ماذا نفعل بعد رمضان؟
ما هي أهم ميزة لموسم رمضان السنوي؟ وكيف نحافظ على مكتسباتنا في رمضان بعد رحيله؟ حلقة خاصة للحديث عن تزكية النفس ومحاولة الثبات، والتركيز على ضرورة التغيير والتخلص من العادات السيئة. إعداد وتقديم أحمد دعدوش
ما هي أهم ميزة لموسم رمضان السنوي؟ وكيف نحافظ على مكتسباتنا في رمضان بعد رحيله؟ حلقة خاصة للحديث عن تزكية النفس ومحاولة الثبات، والتركيز على ضرورة التغيير والتخلص من العادات السيئة. إعداد وتقديم أحمد دعدوش
يشق على الكثير من الفتيات المرور بفترة العذر الشرعي وما يرافقها من حكم الامتناع عن الصلاة والصيام في شهر رمضان، فهنّ كأي مسلمٍ يُرِدْنَ الصيام واغتنام الوقت في الشهر الكريم بالصلاة والعبادات، وقد يُلجِئُ ذلك إحداهن لدواء كثير الأعراض الجانبية يؤخر فترة الحيض، وإن لم تفعل فإنها تحزن في ذاك الوقت وتخجل من فِطرها وذاتِها فيه.
إلى جانب ذلك تمرّ كثيرٌ من الأمهات الحوامل أو المرضعات اللواتي يخفن على أنفسهن أو أطفالهن بفترات صعبة من التناقض الفكري في رمضان؛ إذ لا يتقبّلن فكرة الفِطْر في الشهر، ولا تحتمل أجسادهنّ الموهنة الصيام في الوقت ذاته.
بينما أسباب ما تقدّم غالبًا ما تعود لفهم مغلوط عن دين الله أو عادات مجتمعيّة تفرَض على الفتاة ما لم يأمر به الله، وتدعوها لبغض ذاتها أو التظاهر بما ليست عليه، فإن نتائج هذه النماذج تشمل كثيراً من الإناث وتفضي بهنّ لمشاعر صعبة ومشكلة لا يفصحن عنها وتعكّر عليهنّ صفو الشهر الكريم، فأردت أن أفرد هذا المقال لتفنيد تلك الإشكالات، وتوجيه بعض الوصايا المتعلقة بها.
من المهمّ أن نبدأ نقاشنا لهذه الأفكار بتقديمٍ عن قبول النفس التي وضعها الله سبحانه بين جنبينا، وحمد الله على نعمه علينا فيها وبها، فنحن وإن لم نختر ماذا نكون ومتى وأين، فإننا هنا منعّمون بقدر لا نحصيه من النعم في نفسنا وحدها، فهذه النفس هي الوحيدة التي سنسأل عن عملها ونجاتها وسنفلح إن زكيناها، وهي وحدها التي سنأتي الله بها حين نكون أفراداً متخلّين عن الأصحاب والقرابات.
أوجّه الخطاب هنا للفتيات وأقول لكل منهن: أحبي أنوثتك واحمدي الله على نعمة أن وهبك إياها، احمديه على هذه النفس التي تحتاج عناية خاصة في أوقات تعب شهري طبيعيّ وجبلّي، لا تلومي نفسك لأنك لست المرأة الخيالية الخارقة التي تستطيع القيام بكل شيء في كلّ حين، فالإنسان خلق ضعيفاً وهذا يشمل الرجال والنساء، وإن كان ضعفك أكبر واوضح فاحمدي المولى على شريعةٍ تراعي ذلك وتأمر بمراعاتك فيه، ثم تأجُرك على إذعانك وصبرك ورضاك به.
ولننظر لحال عائشة رضي الله تعالى عنها حين مرّت بذات الحزن التي تشعر به الفتاة حين تجبر على ترك عبادة محببة لقلبها، فهي رضي الله عنها كانت خارجة للحج مع حبيبها صلى الله عليه وسلم، محتملة لمشقة السفر، ومشتاقة لتأدية المناسك ومشاركة المسلمين بها حين منعها الحيض من ذلك كله، فجعلت رضي الله عنها وأرضاها تبكي على أثره.
هناك دخل عليها رسول الله وخفف عنها الحزن بقوله صلى الله عليه وسلم: (فلا يضيرك، إنما أنتِ امرأٌةٌ من بنات آدم، كتب الله عليكِ ما كتب عليهنّ، فكوني في حجّتك، فعسى الله أن يرزقكيها) [أخرجه البخاري]. بهذه البساطة والتسليم لأمر الله تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل القضية، فخفف عن زوجه حزنها وعلمها كيفية التعامل مع حالتها الطبيعية التي لا شأن لها بها، ولا ينبغي أن تلوم نفسها عليها.
