الله” وكيلا له. وكاد البهاء بدهائه وبمساعدة بعض البابيين فرض زعامته على من تبقى من البابيين لولا حادث ذهب بأمانيه أدراج الرياح، وهو نفي البابيين من بغداد إلى إسطنبول وغيرها من البلاد، وذلك لأنهم يحتفلون في أول شهر المحرم من كل عام هجري بعيد ميلاد الباب، ففي أول المحرم من عام 1379هـ احتفل البابيون بهذا العيد، فاجتمعوا في حديقة تسمى “باغ رضوان”، أي جنة الرضوان، في جو مليء بمظاهر الفرح والسرور، فشق ذلك على الشيعة الإثني عشرية الذين يعتبرون هذا اليوم يوم حزن ومأتم، فاعتبروا فعلهم ذلك ازدراء بهم وبمعتقداتهم، ولولا تدخل الحكومة آنذاك، لفتك الشيعة بالبابيين، فاستقر الرأي على نفيهم من بغداد إلى إسطنبول التي لبثوا فيها أربعة شهور، ثم صدر الأمر بنفيهم إلى “أدرنة” وتسمى عند البهائيين بـ”أرض السر”، وفي أدرنة جهر البهاء بالدعوة إلى نفسه، ولفظ أخاه لفظ النواة، فوقع النزاع بين الشقيقين.

وانقسم البابيون إلى فرقتين: فئة انحازت إلى البهاء وتسمى: “البابية البهائية”، وفئة ظلت على عهدها مع الميرزا يحيى، الملقب بـ”صبح أزل” فسميت بـ”البابية الأزلية”، معتقدة أنه هو خليفة الباب، وأن “البهاء” ليس له من الأمر شيء إلا أنه وكيل الأزل ونائبه، فاحتدم الجدال ورأى “صبح أزل” أن الأمر سيفلت من يده، فدس السم لأخيه في طعامه، ولكنه نجا من هذه المكيدة، فشرع يراسل البابيين يدعوهم إلى اتباعه ويبين لهم أنه هو المنوه عنه في كتب الباب بـ”من يظهره الله”، بل هو الذي أرسله كما أرسل مظاهره من قبل، مثل: زرادشت، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، والباب. ولما أفضى الأمر إلى الجدال فالقتال بين الوكيل والأصيل، خشيت دولة الخلافة أن تضطرم بـ”أدرنة” نيران الفتنة، فاتفقت وسفير الشاه على تغيير منفى القوم، والتفريق بين الأخوين، فنفت “البهاء” ومن تبعه إلى مدينة “عكا” في فلسطين، وسجنتهم في قلعتها، ونفت “صبح أزل” وأتباعه إلى جزيرة قبرص، وسجنتهم في قلعة “فاماغوستا”، ثم أطلقت سراح الأخوين وأتباعهما فيما بعد، على أن لا يغادر أحد منهم منفاه.

عبد البهاء

ثم ادعى كل منهما أنه رسول مستقل، لا خليفة الباب ولا نائبه، وأن الله تعالى قد بعثه رحمة للعالمين بشريعة جديدة، ناسخة لما بين يديها من الشرائع، وجاء كل منهما بكتاب زعم أنه وحي من الله لتصديق دعوته وتكذيب دعوى أخيه، ولم يلبث أن خفت صوت “صبح أزل”، وتفرق عنه أشياعه، وقوي بالتالي أمر “البهاء” وامتد نفوذه، وبعد أن كان يدعي أنه خليفة الباب أصبح يزعم أنه المهدي، ثم ادعى النبوة، فالربوبية والألوهية، إلى أن هلك في ثاني ذي القعدة سنة 1309هـ الموافق لـ28 / 5 / 1892م، فخلفه ولده الأكبر الميرزا عباس، الذي تلقب في حياة والده بـ”غصن الله الأعظم”، وبعد هلاك أبيه بـ”عبد البهاء”، ولم يمض وقت طويل حتى غير عبد البهاء أحكام شريعة أبيه، وادعى النبوة، فالربوبية.

شذرات من أحكام شريعة البهاء
يزعم البهاء كسلفه الباب، أن شريعته ناسخة لما سبقها ولشريعة الباب كذلك، بل أنشأ دينا جديدا هو مزيج عجيب من العقائد السماوية والوضعية، كحل وسط بين الأديان، وكطريقة عملية لإشاعة السلام في الأرض كما يدعي، ففي البهائية آيات من القرآن الكريم، ونصوص من التوراة والإنجيل، واقتباسات من الهندوسية، والكنفوشيوسية، والبوذية. ويؤولون هذه الاقتباسات بما تقتضيه ديانتهم الجديدة، التي وصفوها بأنها لا تنتمي إلى ديانة معينة بالذات، ولا هي فرقة أو مذهب، وإنما هي دعوة إلهية جديدة، من شأنها أن تختم الدورة السابقة أي: الرسالة الإسلامية.

حكم الصلاة في كتاب الأقدس: “قد فرض عليكم الصلاة من أول البلوغ أمرا من لدى الله ربكم، ورب آبائكم الأولين، من كان في نفسه ضعف من المرض أو الهرم، عفا الله عنه فضلا من عنده، إنه لهو الغفور الكريم. ومن لم يجد الماء يذكر خمس مرات بسم الله الأطهر ثم يشرع في العمل، هذا ما حكم به مولى العالمين. وكتب عليكم الصلاة فرادى، قد رفع حكم الجماعة، إلا في صلاة الميت، إنه لهو الآمر الحكيم.”[6].

قبلة البهائيين: “إذا أردتم الصلاة ولوا وجوهكم شطري الأقدس، المقام المقدس- أي عكا- الذي جعله الله مطاف الملأ الأعلى، ومقبل أهل مدائن البقاء، ومصدر الأمر لمن في الأرضين والسموات”[7].

وفرض الحج على الرجال دون النساء، ولهم ثلاث مزارات يقدسونها ويحجون إليها: الأول: في شيراز، وهو المكان الذي ولد فيه الباب. والثاني: في بغداد، وهو المكان الذي جهر فيه البهاء بدعوته. والثالث: في عكا، حيث دفن بعد هلاكه.

وجعل البهاء الصيام تسعة عشر يوما في شهر العلاء، ويكون عيد الفطر عندهم موافقا: لما يسمى بـ”عيد النيروز”.

أما حكم الزكاة عندهم: فقد بينه البهاء في “الأقدس” فقال “والذي يملك مئة مثقال من الذهب، فتسعة عشر مثقالا لله فاطر الأرض والسماء، إياكم يا قوم أن تمنعوا أنفسكم عن هذا الفضل العظيم”[8].

وحرمت البهائية على أتباعها الجهاد، وفرضت على أتباعها الدعوة إلى السلام، وعدم اللجوء إلى الحرب والقتال.


الهوامش

 [1] – حديث مضطرب غير ثابت، كما قال الدار قطني في العلل، وقال البخاري: ليس له وجه صحيح. وقد أسهب العجلوني في الحديث عنه في كشف الخفاء ج1/ ص 213. “رقم: 618”.

 [2] –   الحاء بحساب الجُمَّل تساوي: “8”، والياء تساوي: “10” ويضاف إلى الرقم “18” الباب نفسه فيصبح العدد: “19” فصار هذا الرقم مقدسا عند البابيين والبهائيين. انظر: مسيلمة في مسجد توسان: ص 46. وقراءة في وثائق البهائية: ص 250، 251. والبابية عرض ونقد: ص 62.

 [3] –  انظر: مفتاح باب الأبواب ص 246-247.

 [4]  – انظر: الحراب في صدر البهاء والباب، ص 219.

 [5] – البابية، عرض ونقد، ص 63.

 [6] – انظر: الحِراب في صدر البهاء والباب: ص 272.

 [7] – انظر: الحراب في صدر البهاء والباب، ص 271.

[8] – انظر: الحراب في صدر البهاء والباب: ص 278.

الجمعيات السرية

تعود جذور الجمعيات السرية إلى عصور قديمة يصعب تتبعها، حيث يدعي بعض أعضائها اليوم انتسابهم لأنظمة وضعت أصولها منذ ما قبل التاريخ، بل يزعم آخرون -كما سنرى لاحقا- أن أول البشر آدم قد أسس بنفسه أولى جمعياتهم لتكون رديفا لسيرورة حياة البشر، وكأن هناك خطين متوازيين لا ثالث لهما يحكمان التاريخ، وهما مسار الحياة الظاهر بكل صراعاته وتذبذب صعوده وهبوطه، ومسار الأسرار الباطني الخفي الذي لا يزال يحتفظ بأسراره في أيدي “النخبة”.

وبما أننا نتحدث عن جمعيات تقوم على السرية والرمزية، وهي تعترف بذلك وتتشبث به، فنحن إذن أمام مادة غامضة للبحث، فليست هناك مصادر موضوعية أو أكاديمية يمكن الوثوق بها كما هو الحال في أي مادة أخرى تخضع للدراسة، وهذا هو السبب الذي يدفع الكثير من الجامعات لرفض مقترحات الطلاب بتقديم أطروحات علمية تبحث في الجمعيات السرية.

وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يُكتب عن هذه الجمعيات ضرب من التخمين، فالتحريات التي يجريها محققو البحث الجنائي والصحفيون الاستقصائيون لا تختلف كثيرا عن هذا النوع من البحث، حيث يمكن للباحث أن تجتمع لديه خيوط كثيرة تؤدي إلى حقيقة واحدة مهما كانت حريصة على التخفي. والعلم التجريبي نفسه يُسلّم بوجود الإلكترونات ومكونات الذرة الأخرى بالرغم من الاعتراف باستحالة رؤيتها لأنها أصغر حجما من الموجات المرئية، إلا أن آثارها في الواقع تدفعنا للاعتراف بوجودها.

وعليه؛ فإن الآثار التي تتركها بصمات الجمعيات السرية في الدين والفكر والسياسة والإعلام ومسار التاريخ وميادين كثيرة قد تدفعنا للجزم بحقائق ينكرها أتباع تلك الجمعيات.

أما من يؤمن بالوحي القرآني ويعلم أنه منزل من عند الله فسيجد أدلة أخرى تمنحه اليقين ببعض حقائق تلك الجمعيات السرية وأدوارها الخفية.

لماذا اللجوء إلى السرية؟
تتعدد التفسيرات والنظريات التي تحاول فهم طبيعة هذه الجمعيات وسبب لجوئها إلى السرية، وربما يمكننا إجمالها فيما يلي:

مردوخ

1- يزعم كثير من المؤرخين أن هناك فئة من الناس لجأت إلى السرية عبر التاريخ هربا من اضطهاد الأكثرية، وأنها أخفت طقوسها الدينية الخاصة بها لتحظى ببعض الخصوصية دون أن يكون هناك أي بعد تآمري للإضرار بالمجتمع. ومن الأمثلة التي يقدمونها لهذه الرواية لوح طيني اكتشف في بابل بالعراق ويزيد عمره عن أربعة آلاف سنة، وهو يتحدث عن عبادة سرية متفرعة عن العبادة الرسمية للإله مردوخ، حيث يقدم قصة أخرى لصراع الآلهة، ثم يصف طقوسا خاصة لأتباع هذه الجماعة السرية لتمثيل أدوار المسرحية التي تقام في عيد رأس السنة وتُجسد فيها صراعات الآلهة، ويختتم النص المنقوش بعبارة “إن المعاني الخفية لهذه الأفعال لا يجوز أن تقرأ من قبل الذين لم يدخلوا في هذه العبادة رسميا ووفق الطقوس المنصوصة”.

ويبدو أن تفسير هذا النص يختلف بسبب اختلاف المنهج نفسه كما أوضحنا في مقال “البحث في الدين“، فالمنهج الإلحادي الذي لا يعترف بوجود الغيبيات لن يجد في هذه الطقوس سوى تصرفات خرافية، أما من يؤمن بالوحي وبحقيقة وجود الجن والشياطين فسيرجّح ارتباط هذه الطقوس بالسحر.

وينبغي التذكير بأن بعض الطقوس والنصوص السرية قد تكون هي أصلا لب الدين نفسه، وليست مذهبا باطنيا منشقا عنه، أي أن بعض الأديان قائمة بذاتها على جوهر سري خفي، وأن كهنتها يظهرون لأتباعهم ما يريدون إظهاره فقط.

2- يزعم فريق آخر أن هناك فئة من الحكماء كانت تحتكر الحكمة الصحيحة التي لا يقدر العوام على فهمها منذ آلاف السنين، فاضطرت تلك النخبة لإخفاء وترميز علومها لحمايتها من التشويه والتحريف ومن الوقوع في أيدي الأشرار. ونجد تحت هذا الزعم عددا كبيرا من النظريات المتداولة عبر شبكة الإنترنت، ومنها مثلا أن النخبة كانت تحتفظ في حضارتي أطلنطس وراما الأسطوريتين بأسرار تكنولوجية أكثر تطورا مما نشهده اليوم، وكانت تستخدمها للتغلب على الجاذبية والسفر عبر الكواكب ورفع الحجارة العملاقة لبناء الصروح الهائلة مثل الأهرام وتشغيل الآلات بنوع خاص من الطاقة، ويقال إن هذه النخبة رمّزت علومها وأسرارها في طريقة بناء الهياكل والصروح التي بقيت قائمة حتى اليوم في مصر والهند وأمريكا الجنوبية والعراق، كي يتمكن أحفادهم بعد آلاف السنين من استخراج تلك العلوم والاستفادة منها، لا سيما وأن القدماء خافوا عليها من الاندثار بفعل الطوفان الذي حدث في عصر نوح وغيره من الكوارث.

ويجتهد أصحاب هذه النظريات في استخراج الرموز العميقة من تماثيل أبو الهول وإيزيس والمعابد العملاقة ومقارنتها بمعايير هندسية مثل النسبة الذهبية وبغيرها من الحقائق الفلكية والفيزيائية، كما يربطون بعض الاكتشافات المذهلة التي توصل إليها القدماء بكائنات فضائية يفترضون أنها هبطت إلى الأرض وأنها هي ذاتها كائنات الأنوناكي التي ذُكرت في الأساطير العراقية. ويذهب البعض إلى افتراض أنها كائنات من الزواحف نصف البشرية التي ما زالت تعيش على الأرض وتدير العالم في الخفاء، بينما لا يقدم أصحاب هذه النظريات أية أدلة علمية تربط “المشاهدات” المزعومة والروايات ببعضها.

مانلي هول

ويجدر بالذكر أن كبار المؤلفين المنتسبين إلى الماسونية وغيرها من الجمعيات السرية بدأوا بطرح هذه النظرية في وسائل الإعلام والأوساط الثقافية منذ بدايات القرن العشرين، وهو طرح يتزايد بثه باستمرار مع تزايد الانفتاح في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات الحالية، حيث بات من الصعب إخفاء أسرار تلك الجمعيات ومخططاتها، ولا سيما بعد نشر عدة كتب رصينة ألفها منشقون عن الجمعيات أو صحفيون تسللوا إلى محافلها وفضحوا ما يجري فيها، فلم تعد ملاحقة هؤلاء وقتلهم سياسة مجدية كما كانت في الماضي، فبدأت تلك الجمعيات بفتح أبواب محافلها أمام كاميرات الصحفيين لتصوير بعض طقوسها، مع الاعتراف بأن التصوير لا يطال كل ما يجري هناك وأن السرية ما زالت قائمة جزئيا، كما نشط منتسبوها في نشر الكتب والأفلام الوثائقية والسينمائية التي تزعم أن الماسونية وأمثالها لم تعد سرية كما كانت، وطرحوا فيها ما يزعمون أنه حقيقة تلك الأسرار التي احتفظوا بها آلاف السنين. ويعد الماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي هول من أوائل المؤلفين في هذا الباب عندما نشر كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” عام 1928، حيث زعم فيه أنه كشف كل ما كان يخفى عن الناس من “الحكمة” المتوارثة منذ عصور سحيقة، وهو كتاب مليء بالمغالطات التي لا تستند إلى دليل، وفيه الكثير أيضا من المزاعم التي لا يمكن لأحد إثباتها، فضلا عما فيه من إخفاء وتضليل لحقيقة الماسونية.

سلسلة أفلام “كنز وطني” من إنتاج شركة ديزني تعد من أهم محاولات هوليود الأخيرة لتلميع صورة الماسونية

ومن مظاهر هذه الحملة أيضا تحويل الجمعيات السرية إلى مادة للترفيه في أفلام هوليود، بحيث تُنزع عنها تهمة التآمر والخبث تحت وقع الكوميديا السوداء، بحيث يصبح أي ربط بين عوالم السر وبين التآمر مجرد خضوع “للفكر التآمري” وانعكاس لعقدة البارانويا ضد عدو وهمي.

ولكي تثمر هذه الحملة، كان لا بد من ضخ تلك الكتب والأفلام بأعداد لا تحصى، ففي كل عام تصدر عن دور النشر عشرات الكتب التي تزعم كشف المزيد من الأسرار والخفايا عن تلك الجمعيات، فضلا عن خلط الحق بالباطل، ما أدى في النهاية إلى نفور الكثيرين من الاطلاع على تلك المعلومات واعتبارها مجرد لغو لا يثمر أي نتيجة مفيدة.

3- ومن أسباب العمل السري أيضا اضطرار الحركات المقاومة للمحتل أو المعارضة للحكم إلى التخفي لحمايتها من القمع، فالهدف في هذه الحالة سياسي لا ديني، ومن الأمثلة المشهورة في العصر الحديث لهذه الحركات الجمعيات القومية الكاثوليكية الأيرلندية التي نشأت في القرن الثامن عشر لمقاومة حكم الأقلية البروتستانتية، كما نشأت على شاكلتها جميعات إيطالية قومية في أوائل القرن التاسع عشر لمقاومة السيطرة الأسبانية والنمساوية التي دامت نحو 250 سنة، لكن الجمعيات الإيطالية سرعان ما اندمجت بجميعات الكاربوناري وصارت جزءا من الماسونية، فلم تعد مجرد حركات ثورية لمقاومة المحتل بل تم تحريكها لأهداف الماسونية العالمية نفسها.

4- يرى فريق آخر أن ظهور الجمعيات السرية يعود أصلا إلى أسباب نفسية واجتماعية فقط، فالإنسان يسعى إلى التمرد على الطبيعة بالبحث في عالم المجهول السحري، وينجذب تلقائيا إلى التنجيم والباراسيكولوجي والتصوف، وقد يجد في رموز وطقوس الجمعيات الغامضة ما يشبع نهمه هذا.

ويقول أرسطو إن مغزى ممارسة الطقوس السرية لا يكمن في تعلم شيء ما فقط بل في مكابدة تجربة التغيير، ويعلق المؤلف نورمان ماكنزي في كتاب “الجمعيات السرية” عليه بالقول إن التغيير ليس مجرد رقي روحي ونشوة بل يُفهم على أنه بعث جديد، حيث يتم تجسيده في مسرحيات شعائرية يلعب فيها العضو الجديد دور المشارك والمشاهد، وهكذا يشعر العضو بأن السرية تمنحه طريقة تجعله استثنائيا ومختلفا عن عوام الناس، وأن لديه من الذكاء والحكمة ما يجعله في طبقة الصفوة. وهذا التفسير قد يصح فيما يتعلق بدوافع الأعضاء في الانتساب لتلك الجمعيات، ولكنه لا يبرر ظهور تلك الجمعيات أصلا، فقد يكون العضو المبتدئ مغررا به فعلا لكن القادة ليسوا كذلك بالضرورة.

ويرى هذا الفريق أن الذين يفشلون في التعامل مع العصر الحديث، بما فيه من مظاهر الاغتراب والقلق نتيجة الصراعات السياسية والتطور المتسارع، يلجؤون إلى اتهام الجمعيات السرية بوضع المؤامرات وتنفيذها.

ويتماشى هذا التفسير مع المنهج الإلحادي لدراسة الأديان [انظر مقال البحث في الدين]، فهو ينطلق من مبدأ استبعاد الجانب الروحي الغيبي من البحث، ويحاول إعادة كل ما يراه في نشاط الجمعيات السرية أو في ما ينسب إليها من مؤامرات إلى عوامل طبيعية واجتماعية لاإرادية، وكأن تلك الجمعيات مفعول بها وليست فاعلا لأي شيء يذكر. ونجد لهذه الفكرة أساسا لدى منظري الماركسية والرأسمالية على حد سواء، فهناك قانون حتمي لصراع الطبقات لدى الماركسيين، وقانون مماثل لدى النيوليبراليين يؤدي إلى صراع الحضارات، وهناك أيضا “يد خفية” تحرك المجتمع والاقتصاد نحو نهاية محتومة حسب الرؤية الرأسمالية الكلاسيكية، وليس للإنسان -فضلا عن الجمعيات السرية- دور في تغيير هذا الحراك أو تحريك مساره، حسب رأيهم.

عبد الوهاب المسيري
(موقع المسيري)

وهذا التفسير هو السائد اليوم في الساحة الثقافية الغربية، وهو الذي يتلقى الدعم إعلاميا وأكاديميا حول العالم، وصار له أتباع كثر في العالم الإسلامي خلال العقود الأخيرة، ويُعد المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أحد أبرز منظريه، فهو ينفي عن الحركات السرية أي بعد ديني تآمري، ويكاد ينفي أي تأثير لها على أرض الواقع، بل يرى أنها نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي والسياسي، ويتجاوز دراسة الجانب الخفي لهذه الجمعيات إلى دراسة “الفكر التآمري” لدى من يقرون بوجود مؤامرة حقيقية في مشروع تلك الجمعيات، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون وهما في خيال الناس، كما هو حال الدين نفسه الذي يعتبره الملحدون واللادينيون مجرد وهم وليس له أي وجود موضوعي، وقد ظل المسيري متمسكا بقناعته بعد انتقاله من الماركسية إلى الإسلام، وتابعه في ذلك كثير من الإسلاميين الذين باتوا يبثون هذه الأفكار بقوة في الساحة الثقافية، وفي غلاف إسلامي أحيانا. [انظر كتاب اليد الخفية].

5- أخيرا، هناك فريق لا ينكر وجود الفكر التآمري، ويقر بأن المبالغة في ربط الأحداث بالجمعيات السرية ليس صائبا في كل مرة، كما يرى أن العديد من الجمعيات وُجدت لمقاومة العدو أو المحتل، أو لأهداف إنسانية أو بدوافع نفسية واجتماعية. لكن هذا كله لا يغطي الجمعيات السرية كلها، بل جانبا منها فقط.

ويستتند هذا الرأي إلى اعترافات كثير من المنشقين عن المحافل السرية، وتسريبات المتسللين إلى داخلها، مع ربط الحوادث التاريخية بما وضعه مؤرخون وشهود عيان على مجريات الأحداث، ولا سيما في القرون الثلاثة الأخيرة. كما يجد هذا الرأي ما يدعمه في نصوص الوحي القرآني، وهو ما يعطيه درجة اليقين ويغنيه عن الاكتفاء بالجدل الفلسفي لمن يؤمن بالوحي.

وتتفرع عن هذا الرأي نظريات تحتمل النظر والنقد كغيرها، لكن إطارها العام يربط غالبا النزوع إلى السرية مع المبادئ المعلنة الخارجة عن تعاليم الوحي بعالم السحر، فالسحرة كانوا طوال التاريخ أكثر الناس انطواءً وبعدا عن المجتمع، ولا يخفى ارتباط أنشطتهم بالأذى والشر والتآمر. ولا ينكر منظرو فك الرموز السرية المعاصرون الجانب السحري في علومهم، بالرغم من التلاعب في تقديم التفسيرات والمبررات.

وقد أوضحنا في مقالات “الإنسان والدين” و”الوثنية” و”الباطنية” تفرع التاريخ الإنساني إلى مسارات موازية لمسار الوحي. وبالعودة إلى إحدى روايات التأويل فقد بدأ السحر في وقت مبكر من عمر البشرية، وذلك في عصر النبي إدريس، وتزامن مع الجنوح عن سبيل الوحي كما يقول الحديث القدسي الذي رواه مسلم “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم”، وسنجد في هذا المقال وفي مقالات “القبالاه” و”فرسان الهيكل” و”الماسونية” مزيدا من التفاصيل عن هذا الارتباط.

