مقالات

كيف تبنى الخديعة في قضية فصل الدين عن السياسة؟

لا يمكن وصف مسألة (فصل الدين عن السياسة) بوصف أدقّ من أنها (وهم) وتلاعب بالألفاظ؛ ذلك أن هذه المقولة بحد ذاتها بمثابة الاعتقاد الديني إلا أنه من منشأ دنيوي (عالماني) لمن يعتنقها، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن هذه الفكرة قد نشأت وتصاعدت ردًّا على الارتباط الوثيق بين حُكم رجال الكنيسة الكاثوليكية وبين طبقة الحكّام في أوروبا وتوليهم أمور السياسة في أوروبا، كما أنها كانت نتاجًا لتحول في عقيدة المجتمع قاده فلاسفة أرادوا للعقل البشري أن يكون المصدر الأول للتشريع، بعد قرون من ممارسات لا عقلانية من رجال الدين في شؤون السياسة والمجتمع ومحاربتهم لكل خروج عن تفسيراتهم للحق الإلهي، واحتكارهم علوم الدين وما ينبغي للعلوم الطبيعية أن تصرح به وما يجب اعتباره هرطقة وتجديف لمخالفته الكنيسة من تلك العلوم حتى لو ثبت صحته بالتجربة العلمية، فظهرت فلسفة الحق الطبيعي ضد الحق الإلهي، وسادت الفلسفة الإنسانية العالمانية التي نصَّبت العقل الإنساني كمرجعية نهائية للتشريع والسلوك والحكم إلهاً دنيويا ليحل مقام الميتافيزيقي المتعالي الإلهي الكنسي، في ثورة جددت شروط العقد الاجتماعي ونظم السياسة في الحضارة الغربية.

إن المطالب بهذا الفصل مُطالَب هو أيضًا بتطبيقه كما يفعل من يطالب بتطبيق الشريعة، فكلاهما يطالب بتطبيق ما يؤمن أنه الأصلح للحكم، والتلاعب اللفظي في الجملة واضح، إذ المقصود فصل (الشرائع السماوية) التي لا يؤمن بها دين العالمانية عن سياسة الشعب، فهو دين يريد أن يحتل مكانة دين آخر في مصادر التشريع..

الدين والسياسة، هل من فَصْلٍ؟

في واقع الحال فإنه من المستحيل الوصول إلى فصل للدين -أي دين- عن السياسة، فكل التشريعات والقوانين البشرية الوضعية السياسية، مصدرها الأصلي ما يدين به ويعتقده المشرعون، وما تلتزمه الدولة من عقيدة سواء أكانت سماوية أو بشرية مصدرًا للحكم، وعلى أساسها يقوم بناء الدولة كله وبه ينظّم مجتمعها، فالزعم بأن العالمانية ليست ديناً ينبعث من أحد سببين: إما القُصور في فهم ماهية الدين أو التلاعب لفظي.

إلى جانب ذلك فإن الزعم بأن العالمانيّة تقف على حياد موضوعي من كل الديانات هو زعم –آخر- أفضل ما يقال عنه إنه خيالي ومستعلٍ لا يمت للواقع بعلاقة أو صلة؛ إذ أن العقيدة العالمانية تتغلغل بالفعل في صميم المجتمعات العالمانية، بدءًا من المناهج التعليمية التي تشكل وعي الأطفال حتى الأطر والقوانين التي تنظّم العلاقات الاجتماعية، وقوانين الاقتصاد والتجارة وكل شؤون الفرد والأسرة والمجتمع.

لترسيخ ذلك كله، فإن الماكينة الإعلامية لدول العالمانية تعمل ليل نهار على ترسيخ مفاهيمها، وكل خروج عنها أو محاولة نشر قيم دينية مخالفة لها يقابَل بالقمع من قبل الدولة (كما هو مشهور في مسألة النقاب في بعض الدول العالمانية واعتباره مظهراً يتناقض مع قيم المجتمعات العالمانية، وخصوصاً اللائكية الفرنسية)، ولن يغيب عنّا أن الممارسات العنيفة التي تتبعها دول العالمانية قد تتجاوز حدود الخيال، فالحروب الدموية وعمليات الإبادة التي تمت في حق المؤمنين بالكنيسة بعد الثورة الفرنسية، وتلك التي كانت بعد الثورة البلشفية في حق المؤمنين بالديانات السماوية معروفة ومسجلة ولا أحد ينكرها من الباحثين والمؤرخين، ومن ثم فإن الزعم الساذج بسماحة العالمانية وقبولها لجميع الأديان تدحضه أحداث التاريخ القديم والحديث. فإذا لم تعتبر تلك الممارسات ديناً يحارب ديناً آخر، فإنما هذا من تلبيس بعضهم في تعريف الدين وحصره فقط في الشرائع السماوية.

مفهوم الدين

للدين معان متعددة وتعريفات مختلفة، إلا أن مفهومه العام يتأطر في الإذعان لوجودٍ أو تصوّر ما، وبذلك فإن مفهوم الدين ليس مفهوماً ينطبق فقط على الشرائع السماوية، بل أنه كل ما يدين ويؤمن به المرء في أمور الدنيا والآخرة ويشكّل منظومة معتقداته والسلوك والأخلاق والتعاملات التي تنتظم بها حياته، سواء أكان مؤمناً بالله واليوم الآخر أم لا، كما قال تعالى لمن كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ]الكافرون: [6فسمى ما هم عليه بـ “الدين” بالرغم من عدم إيمانهم.

إن الدولة حتى في ادعاء حياديتها فهذا الحياد المزعوم هو دين وأيديولوجيا دنيوية تتعالى على الدين بمفهومه السماوي وتفرض عقيدة تزعم سماحتها مع جميع الأطراف، لكن تطبيقاتها الواقعية تثبت أن هذه السماحة والحيادية تنتهي إذا ما انتشرت عقيدة مخالفة لعالمانيتها في المجتمع _أحداث فرنسا الأخيرة وإجراءات ماكرون دليل صارخ على ذلك_ فلا توجد عقيدة تعتنقها دولة يمكن أن تسمح بانتشار أخرى!

ففصل الدين عن السياسة بل وعن كل جوانب الحياة ممتنع في ذاته، ونظرية خيالية تفترض أن السياسات والقوانين والتشريعات الوضعية موضوعية وبمعزل عن عقيدة المشرع الذي وضعها وعن إيمان أولئك الذين يسوسون المجتمع.

وعليه فإن دعاوى فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين، أمر لا وجود له في الواقع، ولو تم زعم إمكانية تحقيقه فهذا جهل أو خداع، فكل سياسة لابد وأن تنطلق من عقيدة (دين)، فلابد من إيمان بغاية ما للسياسة؛ تلك الرؤية الاجتماعية التي يتم بها هندسة المجتمع، والغاية التي تنشدها السلطة للمجتمع ورضي المجتمع بالانصياع للسلطة لأجل تحقيقها؛ سواء قلت دولة مدنية عالمانية ليبرالية تعددية ديمقراطية، أو اشتراكية شمولية فاشية نازية شيوعية؛ أو إسلامية ومسيحية ويهودية؛ فهذه كلها غايات دينية عقائدية لحركة المجتمع، تندرج تحت المعنى العام للدين، فالدين بشكل عام هو رؤية شاملة للحياة، سواء كانت رؤية تؤمن بالله واليوم الآخر وتحكم بالشرائع السماوية، أو كانت رؤية دنيوية ذات مرجعية ديمقراطية ليبرالية فردية أو اشتراكية شيوعية شمولية؛ جميعهم يحدد اتجاه حركة المجتمع وغاياته وآليات حركة تدفق العلاقات والتعاملات فيه والمرجعية الشرعية التي سيحتكم إليها كل فرد ينتمي لهذا المجتمع!

