مقالات

رمزية المتاهة في الفن والعمارة

تعود المتاهات والمنحوتات الممثلة للمتاهة في الصخور والحجر إلى حقب ضاربة في القدم تاريخيًّا، وهي مثل Stonehenge والأهرامات تعتبر –في بعض العقائد- أشكالًا هندسية خاصة تضفي قدسيّة للمكان.

تعرض لنا الآثار والبقايا العمرانية آثارًا لمتاهات محفورة في الفسيفساء الرومانية، وفي الكهوف والمنحدرات والمقابر، وعلى الأرضيات الحجرية في الكنائس في العصور الوسطى، وقد بدأت ترجمة العقائد المرتبطة بالمتاهة في الواقع المادي من خلال المقابر في أوروبا الغربية، ولعلها تستند –من حيث المبدأ- إلى وجودها في المعابد اليونانية والرومانية والكنائس المسيحية.

تختلف طرق تأويل فكرة المتاهة، فهي عند بعض المفكرين تمثل كيفية أخذ الإنسان للقرارات، وأيضاً تعدّ طريق المعرفة والوصول للحقيقة، كما أنها كانت تستخدم لتنفير الأرواح الشريرة والشياطين، وتمثّل من جانب آخر طريق الضياع والذنب والإثم عند الإنسان الجاهل والمنبوذ، ولعل آخرين يربطون المتاهة بعلم الكونيات، حيث تمثل المنعطفات المختلفة وعودة نمط المتاهة المسار اليومي للشموس والكواكب(1).

صور توضح استخدامات المتاهة المختلفة في أماكن وأزمنة مختلفة.

صور توضح الاستخدامات المختلفة للمتاهة في أماكن وأزمنة مختلفة. المصادر: i.pinimg.com، labyrinthsantafe ،subpng.com

كان وجود منحوتات لشكل المتاهة بالقرب من مواقع الدفن من بين أقدم استخدامات فكرة المتاهة، وقد قاد ذلك الباحثين إلى استنتاج وجود صلات وتأويلات مرتبطة بالموت، وذلك لتوضيح العلاقة بين الموت والولادة من جديد في عصور ما قبل التاريخ. وقد صُممت بعض المقابر القديمة في غرب أوروبا على شكل يشابه رحم الأم التي قد يستريح فيها الجنين في حالة ما قبل الولادة، وكذلك الموتى في مرحلة ما بعد الحياة، فبحسب اعتقاداتهم، يعود الموتى إلى الأرض عند الدفن، لكي يولدوا من جديد (2).

المتاهة كاستعارة ورمز

في بعض الأحيان يكون شعور الشخص بالمتاهة غير مباشر ويكون الشعور بالمتاهة استعارة للضياع وعدم الفهم والاستيعاب. فالبعض يعتبر المباني والنصوص ذات طابع معقد وسمات صعبة كجزء من مفهوم المتاهة؛ مثل المباني القديمة التي أدى تعقيدها إلى تسميتها بالمتاهات. لذلك فإن أي مسألة كانت معقدة أو غير قابلة للفصل أو غير قابلة للاختراق أو غامضة أو غير مفهومة أو مربكة تفسّر على أنها متاهة.(3) وفي بعض التعريفات الأخرى، يتم تعريف المتاهة من خلال خصائصها وبناءً على مشاعر أو تجارب المشاة أثناء مرورهم عبرها كمساحة ثلاثية الأبعاد.

في ثقافات أو رؤى تأويلية أخرى اعتبرت المتاهة رمزًا، حيث تمثل المتاهة توجهًا معينًا وفكرة محددة، فتكون المتاهة تروي شيئًا معينًا. وعلى الرغم من أن المعنى الرمزي مرتبط بالوجود المادي، إلا أنه جزئيًا غير واضحٍ ويصعب نسبيًا فهمه. فمثلا في المتحف اليهودي في برلين، صمم المعماري دانيال ليبسكيند (حديقة المنفى) ويُعتقد أن تصميمه رمز للمنفى البابلي.(4) أما الشجر الذي ينبت فوق الأعمدة الاسمنتية للمتاهة، فهي تمثل حالة الاقتلاع والغربة.

إن المشاهد التي يستشعرها الزائر في المكان ترمز لفقدان نقطة مرجعية، فالحديقة عبارة عن متاهة من الأعمدة المائلة التي تزعزع استقرار الزائر وتخل بتوازنه. ومما يلفت الانتباه أن الحديقة محيطها مسدود ولا توصل إلى مكان محدد ولا سبيل للحرية، الطريق الوحيد للخروج هو بالرجوع للمدخل.

فيديو للعرض: رمزية المتاهة في المتحف اليهودي في برلين

المتاهة .. أنواع وأنماط

يتجلى مفهوم المتاهة بشكل رئيسي من خلال ثلاثة أنماط: وهي الأحادية، والمتعددة، والجذمور.

وتتصف المتاهة الأحادية بوجود خط واحد للمسار، والمتاهة هنا عبارة عن مسار متعرج، غالبًا ما يكون أحادي الاتجاه unicursal، مع مسار فردي يؤدي إلى المركز، والطريق للخروج يكون بالعودة مرة أخرى للمدخل. المتاهات هي نموذج قديم يستخدم رمزيًا للتأمل في المشي، أو الرقص المصمّم، أو ليكون موقع الطقوس والاحتفال.

ينظر للمتاهات أيضًا على أنها أداة للتحول الشخصي والنفسي والروحي. كما تم تعريف المتاهة الأحادية كنوع من أشكال الحج بمعناه اللغوي –أي القصد-، مع التقلبات والمنعطفات التي تقترب الحاج من الهدف ثم تأخذه بعيدًا مرة أخرى، وذلك قبل الوصول إلى المركز أخيرًا. وقد تكون المتاهات رمزية وتحمل معنى أكبر، حيث تم استخدام متاهات في الكنائس الكبيرة لأداء مناسك الحج الرمزية – مثل الحج إلى القدس.(5)

مثال على متاهة كلاسيكية أحادية

مثال على متاهة كلاسيكية أحادية Cretan labyrinth. المصدر: labyrinthsociety.org

 

فيديو للعرض: متاهة كريت مصنوعة من 2500 شمعة صغيرة محترقة – مركز التأمل المسيحي والروحانية لأبرشية ليمبورغ في كنيسة الصليب المقدس في فرانكفورت

معظم المتاهات تكون أحادية النمط، ولكن نمط المتاهة المتعددة ونمط الجذمور يشبه المتاهة، وذلك بوجود طرق مسدودة لحصول الارتباك لدى الداخل فيها. إن مفهوم الجذمور صعب للفهم ولذلك سيتم التركيز على المتاهات التقليدية في هذا المقال. قد يتم تأويل المسار في المتاهة أن الواقع في المتاهة قد يكون مقيدًا بسجنه داخل المتاهة، وذلك لعدم قدرته على فهم الذات الإلهية. كما تم تأويل المتاهة كرمز لعالم الخطيئة، ففي التفسير المسيحي، يمكن أن ترمز المتاهة أيضًا إلى عالم الخطيئة. وتم بناء متاهات الكنيسة لتمثل ثنايا الخطيئة التي تمنع الإنسان من الحج إلى الجنة.(6)

صور توضح الأنماط الأخرى للمتاهة. على اليمين نمط الجذمور، وعلى اليسار نمط المتاهة المتعددة.

صور توضح الأنماط الأخرى للمتاهة. على اليمين نمط الجذمور، وعلى اليسار نمط المتاهة المتعددة. المصدر: jilliancrandall.net/803

المتاهة في الأدب

كان الأدب وسيلة أخرى تتجلى من خلالها المتاهة، ففي أسطورة المتاهة، تم ذكر هيكل المتاهة كسجن للكائن الذي يحمل صفات نصفها وحشية ونصفها الآخر بشرية والذي يسمى مينوتور. وفي الأسطورة، جعل مينوس ملك كريت Crete المهندس المعماري دايدالوس يبني سجنًا لطفله الوحشي مينوتور، وبنى دايدالوس السجن كمتاهة. ومن الممكن أن هذه الأسطورة هي المظهر الأصلي للمتاهة في الكلمات (اللغة)، والتي اكتسب منها رمز المتاهة (الشكل المرئي) وجوده الأصلي ومعناه. علماً بأن في الأساطير اليونانية، كان ديدالوس مهندسًا معماريًا وحرفيًا ماهرًا، وكان يُنظر إليه على أنه رمز للحكمة والمعرفة والقوة.

أسطورة فيها الأميرة أراديان.

أسطورة فيها الأميرة أراديان. المصدر: ariadnedesigns.com

تعرّف بنية الأسطورة على أنها متاهة والحل لها يكون باتباع مسار محدد للأميرة أراديان، وهي شخصية مرتبطة بالمتاهات والشبكات والنسيج. اتباع هذا المسار هو الطريقة التي يتم من خلالها إدراك المعنى الخفي وبالتالي فإن طبيعة المتاهة تصبح مفهومة ويصبح الوصول للمعنى الخفي ممكنًا.

إن الأسطورة بوصفها شكلاً من أشكال اللغة الأدبية يتم تقديمها كشبكة من العلامات التي ترتبط ببعضها البعض بواسطة خيط خفي وموضوع لا يمكن الوصول إليه. يمكن أن يحدث عدد غير محدود من الاتصالات المحتملة بين هذه العلامات: “كل علامة تحمل أثرًا للمعاني المحتملة الأخرى والصلات الأخرى مع الإشارات داخل اللغة”. والمعنى المطلق مستحيل في هذه الشبكة، والمعنى الذي يتم التوصل إليه يعتمد على تفسير ذاتي. من ناحية أخرى، فضرورة وجود مسار للهروب من المتاهة يشير إلى أن هيكل المتاهة الموضح في الأسطورة هو من المفترض أيضًا أنها متاهة متعدد المسارات. (7)

إن الوقوف عند مفهوم المتاهة ورصد تجلياتها في العمارة المعاصرة والرموز الباطنية للحركات المختلفة، يعيننا على فهم حضور هذا الرمز إضافة إلى إدراك أبعاده في العقائد المختلفة، وهو ما أرجو أن أكون قد وفقت إلى التنبيه إليه، وإن لم أحط به، فالكمال لله، والنقص سمة المخلوق على الدوام.