تاريخ الجمعيات السرية
يقول المؤرخ الماسوني الراحل جرجي زيدان (1861- 1914) في بداية كتابه “تاريخ الماسونية العام” إن هناك أقوالا كثيرة بخصوص نشأة جمعية الماسونية المعاصرة، فبالرغم من إقرار أتباعها بأنها خرجت في القرن الثامن عشر من عباءة جمعية الصليب الوردي التي تأسست سنة ١٦١٦، إلا أن الجذور تعود إلى ما هو أقدم بكثير، فهناك من يعود بتاريخها إلى الحروب الصليبية، وآخرون تتبعوها إلى القرن الثامن قبل الميلاد في اليونان، وآخرون قالوا إنها نشأت في هيكل سليمان، وفئة قالت إن منشأها يعود إلى بدايات الكهانة المصرية والهندية، وهكذا إلى أن زعم البعض أن مؤسسها هو آدم نفسه، وأن الخالق هو الذي أسَّسها في جنة عدن، وأن الجنة كانت أول محفل ماسوني، ويعلق زيدان على ذلك بقوله إنها أقوال مبنية على الوهم.

جرجي زيدان

كان زيدان يعمل في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة، وقد رافق القوات الإنجليزية التي حاولت قمع ثورة المهدي في السودان، فهو عضو أصيل في الحملة الدعائية للماسونية التي بدأت في أواخر القرن الماضي بمحاولة إقناع الناس بأن الحركات السرية قد تخلت عن سريتها المريبة وكشفت تاريخها وحقائقها للناس. لذا لا يمكننا الوثوق بمحاولة نفيه للعلاقة بين الماسونية والحركات السرية القديمة التي أرّخ لها في كتابه.

يصف زيدان في كتابه طقوس قبول المنتسب إلى “جمعية إيزيس السرية” في مصر القديمة، حيث يتحقق الكهنة من أهليته للالتحاق بهم وحفظ أسرارهم، ثم “يسومونه عند القَبول مشقات عظيمة تختلف بين تخويف وتهديد”، فإذا اجتازها بدأت مراسم الاستقبال، فيحقق معه كاهن يحمل اسم الإله أوزيريس، وبعد الانتهاء منه ينتقل العضو الجديد إلى قائد متنكر على رأسه غطاء كرأس الكلب، فيذهب به في دهاليز مظلمة إلى مجرى مائي، فيسقيه كأسا من “ماء النسيان” لينسلخ عن كل ماضيه ويبدأ حياته عضوا في الجمعية من جديد. وبعد انتهاء المزيد من الفعاليات الاحتفالية يبدأ تلقينه “الأسرار المقدسة”.

ويقول زيدان إن أول من نقل أسرار الجمعيات السرية إلى أوروبا هو أورفيوس الذي كان عضوا في الجمعية الإيزيسية بمصر، ثم عاد إلى بلاده في منطقة تراسيا (بلغاريا ورومانيا بأوروبا الشرقية حاليا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ونشر تعاليمها هناك. وبعد وفاته أسس تلاميذه “مجمع إلوسينيا” في إلوسيس باليونان، وابتكروا لأنفسهم طرقا جديدة في مراسم قبول الأعضاء بما فيها من أساليب غسل الأدمغة بالترهيب والتهديد، حيث يُمرر العضو الجديد على مواقع مليئة بالوحوش والأفاعي وحمم النيران والأصوات المخيفة بمراحل مدروسة، ويُزرع في عقله أن هذا هو الجحيم أو صورة عنه، ثم يُنقل إلى موقع يملؤه النور والأمان ليستقبله الكاهن ويلقنه الأسرار في أجواء احتفالية، وكأنه بلغ بذلك الجنة.

ويُطلب من العضو الجديد قبل خوض التجربة المرعبة أن يغتسل أولا بالماء والدم، وأن يقدِّم ثورا أو كبشا كأضحية، فإذا نجح في قبول عقيدتهم تم تعميده بالماء كما يُعمد المسيحيون اليوم في الكنائس، ومنحوه اسما جديدا سريا يُعرف به في مجتمعه الصغير بعيدا عن حياته الطبيعية، وهذه الطقوس تدل بوضوح على الخلفية الشيطانية لهذه الجمعية، فهي لا تختلف كثيرا عما يمارس في طقوس عبادة الشيطان المعلنة في عصرنا الحديث، وهو أمر لا يذكره زيدان.

ويقول زيدان إن تعاليم هذا المجمع انتشرت في سائر المدن القديمة مثل فينيقية (لبنان) والهند ومصر وسوريا واليونان وغيرها، حتى قيل إنها أصلٌ لجميع تعاليم المجامع السرية القديمة في العالم، مؤكدا أن حيرام ملك صور كان أحد كبار الكهنة فيها.

ويضيف زيدان أن هذه التعاليم انتشرت أيضا في المجتمع اليهودي عندما بُعث المسيح بينهم في فلسطين، فكان أتباعها يُعرفون باسم طائفة الأسينيين، إذ نجد في رؤيا يوحنا بالإصحاح الثاني (عدد ١٧) من الكتاب المقدس قوله “فَلْيسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن الخفي، وأهبه حصاة بيضاء منقوشا عليها اسم جديد لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه”، في دلالة إلى مراسم قبول العضو في مجمع الإلوسينيا حيث يُكتب اسمه السري على قطعة حجر يحتفظ بها حتى موته، وكأن مفاهيم الجمعيات السرية تسربت أيضا إلى الكتب السماوية التي تم تحريفها لاحقا.

ويُسهب زيدان في إظهار أتباع هذه الطائفة بمظهر المتقشفين المنقطعين عن الدنيا وملذاتها، وكأنهم مجموعة من الناسكين الزاهدين المنقطعين لاكتشاف المعرفة، فضلا عما يتمتعون به -حسب زعمه- من أخلاق راقية وتضحيات عظيمة فيما بينهم.

وما زالت طقوس العبادة الإلوسيسية السرية ماثلة حتى يومنا هذا بوضوح على جدران “فيلا الأسرار” Pompeii Villa of Mysteries في مدينة بومبي الإيطالية، حيث طمرت تحت الرماد منذ ثوران البركان المفاجئ قبل الميلاد بنحو ثمانين عاما لتبقى محفوظة حتى تُكتشف في عصرنا الحديث، إذ يبدو أن العبادة السرية لإله الخمر والنشوة “ديونيسوس” كانت مسيطرة على المنطقة، لا سيما وأن اقتصاد بومبي كان قائما على الدعارة، حيث تقدم لنا آثارها المحفوظة بدقة تثير الدهشة صورة واضحة عن تغلغل الجنس في حياة الناس إلى أقصى درجة.

فيلا الأسرار التي طمرها الرماد لأكثر من ألفي سنة، وهي تبدو اليوم في حالة جيدة بل تفاجؤنا أيضا بطرازها المعماري الذي لا يختلف كثيرا عن العمارة الحديثة، بل مازالت جدران الفيلا تشرح بالرسوم الملونة طقوس انضمام امرأة إلى عبادة ديونيسوس السرية (ElfQrin)
منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن

الهرمسية
تحدثنا بإيجاز في مقال “الباطنية” عن النظريات التي تحاول كشف حقيقة شخصية هرمس وما ينسب إليها من مؤلفات وعلوم، وهي شخصية بالغ الباحثون في تعظيمها حتى قال فرانسيس باريت في كتابه “سيرة تاريخية قديمة”: “إذا كان الإله قد تجسّد فعليا في هيئة إنسان، فلم يكن ذلك سوى بشخص هرمس”، وقلنا إنه من الراجح أن تكون تلك الشخصية صورة محرفة عن شخصية النبي إدريس عليه السلام، بعد أن نُسبت إليه تراكمات من العلوم والخرافات والفلسفات الوثنية والسحرية.

أفرد الماسوني مانلي هول في كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” فصلا لتعاليم هرمس التي تحتل مكانة مهمة لدى الماسون، وقال إن البعض يعتبر أن هرمس هو ذاته الإله الإغريقي هرمز Hermes، وأنه هو نفسه الإله المصري تحوت Thoth أو توتي Tuti، الذي كان إله القمر أيضا، حيث رُسم على هيئة رأس طائر أبو منجل مع قرص وهلال القمر، وبما أنه دين باطني غنوصي سري، فقد أطلق عليه الكهنة -في الصيغة المعلنة للناس- إله الحكمة والأبجدية والزمن، بينما كان له وجه آخر في المعابد السرية والطقوس الخفية.

عصا هرمس

وبحسب كتاب مانلي هول، احتوى “كتاب تحوت” المقدس على الإجراءات السرية التي يمكن من خلالها “إعادة إصلاح البشرية”، وهو كتاب يصعب فك رموزه الهيروغليفية الغريبة, إلا أنه يمنح مستخدميه القادرين على فهمه “قوة غير محدودة على الأرواح العلوية والسفلية”، حيث يمكنهم تضخيم وعيهم البشري ورؤية الكائنات الخالدة  Immortals والدخول إلى حضرة الآلهة الأسمى، وبما أن هول ماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين؛ فهو لا يعترف لعامة القراء بأن هذه الطقوس ليست سوى أعمال سحرية لاستحضار الشياطين.

أحد مؤلفات الشيطاني المعروف أليستر كراولي عن أسرار تحوت

ويضيف هول أن هناك أسطورة تقول إن “كتاب تحوت” كان في صندوق ذهبي في الحرم الداخلي للمعبد، ولا يمكن لأحد الوصول إليه سوى الأستاذ الأعظم، ويقول أيضا إن ذلك المعبد قد أزيل وتشتت أعضاؤه، إلا أن كتابهم هذا مازال محفوظا حتى اليوم، ويكتفي بالقول “لا يمكن تقديم أي معلومة إضافية للعالم حاليا، ولكن يجب الانتباه إلى أن الخلافة الرسولية المتسلسلة من عهد الأستاذ الأعظم الذي انتسب على يد هرمس شخصيا مازالت مستمرة حتى اليوم، ويمكن للأشخاص المميزين والملائمين لخدمة الخالدين [أي الشياطين] أن يجدوا هذا المخطوط النفيس الذي لا يقدر بثمن إذا اجتهدوا في البحث عنه بإخلاص”.

قارة أطلانطس
ينسب مؤرخو الجمعيات السرية أصول الكثير من “الحكمة” السرية إلى قارة أطلانطس المفقودة، وهي جزيرة هائلة الحجم ورد ذكرها في كتاب “محاورة تيماوس” للفليسلوف اليوناني أفلاطون، حيث زعم أن الفيلسوف سولون الذي مات قبله بنحو 150 عاما، أي في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، سمع قصة القارة المندثرة من كهنة مصر ثم نقلها إلى اليونان شفهيا، وكان أفلاطون أول من وثقها لتبقى محفوظة إلى عصرنا الحالي.

أفلاطون

وبحسب هذه الرواية، فإن أطلانطس كانت جزيرة بحجم شمال أفريقيا وآسيا الصغرى، وتقع خلف “أعمدة هرقل” أي مضيق جبل طارق، فهي تحتل مكانا كبيرا من المحيط الأطلسي، وكانت قد اندثرت قبل الميلاد بنحو 9500 سنة، حيث كانت أشبه بالجنة على الأرض، ففيها من الحضارة والخيرات ما يحلم به كل إنسان، ثم بدأ ملوكها بالطمع في احتلال بلاد أخرى، فاحتلوا شمال أفريقيا، ثم هاجموا مصر وأثينا (اليونان)، وكانت نهاية تلك الحضارة بسلسلة من الزلازل والفيضانات التي أغرقت القارة كلها في البحر. [حضارات مفقودة، ص 17- 20].

ومما يهمنا من هذه الأسطورة أنه كان يحكم أطلانطس عشرة ملوك، وهم يمثلون مثلث “تيتراكتيس” الذي ترسم فيه عشر نقاط، وهو المثلث الذي قدّسه فيثاغورس بعد اقتباسه من مدرسة القبّالاه السحرية كما سيمر بنا لاحقا. وتضيف الأسطورة أنه كان في وسط أطلانطس معبد ديانة الحكمة هرمي الشكل، الذي يقع على هضبة مرتفعة في وسط مدينة البوابات الذهبية، ويقول أتباع الجمعيات السرية إنه أصل المعابد والهياكل والمحافل التي انتشرت لاحقا في قارات العالم من أمريكا الجنوبية مرورا بمصر إلى الهند.

ومن اللافت أن أفلاطون لم يوضح ما إذا كانت القصة خيالية أم حقيقة، كما أنه أسهب في رواية تفاصيلها دون ذكر مغزاها، وذلك على غير المعتاد في محاوراته الفلسفية، ما دفع البعض للاعتقاد بأنه كان يتحدث عن قصة حقيقية وليس من أجل ضرب الأمثلة الفلسفية. وسواء كانت قصة حقيقية أم خرافة، فقد وجد أتباع الجماعات السرية في القارة المندثرة فرصة لإلصاق جميع علومهم وأسرارهم وأكاذيبهم بأصل حضاري عريق، ما ينفي عنهم تهم الاتصال بالشياطين والاقتباس منهم.

لكن قصة أفلاطون تواجه تحديات كثيرة، فالمفترض أن سكان أطلانطس أنشأوا حضارة في غاية التقدم قبل 11500 سنة من يومنا هذا، مع أن أقدم الآثار المحفوظة لنشوء الحضارة لا يمتد إلى ما هو أبعد من حضارات العراق التي بدأت قبل نحو خمسة آلاف سنة، وبما أن جميع التنقيبات والأبحاث الجيولوجية لم تسفر عن أي أثر لها، فهناك من افترض أن أفلاطون كان يتحدث عن جزيرة كريت اليونانية وليس عن موقع في المحيط الأطلسي، كما قدم باحثون معاصرون عشرات التأويلات المختلفة لموقع أطلانطس المحتمل. ولا ننسى أن المؤرخين اعتقدوا طوال قرون أن طروادة لم تكن سوى مملكة خيالية وردت في أشعار هوميروس، إلى أن اكتشفت آثارها فعلا في شمال غرب تركيا عام 1871، وكذلك الحال مع الحضارة المينوية التي كان يعتقد أنها أسطورية حتى وجدت آثارها في كريت.

فرنسيس بيكون

في عام 1626، وضع الفيلسوف الإنجليزي المعروف فرانسيس بيكون كتابه “أطلانطس الجديدة”، وكان من أواخر مؤلفاته التي جعلت منه مؤسسا للعلم الحديث في الغرب، وفي العالم كله بحكم التبعية. وما يتداوله العالم بعد نحو أربعمئة سنة أن الكتاب كان يتضمن نبوءة فلسفية بريئة للعالم الحديث القائم على العلم، لكن بيكون كان في رأي بعض المؤرخين الأستاذ الأعظم للماسونية في عصره، ولم يكن هذا الكتاب سوى البيان الختامي الذي قدّم فيه رؤيته لنموذج الدول التي ستُدار من قبل محافل الجمعيات السرية كما كان الحال في أطلانطس، وذلك تحت مسميات العلم والحضارة. [انظر صفحة Occult theories about Francis Bacon في موسوعة ويكيبيديا]

في عام 1882، طرح الأميركي من أصل إيرلندي إغناطيوس دونيلي كتابه “أطلانطس: العالم العتيق”، وقدم فيه أدلة كثيرة تدعم نظريته في صحة وجود أطلانطس، وزعم أن عددا قليلا من سكانها استطاعوا النجاة بالسفن ونقلوا أسرار تلك الحضارة المتقدمة إلى العالم. وقد أطلق دونيلي بذلك موضة الاهتمام العالمي بهذه الأسطورة، وربما كان أول من نقلها من عالم الخيال إلى الأوساط الجادة لتداعب أحلام الكثيرين، كما تأثر بالكتاب العديد من السياسيين، حتى تحمس رئيس وزراء بريطانيا ويليام غلادستون لجمع المال وتمويل حملة استكشافية للعثور على مكان أطلانطس. وما زال الكثيرون يبجلون دونيلي حتى اليوم على اعتبار أنه كان باحثا مجتهدا ومخلصا لنظريته، ولكن معظمهم لا يعرفون أنه كان ماسونيا عتيدا، وأنه كان يمهد كما يبدو لإقناع عامة الناس بأن أطلانطس هي أصل حضارات العالم كله، وأن المنظمات السرية الموجودة اليوم هي الوريث الوحيد لأسرار الحضارة.

وفي عام 1924 بدأ الباحث الأسكتلندي لويس سبينس بنشر سلسلة كتب عن أطلانطس، حيث يرى البعض أن كتاباته كانت أفضل ما كتب علميا بشأن أطلانطس، وعلى أساسها افترض الكثيرون أن جزر أزور البرتغالية هي من بقايا القارة المفقودة، وما يزال حتى اليوم مئات الناشطين والمهتمين يتناقلون عبر الإنترنت نظريات تتحدث عن اكتشاف أهرام ضخمة في عمق المحيط،  لا سيما قرب أزور وفي مثلث برمودا، ويقولون إن الحكومات الغربية تتعمد إخفاء هذه الحقيقة لتحتكر لنفسها أسرار أطلانطس التي لا يعرفها سوى كبار أعضاء الجمعيات السرية، وهي ادعاءات غير مؤكدة ولا يمكن التحقق منها.

ويجدر بالذكر أن عددا من الباحثين في خفايا الجمعيات السرية يؤكدون أن نخبة جمعية “المتنورين” (الإلوميناتي)، وهي جمعية منبثقة عن الماسونية، يعتقدون أنهم أسلاف ملوك وكهنة أطلانطس، أي أنهم من نتاج تزاوج الآلهة مع البشر، ويُعتقد أن فيلم “أطلانطس: الإمبراطورية المفقودة” الذي أنتجته شركة والت ديزني عام 2001 كان يتضمن هذه الفكرة رمزيا، لا سيما وأن ديزني نفسه (توفي عام 1966) كان على الأرجح ماسونيا من الدرجة الثالثة والثلاثين، ولا يزال في داخل مدينته الترفيهية بولاية فلوريدا “ديزني لاند” نادٍ مغلق يحمل اسم “33”، ولا يُسمح بالانضمام إليه إلا للنخبة وبعد دراسة طلب الانضمام التي قد تستغرق عشر سنوات.

المدرسة الفيثاغورية
ربما لا يوجد أحد في العالم لم يسمع باسم العالم اليوناني فيثاغورس، فنظرياته الرياضية والهندسية تُلقن لطلاب المرحلة الابتدائية حول العالم، ولا يكاد معظم الناس يعرفون عنه شيئا أكثر من ذلك، وقد يفاجأ القارئ عندما يعلم أن فيثاغورس الذي ولد قبل الميلاد بنحو ستمئة سنة كان من أهم أقطاب الجمعيات السرية في التاريخ.

اشتهر فيثاغورس بنظرية حملت اسمه في الهندسة، لكن الوثائق التاريخية تشير إلى استخدام مثلثات قائمة بأضلاع أطوالها أعداد صحيحة في بابل قبل فيثاغورس بأكثر من ألف سنة، كما استخدم المصريون القدماء النظرية قبله أثناء عمليات البناء وتقسيم الأراضي.

ويجدر بالذكر أن بعض العلماء المعاصرين يؤكدون أنهم اكتشفوا ثغرات وأخطاء في النظرية المنسوبة لفيثاغورس.

تمثال فيثاغورس بمتحف الفاتيكان

يحظى فيثاغورس اليوم بمكانة عظيمة في مؤلفات الماسون، كما في كتاب مانلي هول، حيث نجد فيه تأريخا لحياته ابتداءً بقصة ولادته التي زعم أنها جاءت بنبوءة عندما قالت كاهنة معبد أبولو لوالديه إنهما سيرزقان بطفل، وإنه سيكون أعظم الرجال جمالا وحكمة، وسيساهم كثيرا في نفع البشرية. كما ينقل عن جودفري هيغينز ما سماه بأوجه التشابهة بين ولادة وحياة فيثاغورس وتاريخ حياة يسوع المسيح، ما دفع البعض لتسمية فيثاغورس بابن الإله أبولو، بل ظن البعض أن الإله حلّ فيه وتجسد.

ويجدر بالذكر هنا أن مؤرخي حياة فيثاغورس قد وضعوا الأساطير عن حياته وشخصية بعد ولادة المسيح بمدة ليست بالقصيرة مع أن فيثاغورس مات قبل ذلك بنحو خمسة قرون، فالذين كتبوا قصة فيثاغورس هم الذين اقتبسوا النبوءة من قصة المسيح، والذين حرّفوا دين المسيح عيسى بن مريم اقتبسوا في المقابل من الفيثاغورية أسطورة الحلولية والتجسد.

يقول المؤرخ والفيلسوف برتراند رَسل في كتابه “تاريخ الفلسفة الغربية” عن فيثاغورس إنه كان من أهم من شهدت الدنيا من رجال من الناحية العقلية، ويضيف “لست أعلم عن رجل آخر كان له من التأثير في نطاق الفكر ما كان لفيثاغورس، وأقول ذلك لأن ما قد يبدو لك أفلاطونيا، ستجده عند التحليل فيثاغوريا في جوهره… ولولاه لما فكر المسيحيون في المسيح على أنه الكلمة”.

ويتضح الأثر الذي تركه فيثاغورس عندما نعلم أن أفلاطون كان معجبا للغاية بأفكاره، ويقال إنه دفع مبلغا كبيرا مقابل الحصول على مخطوطات فيثاغورس التي نجت من التلف، حتى قال أرسطو (تلميذ أفلاطون) إن جمهورية أفلاطون المثالية (اليوتوبيا) لم تكن سوى ترجمة لأفكار فيثاغورس.

يقول المؤرخ الإغريقي ديوجينس ليرتيوس إن فيثاغورس كان يزعم أمام طلابه وأتباعه أن روحه تناسخت خمس مرات، وأنه يتذكر جيدا الحيوات التي عاشها قبل أن يلتقي بهم، ففي الحياة الأولى كان أثاليدس ابن إله الحرب، وفي الثانية كان يوفوربس أحد أبطال حرب طروادة، وفي الثالثة كان هيرموتيموس رسول آلهة الأولمب، ويبدو أنه تواضع في ما قبل الأخيرة فجعل نفسه صيادا عاديا، ثم تجسد على هيئة المعلم فيثاغورس.

ومن الطريف أن نجد هذه المزاعم لدى معلمين آخرين في الجمعيات السرية على مر العصور، ومنهم اليهودي الإيطالي كاجيلوسترو الذي ابتكر طقس ممفيس المصري لصالح المحافل الماسونية وكان له دور في إشعال الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، حيث كان يزعم أن روحه تناسخت عدة مرات، وأنه كان في إحداها صديقا ليسوع المسيح نفسه، وأن حياته الأخيرة امتدت أكثر من ثلاثمئة سنة.

ووفقا للماسوني هول، اكتسب فيثاغورس القدر المستطاع من المعرفة التي كانت متوفرة في اليونان، وانتسب لجمعية الإلوسيسية السرية التي تحدثنا عنها، ثم بدأ رحلاته لاكتساب المزيد من الأسرار، فتتلمذ على يد حاخامات اليهود القبّاليين، ثم سافر إلى مصر، وبعد محاولات عدة سُمح له بالانتساب إلى جمعية إيزيس السرية بمدينة طيبة، ثم توجه إلى سورية وبلاد الفينيقيين (لبنان) وانضم إلى جمعية أدونيس وتلقى أسرارها، وعبر بعد ذلك وادي الفرات ليتعلم أسرار الكلدانيين والبابليين.

ولم يكتف بذلك، فرحل إلى بلاد فارس والهند، حيث بقي هناك عدة سنوات للاطلاع على أسرار البراهمة والمجوس، وبعد نحو ثلاثين سنة من الترحال والتعلم عاد إلى أوروبا وأنشأ مدرسة في مدينة كروتونا (جنوب إيطاليا) التي كانت تحت حكم الإغريق، وأعلن عن فتح الباب لتعليم الرياضيات والهندسة والفلسفة، بينما كانت مدرسته في الباطن بمثابة الجمعية التي تتلخص فيها كل أسرار وطلاسم وطقوس الجمعيات السرية.

وضع فيثاغورس أصول تشكيل الجمعيات السرية التي ما زالت متبعة حتى اليوم، لذا يدين له أتباع الماسونية والصليب الوردي بالفضل، حيث قسّم منتسبي جمعيته إلى ثلاث درجات، بحيث لا يعلم أعضاء كل درجة شيئا عن التي تليها، فلكل منها طقوس وأسرار لا يعلم بها زملاؤهم الآخرون.

يقول مانلي هول إن فيثاغورس كان يتمتع بقدرات خارقة، فذكر أنه كان يزعم قدرته على التنبؤ بالمستقبل، ورجّح أنه كان قادرا على تنويم الناس والحيوانات، وعلى التغلغل إلى عقول الحيوانات لإقناعها بما يريد، وعلى رؤية الأشياء من مسافة بعيدة.