وهذا يشبه من كانت حاملاً أو مرضعاً لا تستطيع الصوم لخوفٍ على نفسها أو طفلها، فلتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة وشيءٍ من الدلجة) [أخرجه البخاري]. كتب الدكتور مصطفى البغا في شرح الحديث: لن يكلّف أحد نفسه من العبادة في الدين فوق طاقته إلا رده الدين إلى اليسر والاعتدال، فالزموا التوسّط في الأعمال واقتربوا من فعل الأكمل إن لم تستطيعوه.[i]
فسبحان الله الرحيم بعباده الذي يقبلنا كما نحن بضعفنا وفقرنا وقلة ما لدينا، وله الحمد أنه الأعلم بنا من نفوسنا فلا يكلفنا إلا وسعنا، وما جعل علينا في الدين من حرج، فلتطمئن نفسكِ أختي، ولتعلمي أنكِ أَمَةٌ لرب كريم يقبل منك أقل العمل المخلص لوجهه، وهوّني عليكِ حين لا تستطيعين الصوم وتجبرين على الفطر ومخالفة ما اعتدته من العمل المحبب طوال عمرك، بل استمتعي بمنّة الله عليكِ في أمومتك وصبرك على مشاقّها، واحتسبي رضاك وامتثالك في الصيام أو الفطر لوجه مولاكِ جل وعلا، واستشيري أهل العلم في الفقه والطب، وانظري في حال جسدك وقدراته، ثم ارضي بحكم الله عليكِ وابتلائه لكِ بغض النظر عما يقوله عوامّ مَن حولك أو يدعونك إليه، واذكري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) [أخرجه البخاري].
أما إذا اطمأنت النفس وأسلمت لما كتب الله عليها، فإن السؤال الذي يتبع هو: كيف أغتنم هذه الأيام المعدودات؟ وهل هناك طريقة تمكنني من عدم تضييعها في اتباع النفس الأمارة بالسوء أو مجالس اللغو القاتلة للوقت والعمر؟
وهذا سؤال أساسي، خصوصاً أنّ ما سبق ليس دعوة للركون أو تسهيلاً لتضييع الأوقات أو الكسل عن الاجتهاد في الشهر الفضيل، فأبواب الخير والطرق إلى الله واسعة كثيرة، لا تقف عند الصيام والتراويح، إنما تتعداها أولاً لأعمال القلوب من الإخلاص والتوكل والتفكر والخوف والرجاء والشكر والتقوى والإنابة وغيرها مما لا يشترط حالاً أو مكاناً، والتي كانت عناية السلف بها كبيرة تظهر في كثرة مؤلفاتهم فيها وتوجههم إليها لأن صلاحها لا يتعلق بصلاح الظاهر، إنما هو متعلق بما بين العبد وربه لا يعلمه أحد من الخلق ولا يطلع عليه، وهو الذي يعتمد عليه حال أعمال الجوارح ومرتبتها عند الله جلّ وعلا. قال ابن القيم -رحمه الله-: “أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فمواتٌ، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح”.[ii]
كما أن من أبواب الخير المفتوحة قراءة تفسير القرآن وعلومه، وكذلك تلاوته دون مس المصحف -إن كانت الفتاة ممن يأخذ بجواز التلاوة-، إضافة إلى حضور دروس التفسير والتدبر اقتداءً بعناية رسول الله والسلف الصالح بالقرآن في رمضان واشتغالهم به، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان مرتين.[iii]
إضافة لذلك فإن من الضروري توسيع مفهوم العبادة إلى ما وراء النُسُك المجرّدة والوقوف على سجادة الصلاة فقط، فرسول الله صلى الله عليه وسلم علّمنا أن التبسم في وجه أخينا المسلم صدقة، وأن الأعمال بالنيات التي بها يصير العمل العادي عبادة، والله تبارك وتعالى أشار في كتابه الكريم مراراً إلى فضيلة الإحسان إلى الخلق وأجر المحسنين في عملهم مع الله ومع الناس، ومن ذلك المساهمة في تفطير صائم، وإغاثة ملهوف، ونصح لمسلمٍ، ونشر علمٍ نافعٍ وطلبه وإعانة الغير عليه، إضافة إلى الرفق بالصغار وملاعبتهم، وإعانة الكبار ومؤانستهم، وعيادة المريض وصلة الرحم والإحسان للجار وحتى نثر البذور أو الخبز الجاف للطيور التي فيها للمسلم أجر كبير بإذن الله تعالى.