الإحالات:

  • Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin. (p. 53)
  • المصدر نفسه
  • Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin. (p. 68)
  • فيديو يوضح رمزية المتاهة في المتحف اليهودي.  https://www.youtube.com/watch?v=kWmdPDCdANQ
  • Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin. (p.59 )

(6) Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin. (p.56 )

(7) المصدر نفسه

مارينا تبسم.. حين تحوّل المسجد إلى متحف

“لا تحتاج المساجد إلى مآذن”، هكذا تقول المعمارية مارينا تبسم التي حصلت قبل مدة على جائزة الآغا خان للعمارة، وبرأيها فإن المسجد الذي لا يحتوي في الواقع على مئذنة ولا قبة تقليدية، يقدّم تفسيرًا معاصرًا للمساحة الدينية ويتخلى عن جميع رموز التعريف التقليدية.

لا أنوي في هذا المقال التوسع في الاستنكار على عدم وجود المئذنة أو القباب فقد تحدثنا عنها في مقال “جامع سانجقلار، هل تحقق عمارته طفرة روحانيةوبالرغم من أنها ليست وحيًا من الله أو أمرًا ثابتًا في الدين حقًّا إلا أنّها جزءٌ من الهوية الجمعيّة للمسلمين على مرّ تاريخهم، وعلى أي حال فإن هذا المقال بصدد مناقشة إشكالية التركيز على الضوء والظلال في مسجد بيت الرؤوف وتحوّله بالتالي إلى شيء أشبه بالمتحف من كونه مسجدًا لعبادة الله.

لأبتدئ بسؤال: هل هو مسجد حقاً؟ وهل يستوفي الشروط التي تؤهله ليُسمى مسجداً، صالحاً لصلاة المسلمين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله؟

بالرغم من القبة والمئذنة غير موجودتان في المسجد إلا أن هذا ليس الانتقاد الأساس، إنما السؤال: هل الصلاة موجهة لله تعالى وحده في هذا المبنى؟

تبيّن لنا عمارة هذا المبنى تشابهًا كبيرًا مع نمط عمارة كثير من معابد أخرى معاصرة، حيث تتفق هذه المعابد في استلهام نمط تصميم خاص.

لننظر لمبنى ومعبد كنيسة الموحدة في روتشستر للمعماري لويس كان، والذي أيضاً كان يركز على الضوء والظل في عمارته؟ ما نقاط التشابه وإلى ماذا تشير؟ لماذا المعمارية مارينا تبسم تستلهم الكثير من أنماط المعماري لويس كان، من مختلف تصاميمه كما سنرى..

أوجه التشابه في النمط بين تصاميم المعمارية مارينا تبسم والمعماري لويس كان

بالحديث عن هذه الكنيسة والمعبد، يقول لويس كان -مستخدمًا كنيسة الموحدين الأولى في روتشستر مثالًا- “إن المبنى العظيم -في رأيي- يجب أن يبدأ بما لا يمكن قياسه، ويجب أن يمر بوسائل قابلة للقياس عند تصميمه وفي النهاية يجب أن يكون غير قابل للقياس، ما لا يقاس هو الروح النفسية”

أشار لويس كان إلى أن “الشيء الأساسي، في الكنيسة هي الطقوس الشخصية، وأنها ليست طقوسًا محددة، ومن هذا تحصل على الشكل” (1).

بناء على هذا فقد منحت كنيسة الموحدين الأولى عند اكتمال تصميمها “هالة غير قابلة للقياس” من خلال الديكورات الداخلية المضاءة بنور الشمس مما أدى إلى مزيّة خاصة أخرى، كما يقول أحد النقاد المعماريين الذي وصف مبنى الكنيسة بالآتي:

“الضوء الذي يتسرب في التفكير من خلال هذه المكعبات التي تضرب بالجدران وتضيء بشكل منتشر يخلق منطقة كبيرة، تثير هذه المنطقة الشعور بالاحتواء المطلق بطريقة ما، فالضوء يجعل الغرفة تبدو وكأن كل شيء غامض وبعيد ومساميٌّ ومنفصل يفتقرُ إلى الإضاءة المباشرة، بدلاً من ذلك هناك ضوء منتشر نشأ من الزوايا والأشكال المترابطة.” (2).

سنركز على (المسامات) فهي كلمة مهمة جدا في هذا النقد، لنرى هل هي موجودة في تصميم مسجد بيت الرؤوف؟  ما المعنى منها وإلى ماذا تشير؟

كما أن استلهام تصميم بيت الرؤوف لم يكن مأخوذاً فقط من هذه الكنيسة، بل أيضاً من تصاميم أخرى للمعماري لويس كان، سنرى ترجمتها وتجلياتها كما جسّدتها المعمارية مارينا تبسم.

في الاقتباس التالي، نجد معلومات عن خلفية لويس كان:

“في عام 1967، تلقى لويس كان عرضًا لتصميم كنيس يهودي في القدس، وكان الغرض من الشكل هو إثارة مشاعر الرهبة التي تتناسب مع وظيفة المبنى، التي كان لها تأثيرات عميقة عليه، كتوجهه لتجنّب الزخرفة ودمج المربّعات والدوائر والأشكال الهندسية البسيطة الأخرى التي تم تحقيقها في الخرسانة اللامعة، أعمال لويس كان وصفها كثيرون بأنها روحية أو صوفية.” (3)

اقترح لويس كان هيكلًا داخل الهيكل، بحيث تكون الأبراج حاويةً تنغرس داخل الأعمدة، شأنُها شأن المسامّ والتجاويف لتأكيد التداخل بين ما هو داخل المبنى وما هو خارجه وفقًا لستيفن ك.بيترسون، وتُعرف ظاهرة مساحات الجيب داخل البناء أو الهيكل باسم Poche Architectural. وقد عُرِض نموذج لويس كان في متحف إسرائيل وبقي التصميم على الورق، (4) إلا أن هذه الظاهرة من النسيج والتداخل في التصميم سنذكرها آخر هذا المقال.

أما في مسجد بيت الرؤوف، نرى أن الضوء يلعب دورًا رئيسيًا في بثّ الجو الروحي، بشكل مرقط فوق قاعة الصلاة ومن خلال شق عمودي في الحائط يشير إلى اتجاه القبلة للصلاة. كما يتحرّك الضوء والريح خلال النهار بأشكال مختلفة بهدف جعل المبنى أشبه بالكائن الحي الذي يتنفس ويستجيب للتغيّرات الخارجية.

دمج المربع والدائرة، هل ترمز للروحانية العقلانية؟

التوافق بين نمط مسجد بيت الرؤوف وفلسفة المعماري تاداو أندو
عند دراسة فلسفة المعماري الياباني تاداو أندو في تصميم مساحة التأمل في فرنسا، نرى أن التصميم “مساحة مجردة توحي بالوحدة والحرية الروحية، وأن الطبيعة لها دور رئيسي في هذا العمل. لقد استخدم أندو العمارة وسيطًا بين البيئة الطبيعية والإنسان، بهدف إيجاد اللقاء المباشر بينهما، فالضوء والماء والهواء ضروريان لأفكار تاداو أندو، وذلك لغاية استحضار العالم الطبيعي.” إذ إن منطقة التأمل هذه ستغدو رمزًا للسلام ومكانًا يمكن للزوار الشعور فيه بالوحدة والاندماج مع العالم. (5)

صور مختلفة لمساحة التأمل في فرنسا للمعماري تاداو أندو

صور مختلفة لمساحة التأمل في فرنسا للمعماري تاداو أندو

أما بالنسبة للضوء، فنرى أنه يمكن عبور مساحة التأمل دون الحاجة إلى فتح أي أبواب؛ حيث تؤكد العتبة الفاصلة بين الضوء والظل على مرورٍ رمزي في هندسة وفلسفة تاداو أندو، وهذا الاستخدام الخفي للضوء مهم جداً بالنسبة لتاداو أندو، فهو يرتبط بالروحانية المواتية لمكان التأمل. (6)

هذه النقاط بمجملها نراها جليّةً واضحةً في تصميم مسجد بيت الرؤوف، ويظهر ذلك في هذا الفيديو:

التصميم المسامي المجوف (التداخل بين الداخل والخارج) في مسجد بيت الرؤوف
نرى في المبنى الكثير من التلاعب بين الأضداد (النور والظل، الداخل والخارج، الفراغ والكتلة)… وكأن المبنى مُجوَّف ويجعل الوجود مثل النسيج… فلا يعرف المصلي أهو في الداخل أم الخارج، أم أنه في العتمة أم النور أم الظل.. ومن هنا نحتاج أن نعرف هل يوجد أبعاد وآثار لهذا التصميم؟

البعد الباطني المحتمل لفكرة التصميم المسامي والنسيج بين التضاد
في فلسفات الباطنيين أفكار كثيرة عن أهمية التضاد حيث يصبح الداخل هو الخارج والجزئي هو الكلي والكلي يصبح الجزئي وهكذا.. ويمثّلون للتضاد بمرحلة البرزخ، ويعتبرون منطقة البرزخ هي المكان الذي فيه العلم اللدني، من خلال الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم وتفسير معناها باطنياً، كما في قوله تعالى: (مَرَجَ البَحرَينِ يَلتقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ) [الرحمن، 19،20]. وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) [الكهف، 60]، حتى إن ابن عربي يقول: إن “علم الوجود ضياؤه وظلامه نورٌ يمازجه كيان ظلام”.

وهنا ما زلنا نتساءل، هل يوجد توافق؟

ختاماً
في المبنى المدعو (مسجد بيت الرؤوف) الذي أصبح أقرب للمتحف من المسجد، يدخل ساحة الصلاة الرجال والنساء دون الحاجة للتستر اللائق بالمسجد، ودون وجود مكان مخصص للنساء دون الرجال. كل هذا نضعه جانباً ونسأل أنفسنا، لمن الصلاة في هذا المبنى؟ الآن لقد وصلنا الى معضلة، مَن سيُعبَد داخل هذا المسجد؟ هل نعبد النور أم التضاد من نور وظل؟ هل نتقرب للبرزخ؟ أم هل ستُعبَد الشمس؟ أم ربما نخلو ونتأمل بأنفسنا؟

مصلون في مسجد بيت الرؤوف

مصلون في مسجد بيت الرؤوف

المعمارية نفسها تساعدنا وتختصر لنا الطريق، ففي مقابلة معها عام 2018 تقول:

“يجلب هذا المبنى شعورًا هائلًا بالروحانية، هذا للتواصل مع كل ما تريد الاتصال به. التواصل مع الله.. والتواصل مع الطبيعة، والتواصل مع الشمس، كيفما تريد أن تفهمها، المهم أن هذا الاتصال موجود”. (8)

وهنا نقول: شكرا جزيلا لك يا أستاذتنا المعمارية، على هذا التوضيح.


