رمزية المتاهة في الفن والعمارة
تعود المتاهات والمنحوتات الممثلة للمتاهة في الصخور والحجر إلى حقب ضاربة في القدم تاريخيًّا، وهي مثل Stonehenge والأهرامات تعتبر –في بعض العقائد- أشكالًا هندسية خاصة تضفي قدسيّة للمكان.
تعرض لنا الآثار والبقايا العمرانية آثارًا لمتاهات محفورة في الفسيفساء الرومانية، وفي الكهوف والمنحدرات والمقابر، وعلى الأرضيات الحجرية في الكنائس في العصور الوسطى، وقد بدأت ترجمة العقائد المرتبطة بالمتاهة في الواقع المادي من خلال المقابر في أوروبا الغربية، ولعلها تستند –من حيث المبدأ- إلى وجودها في المعابد اليونانية والرومانية والكنائس المسيحية.
تختلف طرق تأويل فكرة المتاهة، فهي عند بعض المفكرين تمثل كيفية أخذ الإنسان للقرارات، وأيضاً تعدّ طريق المعرفة والوصول للحقيقة، كما أنها كانت تستخدم لتنفير الأرواح الشريرة والشياطين، وتمثّل من جانب آخر طريق الضياع والذنب والإثم عند الإنسان الجاهل والمنبوذ، ولعل آخرين يربطون المتاهة بعلم الكونيات، حيث تمثل المنعطفات المختلفة وعودة نمط المتاهة المسار اليومي للشموس والكواكب(1).

صور توضح الاستخدامات المختلفة للمتاهة في أماكن وأزمنة مختلفة. المصادر: i.pinimg.com، labyrinthsantafe ،subpng.com
كان وجود منحوتات لشكل المتاهة بالقرب من مواقع الدفن من بين أقدم استخدامات فكرة المتاهة، وقد قاد ذلك الباحثين إلى استنتاج وجود صلات وتأويلات مرتبطة بالموت، وذلك لتوضيح العلاقة بين الموت والولادة من جديد في عصور ما قبل التاريخ. وقد صُممت بعض المقابر القديمة في غرب أوروبا على شكل يشابه رحم الأم التي قد يستريح فيها الجنين في حالة ما قبل الولادة، وكذلك الموتى في مرحلة ما بعد الحياة، فبحسب اعتقاداتهم، يعود الموتى إلى الأرض عند الدفن، لكي يولدوا من جديد (2).
المتاهة كاستعارة ورمز
في بعض الأحيان يكون شعور الشخص بالمتاهة غير مباشر ويكون الشعور بالمتاهة استعارة للضياع وعدم الفهم والاستيعاب. فالبعض يعتبر المباني والنصوص ذات طابع معقد وسمات صعبة كجزء من مفهوم المتاهة؛ مثل المباني القديمة التي أدى تعقيدها إلى تسميتها بالمتاهات. لذلك فإن أي مسألة كانت معقدة أو غير قابلة للفصل أو غير قابلة للاختراق أو غامضة أو غير مفهومة أو مربكة تفسّر على أنها متاهة.(3) وفي بعض التعريفات الأخرى، يتم تعريف المتاهة من خلال خصائصها وبناءً على مشاعر أو تجارب المشاة أثناء مرورهم عبرها كمساحة ثلاثية الأبعاد.
في ثقافات أو رؤى تأويلية أخرى اعتبرت المتاهة رمزًا، حيث تمثل المتاهة توجهًا معينًا وفكرة محددة، فتكون المتاهة تروي شيئًا معينًا. وعلى الرغم من أن المعنى الرمزي مرتبط بالوجود المادي، إلا أنه جزئيًا غير واضحٍ ويصعب نسبيًا فهمه. فمثلا في المتحف اليهودي في برلين، صمم المعماري دانيال ليبسكيند (حديقة المنفى) ويُعتقد أن تصميمه رمز للمنفى البابلي.(4) أما الشجر الذي ينبت فوق الأعمدة الاسمنتية للمتاهة، فهي تمثل حالة الاقتلاع والغربة.
إن المشاهد التي يستشعرها الزائر في المكان ترمز لفقدان نقطة مرجعية، فالحديقة عبارة عن متاهة من الأعمدة المائلة التي تزعزع استقرار الزائر وتخل بتوازنه. ومما يلفت الانتباه أن الحديقة محيطها مسدود ولا توصل إلى مكان محدد ولا سبيل للحرية، الطريق الوحيد للخروج هو بالرجوع للمدخل.
فيديو للعرض: رمزية المتاهة في المتحف اليهودي في برلين
المتاهة .. أنواع وأنماط
يتجلى مفهوم المتاهة بشكل رئيسي من خلال ثلاثة أنماط: وهي الأحادية، والمتعددة، والجذمور.
وتتصف المتاهة الأحادية بوجود خط واحد للمسار، والمتاهة هنا عبارة عن مسار متعرج، غالبًا ما يكون أحادي الاتجاه unicursal، مع مسار فردي يؤدي إلى المركز، والطريق للخروج يكون بالعودة مرة أخرى للمدخل. المتاهات هي نموذج قديم يستخدم رمزيًا للتأمل في المشي، أو الرقص المصمّم، أو ليكون موقع الطقوس والاحتفال.
ينظر للمتاهات أيضًا على أنها أداة للتحول الشخصي والنفسي والروحي. كما تم تعريف المتاهة الأحادية كنوع من أشكال الحج بمعناه اللغوي –أي القصد-، مع التقلبات والمنعطفات التي تقترب الحاج من الهدف ثم تأخذه بعيدًا مرة أخرى، وذلك قبل الوصول إلى المركز أخيرًا. وقد تكون المتاهات رمزية وتحمل معنى أكبر، حيث تم استخدام متاهات في الكنائس الكبيرة لأداء مناسك الحج الرمزية – مثل الحج إلى القدس.(5)