المدنية بين الدين  والعالمانية، رديف أم مناهض؟

إن محاولة جعل الدين -بوصفه ديناً سماوياً- ضد الدولة المدنية -التي تُعرف بكونها نقيضًا للدولة ذات المرجعية الدينية- هو نوع من الخداع! بل هما دين سماوي ضد دين دنيوي وهذه هي حقيقة الصراع.

من ناحية أخرى فإن ادعاء أن المدنية تقتصر على تعريف العالمانية لها هو ادعاء باطل، لأن المدنية غاية اجتماعية مشتركة وليست رديفاً للعالمانية، فشرائع الأديان السماوية إنما هي لتحقيق المجتمع المدني المنظم السليم وتوفير ما يضمن حفظه وأمنه واستقراره الديني والثقافي والأخلاقي والسلوكي، وضمان نموه بتنفيذ تلك الشرائع السماوية، بينما في المقابل تزعم العلمانية رؤية نقيضة إنسانية تمنح الشرعية للحق الطبيعي لا الحق الإلهي. فهل سمعت أي اعتراض على تسمية الدولة الإسلامية الأولى (دولة المدينة) وصرخ “لا بل نريدها دولة الدين؟ لأن المدينة من المدنية وهي مصطلح كافر”؛ لن تجد أبداً مثل ذلك لأن المدينة والمدنية ليست بالأساس ضد الدين، وإنما عمل الدين في المدينة هو تنظيمها وفق أحكامه وشرائعه! كمثل ما تدعي العلمانية فعله في المجتمع.

كما ارتبطت العالمانية بالعلم لا لأنها مشتقة منه كما يحسب البعض، فالعالمانية من الدنيوية والدهرية والعالَم لا من العِلم، لكن الحكم بها واكب نهضة علمية في مقابل قمع الكنيسة للعلماء المخالفين لتعاليمها في نتائجهم وملاحظاتهم العلمية التجريبية، حتى تم الانقلاب على الكنيسة التي وصلت لحالة من الاستبداد والتخلف والحرص على نشر الجهل لم يعد أحد يستطيع تحملها. فظن البعض لدينا ونتيجة ترجمتها المغلوطة ب (العِلمانية) بكسر العين أنها حركة علمية في مقابل تعسف الدين ورفضه للعلم، وليس صحيحاً ف Secularism تعني دنيوية أي المرجعية هي العالم أو الدنيا ومادتها وقوانينها، فالصحيح أنها (عالمانية) لا عِلمانية والأصح أنها وكما سماها علماؤنا من السلف الصالح (دهرية) لكونها في نسختها الأصلية أو كما يعرفها البعض بوصفها عالمانية شاملة في مقابل عالمانية جزئية؛ هي نفس عقيدة من قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].

ومن المهم وضوحه في هذا الصراع الدائر الأبدي منذ هبط آدم وزوجه وانتشرت ذريتهما في الأرض؛ أن العالمانية ليست دينًا أوروبيًّا جديدًا، وإنما هي نفسها دين “الدهرية” التي هي ملة معروفة منذ شهد التاريخ عملية تدوينه، ولها في كل مرحلة اسم اشتهرت به، وهي ليست مرادفة للمدنية، فالمدنية غاية أي مجتمع يترقى من البداوة للحضر ثم المدنية، فهي مرحلة اجتماعية يكون فيها المجتمع في ذروة نموه وتطوره وازدهاره. وإنما ارتبطت بالعالمانية وظهرت كنقيض للدين، لأن الحكم السائد قبل ظهور المدنية الغربية كان لرجال دين الكنيسة في أوروبا، والتحول للحالة المدنية والعقد الاجتماعي صاحب الثورات العالمانية الإنجليزية والفرنسية والأمريكية والبلشفية وغيرها.

مشكلة علمنة العلم.. علم الاقتصاد مثالاً

من حصة علومٍ إلى فيزياء إلى فلسفة، ومن ثمَّ رياضيات وغيرها، يَمضي يوم الطالب العادي في المدرسة. يدخل مدرسٌ ويخرج آخر، ومع كل تبدُّل يغير التلميذ المتلقّي إطاراته الذهنية ويتهيأ بعقليات مختلفة متنوعة تتناسب مع استقبال كل علمٍ بما يتماشى مع حاجاته ومتطلباته.

فحصة الرياضيات محشوةٌ بالحسابات والعمليات الذهنية، بينما حصة الكيمياء تتعامل مع خصائص المواد وتفاعلاتها، كذلك فإن التاريخ يُقرأ كقصة تستدعي حفظ كثير من الأسماء والأعوام. ومن هذه الحصص هناك واحدةٌ للتربية الإسلامية، فللعلم الشرعي وقتٌ في النظام التعليمي كغيره من العلوم. وهل في ذلك كله من إشكال؟

إن الفصل بين المواد المدرسية وجعل العلم الشرعي واحداً منها إنما هو تابعٌ لتجزيء الإنسان في عالم اليوم، وقد أنتج هذا التعامل مع العلوم والنفوس تفككاً في نظرتنا للكون من حولنا، فصرنا نرى كل قضيةٍ في الإطار الذي تُطرح فيه فقط، وصار من الممكن الحديث عن أي علمٍ بشكلٍ منفصلٍ عن مدلولاته الأخلاقية، فمن السهل مثلاً أن يجد متدينٌ نفسه يخوض في حديثٍ عن التعاملات السياسيّة دون الالتفات إلى حلّها أو حرامها، أو أن تجد المسلمة نفسها تتأمل الجمال الفني في لوحة رسامٍ ما رغم ما قد تحويه من مخالفات شرعيةٍ بيّنة، إذ بات للعلم الشرعي وقته ومكانه الذي لا يجاوزه.

فالتفكك المقصود ليس تمايز العلوم عن بعضها، إنما هو فصل كل مجال دنيوي عن المرجعية الإلهية الحاكمة، بل وعن الأخلاق الإنسانية كذلك، إضافة إلى تحديد فهم العلم الواحد بلغة كتبه وخبرائه المتداولة، بحيث ينتج النظام الفكري والتعليمي المعاصر أفراداً لا ينظرون لأي معطىً بشكلٍ إجمالي، إنما بصفته مجرداً تحدده فرضيات مجاله وحدها.

وسأركز في هذا المقال على فصل الدين عن العلوم الاجتماعية الحديثة، متخذةً علم الاقتصاد مثالاً ليبرز الإشكال في هذا المفهوم ومنشؤه.

الاقتصاد يعيد تعريف الإنسان
“إن المستهلك يعيش ويتخذ قراراته في عالم من التصورات والانطباعات، بالتالي فإن قيمة المنتج المعروض الحقيقية معدومة إذا قورنت بأهمية ما قد يتوقعه المستهلك منه. من هنا كان واجباً عليك كبائع أن تفهم الميزات والحاجات التي يريدها الزبون وتقنعه بوجودها وقيمتها في منتجك”[1]، بهذه الكلمات افتُتح المقال المنشور في مجلة The Business Owner عام 2012 تحت عنوان “معايير شراء العملاء وإشاراتهم”.

المقال يتحدث عن فهم سلوك المستهلك لتحديد خطة تسويق فعالة ومربحة، لكن ما صدمني في تلك الكلمات هو البرود العجيب في التعاطي مع مفهوم خداع العميل، بل الدعوة إلى الكذب وتسويق المنتج بما قد لا يحويه.