الهوامش:

  1. https://cutt.ly/sh6otTI
  2. المرجع السابق نفسه
  3. https://cutt.ly/mh6osL9
  4. https://cutt.ly/lh6ojPy
  5. https://cutt.ly/dh6ocsX
  6. https://cutt.ly/zh6omG6
  7. https://cutt.ly/ah6oRUN
  8. https://cutt.ly/Yh6oOyq

مصادر الصور:

https://cutt.ly/Mh6atH5

https://cutt.ly/7h6aaKD

https://cutt.ly/bh6ahb4

https://cutt.ly/Ih6o52F

https://cutt.ly/Ch6pyhe

https://cutt.ly/ch6paQW

https://cutt.ly/jh6ph8D

https://cutt.ly/sh6aPBb

 

الضوء والظل في العمارة وفلسفات الإشراق.. هل يوجد توافق؟

عُرِف المعماري لويس كان بلقب سيد الضوء، لاعتماده على تصميم العمارة بناء على تمازج الضوء والظل، فلقد كان الضوء عنصرًا مركزيًا مهمًا في فلسفة لويس لأنه اعتبره مانحًا أساسيًّا للوجود، فهو بالنسبة إلى لويس، صانع المادة، والغرض من المواد هو إلقاء الظل، ويلاحظ في فلسفته المعمارية، أنه غالبًا ما يجعل الضوء كمصدر خلف فتحات التهوية أو الجدران الثانوية أو المشربيّات(1). فهو يركّز على كيفية تشكيل الضوء والتلاعب بالظل وعلى تأثير الضوء بدلًا من تركيزه على مصدر الضوء نفسه.

تتمحور رؤية لويس حول تقليل الاعتماد على الضوء بهدف إدراك ظلمة المكان، وأن وجود الظلام يحتاج لوجود الضوء والعكس بالعكس.

الضوء والظل في تصميم الجمعية الوطنية في دكا، بنغلاديش من تصميم لويس كان

الجمعية الوطنية في دكا، بنغلاديش من تصميم لويس كان

العمارة وفلسفة النور والظل والجمال
يقول الفيلسوف ادموند بيرك في كتابه “(ن الذوق: الذوق الرفيع والجميل، خواطر عن الثورة الفرنسية): “فيما يتعلق بالنور، فلجعلها قضية قادرة على إنتاج السمو، يجب أن تحضر مع بعض الظروف، إلى جانب ملكيتها المجردة لإظهار المادة. إن الضوء المجرد هو شيء شائع جدًا لا يجعل انطباعه قويًا في العقل، وبدون انطباع قوي لا شيء يمكن أن يكون ساميًا” (2) إذن فإحدى أهم اعتمادات فلسفة الضوء في العمارة هي: إلقاء النور على الحياة، وبالتالي فإنّ ربط الحياة بالنور هو أول عمل سامٍ حصل في الوجود.

وبالرغم من أن المعماريين لا يمكنهم خلق النور، إلا أن كلّ ما بين أيديهم القدرة على التلاعب بطريقة ورود النور أو توجيه الضوء في البناء، وعند القيام بذلك يمكن للمهندس تغيير صفات الضوء، وبذلك فإن أن تصميم الظلام والظل والنور هو الطريقة الوحيدة للمعماريين –في نطاق عالميّ- لإظهار وتقديم السمو في العمارة.

استخدام الضوء والظلال كمادة بناء
المعماري الأمريكي ستيفين هول يقول عن فلسفة بنائه: “سألني أحدهم عن مادتي المفضلة في البناء، فقلت: الضوء، فأنا أؤمن حقًا أنه يمكنك النحت بالضوء، وأعتقد أن الهندسة المعمارية يجب أن تتصل، كما يفعل معبد البانثيون، بالجو والفصول وضوء الشمس، في الهواء إلى الريح، وهذا بالنسبة لي أمر أساسي”(3).

الضوء والظل في قاعة سيمونز في جامعة  MIT من تصميم ستيفين هول

قاعة سيمونز في جامعة MIT من تصميم ستيفين هول

متحف اللوفر أبو ظبي
صُمّمَ متحف اللوفر أبو ظبي بشكل مستوحى من المشربيات العربية القديمة، وذلك بهدف جعل الزائر يستشعر سقوط النور عليه، وتمتد الأعمال الفنية والتحف الموجودة إلى الوجود البشري بالكامل، كما يحتوي المتحف على معرض مخصص للأديان العالمية، علمًا أن المتحف من تصميم جان نوفيل.

الضوء والظل في تصميم متحف اللوفر أبو ظبي على يد جان نوفيل

تصميم متحف اللوفر أبو ظبي على يد جان نوفيل

مسجد بيت الرؤوف
يُلقّب بمبنى سيمفونية الضوء وقد حاز على جائزة آغا خان للعمارة. تقول المعمارية مارينا تبسم “الضوء بالنسبة لي مادة جميلة للعمل بها، خاصة إذا كان بإمكانك استخدامها بشكل صحيح، مثل كيفيّة جلب الضوء، أعتقد أنه يمكن أن يجعله روحيًا وتأمّليًا للغاية” (4).

الضوء والظل في تصميم مسجد بيت الرؤوف من تصميم مارينا تبسم

مسجد بيت الرؤوف من تصميم مارينا تبسم

محمية الموجب للمحيط الحيوي
يقول عنها المعماري د. عمار خماش: “في هذا الفراغ يقوم الزائر باختراق ألواح متقاطعة من ضوء الشمس، تحضن بينها أعمده مربعةً من الظلال، أعمدة الظلال هذه تحمل القبة” (5).

الضوء والظل في مركز زوار وادي الموجب في الأردن- الجمعية الملكية لحماية الطبيعة

مركز زوار وادي الموجب في الأردن- الجمعية الملكية لحماية الطبيعة

المقبرة الإسلامية في النمسا
في المصلّى التابع للمقبرة الإسلامية في النمسا -الحائز على جائزة آغا خان للعمارة أيضًا- نرى في تصميمه ترميزًا لحياة البرزخ والمرحلة الانتقالية بين المادة والنور، وبين الوجود الحسي إلى الوجود غير المرئي أو من المرئي عالم الجسد إلى اللا مرئي عالم الروح.

الضوء والظل في تصميم مصلى تابع للمقبرة الإسلامية في النمسا

مصلى تابع للمقبرة الإسلامية في النمسا

كاتدرائية النور
كاتدرائية النور أو (الليختدوم) من تصميم المعماري ألبرت سبير، والتي كانت سمة جمالية رئيسية لتجمعات الحزب النازي في نورمبرغ من عام 1934 إلى عام 1938، والتي لا تزال تعتبر من بين أهم أعمال سبير، وقد ظهرت تأثيرات جمالية مماثلة في الحفل الختامي للألعاب الأولمبية لعام 1936 في برلين بالتعاون مع ألبرت سبير ومعماريين آخرين.

الضوء والظل في تصميم كاتدرائية النور من تصميم ألبرت سبير

كاتدرائية النور من تصميم ألبرت سبير

وصف سبير التأثير في كاتدرائية النور بقوله: “كان الشعور بالغرفة الفسيحة، حيث كانت الحزم الضوئية بمثابة أعمدة قوية لجدران خارجية ذات إضاءة لا متناهية”. كاثلين جيمس تشاكرابورتي، أستاذة تاريخ الفن ومؤرخة معمارية، وخبيرة في الحداثة الأمريكية والألمانية، تقول: “اللحظة الأكثر دراماتيكية وتأثيرًا في مسيرات الحزب النازي لم تكن عرضًا عسكريًا أو خطابًا سياسيًا، بل كانت الليختوم، أو كاتدرائية النور” (6).

بانثيون في روما
يأتي اسم البانثيون من الكلمة اليونانية بان ثيون (Πάνθεον) والتي تعني (معبد جميع الآلهة)، وعلى الرغم من أن الاسم الأصلي للمعبد غير معروف، فمن المرجح أنه آتٍ لكونه استُخدِم لعبادة جميع الآلهة الرومانية. في البانثيون يسقط الضوء من الثقب المركزي الكبير (العين) في الجزء العلوي من القبة، مما يؤكد منحنى السقف من خلال تلاعب الضوء والظل. ويعبر الضوء ليؤكد رمزية ارتباط السماء بالعالم الأرضي (7).

الضوء والظل في تصميم معبد بانثيون وتحرك الضوء فيه بأوقات مختلفة من اليوم

معبد بانثيون وتحرك الضوء فيه بأوقات مختلفة من اليوم

تجليات مبدأ وحدة الوجود في بعض فلسفات المتصوفة
عن مفهوم النور والعلم والوجود، يتكلم ابن عربي عن وجود عمود والشمس فوقه مباشرة، في هذه الحالة الوجود الوحيد هو للعمود (الواحد)، أما عند تحرك الشمس، فإن ذلك يصنع الظل (وهو الآخر)، وذلك لشرح فلسفة وحدة الوجود وكيف تشكّل الجزئي والكلي من منبع واحد (8).

وهنا يرسم لنا هيوستن سميث الخط الأفقي والخط العمودي عند دعاة الحكمة الخالدة –كما في الرسم البياني- وذلك لتوضيح مفهوم وحدة الأديان المتعالية –لدى القائلين بها-، حيث إن النور فيها واحد لكن أشكاله مختلفة، أي أن المِلل –عندهم- تشير لحقيقة واحدة بمظاهر مختلفة (9).

رسم بياني لما يسمى بـ “وحدة الأديان المتعالية”

 

على اليمين: جزء من المتحف الاستقلال في بنغلاديش من تصميم كاشف شودري ومارينا تبسم.
على اليسار: المعبد في ألمانيا Crematorium Baumschulenweg

عند قراءة سيرة حياة المعماريين المعاصرين، نرى أن الضوء الذي دخل البانثيون ألهم المعماري لو كوربوزييه في عام1911، والذي صمم عدة كنائس في فرنسا ظهر فيها الضوء بأبعاد ومعانٍ ميتافيزيقية، وعند زيارة معبد بانثيون، قرر تاداو أندو -صاحب تصميم كنيسة النور في اليابان- أن يصبح مهندسًا معماريًا في عام 1965. (10) مما يستدعي النظر في ماهية فلسفة الضوء والظل ولماذا نتج منها كل هذه الإلهامات المختلفة؟

لكن السؤال الذي يقدّم في هذا الإطار هو: هل يوجد علاقة بين فلسفة النور والظل مع فلسفة الصوفية لوحدة الوجود؟

إن الإجابة على هذا السؤال ستستغرق منا مقالاً آخر بإذن الله..

يتبع..