أما الدرجة الأولى فكانت علنية ومكشوفة، كما هو حال الدرجات الأولى من الماسونية اليوم، والتي تُفتح أبوابها للصحافة ويجاهر أعضاؤها بالانتساب لها ويُعلن أن أنشطتها تقتصر على المجال الخيري الإنساني، وكان طلاب هذه الدرجة يجلسون في أماكن مفتوحة للاستماع إلى محاضرات عامة دون مناقشة، حيث كان فيثاغورس يعلمهم أن الحقيقة في أعماقها رياضية وأن العدد هو أساس كل شيء، فلكل عدد معنى رمزي باطني، وبشكل يتطابق تقريبا مع فلسفة القبالاه اليهودية.

كراولي في زي جماعته “الفجر الذهبي”

وبعد خمس سنوات من الانتظام في تلك الدرجة يختار الأساتذة بعناية من يستحق الترقية إلى الدرجة الثانية، وهناك يفتح لهم باب المناقشة والتلقي ولكن داخل محافل سرية. ثم يتم اختيار الصفوة من هؤلاء للترقية إلى الدرجة الثالثة لتلقي الأسرار الخاصة، حيث يكتشفون آنذاك أن المعرفة لا تتعلق فقط بأسرار الهندسة والأعداد، بل هناك عقيدة كاملة بشأن الوجود والإله والموت وما بعده، وهي العقيدة الشيطانية المطابقة للقبالاه.

وقد أقر كبار مؤسسي الحركات الباطنية القبّالية والجمعيات الشيطانية الحديثة في الغرب باقتباس فيثاغورس من القبالاه، ومنهم الإنجليزي ماك غريغور ميثرز الذي شارك عرّاب الحركات الشيطانية الحديثة أليستر كراولي في تأسيس جمعية الفجر الذهبي، وذلك في كتابه “القبالاه بدون حجاب” The Kabbalah Unveiled.

ويمكن القول إن طقوس الجمعيات المندثرة حول العالم قد تم حفظها على يد فيثاغورس، حيث انتشرت عن طريقه تلك الطقوس في أنحاء أوروبا، فوصلت إلى شمالها حوالي عام 50 قبل الميلاد عندما تمرد الكاهن “سيغ” على الرومان وأخذ يدعو القبائل الهمجية الإسكندنافية إلى اتباعه، وخلط كما يبدو دينهم الوثني الذي يعبد الإله “أودن” بطقوس الجمعيات السرية، ثم أصبح بنفسه المعبود “أودن”.

وبعد بعثة النبي عيسى عليه السلام وسعي زعماء بني إسرائيل لإفشال دعوته ومحاولة صلبه وملاحقة أتباعه [انظر مقال المسيحية]، نجح اليهودي شاؤول (بولس) في تحريف رسالته التوحيدية إلى دين وثني زاعما أن عيسى إلهاً تجسد ليفدي الناس بنفسه ويغسل خطيئتهم، ولم يكتب لهذا الدين النجاح سوى بالعمل السري التقليدي كما هو حال جمعيات الإلوسيسية.

القوة الخفية
أوضحنا في مقال “الماسونية” تفاصيل جمعية سرية حملت اسم “القوة الخفية” وتم تأسيسها في عام 43م على يد ملك القدس اليهودي هيرودس أغريباس، وذلك بهدف قمع الدعوة المسيحية التي أخذت بالانتشار. وذكرنا أن هذه القصة لم نجدها سوى في كتاب “تبديد الظلام” الذي يقول مترجمه عوض الخوري إنه ليس سوى ترجمة لوثيقة عبرية يورثها مؤسسو الجمعية التسعة لأبنائهم، حتى قرر آخرهم، ويدعى جوناس، أن يكشف السر في القرن التاسع عشر.

لا يمكننا الجزم بصحة الرواية لعدم وجود مصدر آخر يؤكدها، لكن الثابت تاريخيا أن كلا من اليهود وأتباع المسيح انتهجوا العمل السري في محاربة بعضهم.

وفي عام 330 بعد الميلاد، تبنى الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول نسخة معدلة من مسيحية بولس، وتم بذلك تأسيس الدين المسيحي القائم حتى اليوم [انظر مقال المسيحية]، وانتهى بذلك عهد السرية المسيحية، لكن طقوس العبادات الشيطانية القبّالية ظلت متوارثة داخل الجمعيات السرية في أوروبا لأكثر من سبعة قرون، إلى أن تغلغلت في الفاتيكان ولعبت دورا في إشعال الحروب الصليبية أملا في الوصول إلى هدفها النهائي وهو إنشاء هيكل سليمان في القدس، وهو ما عملت عليه بنشاط جمعية فرسان الهيكل التي أفردنا لها مقالا خاصا.

وبالرغم من نجاح فرسان الهيكل في الوصول إلى القدس والحفر تحت المسجد الأقصى، إلا أن صحوة المسلمين واستعادتهم للقدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ/1187م أفشلت المشروع، كما تصدت الكاثوليكية مجددا للجمعية بعد افتضاح خلفيتها الشيطانية، وتم تشتيتها في أوروبا لتنشأ عنها جمعيات الصليب الوردي والماسونية ومحافل المتنورين، التي كان لها دور كبير في إعادة صياغة المشهد السياسي الغربي عبر المساهمة في إشعال الثورة الفرنسية عام 1789 وما تلاها من انقلابات دامية على الأنظمة الإقطاعية الملكية المتحالفة مع الكنيسة. ثم أعادت النخب الفكرية المرتبطة بالجمعيات السرية صياغة المناهج الفكرية في الغرب، ولاحقا في معظم أنحاء العالم بفعل العولمة، فمعظم النظريات العلمانية بأطيافها المختلفة -وحتى المتضاربة- كُتبت على أيدي كبار الماسون، وكبار مؤسسي النهضة العلمية مثل ليوناردو دافينشي وجوردانو برونو وإسحق نيوتن وفرانسيس بيكون كانوا أقطابا في الجمعيات السرية.

ضرورة أم مؤامرة؟
ذكرنا سابقا أن المؤلفين الماسون حرصوا على تقديم صورة زائفة عن جمعياتهم السرية، واكتفوا بكشف ما يناسب توجهاتهم فقط، ومنهم جرجي زيدان الذي يقول “ولا نظن أحدا يجادلنا في احتياج البشر لمثل هذه الجمعيات السرية، وفي أن العلم لا ينمو وينتشر إلا بواسطتها، على أننا لا نحتاج إلى شديد عناء في إقناعهم إذا أصروا على الجدال؛ كيف لا وإن من أشهر الأديان الحديثة المتدينة لها أكبر دول الأعصر الأخيرة ما لم يَنمُ وينتشر إلا باتباعه خطة تلكم الجماعات من التعاليم والتبشير سرا”. [تاريخ الماسونية العام، ص 21].

ويصدق زيدان عندما يطبق كلامه هذا على دين عائلته المسيحي الذي وضعه بولس وانتشر في الخفاء قبل أن يتبناه قسطنطين، حيث يرى زيدان في هذه السرية فضيلةً للمسيحية، كما يصدق كلامه عندما يُنظر إلى الحضارة الغربية (الموصوفة بالعلم) على أنها الحق، ليبرر بذلك انتهاج العمل السري أولا، ويزعم طهارة تلك الجمعيات السرية ثانيا.

  • في مثل هذا الكهف الواقع في أخدود سحيق بالأناضول كان المسيحيون الأوائل يقيمون كنائسهم السرية هربا من السلطة الوثنية

  • سقف الكنيسة داخل الكهف

لكن الأنبياء جميعا كانوا يجهرون بدعوة التوحيد بالرغم من كل ما كانوا يعانونه من أذى بسبب ذلك، وعندما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قريش لم يؤمر بالجهر مباشرة حتى تتكون من حوله نواة للدعوة، فظل يدعو أقاربه ومن يتوسم فيهم الخير ثلاث سنوات، ولم يؤمن به طوال تلك المدة أكثر من أربعين شخصا، ثم أمره الوحي بتبليغ الدعوة لعشيرته: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، فبدأت الدعوة الجهرية واشتد عليهم العذاب.

ومن الواضح أن مرحلة الدعوة “السرية” تلك لم تمتد لأكثر من ثلاث سنوات، ولم يتخللها إنشاء جمعية تراتبية ولا أداء طقوس سرية، ولم يترك النبي حتى مماته أي تعليمات سرية خاصة بالنخبة دون عوام الناس. وكل ما ظهر بعد ذلك من الفلسفة وعلم الكلام والتصوف فهو من العلوم الطارئة على الوحي الواضح الجلي، وليس من صلب الإسلام ولا من أصول دعوته [انظر مقال نبوة محمد].

في المقابل، لا يقدم أنصار الجمعيات السرية أي مبرر مقنع لمنهجهم السري، بالرغم من اجتهادهم الواضح في كتبهم وأفلامهم لإقناع العالم ببراءتهم، فإذا كان أسلافهم مضطرون للتخفي في القرون السابقة هربا من الاضطهاد، فقد زالت اليوم أسباب التكتم وأصبحت جمعياتهم شرعية في معظم دول العالم، ومع ذلك فإن أنشطتهم لاتزال تدار في الخفاء، ومازالوا يعترفون بذلك مع عجزهم عن تقديم أي توضيح يستحق التصديق.

يُنسب إلى الفيلسوف الرومانى ناتالاس قوله إن «الأشياء الحسنة تسعى للانتشار والانفتاح، أما الآثام فتتستر وراء حجاب السر والكتمان»، ومع ذلك فلسنا نتهم الجمعيات السرية بالإثم لمجرد كونها سرية، بل لأن الحقائق التاريخية والمعاصرة تؤكد أنها لم تكن سوى مراكز لتكريس عبودية الأتباع وغسل أدمغتهم ثم توظيفهم لتحقيق مصالح النخبة المسيطرة، كما كانت على مر التاريخ المكان المثالي لاجتذاب الموهوبين ثم توجيههم بأساليب الترغيب والترهيب لبث الأفكار الهدامة وقلب أنظمة الحكم ومواجهة أنصار الوحي، وسنبين في مقالات أخرى المزيد من الأدلة، وهذا لا يغني بطبيعة الحال عن الاطلاع على الكتب المتخصصة في هذا المجال.


أهم المراجع

عبد الوهاب المسيري، اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، دار الشروق، القاهرة، 1998.

مجموعة مؤلفين، الجمعيات السرية، تحرير نورمان ماكنزي، ترجمة إبراهيم محمد، دار الشروق، القاهرة، 1999.

جرجي زيدان، تاريخ الماسونية العام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013.

عوض الخوري، تبديد الظلام أو أصل الماسونية، بدون ناشر، 2002.

عبد المجيد همّو، الماسونية والمنظمات السرية: ماذا فعلت ومن خدمت؟، دار صفحات، دمشق، الطبعة الخامسة، 2009.

عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار أم البنين، بدون تاريخ.

برتراند رَسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2010.

ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.

محمد العزب موسى، حضارات مفقودة، الدار المصرية اللبنانية، 2000.

فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.

بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.

Manly P. Hall, The Secret Teachings of All Ages, H. S. Crocker Company Inc., San Francisco, 1928.

اليوغا

اعتبر كثير من الفلاسفة القدماء أن العناصر الخمسة التي تتكون منها كل المواد في العالم (الماء، النار، الأرض، الهواء، السماء “الأثير”) أو (الماء، النار، التراب، المعدن، الخشب) تتحرك باستمرار وبتناغم دائري داخل الجسم، ففسيولوجيا الجسم الإنساني ليست سوى صورة مطابقة للكون، ولذا أكد حكماء اليوغا على ضرورة معرفة هذه العناصر داخل الجسم والعمل بها.

وطريقة تفكيرهم هذه تفترض أن كل ما يوجد في الخارج له ما يقابله في الداخل؛ أي أن كل عنصر من العالم الروحي يجب أن يكون له صداه في العالم المادي، وهذا يفسر إمكانية وجود تطور روحي يتم من خلال الجسم.

انتشرت الدعوة إلى اليوغا في بعض البلاد الإسلامية وغيرها، وأقام بعض دعاتها مجموعات ومدارس لتعليمها، وألفوا أو ترجموا في سبيل نشرها والدعوة إليها العديد من المؤلفات. فكثير من الناس يعتقد أن اليوغا ليس لها أساس في الديانتين الهندوسية والبوذية، أو أنها غير متعلقة بهما، وأنها ليست سوى رياضة تعتمد على التأمل والتفكير، لكي توصلهم إلى الراحة النفسية والفكرية والجسدية، ويتجاهلون بذلك الأسس الثمانية التي وضعها الحكيمان باتنجالي وسوامي شيفاناندا، وغيرهما من الحكماء الهنود سواء من الهندوس أوالبوذيين.

ولمعرفة المزيد عن اليوغا والتحقق من كونها مجرد تمارين رياضية روحية أم شعائر تعبدية فلسفية، ينبغي أن نتعرف على نشأتها وعلاقتها بالديانات الأخرى.

التعريف والنشأة
نشأت اليوغا في وادي السند (شمال الهند وباكستان حاليا) خلال الفترة 3300 –1700 قبل الميلاد، وهي مستمدة من جذور كلمة “يوغ” السنسكريتية التي تتألف من عدة معان، منها المراقبة والعبودية لأنَّها تخلّص النفس من قيود الجسد والعبودية للشهوات.

تمثال لبوذا في حالة تأمل

وفي الأدبيات البوذية، يستخدم مصطلح “التأمل” بدلا من “يوغا”، إلا أن مصطلح “يوغا” أصبح شائعا حول العالم، ولم يعد من السهل اعتماد مصطلح آخر بنفس المعنى .

واليوغا هي طريق لتسهيل الاتحاد بالنفس الكلية، عن طريق رياضة روحية وجسدية، أو عن طريق القرابين. وتذهب اليوغا إلى أنَّه لا تكفي حياة واحدة لإدراك هذا الاتحاد، فحسب مبدأ “الكارما” قد تتطلب أفعال الإنسان السيئة ولادات متتالية في صور إنسانية أو حيوانية [انظر مقال الهندوسية والبوذية].

فاليوغا تعني تجميع القوى وتركيزها وممارسة التمارين العملية التي تؤدي إلى الاتصال بين الروح والآلهة. وبما أن نظام اليوغا يضع التأمل في محور تعليمه وممارسته، فهو يولي أهمية بالغة لكل طرق الخلاص التي ترتكز على التأمل والاستغراق.

يقوم محتوى الخلاص على تطهير الروح تطهيرا كاملا من كل الأدناس الأرضية، بحيث تكتشف ذاتها في شكلها الصافي، أو توضع في حالة تمكّنها من أن تعيش مع المطلق (الإله) وتصل إلى الاتحاد به. وهذه الحالة التي تتجاوز الوجود الأرضي تجاوزاً “لامتناهيا” تعجز الكلمات البشرية عن وصفها.

وفي الخلاصة، يمكن القول إن اليوغا هي مجموعة من الشعائر الروحية القديمة التي نشأت في الهند، وإنها كمصطلح عام في الهندوسية تشير إلى منهج عملي وممارسات محددة تجمع بين التصوف والزهد والتأمل، وهي تسعى للحصول على خبرة روحية خاصة وفهم عميق جداً للحقائق الكبرى في الوجود والتحكم الواعي في الكثير من مناحي الحياة.

أهم طرق اليوغا
تتنوع طرق ومدارس اليوغا المعتمدة حاليا، وهي أشبه ما تكون بالمدارس والمذاهب في الديانات، وتعود في الأصل إلى يوغا ساتراس التي أسسها الحكيم باتنجالي. وتعتمد هذه المدارس على الجانبين الفكري والعملي، حيث يهتم الأول منهما بالتحرر الروحي دون أن يشترط الإيمان المطلق، بل يحذر المعلمون منه. أما الجانب العملي فيتضمن التمارين البدنية والتحكم بالتنفس، بالإضافة إلى الفنون الأخرى، وفيما يلي موجز عن طرق اليوغا الأساسية الأربعة:

1– بهاكتي يوغا: تؤكد هذه الطريقة على استثمار المحبة للوصول إلى حالة الكمال الروحي من خلال عبادة الإله مباشرة، وذلك بتنقية العقل وتكرار اسم الإله وذكر صفاته العديدة مثل راما وكريشنا، وذلك من خلال شعائر تسمى “جابا”.

2– غنانا يوغا: تهتم هذه الطريقة بطرح الأسئلة الفلسفية الوجودية والإجابة عليها من المنظور البوذي، حيث تحاول الإجابة على أسئلة من قبيل: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ كيف وُجِدت ولماذا؟ وإلى أين أمضي؟ ومن خلال سلوك هذا الطريق العقلاني والتجرد عن كل أنواع التعلق المادي في الحياة يحاول الممارس الحصول على الخلاص الروحي واكتشاف المُطلق والتوحد به.

وحسب الفلسفة البوذية فإن المطلق يحمل صفات الإله نفسه، فهو العلة التي لا علَّة لها، وهو كُلي القدرة والمعرفة والحضور، لذا فهو يتجلى للإنسان في صور ثلاث، هي المادة (صفة الحضور الكلِّي)، الطاقة (صفة القدرة الكلِّية)، والوعي (صفة المعرفة الكلِّية)، ومن خلال هذه الصفات يحاول الممارس إدراك المطلق بالتأمل في باطنه هو.

وتتضمن هذه العقيدة أيضا الاعتقاد بنظرية الفيض التي نجدها عند الأفلاطونية الحديثة، والتي تقول إن الوجود كله ليس سوى فيضًا من المطلق وصدورًا عنه وتجليًا له، فالإله لا يخلق مباشرة بل يفيض. كما نجد في هذه العقيدة فكرة وحدة الوجود التي يعتقد صاحبها أن بإمكانه الاتحاد بالمطلق (الإله)، ولا يتحقق هذا الاتحاد إلا بعد التخلص من الأنانيات الفردية (الأنا) التي تعد مؤقتة وغير حقيقية، والتأمل في جوهر الإنسان وهو النفس (أتمان)، والارتباط بالأتمان الجماعية الموجودة في كل الأشخاص وفي النفس الأزلية للإله. [انظر مقال الباطنية].

3- كارما يوغا: تركز هذه الطريقة على الجانب العملي من الحياة، فالتوازن العقلي والتخلص من الأنانية الفردية والاتحاد بالمطلق هي أهداف لا تتحقق سوى بالعمل، ولا يقصد بالعمل هنا المهنة التي يُكسب بها الرزق، بل العمل لأجل الحياة، فينبغي على الممارس أن يعمل من أجل العمل وحده دون التفات إلى ما سيجنيه من ثمار.

4- راجا يوغا: وتعني “اليوغا الملكية”، وهي أرقى الطرق وأكثرها تعلقا بالعقائد والأساطير البوذية، حيث تهتم بتحصيل الحقائق الروحية من خلال التأملات والسيطرة على الأفكار والأفعال ومقاومة الغرائز واعتبار العقل سلطانا على الحواس. وغالباً ما تعرف هذه الطريقة باسم “اليوغا سوترا”، ويسعى الممارس لها إلى الوصول للمعرفة الذاتية ومعرفة الإله والحقيقة المطلقة.

وتعود هذه الطريقة إلى الحكيم باتنجالي الذي يعد المؤسس الأول لليوغا، حيث وضع قبل 2300 سنة خطوات ثمانية يجب على كل تلميذ ومعلم التقيد بها لتنقية جسمه وعقله والسير بهما في طريق الاستنارة، ويمكننا اختصارها كالآتي:

1- ياما (المحرمات)، وتتضمن خمس خطوات هي: عدم العنف، الصدق، عدم الاشتهاء، العفة، عدم السرقة.

2- نياما (الأوامر)، وتتضمن: نظافة الهيئة والعقل، القناعة، التقشف، محاسبة النفس، الاستسلام لله.

3- أسانا (هيئات الجسم)، ويصفها الحكيم باتنجالي بأنها الوقفات أو الوضعيات المستخدمة لجلسات التأمل، وهي تساعد على توفير الطاقة والعلاج من الأمراض والمرونة، وقد اشتقت منها الرياضات الأخرى، وتتضمن 84 وضعية تهدف إلى فتح الطاقة الكامنة تحت العمود الفقري والملتفة على هيئة أفعى.

4- براناياما (السيطرة على التنفس)، وتهدف إلى دعم قوة الحياة أو الطاقة الحيوية (البرانا).

5- براتياهارا (التجريد): وهي بداية التدرب على انسحاب الحواس من إدراك الأجسام الخارجية عبر السيطرة على العقل والتركيز على الحساسية الفائقة للعقل لجميع ما يحيط به.

ونستنج من الأسس الخمس السابقة أنها أسس خارجية، تهتم بالوضع الخارجي للجسم كتنظيفه وتعويده على التقشف وتدريبه على مساعدة الجزءالأصعب وهو الجسم الداخلي، وهو ما يأتي في الأسس الثلاث التالية التي تتطلب قوة التركيز وشدة التأمل، وتتطلب أيضا الاتصال الكلي بمكون الكون، ونلخصها فيما يلي:

1- دارانا (التركيز): هي الخطوة الأولى لتركيز الاهتمام بشيء معين، كضوء شمعة مثلا أو تمثال، ويتم عن طريق العين الثالثة.

2- دايانا (التأمل): تدعى هذه المرحلة بالتأمل الصامد، حيث يحاول المتدرب أن يوسع دائرة وعيه وحساسية عقله، فيتأمل في الطبيعة والكون كله وليس شيئا واحدا فقط.

3- سامادي (الاتصال بالإله)، وهي المرحلة الأخيرة التي يصل بها المتأمل إلى التحرر أو الوحدانية، وتتطلب دمج الوعي بموضوع التأمل، بما يحقق السيطرة التامة على العقل والجسم والروح.

من خلال ما سبق وعلى الرغم من أن اليوغا تُقدّم في كثير من النوادي الصحية والمستشفيات في العالم -ومنها بلاد المسلمين- على أنها رياضة للجسد واللياقة، ومع أن المدربين يحاولون غالبا قطع الصلة بين الفلسفة التي تقوم عليها اليوغا وبين حركاتها الرياضية، إلا أنها ليست مجرد رياضة يمكن لأي شخص ممارستها، حتى وإن بدت كذلك في مراحلها الأولى، بل تتضمن شعائر دينية تتوجه إلى الفكر والعقل من خلال الاعتقاد والتأمل والتركيز.

اليوغا والهندوسية
تهدف الشعائر الهندوسية إلى الاتحاد بالإله المطلق (براهمان)، وغايتها السموّ بالعقل والروح إلى حالة من السعادة القصوى، وذلك بإبعاد المرء نفسه عن الشهوات الجسدية والمادية وإنقاذه من كل النوازع الأرضية حتى يصل إلى حالة من القداسة والصلاح تسمى “الموكشا”.

ويتطلب الوصول إلى هذه الحالة الالتزام بالصلاة وترتيل الأناشيد المقدسة (مانترات) والتأمل الروحي، مع الصوم عن الطعام والشراب والكلام والجماع، والتركيز الذهني على شيء معيّن دون تشتت التفكير بالأمور المادية والدنيوية والجسدية العديدة. ويُسمى الناسك الممارس لليوغا بالقديس “المهاتما”، أو صاحب الروح الصالحة أو الروح الكبيرة.

لذلك يركز الهندوس اهتمامهم على النفس لأن النفس في معتقدهم يمكن أن ترقى إلى الكمال، أما البدن فسِمته النقص، ولكي يحقق الجسد درجة ما من التطهير ينبغي عليه أن يستغل وجود الروح فيه، ولهذا قالوا بحرق البدن بعد الموت، والموت عندهم نهاية لا تجدّد لها. ومع أن النفس عند الهندوس كاملة إلا أنها لا تخلد كجوهر مستقل، وإنما يتم خلاصها عن طريق ممارسة اليوغا، والتي تتضمن القسوة على البدن وتدريب النفس على الصبر والثبات.

ويصل المرء في ممارسة اليوغا إلى المشاعر والأحاسيس الداخلية في الأعماق للتخلص من الضغوط العصبية والنفسية، وإلى الالتحام الكامل بين العقل والجسد. والهدف بطبيعة الحال هو الوصول إلى حالة من السموّ الروحي والصفاء الذهني، بعيداً عن التأثيرات النفسية والعصبية اليومية، لذا تمارَس اليوم كعلاج لأمراض نفسية من قبل بعض الأطباء النفسيين في الغرب.

يؤمن الهندوس بوجود طاقة أزلية اسمها “برانا”، وهي منبثقة عن الأصل الأول للوجود “براهمان”، لكنها ليست مخلوقة بل هي قديمة بلا بداية. وبما أن الهندوسية دين حلولي يؤمن بحلول الإله (المطلق) في الكون والإنسان فإن البرانا بمثابة روح هذا المطلق التي تسري في الكون. وعليه فإن دور اليوغا يتلخص في استجلاب هذه الطاقة وشحن الجسد والنفس بها.