بكل بساطة نسف الخبير الاقتصادي قيمة الصدق والأمانة في كلمات قليلة تعاطى فيها مع الإنسان على أنه مجرد مستهلك، فألغى عنه أي قيمةٍ أخرى عدا عن تلك التي يمكنه أن ينفع البائع بها إن اقتنع بمنتجه. لقد قالها الكاتب بوضوح: لا يهم ماهي بضاعتك، إنما ما يمكنك أن تقنع المستهلك أن بضاعتك تحويه. والأعجب من ذلك هو هذا المكر في ابتكار أساليب التسويق، فالخطة تبدأ بدراسة المستهلكين وفهم حاجياتهم، ثم تقوم بوصف منتجك بكل ما يبحثون عنه، ولا داعي لأن تتم مناقشة الأخلاق أو القيم في إطار ذلك كله، فهذه دراسة عن المال والنجاح مجردان عما سواهما!

إن علم الاقتصاد يعطي الإنسان تعريفاً خاصاً به، يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري إن العَلمانية كفكرة في الغرب هي نزع القداسة عن العالم، أي أن تنظر للعالم وللإنسان فترى مادة[2]. وبالتالي فإن هذا الإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى يتحول في إطار العلم الاجتماعي الاقتصادي إلى مجرد مستهلك لا حقوق له إلا ما يقره قانون الدولة. فاهتمام البائع برضا الزبون أو غضبه متعلق بربحه المادي منه، كذلك فإن كلامه معه سواءً كان عن السلعة أو غيرها سيهدف ويتوجه إلى زيادة احتمالية ربحه منه. فحد التبادل الاقتصادي ليس الخير والشر المطلق الثابت، إنما ما يسمح به القانون، وما يمكن به التحايل عليه دون مساءلات.

والعجيب أن هذا الكلام ليس سرياً أو مموهاً، ولا مخصصاً للتداول في اجتماعات خاصة في الشركات الكبرى، إنما هو علمٌ متَّفق عليه يُدَرّس ويُنشر في الكتب و المجلات الأكاديمية. ففي سياق عملي على رسالة الماجستير قرأت بحثاً لخبير اقتصادي من فنلندا في الصين في محاولة لفهم معايير شراء الآباء الصينيين لحليب الأطفال. استوقفني تضمُّن البحث كلاماً متناهياً في تشييء المربين الصينيين بصفتهم مجرد زبائن جاهلين محتملين لتوسيع مجال التسويق وإدرار الربح المادي [3]. فهؤلاء الآباء القلقون على صحة أطفالهم ليسوا بنظر الخبراء الاقتصاديين إلا جيوباً مليئة يمكنها رفع الاقتصاد الفنلندي وفتح مجال جديد لتسويق منتجاته. مثال على ذلك العبارة التالية من البحث: “إن الآباء الصينيين يرون شراء حليب الأطفال استثماراً في مستقبل أبنائهم،.. ولأن معظم هؤلاء الآباء غير محترفين فإنهم بالتأكيد سيسارعون في تصديق نصائح الخبراء، كذلك فإن ردة فعلهم الغريزية ستكون ربط السعر الأعلى بالجودة الأفضل”.[3]

وفي إطار هذه المعطيات الاقتصادية تضيع أهمية إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم [متفق عليه]، وكل المسلم على المسلم حرام [رواه مسلم]، ويتحول النفع المادي إلى وثنٍ جديد يؤلهه الإنسان دون خالقه ودون ذاته حتى.[2] كتب الدكتور سامي العامري: لم يَوُل إلغاء المقدس المتجاوز للعالم إلى هدم مبدأ الوجود الموضوعي للمقدس فحسب؛ وإنما أفرز ميكانيكياً قداساتٍ جديدة من رحم الوجود المادي، وأهم هذه القداسات المنفعة المادية المحسوسة التي استحالت كياناً ذا قدسية كلية في حس الوجود العلماني، فهي القبلة التي تتجه إليها النفس بكليتها، وحولها يطوف الكائن العلماني في خشوعٍ وخضوعٍ كاملين.[4]

الاقتصاد في المجتمعات المسلمة
قد يبدو من الكلام عن علم الاقتصاد أن  إشكالاته محدودة بالمجتمعات الغربية اللادينية، لكن المؤسف أننا حين استوردنا العلوم من الغرب أخذناها دون نقد أو تمحيص، إنما بكل معطياتها وفرضياتها. فهذه العلوم التي نشأت في رحم قطيعة الفكر الغربي مع الدين في القرن الثامن والتاسع عشر لا بد وأن تحمل معها تلك القطيعة في مكنوناتها رغم مرور الوقت،[5] ويرى الشيخ أحمد السيد أن من الخطأ استيراد ودراسة هذه العلوم بشكل مطلق دون اعتبار السياق التاريخي الذي نشأت فيه، فهذا السياق حتى وإن اعتبر الدين، فهو يعده واحداً من العوامل المؤثرة في النشاطات الإنسانية فقط، لا المرجع أو المنطلق لتحديد الصواب من الخطأ في سلوكيات الأفراد والمجتمعات[5]. ولعل النظر إلى طريقة تدريس علم الاقتصاد في كليات البلاد المسلمة يوضح الإشكال. فهو يُدرَّس بأسلوب لا يختلف كثيراً عنه في بلاد الغرب. مجمل الصفوف عن الحساب والتجارة، حيث الفوائد والعقود المحرمة مفتوحة للنقاش، وقد يتم زج صف أخلاق خلالها يتعلم فيه الطالب مراعاة الأخلاقيات العامة المتفق عليها دولياً، بالتالي فإن الطالب سواء تعلم في كليات البلاد الإسلامية أو غيرها يتعبأ بعلوم لا أخلاقية، خالية من أي قيم. بينما ينبغي أن تنطلق العلوم من الوحي الإلهي وترجع إليه فما نص عليه الشرع وقبله تضمنته، وما منعه لم تناقشه ولم تورده كاحتمال أصلاً.

ورغم أن هذه الإشكالات قد لا تجول في بال كثير من المسلمين، إلا أن نتائجها واضحة في سلوكياتهم، ففي السوق مثلاً تظهر تعريفات لا علاقة للدين بها كتلك التي يطلقها الناس على التاجر أو الشاري “الشاطر”، أو “الحذق” الذي يمكنه تحصيل أكبر قدر من الربح على بضاعته أو تحصيل السلعة بأقل سعر ممكن. وفي ظل هذه الإطلاقات يتحول التاجر الأمين الذي يصدق وينصح للزبون فعلاً إلى بسيط أو ساذج، ويُعتبر الشاري الذي لا يساوم مغبوناً، رغم أنه افترض خيرية المقابل لا أكثر. كذلك نجد التركيز على الربح المادي يولد تجاهلاً لمنشأ البضائع المتوفرة في السوق، فلا يُسأل عن حكم شراء ملابس توفيرية مستوردة إن كان العاملون في تصنيعها أطفال لا يتقاضون ما يكفي لسد رمقهم، المهم فقط أننا نأخذ حاجتنا بأقل تكلفة. إضافة لذك فإن الإعلانات المنتشرة في بلاد المسلمين مليئة بالخداع والكذب وكشف العورات وغيرها من التجاوزات الشرعية، عدا عن كونها توهم الناس بأن حاجتهم لن تسد إلا بالمنتج الفلاني، وأن راحة بالهم لن توجد بدون حاجة معينة، ورغم ذلك كله فهي موجودة ومنتشرة في الشوارع والأسواق والمجلات ولا يكاد ينكرها أحد، فهي تعتبر أداة اقتصادية فعالة في تحريك عجلة الاقتصاد وزيادة ربح الشركات وعلى هذا لا ينظر لها بعين الشرع، إنما بعين الاقتصاد المختصة بها!