الهوامش

(1) https://cutt.ly/VhMcgU2

(2) https://cutt.ly/rhMcvNc

(3) https://cutt.ly/mhMvaRv

(4) https://cutt.ly/UhMvciD

(5) https://cutt.ly/dhMvngB

(6) https://cutt.ly/HhMWPLr

(7) https://cutt.ly/8hMbEAM

(8) https://cutt.ly/LhMbJX7

(9) https://cutt.ly/lhMbXrC

(10) https://cutt.ly/xhMb1n9

مصادر الصور:

https://cutt.ly/KhMQ6Cu

https://cutt.ly/ThMWwHl

https://cutt.ly/HhMWr0O

https://cutt.ly/zhMWy2B

https://cutt.ly/UhMWomE

https://cutt.ly/ThMWpJv

https://cutt.ly/NhMWWgi

https://cutt.ly/yhMWE8E

https://cutt.ly/KhMWIPa

https://cutt.ly/HhMWPLr

https://cutt.ly/chMWJ8B

https://cutt.ly/vhMWZXY

 

نقض مظاهر الخرافة في العمارة

هذا المقال سيكون لطرح وإثارة أسئلة ومحاولة لتحليل ظواهر ومفاهيم معاصرة، دون وجود إجابات قاطعة بالضرورة وإنما محاولة للفهم، وذلك لئلا نطمئن لنمط واحد ثابت وحقيقة قاطعة لمفهوم العمارة خاصة في ظل عصر الحداثة السائلة المتغيرة.

الطريقة الأنسب للمضي قدما عند التكلم بموضوع شائك متشعب تكون بطرح الأفكار ووجهات النظر المختلفة، ثم النقاش ومبادلة الآراء وتفكيك المعلومات وترتيبها وتنقيتها للوصول للنقد دون الإسفاف والتسخيف والتسطيح، لتصبح الصورة أكثر وضوحا والفكرة أكثر تبلورا، ومن تلك المواضيع الجدلية هي مفهوم العمارة الإسلامية.

إننا عندما نتكلم عن العمارة الإسلامية، فإنه يخطر ببال البعض أجواء الصحراء الساحرة والأضواء الذهبية وقصر علاء الدين وعالم ألف ليلة وليلة، كما شبهها المؤرخ المعماري د. ناصر الرباط في محاضرته (إعادة تسمية العمارة الإسلامية) (1)

رسم متخيّل لقصر علاء الدين من انتاج شركة ديزني

نحن المسلمون مستمسكون بالوحي وقارئون للواقع، فهل نسمح لصورة العمارة الإسلامية أن يتم ربطها وتنميطها بالخرافة؟ كيف وصلت منتجات الحضارة الإسلامية لتلك الصورة النمطية ولماذا يتم الترويج لها، وربط الصورة الرومانسية للعمارة الإسلامية بأنها قديمة وصحراوية فيها قباب وأقواس عالية وزخارف معقدة؟ وما هو الحل للتخلّص من هذه الصورة النمطية؟

هل يكون الحل بالتخلي عن القباب والأقواس والزخارف؟

ربما قد يرى البعض أنه من الأفضل أن لا نثق بما أنتجته الحضارة، ويريد أن يفهم الاسلام من جديد ويتجرد من كل الأشكال التقليدية والشوائب التاريخية التي قد تعيق من فهمنا لجوهر الإسلام، بما أنه لا رموز في الإسلام، وأنه صالح لكل زمان ومكان؟

بالرغم من صحة أن الإسلام لا رموز مادية فيه، إلا أنه يجب التنبّه إلى أن الإسلام ليس فلسفة روحانية خالصة، وإنما هو منظومة كاملة تلقي ظلالها في جوانب الحياة الدنيا ومتطلباتها وقراراتنا فيها، والذي لا يقتصر دوره –في حالة العمارة- على الإفتاء بجواز البناء بشكل أو نمط معين وانما فهم استراتيجية البناء وفلسفته، وملاحظة إن كانت متوافقة مع الظروف المحيطة دون وجود أشكال ظلم وإجرام للبيئة/الأرض أو الناس أو الثقافة لذلك السياق.

العمارة الإسلامية في الواقع المعاصر
هل يتطلب فهمنا للواقع المعاصر التركيز على الوظيفة المادية للتصميم، وهل التركيز على الهوية قد يعيق هذا التقدّم؟ أم هل يعتبر التركيز على الهوية خطابًا عاطفيًّا؟ هل أصبح الشعور بالهوية والانتماء شيئًا ثانويًّا يضاف كلمسة أخيرة لإسكات ضمائرنا من التجرد الذي وصلنا إليه؟ هل العمارة الاسلامية مختزلة بأشكال وأنماط معينة؟ أم هل هي استراتيجية وفلسفة بناء؟ أم ربما لا يوجد شيء اسمه (عمارة اسلامية) وما هي إلا تبعية وتقليد للملل الأخرى؟

البعض ممن يريد أن يطور من التصميم العمراني ليواكب الواقع، يلجأ لتصميم حداثي متناقض لا علاقة له بالبيئة المحيطة، ثم يغطّيه بزخرفات ذات صبغة إسلامية ليعطيها طابعًا خاصًّا.

قاعة المؤتمرات والمعارض في جامعة GUtech Oman

العمارة في عصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
الصورة التالية توضح نموذج مجسمِ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسجد النبويّ عندما تم بناؤه.

مجسم بيت ومسجد الرسول (ص) عند بناءه

في حين إن رجعنا إلى القائمة التي تصنّف العمارة الإسلامية في الأقواس والقبب والزخارف، نرى أن بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن تصنيفه على أنه ذو طراز إسلامي، وهنا نستذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى). [أخرجه أحمد في المسند] لندرك أنه يجب إعادة فهم ما الأساس الفكري للعمارة الإسلامية.

قبل القفز للاستنتاج الفوري أنه لا يوجد طراز إسلامي بناء على تصميم منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقبل أن نتجه فورا لتقليد بناء هذا المبنى باعتباره تصميمًا مقدسًا، يجب إدراك مفهوم العمارة الاسلامية بأنها قائمة على مبادئ استراتيجية وليست مبنية على نتاج نهائي أو شكل ثابت مقدس، بل تتغير بحسب الحاجة.

إن العمارة الاسلامية مرنة على الدوام مع التأكيد على وجود عنصر الثبات حتى لا يصل التغير والمرونة الدائمة الى حد الهدم، كما أن التغير والتأقلم لا يعني بالضرورة أنه يجب علينا البدء من الصفر في كل مرة.. لقد كان تصميم منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناسبًا مع البيئة المحيطة في ذلك الوقت، ومع قيم وأسس المجتمع الذي كان فيه، ومن هنا نرى أن المهم إدراك الفرق والأبعاد المختلفة بين مفهوم المجتمع والحضارة في عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي عصرنا الحالي.

بناء على الشريعة السمحاء، فإن الأصل هو الإباحة في استخدام العناصر المعمارية المختلفة، واستنباط من العمارة السابقة ومن أنماط العمارة المعاصرة وعمارة الملل الأخرى ما يناسب عقيدة وهوية الإسلام. ويوجد مجال واسع للاجتهاد بأمور الدنيا وما يتطلبه الواقع. لكن يجب فهم متى تصبح اجتهاداتنا بدعة وجاهلية يجب التخلص منها وقطعها؟ وهل اتباع نمط معين في العمارة يعتبر تشبهًا بالملل الأخرى؟ هل يجب تمييز العمارة الإسلامية عن غيرها؟ أم نمشي على مبدأ أن الإسلام لجميع الناس، وبالتالي سيكون من التنفير والانغلاق أن نطور لغة معمارية خاصة بالحضارة الاسلامية؟ أم أنها فطرة طبيعية في الإنسان أن يبني حضارة خاصة ويترجمها في حياته؟

مفهوم الحضارة وتطور المجتمع
لغة التصميم العمراني يترجم جزء كبير من الحضارة وقيمها، ولفهم المنهج العمراني وفهم لماذا يتجه البشر لترجمة أفكارهم وقيمهم في جوانب حياتهم المختلفة، فإنه يجب فهم ماهية تطور الحضارة، إذ إن الحضارة لا تنتج من البداوة والتنقل المستمر، وإنما من الثبات والتجذر، وكما أن المرونة واجبة لكن لابد من وجود جذور لتترسخ قيم الحضارة وتتجلى بأشكال الحياة المختلفة كالطعام واللباس واللهجة واللغة والتصميم العمراني.

عرّف ابن خلدون الحضارة بأنّها “تفنّن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله”، كما عرّفها ضمن الإطار الإجتماعي والتاريخي بأنّها الوصول إلى قمّة العمران والتطوّر الثقافي والشخصي للمجتمع والدخول للرقي الاجتماعي الثابت فالحضارة بوجهة نظره هي نهاية العمران. (2)

مع أن الترف الزائد غير محمود وليس الأصل في الإسلام، إلا أن الاتجاه المعاكس من التقشف ليس من الإسلام أيضًا، بل يجب أن نصل لحالة توسط وموازنة. الحضارة هوية.

وهنا نسأل: ما هي الهوية أصلا؟ ماذا عن الحديث الشريف (عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)؟ هل يتعارض الشعور بالانتماء مع هذا المبدأ؟ وهل الحنين للماضي وللوطن يعتبر شركًا؟ هل اتباع نمط معين في بناء الحضارة يعتبر تبعيّةً من أثقال القيود التي صنعها البشر في جاهلية الزمن الحديث؟

هل التمسك بالحضارة بدعة وجاهلية؟
هل مفهوم المجتمع في وقتنا الحالي نفس مفهوم المجتمع في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هل يناسبنا أن نستلهم الأشكال وأدوات البناء البدائية غير المتطورة في عصره وأن نطبّقها مباشرة على عصرنا وما وصلنا إليه من تشعّب وتشابك وتعقيد في مفهوم الحضارة؟

أم هل من الأفضل فهم واستنباط الاستراتيجية والفلسفة من وراء التصاميم الإسلامية السابقة، وتطبيقها على الواقع المعاصر بما يناسب الاحتياجات المعاصرة، محافظين على توازن بين المفاهيم التي تتطلب الثبات مثل الهوية والأخرى التي يمكنها التغير والمرونة كالتقدم التكنولوجي.