اليوغا والبوذية
ظهرت البوذية كمذهب تصحيحي في إطار الديانة البراهمية بدعوتها لنبذ الطبقية مع بعض التعديلات العقائدية، وهي تعتمد أيضا على اليوغا لإخضاع الإنسان لنظام تعبدي يحقق له تحرير النفس من الارتباطات الجسدية والمادية وبلوغ “الاستنارة”.

وتؤكد سيرة حياة مؤسس البوذية سيذهارتاغوتاما (بوذا) أنه درس اليوغا على يد الرهبان البراهمة كجزء من المقرر الفلسفي المفروض على التلاميذ، وذلك في الفترة التي قضاها في جبال الهمالايا قبل أن يصبح معلما، ويعتقد أنه صاغ مبادئ اليوغا على طريقته الخاصة قبل ظهور كتاب “بْهاغافاد غيتا” الذي يعد من أقدس الكتب الفيدية لدى الهندوس.

ويمكن القول إن اليوغا هي الجسر الذي يربط بين الهندوسية (الديانة الأم) والبوذية التي انشقت عنها في القرن السادس قبل الميلاد، بالرغم من وجود عوامل مشتركة أخرى بينهما، مثل مبدأ عدم العنف (أهيمسا) ومبدأ التركيز والاستنارة.

وتظهر في منطقة التيبت الصينية آثار اليوغا البوذية بوضوح أكبر، وذلك لتأثير التانترا الهندوسية -التي تتلخص في عبادة شاكتي (التجسد الأنثوي للآلهة)- على التقاليد هناك، ونجد آثار هذه الشعائر في السيطرة على النظام الخاص بالنبضات القلبية والحركات الجسدية التي تتضمن 108 وضعيات جسدية، وتستعمل هذه الأساليب اليوم من قبل الرياضيين للسيطرة على العقل، وكذلك في بعض الرياضات الروحية في الغرب، وحتى في جلسات تحضير الأرواح والسحر والشعوذة وعبادة الشيطان، ولا سيما تلك التي تدمج الأفعال الجنسية بالتأمل.

لا تتضمن البوذية شعائر للصلاة والتعبد كما في الهندوسية، ولكنها تحتوي على خمسة أنواع من التأمل التي يمكن أن تحل محلها، وهي:

1 ـ ميتاـ بهافتا (التأمل في الحب): وهو التأمل في الكائنات والدعوة إلى سعادتها.

2 ـ كاروناـ بهافاتا (التأمل في الشفقة): وهو المشاركة في حزن الآخرين.

3 ـ موديتاـ بهافاتا (التأمل في الفرح): وهو التأمل الذي يبهج الآخرين بالمشاركة في ما يفرحهم.

4 ـ أسوبهاـ بهافاتا (التأمل في المدنسات): وهو التأمل في أهوال المرض والموت.

5 ـ أبكاـ بهافاتا (التأمل في الهدوء): وهو التأمل في المتناقضات مثل الخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض.

تتطلب جلسات التأمل من الممارس أن يجلس وساقاه مضمومتان ومثنيتان، بحيث يكون الظهر منتصباً والرأس مرفوعاً ومحاطاً بهالة التفكير، وأن يبحث عن نقطة معيّنة ليركز فيها.

وتتلخص مراحل التأمل خلال الجلسة في البدء بتحقيق درجة كافية من الثقة عبر التحرر من الجسد، ثم بلوغ الصحوة بالتحرر من الرغبات والغرائز وتمني الخير لجميع الكائنات، ثم الاستغراق والتخلص من الألم وصولا إلى تعطيل الإحساس، ومع نجاحه في تنظيم التنفس والانفصال عن كل الأشياء باستثناء التنفس يحقق العقل سيطرته على الحواس، فتتركز الأفكار والحواس كلها في نقطة واحدة بما يسمح للممارس –حسب معتقدات اليوغا- العودة للماضي لاسترجاع الذكريات أو الإبحار في المستقبل للتنبؤ وغير ذلك.

وتسمى حالة الاستغراق والتحرر التام بالنيرفانا التي تقابل الموكشا لدى الهندوسية، وهي تعني التحرر من دائرة الحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت. ويهدف الممارس من خلالها للوصول إلى ولادة ثانية، وذلك عبر كبت شهواته الجسدية وغرائزه النفسية والتخلص من آلامه ومعاناته في الحياة اليومية.

وتعود هذه الفكرة إلى أسطورة التناسخ في الديانة البوذية، والتي ترى أن روح الإنسان تتناسخ منذ ولادته وحتى موته، وأنه لا بد من التحرر الكامل من كل المعوقات لتحرير العقل والروح والوصول بهما إلى الحقيقة والاستنارة، وبذلك ينجح الإنسان في كسر قيود التناسخ.

اليوغا والطاوية والكونفوشية
تعد الطاوية (أو التاوية) بمثابة الوعاء للأديان والأساطير التي تراكمت في الصين على مدى قرون، وقد أعاد جمع وترتيب أصولها الفيلسوف لاوتسي في القرن السادس قبل الميلاد، ثم التقى به الفيلسوف كونفوشيوس وتلقى عنه الكثير من مبادئه قبل أن يضع فلسفته الكونفوشية الرائجة حتى اليوم في من الصين وأجزاء من  كوريا واليابان وفيتنام.

وتلتقي الطاوية والكونفوشية مع الهندوسية والبوذية (الهنديتان) في الكثير من المبادئ العقائدية، إلا أن الأديان والفلسفات الصينية تميل أكثر إلى الاهتمام بالجوانب الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.

وكما تؤمن الهندوسية والبوذية بأن المطلق الأزلي براهمان صدرت عنه بالفيض والتأمل بيضة أو زهرة لوتس ثم خرجت منه بقية الآلهة وكل الموجودات، فإن الطاوية ترى أيضا أن الأصل المطلق (طاو) انبثقت عنه “بيضة كونية”، ثم انقسمت إلى نصفين، فتكونت الأرض من نصفها السفلي الثقيل المظلم (ين)، وتكونت السماء من نصفها العلوي الخفيف المضيء (يانغ)، ثم تشكل بينهما الإنسان الأول بان كو.

الين واليانغ

وتركز الطاوية جل اهتمامها على التوازن الافتراضي بين الين واليانغ، كما تزعم أن الطاقة الكونية “برانا” أو “تشي” ما زالت سارية في الكون كما تسري الروح في الجسد، ولكي تستمر حياة الإنسان فإن على الجسم أن يمتلك البرانا أو التشي، وإلا فإن أي نقص سيؤدي إلى خلل في توازن النقيضين الين واليانغ ومن ثم إصابة الإنسان بالأمراض الجسدية والنفسية.

يقول تشوا كوك سوي في كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” إن هناك ثلاثة مصادر رئيسية لطاقة الحياة، وهي طاقة الحياة الشمسية التي يمكن الحصول عليها عبر التعرض لأشعة الشمس، وطاقة الحياة الهوائية التي يمكن امتصاصها من الهواء عن طريق الرئتين، وطاقة الحياة الأرضية الموجودة في باطن الأرض وتُمتص عن طريق باطن القدم بالمشي دون حذاء. ووفقا للطب الحديث فإن هذه الافتراضات لا يدعمها أي دليل.

يقوم الطب الصيني التقليدي على فكرة إعادة التوازن الطبيعي للين واليانغ إلى الجسم، ويعتقد ممارسوه أن الوخز بالإبر الصينية يساعد على تفعيل مسارات الطاقة (شاكرات) التي تمر بالجسد وفقا لخريطة محددة، كما يعتقدون أن كل التمارين الرياضية والأدوية والأطعمة الصحية تستمد منفعتها من خلال علاقتها بالطاقة وبتوازن الضدين، وما زال الصينيون حتى اليوم عاجزين عن تقديم أدلة علمية على ارتباط هذه العوامل بالطاقة الكونية التي لم يثبت وجودها علميا.

لذا تُصنف تطبيقات الطاوية ومثيلاتها على أنها “علوم زائفة” حتى لو كانت نتائجها سليمة، لأن ربط النتائج المحسوسة بمسببات غيبية مزعومة هو مجرد افتراض وهمي لا يدعمه أي دليل حسي ولا عقلي ولا نقلي (وحي محفوظ مصدره الإله).

ومن أهم هذه التطبيقات المنتشرة اليوم الريكي والبرانا والبرانيك هيلنغ والتشي كونغ والتاي تشي والفانغ شوي والماكروبيوتك، وهي جميعا تلتقي مع اليوغا في الاعتقاد بوجود طاقة كونية انبثقت عن الإله الأول (براهمان) أو (طاو).

ويجب الانتباه إلى أنه لا يصح تفسير أي تغير محسوس (المرض أو الشفاء) بوجود عامل غيبي مفترض (طاقة كونية أو ين ويانغ) عندما تغيب العوامل الحسية، لأن احتمالات هذا التفسير مفتوحة بلا ضوابط، فعلى سبيل المثال إذا لم نستطع إيجاد سبب محسوس لألم أصاب أحدنا في يده، فيمكن لأي كاهن أن يزعم أن هناك وحشا خفيا يعضّ على هذه اليد بأنيابه، وإذا قام هذا الكاهن بطقوس لطرد الوحش المزعوم ثم زال الألم لسبب نجهله كما نجهل سبب الألم نفسه؛ فهذا لا يعني أن الوحش الخفي كان موجودا بالفعل وأن طقوس الكاهن كانت ناجعة. فعالم الغيبيات لا يمكن الحكم عليها إلا بمصدر مفارق، وهو الوحي الذي تثبت الأدلة الحسية والعقلية أنه صحيح وموحى به من الإله.

يستهل تشوا كوك سُوي مؤسس البرانيك هيلنغ كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” بقوله “أنت ممتلئ بأفكار وآراء مسبقة. لكي تتعلم، عليك أن تفرغ كأسك”. وهذا يعني أن تعلم فلسفات الطاقة لا ينجح سوى بتجريد المتعلم من عقيدته الدينية وقواعده العلمية أولا، لأن هذه الفلسفات تقوم على مسلّمات باطنية لا تقبل النقاش ولا يُستدل عليها بعقل ولا نقل، كما أنه لا يمكن الجمع بينها وبين الإيمان بعقائد أخرى.

الماكروبيوتك
هو أسلوب في تناول الطعام وطريقة الحياة يقوم على فلسفة الين واليانغ والعقائد الهندوسية والطاوية، وبما أن هذه الأديان تحرّم تناول اللحوم (انظر مقال الهندوسية والبوذية) لاعتقادها بأن الحيوانات تحمل أرواح الموتى، فإن الماكروبيوتك يحاول تقديم أسلوب المعيشة النباتي في إطار صحي، مع أن الطب الحديث يؤكد أن الاكتفاء بالمصادر النباتية لا يكفي لصحة الإنسان ونموه.

يصنف معلمو الماكروبيوتك كل النباتات والأطعمة من حيث كونها أقرب إلى الين أو اليانغ، ويطالبون مريديهم بموازنة الطعام وفقا لهذا التصنيف الغيبي على افتراض أنه الأكثر موائمة للطبيعة، ويرتبط هذا التصنيف بالقدر الذي يحتويه الطعام من الدسم والكثافة والحلاوة، وبالمكان الذي تنمو فيه النباتات من حيث الحرارة والبرودة، ومع أنهم لا ينصحون بتناول اللحوم إلا أنهم يصنفونها وفقا للبيئة التي تعيش فيها، أو حتى وفقا للارتفاع الذي تحلق فيه الطيور، وهذه العوامل كلها ليس لها علاقة بالعلم.

ومع أن بعض الأنظمة الغذائية التي يقدمها مدربو الماكروبيوتك تحقق فوائد معينة، ولا سيما في مجال الحمية وتخفيف الوزن، مما يكسبها رواجا لدى النجوم ومعجبيهم، إلا أن الجهات العلمية المعتمدة في أمريكا الشمالية وأوروبا تحذر من خطورة هذه الأنظمة ولا سيما على صحة الأطفال والنساء الحوامل والمرضى.

اليوغا والعبادات الشيطانية
سبق أن أوضحنا في مقالات القبالاه والباطنية والهندوسية والبوذية التداخل بين هذه الأديان وعبادة الشيطان، وبما أن اليوغا تتقاطع مع تلك الأديان في العقيدة والسلوك فهي في كثير من جوانبها ليست سوى إحدى وسائل الاتصال بين الإنسان والشياطين.

فعلى سبيل المثال، يعد تمرين “سوريا ناماسكارا” أحد أشهر التمارين التي عولمتها اليوغا في أنحاء العالم، وهو يعني باللغة السنسكريتية “تحية الشمس بثمانية أعضاء”، حيث يؤدي المتدرب عند شروق الشمس وغروبها حركات ووضعيات يلامس فيها الأرض بقدميه وركبتيه ويديه وصدره وجبهته، وهي تشبه طقوس عبادة الشمس في بعض الوثنيات القديمة.

وفي الإسلام، نهى النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن أداء الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، مع أن الصلاة الإسلامية تؤدى لله وحده، والسبب كما في الحديث النبوي أن الشمس “تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار”، وقد فسر علماء مسلمون ذلك -مثل النووي وابن قتيبة- بأن الشيطان يدنو من الشمس أو يقف في جهتها عند هذا الوقت فيسجد له أتباع تلك الديانات بسجودهم للشمس.

(yogasuggestion.com)

وكما هو حال طقوس القبالاه التي تسعى لما تسميه بالاستنارة، وهو الاتصال بحامل الضوء “لوسيفر” (الشيطان)، فإن الاستنارة التي يصل إليها الكثير من محترفي اليوغا ليست سوى اتصال بالشياطين، وكثيرا ما يحدث ذلك دون أن يعلموا بأن له علاقة بعالم الشياطين، ولا سيما من قبل الممارسين الذين يؤمنون بالأديان السماوية. ففي كتاب “معجزات الشفاء البْراني” يقول المعلم العالمي تشوا كوك سوي إن “أصحاب الجلاء البصري” يمكنهم أن يروا بأعينهم عمودا من نور، وإن الأشخاص الروحيين الذين مارسوا التأمل لمدة أطول يمكن أن يشعروا بأنهم غُمروا بنور يحير أبصارهم من شدة ضيائه، حسب تعبيره.

كتب سوي تحظى بترويج كبير في المكتبات العربية

وهناك الكثير من التجارب التي تعرض لها ممارسون مسلمون ومتدينون وقالوا إنهم بلغوا فيها درجة الاستنارة ورؤية الضوء الغامر، بل ورؤية كائنات شفافة (أرواح المعلمين كما يزعمون)، وهي ليست سوى كائنات شيطانية. ففي العقيدة الإسلامية لا يمكن لأرواح الموتى أن تعود إلى الدنيا للتواصل مع البشر الأحياء في عالم اليقظة، كما لا يمكن لروح الشخص الحي أن تفارقه بشكل إرادي -كما يزعم أصحاب نظرية الإسقاط النجمي- وأن تتجول في أي عالم كان.

يقول تشوا كوك سوي “إن هذا الشعور شائع عند معظم ممارسي اليوغا المتطورين والقديسين والصالحين في جميع الأديان”، وهذا يعني أنه لا يهم الانتماء الديني طالما كانت اليوغا توحد الجميع تدريجيا تحت مظلة وحدة الأديان وتمييعها، حيث يضيف الكاتب نفسه “مثل النحل حينما يجمع العسل من مختلف الأزهار، فإن الرجل الحكيم يقبل جوهر الكتب المقدسة المختلفة، ويرى الخير فقط في كل الديانات”.

وبينما تسعى حركات العصر الجديد إلى تهيئة العقول والنفوس للعصر الذي يتجلى فيه لوسيفر كما تقول مؤسسة جمعية الثيوصوفيا “الحكمة الإلهية” هيلينا بلافاتسكي [انظر مقالَي الجمعيات السرية والهندوسية والبوذية]، فإن اليوغا هي إحدى الوسائل الأكثر نجاحا في الانتشار العالمي. وهذا ما يبشر به تشوا كوك سوي عندما يتنبأ قائلا “في المستقبل القريب سيكون المعالجون وملائكة الشفاء أكثر فعالية وتعاونية لإحداث الشفاء الخارق أو المدهش و على أوسع نطاق”، وينقل عن غوستاف سترومبرغ قوله “سيأتي الزمن الذي ينجز العلم فيه التقدم الهائل، ليس بسبب تحسن الأدوات المساعدة على الاكتشاف وقياس الأشياء، بل بسبب وجود أشخاص قليلين يملكون تحت سيطرتهم قوى روحية كبيرة، والتي نادرا ما تكون في الوقت الحالي مستخدمة. وخلال عدة قرون، فإن فن الشفاء الروحي سيتطور بشكل متزايد وسينتشر استخدامه على مستوى الكون”.

ويمكن أن نرى في العالم الإسلامي بوضوح سرعة انتشار اليوغا خلال السنوات القليلة الماضية، حتى أصبح الكثير من المتدينين والمحجبات يمارسونه في الحدائق العامة ويتباهون به وكأنه أحد مظاهر الانفتاح، حيث أضيفت إلى اليوغا بعض التعديلات والمصطلحات في أساليب التطبيق، بل وصل الأمر بالبعض إلى محاولة تأصيله إسلاميا.

وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر 2014 بالإجماع على اعتبار 21 يونيو من كل عام يوما دوليا لليوغا.


أهم المراجع
تشوا كوك سوي، معجزات الشفاء البراني: كتاب عملي للشفاء بالطاقة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2009.

تشوا كوك سوي، المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2014.

ميشيو كوشي، أسلوب الماكروبيوتك، مكتبة جرير، الرياض، 2003.

هيفاء بنت ناصر الرشيد، التطبيقات المعاصرة لفلسفة الاستشفاء الشرقية (رسالة ماجستير).

أحمد شلبي، أديان الهند الكبرى، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.

حميد فوزي، عالم الأديان بين الأسطورة والحقيقة، دار حطين للدراسات والترجمة، 1993.

عادل تيودور خوري، مدخل إلى الأديان الخمسة الكبرى، المكتبة البولسية، بيروت، 2005.

ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، دار الجيل، 2010.

Patanjali, The Yoga Aphorisms, An interpretation by William Q. Judge, The Theosophy Company, Los Angeles, 1973.

Gabriel Monod-Herzen, Le Yoga et les yoga, Éditions du Rocher, Monaco, 1978.

الهندوسية والبوذية

بداية غامضة
بدأت التجمعات البشرية بالظهور في شبه القارة الهندية بمنطقة دلتا نهر السند الواقعة في البنجاب بباكستان اليوم، وتطورت إلى نشوء حضارة بمدينة “هرابا” تزامنا مع وجود الدولة الأكادية في بلاد الرافدين (العراق)، وكانت الشعوب الأولى تتحدث بلغتي الموندا والدرافيدية، ثم غزت قبائل الآريين الهند قادمة من وسط آسيا وبلاد فارس (إيران) في وقت غير محدد بالضبط ويعتقد أنه ما بين عامي 1800ق.م و1200ق.م.

ابتكر الآريون نظام العبودية الطبقي ليبقى سكان البلاد الأصليين في الطبقة السفلى (شودرا) كي لا يتمردوا، أما الآريون فقسموا أنفسهم إلى كهنة (براهما) ومحاربين وطبقة عاملة، وتم ربط هذه العبودية بالأساطير الدينية. ويجدر بالذكر أن بعض المؤرخين يقولون إن التقسيم الطبقي كان موجودا قبل الغزو الآري.

كانت الكتابة نادرة في الهند حتى بين الكهنة، لذا لا نملك معلومات واضحة عن عبادات الهنود قبل الغزو الآري، وهناك من يعتقد أنه كان لدى الهنود الأوائل كهنة وتقديم قرابين دون وجود لمعابد وأصنام، ثم أصبحت الأساطير الوثنية أساسا للمؤسسة الدينية والسياسية على يد الآريين.

مخطوط ريغ فيدا

تُنسب إلى الكهنة الآريين مجموعة من الترانيم والأساطير باللغة السنسكريتية (أي الكاملة المقدسة) التي لم يكن يتقنها إلا هم، وكان أولها وثيقة تدعى “ريغ فيدا”، وهي تتضمن أكثر من ألف ترنيمة لآلهة الفيدا، كما تُنسب إليهم ثلاثة كتب أخرى هي سامافيدا (أغاني تتلى خلال الصلوات) وياجورفيدا (عبارات نثرية تتلى عند تقديم القرابين) وأتهَرفافيدا (طلاسم سحرية)، وتشكل هذه الكتب الأربعة الضخمة ما يسمى بالفيدات، ويُعتقد أنها إلهامات تلقاها الكهنة الأوائل عبر اتصالهم بمصدر المعرفة المتعالية، وهي حسب زعمهم أزلية وأبدية. وهناك من يضيف كتابا خامسا يدعى البورانات ويعتبره الفيدا الخامسة، كما يضيف البعض إلى الفيدات كتاب مهابْهارات الذي يتضمن أناشيد تدعى بْهاغافاد غيتا، وكذلك كتابي بنْشراترا ورامايان. وسنورد في مقال “نبوة محمد” نصوصا مقتبسة من بعض هذه الكتب وهي تُبشر بنبوته، وبعضها يذكر اسمه الصريح، ما يرجح أن أصولها تعود إلى الوحي السماوي.

مخطوطات من البهاغافاد غيتا

يعد كتاب بْهاغافاد غيتا من أكثر الفيدات تداولا، لأنه مختصر ويجمع خلاصة الدين الهندوسي، ويمكن للعوام قراءته، كما يعد محل إجماع جميع الطوائف والمذاهب الهندوسية.

ووفقا لكتاب “مدخل إلى الأسفار الفيدية” فإنه يمكن اعتبار أي كتاب على أنه من الفيدات طالما أنه يحفظ فحوى النصوص الأصلية للفيدات “حتى إذا لم يكن من جملة النصوص الأصلية الفيدية” [ص 1]، وهذا يكفي للاعتراف بأنها ليست كتبا موحى بها من الإله، حيث يقر باحثو الهندوس أيضا بأن كاتبي تلك النصوص غير معروفين على وجه التحديد.

ويختتم كتاب “مدخل إلى الأسفار الڤِدية” بسرد بعض ما يقال على لسان الباحثين والقارئين للفيدات من نقد، لا سيما بشأن تناقضاتها وإغراقها في الأساطير الخرافية عن العوالم الغيبية، حيث تتناقض أساطير البورانات مع أساطير الفيدات نفسها، لكن المؤلف يكتفي بالقول إن هذا الموقف لا يعكس سوى تحيز القراء غير المختصين لتراث الهند مطالبا الباحثين بأن يقرؤوا الفيدات بأنفسهم من دون فكر مسبق.

في عام ٨٠٠ ق.م تقريبا ظهرت سلسلة كتب أخرى تسمى “البراهمانا”، وهي مجموعة شروح للترانيم والأساطير والتأملات الباطنية (الغنوصية)، وتلاها ظهور كتب “أرانياكا” و”أوبانيشاد” التي استمرت كتابتها حتى عام 300ق.م. وفي هذه الكتابات الأخيرة بدأ ظهور الأثر اليوناني والروماني في الأساطير الهندية، وهو بالأحرى أثر القبّالاه اليهودية المحرفة للوحي كما سنرى لاحقا، مثل تأليه السماء المشرقة في آلهة تدعى “ديفاز” المشتقة من مصطلح “ديوس” اليوناني، وعبادة “هوديوس بيتر” الذي يقابل زيوس اليوناني وجوبيتر الروماني [راجع مقال الوثنية].

ويعد كتاب الفيداس Vedas المرجع الرئيس للهندوسية اليوم، فهو يضم مجموعة النصوص التي وضعها الكهنة والفلاسفة والشعراء خلال ثلاثة آلاف سنة، ويقع في نحو ثمانمئة مجلد تقريبا، حيث يضم الفيدات الأساسية والبراهمانات إلى جانب الأوبانيشادات التي تعد بمثابة تلخيصات وإضافات وتنويعات على الأصل.

وواقع الهندوسية اليوم يضع الباحث في حيرة من أمره، فهي طيف من الديانات والعقائد وليست دينا واحدا، حيث نجد تحت مظلتها من يؤمن بالتوحيد والتثليث وتعدد الآلهة والإلحاد في آن واحد. ومن الملفت أنه لا يُعرف على وجه التحديد من الذي وضع تلك الأساطير والنصوص، فمئات الملايين من الهنود مازالوا حتى اليوم يدينون بدين لا يُعرف من الذي أسسه. ويقول المؤرخ جون كولر في كتاب “الفكر الشرقي القديم” إنه من الصعب تتبع تاريخ الهندوسية لأنه يتسم بالغموض فيما يتعلق بالأسماء والتواريخ والأماكن، فالهندوسية تركز على العقائد والمبادئ أكثر من أي شيء آخر. [الفكر الشرقي القديم، ص 33].