وبذلك يظهر أن فترة العذر الشرعي أو عدم قدرة الأنثى على الصيام في رمضان للحمل أو الرضاعة لا ينبغي أن يحول بينها وبين الاجتهاد في العبادات وتزكية النفس والاستكثار من الخيرات خلال أيام الشهر الكريم الذي إن بلغته هذا العام فقد لا تبلغ غيره، وسبحان الله الكريم الرحيم الذي خلق في نفوسنا ضعفاً لتلجأ إليه وتذكر حاجتها له، ثم رزقنا شريعةً تقدّر هذا الضعف وتوافقه، وله الحمد أن وسّع لنا أبواب الخير في رمضان وفي كل الشهور.[iv]
[i] د. مصطفى ديب البغا. مختصر صحيح البخاري المسمى التجريد الصريح. مركز اليمامة للنشر والتوزيع. ص18.
[ii] ابن القيم الجوزية رحمه الله. بديع الفوائد. 3/224.
وللمزيد في موضوع أعمال القلوب انظر سلسلة محاضرات للشيخ محمد صالح المنجد بعنوان “أعمال القلوب” على موقع طريق الإسلام.
وكتاب مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله المتوفر بنسخ مختصرة وكاملة على الشابكة، وللشيخ أحمد السيد سلسلة محاضرات في قراءة الكتاب والتعليق عليه بعنوان “مقاصد مدارج السالكين” على يوتيوب.
https://www.youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsTKo0QAbQ8OOL2DP8wKhjgm
[iii] من السلاسل النافعة في هذا الباب بإذن الله:
“سلسلة اللطائف القرآنية” للشيخ بسام جرار على يوتيوب. https://www.youtube.com/watch?v=GD4iGRjjTQY&list=PLswqnlv8rl0sH9pv8AlpVN2PxQcSejS2_
و “دورة مفاتح التدبر” للمهندس فاضل سليمان على يوتيوب.
https://www.youtube.com/playlist?list=PLukAHj56HNKbD2R2ZroUhu7g-mK1S6CrW
ومن الكتب النافعة في هذا الباب:
كتاب أول مرة أتدبر القرآن للشيخ فهد سالم الكندري. https://ar.islamway.net/book/29544/%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D8%AA%D8%AF%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86
وكتاب رقائق القرآن للشيخ إبراهيم السكران. https://waqfeya.net/book.php?bid=9885
[iv] استفدت في بعض معاني المقال من محاضرة بعنوان “ورمضان إلى رمضان” لنورة سوبرة وأسماء الجغبير عبر مركز مكاني.
ومن محاضرتين للدكتور محمد حسونة بعنوان “رمضان 1442” عبر مركز مكاني.
مرّت عدة أيام على بَدء رمضان، وبكل تأكيد فإن نفحات هذا الشهر تجول في حياتنا لتغيّرها إلى الأفضل في كل شيء، بدءًا من نمط التفكير، وصولاً للعادات الغذائية. وإذا ما أَجَلْنا النظر في آيات الصيام في القرآن الكريم، فإننا سنقف على إشاراتٍ تحثّ المسلم على الاستفادة من الوقتِ الذي يعيشه، ففيها مفردات مرتبطة بالزمن ارتباطًا وثيقًا، وأيّ مغنمٍ أكبر من أن تنال رضى الله في رمضان، وأي بذْلٍ أوفى من أن تستثمر وقتك في رمضان أتم الاستثمار؟.
عادةً ما تُصدَّر الأوامر من قبل الله في الخطاب بما يناسب المراد، فإن كان المراد من الآية أمر الناس باعتقادٍ ما فغالبًا ما تتصدّر الآية بوصف أشمل من وصف الإيمان وهو مخاطبة الإنسان بإنسانيّته، نظرًا لعموم الحال والمقال، فيقال “يا أيّها الناس” كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} [النساء: 1] وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج: 1].
أما كان المراد من الخطاب فرض تكليفٍ تعبُّديٍّ فغالبًا ما تُصدَّرُ الآية بتخصيصها بالإيمان لخصوص المخاطَب وحال الخطاب، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج : 77] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254]، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90].
وهنا ائذن لي أن أسألك: ألم يستوقفك نداء الله حين قرأته أمره بتشريع الصيام، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]؟ ألم يتوارد لخاطركَ، لمَ خصّ الله التكاليف بالعبادات بالمؤمن وخاطب عموم العباد في العقائد بالإنسانيّة؟
إن حال المخاطَب مهمٌّ لإيصال الصورة إليه، فمن يجحدُ وجود الله أو يؤمن بآلهة متعدّدة أولى بألّا تطالبه بالصلاة والحج، وإنما تخاطبُه بما يشترك به معك، وأيّ قيمة أظهرُ بينك وبينه من “الإنسانيّة” بينما كان خطاب التكليف مناسبًا لمن حّصل شرط صحتها ووقوعها منهم وهم “الذين آمنوا”، حيث يتوجه الله إلى الناس بمناشدة الإيمان المستقر في قلوبهم ليقوموا بما يفرضه عليهم من فرائض هو أدرى بحكمتها والغاية منها.