من اليسار إلى اليمين يوضح التحول المورفولوجي (التغير في التشكل العمراني) من مستعمرة رومانية إلى مدينة إسلامية. Kostof & Tobias (1991, page 49)

يجب أن نؤكد هنا، أنه ثمة عمارة إسلامية نابعة من الحضارة الإسلامية، وهي ليست بدعة أو شركًا أو تقليدًا، فمن فطرة الإنسان أن يميل إلى الاستقرار، وإيجاد أنماط يدركها ليتحكم بها، حتى يكون مسيطرًا على الطبيعة ويسخرها بما يفيده بطريقة فعالة ومستدامة، وتكون متوافقة مع معتقداته وأفكاره كي يعيش دون توتر أو تناقض، وبانسجام بين معتقداته والأدوات المادية في حياته اليومية، ونعرف هذا بالرغم من عيشنا في عصر الحداثة السائلة، حيث يعيش الإنسان الحديث البداوة الحديثة، وبالرغم من ذلك فإننا نحاول إيجاد الأنماط والمحافظة عليها لأن هذا من فطرتنا.(3)

لخّص الفيلسوف روجيه غارودي زياراته في البلدان الإسلامية وبخاصة العربية: لا انفتاح لطريق جديد ولكن هناك محاكاة مزدوجة: تقليد الغرب أو تقليد الماضي (4).

وهنا أتساءل هل الخيارات الموجودة في عمارة الدول الاسلامية هي إما بناء قصر علاء الدين أو التجرد التام المركّز على الوظيفة؟ وهل الخيارات المتاحة هي إما الرجوع للماضي أو التقليد للغرب؟

التمسك والبناء على ما خلفه الأولون وتطويره ليس نوستالجيا أو رومانسية غير عقلانية ولا اتجاه تام للماضي وإنما فطنة وقمة العقلانية فإننا لا “نعيد اختراع العجلة” كما يقال.

وهنا نسأل، ماذا عن التمسك وتطوير ما خلفته حضارتنا الاسلامية السابقة والبناء عليها؟ هل التمسك بقيم الحضارة يمحو الإبداع ويعتبر تخلفًا ورجعية؟ أم هل هو إرجاع لقيم عصر الاستنارة والتحكم الكامل للطبيعة وبالتالي ضد عقيدة التوحيد؟ أم أنه وسطية بين هذا وذاك؟ يحافظ على الهوية ويدرك بنفس الوقت أننا كلنا من جنس آدم؟

الإبداع والتطوير مهمان، إلا أن مفهوم الابداع حين يعرّف بأنه كسر النمط، فإننا نفهم أنه لابد من وجود نمط حتى يتم كسره، وبدون وجود نمط خاص فينا لن يكون لنا حضارة راسخة، وإنما أنماط مستوردة متناقضة تنتج الفوضى، وإن محاولة الإبداع دون وجود نمط متماسك ستكون تجربة عبثية لإنتاج شيء جديد لا معنى له ولا مضمون ولا سياق، وإنما العبثية فقط.

صورة تعبيرية لمفهوم الإبداع والتميز باعتباره كسرًا للنمط

إن الابتكار والتميز شيء أساسيّ في عملية التقدم وبناء الحضارة، إلا أن الوقت الآن يعتبر حالة طوارىء يستدعي من أولوياته التعاضد والتماسك وليس الفردانية والخروج عن الإطار، ففي هذا العصر المتغير، نرى أن البشر عموما، والمسلمين خصوصا، في حالة تشتت وتشرذم لم نصل لها من قبل، ولذلك يجب علينا التمسك بما هو مشترك في حضارتنا الإسلامية وبناء ثقافة مشتركة، كي تقوى شوكتنا وتتقارب اهتماماتنا.


المراجع:

1- محاضرة د. ناصر الرباط على يوتيوب بعنوان (Re-branding Islamic Architecture?) https://www.youtube.com/watch?v=2cg3JSifqus&t=348s

2- مفهوم الحضارة عند ابن خلدون https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%B9%D9%86%D8%AF_%D8%A7%D8%A8%D9%86_%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86#:~:text=%D8%B9%D8%B1%D9%91%D9%81%20%D8%A7%D8%A8%D9%86%20%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9%20%D8%A8%D8%A3%D9%86%D9%91%D9%87%D8%A7،%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AE%D9%88%D9%84%20%D9%84%D9%84%D8%B1%D9%82%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D8%A8%D8%AA%20%D9%81%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9

3- محاضرة د. هبة رؤوف عزت على يوتيوب بعنوان (الحداثة السائلة) https://www.youtube.com/watch?v=ArmgfnH0qhA&t=5s

4- كتاب روجيه غارودي: “جولتي في العصر متوحداً

مصادر الصور:

https://disney.fandom.com/wiki/The_Sultan%27s_Palace

https://design-middleeast.com/modern-mashrabiya/

https://madainproject.com/masjid_al_nabawi_at_the_time_of_prophet_muhammad

https://www.researchgate.net/figure/Morphological-transformation-of-a-Roman-colony-into-a-Islamic-city-Source-Kostof_fig7_295719509

https://egkw.com/Art/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A6-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%87-%D8%B9%D9%86-132516

باوهاوس والنمط العالمي الموحد

عند افتتاح مدرسة باوهاوس للفنون والهندسة المعمارية في ألمانيا، يقول المدير المعماري والتر غروبيوس في ورد “بيان الفنان” في أبريل 1919: ” دعونا نناضل وننشئ المبنى الجديد للمستقبل الذي سيوحد كل تخصص، والهندسة المعمارية والنحت والرسم، والتي سوف ترتفع في يوم من الأيام من السماء من أيدي الملايين من الحرفيين كرمز واضح لعقيدة جديدة قادمة.” (1)

أشهر مقولة تم تداولها في هذه المدرسة هي للمعماري سوليفان يقول فيها: (الشكل يتبع الوظيفة Form follows Function)، مما يعني أن أهم معيار لنجاح التصميم هو الكفاءة القصوى، يرد أستاذ آخر في المدرسة، المعماري مارسيل بروير ويقول (… ولكن ليس دائما).(2) اعتبر العديد من الفنانين أن باوهاوس ليست مجرد مدرسة بل هي أيديولوجيا وتحول وقناعة جديدة في الفكر الفني والمعماري.(3)

تدّعي مدرسة باوهاوس بأنها أول من ابتكر فكرة البناء مسبق الصنع، وذلك من أجل تشكيل لغة معمارية عالمية موحدة، والتأسيس لعمل معماري إنساني جماعي يتميز بالعطاء المتجدد.(4)

كتاب Neufert من إنتاج مدرسة باوهاوس، درس هذا الكتاب تحركات وسكنات الانسان وكل أعماله ووظائفه اليومية, مع حساب حجم المساحة المطلوبة لفعل كل وظيفة لتحديد الكفاءة القصوى للتصميم

أصبحت عبارة “الشكل (على الإطلاق) يتبع الوظيفة” صرخة معركة للمهندسين المعماريين الحداثيين بعد الثلاثينيات. حيث إنه تم أخذ العقيدة على أنها تشير إلى أن العناصر الجمالية، والتي يسميها المهندسون المعماريون “زخرفة”، كانت غير ضرورية في المباني الحديثة. مع أن سوليفان لم يفكّر ولم يصمّم على هذا المنوال الصارم المتشدد في ذروة حياته المهنية.(5)

العمارة الإسلامية واستيراد الأفكار الجديدة
ينبغي أن نعرف أنه من الجيد استعارة وتطبيق بعض القوانين والمبادىء التقنية المفيدة من مختلف بقاع الأرض عند التصميم التقني للآلات والمباني، خاصة فيما يتعلق بالكفاءة القصوى للتصميم، مما يساعد الانسان على التحكم ببيئته بطريقة حضارية ومستدامة. لكن قبل أن نأخذ تلك القوانين كحقيقة قاطعة، من الجيد أن نعرف تبعات هذه القوانين بكل أبعادها، ونعرف لأي مدى يكون حدود استعمال تلك القوانين، حتى لا تنتج عنها تبعات تتعارض مع نمط حياتنا وأفكارنا وما نؤمن به.

النمط العالمي الموحد (International Style) وعلاقته بالبساطة المفرطة (مينيماليزم (Minimalism
اشتهرت حركة البساطة المفرطة في التصميم من قبل المعماري لودفيغ مايس فان دير روه Mies Van Der Rohe بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان آخر مديري باوهاوس.

انتشرت الباوهاوسية واعتنقت فكرة الأقل هو الأكثر(Less is More) . نظرًا لتأثرها بشدة بالتصميم الياباني التقليدي وفلسفة الزن Zen، ومن هنا فإن التبسيطية أو الميناليزم Minimalism تبشر بتقليل العناصر في التصميم من خلال التجريد المستمر، فيتم الاهتمام بالأغراض المرئية والوظيفية من خلال التقلّص باستمرار من العناصر الأخرى المتعلقة بالنمط التراثي والجمالي والثقافي، ويروّجون أن بساطتها تعمل بالكفاءة. (6)

منزل حداثي مصمم على مبدأ البساطة المفرطة

 

منزل محاكي للأصل لأساتذة مدرسة باوهاوس مبني على مبادىء البساطة المفرطة

 

منزل حداثي مصمم على مبدأ البساطة المفرطة وفلسفة الزن

وبالرغم من أن ليست كل التصاميم على هذا النحو المتطرف من البساطة والتجريد، حيث تتنوع التصاميم أكثر بحسب استخدام مواد البناء وموقعه ضمن أشكال مختلفة من أجل تحقيق قيمة جمالية متناسقة بين المبنى والبيئة المحيطة، إلا أن كل هذه الفلسفة والقيم الجمالية مستوحاة من فلسفة الزن التي تركز على استعمال العناصر الخمسة للطبيعة، حيث لا يأخذ المهندسون المعماريون في الاعتبار الصفات المادية للمبنى فقط، بل إنهم يعتبرون البعد الروحي وغير المرئي، من خلال الاستماع إلى الشكل والاهتمام بالتفاصيل، والأشخاص، والفضاء، والطبيعة، والمواد.(7)

لا يعني انتقاد منهج التجريد والبساطة المفرطة التشجيع على البذخ والإسراف، وإنما محاولة فهم تبعيات هذا المنهج عند اتباعه حرفيا.

أما مفهوم البساطة، فانه ليس محتكرا بحركة المينيماليزم، وحتى نفهم أيديولوجيا معينة، فإنه يجب تخيل تبعاته الخالصة عند تطبيقه بحذافيره وتعاليمه الحرفية وما ينتج عنها، وهنا فإننا لسنا بحاجة لمفاهيم هجينة تعلمنا كيف نبني مساجدنا ومنازلنا، خاصة عندما تكون مبنية على عقائد وأيديولوجيات تعارض نمط حياتنا.