عواقب ونتائج
إن ناتج التفكك الذي أشير إليه ليس مجرد فصل الدين عن العلم، إنما فصل الدين عن تعاملات الإنسان وسلوكيات حياته كلها. وإن الذي نسير إليه بتخصيص مكان وزمان للشرع لن يقودنا إلى علم أخلاقي بتاتاً، فالأخلاق مجردةً عن الشرع الحاكم تفقد ثبوتها وعدلها، وتغدو نسبية بحسب الزمان والمكان والأفراد والجماعات.[6] إن الدين وشريعة الرحمن لم تنزّل لتُقرأ وتُحفظ ثم تُهمل في الحياة العملية، ولا تكون قائمة مهمات ينهيها المرء سريعاً ليرتاح من عبئها، إنما اختارها الله لتكون دستور حياة وقانوناً يسود المجتمعات. فالصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم عاشوا القرآن والسنة نهجاً لحياتهم، وتمثلوا الورع والتقوى في كل أفعالهم. روي أن أخت بشر الحافي جاءت إلى أحمد بن حنبل رحمه الله، وقالت: “إنا نغزل على سطوحنا بشعلة الملك، هل يجوز لنا الغزل في شعاعها، وقد وقع علينا المشاعل الظاهرية؟” فقال: “من أنت عافاك الله؟” قالت: “أخت بشر الحافي”، فبكى أحمد، وقال: “من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها” [7].

فالإنسان في القرآن عبدٌ لله أبداً أياً كان موقعه أو مهنته، وهو في حال ابتلاءٍ ليحسن العمل كما أمره مولاه سواء كنا في حال مبادلة تجارية أو معاهدة سياسية أو غيرها. فالتدين في جوهره قائم على فكرة الطاعة المطلقة والإيمان المطلق بكل ما يقوله الرب سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا كان التسليم لله ورسوله من أظهر بدهيات التدين [8]. وسبحان الله تبارك وتعالى القائل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

هذا والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.


المصادر:

[1] Costumer Purchase Criteria and Signaling, The Business Owner, May 2012, Business Insights: Global. http://bi.gale.com.ezp.slu.edu/global/article/GALE%7CA289835666/d18ae7c409a51623e13a6d1993eb04d9?u=sain44199

[2] د. عبد الوهاب المسيري، فصل الدين عن الدولة” تعريف خاطئ للعلمانية، مادة مرئية، 2018، https://www.youtube.com/watch?v=IW1lZQXwbNM

[3] Hu Chen, A Systematic Analysis of the Market Potential of Foreign Infant Powdered Milk Brands in China, Savonia University of Applied Sciences, December 2013, https://www.theseus.fi/bitstream/handle/10024/70210/thesis_CHEN%20HU.pdf;sequence=1

[4]  د. سامي العامري، العالمانية طاعون العصر كشف المصطلحات وفضح الدلالة، مركز تكوين، المملكة العربية السعودية، 2017

[5] أ. أحمد السيد، تاريخ الفكر الغربي الحديث | ٨ | الحداثة وما بعد الحداثة، مادة مرئية، 2019، https://www.youtube.com/watch?v=xSX3q9VZZkU&t=3643s

[6] د. طه عبد الرحمن، بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014

[7] الإمام ابن الجوزي، صفوة الصفوة، المكتبة العصرية، بيروت

[8] م. عبد الله بن صالح العجيري، ينبوع الغواية الفكرية، مجلة البيان، الرياض، 1434هـ

لماذا صُب الموت على رؤوس المسلمين في نيوزيلندا؟.. مشاهدات من داخل مسجد النور

“إن المسلمين ظاهرون للعيان، إنهم مجموعة كبيرة من الغزاة الذين يتمتعون بنسب عالية من الخصوبة، ثقة اجتماعية عالية، وتقاليد ثابتة قوية، هذه المجموعة تسعى إلى احتلال أرضي واستبدال شعبي عرقياً”.

بهذا التعليل السقيم، وضّح المجرم الجبان “برنتون تارنت” سبب اختياره للمسلمين دون غيرهم في نيوزيلندا ليصب الموت على رؤوسهم غدراً أثناء أدائهم لصلاة الجمعة في مسجدين في مدينة كرايستشيرش في يوم 15/3/2019، وينفذ فيهم واحدة من أبشع مذابح إطلاق النار الجماعية في العصر الحديث، سقط فيها 51 شهيداً بالإضافة لعشرات الجرحى (44 من الضحايا سقطوا في مسجد النور و7 ضحايا سقطوا في مسجد لينوود)، فالمسلمون في نظره وفي نظر من يقفون خلفه خطرٌ عظيم، يجب التخلص منهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، ليتركوا نيوزيلندا ويتوقفوا عن الهجرة إليها وإلى غيرها من بلدان الشعوب “البيضاء”.

هذا التعليل هو جزء من بيان مطول مكون من 74 صفحة قدم فيه “تارنت” (على فرض أنه من كتبه) قدم فيه ما يدّعي أنه تأصيل كامل للهجوم ودوافعه ودواعي ضرورة تقليده وتكراره حول العالم، لم يذكر “تارنت” في بيانه مجموعات دينية أو عرقية أخرى كأهداف إضافية محتملة في نيوزيلندا، بحيث يمكن استهدافها دفاعاً عن عرقه الأبيض وثقافته “البيضاء” المزعومة، لم يذكر مثلاً العمالة الهندية المدربة الماهرة التي أغرقت السوق النيوزيلندي، والقادرة نظرياً على الفوز بأي فرصة عمل يتم الإعلان عنها في أنحاء البلاد، ولم يذكر أيضاً التجار ورجال الأعمال الصينيين الذين يشترون الأخضر واليابس في نيوزيلندا برؤوس أموالهم الضخمة، والذين صار النيوزيلنديون يتذمرون ويشتكون من وجودهم بصوت مرتفع، بالرغم من أن الدولة ترحب بهم، حتى أن الاحتفال برأس السنة الصينية صار مناسبة وطنية شبه رسمية تعلق فيها الزينة وتطلق فيها الألعاب النارية بسخاء في احتفالات تكاد تقارب احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة، وكل ذلك بعلم وموافقة وترخيص السلطات المحلية، المهم، كل هؤلاء لم يلفتوا انتباه “تارنت” وأمثاله، أما المسلمون برأيه فهم خطر عظيم، بصرف النظر عن كونهم لا يتجاوزون واحداً بالمئة من المجتمع النيوزيلندي، بشيوخهم ونسائهم وأطفالهم، وأن جُلهم في ذلك البلد لا يَعدون أن يكونوا إما مهاجراً باحثاً عن لقمة عيش ومستقبل أفضل لأبنائه، أو لاجئاً هارباً من الموت وويلات الحروب، أو طالباً جاء باحثاً عن العلم والدرجة الأكاديمية. هذا الخوف غير المبرر من الإسلام والمسلمين يمكن فهمه بوجه أو بآخر إذا فهمنا ما هو المقصود حقيقةً بثقافة الشعب الأبيض، وهو ما سنتعرض له لاحقاً إن شاء الله.