تنص الكتب البراهمية المقدسة على أن أسرارها لا يمكن أن يفهمها سوى المنخرطون في سلك الرهبنة، فالسرية لا تقتصر على كونها مكتوبة باللغة السنسكريتية التي لا يعرفها عامة الناس، بل لا تُكشف المعاني الباطنية للنص إلا لمن يفني حياته في خدمة الدين، وهذه هي بالضبط فلسفة الجمعيات السرية والحركات الباطنية الغنوصية.
ينسب واضعو كتاب البهاغافاد غيتا إلى الإله كريشنا قوله “لا داعي لشرح هذا العلم الخفي لغير المرتاضين في الحياة أو غير المتتيمين، أو غير المنشغلين بالخدمة التتيمية، ولا لمن يحسدني”، [الإنشاد 18، الآية 67]، وهذا كفيل باتهام كل من ينتقد أساطير الهندوسية بأنه لم يفهمها، بل والزعم مسبقا بأنه من المستحيل أن يفهمها طالما كان لا يؤمن بها، ما يقطع الطريق على كل النقاد من خارج المؤسسة الكهنوتية.

ولحسم الجدل بشأن تعريف الهندوسية، فقد قررت المحكمة العليا الهندية أن الهندوسي هو الذي تتحقق فيه الصفات الست التالية:

1- يؤمن بالفيدات (نصوص كتاب الفيداس) ويحترمها.

2- يحترم عقائد الآخرين، على اعتبار أن للحق أوجها مختلفة (وهذا يدل على أن الهندوسية مجرد محاولة فلسفية لفهم العالم وليست حقيقة مطلقة في نظر أصحابها).

3- يعترف بأن الكون يمر بدورات خلق وانحلال متكررة إلى الأبد.

4- يؤمن يقينا بفكرة تناسخ الأرواح (وهي أكثر العقائد رسوخا لديهم، بل هي الأساس الذي تقوم عليه الهندوسية وتجتمع عليه كل مدارسها المتناقضة).

5- يؤمن بوجود عدد كبير من الآلهة وأزواجهم دون عبادة الأصنام نفسها.

6- عدم الإيمان بمبادئ فلسفية خاصة دون الهندوسية.

الألوهية والخلق
تدل الفيدات والأوبانيشادات على أن البراهمية القديمة آمنت بإله واحد مجرد عن التجسد، وكامل الصفات، وهو يشبه نسبيًّا في صفاته الإله الواحد الذي ينص عليه الوحي الإسلامي.

ففي الفيدات نجد هذه النصوص التي تتحدث عن الإله:
“لا صورة له” [ياجورفيدا، الإنشاد 32، الآية 3].
“هو غير متجسد وطاهر” [ياجورفيدا، الإنشاد 40، الآية 8].
“اهدنا الصراط القويم واغفر الذنوب التي تجعلنا نضل ونضيع” [ياجورفيدا، الإنشاد 40، الآية 16].
“أيها الأصدقاء لا تعبدوا سواه, القدوس, ادعوه هو وحده” [ريغفيدا، الكتاب 8، الإنشاد 1، الآية 1].

أما في الأوبانيشادات فنجد العديد من النصوص المماثلة، وهذه بعضها:
“واحد أحد لا ثاني له” [شاندوغيا، الكتاب 6، الإنشاد 2، الآية 1].
“لا والدين له ولا سيد فوقه” [سفيتاسفتارا، الإنشاد 6، الآية 9].
“لا يمكن رؤيته ولا تجسيده”. [سفيتاسفتارا، الإنشاد 4، الآية 19].

ويبدو أن تراكم النصوص والتأويلات والتحريفات على يد الكهنة الآريين قد حولت هذا المفهوم الواحدي المجرد للإله إلى مفهوم تعددي متجسد (وثني) حلولي باطني، ففي الكتب نفسها التي تجرد الإله وتوحده وتقدسه نجد نصوصا تتحدث عن مصدر أولي للكون يدعى براهمان، وهو كائن غامض انبثق عنه الكون بطريقة الفيض [انظر مقال الباطنية].

وكما هو حال الأساطير الوثنية الأخرى، تخيل مبتكر الميثولوجيا الهندوسية (غير المعروف) وجود عائلة إلهية ثلاثية، ثم توسعت الأساطير وتوسع معها مجمع آلهة الفيدا حتى أصبح يضم طبقات متعددة من الآلهة، وهي كثيرة ويصعب حصرها، وفي الطبقات الدنيا نجد عددا هائلا من الآلهة إلى درجة أن بعض المصادر تتحدث عن وجود 330 مليون إله، أي أن الآلهة باتت بمثابة السلالات التي تتوالد كالبشر، فهي تملأ السماء والأرض. وكأن الكهنة اقتبسوا هذه الفكرة من أصل موحى به، فالأديان السماوية المعروفة اليوم تتحدث عن عدد كبير من الملائكة والجن في عوالم غيبية.

يقول المؤرخ البريطاني ويل ديورانت في كتاب قصة الحضارة عن آلهة الهندوس “تزدحم بهم مقبرة العظماء في الهند، ولو أحصينا أسماء تلك الآلهة لتطلب ذلك منا مئة مجلد، وبعضها أقرب في طبيعته للملائكة، وبعضها هو ما قد نسميه نحن بالشياطين، والبعض الآخر أجرام سماوية” [قصة الحضارة، المجلد 2 الجزء 3، ص 27].

ومن بين هذه الحشود من الآلهة، يركز الهندوس اهتمامهم على ثلاثة آلهة فقط، يشكلون ثلاثة أقانيم في واحد بحيث لا يتقدم أي منهم على الآخر، وكأنهم إله واحد يتجلى في ثلاث صور، وهم:

1- براهما: الخالق ومانح الحياة وزعيم الآلهة.

2- فيشنو: إله الحياة والرحمة والحب، ويتم تجسيده على هيئة إنسان.

3- شيفا: إله الفناء والموت والدمار، وهو في صراع مع فيشنو.

ثالوث الآلهة الهندوسية، من اليمين إلى اليسار: براهما، شيفا، فيشنو

وتقول الأسطورة إن الإله الواحد “براهمان” هو الذي أوجد هذا الثالوث المقدس، وهو الذي يتجلى في صورهم، فهو حقيقة سرمدية أبدية لا تحدها زمان ولا مكان، ولا يعرف كنهه أحد، ويسمونه أيضا “أوم” Aum أي الكائن الأسمى.

وكانت البداية عندما رغب براهمان بأن تخرج الموجودات التي كانت في داخله، أي أن العالم كله كان متضمنا فيه وكان هو يحملها كالسفينة بحسب وصف الفيدا، فتأمل براهمان تأملا عميقا حتى انبثق عنه الماء، ثم صدرت عنه بذرة تحولت إلى بيضة صفراء (أو زهرة لوتس)، فانفجرت البيضة وخرج منه الإله الأول براهما الذي تابع مهمة التأمل حتى انبثقت عنه بطريقة الفيض الكواكب وتضاريس الأرض والإنسان وكافة المخلوقات، لكن هذا الفيض لم يكن ليتم سوى بمعونة عشرة آلهة وسيطة انبثقت بدورها عن براهما، كما انبثق عن براهما أيضا الإلهان الآخران فيشنو وشيفا.

وحسب الأسطورة أيضا فإن للآلهة الثلاثة الرئيسة طبيعتان، أنثوية وذكرية، حيث تجسد الطبيعة الأنثوية في صورة كائن يسمى “شاكتي”.

لوسيفر (إبليس) يظهر في الثقافة الأوروبية على هيئة ملاك سقط من الجنة كما في هذه اللوحة لغوستاف دوريه

وعندما نقارن هذه العقيدة بما انكشف لاحقا من خفايا العقائد الباطنية السرية، ولا سيما القبالاه اليهودية، نجد تطابقا ملفتا، فالإله براهما يقابل أدوناي في سفر التكوين، والإله شيفا يحمل صفات أدوناي الذي حرّم المعرفة على الإنسان، كما يحمل صفات الإله يهوه الذي يميل إلى معاقبة بني إسرائيل وتعذيبهم كما ورد في سفر الخروج، أما الإله فيشنو فليس سوى لوسيفر (إبليس) الذي تزعم القبالاه وكافة الجمعيات السرية الشيطانية أنه الإله الذي أحب الإنسان (آدم وحواء) وأراد أن يعرّفه على شجرة المعرفة التي حرمها عليه أدوناي.

وكما زعمت اليهودية المحرفة أن إبليس تجسد في هيئة ثعبان ليدخل إلى الجنة ويغوي حواء بالأكل من الجنة ويكشف للإنسان سر المعرفة، فقد قدست الهندوسية أيضا الثعابين وجعلتها رمزا للفحولة الجنسية، وأقامت لها معابد وطقوسا لعبادتها.

ويجدر بالذكر أن القبالاه تزعم أيضا أن الألوهية لها طبيعتان، وأن الإله (الذي تسميه عين صوف) يتضمن في ذاته الذكورة والأنوثة (شخيناه)، وأن الكون والوجود كله كان متضمنا في داخله قبل أن تنبثق عنه “البيضة الكونية”، وقد تجلى عين صوف في شجرة الحياة (سيفروت) لتكون وسيلته للخلق بتجلياتها العشرة كما هو حال الآلهة العشرة التي كانت وسيطة لبراهما، حيث تجسد القبالاه هذه التجليات العشرة ببلورات كروية نورانية.

ومع تراكم الأساطير والتعديلات والتفسيرات، يمكن القول إن الهندوسية الآن تتفرع إلى عدة مذاهب يقدس كل منها أحد تجليات شيفنو أو شيفا، بينما لم يعد براهما يحظى بالكثير من الاهتمام، كما لا يلتفت الكثيرون إلى الأصل براهمان الذي انبثق عنه كل شيء، أما الآلهة الأخرى التي تأخذ صفات الملائكة والشياطين فقد تحظى باهتمام عوام الهندوس في بعض الصلوات والأدعية طلبا لمساعدتها أو اتقاءً لشرها، لكن ما يوحد جميع هذه الطوائف بكهنتها وعوامها أنهم يهتمون بعقيدة التناسخ والاتحاد بالحقيقة المطلقة (أياً كان اسمها وصفتها) أكثر من اهتمامهم بطبيعة الإله.

الطبقات
يتكون المجتمع الهندوسي من أربع طبقات بناء على أسطورة الخلق، حيث أقنع واضعو الأساطير شعوبهم بأن براهما خلق كل فئة من الشعب على هيئة مسبقة فلا يمكن تجاوزها ولا التمرد عليها، وهي كما يلي:

1- الطبقة البيضاء (البراهمة): ينتمي إليها رجال الدين والعلماء، حيث خلقهم براهما من وجهه.

2- الطبقة الحمراء (الكاشاتريا): الأمراء والفرسان، وهم الذين خلقهم براهما من ذراعيه.

3- الطبقة الصفراء (الفيشيا): المزارعون والتجار والحرفيون، الذين خلقهم براهما من فخذيه.

4- الطبقة السوداء (الشودرا): الأنجاس المنبوذون، الذين خلقهم براهما من قدميه.

ومع أن الحكومة الهندية أصدرت قانونا بإلغاء العنصرية ضد “الشودرا” عام 1950، لكن الواقع لم يتغير إلا قليلا، فما زال ملايين المنبوذين مضطرون حتى اليوم للانخراط في مهن يأنف منها الآخرون مثل أعمال التنظيف وحفر القبور، وما زال أبناء الطبقات الأخرى يرفضون الاقتراب منهم أو حتى مسّ أيديهم كي لا يصيبهم “الدنس”.

 

التأمل والارتقاء
بما أن الإنسان قد انبثق عن الإله في الأسطورة الهندوسية، فهو إذن ليس مخلوقا طارئا بل كان موجودا أزليا كامنا داخل الإله، ما يعني أن الإله والكون والإنسان جوهر واحد، وأن هناك قنوات للاتصال فيما بينهم يمكن تنشيطها عبر شحذ الطاقة الروحية للإنسان، فمن خلال التأمل وممارسة طقوس اليوغا يصبح بمقدور الروح (آتمان) أن ترتقي وتتصل بالكون بكل ما فيه من كائنات حية وبحار وجبال، وأن تبلغ درجة الألوهية نفسها، وليس الاتحاد بالإله فقط، وهذه هي حالة الموكشا الهندوسية أو النرفانا البوذية، وهي أيضا تقابل حالة الدفيقوت لدى القبالاه اليهودية.

وإلى جانب الموكشا، تحدد الهندوسية ثلاث غايات أخرى لحياة الإنسان، أولها تسمى دراهما (أو دارما) وتعني أداء الواجبات اليومية للفرد العادي، والثانية هي أرثا وتعني السعي لتحقيق النجاح في العمل وجمع الثروة، أما الثالثة فهي كاما والتي تختص بالإشباع الجنسي.

وبما أن الثالوث الإلهي كان يتضمن الأنوثة في جوهره، ما يعني أنه كان ينكح نفسه بطريقة ما، فالجنس إذن جزء من العبادة ووسائل التطهر التي ترتقي بالإنسان ليصل إلى حالة الموكشا، لذا نجد أن خُلق الحياء الذي اعتاد عليها معظم البشر في مختلف الشعوب يكاد يكون غائبا في بعض مناطق الهند، فالإباحية هناك ليست مرتبطة بالثورة الجنسية المعاصرة التي انطلقت من الغرب الرأسمالي في القرن العشرين، بل هي جزء من معتقدات بعض الطوائف الهندوسية القديمة، حيث تمارس معابدها طقوس التطهر عبر ممارسة الجنس الجماعي العلني، وتجسد نقوشها هذه الطقوس بوضوح، مثل معبد الشمس فى كونارك الذي يرجع إلى القرن الثالث عشر، و85 معبدا آخر في قرية خاجوراهو تعود إلى القرن العاشر الميلادي.

وتسعى الحكومة الهندية في العصر الحالي إلى مكافحة الإباحية عبر شبكة الإنترنت، لكن البلاد تشهد مطالب من قبل بعض الكهنة الأصوليين بإعادة إحياء الطقوس الجنسية ونشرها بين المجتمع.

تانترا
فلسفة التانترا الهندوسية تعد أوضح مثال على تغلغل الشيطانية في الأديان الوثنية، فهي تقوم على فكرة اقتباس الطاقة (برانا) من الكون عبر التجارب الصوفية التأملية (اليوغا)، للوصول إلى اتحاد جنسي مع التجسد الأنثوي للإله (شاكتي)، ويتم ذلك باتخاذ وضعيات محددة للجسم (مودراس)، وترتيل تعاويذ معينة، واستخدام مخططات ورسوم رمزية (ماندالا)، وهي ليست سوى طلاسم شيطانية.
وقد حفظت لنا بعض المعابد من القرن العاشر الميلادي منحوتات تجسد ممارسات جنسية جماعية لاستنزال تلك الطاقة السحرية، وهي مقبولة لدى طائفة من البوذيين أيضا.

لكن الأمر قد لا يقتصر على هذه الطقوس التي لا تختلف كثيرا عما يمارسه عبدة الشيطان، فبعض الرهبان يستعينون بشريكات عاريات للوصول إلى تلك “الاستنارة”، فيحصل الاتصال الجنسي بذريعة كونه عبادة وليس زنا، ولا تكون تلك الطاقة التي يستشعرون حلولها في الجسد إلهية المصدر بل حلولا للشياطين في أجسادهم، فالمعابد الشيطانية الحديثة التي يعترف أصحابها بأنهم يعبدون فيها الشيطان تقوم بنفس هذه الطقوس (التي تسمى هيروس غاموس) للاتحاد بالشياطين دون تدليس، لأنهم يعتبرون الشياطين هي آلهة هذا العالم.

ومن الملفت أن طقوس الجنس المقدس موجودة لدى القبالاه أيضا، ويبدو أن الثورة الجنسية التي حملتها الحداثة إلى العالم ليست سوى إحدى نتائج هذه العقيدة.

التشابه بين الهندوسية والقبالاه لا يعني بالضرورة أن الأولى هي أصل الثانية، حتى لو كانت مدونات القبالاه وعلى رأسها الزوهار لم تظهر سوى في الألف الثاني بعد الميلاد، فمن المعروف أن القبالاه أقدم من ذلك، حيث تقول القبّالية هيلينا بلافاتسكي في كتابها العقيدة السرية “الحقيقة أن القبالاه قديمة قدم الشعب اليهودي نفسه، وظلت تنتقل تعاليمها شفاهة عبر الأجيال والعصور إلى أن تم تدوينها”.

العبادات
يحتل التأمل رأس قائمة العبادات الهندوسية، كما يمارس الهندوس نوعا من الصلاة في المعابد أمام الأصنام والأيقونات التي تمثل بعضا من الآلهة، فيقدمون لها قرابين ونذورا ويرتلون أمامها نصوصا من الأناشيد المقدسة.

كما يمارس الهندوسي نوعا من الذكر عبر ترديد صيغ مقدسة تدعى “مانترا”، وهي عبارة عن مقاطع صوتية تتضمن في الغالب أسماء الآلهة، ومن أشهر المانترات كلمة “أوم” التي يرددها الهندوسي بطريقة ملحّنة ومتتالية، حيث يعتقد أن هذه الكلمة هي الصوت البدائي الذي تم به خلق الكون بالفيض عن براهمان، ويساعد ترتيل المانترا على التركيز أثناء التأمل.

لا تُفرض على الهندوس تأدية زكاة على أموالهم، إلا أنهم يستحسنون تقديم الصدقات للفقراء، كما يشجعهم الكهنة على التبرع للمعابد لتغطية نفقاتها وكي لا يضطر الكهنة المتفرغون للمسألة.

يصوم الكهنة في بداية كل فصل من الفصول الأربعة، كما يصومون اليومين الأول والرابع عشر من كل شهر قمري، ويصومون مدة كسوف الشمس، ويتضمن الصوم الإمساك عن الطعام والشراب والكلام والجماع، أما عامة الناس فلا يُفرض عليهم الصوم بل يتطوع بعضهم لممارسته بهدف الارتقاء الروحي.

كما لا يُفرض الحج على الناس، لكن الملايين منهم يتطوعون للحج إلى نهر الكانج المقدس كل عام، وبعضهم يحج إلى المعابد الكبرى والمعالم المقدسة، ويتبرع ببعض ماله طمعا في الارتقاء وتحقيق الأمنيات.

ومن الواضح أن هناك تشابها بين هذه الطقوس والعبادات التي أمر بها الوحي (الإسلام)، إلا أن الهندوس تخففوا من عبء الفريضة وجعلوها نافلة لمن يشاء.

التناسخ والمعاد
تقوم عقيدة الهندوسية أساسا على مبدأ تناسخ الأرواح (سمسارا)، والذي يزعم انتقال الروح بعد موت الجسد إلى جسد آخر، سواء كان جسد إنسان أم آلهة أم حيوان.

ويستند هذا الاعتقاد إلى مبدأ آخر يسمى “الكارما”، وهو ينص على أن لكل فعل يقوم بها الكائن الحي عواقب أخلاقية تتناسب مع الفعل، وذلك وفق نظام شامل للعدالة التي لا تستثني أحدا، وهو مبدأ تلقائي قائم بذاته ولا يخضع للسلطة الإلهية، مع أن الكهنة لا يملكون أي حجة عقلية تبرر عمل هذا القانون من تلقاء نفسه ودون جهة واعية تشرف عليه.

وبما أن العدالة لا تتحقق في هذه الحياة الدنيا دائما، فقد قرر الكهنة أن الأمر يتطلب الانتظار للتناسخ والعودة في حياة ثانية لينال كل فرد حقه سواء بالثواب أو العقاب، ويبرر الكهنة بهذا المبدأ تفاوت الناس في ما ينالونه من جمال وذكاء وصحة وثراء ومركز اجتماعي، ويطالبون الناس بأن يجتهدوا في العمل وحسن الخلق كي يعودوا إلى الحياة بشخصيات أفضل، بل يزعمون أن المرء قد يعود إلى الحياة على هيئة آلهة إذا حقق درجة الكمال والاستنارة، ويحذرون من إمكانية العودة بعد الموت إلى الدنيا في جسد حيوان عقابا له، لذا يحرّمون ذبح الحيوانات وأكلها خشية أن تكون حاملة لأرواح البشر.

تؤمن الهندوسية بنهاية العالم، ولكنها تعتقد بأن كونا آخر سيُخلق من جديد بعد نهاية الحالي حيث يتناسخ الكون في دورات متتالية مثل البشر، وتقول الأسطورة إن فترة “كالي” التي ستحل قبل نهاية العالم تحمل عددا من العلامات، مثل كثرة القتل وتقارب الزمان وانشغال الناس بالملذات وفساد الأخلاق.

كالكي مع حصانه

تنتظر الهندوسية شخصية تدعى “كالكي” في آخر الزمان، وتقول إنه سيكون التجسد العاشر والأخير للإله فيشنو، حيث سيظهر أخيرا لإنهاء عصر الظلام والدمار، وتعتقد الهندوسية أن للإله تجسدات متعددة تسمى “أفاتار”، وهناك من يرى أن بوذا كان أحد هذه التجسدات، كما يرى أتباع بعض القادة الهندوس والبوذيين الكبار أن قادتهم يمثلون إحدى تلك التجسدات أيضا، مثل سري راما كريشنا الذي سيأتي ذكره لاحقا.

نجد في نصوص الهندوسية ما يدل على أن النيران ستشتعل لتحرق كل شيء في اليوم الذي ينتهي فيه العالم، لكن هذه النار ليست للعقاب، كما أنه لا يوجد هناك حشر ولا حساب، بل يعاد خلق الكون بعد فترة من فنائه، ويكون الثواب والعقاب بإعادة تجسد البشر وفقا لأعمالهم في الكون الجديد.

ويبدو أن الهندوسية لم تنف وجود الجنة نهائيا، بل جعلتها مكانا مؤقتا لا يخلد فيه الصالحون، فهي مكان جميل يحتوي على قصور وحدائق وأنهار، وتعيش فيه الآلهة، ويمكن لمن يعيش حياة صالحة أن يدخل هذه الجنة لفترة محدودة بعد موته، لكن دورة التناسخ ستعود لانتزاعه من هناك وإعادته إلى الأرض، فالخلود لدى الهندوس يقتضي الاتحاد مع الحقيقة العظمى وليس دخول الجنة.

 

الهندوسية والجمعيات السرية
سنستعرض الجانب السري للهندوسية في مرحلتين تاريخيتين، الأولى تعود إلى عصر الملك أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد، والثانية هي العصر الحديث.

أسرة الموريا والملك أشوكا
تعد الهندوسية من أقدم الوثنيات الباطنية التي ما زالت حية حتى اليوم، وبالرغم من نشأتها الغامضة كما أسلفنا فقد دخلت عليها طوال قرون العديد من المؤثرات حتى أصبحت خليطا من العقائد، كما انبثقت عنها أيضا عقائد أخرى في نيبال والصين ومناطق أخرى بآسيا، لكن تغلغل القبالاه في الهند لعب دورا إضافيا في جعلها أرضا خصبا للجمعيات السرية الباطنية.

في عام 269 قبل الميلاد، ورث الملك “أشوكا العظيم” الحكم عن والده بندوسارا، وبعد سبع سنوات تقريبا خاض في كالينغا بشرق الهند معركة طاحنة راح ضحيتها نحو مئة ألف إنسان كي يؤسس إمبراطوريته الضخمة، والشائع في التاريخ المتداول عالميا اليوم أن الملك أشوكا شعر بالندم على الدماء التي أزهقها، فتحول من ملك محارب إلى رسول للتسامح والأخوة الإنسانية، واعتنق الديانة البوذية (المشتقة من الهندوسية) دون أن يتخلى عن الأصل الهندوسي، وقرر أن يجعل من البوذية ديانة تبشيرية عالمية بإرسال الدعاة إلى أنحاء إمبراطوريته، ودوّن مبادئه في التسامح على أعمدة أشوكا الباقية حتى اليوم، والتي تعلوها منحوتة لأربعة أسود، ما زالت تمثل شعار الهند الرسمي حتى اليوم.

لكن ثمة رواية أخرى لقصة أشوكا، فعلى سبيل المثال يرصد الباحثان لويس بولز وجاك بيرييه في كتابهما “صباح السحرة” The morning of the magicians الجانب المخفي من تاريخ البلاد الذي لا نكاد نجد له أثرا في المراجع التاريخية الكبرى، فيقولان إن أشوكا أدرك بعد ضمه السواحل الشرقية للهند إلى دولته أنه لن يتمكن من الإمساك بزمام دولة مترامية الأطراف إلا بامتلاك قلوب الشعب قبل رقابهم، فسعى إلى نشر الهندوسية والبوذية لأنهما تقدمان للشعوب مبررا للسعي وراء الثروة والانحلال الأخلاقي دون أعباء. ولكي يضمن نجاح المشروع أسس جمعية سرية من تسعة قادة -وهو أحدهم- تحمل اسم “جمعية الرجال التسعة” [كتاب شفرة سورة الإسراء، ص 341].