كيف وصلت باوهاوس لهذا الحد من التجريد؟
لفهم هذه النتائج العجيبة، نحتاج دراسة تاريخ العمارة في الغرب والسياق الذي كانوا فيه. الحداثة كمصطلح واسع يصف الحركة الفلسفية التي تلت التغيرات العظيمة للحضارة الغربية (مثل الثورة الصناعية) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد كان من نتائج الثورة الصناعية مفهوم (الوظيفية Functionalism) وهو السماح لوظائف المبنى بالتحكم، وبالتالي تشكيل الجماليات والأسلوب المعتمَد. (8)

اتخذ المصممون الوظيفيون من الوظيفة إلهًا خاصة الذين عاشوا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث لم يشيروا إلى الله خالق المواد وموجدها بل إلى تظللوا في مطالب “روح العصر- زايتجيست Zeitgeist” أو “العصر الحديث” أو “عصر الآلة”.(9)

كما أدى ذلك الى نتائج عجيبة في فهم الجانب الميتافيزيقي للإنسان، وحاولوا فهمه من خلال تجريد جسم الإنسان إلى أشكال هندسية مجردة للتجربة والعبث في فهم الإبداع والميتافيزيقيا في طبيعة الإنسان وعلاقته ببيئته.

طلاب مدرسة باوهاوس في أزياء تنكرية للمسرح الميتافيزيقي

احتلت الحفلات المسرحية منذ البداية مكانة بارزة في التقويم السنوي للمدرسة، والتي كانت أشبه بطقوس ميتافيزيقية من رقص وتصوير وعبث. (10) فنجد في الصور السابقة مثالًا من السبعينيات، حيث استخدم المصممون في حركة باوهاوس الملابس والأزياء التي قمعت العنصر البشري من أجل تحقيق مفهوم الإبداع.

هل اقتصر منهج الباوهاوس على التصميم المعماري فحسب؟
يقول مصمم هذين الكرسيين إنه أراد إعادة فهم ما هو الجدوى من الكرسي وأراد التخلص من كل شي لا وظيفة مباشرة له، فتخلص من زيادات كل ذرة ونقطة وانحناءة للمادة، ولذا ترى أن لا جيوب له أو فتحات إضافية أو أي شيء يدل على أنه من الممكن التغير أو التأقلم.

من الطبيعي أن تكون الخطوة التالية عدم وجود الكرسي، فتخيل أنك جالس وهذا كاف لجعلك تطوف في الهواء. وقد قالها المصمم بروير في تعريفه، حيث افترض بروير أن الكراسي ستصبح في نهاية المطاف رجعية، وستستبدل بأعمدة داعمة أو هواء. (11)

من الجيد استخدام المواد بالسبل الأمثل وعدم إهدارها، لكن، لمَ تجريد الكرسي لهذه الدرجة بحيث لا يمكن استعماله إلا لتحدي الجاذبية؟ بل حتى الجاذبية حاولوا التمرد عليها.

كراسي صممت على طراز باوهاوس

دخلت مبادئ باوهاوس في تصميمات شركات الأثاث الكبرى مثل أيكيا، بسبب تركيزها على الجانب العملي الوظيفي. مع أن التصميم العملي ذي الكفاءة يعتبر شيئًا مهما، لكن ليس لدرجة أن تصبح أعمالنا اليومية آلية لا روح فيها. مثال ذلك المطبخ الذي تحول الى مصنع لا يدخله إلا الشخص المسؤول. يتم تقديم الطعام من شباك يصل بين المطبخ مع باقي المرافق، فأصبح مكانًا لا معنى أو قيمة له أو للوسيلة (عملية الطبخ) وإنما للنتيجة فقط (الطعام) فهي المهمة في المنظور المادي الآلي.

مطابخ صممت على طراز باوهاوس

هل إنكار منهج باوهاوس وحركة المينيماليزم رجعيّة؟
عندما ننكر فلسفة المينيماليزم فهذا لا يعني مواجهة فكرة البساطة ورفضها، ومثل ذلك فإن رفض فلسفة مدرسة باوهاوس فهذا لا يعني رفض الكفاءة والوظيفية، لكننا نحاول فهم هذه الفلسفات وتبعاتها الخالصة عند تطبيقها، ونقارن بين نتائجها وبين حاجاتنا وندرس إن كانت تتوافق أم لا مع مبادئ ديننا وهويتنا الحضارية، وفي هذا الحال فإن استخدامنا لهذا الفلسفات يجب أن يكون مدروسًا ومحدودًا في نطاق معين، حتى يعود لنا بالفائدة دون المساس بمبادئنا ونمط حياتنا.

يجب أن ندرك أن الوظيفة مهمة في التصميم لكن يوجد حاجات أخرى للإنسان لا يمكن أن تفهمها الآلة، وهنا ندرك أن القوانين التقنية لا يمكن تطبيقها على كل الحاجات الإنسانية، خاصة غير المادية منها، والتي تشمل الإحساس بالجمال والشعور بالانتماء. وبنفس الوقت من الأفضل عدم اللجوء لفلسفات ميتافيزيقية هجينة ومحاولة أسلمتها لإدراك البعد غير المادي في التصميم.

الجري وراء تحديد الشكل من خلال الوظيفة فحسب يؤدي بالتأكيد الى مسح هويات البشر المختلفة وثقافاتهم، فقد خلقنا الله سبحانه وتعالى شعوبًا وقبائل لنتعارف، والاختلاف هنا في البيئة والثقافة الشعبية شيء محمود وموجود لحكمة. أما التركيز على الوظيفة الآلية المحضة من كل شكل وتصميم، فإن ذلك بالنسبة للمصممين المناهضين لباوهاوس يؤدّي إلى مغالطة أن الوظيفة تحررك من الشكل، والتركيز الوحيد على الوظيفة سوف يستدعي لغة نموذج عالمية متأصلة. (12)


المراجع:
(1) https://eferrit.com/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1-%D8%BA%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D9%88%D8%B3/
(2) https://www.greelane.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9/marcel-breuer-bauhaus-architect-and-designer-177371/
(3) https://www.arab48.com/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8-48/%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/2019/04/12/%D8%AC%D9%88%D8%AC%D9%84-%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%80-%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%88%D8%B3-%D8%A8%D8%A8%D8%B3%D8%B7%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B6%D8%A7%D9%84%D9%8A#:~:text=%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%A8%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%8A%D8%AF%20%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86%20%D8%A3%D9%86، %22%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D8%B3%22%20%D8%AD%D8%AA%D9%89%20%D8%B9%D8%A7%D9%85%201927
(4) https://alarab.co.uk/%D9%85%D8%A6%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%88%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8
(5) https://e3arabi.com/%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%83%D9%84-%D9%8A%D8%AA%D8%A8%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B8%D9%8A%D9%81%D8%A9/
(6) https://www.oysteinhusby.com/function-utopia-form-follows-function/
(7) https://en.wikipedia.org/wiki/Minimalism#Influences_from_Japanese_tradition
(8) The Function Utopia – Why ‘form follows function’ is misleading (oysteinhusby.com)
(9) Form Follows WHAT? History and critique of the form follows function formula. By Jan MICHL، Oslo، Norway
(10) http://people.brunel.ac.uk/dap/BauhausConstructivism.pdf
(11)The Bauhaus، 1919–1933 | Essay | The Metropolitan Museum of Art | Heilbrunn Timeline of Art History (metmuseum.org)
(12) https://www.oysteinhusby.com/function-utopia-form-follows-function/

مصادر الصور:
https://www.archdaily.com/881889/neufert-the-exceptional-pursuit-of-the-norm/59f672c2b22e3853b8000159-neufert-the-exceptional-pursuit-of-the-norm-image?next_project=no
https://www.dezeen.com/2018/07/19/bloco-arquitetos-white-cora-house-sloped-site-brasilia/
https://miesarch.com/work/580
https://www.archdaily.com/903195/project-nymph-zen-architects
https://www.penccil.com/gallery.php?show=11064
https://www.pinterest.pt/pin/406520303840893688/
https://www.midcenturyswag.co.nz/products/marcel-breuer-b33-chairs
https://www.bauhauskooperation.com/knowledge/the-bauhaus/works/joinery/slatted-chair-ti-1a/
http://collections.vam.ac.uk/item/O58657/armchair-breuer-marcel-lajos/
https://www.apartmenttherapy.com/brief-history-of-kitchen-design-from-the-1930s-to-1940s-247462
http://eldotdesigns.com/baukitchen/
https://www.pinterest.com/pin/752945631424794306/

 

تصميم دور العبادة والروحانية الجديدة: بين الجمال الحسي والهروب من الواقع

في الحياة العصرية السائلة، باتت التغيرات الزمانية والمكانية تحدث بسرعة غير مسبوقة، حيث يمكن للإنسان الانتقال بين قارات واسعة في بضعة ساعات، وقد أثّرت هذه الطفرة بسرعة الانتقال في طبيعة تفاعل الإنسان مع بيئته سواء أدرك ذلك أم لم يدركه.

من المهم جدًّا فهم كيفيّة تفاعل الإنسان وتأقلمه الناتج عن التعوّد على سرعة التغيرات في العالم المادي، وإن لم نكن محيطين ومتفقهين لهذا التغيّر، فإننا قد نقع فريسة الجهل وذلك بجعل البيئة قادرة على التحكم بنا، حيث نصبح أشخاصًا منهكين نفسيًّا لكثرة التغيرات الطارئة، فلا نريد سوى الانعزال والانفصال المؤقت عن العالم.

وفي هذه الحالة سنكون قد أعطينا البيئة السلطة التامة للتأثير على وعينا وفهمنا للواقع المحيط، مما يجعل ردود فعلنا -وحتى توجهاتنا ورغباتنا- متوقّعة يسهل التنبؤ بها، ويجعلنا ذلك أشبه بحال المأسور والشخص الواقع تحت تأثير التخدير، فيعطينا المسؤول جرعة تخدير للحظات قبل استيقاظنا ومواجهتنا للواقع، قبل وعينا الكامل، ونحن نتوهّم أنه يساعدنا ويهتمّ بنا لأنه على دراية بما نحتاج.

Church of the Sagrada Família مثال على الجمال الحسي

طبيعة التدين وعلاقة الإنسان ببيئته
إن دين الإسلام الذي جاء خاتمًا للأديان، جامعًا شاملًا ينتظم فيه شأن الدنيا والآخرة، سواءً حق العبد وحق الخالق، لم يأمر بالرهبنة ولم تكن من جملة تعاليمه، ولم يطلب منا لنكون عابدين مقربين أن نخلو بأنفسنا في صومعة على رأس جبل.