لقد عشت في نيوزيلندا ثلاث سنوات أثناء دراستي وتحضيري لدرجة الدكتوراه، من نوفمبر 2015 إلى ديسمبر 2018، وكانت شقتي في مدينة كرايستشيرش تبعد أقل من 5 دقائق بالسيارة عن مسجد النور المنكوب بالمذبحة المروعة، وبالرغم من أني غادرت نيوزيلندا قبل وقوع المذبحة بثلاثة شهور، إلا أن وقع الصدمة كان ثقيلاً علي بعد الحادثة، فقد كانت صدمة متعددة الأبعاد بالنسبة لي، فالمجزرة وقعت في المسجد أثناء خطبة الجمعة، ذلك المسجد الذي كنت من أهله ومرتاديه، خصوصاً أيام الجمعة، والضحايا الذين سقطوا لم يكن لهم ذنب إطلاقاً سوى أنهم مسلمون، 51 شهيداً قضوا في المسجدين أعرف منهم 22 شهيداً، وقد تعرفت على هويات بعضهم فور مشاهدتي لمقطع الفيديو المروع قبل إعلان أسماء الضحايا وصورهم، مما ترك في نفسي أثراً عميقاً وحزناً كبيراً، ولكن بعد الحزن، يشعر الإنسان بحاجته للتأمل والتفكر في ما حصل، وكيف وصل الأمر إلى درجة إخراج المسلمين من دائرة الآدمية، واعتبارهم كائنات كريهة يجب التخلص منها.

نيوزيلندا بلد وادع بعيد معزول عن بقية العالم، سكانه تغلب عليهم البساطة، وهم بالمجمل يرحبون بالمهاجرين ويتقبلون التنوع، أحد أصدقائي العرب المقيمين في نيوزيلندا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي قال لي ذات مرة: “عندما جئت إلى نيوزيلندا عام 1996، كنت أذكر أن الناس كانوا ودودين جداً، كانوا يبتسمون بحماسة عندما يعرفون بأني مهاجر قادم من الشرق الأوسط، وكانوا يسألونني عن المسافات والطقس في بلادنا وفارق التوقيت، ويذكرون كم هم مهتمون بزيارة ذلك الجزء من العالم، ولكن كل شيء بدأ يتغير بالتدريج بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، بدأت ألمس ذلك في تعامل زبائن المطعم الذي كنت أديره”. وحتى بالرغم من تزايد ظاهرة الخوف من الإسلام بعد ظهور ما يسمى بتنظيم الدولة (داعش) عام 2014، إلا أن النيوزيلنديين لم يظهروا عداءً ظاهراً للمسلمين، بالرغم من بضعة حوادث كانت تحصل هنا وهناك بين الحين والآخر، مثل ترك رؤوس خنازير مذبوحة على باب مسجدنا (مسجد النور) عام 2016، إلا أن أحداً لم يكن يخطر بباله إطلاقاً أن دماً مسلماً قد يُراق في نيوزيلندا بدافع الحقد والكراهية، حتى جاء الأسترالي “تارنت” وأثبت خطأ الجميع، وكأنه يريد أن يوقظ المتطرفين النيوزيلنديين من سباتهم، ويرفع أصواتهم، ويشحذ عزائمهم، ويقوي شوكتهم، وذلك ما لمسه الجميع على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام، وحتى في الأماكن العامة، حتى أن رئيسة الوزراء النيوزيلندية لمست ذلك بنفسها بعد أن وصلتها تهديدات بالقتل بسبب ما أظهرته من تعاطف مع المسلمين بعد المذبحة.

مسجد النور كرايستشيرش (السبيل)

إن قيام مجرم متطرف أسترالي بجريمة فظيعة خارج حدود بلاده يثير في النفس شكوكاً وتساؤلات، خصوصاً عندما نتذكر أن الذي قام بحرق المسجد الأقصى عام 1969 هو متطرف أسترالي أيضاً، كما أن اختياره لنيوزيلندا لتنفيذ هذه المذبحة يشير أيضاً للرسائل المبطنة التي يريد من خلالها أن يسيء لنيوزيلندا وشعبها بصفتهم متسامحين نسبياً مع الإسلام والمسلمين، شأن نيوزيلندا بذلك شأن كندا التي تعرض أحد المساجد فيها أيضاً لمذبحة عام 2017، ومن المعروف لدى مجتمع المهاجرين أن نيوزيلندا وكندا لا زالتا تظهران تسامحاً نسبياً مع المسلمين خصوصاً والمهاجرين عموماً، بعكس أمريكا وأستراليا، حيث تنامى فيهما شعور الخوف من الإسلام ومعاداة الهجرة إلى حد بعيد.

لقد كان دعم النيوزيلنديين وتعاطفهم وتضامنهم مع الضحايا والجرحى وأسرِهِم والمسجدين والمجتمع المسلم في نيوزيلندا ملفتاً للغاية، سواءً على المستوى الشعبي أو المستوى الرسمي، ففي الجمعة التالية للهجوم أقيمت صلاة الجمعة في حديقة “هاغلي بارك” المقابلة لمسجد النور، آلاف من النيوزيلنديين غير المسلمين كانوا جالسين خلف صفوف المصلين لحضور الصلاة والاستماع للخطبة، كما أن العديد من النساء غير المسلمات كنّ يرتدين الحجاب تضامناً مع المسلمين، كما أن الأذان والخطبة تم بثهما على الهواء مباشرة من الحديقة عبر وسائل الإعلام الرسمية المرئية والمسموعة، لقد كان مشهداً تاريخياً إنسانياً مؤثراً يثير في النفس التساؤل: إذا كان كل هؤلاء الناس من غير المسلمين قد ساءهم الهجوم كما ساء المسلمين، فلمصلحة من يُنشر الخوف من الإسلام والمسلمين وكراهيتهم وشيطنتهم في المجتمعات الغربية؟

لقد كثر الكلام عن المجرم “تارنت”، وترددت أقاويل عن ارتباطه بجماعات دولية، من ضمنها جهاز الموساد الإسرائيلي، وبالرغم من أنه أكد في بيانه المنشور أنه يمثل نفسه فقط وأنه غير مرتبط بأي جهة، إلا أن تقارير إعلامية إسرائيلية أكدت فعلاً قيامه بزيارة إسرائيل عام 2016، وأنه قام أيضاً بزيارة أكثر من دولة في أوروبا، وبالمناسبة فإن نظرية ارتباط “تارنت” بالموساد تلاقي بعض القبول حتى عند النيوزيلنديين أنفسهم، نظراً للحادثة الشهيرة التي وقعت قبل بضع سنوات، عندما كشفت الصدفة المحضة وجود جواسيس من عملاء جهاز الموساد الإسرائيلي داخل نيوزيلندا، ففي عام 2011 وقع زلزال قوي في مدينة كرايستشيرش أدى إلى سقوط أكثر من 180 قتيلاً، بالصدفة تسبب الزلزال بسقوط شرفة أحد المباني على مركبة مركونة في أحد الشوارع كان فيها أربعة أشخاص، مما أدى إلى مقتل أحدهم، تبين فيما بعد أنهم جميعاً إسرائيليون، وأن القتيل يمتلك خمسة جوازات سفر مختلفة، الثلاثة الناجون قاموا بمغادرة المركبة فوراً وتصويرها، قم قاموا بمغادرة نيوزيلندا خلال 12 ساعة، الحادثة أثارت كثيراً من الضجة وقتها، وكادت أن تؤدي إلى أزمة دبلوماسية بين نيوزيلندا وإسرائيل، لولا قيام رئيس الوزراء النيوزيلندي آنذاك، اليهودي “جون كي” بلملمة الأزمة والتقليل من شأن التقارير، والادعاء بأن التحقيقات جارية ولكن الخوض في تفاصيلها “يضر بالأمن القومي لنيوزيلندا”، بالرغم من أن التحقيقات أظهرت أن هؤلاء الجواسيس كانوا يحاولون اختراق الأنظمة الالكترونية للشرطة النيوزيلندية، هذه الحادثة وغيرها، برأيي، لا يمكن إخراجها من بعض السياقات السياسية المتعلقة ببعض مواقف نيوزيلندا كدولة، مثل موقف نيوزيلندا المعارض لغزو العراق عام 2003، ومواقف نيوزيلندا الداعمة للقضية الفلسطينية في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولا ننسى طبعاً حنق الإسرائيليين الكبير أواخر عام 2017 عندما قامت المغنية النيوزيلندية “لورد” بإلغاء حفلها في تل أبيب استجابةً لمطالب حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي أس).