لا ريب أنكَ لاحظت ارتباط العبادات بالزمان، فالزكاة لا تجبُ على المستطيع من المسلم إلا في وقتٍ معلومٍ من كل عام، وكذلك للحجُّ {أشهرٌ معلوماتٌ} [البقرة: 197]، أما الصلاة فإنها مقدّرة بوقتٍ تجبُ فيه وينقضي وقتها بمروره، فلا تصحُّ إن فات وقتها إلا أن تصلّى قضاءً.
هذا الارتباط الوثيق بالوقت لم ينشأ عن فراغ أو جاء عن عبث، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى أن أول ما نسأل عنه يوم القيامة هي هذه الأوقات التي تمرّ علينا، فيقول: (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ)
ومن تلك الإشارات التي تربط رمضان بالوقتِ، قول الحقِّ بعد فرض الصيام: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وقال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. فالأيام والشهر وعاء زمني محدّد بوقت معيّن، ربطه الله بالصوم والقرآن، ممّا يلفت النظر إلى بركة هذا الشهر، وفضيلة العبادة فيه.
لقد شهد رمضان نزول الوحي الأول على قلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم، وفي هذا لفتٌ للانتباه إلى ضرورة الصوم مع التدبّر هذه الأيام، فهي كشأن أي امتحان أو موسم، تنطلق من نقطة وتنتهي عند أخرى، والزمن الذي ينقضي لا يعود، فما النتيجة التي سنملأ بها صُحُفنا في نهاية المطاف؟
هل حاولت أن تكتشف نفسك في رمضان؟ إن كثيرًا من الناس قد أصابه التيه، فهو لا يقف عند حقيقة نفسه، إلا إن تهيأت له أسباب ذلك، وإن من رحمة الله تعالى بنا أن أكثر لنا من مواسم الخير، وهيّأنا لنستقبل نفحاتها في أماكن وأزمنة بارك فيها، حدّدها لنا سبحانه وتعالى، وجعل لمن يغتنمها أن يتضاعف ثوابه وطاعته في صالح الأعمال.
قد تتساءل –وأنت محقٌّ في ذلك- كيف لي أن أستثمر وقتي في رمضان؟
وههنا فإني لست بمقام أن أُمليَ عليك ما يجب أن تفعل أو تَدَع، فذاك يعود لكلّ إنسان وما يريد، إلا أن أحوال الإنسان في سعيه للطاعة والتعبّد في هذا الشهر لا تخرج عن أحوال معيّنة، كالحاجة لإشباع العاطفة، وذلك بأن يملأ الإنسان القلوب من حوله بالفرحة الغامرة الفيّاضة لمقدم شهر الفضل والرحمات.
إضافة إلى الرغبة في الوصول للصفاء الروحي، وذلك بتخلية القلب من كَدَر الغلّ والحقد والحسد وغير ذلك من محبطات الأعمال، وتحليته بالنية الخالصة لله، إلى جانب الرغبة في التعلّم والاستفادة فكرًا وعقلاً، وذلك بالسعي للتأمل والتدبّر في آيات الله وكلامه، والرغبة في نفع الناس معنويًّا وماديًّا، بنشر الخيرات والتذكير بموسم الطاعات، وإيقاظ الغافلين وإرشاد التائهين إلى التعرض لنفحات الله.
إن هذا كلّه يحتّم عليك أن تضع الخطة الملائمة لنفسك، فتراعي فيها جانب (الله، والذات، والآخر) فتمتلئ بما يقرب القرآن وإعجازه إليك، فارقب قلبك عند القرآن، فإن وجدت فيه نشاطًا في رمضان وإقبالًا عليه، فإن قلبك سليم –بإذن الله- وإن رأيته معرضًا عنه؛ فإنك بحاجة لتغوص في رقائقه لتداوي القسوة الطارئة في فؤادك، ولتجعل منه طريقًا لتغيير عاداتك السيئة وصفاتك السلبية المنفلتة من عقال المراقبة وبناء عادات إيجابيّة تجعلك أكثرَ سعادةً وقربًا من الله فـ “إن المرء إذا أراد استطاع”..
كلّما استحضرتُ قربَ الشهر الفضيل، وحاولت عيشَ أجوائه الدافئة في ذاكرتي أو مخيلتي، راودني تفصيلٌ تافهٌ أو عابر –ربما-، ولكنّني أجدُ فيه تفسيراً يمكن إسقاطه على كلّ تجاربنا المختلفة في رمضان.