في الوقت ذاته فإن الإسلام لم يتم ترك أمر العبادات مفتوحًا للناس لينشؤوا أنماط عباداتهم وطقوسها بأنفسهم، حيث إن ذلك كله ينتهي باتباع الهوى وتقديس الجمال الحسي وكل ما يجلب المتعة، بحيث تصبح المتعة هي الخير، وقد أرسى الإسلام منهاجه الواضح في العبادة وهذا يتطلب منا فهمه وتطبيقه كي نعيش باستقامة وراحة.

يلجأ المعماريون -عند تصميم دور العبادة- لتصميم أشكال وزخارف مبهرة تأخذ كيان الإنسان ووعيه، بحيث يدخل حالة من الدوار والانبهار، ومما يلفت النظر انحصار هذه التصميمات ضمن اتجاهين ونمطين واضحين.

يركّز النمط الأول على الجانب الجمالي الحسي، معتمدًا على التنظيمات الهندسية المختلفة والألوان الخلابة.

أما النمط الثاني فيعتمد على التجريد، وقد لا يكون جميلًا بالمعايير المادية الحسية، إلا أنه يؤثر على إدراك الإنسان ووعيه وإحساسه، من خلال الاعتماد على عنصر المفاجأة والمباغتة، وذلك عند تغيير سياق إحساس الإنسان بالوجود، وعدم وجود نمط معين في البيئة يمكّن الإنسان من بناء وعيه.

يحدث ذلك عندما يتم التركيز في التصميم على التأثير على الحواس الذهنية والمبادئ الفكرية للإنسان. وهو ما سنشرحه وسيتم توضيحه بالأمثلة القادمة.

Nasir al-Mulk Mosque مثال على الجمال الحسي

 Liminal Space العمارة الانتقالية
تعتمد الحداثة السائلة –في كثير من صور العمارة الحديثة- على مبدأ المكان الانتقالي الفاصل غير المحدد: بحيث لا يكون للمكان هوية محددة له، وإنما يكون مرحلة انتقالية متجددة متغيرة، ويروّجون للروحانية فيه باعتباره تلك اللحظة أو الفراغ بين الأرض والسماء، المدخل أو العتبة بين العادي أو المدنّس والديني المقدّس.

Saint Andrew the Apostle Church مثال على العمارة الانتقالية

في كلتا الحالتين من أنماط التصميم، يبعث التصميم العمراني مشاعر مختلفة، إلا أن السؤال هو:

ما هي المشاعر التي تنطق بها العمارة؟ وهل يعتبر من المناسب أخلاقيا أن يتحكم معمارٌّي بمشاعر الناس ووعيهم بأكثر الأماكن أهمية في حياة الإنسان؟ وهل كل المشاعر محبذة ومرغوبة؟ هل يمكن جعل معيار النجاح المعماري متوقف على قدرته على إدراك وتحفيز المشاعر؟ بغض النظر إن كانت هذه المشاعر هي السكينة أو الخوف أو الحزن أو السعادة؟

بالرغم من أن النمط الأول -المعتمد على الجمال الحسي- سهلٌ من ناحية مراقبته وفهمه، إلا أن النمط الثاني يحتاج إلى التمهل والتمحيص، كما أن تأثيره يتخلل بشكل هادئ وغير مباشر، فتركيزه منصبٌّ على التغيير المفاجىء وإحداث بيئة غير متوقعة تجعل الإنسان في حالة توهّج بسبب كثرة التغيرات الطارئة، تنتهي بمكان فارغ وهادئ تجعل الإنسان بحالة سكون أشبه بحالة تخدير.

هذا المكان الهادىء يعرّف بمفهوم الواقع المغاير Altered Reality. حيث عندما يكون المكان غير مألوف ظاهرًا وكأن الانسان يراه لأول مرة حتى وإن اعتاد للذهاب عليه، بحيث تكون إيحاءات المكان مختلفة عن الإيحاءات المعتادة في الأماكن الأخرى.

يمكن تشبيه ذلك بمن يزور مدرسته أيام العطلة، حيث إنه يزورها بشكل معتاد وهي مكتظة ومليئة بالناس ثم يراها فارغة في وقت لاحق، إن ذلك يوحي له بمشاعر أخرى مختلفة، حيث يكون تصوّر العقل للمكان مغايرًا للواقع وهذا التحدي والتوتر يؤثر في وعي الانسان.

وهذا يدفعنا للسؤال: أليس من الإجرام الأخلاقي أن يتحكم المعماري بالبيئة الخاصة للعبادة؟ والتي تعتبر المعبّر الأسمى لعقيدة الإنسان في وجوده والغاية منه؟ أليس من الأفضل ترك المساحة محايدة يتجرد فيها الانسان للتقرب لربه؟ دون مساعدات خارجية ومحسنات يستجيب لها الإنسان؟

لأي مدىً يمكن للمعماري أن يتحكم بالبيئة المناسبة للعبادة؟ ومتى يصبح تحكمه جريمة أخلاقية تمنع الإنسان من الانفراد بربه؟

التخبط العشوائي ليس من الإسلام ولا فائدة فيه
قد يتوهم للبعض أن التخبّط والتشتّت جزء من الرحلة الروحانية، إلا أن تعاليم الإسلام ترفض التخبط وتطالب الإنسان بمجاهدة النفس أمام دعوات الاعوجاج، وشتان الفرق بين مفهومي التخبط والمجاهدة، إذ الأول مبنيٌّ على التجربة العبثيّة فلا هدف له سوى استشعار اللحظة والوسيلة الموصلة إليها، والثاني مبني على الوعي والإدراك، وغايته تطهير النفس وإلزامها الفضائل ولا يولي لذلك الوسائل المادّية كبير اهتمام.

إن التخبّط العشوائي ليس من الإسلام في شيء، وهنا يمثُل أمامنا قوله تعالى: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك: 22]. في الاستدلال على ذلك، -حيث يذكر لنا القرطبي في تفسيره- أن الله ضرب لنا فيها مثلاً للمؤمن والكافر، فيسير الكافر منكّسًا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه، فهل يكون كمن يمشي سويًّا معتدلًا ناظرًا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. نفهم من ذلك أن التجربة لا تكون غاية بحد ذاتها, ووجود مشاعر واستجابة للبيئة لا يعني بالضرورة صدق الرحلة الروحانية.

مفهوم القبلة في الإسلام
قال تعالى: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). [البقرة: 144]

 

يمكننا هنا أن ندرك أهمية وجود القبلة، فهي بوصلة الاتجاه الذي يوحّد جميع المسلمين في بقاع العالم كلّها، وقد نصّ الله على ذلك في قوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].

ويذكر لنا الإمام ابن كثير في تفسيره الآية الكريمة أن المراد إنما هو طاعة اللّه عزّ وجلّ، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجَّه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر اللّه وشرعه.

مفهوم المحراب في الاسلام
نتفق أن التأقلم واجب في هذا العصر المتغيّر، لكن بنفس الوقت يكون من الكياسة أن يستغل الإنسان لحظات ثباته كي يبني عليه وعيه، متى سنحت له الفرصة، وينبغي أن يوجد مكان مألوف للإنسان، بحيث لا يكون مطلوبًا منه المرونة والاستجابة للتغير طوال الوقت كي لا يهدر طاقته، وهذا ليس هروبًا من الواقع بل ترتيبًا للأولويات، حيث ليس كل تغيّر يستحق التفاعل والاستجابة، فالمقاومة والثورة واجبة مع المحيط المادي.

وكذلك فإنه ينبغي وجود مكان يستقر فيه الإنسان ويثبت, وهو المحراب، بحيث يشعر فيه بالأمان ويعلم أن المحيط لن يتغير، بحيث لا يتلاشى ولا يتشتت وعيه ويجعل تركيزه منصبًّا على شيء واحد يمكن البناء عليه، وهو العبادة.


المراجع:

https://smarthistory.org/gaudi-sagrada-familia/

https://mostlyamelie.com/iran-writing-about-the-most-beautiful-mosques-everyone-needs-to-see/

http://www.wastedevangelism.com/wasted-blog/church-building-as-liminal-space-our-worship-experience-has-a-history-and-habits-that-promote-a-dual-spirituality

https://en.wikipedia.org/wiki/Saint_Andrew_the_Apostle_Church#/media/File:SaintAndrewtheApostleChurchjf9747_04.JPG

https://www.alro7.net/ayaq.php?langg=arabic&sourid=2&aya=177

جامع سنجقلار في إسطنبول.. هل حققت عمارته طفرة روحانية

لكل أمة بصمتها في العمارة حيث تستمدّ خصائصها البنائيّة من الهويّة الفكريّة والروحانيّة لعقائدها وأدبياتها وتاريخها، والنماذج التي تظهر فيها فنون العمارة الإسلاميّة كثيرة، بدءًا من المساجد فالمدارس والمنازل والجسور والمستشفيات والتكايا والقلاع، حيث تنتظم فيها رؤى الإسلام وعقائد المسلمين بشكلٍ واضحٍ وبسيط، فتتجسد فيها قيم العدل والتواضع والرحمة والتوحيد وغيرها.

تحريف العمارة الإسلامية
في الصورة الآتية نرى مسجد سنجقلار الذي يفخر مصمموه بأنه يحقّق التوازن بين الطبيعة والتجريد والعبادة.

التصميم الخارجي لجامع سنجقلار

يعرَف المسجد بأنه المكان الذي يصلح للصلاة، وتجوز الصلاة في أي مكان طاهر من الأرض إلا المقابر والحمّامات، وقد كان مسجد المدينة المنورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بسيطًا في عمارته، فلا قباب فوقه، ولا مئذنة تدلّ عليه.

إذًا فإنّ مفهوم المسجد والمصلّى لا يقتصر على وجود مئذنة أو قبة وزخارف لتتحقق فيه شروط العمارة، إذ يكفي أن تتحقق فيه سمة صحّة الصلاة وقبولها -إن شاء الله- فيه، سواء كان المصلون يصلون تحت قبة او مظلّة أو أوراق شجيرات، فما هذه إلا شكليات تعين الإنسان على القيام بواجبه من صلاة وواجبات اجتماعية بطريقة تحميه من الشمس الحارقة أو المطر أو مختلف تقلبات الجوّ، إذ الغاية هي أداء العبادة مع الجماعة.