خلاصة القول، وعلى أقل التقديرات، يمكن القول بأن نيوزيلندا وإسرائيل لا تتمتعان بعلاقات “دافئة”، مما يعزز من وجاهة الاعتقاد بأن “تارنت” مرتبط بمثل هذه الجهات الخارجية، ولكن على كل حال، وأياً كان الأمر، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن “تارنت” يمثل اليمين المتطرف والخطاب الشعبوي واستعلاء العرق الأبيض الذي يقوم على تخويف الناس من الآخرين الذين لا يشبهونهم، ثم يتصادف أن هؤلاء الآخرين الغرباء الدخلاء هم ليسوا إلا مسلمين، وهنا تظهر المفارقة العجيبة، فداعش التي تدعي أنها تدافع عن الإسلام والمسلمين هي لا تقوم إلا بالإضرار بهم من خلال تشويه صورة الإسلام وقتل الأبرياء وتأليب شعوب الأرض على المسلمين، واليمين المتطرف في الغرب الذي يدعي الدفاع عن القيم الغربية يقوم صراحةً بشيطنة المسلمين وإراقة دمائهم، وكأن الاتجاهين اللذين يبدوان متضادين يعملان لصالح أجندة واحدة، فلمصلحة من يعملان؟!

لقد أثارت مذبحة نيوزيلندا تعاطفاً كبيراً مع المسلمين حول العالم، فكانت أفضل طريقة للتخفيف من هذا التعاطف هو عمل إرهابي كبير يقوم به “المسلمون” أنفسهم، ليتذكر العالم من هو الإرهابي “الحقيقي”، فجائت أحداث سيريلانكا بعد نحو خمسة أسابيع من أحداث نيوزيلندا، وسارعت داعش لتبني الهجوم، وسارعت وسائل الإعلام للادعاء بأن هذا الهجوم هو رد على أحداث نيوزيلندا، ويبدو أن هذا النمط من توافق الأحداث صار أمراً معتاداً، ففي عام 2016 مثلاً، وقعت أحداث نادي الشواذ في أورلاندو في الولايات المتحدة بعد أسبوع واحد فقط من جنازة الرياضي المسلم الأمريكي الأسود المحبوب محمد علي كلاي، تلك الجنازة التي حظيت بتغطية إعلامية وتفاعل كبيرين، فأطلت داعش برأسها بعد الجنازة بأسبوع لتقول للعالم: “لا تنسوا أن الإسلام دين إرهاب وقتل وعنف وكراهية، ولا تتعاطفوا مع أي مسلم إطلاقاً”.

في أحد أيام رمضان من العام الماضي (2018)، وقبيل الإفطار بدقائق، قمت بتصوير هذا المقطع القصير داخل مسجد النور، كنا نتناول إفطارنا كل يوم في المسجد، وكنت أعلم أنه سيكون آخر رمضان أصومه في نيوزيلندا، فأحببت أن أحتفظ ببعض الذكريات، ولكني لم أكن أعلم حينها أن هذا المسار الذي كنت أسير به داخل المسجد أثناء تسجيلي للمقطع سوف يشهد مذبحة فظيعة تسيل فيها دماء المصلين ليغرق بها السجاد الممزق بالرصاص، ولم أكن أعلم أن اثنين على الأقل من الأشخاص الظاهرين في المقطع سوف يكونا شهيدين من ضمن عشرات الشهداء الذين ارتقوا في تلك المجزرة، أما الآن، فكلما شاهدت المقطع قلت في نفسي: كم كان المسجد هادئاً، وكم كانت جميلة تلك الأجواء من السكينة والمحبة والألفة والتراحم والتكافل الاجتماعي بين من هم في المسجد، فلماذا قُتل الناس هناك؟! ثم أتذكر بيان السفاح القاتل “تارنت”، فأستدرك على نفسي وأقول: هُم أصلاً لم يُقتلوا إلا بسبب ذلك!

 ما هكذا تستمر السيرة.. نظرات في كتاب “السيرة مستمرة” (2 من 3)

نتابع في هذا المقال ما بدأناه في مقالنا السابق، حول الرد على تشكيك الدكتور أحمد خيري العمري بوقوع حادثة انشقاق القمر، وقد بينا في المقال الماضي أن الحادثة متواترة وهناك إجماع من كل المفسرين عليها وأن زعم العمري بأن إنكارها كان (سائدا ومتداولاً) منذ عهد التابعين لا أساس له من الصحة.

وقد توقفنا عند قول العمري: “أليس غريباً مع حادثة بهذا الحجم أن لا يكون هناك شاهد عيان من الصحابة إلا شاهد واحد فقط هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؟ ألا يوجد صحابي واحد آخر قال بسند صحيح حضرت حادثة انشقاق القمر؟”[1]
وقلنا إن هذا هذا كلام خطير وغير مقبول وينطوي على تشكيك في الحادثة، وتشكيك في عدالة وضبط رواتها والمحدثين الذين أخرجوها، ووعدنا قراءنا الكرام ببيان ذلك في مقالنا هذا.

تشكيك في رواية عبد الله بن مسعود
نقول بعد الاتكال على الله: هذا الاستغراب فيه تشكيك في الرواية كلها، ولا يفهم منه إلا أنه اتهام لهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه بأنه متوهم أو ملفق أو (حاشاه) كاذب؟ حتى لو فرضنا جدلاً أن الحديث لم يروه إلا سيدنا عبد الله بن مسعود، وذلك لأسباب عديدة:

أولها: أن طرق رواية الحادثة عن ابن مسعود رضوان الله عليه، متواترة، فقد أخرج الحديث  البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنن، كل منهم بأسانيد عديدة صحيحة تصل لسيدنا ابن مسعود، فلا يمكن التشكيك إطلاقاً في نسبة الحديث إلى سيدنا عبد الله بن مسعود، فالتشكيك في الحديث تشكيك في صحابي جليل.

وثانيها: أن سيدنا ابن مسعود قال في نص الحديث: (كنا مع رسول الله) فقوله هذا الذي وصلنا بالتواتر عنه رضي الله عنه دليل على أن الحادثة شهدها جمع من الناس وليس ابن مسعود وحده.