وكما هو حال معظم الجمعيات السرية الأخرى التي تتوالد من رحم واحد منذ آلاف السنين، فإن هدف أشوكا من تأسيس جمعيته السرية كان بحسب زعم بولز وبيرييه هو “حفظ المعرفة وتطويرها كي لا تقع في أيدي الرجال الأذكياء ممن قد يوظفون علمهم وذكاءهم في سبيل الشر”، وقد أوضحنا في مقال الجمعيات السرية أن هذه المعرفة التي يحرصون على احتكارها ليست سوى مزيج من الفلسفة الباطنية الهرمسية والخيمياء والرياضيات والهندسة مع أكثر علوم السحر والتعامل مع الشياطين خطورة.

وتنتشر اليوم الكثير من المؤلفات والمواقع الإلكترونية التي تتحدث عن تفاصيل (يصعب التحقق منها رغم احتمال صحتها) بشأن استمرار وجود هذه الجمعية السرية، والتي يتم استبدال رجالها التسعة جيلا بعد جيل حتى اليوم، حيث يُعتقد أنهم ما زالوا يحتفظون بمعارفهم السرية المتطورة، ويؤمن الكثير من أصحاب هذه الروايات فعلا بأن هدف الجمعية هو حماية تلك المعرفة من الوقوع بيد الأشرار بدلا من العكس.

تقر المراجع التاريخية الكبرى بأن أسرة موريا التي حكمت الهند، والتي أسهها شاندرا غوبتا جد أشوكا عام 321ق.م غير معروفة الأصل، فلم يذكر لنا التاريخ سوى أن شاندرا غوبتا ظهر على المسرح الهندي لتأسيس مملكة تتصدى للغزو المقدوني (اليوناني) الذي قاده الإسكندر الأكبر، كما لم يحفظ التاريخ الكثير من آثار وقصص شاندرا وابنه بندوسارا، بينما احتفظ أشوكا بتاريخه المنحوت على أعمدة تحمل اسمه وصار تاريخ البلاد العظيم يبدأ من عنده، حيث أخبر عن نفسه بأنه ارتكب مذابح كبرى لتحويل مملكته الناشئة إلى إمبراطورية عظمى، ثم تحول بعدها إلى رمز للتسامح.

لكن الباحث بهاء الأمير -في كتابه شفرة سورة الإسراء- يرى سرًا آخر وراء هذه الأسرة مجهولة الأصل، ويتساءل لماذا ظل تشكيل جمعية الرجال التسعة طي الكتمان؟ ومن أين جاءت تلك الأسرة التي أعادت كتابة تاريخ شعب يقدر تعداده اليوم بأكثر من مليار نسمة؟

ينقل الباحث عن هيلينا بلافاتسكي أن نصوص البورانا الهندوسية المقدسة تنبأت بأن الموريا ستحكم الهند حكما روحيا خالصا وستكون مملكة التجلي القادم للإله، لكنه يفسر مقولتها بأن هذا التجلي ليس سوى تحريف لتجلي الإله في الماشيّح أو الهامشيحاه (المسيح المخلص بالعبرية) الذي ينتظره القباليون اليهود في آخر الزمان، وأن الأسود الأربعة التي اتخذتها الأسرة شعارات ليست سوى نسخة عن أسد سبط يهوذا الذي لا يكون حُكمُ بني إسرائيل إلا منهم وفقا لمقولة “حق الحكم الإلهي”. أما اسم موريا فليس سوى اسم جبل الهيكل الوارد في النص التالي من التوراة: “وشرع سليمان في بناء بيت الرب في أورشليم، في جبل الموريا حيث تراءى لداود أبيه”، ما يرجح -وفقا للباحث- أن تلك الأسرة الغامضة التي أسست جمعية سرية لحماية الهندوسية والبوذية ونشرها وتسييسها ليست سوى إحدى سلالات سبط يهوذا من بني إسرائيل الطامحين إلى حكم البشرية عبر ما يرونه وعدًا إلهيًّا.

العصر الحديث
كما هو حال القبالاه التي تزعم احتكارها للحقيقة الباطنية لليهودية، فإن فلسفة “فيدانتا” الهندوسية تتناول تفسيرات باطنية لكتب الفيدا والأوبانيشاد المقدسة، وتزعم أنها تعلم التأويلات السرية للنصوص وأنه يمكن من خلالها فهم الطبيعة المطلقة للحقيقة (الإله براهمان).

راما كريشنا

وهناك جزء من الفيدانتا تتمحور تعاليمه حول الإله فيشنو تحديدا، الذي سبق أن أوضحنا أنه يقابل إبليس نفسه بصفته الإله الحامل للمعرفة والمحب للإنسان، وقد بدأت هذه العقيدة الشيطانية بتشكيل جمعيات سرية منذ القرن الثامن عشر.

ومن أهم هذه الجمعيات جمعية “راما كريشنا” التي أسسها عام 1894م الراهب الهندي سْري راما كريشنا (المولود باسم غاداذار تشاتوبادياي) وتلميذه سوامي فيفيكاناندا، حيث انتقل فيفيكاناندا إلى نيويورك وأسس هناك جمعية فيدانتا وأصبح الأستاذ الأعظم لها، وما زالت الجمعيتان تنشئان فروعا ومدارس لنشر طقوسهما في الهند وأوربا وأمريكا الشمالية، وإليهما ينسب أيضا انتشار حركة العصر الجديد وثقافة اليوغا في كل الدول الغربية.

وبما أن الجمعيات السرية الشيطانية تنهل من نبع واحد، فقد التقى الأستاذ الأعظم للماسونية في الولايات المتحدة ألبرت بايك بالأستاذ الأعظم للفيدانتا، وأخذ بايك منه تعاليم الباطنية الهندوسية وجعلها أصلا لطقوس الدرجة الثانية والثلاثين الماسونية، وهي الدرجة قبل الأخيرة في الطقس الأسكتلندي.

كان سوامي فيفيكاناندا عضوا بارزا في محفل الأمل والمرساة الماسوني، وقد حصل على درجة الأستاذية فيه عام 1884.
ومن الملفت أن مدينة مدراس الهندية احتضنت أول محفل ماسوني أقيم خارج أوروبا وأمريكا، حيث تأسس عام 1724، أي بعد سبع سنوات فقط من تأسيس الماسونية في لندن. وما زالت الماسونية ناشطة بقوة في الهند، وقد أجرت صحيفة “تايمز أوف إنديا” لقاء مع أستاذ الماسونية الأعظم في الهند فاسوديفا ماسوريكار بتاريخ 10 فبراير/شباط 2013، وزعم فيه أن الماسونية ليست جمعية سرية بل مجرد “أخوية” تضم 22 ألف عضو.

وبطبيعة الحال، كان فيفيكاناندا يقدم نفسه إلى الغرب على أنه قديس يحمل رسالة السلام إلى العالم كما كان يفعل الملك أشوكا قبل أكثر من ألفي سنة، حيث يوثق أتباعه اليوم من محاضراته وكتاباته ما يدل على انفتاحه على كافة الأديان ودعوته للتعايش مع الجميع، وهو ما نجده في مؤلفات الروائي الإنجليزي كريستوفر إيشروود الذي كرس الكثير من حياته وأدبه للترويج للفيدانتا وتوثيق أقوال فيفيكاناندا، لكن هذا الخطاب “المتسامح” يصب في مجرى الجمعيات السرية الحديثة التي تسعى جاهدة لإعادة صهر الأديان كلها في بوتقة دين عالمي واحد، وهو دين عبادة لوسيفر أو فيشنو (إبليس) حامل الضياء الذي يسعى لكشف غشاوة الجهل عن الإنسان كما يزعمون.

في عام 1893، أطلق سوامي فيفيكاناندا مع القاضي الأمريكي تشارلز بوني مبادرة لإنشاء “البرلمان العالمي للأديان” في مدينة شيكاغو الأمريكية، والذي استمر بمزاولة أنشطته حتى أصبح مجلسا عالميا يحظى بشهرة كبيرة، ومنذ عام 2014 أصبح ينعقد سنويا.
ويعتبر هذا البرلمان منصة عالمية لنشر فكرة “وحدة الأديان”، حيث يسعى رجال دين من كافة الأديان لتقديم أطروحات تفسيرية لأديانهم بأقل قدر من الفوارق والحدود، ما يسمح لاحقا بدمج هذه الأديان كلها في ملة واحدة، وذلك بذريعة نبذ عوامل التفرقة بين البشر.

تتجلى هذه الرسالة بوضوح في كتابات هيلينا بلافاتسكي، فقد بدأت بتلقي تعاليم الجمعيات السرية عبر الهندوسية أولا عندما التقت بمعلمها كوت هومي في لندن، وهو أحد مؤسسي أخوية النور العظمى التي تدمج تعاليم جمعية المتنورين (إلوميناتي) بتعاليم الفيدانتا، وقد رحلت بلافاتسكي معه إلى الهند في منتصف القرن التاسع عشر وبقيت هناك عدة سنوات، ثم أسست في الولايات المتحدة عام 1875 جمعية الحكمة الإلهية (ثيوصوفيا)، التي تعد الآن من أهم الجمعيات الباطنية التي تلهم الكثير من صناع الرأي والقرار في الغرب، وقد افتتحت بلافاتسكي في مدينة مدراس الهندية فرعا لها أيضا قبل افتتاح المزيد من الفروع في أمريكا وأوروبا.

بلافاتسكي

وتعلن بلافاتسكي في كتابيها “إيزيس بلا حجاب” و”العقيدة السرية” ما تسعى إليه بكل وضوح، فهي تصرح بأن لوسيفر (إبليس) هو حامل النور والحياة والمعرفة والحضارة والحرية، وهو إله هذا الكون الذي يستحق أن يعبد بدلا من الإله الخالق الذي طرد الإنسان من الجنة، وبما أن الأرواح تتناسخ وفقا للعقيدة الهندوسية (والتي يؤمن بها الباطنيون) فإن الإنسان المخلّص (المايتريا) سيحل للمرة الخامسة والأخيرة في أحد الأجساد قريبا، ويتجلى فيه الإله براهمان، فيقود البشرية نحو الاندماج في أمة واحدة ودين واحد وهو دين عبادة لوسيفر.

وقد آمنت بهذه العقيدة أيضا سيدة أميركية يهودية تدعى أليس بيلي، وأسست منظمة عالمية تدعى “لوسيفر ترست” عام 1922، ثم تم تعديل الاسم إلى “لوسيس ترست” لدفع الشبهات عنها، وتلعب هذه المنظمة اليوم دورا مهما في دعم أنشطة منظمة الأمم المتحدة، وفقا للموقع الرسمي للمنظمة.

كانت بيلي أكثر وضوحا من أستاذتها، ففي كتابها “ظهور المسيح” تقول إن المسيح المنتظر سيكون من سلالة اليهود، وهو الماشيّح الذي ينتظرون ظهوره في آخر الزمان، وسيوحد الشرق والغرب ويحل به السلام في العالم كله. كما خصصت العديد من كتبها لشرح تعاليم “العصر الجديد” الذي تبشر به، [انظر مقال حركة العصر الجديد]، وجميع هذه الكتب متاحة للبيع على موقع “لوسيفر ترست” وليست سرية.

وهكذا تتقاطع الباطنية اليهودية مع الباطنية الهندوسية، فالماشيّح هو نفسه المايتريا، ولوسيفر هو فيشنو، والخلاص النهائي سيحدث عندما يخرج المخلّص إلى العلن ليوحد الناس جميعا في عقيدة واحدة بإخلاص العبادة لذلك الإله، وذلك مصداقا للنبوءات التي ينتظر المسلمون تحققها في آخر الزمان عندما يخرج الأعور الدجال.

أليس بيلي مع شعار منظمتها وغلاف كتابها

أما التلميذة الثانية لبلافاتسكي الكاتبة البريطانية آني بيزنت فكانت من أهم ملهمي المهاتما غاندي، مؤسس الدولة الهندية الحديثة، حيث التقى غاندي شخصيا بالسيدتين عام 1889، وكان يعلق صورة بيزنت في مكتبه بجوهانسبرغ في جنوب أفريقيا قبل أن يصبح قائدا للثورة ضد بريطانيا، ويقال إن بيزنت هي التي أطلقت عليه لقب مهاتما (الروح العظيمة)، وهو اللقب السنسكريتي المقابل للقب الأستاذ في جمعية الثيوصوفيا.

آني بيزنت مع غاندي

اشتهر غاندي عالميا بأنه كان منفتحا على كل الأديان ورافعا لراية السلم ومناهضا للعنف، وينقل عنه قوله “إن للأديان روحا واحدة، إلا أنها تتجلى في أشكال متعددة، والجوهر سيبقى حتى النهاية، والرجال الحكماء سيتجاهلون القشور ويهتمون بالروح الحية التي تحتها… أما الحقيقة فليست ملكا حصريا لأي كتاب مقدس على حدة”، وهذا ما كان يقوله المعلم راما كريشنا الذي اعتبر أن كل الأديان بما فيها الإسلام والمسيحية تؤدي إلى نتيجة واحدة.

والحقيقة أن هذه الدعوات للانفتاح لا تعدو كونها شعارات لتمييع الحقيقة حتى تتماهى مع الباطل، وليصبح الوحي السليم مكافئا للدين الأسطوري المحرف، فالأديان الباطنية وحركاتها التي مازالت تتوالد باستمرار لا تخوض في الأسئلة الوجودية الكبرى، وتكتفي بالدوران حول المسلّمات التي تتفق عليها كافة الأديان مثل وجود الإله ومحبته وضرورة التعايش في وئام وسلام، بينما تدعو بشكل غير مباشر إلى نبذ الأصول الأخرى التي لا يكتمل أي دين إلا بها ولا يصح جمعها مع أصول الأديان الأخرى.

وهذا التمييع يقع في قلب أهداف الجمعيات السرية كلها، وهو ما تعلنه جمعية بلافاتسكي وتلميذاتها بوضوح، وهذا يفسر تبجيل الغرب -بما فيه بريطانيا التي كانت تحتل الهند- لغاندي، حتى أصبح أيقونة عالمية يراد تعميمها واستنساخها، فهناك جانب غير معلن من قصة المهاتما واستقلال الهند وتقسيمها على حساب المسلمين.

منظمة أشوكا العالمية
تأسست هذه المنظمة في الهند عام 1981 لدعم أصحاب المشاريع الاجتماعية الرائدة في العالم ممن يسعون للتغيير الاجتماعي، وذلك على يد المدير المساعد للوكالة الأمريكية لحماية البيئة بيل درايتون. وتمنح المنظمة أعضاءها لقب زمالة أشوكا للدلالة على التميز والريادة، وتعلن في موقعها الرسمي أنها استمدت اسمها من “الإمبراطور أشوكا الذي تخلى عن العنف وأصبح واحدا من أكثر القادة تسامحا وانفتاحا وإبداعا في التاريخ”.

وإلى جانب المشاريع الخيرية والتنموية التي تدعمها، وهي مشاريع رائدة وتستحق التقدير، تولي المنظمة اهتماما كبيرا بالمشاريع التي تحث على التسامح والاندماج، وفقا للمفاهيم التي يتبناها دعاة اللاعنف مثل فيفيكاناندا وغاندي.


هاري كريشنا

أحد مهرجانات هاري كريشنا في موسكو

في عام 1965 قطع الهندوسي “أيه سي بهاكتي فيدانتا سوامي برابهوبادا” شوطا طويلا في دمج الهندوسية بالثقافة الغربية عندما أسس في نيويورك “الجمعية الدولية لوعي كريشنا”، والتي باتت تعرف باسم حركة هاري كريشنا، وهي تستمد أصولها من الكتب الفيدية التقليدية وتعتمد على تعاليم حركة “غوديا فاشينافا” التي سبق أن ظهرت في الهند عام 1486، وتركز جل اهتمامها على عبادة فيشنو وكريشنا.

استقطبت حركة هاري كريشنا اهتمام آلاف الشباب الأمريكيين تزامنا مع صعود حركات العصر الجديد، فكانت أشبه بموضة فكرية تضفي بعدا روحيا على حياة الهيبيين المليئة بالعبث والجنس والمخدرات، دون أن تحمّلهم أعباء أخلاقية أو تحرمهم من التمتع بالملذات الحسية، وذلك بالرغم من إصرار أدبيات الحركة على أنها تدعو للتقشف ومقاومة الشهوات، إلا أن فلسفتها الغامضة ظلت كما يبدو حبيسة الكتب، كما أن محاولتها إضفاء البعد الروحي على الممارسات الجنسية تكفي لجذب الشباب حتى لو اكتفوا بالبحث عن المتعة دون التفات إلى وصايا التقشف.

سرعان ما توسعت الحركة، وأصبحت اتحادا عالميا يضم مجتمعات مصغرة تكتفي بذاتها في الغابات، وذلك بعيدا عن ضجيج الحياة العصرية. وعندما انهار الاتحاد السوفيتي وسقط النظام الشيوعي الإلحادي؛ وجدت هذه الحركة أرضا خصبة في أوروبا الشرقية، لملء الفراغ الروحي لدى الشباب الباحث عن أي بوصلة.


ميهير بابا      
في عام 1925، بدأ شاب هندي من والدين إيرانيين زرادشتيين اسمه ميروان شيريار رحلته الروحية التأملية، وكان عمره آنذاك تسعة عشر عاما، وعندما أصبح جاهزا أسس جماعته الخاصة في بومباي مدعيا أنه “أفاتار” جديد يتجسد فيه الإله.

وكما هو حال الكثير من الزعماء الهندوس، لحق به الآلاف فأسس لهم قرية أسماها ميهيرأباد، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة التي باتت أرضا خصبة لحركات العصر الجديد، وأصبح من نجوم المجتمع إلى أن توفي عام 1969، وتحول مقره في مايرتل بتيش بولاية كارولاينا الجنوبية إلى متحف يستقطب المعجبين حتى اليوم، وهو شاهد على حياة الترف التي كان يعيشها.


مهاريشي ماهيش عام 2007 قبل شهور من وفاته
(Global Good News)

التأمل التجاوزي
بعد نجاح راما كريشنا و فيفيكاناندا في عولمة الهندوسية وربطها بالجماعات السرية الغربية، جاء دور مهاريشي ماهيش يوغي (المولود عام 1918 باسم ماهيش براساد فارما)، حيث انعزل في جبالا الهيمالايا ثلاثة عشر عاما حتى يصل إلى “الاستنارة”، ثم بدأ بتأسيس مشروعه عام 1959 محاولا تقديم الأساطير الغنوصية في ثوب علمي، فقدّم أبحاثا في مجال الوعي وعلاقته بهالات الطاقة المحيطة بالجسم، وأسس “جمعية التأمل التجاوزي الدولية” في لندن لتكون مظلة لأفكاره.

ذاع صيته في الستينات عندما بدأت فرقة البيتلز الغنائية الشهيرة بالتعلم على يديه، حتى أصبح من نجوم حركات العصر الجديد، مما منحه فرصة أكبر لترويج نظرياته التي كان يحاول من خلالها تقديم حلول لمشاكل العالم الاقتصادية والسياسية والتربوية والأخلاقية والصحية والإدارية، ثم أسس جامعات في الولايات المتحدة واليابان وهولندا وروسيا لتخريج أجيال من المعلمين الحاملين لأفكاره، والتي أصبحت جزءا من إمبراطوريته القائمة حتى اليوم.

في عام 1975 بدأ بالتبشير بما سماه “فجر عصر الإشراق”، وقام بجولة عالمية للترويج لبدء عصر جديد للإنسانية، وكان رئيس وزراء كندا بيير ترودو أحد الشخصيات المهمة التي استقبلته بحفاوة. وتتقاطع هذه الفكرة مع نظرية بلافاتسكي المذكورة أعلاه عن عصر جديد ونهائي يتجلى فيه لوسيفر “إبليس” حاملا الخلاص والنور والسلام إلى البشرية.


أوشو
ولد تشاندرا موهان جين عام 1931، وبدأ بشق طريقه نحو الشهرة في الستينات من خلال انتقاداته للأديان والسياسة وحتى بعض الرموز لدى الشعب الهندي مثل المهاتما غاندي، وفي أواخر الثمانينات اتخذ اسم “أوشو” وأصبح من أكثر رجال الدين الهندوسي إثارة للجدل.

على عكس المعلمين السابقين الذين حرصوا على الظهور في صورة المتقشفين، لم يتردد أوشو في الانفتاح على كل الملذات ومظاهر الخلاعة. فبعد انتقاله إلى الولايات المتحدة عام 1981 أنشأ في ولاية أوريغون قرية خاصة بأتباعه تحت اسم “راغنشبورام”، والتي أصبحت محجّا للباحثين عن أساليب جديدة تدمج التأمل بالجنس، وتصل بالممارسين إلى حد الهلوسة، وهي لا تختلف في شيء عن طقوس الجماعات الشيطانية.

لم يكن أوشو يخفي عن أتباعه وعن الصحفيين الجانب المترف من حياته الخاصة، فكان يمتلك عددا كبيرا من سيارات رولز رويس ويعيش في قصر فخم، فضلا عن ممارساته الجنسية المتعددة. وقد دخل في صراعات مع جهات إعلامية وسياسية واجتماعية كثيرة في أميركا مما أدى إلى طرده، حيث منعته أكثر من عشرين دولة من اللجوء إلى أراضيها، فاضطر للعودة إلى بلدته بيونيه في الهند ليموت فيها عام 1990.

أتباع أوشو كانوا يصطفون يوميا في قريته الخاصة بأميركا لتحيته عند مغادرته بسيارته الفارهة

والملفت أن أفكاره لاقت رواجا بعد موته أكثر مما كانت عليه في حياته، وهي من أكثر أنماط العيش ملاءمة لحركات العصر الجديد المنفلتة عن قيود الأديان والأخلاق، حيث يجتذب منتجع أوشو الدولي في بيونيه نحو مئتي ألف زائر سنويا، وتعد مريم نور من أهم مروجي فلسفته في العالم العربي.

في هذا الفيديو يتبرّك أتباع أوشو بقدميه في عيد ميلاده عام 1972:

البوذية
تقول الحكاية إن أميرا هنديا اسمه سدهارتا غوتاما ولد عام 560ق.م لملك كان يحكم مملكة صغيرة على الحدود الفاصلة بين الهند ونيبال، وعندما بلغ الأمير سن التاسعة والعشرين شعر بالملل من حياة الترف وانطلق في الغابات والجبال للتقشف والتأمل على طريقة اليوغا حتى بلغ حالة الاستنارة، وأصبح لقبه بوذا، أي المستنير.

انطلق بوذا للدعوة إلى مذهبه الذي يعد طريقة للخلاص تحت مظلة الهندوسية، فآمن به الناس وذاع صيته، ولم يترك بوذا لأتباعه كتابا يوثق تعاليمه، كما لم يرشح أحدا منهم ليخلفه، ويقال إن ثلاثة من كبار الرهبان الذين آمنوا به قرروا بعد وفاته تدوين فلسفته، وبعد نحو ثلاثة قرون وجد الملك آشوكا العظيم في هذه الفلسفة نسخة أكثر قابلية للتطبيق والتبشير، لا سيما وأنها تلغي الطبقية التي كانت موجودة في الهندوسية القديمة، فجعل منها دينا عالميا.

هناك من يشكك في وجود شخصية حقيقية اسمها بوذا ويرجح أنها مجرد أسطورة، وهناك من يرى في المقابل أن بوذا كان نبيا مرسلا من الله وداعيا إلى التوحيد الذي دعا إليه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنه من الصعب التحقق من صحة هاتين المقولتين فسنتعامل مع شخصيته وآثاره وفقا لما يقوله أتباعه.

تمثال لبوذا في حالة تأمل

من الملفت أن بوذا لم يتحدث عن وجود إله على الإطلاق، مع أن الهندوسية الأصلية تعبد ملايين الآلهة وتجعل على رأسها إلها خالقا، لكن بوذا ركز اهتمامه كله على الاستنارة والتوحد بالحقيقة المطلقة ونبذ الطبقية ورفع الظلم عن المضطهدين، وعندما يُسأل الرهبان البوذيون اليوم عن مفهومهم لبدء الخلق وأصله ومصيره وما بعد الموت فإنهم لا يقدمون إجابات شافية، فالبوذي يقصر اهتمامه على الجانب الأخلاقي والسلوكي ويتهرب من التفكير في الأسئلة الوجودية، ما يدفع بعض الباحثين للتردد في تصنيف البوذية ضمن الأديان واعتبارها مجرد فلسفة باطنية.