كثُرت النكات في آخر الأيام على فكرة الأسئلة التي يطلب الناس فتواها من الشيوخ وعلماء الدين في أوائل أيام شهر رمضان، حتى اختصر كثيرون ذلك على الناس بنشر كل تلك الأسئلة -الساذجة المكررة- في صورة واحدة بجدول “يفطر أو لا يفطر”.
إلا أن السذاجة لا تقتصر على تلكَ الأسئلة، بل لعلّها تحدث في زوايا كثيرةٍ من أفعالنا في هذا الشهر المبارك الذي يبدأ سيناريو اشتياقنا له بالنصوص والعبارات، وربما في مواقف صادقةٍ أكثر، في احتياج الروح للقرب والتهذيب والتنقية حقًّا، ولكنّ هذا الصدق قد يتشابه مع صدق صاحب ذلك السؤال الذي جعلناه نكتةً، ربما إن فهمنا دافعَ سؤاله أكثر.
إنّنا نسأل الأسئلة في بعض الأحيان لا لرغبةٍ حقيقيّةٍ في الإجابات، وإنما لفكرة السؤال نفسه.. لأقرّبَ الوصف أكثر؛ فإنّنا قد نسأل عن حال بعض المعارف أحياناً دون رغبةٍ حقيقية بمعرفة أخبارهم، ولكن مخافة العتاب، أو إرضاءً للواجب، هذا ما يحدث بالضبط مع تصرفاتٍ -بتنا نسميها رمضانية- كثيرة، أن نُشعِر أنفسنا بأنّ واجباً علينا يُؤدّى، بأنّنا مهتمّون حقّاً برمضان والبداية جادّة.
جُعِل الصوم مميّزاً عن باقي العبادات في تفاصيل مختلفة كجزائه القدسيّ سواءً من ريانٍ، أو ذاك الذي تركه الله له، وهو يجازي به، ولنا أن نتخيل حجم عطاء الكريم إن وعد.
كما أنّه مختلفٌ في توقيته الخاص، وحدانيّته وسط 11 شهراً آخر، وهنا بالذات قد نفسد من حيث نريد الإصلاح، فنأتي لنُشعِرَ أنفسنا بأن هذا الشهر هو الكنز المنتظر، ذو اليوم المختلف، والروتين الخاص فنقعُ في مأزقين معتادَين.
أولهما: لحظة ما بعد العاصفة، والعاصفة التي أقصد هي مآزق وعثراتُ وسقْطات الأشهر الإحدى عشر، عواصفُ الذنوب والأخطاء والوساوس التي لاقَينا سوء عاقبتها، وتعب المصير الذي آلت بنا إليه، تلك الموعودة بالإصلاح دائماً دون جدوى، إلى أن يخطر في البال طيف رمضان كشهابٍ رابح، ليبدأ الذهن في ترتيب مراسم التوبة والنسك والتهجد.
وهنا أستحضر مشهد السفينة في عباب البحر، يركبها المسافرون يواجهون أكثر لحظات الخطر والمشقّة (حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ.. ) يخاطبون الله، يدعونه، يَعِدونه ويعدون أنفسهم بتغيّرٍ عظيم؛.. (لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس:22]، إلا أن عاقبة هذا الوعد معروفةٌ في أحيانَ كثيرةٍ للأسف..
ذاتُها حماسة صاحب السؤال التي تتلاشى بحلول أول مغيبٍ للشمس، أو بالأحرى تخمةِ أول إفطارٍ وليلةٍ رمضانية.. وقد تكون حماسةً تمتدّ بضعةَ أيّامٍ ثم تعودُ للغياب.
أمّا المأزق الثاني: فهي تلك التفاصيل التي نضيفها على الجدول الرمضانيّ بمضضٍ في أوّل الأمر، والتي نحفظ مواعيدها متظاهرينَ بعدمِ الانتباه – فالجدول المُعَدُّ قد لا يتسع شيئاً سوى العبادة- وإذا بالجداول تتمزّق قبلَ أن تُخَطَّ على الورق، وإذا بتلك البرامج، والمسلسلات، وحتى السهرات تفرض جداولها بنفسها دون كلفةِ ترتيبٍ أو تنسيق. لنمحو بأيدينا ما ينفعُ الناس، ونتركَ الزبدَ الجفاءَ يملأ أيام رمضانَ الفضيل حتى يغرقها ونغرق.
وهنا نظلم هذا الشهر الواحد بأن جعلناه فارغاً مليئاً بكلّ ما يفرغنا أكثر، جاعلين إياه كـالـ ( 11) شهرًا مضى، وهو واحدٌ يزيدُ على بقيّةِ عامٍ بأكملها.