ونسأل هنا: هل الإنسان مجرد لهذه الدرجة التي نراها في التصميم الخارجي والداخلي للمسجد؟ هل يمكن أن يصل الإنسان لهذه المرحلة من التجرد، بحيث تصبح النية والوظيفة والنتيجة الفعل الأهم بغض النظر عن الظروف المحيطة؟ أم هل يجب أن توجد عوامل خارجية تحفز الإنسان على الصلاة، مثل وجود حوافز تشعره بالانتماء للمكان الذي يصلي فيه؟

هل التجرد مطلوب في النية فقط أم يجب التقشف والتجرد في الظروف الموضوعية الخارجية أيضًا؟

محاولات لمسح الهوية
في الهندسة المعمارية يمكن الإشارة إلى أن البساطة المفرطة (Minimalism) -الإفراط في استخدام البساطة- يجرّد الشيء من كل خصائصه، وربّما يؤول بعض المهندسين ذلك بالاستشهاد بالحديث: “إنما الأعمال بالنيات”.

وعلى الرغم من اتساع هذه الظاهرة في الهندسة المعمارية المعاصرة، وانتهاجها مسلك التجريد المبالَغ فيه، ومحاولة بناء وظيفة جديدة لكل آلة ومادّة، إلا أنّ الإفراط في استخدامها –في نهاية المطاف- يتعارض مع طبيعة الانسان وفطرته.

يمكننا تشبيه ذلك بحالة من يلبس معطف والده، فيتذكّره ويحنّ لذكرياته العاطفيّة معه، فالمعطف بوجوده ومكوّناته لا قيمة عاطفيّة له، إلا أن الإنسان يستجيب له بخواطره عند رؤيته، وذلك بسبب ارتباط هذه المادة –أي المعطف- بذكريات غير مرئية.

دعنا نسأل: هل للمادة خواص عاطفية؟

بكل تأكيد: “لا”، إلا أنّ ارتباط المادة والشكل بالذكريات قد يعطي للمادة المجردة بعدًا عاطفيًّا، وهو ما يمكن ترجمته في العمارة بالشعور بالانتماء للمكان.

وجود الأرض ومواد البناء بشكل موضوعي لا يشكّل قيمة عاطفية، إلا أنّ تشكيلها في شكل وسياق معين يعطيها أبعادًا غير مادية تجعل الإنسان يستجيب لها بعاطفته؛ وهنا حين تميل العمارة للتجريد المبالَغ فيه، فإنها تدخل في سذاجة وضيق أفق واضح.

لقد أدركت الحكومة الصينية أهمية وجود هوية للمكان، ولا بدّ لمواجهة الحضور الثقافي من إزالة الهوية أو البصمة الروحيّة للمكان، فقامت بتعديل أشكال أهم مساجد المسلمين في محاولة منهم لإزالة الارتباط العاطفي وتقليل نفوذ الهويّة الإسلامية فيها، وزيادة شعور المسلمين بالغربة، وذلك كما تظهرُ الصورة الآتية.

مسجد ينتشوان في الصين

فوفقًا لتقريرٍ لمجلة تيليغراف، أزالت السلطات الصينية القبة المميّزة لمسجد ينتشوان، ومحَتِ كلًّا من الزخرفة الذهبية ذات الطراز الإسلامي، والأقواس الزخرفية، والنص العربي الذي كان يزين المبنى، ثم حُوِّل المسجد لاحقًا إلى مبنى رمادي مستطيل الشكل.

أهميّة التصميم الداخلي للمسجد
الأصل في المسجد أن يكون عادي المظهر، وأن يتوافق مع ذلك بالبيئة المحيطة به بشكل عفوي، وبالرغم من أن الجماليات مهمة، إلا أن الأصل هو التركيز على العبادة، وأن لا يصبح المسجد عبارة عن متحف للزيارة أو قطعة فنية للتصوير.

دعنا ندخل هنا في صلب المقال.

أطلب أن تتمعّن في الصورة التي تظهر التصميم الداخليّ لمسجد سنجقلار، وقارِنها بالصورة من المتحف اليهودي في برلين

التصميم الداخلي في جامع سنجقلار

 

لقطة للتصميم الداخلي في المتحف اليهودي في برلين

ألا ترى أن التجريد في كلا التصميمين جعل المكانَين متشابهين إلى حدٍّ كبير، أين هويّة المكان؟

حين ننظر إلى تصميم المسجد المذكور ونقف عند مئذنته وبقية تفاصيله، فإن خواطر كثيرة تأتينا لفهم هذه الأشكال المختارة.

لكن المهندس المعماري للمسجد يخبرنا أنه يريد إعادة حضور “الكهف” و”غار حراء” في نفوس المصلّين، وذلك بهدف العودة لأصل الاسلام وتعزيز البساطة في حياته.

بالرغم من النيّة السليمة والغاية النبيلة إلا أن تميّز المئذنة في مساجد المسلمين لا يعارض مفهوم البساطة، كما أن التقشّف والتجريد المبالَغ فيه ليس من مبادئ الإسلام ومفاهيمه، بل إن الجمال العفوي المتميز في العمارات الإسلامية تكاد تكون أقرب لروح الإسلام.

إن شكل المئذنة التي بين أيدينا لا يختلف في صورته عن شكل أبنية بعض المعابد الوثنية، وقد أخفق المعماري في تصميمه حين جعل مئذنة سنجقلار على هذا الشكل الخشن.

قارِن بين الصورة الآتية أي مئذنة المسجد وبين الصورة التي تليها وهي صورة معبد شاماني في ألمانيا.

التصميم الخارجي للمئذنة في جامع سنجقلار

التصميم الخارجي لمعبد bruder Klaus field chapel

قد يقول بعضنا: من المحتمل أنها مصادفة، فكلا الشكلين تجريديان، ويمكن رؤية تجليات التجريد في الكثير من الأمثلة، إلا أننا نؤكّد أن الهويّة الإسلامية تعطي للمئذنة شكلاً بصريًّا مختلفًا ومتميزًا عن دور العبادة الخاصة بغيره من الأديان.

وقبل أن تأخذنا العاطفة بالجماليات في فهم تصميم المسجد المذكور، دعونا نقف عند نقطة بالغة الأهمية. إنه الضوء.

يجب إدراك أن التركيز على الضوء بهذا الشكل –الذي يظهر في الصورة الآتية- قد يخالف الغاية من عبادة الله، إذ إن فهمنا لكون الله “نور السموات والأرض” لا ينبغي أن يتجسّد في شكل ماديٍّ مشابه لعقائد أخرى.

إن التوافق بين الصور القادمة لا يندرجُ في الإخلال بالتجريدِ وإنما قد يقرَأ في إطار الدعوة للوحدة المدّعاة بين الأديان، حيث تركّز التصاميم الحديثة على تسليط الضوء مقابل المتأمّل أو العابد، وهو ما نراه –على سبيل المثال- في كنيسة النور في اليابان، ومعبد التأمل لأتباع جميع الأديان في جامعة MIT, وحتى المعبد الشاماني -الذي سبق ذكره- في ألمانيا.

التصميم الداخلي للجدار الداخلي المتجه للقبلة في جامع سنجقلار

 

التصميم الداخلي لكنيسة النور في اليابان

 

التصميم الداخلي لمعبد التأمل في جامعة MIT

 

التصميم الداخلي لمعبد bruder Klaus field chapel

المراوغة في التصميم
عندما يدرس المسلم الهندسة المعمارية يجد أن هناك وصايا في القرآن الكريم بخصوص طريقة البناء، ويتجلى له ذلك في آيات عديدة، منها قوله تعالى {وقدِّر في السرد} [سبأ: 11] حيث تشير الآية إلى وجوب الإتقان في العمل، إلا أن القرآن والسنة النبوية لم تحدّد شكلًا أو طريقة للبناء خاصة بالإسلام، فَتُرك هذا الأمر مفتوحًا للاجتهاد بما يتطلبه الواقع وبما يتوافق مع عقائد الإسلام.

على سبيل المثال فإن البناء عندما يعجّ بالرموز الوثنية والشركيّة – التركيز على العناصر الخمسة للطبيعة الأرض، الماء، النار أو النور، الهواء، أو الأثير والفضاء، التي يركز الباطنيّون عليها كثيرًا- في عملية التصميم والتنفيذ المشروع، فإن هذا أمر ينبغي على المسلم أن لا يوافق عليه، خاصة إن كان مسجدًا..

بكل تأكيد فإن كل بناء يحوي قدرًا من هذه العناصر، وعليه فإن وجودها الطفيف ليس دليلا على وسم المكان بصبغة معيّنة، إلا أن التركيز على إظهار تمازج هذه الرموز بشكل مبالغ فيه ومتفق مع عقائد باطنية، أمرٌ يحتاج لإعادة النظر فيه مرارًا وتكرارًا، خاصة إن كان التصميم لا يوصل لوظيفة محددة له، حيث يجب أن نسأل هنا: هل كان هذا التصميم لأغراض جمالية أم لمعانٍ تأويلية وباطنية أخرى؟

تظهر الصور الثلاث الآتية الشكل الخارجي لجامع سنجقلار، تأمّلها!

يقول مصمم المسجد:
إن وجود بركة مياه منخفضة وأشكال بسيطة للمساحة المفتوحة أمام المساجد يؤدي لحالة ذهنية عاكسة وهادئة، وتهيئة المصلين لدخول الصلاة، فالفضاء المفتوح أمام المساجد يعدّ “مساحة للتأمل” أيضًا، حيث “ينسجم المبنى تمامًا مع التضاريس، وبهذه الطريقة السلمية، يعيد تشكيل الأرض” كما أن وجود شجرة زيتون واحدة فقط وقديمة ترميزٌ للخلود.

هنا نسأل المعماري الذي أراد التخلّص من القِباب والمآذن ليرجع إلى روح الإسلام، هل حقّقت ذلك بتصميمك هذا؟

ما الفائدة من تصميم مسجدٍ يزخر بالترميزات التي تتعارض مع جوهر الإسلام؟

أم أن المصمّم يريد إعادة بناء هويّة الإسلام على نحو جديدٍ كما أعاد بناء المسجد في شكله الجديد؟

(وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) [الإسراء: 37]


المراجع:

https://dajran.com/posts/295

https://swarajyamag.com/insta/china-pulls-down-domes-islamic-decorations-from-mosques-turns-them-into-grey-structures

https://www.floornature.com/eaa-emre-arolat-architecture-sancaklar-mosque-istanbul-essen-15232/

https://emrearolat.com/project/sancaklar-mosque/

https://www.archute.com/church-of-the-light/

https://www.archdaily.com/106352/bruder-klaus-field-chapel-peter-zumthor?ad_medium=widget&ad_name=recommendation