ونظرا لغياب مفهوم الألوهية لديهم، رفع الكهنة بوذا إلى مرتبة الإله مع الإقرار بأنه مجرد معلم وليس خالقا، إلا أنهم يقصدونه بالعبادة والتقديس. وتقام اليوم في المعابد البوذية صلوات وتتلى أناشيد ملحنة أمام أصنام بوذا، كما يؤدي الكثير من أتباعه صلاتهم في منازلهم أمام أيقونات على هيئة بوذا.

تُفرض الزكاة على أموال عامة الناس، وقدرها تُسع المال، أما الصيام فيتطلب الامتناع عن الأكل والشرب باستثناء الحليب، وبعضهم يصوم ثلاثة أيام محددة في السنة، بينما يصوم آخرون اليوم الرابع عشر من كل شهر قمري، أما الحج فيتطلب السفر إلى أربعة أماكن مقدسة في الهند ونيبال، ويقر الكهنة أن هذه العبادات لم يأمر بها بوذا بل وُضعت بعد موته.

وكما هو الحال لدى الهندوسية، يؤمن البوذيون بمبدأ “الكارما” والتناسخ، ويزعمون أن المرء قد يعود إلى الحياة على هيئة آلهة إذا حقق درجة الكمال والاستنارة، ويحذرون من إمكانية العودة بعد الموت إلى الدنيا في جسد حيوان، لذا يعتقد البوذيون أن بعض الديدان والحشرات ليست سوى كائنات بشرية ممسوخة، فيمتنعون عن قتلها.

تعد البوذية أكثر مادية من الهندوسية، فهي ترى أن الخلاص حالة لا تخضع للتغير، وهو الخلود والمجد والمعرفة المتعالية، حيث يشعر الإنسان بالطمأنينة والسعادة عندما ينال هذه الدرجة. كما لا تقر البوذية بوجود الروح (الأتمان عند الهندوس)، بل تزعم أن الإنسان مركب من أجزاء مادية متغيرة، وآلية الكارما تؤدي إلى تمتع الإنسان بالملذات المادية بعد التناسخ، فلا وجود للآخرة بنهاية المطاف. وهذه الرؤية المادية تعطي البوذية ميزة القبول في الغرب، لا سيما ضمن إطار حركة العصر الجديد.

بعد نحو ألف سنة من خروج البوذية من رحم الهندوسية، قدّم بوذيدارما -الذي يعتقد أنه الخليفة الثامن والعشرون لبوذا- مذهبا جديدا تحت مسمى بوذية التشان، والتي تعد النسخة الصينية من البوذية، ثم انتقل هذا المذهب إلى اليابان تحت مسمى بوذية الزن. ولا يختلف هذا المذهب كثيرا عن الأصل، إلا أنه يحاول أن يجعل تعاليم البوذية أكثر التصاقا بالحياة اليومية، ما يعطيه أيضا ميزة الانتشار في الغرب.


التقاطع مع الإسلام

الهندوسية والإسلام
تتقاطع الهندوسية مع الإسلام في الإقرار بالألوهية، لكن الإسلام يقوم على التوحيد والإيمان بأن للإله وجودا حقيقيا مطلقا، وبأن للمخلوقات وجودا حقيقيا نسبيا، ويتنافى هذا التوحيد مع وحدة الوجود واتحاد الخالق بالمخلوقات أو حلوله فيها.

أما الهندوسية فتقوم على تعدد الآلهة (الشرك)، وتقر بخلود الروح وتناسخها، وتعطي الأولوية للروح على الجسد، ما يؤدي إلى الزهد المتطرف، بينما يقول الإسلام بوحدة الروح والجسد وتحقيق التوازن بينهما مع الدعوة إلى الزهد المعتدل.

يرى كثير من المؤرخين أن الهندوسية لعبت دورا جوهريا في نشوء بعض الفرق الإسلامية أو التأثير عليها جزئيا، مثل الإسماعيلية وبعض الطرق الصوفية، غير أنه يجب التمييز بين نمطي التصوف الإسلامي لتحديد مدى تأثيرها عليه، ففي التصوف السني التعبدي ظل تأثيرها ثانويا ومحدودا، حيث أخذ عنها الزهاد بعض المظاهر كالسُّبحة والمخلاة، والقول بأولوية النفس على الجسد بصورة مخففة، أما التصوف الفلسفي فتأثر بها بقوة حتى كانت من مصادره الأساسية، ونرى ذلك واضحا في مقولة الحلول التي تُنسب للحلاج، وفي نظرية وحدة الوجود لدى ابن سبعين. [انظر: الباطنية والتصوف الفلسفي].

البوذية والإسلام
تلتقي البوذية مع الإسلام في العديد من القيم الأخلاقية والاجتماعية، مثل الدعوة للمساواة التي نص عليها الحديث النبوي “ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى” [رواه البيهقي وصححه الألباني]، وكذلك في التوسط بين الإباحة المطلقة والزهد المطلق، والذي نجده في الآية {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77].

لكن الاختلاف يظهر في عقائد جوهرية، وأهمها تأليه بوذا الذي يتناقض مع التوحيد، وإنكار البوذية لخلود الروح رغم قولها بالتقمص، وهو تناقض واضح.


أهم المراجع:

أبو الريحان البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، 1958.

ويل ديوارنت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود ومحمد بدران، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد 2 الجزء 3.

كيم نوت، الهندوسية: مقدمة قصيرة جدًا، ترجمة أميرة الصادق، مكتبة هنداوي، 2022.

جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ترجمة كامل حسين، سلسلة عالم المعرفة، 1995.

أمَة الرفيع محمد بشير، المعاد في الهندوسية (أطروحة دكتوراه)، الجامعة الإسلامية العالمية، إسلام أباد، بدون تاريخ.

عبد الرزاق الموحي، العبادات في الأديان السماوية، دار الأوائل، دمشق، 2001.

بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.

بدون مؤلف، مدخل إلى الأسفار الڤِدية، موقع رافاناري التابع لحركة هاري كريشنا http://www.ravanari.com/mad/madkhal.pdf

Klaus K. Klostermaier ,Hinduism, Oneworld Publications, Oxford, 2007.

Bruce M. Sullivan, The A to Z of Hinduism, Rowman & Littlefield, 2001.

David Livingstone, The Untold Story of Gandhi and Theosophy, 12/15/2013, conspiracyschool.com

http://www.ravanari.com

http://www.krishna.com

الإسماعيلية

فيلون اليهودي الذي عاش في الإسكندرية معاصرا ولادة المسيح عليه السلام كان يعيد تأويل النصوص اليهودية رمزيا

بالعودة إلى اليهودي عبد الله بن سبأ الذي جاء ذكره في باب “الإمامية الاثناعشرية“، فقد أقر المستشرق جولد تسيهر بأن ابن سبأ وتلاميذه استطاعوا أن “يورثوا الإسلام تركة فيلون اليهودي” بتفسيرهم القرآن الكريم تفسيرا رمزيا لتحريف معانيه وتأويلها بما يناسب هواهم [العقيدة والشريعة، ص156]، وقد فصّل الكثير من باحثي العقائد في المقارنة بين ما فعله فيلون اليهودي من تحريف وتأويل للتوراة وبين جهود ابن سبأ لتكرار التجربة نفسها مع القرآن، وخصوصا أن الأدوات المعرفية والفلسفية التي استخدمها العرفانيون من اليهود والمسيحيين هي نفسها التي لجأ إليها السبئيون بعد استيرادها من فلسفة فيثاغورس وأفلوطين والغنوصية الهندية والفارسية.

وكان ابن سبأ قد بدأ بوضع بذور الباطنية خلال حياة علي بن أبي طالب، فأخذ يتحدث عن تقديس علي وأحقيته بالخلافة ثم نشر الاعتقاد بغيبته ورجعته بعد موته. وجاء بعد ابن سبأ المختار بن أبي عبيد ليدعي أن محمد بن الحنفية هو الإمام بعد أبيه علي، ونشأت بذلك فرقة الكيسانية التي اعتقدت بتناسخ الأرواح بعد موت الأجساد. ومع أن ابن الحنفية تبرأ منهم فقد تبنى ابنه عبد الله -كما يقال- أفكار الغلاة، ووضع رموزا سرية للأرقام كي يفسر بها النصوص الدينية بما يوافق هواه، فجاء بعده من يعطي الرقم 7 أسرارا خفية.

واستمرت السلسلة مع ظهور أبو الخطاب الأسدي الذي يُنسب إليه القول بألوهية النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبأن الإله –تعالى- حلّ في سلالته من الأئمة بدءاً من علي، حتى أسقط أبو الخطاب الشرائع والفرائض ودعا للإباحية وتعلم السحر، كما حاول إقناع جعفر الصادق بخرافاته فطرده.

ويقال إنه كان له دور في إقناع المفضّل الجعفي بأفكاره الباطنية، فأثّر بدوره على محمد بن نصير مؤسس النصيرية (العلوية)، وكذلك على محمد بن إسماعيل وابنه، وعلى ميمون القدَّاح وابنه، وهما أبرز مؤسسي الإسماعيلية.

وبعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق سنة 148هـ، رأى بعض الشيعة أن الصادق أوصى بالإمامة لابنه الأكبر إسماعيل المبارك، فانشقوا بذلك عن بقية الشيعة وسُمّوا بالسبعية أو الإسماعيلية، بينما قرر الآخرون أن موسى الكاظم هو الإمام الذي يخلف أخاه الصادق، واستمرت سلسلة الأئمة لديهم حتى الإمام الثاني عشر فسمّوا بالاثني عشرية.

اختلف الإسماعيلية أيضا في مصير إسماعيل، فقرر البعض أن والده أقام له جنازة وهمية مدعيا وفاته لحمايته من بطش العباسيين، وأنه بقي حيا يمارس الإمامة، بينما وافق آخرون على أنه مات كما قال الاثناعشرية لكنهم فضلوا أن تكون الإمامة في ابنه محمد بن إسماعيل المكتوم بدلا من الكاظم. وقد تفرقت الإسماعيلية أيضا إلى فرق عدة لاحقا لتنوع التأويلات والخلاف على الأئمة والدعاة اللاحقين، ولتداخل الدين بالسياسة أيضا.

يختلف الإسماعيلية أيضا عن الشيعة بالميل نحو التأويلات العرفانية والإشراقية الصوفية، وقد كتب الكثير من الباحثين عن الأصول الفكرية المستوردة التي أثرت في عقائدها، بدءا ببعض الأفكار اليهودية والمسيحية، والعقائد الغنوصية المجوسية (الفارسية)، كما يظهر جليا تأثرها بمدرسة الأفلاطونية المحدثة، حيث كان رواد هذه الفلسفة في المشرق الإسلامي من الإسماعيليين.

العقيدة
تأثر الإسماعيليون في اعتقادهم بالله تعالى وفي خلقه وصفاته بالفلسفة الإشراقية المسماة بالفيض، وهي من نتائج المدرسة الأفلاطونية المحدثة، فيرون أن الله لم يخلق العالم مباشرة بل يفيض عنه العقل الكلي الذي هو محل لجميع الصفات الإلهية ويسمونه الحجاب، ثم يحل العقل الكلي في النبي وفي آل بيته من الأئمة الذين يخلفونه، فمحمد هو الناطق وعلي هو الأساس الذي يفسر الأسرار الباطنية للوحي. كما يُعد الإسماعيليون من “المعطلة” عند بقية المسلمين، أي أنهم ينفون الأسماء والصفات عن الله للمبالغة في تقديسه ولأنه في نظرهم فوق متناول العقل مما يوقعهم في تعطيل صفاته، فلا ينسبون إليه صفات العلم والقدرة والخلق وغير ذلك، كما لا ينفونها عنه، بل يضيفون هذه الصفات للعقل الكلي الذي يفيض عنه.

وتنطلق عقيدتهم من فكرة جوهرية -ذات أصول عرفانية صوفية- تقول إن لكل شيء ظاهرا وباطنا، ومع أنهم يعتمدون القرآن الكريم مصدرا للتشريع والعقائد فلا يأخذون بظاهره، بل يرون أن الحقيقة في باطنه الذي لا يعرفه إلا الأئمة المعصومين والعلماء، ومن هنا جاءت تسميتهم بالباطنية التي تشمل كل من انشق عن الجماعة الإسماعيلية من طوائف أخرى.

يرفع الإسماعيليون درجة الأئمة أكثر مما يفعل الاثناعشرية، ويضفون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه صفات توحي بتأليهه، ففي كتاب كنز الولد لمؤلفه إبراهيم بن الحسين الحامدي نجد نصا منسوبا لعلي يقول فيه “أنا الأول وأنا الآخر، وأنا الظاهر وأنا الباطن، أنا بكل شي عليم، أنا الذي سمكت سماءها وسطحت أرضها وأجريت أنهارها وأنبت أشجارها”، والإمام الذي يخلف علي هو محور الدعوة الإسماعيلية ومحور العقيدة، وله حجة وداعية يدعو إلى البيعة له والإيمان به ويمرر المعلومات السرية من الإمام لأتباعه.

يحتل العقل عندهم منزلة رفيعة، فإذا تضارب النص مع فهمهم له أوكلوا الأمر للأئمة ولمن يخلفهم لإعادة تأويله بما يناسب العصر والمصلحة. ونظرا لاعتقادهم بجوهرية الباطن الخفي فإنهم يحتفون بالمعاني التي يمكن استنباطها من الأرقام.

الدعوة السياسية
تابع الإسماعيليون مهمة تطوير الأفكار الباطنية التي ترددت على لسان ابن سبأ ومن بعده ليجعلوا منها فلسفة متكاملة في الدين والحياة والسياسة، وأقاموا تصورا لمجتمع مثالي وصفه خمسة من فلاسفتهم في كتاب “رسائل إخوان الصفا”، وأسسوا مدارس دينية سرية لاستقطاب الكفاءات الفكرية كي تنطلق بالدعوة بين الناس لهذا الدين.

واعتمدت الإسماعيلية على الدعوة السرية لنشر التشيع وتنصيب الإمام خليفة على المسلمين، وظلت تبرر مبدأ التقية بالخوف على حياة الإمام وسلالة آل البيت من بطش العباسيين طوال قرون حتى أصبح العمل السري والتخفي والكذب والتشفير أمورا معتادة بدلا من أن تكون مجرد وسائل لمرحلة انتقالية، والأصل أن الأنبياء الذين اضطر بعضهم إلى التكتم في مراحل الدعوة الأولى سرعان ما جهروا بدعوتهم لاحقا، وتحملوا في سبيل ذلك كل أصناف العذاب، ولم يلجأوا إلى التقية والكذب حتى أثناء مرحلة التكتم.

وبالعودة إلى البدايات، يؤكد بعض المؤرخين السنة أن نشأة الفكر الباطني المقترن بالدعوة الإسماعيلية قد حيكت خيوط مؤامرته في سجن العراق، حيث اجتمع عبيد الله (أو عبد الله) بن ميمون القداح -الذي كان والده ميمون بن ديصان مولى لجعفر الصادق- مع حمدان بن قرمط وأحمد بن الحسين ومحمد بن الحسين الملقب بدندان، واتفقوا على تحريف دين المسلمين بنشر الأفكار الباطنية ذات الأصول اليهودية والمجوسية.

ويقول عبد القاهر البغدادي إن ميمون نفسه وليس ابنه عبيد الله هو الذي كان في السجن وخطط للمؤامرة، وإنه خرج من السجن الذي حبسه فيه الخليفة المهدي ليرحل إلى المغرب ويعلن من هناك انتسابه لآل بيت النبي وأنه من ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، حيث كان ميمون وصياً على محمد بن إسماعيل من قبل جده جعفر الصادق فانتسب إليه، ويضيف البغدادي أن هؤلاء كانوا “دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم، وينكرون الرسل والشرائع كلها”، والدهرية هم الملحدون الذين لا يؤمنون بالله حسب التعريف القديم، وقد اختلف المؤرخون على رأيين في أصل ميمون فبعضهم جعله يهوديا بينما رأى آخرون أنه مجوسي.

ويؤكد مؤرخو السنة أن سلالة الأئمة الإسماعيليين -الذين أصبحوا خلفاء فاطميين لاحقا- ليسوا سوى أبناء القداح اليهودي، وأنهم لا يمتون إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم بصلة. ومن أهم من وثّق الطعن في نسبهم ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان، والباقلاني في سير أعلام النبلاء، وأبو شامة في كتابه الروضتين في أخبار الدولتين، وابن تغري بردي الأتابكي في كتابه النجوم الزاهرة، كما وافقهم في ذلك بعض المستشرقين مثل دوزي، وماسنيون.

وبالرغم من خطورة هذه المؤامرة فقد كانت الأجواء مهيئة لنجاح خدعة القداح مسبقا، إذ ساعد الاضطهاد الأموي والعباسي لآل البيت على تعلق كثير من العوام بالدعوة للتشيع، وتعمد أصحاب هذه الدعوة نشرها في اليمن والمغرب لانقطاعهما عن مركز الدولة في بغداد، كما ظل الأئمة المزعومين متخفين عن عيون أتباعهم فيما سمي بمرحلة الستر تذرعا بالخوف من بطش العباسيين مما ساعد على إخفاء حقيقتهم التي لا يعرفها إلا أقرب المقربين إليهم.

يكشف لنا التاريخ عن دورة حياة واحدة لمعظم الأديان والجماعات، حيث يتفانى المؤسسون بإخلاص لنشر دعوتهم وترسيخ أركانها ومؤسساتها، وقد يدفعون في سبيل ذلك أموالهم وأرواحهم، ثم تأتي الأجيال اللاحقة وتطمع في المناصب والمكاسب ليبدأ الشقاق والخلاف والتفرق إلى مذاهب عدة، ويبدو أن الباطنية الإسماعيلية لم تكن استنثاء.

وبعد كل ما بذله الدعاة الأوائل من جهد لنشر دعوة الإمام محمد بن إسماعيل بالسر وتأليف قلوب أتباعهم بما أسموه نظام الإلفة والإخاء، ومع كل ما عانوه من صعوبات بسبب ملاحقة العباسيين لهم، فقد بدأ الشقاق وفقا لرواية مؤرخي الإسماعيلية في عهد الإمام الحسين بن أحمد بن عبيد الله بن ميمون القداح (والذي كان يُعتقد أنه حفيد عبيد الله بن محمد بن إسماعيل) وسرعان ما تطور الخلاف إلى حروب طاحنة، حيث تشكك الداعي عبدان بأن الإمام كان مزيفا عندما زاره في بلدة سلَمية قرب حماة (مقر الدعوة الإسماعيلية الأول) ووجده شابا صغيرا مختلفا عما سمعه من أوصافه، وبدأ يشيع بأن الإمام قُتل وأن أولاد ميمون القداح استولوا على الإمامة.

في الوقت نفسه، كان زكرويه الفارسي (الذي يعتقد أنه مجوسي) قد بدأ بتنفيذ مخطط مماثل لمخطط أبناء القداح، فادعى ابنه يحيى أيضا أنه هو نفسه محمد بن عبيد الله بن محمد بن إسماعيل وخرج لاكتساب الأنصار في العراق والشام، أما أخوه الحسين بن زكرويه فادعى أنه أحمد بن عبيد الله وخرج لقتل عبدان الذي كان يشكك في نسب ابن القداح، ثم أخذ يتقرب من سلالة القداح ليستغلها وهو يطمع بما لديها من السلطة، مع أنه هو وعائلته ينافسهم على الانتساب المزعوم لآل البيت.

وبمقتل عبدان بدأ الصراع بين أولاد زكرويه والجنابي من جهة وبين حمدان بن الأشعث صديق عبدان من جهة ثانية، وأخذ الفريق الأول يقود معارك في البحرين والعراق لإجبار الناس على التشيع والخضوع لسلطتهم، بينما كان حمدان يحذر الناس من الطموح الدنيوي لآل زكرويه وآل القداح تحت شعارات نصرة آل البيت، إلى أن تمكن يحيى بن زكرويه من قتل حمدان خنقا في منزله، فرضخ الإسماعيليون لحكم الأقوى.

صار ليحيى بن زكرويه أتباع في العراق فحشد جيوشه من المرتزقة وحاصر دمشق، فهزمته جيوش ابن طولون وقتلته، فحمل الراية من بعده أخوه الحسين وانطلق في بلاد الشام ينشر مذهب التشيع الإسماعيلي ويجبر المدن على الولاء للإمام (من سلالة القداح) بدلا من الخليفة العباسي، وعندما وصل إلى الرقة (في وسط سورية حاليا) أرسل رسالة إلى الإمام بأن يدعمه عسكريا ليغزو حلب ثم المعرة وحماة وحمص، ومع أن الدعوة الباطنية كانت تصر في بدايتها على نبذ العنف ونشر التشيع بالمحبة، فقد وافق الإمام على ذلك وبارك له أسلوب “الفتح” العسكري لنشر المذهب، كما تقول مصادرهم.

عبيد الله المهدي سمى نفسه خليفة وأميرا للمؤمنين وأسس دولة شيعية موازية للدولة العباسية السنية

بعد موت الإمام الحسين بن أحمد وتولي ابنه عبيد الله المهدي (القداح) الإمامة، كانت الإسماعيلية قد تحولت إلى مشروع سياسي وعسكري لا يمت بصلة إلى مبادئ الإلفة والإخاء التي تأسس عليها المذهب، حيث كان الداعي أبو عبيد الله العسكري ينشر المذهب بقوة السلاح في تونس والجزائر، بينما يسابق آل زكرويه الزمن للسيطرة على العراق والشام وشرق الجزيرة العربية بقوة السلاح أيضا، مما أجبر الإمام للإعلان عن تنحية آل زكرويه عن كل المناصب وفقا لمؤرخي الإسماعيلية، مع أنه لم تكن له أي سلطة عليهم.

ومع أن عبيد الله المهدي (القداح) كان إمام زمانه “المعصوم”، ولكن يبدو أن قوة السلاح كانت أنفذ من صوت الإمامة، حيث لم يجرؤ الإمام على الرد على رسائل آل زكرويه الغاضبة التي تستنكر عزلهم، وعندما قرر أولاد زكرويه الانتقام منه هاجموا البصرة وقتلوا أهلها بما فيهم من نساء وأطفال، ثم انتقلوا إلى الفرات لحشد القبائل والبدو معهم في طريقهم لغزو الشام. وبدلا من أن يواجههم الإمام فقد قرر الفرار من مقره في السلَمية إلى المغرب، وما إن وصل إلى الرملة حتى جاء إليه الحسين بن زكرويه وحدثه عن خدمات عائلته للمذهب مستنكرا ما فعله الإمام بعزلهم.

ويبدو أن حجة الحسين كانت أقوى من الإمام “المعصوم” كما نقرأ في كتبهم، إذ كان الإمام ينصح الحسين بأن يعود إلى مبادئ الإخاء والمحبة والدعوة السلْمية، بينما يصر الحسين على أن جنوده البدو ليسوا سوى وسيلة لنشر الدعوة، فرضخ الإمام له وبارك له حملاته العسكرية، ووعده بأن يعود إلى السلَمية بدلا من الذهاب إلى المغرب، فخرج الحسين سعيدا بهذه المصالحة، وتابع حملاته فحاصر دمشق وأخضعها ثم توجه إلى حمص.

أما الإمام الذي يفترض أن يكون معصوما ومُلهما، فلم يفِ بوعده للحسين ولم يعد إلى السلَمية لشعوره بأن آل زكرويه سيخونوه مجددا وظل ينتظر في الرملة. وعندما خضعت حمص للحسين بعد خمسة أشهر، أرسل للإمام يسأله عن سبب تأخره في العودة إلى مقره بالسلَمية، فوعده الإمام الخائف مرة أخرى بالعودة إلى مقره ثم كذب، وتوجه إلى مصر.

يقول مؤرخو الإسماعيلية -ومنهم مصطفى غالب- إن الإمام “المعصوم” عبيد الله المهدي -الذي خرج هاربا من سلَمية خوفا من غدر الحسين بن زكرويه- اضطر إلى الكذب (تحت مسمى التقية) لإخفاء هويته طوال رحلته إلى تونس، فكان يدعي أنه تاجر، بينما يقول كل من رآه من أهل البصيرة -حسب غالب- والله ما هذا تاجر وإنما ملك من الملوك، لشدة هيبته.