سنكون متشائمين إن ذكرنا الأخطاء ولم نتطرّق للصحيح والمفروض، ولكنّ الغرض كانَ مباغتةَ الأخطاء واستعراضها في مشهدٍ استباقيٍّ تحليليّ، غايةُ مُناه أن لا نكرّرها، والله من وراء القصد.
لا مثالَ أوضح على الجدّ من عمله ﷺ وعمل أهله وصحابته في هذا الشهر الكريم، من الدعوات اللحوحة، واستباق الخيرات، من تدبّر القرآن في الشهر الذي أنزل به ومن إحياء ليلة القدر على الوجه الدي يرضي الله (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر:2].
أناسٌ جَدّوا فوجدوا، فاستمرّوا، فكان رمضانهم موعداً مع قضاء الحاجات والكُرَب. أدركوا عظمة فكرةِ أن يكونَ في العام أيّامٌ تعدِلُ لحظات جمع الغنائم بعد المعارك الطاحنة، مواسمُ قرباتٍ وطاعاتٍ ورضا، القَدرُ والرزق، ابتلالُ العروقِ بعد شهور الظمأ، ثباتُ الأجر بعدَ الغفلة عن الصوم والتهذيب أيّاماً كثيرات.
يا إلهنا.. اشتقنا لرمضانَ حقًّا، فأصلح أنفسنا وأبعد عنها ضلالاتها فإنّك إن تَكِلنا إليها نهلك، اللهم سلّمنا لرمضان وسلّمه لنا وتسلّمه منّا متقبّلا.
مثل كل طفل يعيش في مجتمعات المسلمين شدَّتْني منذ الصغر بعض المظاهر الرمضانية التي لا تراها إلا في هذا الشهر المبارك لاسيما إقبال المسلمين على تلاوة القرآن، في حلقات المساجد أو في البيوت أو في المواصلات العامة، حتى الباعةُ في محلاتهم تجد البائع مع كثرة أشغاله يقتنص الدقائق الفارغة ليمسك بمصحفه ويجلس ساكنًا يتلو كتاب ربه. وكنت أتساءل مستفهمًا أو مستنكرًا لماذا فقط في رمضان؟ وكانت الإجابة الحاضرة دائمًا أن رمضان شهر ابتداء نزول القرآن لهذا من الطبيعي أن تجد هذا الاحتفال بالقرآن في شهر القرآن، زد إلى ذلك الثواب الذي ينتظره كل مسلم ومسلمة من تلاوة كل حرف في كتاب الله، أليس ذلك كافيًا أن يتسابق الناس إلى تلاوة القرآن والاستزادة منه في هذا الشهر الكريم؟!
لكن إذا علمنا أن الله فرض الصيام على أمة الإسلام في العام الثاني من الهجرة، في حين أن نزول القرآن كان قبل ذلك بزمان طويل يقترب من أربعة عشر عامًا، فإن ذلك يؤكد لنا أن الله اختار الشهر الذي أنزل فيه القرآن ليفرض فيه الصيام! ففي سورة البقرة يقول الله تعالى: }شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ{ [البقرة: 185].
هنا ينبغي لنا أن نتساءل ما سر هذا الاختيار الإلهي؟ وما فائدة الجمع بين الصيام والقرآن في شهر واحد؟ هل يمكننا تلمّس حكمةٍ مَّا وراء ذلك؟
من أهم فوائد ذلك -في تقديري- جمعُ أهم أدوات التغيير وأشدها تأثيرًا في النفس، حيث تتعاقب وتتجاور في مدة زمنية محدودة، حتى تكون أشد أثرًا في تهذيب النفس الإنسانية وصقلها وتغييرها إلى الأحسن عامًا بعد عام، تغييرًا يطول أمدُه ويقوى في النفس والمجتمع أثرُه.
وتفسير ذلك أن الإنسان إذا ارتكب ما يضره في دينه أو في دنياه من أمر حقير أو خطير فإنما يفعله لواحد من سببين: إما أنه يجهل طبيعة ما فعل وعاقبته، أو أنه خائر العزم أمامه مسلوب الإرادة في مواجهته.
فالإثم الديني أو الخطأ الدنيوي ينشأ إذن عن نوعين من الضعف: ضعف معرفة أو ضعف إرادة، وانفراد أحدهما كافٍ للوقوع في الخطأ، وقد يجتمع السببان فيكون الأمر أخطر والعلاج أصعب!
وقد جمع الله في رمضان ما يعالج الأمرين معًا، فتلاوة القرآن تعالج الضعف المعرفي، والصيام يعالج ضعف العزم والإرادة والنكوص عن الاستمرار حتى التمام.