مثال على متاهة كلاسيكية أحادية Cretan labyrinth. المصدر: labyrinthsociety.org
فيديو للعرض: متاهة كريت مصنوعة من 2500 شمعة صغيرة محترقة – مركز التأمل المسيحي والروحانية لأبرشية ليمبورغ في كنيسة الصليب المقدس في فرانكفورت
معظم المتاهات تكون أحادية النمط، ولكن نمط المتاهة المتعددة ونمط الجذمور يشبه المتاهة، وذلك بوجود طرق مسدودة لحصول الارتباك لدى الداخل فيها. إن مفهوم الجذمور صعب للفهم ولذلك سيتم التركيز على المتاهات التقليدية في هذا المقال. قد يتم تأويل المسار في المتاهة أن الواقع في المتاهة قد يكون مقيدًا بسجنه داخل المتاهة، وذلك لعدم قدرته على فهم الذات الإلهية. كما تم تأويل المتاهة كرمز لعالم الخطيئة، ففي التفسير المسيحي، يمكن أن ترمز المتاهة أيضًا إلى عالم الخطيئة. وتم بناء متاهات الكنيسة لتمثل ثنايا الخطيئة التي تمنع الإنسان من الحج إلى الجنة.(6)

صور توضح الأنماط الأخرى للمتاهة. على اليمين نمط الجذمور، وعلى اليسار نمط المتاهة المتعددة. المصدر: jilliancrandall.net/803
المتاهة في الأدب
كان الأدب وسيلة أخرى تتجلى من خلالها المتاهة، ففي أسطورة المتاهة، تم ذكر هيكل المتاهة كسجن للكائن الذي يحمل صفات نصفها وحشية ونصفها الآخر بشرية والذي يسمى مينوتور. وفي الأسطورة، جعل مينوس ملك كريت Crete المهندس المعماري دايدالوس يبني سجنًا لطفله الوحشي مينوتور، وبنى دايدالوس السجن كمتاهة. ومن الممكن أن هذه الأسطورة هي المظهر الأصلي للمتاهة في الكلمات (اللغة)، والتي اكتسب منها رمز المتاهة (الشكل المرئي) وجوده الأصلي ومعناه. علماً بأن في الأساطير اليونانية، كان ديدالوس مهندسًا معماريًا وحرفيًا ماهرًا، وكان يُنظر إليه على أنه رمز للحكمة والمعرفة والقوة.

أسطورة فيها الأميرة أراديان. المصدر: ariadnedesigns.com
تعرّف بنية الأسطورة على أنها متاهة والحل لها يكون باتباع مسار محدد للأميرة أراديان، وهي شخصية مرتبطة بالمتاهات والشبكات والنسيج. اتباع هذا المسار هو الطريقة التي يتم من خلالها إدراك المعنى الخفي وبالتالي فإن طبيعة المتاهة تصبح مفهومة ويصبح الوصول للمعنى الخفي ممكنًا.
إن الأسطورة بوصفها شكلاً من أشكال اللغة الأدبية يتم تقديمها كشبكة من العلامات التي ترتبط ببعضها البعض بواسطة خيط خفي وموضوع لا يمكن الوصول إليه. يمكن أن يحدث عدد غير محدود من الاتصالات المحتملة بين هذه العلامات: “كل علامة تحمل أثرًا للمعاني المحتملة الأخرى والصلات الأخرى مع الإشارات داخل اللغة”. والمعنى المطلق مستحيل في هذه الشبكة، والمعنى الذي يتم التوصل إليه يعتمد على تفسير ذاتي. من ناحية أخرى، فضرورة وجود مسار للهروب من المتاهة يشير إلى أن هيكل المتاهة الموضح في الأسطورة هو من المفترض أيضًا أنها متاهة متعدد المسارات. (7)
إن الوقوف عند مفهوم المتاهة ورصد تجلياتها في العمارة المعاصرة والرموز الباطنية للحركات المختلفة، يعيننا على فهم حضور هذا الرمز إضافة إلى إدراك أبعاده في العقائد المختلفة، وهو ما أرجو أن أكون قد وفقت إلى التنبيه إليه، وإن لم أحط به، فالكمال لله، والنقص سمة المخلوق على الدوام.
الإحالات:
- Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin. (p. 53)
- المصدر نفسه
- Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin. (p. 68)
- فيديو يوضح رمزية المتاهة في المتحف اليهودي. https://www.youtube.com/watch?v=kWmdPDCdANQ
- Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin. (p.59 )
(6) Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin. (p.56 )
(7) المصدر نفسه