الدولة الفاطمية
يتجاهل مؤرخو الإسماعيلية دور أبي عبد الله العسكري في تأسيس دولتهم الفاطمية بتونس في مطلع القرن الرابع الهجري، حيث حشد جيوشا من قبيلة كتامة البربرية للقضاء على الأدارسة والأغالبة قبل أن يصل الإمام المعصوم الهارب من مدينة سلَمية.

خريطة لمدينة المهدية تعود إلى القرن السادس عشر
(Braun and Hogenberg)

وعندما وصل الإمام عبيد الله المهدي (القداح) إلى تونس وأعلن عن تأسيس أول دولة للباطنيين في الإسلام، اجتمع رجال الدعوة الإسماعيلية في مؤتمر كبير وقرروا انتهاء دور الستر والتخفي الذي بدأ بالإمام السابع محمد بن إسماعيل، وبدء مرحلة جديدة يتولى فيها الإمام المعصوم السلطتين الزمانية والروحية، ثم أسس المهدي عاصمة دولته وهي مدينة المهدية التي ما زالت تحمل نفس الاسم بتونس. وقد أسهب المؤرخون السنة في وصف الجرائم التي ارتكبها المهدي لإكراه الناس على اتباع مذهبه، حيث أعدم نحو أربعة آلاف عالم، وأباح الخمور والفواحش وعطّل الشريعة.

بذل أبو عبيد الله العسكري جهودا جبارة للقضاء على الأغالبة عسكريا وتأسيس دولة الفاطميين، لكن الإمام المعصوم تخلص فور انتهاء مهمته، إذ يقول مؤرخو الإسماعيلية أنفسهم إن الإمام المهدي -الذي أصبح خليفة- بدأ يلاحظ تغيرا في سلوك أبي عبيد الله وميله إلى التمرد وسعيه إلى قتل الخليفة بتحريض جنوده من قبائل الكتامة البربرية عليه، فلاطفهم الخليفة وفرّقهم في البلاد، وطالب قادته بملاحقة أبي عبيد الله واثنين من زملائه حتى قتلوهم.

ويقولون إن الإمام كان رحيما بعد ذلك، فصلى على أبي عبيد الله ودفنه بجنازة كريمة، وقال “رحمك الله يا أبا عبيد الله وجزاك خيرا بجميل سعيك”.

وبالرغم من أن الدولة العُبيدية الفاطمية أصبحت قوية ولها أساطيل وجيوش، لكن التقية ظلت قائمة في الدين الإسماعيلي وفي الأديان التي تفرعت عنه، وما زالت حتى الآن.

القرامطة
وفقا لمؤرخي الإسماعيلية، شعر الحسين بن زكرويه بأن دمشق لن تنفعه في دعوته الباطنية وأن حمص ستكون أكثر ولاء له، فذهب بجيوشه البدوية إلى حمص واحتلها وأجبر خطباء الجمعة على الدعاء للإمام عبيد الله المهدي.

ثم شعر بأن الإمام لن يفي له بوعده بالعودة من الرملة إلى سلَمية لأنه لا يثق به، وكان الإمام بالفعل قد هرب إلى مصر ثم تونس لتأسيس الدولة الفاطمية، فذهب الحسين إلى سلَمية ودخل قصر الإمام وجمع من كان فيه من الخدم وأقارب الإمام الهارب وطلب منهم تسليمه كل أموال الإمام فلم يجيبوه، فقتلهم جميعا، ولم يخرج من المدينة التي كانت مركز الدعوة المقدسة وفيها عين تطرف.

وعاد الحسين إلى حمص ودعا الناس لتقديسه بوصفه الإمام المهدي المنتظر بدلا من الإمام الذي هرب لتونس، ولما سمع أهل دمشق بإرهاب الحسين بن زكرويه لقبوه بالقرمطي، وصار أتباعه هم القرامطة.

بعد مقتل الأخوين يحيى والحسين بن زكرويه على يد الخليفة العباسي المكتفي، لم يبق إلا أخاهم أبا الفضل بن زكرويه الذي اجتمع معه أتباع أخويه وصار زعيم القرامطة، فكان يغزو قرى الشام وينهبها جميعا ويقتل كل من فيها، حتى لقي حتفه.

وبعد مقتل أولاده الثلاث، قرر زكرويه بن مهرويه أن يقود بنفسه جيوش القرامطة، وأن يغزو الكوفة صباح العيد، فأمر رجاله بفتح السجون وإخراج المجرمين قبل اقتحامها، ثم دخل مع جيوشه وهو يصرخ “يا لثارات الحسين” أملا بأن ينتفض الكوفيون معه ضد العباسيين، لكنهم حملوا السلاح ضده وطردوه.

بقايا مبنى الكعيبة (شرق الجزيرة العربية) التي يعتقد أن الجنابي حاول أن يجعلها كعبة بديلة للمسلمين بعد اقتحامه للكعبة المشرفة في مكة المكرمة وسرقة الحجر الأسود وبقية كنوز الكعبة

عندما فشل زكرويه في احتلال الكوفة وإسقاط الدولة العباسية، حاول أن ينال دعم آل الجنابي الإسماعيليين في البحرين لكنهم لم يجيبوه، فاستقر مع جيوشه ومرتزقته القرامطة في صحراء الجزيرة العربية وبدؤوا بوضع الكمائن لقوافل الحجاج، وارتكبوا من المجازر ما يعترف به مؤرخو الإسماعيلية، حتى تمكن منه العباسيون وقتلوه وطافوا بجثته في البلاد.

بعد مقتل زكرويه تفرق الكثير من القرامطة وضعفت قوتهم، لكن العديد من القادة حاولوا إحياء هذه الجيوش واستثمارها مستغلين ضعف العباسيين وثورة الزنج وسيطرة الأتراك على سدة الخلافة ببغداد.

وبالرغم من تبرؤ مؤرخي الإسماعيلية من آل زكرويه لانحرافهم عن مسار الدعوة وتمردهم على الإمام، فإنهم يمتدحون آل الجنابي الذين أقاموا في البحرين دولة إسماعيلية “مثالية” تقوم على نظام الإلفة والإخاء، ثم يعترفون بأن أبا طاهر الجنابي الذي استولى على السلطة وعمره 17 سنة قد أصبح نفسه متوحشا، حيث جمع حوله القرامطة وأخلف وعده مع الخليفة العباسي بألا يتعرض لجيوشه فهاجم البصرة ونهبها، ثم خرج لمهاجمة الحجاج وفعل بهم ما لم يفعله آل زكرويه.

 

رسم تخيلي لحسن الصباح

الانقسام وظهور الحشاشين
بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر عام 487هـ/1094م قرر الوزير بدر الجمالي صرف نص تولية الإمامة من الابن نزار إلى أخيه المستعلي الذي كان ابن أخت الوزير، فانقسمت الطائفة إلى مستعلية ونزارية، ومع أن وزير المستعلي الأفضل بن بدر الجمالي تمكن من قتل نزار في الإسكندرية فقد قرر الحسن بن الصباح أحد دعاة الإسماعيلية الدعوة لنزار، وبهذا حُفظ هذا التيار من الاندثار وأصبح يطلق عليه اسم الدعوة الجديدة أو الإسماعيلية الشرقية، كما يسميها بعض الكتاب المعاصرين بإسماعيلية إيران.

يؤكد بعض المؤرخين أن نزار لقي حتفه قبل أن يُرزق بولد يخلفه، لكن أتباعه ادعوا أن له نسلا للحفاظ على الطائفة، وكان الحسن بن الصباح قد وجد في نزار فرصة ليحقق به طموحه لتأسيس دولة قوية تتجاوز العباسيين والفاطميين معا، فأيد أحقية نزار بالإمامة واستولى على قلعة ألموت (قرب طهران حاليا) واتخذها عاصمة له، فاكتسب ابن الصباح بذلك شرعية تأسيس دولته الخاصة التي كان قوامها فرقة سُميت بالحشاشين، وهي تسمية يتبرأ منها أصحابها، لكن بعض المراجع (وخاصة الاستشراقية الغربية) نسبتها إليهم بناء على رواية الرحالة الإيطالي ماركو بولو الذي قال إنه زار قلعة ألموت عام 1237م، وأكد أن ابن الصباح كان يستخدم الحشيش في تخدير أتباعه الجدد، ثم يضعهم في حديقة غناء ملأى بأشجار الفاكهة والقصور والأنهار الصناعية والجواري الجميلات، فيغترفون من الملذات وهم تحت تأثير المخدر، وبعد استيقاظهم يوهمهم بأنهم كانوا في الجنة، مؤكدا أنهم لن يعودوا إليها حتى ينفذوا أوامره، فيتحولون إلى فدائيين مهرة، ويتم استغلالهم لتنفيذ العمليات الانتحارية واغتيال كبار السياسيين في الدول المجاورة، ويقول مؤرخون إن قوائم الاغتيال التي احتفظ بها الحشاشون في ألموت كشفت عن خمسمئة شخصية نجحوا في قتلها.

حاول برنارد لويس وسيلفستر دي ساسي ومستشرقون آخرون التشكيك برواية ماركو بولو زاعمين أن كلمة الحشاشين لم تكن سوى شتيمة اخترعها السنة السوريون لتحقيرهم، غير أن باحثين آخرين قالوا إن الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله أرسل سنة 1123م رسالة إلى الإسماعيليين في سورية مستخدما مصطلح الحشيشية مرتين، وليس لدى مؤرخي الشيعة اليوم ما يدعم رأيهم بأن السنة هم من حقروهم بهذه التسمية طالما استخدم هذا الوصف أحد الأئمة الفاطميين.

اتخذ ابن الصباح لنفسه لقب شيخ الجبل، وكانت قلعته حصينة ومنيعة على الجيوش لوقوعها على رأس جبل صخري وعر، وتمكن أتباعه من السيطرة على قلاع عدة في شمال إيران وجنوب بحر قزوين وصولا إلى نهر جيحون. وبعد محاولات عديدة تمكنوا من انتهاز فرصة انشغال المسلمين بالحروب الصليبية وحققوا حلمهم بإيجاد موطئ قدم في سورية باحتلال قلعة أفامية.

ومع أن الصليبيين انتزعوا منهم القلعة وأسروا قائدهم أبو الطاهر الصائغ فإن الحشاشين لم يناصبوا الصليبيين العداء، بل ظل تركيزهم على معاداة المسلمين السنة دون غيرهم كما تقول الباحثة الشيعية أميرة الشيخ رضا فرحات في كتابها “الحشاشون.. بين الثورة والإرهاب”، وكان الحشاشون مهتمين بالتحالف مع بعض الأمراء السنة في سورية مقدمين لهم خدماتهم كفرق اغتيال محترفة لقتل خصومهم من أمراء السنة ومن الصليبيين أحيانا، وتمكنوا بذلك من اكتساب قلاع أخرى مقابل خدماتهم.

وقد أشرنا في مقال فرسان الهيكل إلى العلاقة التي نشأت بين هذه الجماعة السرية -ذات الأصل اليهودي الخفي- وبين الحشاشين أثناء الحروب الصليبية، حتى إن بعض المؤرخين المحققين يرون أن فرسان الهيكل اقتبسوا من الحشاشين بعض أسس العمل السري قبل أن يعود الفرسان إلى أوروبا ويشكلوا نواة الماسونية. وما زال مصطلح الحشاشين Assassin يطلق اليوم في اللغات الأوروبية على القتلة المأجورين الذين يقومون بمهمات الاغتيال.

قلعة مصياف

شن السلاجقة بقيادة ألب أرسلان وابنه بوري حملة لتصفية الحشاشين في سورية، وعندما حاول الفاطميون التقرب من ألموت لتوحيد الصف الإسماعيلي اكتشفوا وجود مؤامرة لاغتيال الخليفة الفاطمي الآمر ووزيره المأمون على يد الحشاشين، فنشر الفاطميون جواسيسهم لملاحقة الحشاشين وقتلهم أينما وُجدوا. لكن الحشاشين واصلوا جهودهم للبقاء والتحالف مع أي قوة تحقق مصالحهم إلى أن استولوا على قلعة مصياف العملاقة بعد تسع سنوات وجعلوها عاصمة لهم، كما سيطروا على قلاع أخرى في بانياس ومصياف والقدموس والكهف والخوابي وسلمية، وظهر سنان راشد الدين الذي استحق لقب “شيخ الجبل”، وهو لقب لم يُطلق من قبل إلا على أحمد بن عطاش والحسن بن الصباح.

في الفترة نفسها اضطر الخليفة الفاطمي الرابع عشر العاضد لتعيين عدوه السلجوقي شيركوه وزيراً له ليحمي عرشه من الانهيار، فغضب الوزير السابق “شاور” وحاول الاستنجاد بالقائد الصليبي “أملرك الأول” دون أن يفلح، وصعد صلاح الدين الأيوبي ليخلف عمه شيركوه، وخلال سنتين نجح في القضاء التام على الدولة الفاطمية وتحويل جامعتها الأزهرية إلى منبر للإسلام السني، منهيا بذلك أول “خلافة” شيعية في العالم الإسلامي، وهو تغيير لم يلقَ مقاومة تذكر كما يقول ابن الأثير.

وقد وصف ابن كثير انهيار الدولة في كتابه البداية والنهاية بقوله “وقد كانت مدة ملك العبيديين مائتين وثمانين سنة وكسرا، فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكامله”.

 

مخطوط يصور حصار المغول لقلعة ألموت
(متحف فرجينيا للفنون)

نهاية دولهم
ومع أن الحشاشين النزاريين كانوا أعداء أقحاح للإسماعيلية المستعلية الفاطمية، لكن انتصار صلاح الدين السني عليها أثار حنق شيخ الجبل سنان الذي يتزعم كل قلاع الحشاشين في سوريا، وتقول روايات الإسماعيلية إن سنان أرسل أحد فدائييه إلى قصر صلاح الدين في القاهرة، فدخل مخدعه وهو نائم ووضع بجانب رأسه خنجرا مغموسا بالدم ومعه رسالة تهديد، لكن هذه الواقعة لم تُذكر إلا في كتب الإسماعيليين والشيعة وقد شكك فيها مؤرخون آخرون مثل قدري قلعجي.

وسواء كانت الواقعة حقيقية أم لا، فقد شن صلاح الدين حملة كبيرة على الإسماعيليين في سوريا خلال حربه ضد الصليبيين، ويقال إن اثنين من الفدائيين حاولوا طعنه بين جنوده فنجا منهما وتم قتلهما على الفور، ثم حاصر قلعة مصياف التي يتحصن فيها سنان وبدأت بينهما المراسلات والتهديدات.

وأثناء الحصار، تقول روايات الإسماعيليين إن صلاح الدين استيقظ ذات صباح في خيمته فوجد خنجرا مسموما قرب رأسه وبجانبه رسالة تهديد أخرى من سنان، وتضيف الرواية أن صلاح الدين أدرك عندئذ أن سنان رجل شريف نبيل لأنه لم يقتله بالرغم من قدرته عليه، واقترح عليه خاله شهاب الدين الحارمي وهو والي حماة أن يكون وسيطا بينهما لعقد الصلح. لكن المؤرخ السني ابن الأثير يروي القصة بطريقة مختلفة، فيقول إن صلاح الدين حاصر قلعة مصياف حتى أرسل سنان إلى شهاب الدين يطلب منه أن يشفع فيهم عند صلاح الدين، بل قرن طلبه بتهديد الحارمي بالقتل إن لم يسارع لإنقاذه، فحضر شهاب الدين عند صلاح الدين وشفع فيهم فأجابه إلى ذلك ورحل عنهم‏.‏

كونراد دي مونتفرات

ويذكر المؤرخون أن الحشاشين تحولوا من أصحاب دعوة إلى مرتزقة، فكانوا ينفذون عمليات الاغتيال التي اشتهروا بها لمن يدفع لهم أكثر، ففي سنه 546هـ اغتالوا ريموند الثاني أمير طرابلس بتحريض من زوجته، ثم اغتالوا كونراد دي مونتفرات ملك مملكة بيت المقدس عام 588هـ بطلب من الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد.

ولم تمض مئة سنة على وفاة الحسن بن الصباح حتى بدأت جحافل المغول باقتحام بلاد فارس، وعندما وصل هولاكو إلى قلاع الحشاشين أدرك الحاكم الثامن لقلعة ألموت ركن الدين أنه لا جدوى من المقاومة، فعرض على المغول الاستسلام، فطلب هولاكو أن يأتي إليه ركن الدين بنفسه فذهب إليه وطلب من جميع أتباعه النزول من القلاع، فأحرق المغول قلعة ألموت في أواخر عام 1256م، ويقول الإسماعيليون إنهم دمروا مكتبتها الضخمة، لكن مؤرخين آخرين يؤكدون أن المؤرخ السني الجويني تمكن من الدخول للمكتبة قبل حرقها بساعات وإنقاذ حمولة عربة واحدة من الكتب التي ساعدته على التأريخ لهذه الطائفة ونقد عقيدتها.

أما ركن الدين فطلب مقابلة الإمبراطور المغولي في بكين، وفي الطريق طلبوا منه أن يأمر أتباعه في قلعة كوهستان بالاستسلام مقابل وعد من هولاكو بالأمان ففعل واستسلموا، ولكن المغول فتكوا بهم على الفور، ثم قتلوا ركن الدين وأسرته.

ويقول برنارد لويس إن المغول لم يكتفوا بهذا، إذ جمعوا من تبقى من الإسماعيليين بحجة إحصاء عددهم وقتلوهم جميعاً، ولم ينجُ منهم إلا من اعتصم بجبال فارس، وكأن الله تعالى سلّط عليهم من يفوقهم مكرا وغدرا ليجتثهم ويدمر قلاعهم التي أرهبت الناس، حتى لم يبق من ألموت اليوم إلا أطلال يزورها السياح.

أطلال قلعة ألموت في إيران (wikipedia/Payampak)

أطلال قلعة ألموت في إيران (wikipedia/Payampak)

أما الحشاشون في سوريا فلم يطل بقاؤهم كثيرا، حيث انتزع الظاهر بيبرس قلاع الحشاشين في كل من مصياف والقدموس والكهف والخوابي، فرضخوا لسلطان المماليك وأصبح عدد كبير منهم رهن أوامره، حتى يقال إن الظاهر بيبرس كان يهدد كونت طرابلس بالاغتيال بعد أن أصبحوا جزءا من جنده، وإنه استخدمهم لاغتيال إدوارد الإنجليزي.

ومع أن بيبرس لم ينتقم من الحشاشين بالقتل والطرد كما فعل بعض السلاجقة من قبله، فقد قبض على اثنين منهم قيل إنهما حاولا اغتياله مما دفعه لاعتقال شمس الدين الذي قيل أيضا إنه كان يخطط لمؤامرة مع الصليبيين، لكن والده العجوز نجم الدين شفع له عند السلطان فعفا عنه. وتتحدث بعض الروايات عن استمرار خيانة شمس الدين بعد أن تركه السلطان ليحكم قلعة الكهف، إذ حاول تدبير عملية اغتيال لبعض قادة المماليك، ومع ذلك لم يقتله بيبرس بل نفاه إلى مصر واستولى على آخر قلاع الحشاشين في سورية عام 672هـ/1270م.

الإسماعيلية في العصر الحديث
يمكننا القول إن الأيوبيين والمماليك أجهزوا بالفعل على مفاصل القوة لدى الدعوة الإسماعيلية بكل طوائفها بحيث لم تتمكن من العودة إلى سابق عهدها حتى الآن، ولعل أهم محاولات استعادة تلك القوة ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر، عندما ظهر في إيران رجل شيعي يدعى حسن علي شاه وقام مع أتباعه بأعمال هدد بها حكم الأسرة القاجارية الحاكمة، فاستغل الإنجليز نفوذه وشعبيته وشجعوه على إعلان الثورة عام 1840، إلا أنه فشل وقبض عليه، فتدخل الإنجليز للإفراج عنه ونُفي إلى أفغانستان، ويقال إنه طُرد منها إلى الهند، فشجعه الإنجليز هناك على إعلان نفسه إماما للطائفة الإسماعيلية النزارية وخلعوا عليه لقب آغاخان.

ويشكك كثيرون بصحة انتساب الآغاخان للإمام نزار كما يزعم، فهناك روايات قديمة تؤكد أن نزارا قد قُتل دون أن يخلفه أحد، لكن الإسماعيليين وجدوا في زعيمهم الجديد استمرارية للطائفة، ومازالوا حتى الآن يقدمون الهبات والعطايا لسلالته.

ويتزعم الطائفة النزارية اليوم الآغاخان الرابع شاه كريم الحسيني المقيم في فرنسا، وينتقده الإعلام الغربي لنمط معيشته المغرق في الترف والذي لا يختلف عن حياة نبلاء أوروبا، حيث يعتاد أفراد أسرته على إقامة الحفلات الباذخة والزواج من نجوم الفن، بينما يصر أنصاره على ضرورة انفتاح زعيمهم على متطلبات العصر، مشيرين إلى حصوله على شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة هارفارد، وإتقانه للغات العربية والإنجليزية والفرنسية، فضلا عن إدارته لمنظمات تنموية عالمية.

وفي سورية، يتركز الوجود الإسماعيلي (النزاري) بمدينتي سلَمية ومصياف، لكن بعض الكتّاب الإسماعيليين يؤكدون أنه لم يبق من الإسماعيلية في سورية إلا القليل جراء الاختلاط والاندماج، ويقولون إن أهالي مصياف والقدموس تخلوا عن الإسماعيلية والتحقوا بالشيعة الجعفرية خلال الحكم العثماني، كما يؤكدون أن العائلات الإسماعيلية في سلمية والقدموس باتت مختلطة مع السنة بطريقة تجعل الفرز مستحيلا، حتى أصبح ثلث سلمية أو نصفها سنياً ومتشبثا بدينه، حيث تجد في البيت الواحد من هو إسماعيلي ومن هو سني.

انضوى الكثير من الشباب الإسماعيليين تطوعيا في حرب 1948 عندما أعلن عن قيام إسرائيل، وازداد انخراطهم أكثر في المحيط العربي مع انضمامهم للحركات القومية العروبية. ونظرا للعداء التاريخي بين الإسماعيليين والنصيريين (العلويين)، فلم يكن من الصعب على الشباب الإسماعيليين الانخراط في الثورة السورية عام 2011.

أما الطائفة المستعلية فلعل أبرز من يمثلها اليوم هم البهرة، وهم بقايا الفاطميين الذين رحلوا من مصر واليمن إلى الهند، وينقسمون إلى بهرة داوودية ومقرها في بومباي الهندية، وبهرة سليمانية يتبعون قائدهم المقيم في اليمن. ويصر الإسماعيليون البهرة اليوم على أنهم مسلمون، ومع أن لهم مساجدهم الخاصة فإنهم يشاركون عامة المسلمين في الحج إلى مكة، كما يؤكدون على مسالمة المسلمين السنة والابتعاد عن السياسة أينما وجدوا، ويندر اختلاطهم بالآخرين في الزواج والمعاملة خارج حدود التجارة التي يشتهرون بها، كما يعتقدون بضرورة خروج إمامهم الأخير المستتر “الطيب” وهو حفيد المستعلي، بينما يختلف علماء السنة المعاصرون في الحكم على أتباع هذه الطائفة من حيث انتسابهم للإسلام أو خروجهم منه.

يتمتع شيوخ البهرة بالكثير من السطوة والتعظيم بين أتباعهم، وفي الصورة يظهر الداعي المطلق للبهرة الداوودية بين أتباعه في مدينة فادودارا الهند عام 1968

أهم المراجع
تاريخ الدعوة الإسماعيلية، مصطفى غالب، دار الأندلس، بيروت, 1965.

القرامطة بين المد والجزر، مصطفى غالب، دار الأندلس، بيروت, 1979.

تاريخ الإسماعيلية، عارف تامر، دار رياض الريس، لندن، 1991.

الحشاشون بين الثورة والإرهاب، أميرة رضا فرحات، دار المحجة البيضاء، بيروت، 2012.

أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية، برنارد لويس، دار الحداثة، 1980.

التاريخ الإسلامي، محمود شاكر، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة السادسة، 2000.

دراسة عن الفِرق في تاريخ المسلمين.. الخوارج والشيعة، أحمد جلي، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، 1986.

الكامل في التاريخ، ابن الأثير الجزري، تحقيق أبو الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، 1987.

فضائح الباطنية، أبو حامد محمد الغزالي، تحقيق عبد الرحمن بدوي، وزارة الثقافة المصرية، 1964.

التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، طاهر بن محمد الإسفراييني، تحقيق كمال يوسف الحوت، عالم الكتب، بيروت، 1983.

الفرق بين الفِرق وبيان الفرقة الناجية، عبد القاهر البغدادي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1977.