لذلك كان من سنته صلى الله عليه وسلم مدارسة القرآن كل ليلة من ليالي الشهر الكريم مع جبريل -عليه السلام- ففي صحيح البخاري تقول السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أباها أسرَّ إليها (أنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي). [صحيح البخاري، رقم: 3624]
هذه المعارضة هي التي سماها ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ مُدَارَسَة. قَالَ عنها: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ؛ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ). [صحيح البخاري، رقم: 6]
والمدارسة لا تعني مجرد التلاوة بل تعني كذلك التفهّم والتدبّر والمراجعة للحفظ والتثبّت من التأويل. وهذا للبديهة يثبت خطأ ما يفعله كثير من المسلمين اليوم إذا جاء رمضان، فيكون همُّ أحدهم أن يجيب عن سؤال: كم ختمة تلوت؟ وليس كم آية فهمت؟! فهي تلاوة حروف وكلمات وليست مدارسة معان وعظات.
إن المدارَسة لكتاب الله ولو كانت مرة واحدة في الشهر كله تورث المعرفة الحقة والعلم النافع، فما بالك إذا كانت مع عالم متخصص أو فقيهٍ متبحر! بهذه المدارسة المتعمقة يخطو الإنسان خطوة واسعة في سبيل التغيير نحو الأفضل، إذ المعرفة هي أول خطوة في تاريخ التغيير الطويل الشاق، وإلا فالجاهل متخبط لا يعرف أين يقف ولا يدري أين ينبغي أن يكون!
ثم تأتي الخطوة الثانية وهي تقوية الإرادة وشحذ العزيمة، فالتغيير الواعي الهادف ليس شيئًا سهلًا فهو يتطلب تغييرَ قناعات استقرت في الذهن، وهجرَ عادات تطبّعت بها النفس، ويتطلّب مفارقة أصدقاء الضلالة، والقطيعة بينك وبين أخلّاء الغواية، بل قد يتطلّب ما هو أخطر من ذلك من هجر البلدان ومفارقة الأوطان.
إنك في رحلة تغيير كهذه تصعد ضدّ الجاذبية لا تهبط موافقًا لها؛ ولذلك كان الصيام.
إنه الوسيلة الأوثق التي ستصحبك في الجزء الثاني من الرحلة يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، إنه الدواء الناجع لضعف الإرادة وخوَر العزيمة وتذبذب النية.
إنه ليس امتناعًا عن الطعام والشراب والشهوة فقط، بل إنه حفظ الأوقات ومخالفة العادات ومراقبة الخلوات. إنه رقابة ذاتية على كل خلجة من خلجات النفس وخطرة من خطرات الفكر وعلى كل حركة من حركات الجوارح.
هذه الرقابة وهذا الانضباط يستمر يوميًّا ساعات طوال تصل في بعض البلدان إلى ثمان عشرة ساعة أو تزيد، ثم تتكررهذه الرقابة الصارمة طيلة ثلاثين يومًا هي أيام الشهر المبارك، إذا أحسن المسلم استغلالها وفهم المعنى الحقيقي للصوم فيها، فبأي إرادة ماضية يخرج بها من شهر كهذا!
في مقال بعنوان: كم تحتاج من الوقت لتغيير عادةٍ مَّا ـ العلم يخبرك ـ (How Long Does It Take to Break a Habit? Science Will Tell You)، وهو منشور بالإنجليزية على موقع Lifehack يقول الكاتب ما ملخصه:
تنشأ العادة من عملية تتألف من التحفيز والفعل والمكافأة. والزمن اللازم لتكوين العادة الجديدة يستغرق واحدًا أو ثمانية وعشرين يومًا أو شهرًا أو اثني عشر أسبوعًا. ثم يخلص إلى قول مستخلص من إحدى الدراسات يؤكد أن العادات تتفاوت في المدة اللازمة لتغييرها واستبدال أخرى بها، وأن المدة تتراوح بين 18 إلى 254 يومًا، على حسَب تأصل العادة في الإنسان ومدى صلابة إرادته وعزيمته ثم قوة العوامل المحفزة له على تغييرها. ( 1)
في رمضان نجد العوامل الثلاثة ـ بل وأكثر منها ـ مجتمعة: التحفيز والفعل والمكافأة. وزيادة على ذلك الوعي والمعرفة التي ينبغي أن تسبق كل فعل وذلك بمدارسة القرآن. وفيه المحفّز الدنيوي والأخروي، فهذه جموع المسلمين تصوم معًا وتفطِر معًا، إذا دعاه أحدهم إلى معصية أو عامله بسوء خلق قال له بسهولة ويسر شديدين: إني صائم.