وثالثها: أن كثيرا من الأحاديث والحوادث شهدها عدد  من الصحابة وأحياناً جموع منهم، ولكنها لم تصل إلينا بسند صحيح إلا من صحابي واحد أو اثنين، لأسباب عديدة، مجال بحثها علم مصطلح الحديث،[2] فهل يريد العمري منا أن نشكك بكل حديث حضره جمع ولم يروه إلا صحابي واحد حتى لو كان سنده ورواياته في غاية القوة إلى الصحابة مثل هذا الحديث؟ وحتى لو رواه صحابة كثر بعضهم عن بعض؟

ولأن هذا الأمر الأخير لا يخفى على العمري، فقد تابع التشكيك فقال: “كل من ذكر الأمر من الصحابة في أحاديث أخرى، ذكروها على ما يبدو نقلاً عن ابن مسعود، أو ربما سواه، لكن لا نعرف بالضبط”[3]

دعونا نلاحظ لغة التشكيك في السطر السابق، (على ما يبدو، ربما، لا نعرف بالضبط)، ونقول: بل نعرف بالضبط، نعرف أن الصحابة إن نقلوا عن بعضهم فنقلهم لا نشك فيه، سواء كان عن ابن مسعود أو عن غيره، ونعرف أن هناك روايات أخرى للحديث عن صحابة آخرين، منهم ابن عمر وحذيفة بن اليمان وجبير بن مطعم، ونعرف أن الصحابة تناقلوا هذه الحادثة في حياته عليه الصلاة والسلام وحياة الصحابة من بعده فما أنكرها أحد.

التشكيك في إجماع الصحابة
يتابع العمري تشكيكه فيقول: “أنس بن مالك (وحديثه متفق عليه)، لم ير انشقاق القمر في مكة لأنه كان في المدينة، وكان عمره يوم جاء الرسول عليه الصلاة والسلام مهاجراً عشر سنوات فقط، والحادثة حدثت قبل الهجرة بسنوات، (وأنس بن مالك هو الوحيد الذي قال إن انشقاق القمر قد حدث بعد طلب المشركين آية)، ابن عباس ذكر أيضاً الحادثة[4]وكذلك ابن عمر، وكلاهما لم يحضرا الأمر، (لعدم ولادة الأول في تلك الفترة، وصغر سن الثاني)”[5].

وهذا تشكيك آخر في الحديث لا أساس له من الصحة، هل يريد العمري أن يشكك في رواية ثلاثة من كبار الصحابة، لأنهم لم يشهدوا الحادثة بأنفسهم؟ لماذا رووها إذن؟ هل اخترعوا الحادثة من بنات أفكارهم أم سمعوها من الصحابة المهاجرين؟ ومن قال لك إن ابن عمر لم يشهد الحادثة عندما كان طفلاً؟ وهل أضاف أنس بن مالك بنفسه أن الحادثة حدثت بعد طلب المشركين؟ أم سمع ذلك من غيره من الصحابة؟ الصحابة يروي بعضهم عن بعض، ولا نشك أبدا في أنهم  قد سمعوها من صحابة آخرين، بل إن رواية كل من هؤلاء الثلاثة، ابن عمر وابن عباس وأنس  وغيرهم وبأقوى الأسانيد إلى كل منهم بالإضافة لرواية ابن مسعود، دليل على أنها كانت رواية مسلماً بها وشائعة بين الصحابة في عهد النبوة، ولو مشينا على منهج العمري، فعلينا أن  نشكك في حديث بدء نزول الوحي الذي روته السيدة عائشة، فهي حادثة حدثت قطعاً قبل أن تولد.

للمزيد عن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها انشقاق القمر، يرجى العودة إلى مقال نبوة محمد في موسوعة السبيل.

أين بقية نص الحديث الشريف؟
يتابع العمري تشكيكه، ليوهم القارئ من جديد أن الحديث الشريف منقول عن صحابي واحد هو ابن مسعود، فيسقط عشرات الروايات الصحيحة الأخرى،  وينفي أن المشركين طلبوا آية فانشق القمر كما جاء في روايات أخرى متفق عليها، فيقول: “كل ما قاله ابن مسعود هو أن النبي كان مع مجموعة من المؤمنين في منى، وأن القمر انشق، وأن الرسول قال لهم اشهدوا، فقط، لا شيء آخر”[6].

كلا، هناك شيء آخر هام  قاله ابن مسعود في روايتي البخاري ومسلم، تجاوزه العمري هنا، وهذا نص لفظ مسلم: “بينما نحن مع رسول الله، إذا انفلق القمر فلقتين، فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه”[7]، وأهمية هذه الرواية الصحيحة التي التي تجاهلها العمري، أنه قال بعد أن أشبع الحادثة تشكيكاً: “لا نكذب حديث عبد الله بن مسعود أو أي من الصحابة الكرام الذين نقلوا الأمر عنه”، وهذا أمر عجيب، يطرح الشك بعد الشك، ثم يقول: لا نكذب! ويبرر ذلك برأي هو من أشد ما جاء به تهافتاً، وهو قوله بعد ذلك: “الصحابي الجليل رأى ظاهرة وسماها هو انشقاق القمر، قد تكون خسوفاً وقد تكون انعكاساً للقمر على الغيوم”[8]. نستطيع الآن أن نفهم لماذا حذف العمري قول عبد الله بن مسعود: “فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه”، لأن هذه الإضافة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن ما رآه ابن مسعود وغيره كان انفلاقاً  للقمر، ولم يكن كسوفاً أو انعكاساً على الغيم، وعشرات الروايات الصحيحة التي وردت للحديث، عن ابن مسعود وعن غيره،  فيها واحد من لفظين: (انشق شقتين) أو (انفلق فلقتين)، وأن الجبل كان بين الفلقتين، فكيف استنتج العمري أن ما حصل كان كسوفاً؟ هل نصدق من شاهدوا الحادثة عيانا ونقلوها لنا بأصح الألفاظ وأدق الأسانيد؟ أم نصدق  العمري الذي لم يشاهدها ويزعم اليوم رجماً بالغيب  أن الأمر كسوف أو انعكاس ضوء؟

ثم يزيد من تشكيكه فيقول: “ولاشي مما رواه ابن مسعود شاهد العيان الوحيد باعتبار أن الصحابة الآخرين نقلوا عن آخرين، يدل على أنه عليه الصلاة والسلام قال إن هذا انشقاق للقمر”. تكرار ثم تكرار ثم تكرار للإصرار على أن الحادثة  ما شاهدها إلا صحابي واحد، وهذا غير صحيح قطعاً، فهو يناقض نفسه عندما يقول (الصحابة الآخرين نقلوا عن آخرين)، من هم الآخرون الذين نقل عنهم الصحابة؟ أليسوا صحابة أيضاً؟ ولماذا يشترط أن يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: “هذا انشقاق القمر؟”، هل قال موسى هذه العصا قد شقت البحر أم ألقاها ورأى الناس المعجزة؟ هل قال عليه الصلاة والسلام: هذه أصابعي ينبع منها الماء فيسقي جيشاً، أم فعل المعجزة ورآها الناس؟ ما هذا الشرط العجيب الذي لم نسمع بمثله قبل العمري!

(حس بديهي) يجعل الانشقاق كسوفاً
يختم العمري كلامه عن الحادثة فيقول: “أن تفسر حديثاً صحيحاً بطريقة تتوافق مع القرآن الكريم، ومع الحس البديهي، لا يعني أبداً أن تكذبه”.

ونقول: عجيب أنه بعد أن يلقي كل تلك الشكوك،  يكرر مرة أخرى أنه لا يكذب الحديث، (ولا تخفى دلالة هذا التكرار!)، أما قوله إن  تفسيره يتوافق مع القرآن الكريم،  فإن كان العمري يقصد زعمه أن قوله تعالى “اقتربت الساعة وانشق القمر” هو “استخدام الفعل الماضي للدلالة على ما سيحدث يوم القيامة”[9]، وهو مشابه في الحديث عن يوم القيامة  لقوله تعالى “وأزلفت الجنة للمتقين”، وقوله تعالى “ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد”، وقوله تعالى “ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا”، فقد أخطأ خطأ كبيراً، ولن تنطلي هذه الخدعة على أحد، وذلك لأن الآيات التي استشهد بها على استخدام الماضي للمستقبل، في كل منها دلالة قاطعة على أنها تتكلم عن يوم القيامة، فيها نفخ في الصور، وإزلاف للجنة، وحوار بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهذه الدلالة القاطعة شرط يجب أن تتوفر حتى نصرف الزمن الماضي إلى المستقبل، وهو ما لا يتوفر في آية سورة القمر.

وإن كان يقصد ما زعمه من أن الله لم يذكر تلك المعجزة إلا مرة واحدة في القرآن الكريم، بينما ذكر معجزة موسى وغيرها  مرات عديدة،[10] رغم تكرر الطلب من كفار قريش بطلب المعجزات، وأن ذلك يلقي بالشك على الحادثة، فنقول: تلك حجة أوهى من أن يرد عليها، بل هي حجة لك لا عليك، الله تعالى قد ذكر معجزة الإسراء  مرة واحدة أيضا، ولم يكررها، وهل نكذب الخبر الصادق لأنك وحدك (من بين كل كتاب السيرة والمحدثين والعلماء والمفسرين) تظن أن الحادثة لو وقعت لكان على الله أن يكرر ذكرها كلما طلب الكفار آية؟!

وأما قوله إن تفسيره يتوافق مع (الحس البديهي)، فلا ندري ما المقصود بذلك، هل المقصود استنتاجه بعد خمسة عشر قرناً أن ما حدث كان كسوفاً أو ظلا للقمر على الغيوم، رغم أن كل من رأى بأم عينه وروى الحادثة قال إن هذا (انشقاق) أو (انفلاق)؟ ومتى كان (الحس البديهي) بديلاً عن الخبر الصادق واللفظ الواضح والدليل القاطع والسند شبه المتواتر والنص القرآني؟

تناقض صارخ في اعتماد الرويات
 لقد استغرق العمري ثمان صفحات من سيرته في محاولة نراها فاشلة تماماً للتشكيك في حادثة قطعية الثبوت برأي المحدثين والمؤرخين[11]، ، ولنا هنا سؤالان للعمري:

الأول: لماذا استغرقت ثمان صفحات من كتابك تحاول التشكيك في هذه الحادثة الصحيحة شبه المتواترة، وفي الوقت نفسه قبلت رواية أن الطير الأبابيل نقلت مرض الجدري لمكة، وقبلت رواية أخرى منقطعة واهية،  لدعم رواية الجدري الواهية، وهي أن  السيدة عائشة رأت في طفولتها سائق الفيل وسائسه أعميين في مكة،[12] رغم أن هذه الرواية   في غاية الضعف، أسانيدها منقطعة،  ولم ترد في أي من كتب الصحاح والسنن، ولم يروها أي صحابي آخر، أين توافق هذه الروايات مع القرآن الكريم في سورة الفيل؟ وأين توافقها مع (الحس البديهي)؟ هل فات (الحس البديهي) أن الجدري لو جاء مع الطيور لانتشرت العدوى في أهل مكة، وأن رؤية السيدة عائشة لسائق الفيل وسائسه في مكة عندما كانت طفلة أمر أقرب إلى الخيال، لأن ذلك معناه أن السائس والسائق امتد بهما العمر أكثر من خمسين سنة بعد حادثة الفيل، ولكن لم يرهما أحد من أهل مكة فيروي رؤيتهما سوى طفلة صغيرة رأتهما بعد أن بلغا من الكبر عتياً! وكيف تقبل رواية منقطعة عن السيدة عائشة عندما كانت طفلة وتبني عليها، وترفض رواية صحيحة متفقاً عليها، وصلتنا بسند قريب من التواتر عن الفتى ابن عمر حول انشقاق القمر، تؤيدها عشرات الروايات الأخرى، بحجة أنه كان طفلاً؟ أهذا هو المنهج التاريخي الذي بنيت عليه سيرتك؟  رواية واهية منقطعة لا تتوافق مع القرآن ولا مع الحس البديهي، تقبلها وتثبتها وتمر عليها مرور الكرام وكأنها حقيقة واقعة، ورواية قاطعة مثبتة تتوافق مع القرآن الكريم وأجمع على صحتها العلماء والمحدثون والمفسرون، تحشد لها شكوكاً واهية لا قيمة لها في ميزان العلم والتحقيق والتاريخ والتفسير؟ هذا التناقض يعطي فكرة عن المنهج الانتقائي المتاقض الذي اتبعه العمري في اختيار الروايات التاريخية التي بنى عليها سيرته المستمرة.

الثمرة المرة للتشكيك
السؤال الثاني وهو الأهم، وهو الذي من أجله كتبنا هذا المقال والذي قبله في تفنيد تشكيك العمري في حادثة انشقاق القمر: ما تأثير هذا التشكيك على فئة من الشباب الناشئ الذي لم يطلع على علم مصطلح الحديث،  ولم يراجع الحادثة في المراجع التاريخية وكتب الحديث، ولم يطلع على ما جاء في كتب التفسير، هل سيعود من قراءة بحثك هذا إلا بشك في كلام المفسرين للقرآن الكريم، وشك في دلالة الآيات القرآنية، وشك في ضبط الصحابة الكرام وعدالتهم، وشك في طريقة رواية الحديث ووصوله إلينا؟
نعم، هذه الثمرة المرة  هي محصول تشكيك العمري في تلك الحادثة، سواء قصد ذلك أم لم يقصد، ومن أجل هذه النتيجة المؤسفة، بسطنا القول في تفنيد تلك الشكوك في هذا المقال والذي قبله، لأن الموضوع ليس مجرد حادثة نثبتها أو ننفيها، بل موضوع تشكيك في الصحابة والحديث والمحدثين والرواة والمفسرين.
لم ينته الكلام عن سيرة العمري المستمرة، ولنا معها وقفة ثالثة وأخيرة، فانتظرونا في المقال القادم إن شاء الله.

_________________________________________

الهوامش

[1] السيرة مستمرة، ص 245

[2] من ذلك باختصار شديد، التحري الشديد للمحدثين في التحقق من صحة الحديث بحيث يسقطون أي سند فيه انقطاع أو  شك، ومنها أن المكثرين من رواية الحديث من صحابة رسول الله، هم أولئك الذين كانوا شباباً على عهده عليه الصلاة والسلام، وامتد بهم العمر بعد انتقاله للرفيق الأعلى، وكانوا ممن يجلس للتدريس والرواية، وسيدنا عبد الله بن مسعود واحد من هؤلاء.

[3] السيرة مستمرة، ص 245

[4] وحديث ابن عباس أيضاً  متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم.

[5] السيرة مستمرة ص 245

[6] السيرة مستمرة، ص 246

[7] صحيح مسلم، حديث رقم 288

[8] السيرة مستمرة، ص 246

[9] السيرة مستمرة، ص 243

[10] السيرة مستمرة، ص 241 وما بعدها

[11] قد بسطنا القول حول  قطعية ثبوت الحادثة ذلك في المقال السابق، ويمكن مراجعة ما نقله ابن كثير في تفسيره لسورة القمر من عشرات الروايات والأسانيد

[12] السيرة مستمرة، ص 36