ثم فيه من الإحسان ما يسد حاجة المحتاج فهو خير انطلاقة لشحيح الموارد وقليل ذات اليد للارتقاء في الدين والدنيا معًا! وفي رمضان يوجد الفعل والعمل أيضًا وهما هنا التعبّد لله بالصيام بما تشتمل عليه من جميل الآداب وكريم الخصال. وفي رمضان أيضًا توجد المكافأة وأَعْظِمْ بها من مكافأة! فهي فرحة عند الفطر وفرحة عند لقاء الرب، وهو باب الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، وهو ثواب هائل لا يعلم عظمه إلا الله فالصيام له سبحانه وهو يجزي به.
فانظر من عاداتك أشدَّها إرهاقًا لكاهلك وتأثيرًا على حاضرك ومستقبلك واعزم على تغييرها لأفضل منها الآن، نعم الآن، فهذا أوان ذلك!
أعدَّ برنامجك الرمضاني واجعل فيه مدارسة القرآن ليلًا عادة لك فهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع عالم مُجيد إن استطعت، أو مع صديقك، أو أهل بيتك، أو وحدَك ليكون أنيسُك فقط كتاب الله ففيه كل الخير.
وحاول أن تستخلص درسًا عمليًّا تطبقه نهارًا حتى تكون ممن إذا علموا عملوا، واعزم على ذلك حتى ختام الشهر الكريم لتتكون لديك –كذلك- عادات عديدة عميقة الأثر في النفس والحياة، منها حسن التعامل مع كتاب الله والحرص على فهمه لا مجرد تلاوته، ثم عادة الانتفاع بالمعرفة وتحويلها إلى عمل نافع، ثم أمورًا لا تحصيها يصلِحُها القرآن في نفسك وقلبك وحياتك وواقعك، ويشد الصيام في سبيل ذلك من أزرك، فتقوى على مواصلة الطريق إلى هدفك المنشود مهما كثرت في سبيل ذلك المعوقات وتكاثرت العقبات.
الهوامش:
انظر المقال كاملًا على الرابط التالي:
http://www.lifehack.org/667495/how-long-does-it-take-to-break-a-habit
في عالمٍ صار فيه حب المادة على أشده، فترى من يظن نفسه عبداً لله وواقعه لا يعبد سوى بطنه وفرجه، وترى الذين لا يقيّمونك إلا بما تزين به جسدك من لباس وتملؤ به معدتك من طعام، فإن كان لباسك دون “الماركات” وطعامك دون الإسراف فلن تجد منهم سوى الازدراء والاحتقار.
وأصبح الأكل لأجل اللذة لا لأن يكون حاجةً للاستمرار في الحياة، وتجد من يصفك بالرجعية إن أنت لم تعرف اسم تلك الأكلة! وتجد من يعيب عليك أن تحافظ على النعمة -بأن لا تبقي في طبق طعامك شيئاً- فذلك بزعمه ليس من التحضر!
وتجد من ينشئ قنوات على اليوتيوب غرضها الأساسي نشر تحديات لمن يأكل أكبر عدد من الوجبات! وترى متابعيها بالملايين، ومتابعو العلماء بالعشرات! وتجد الزوج الذي يشن حروباً على زوجته إن هي لم تطبخ، أو كانت الطبخة على غير ما يحب! وكأن الطعام قد أضحى قضية العالم وشغله الشاغل!
في هذا العالم الذي وصفته لك يأتيك رمضان، الشهر الذي يريد منك أن تضع لشهوات بطنك حداً، وتجعل لك من ذلك منهجاً، فلا تضبطها شهراً وتفلتها عمراً! يأتيك ويريد منك أن تترك رديء الأخلاق وتطلب أحسنها، فيصبح ذلك طبعاً من طباعك، وقد يظن أحدهم مخطئاً أن غاية الصيام هي الامتناع عن الطعام والشراب والجماع فقط! غافلاً عن الحديث النبوي: “من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” [رواه البخاري]
ومما علينا إدراكه أنه يشقينا أن ننسى أنفسنا وحاجاتها لحساب أجسادنا ورغباتها، وأن ننظم الحياة من حولنا ونتركها خراباً في داخلنا، وأن ننبهر بالبرقع الخداع للأشياء ويغيب عنا أنها تقاس بجوهرها، وأن نحصر السعادة بملذاتٍ تأتي إلينا ناسين أن الرضى رضى النفس، وأنك لو ملكت كل ما وقعت عليه عيناك وأنت طامح للمزيد فلن تشم رائحة السعادة، وأنك لو أنت قنعت بما تملك فستعيش حياةً يحسدك عليها الملوك والأمراء.
وفي هذا المقام، لا غنى لنا عما قاله ابن القيم عن حقيقة الصوم: “أما الصوم، فناهيك به من عبادة تكفّ النفس عن شهواتها وتُخرجها عن شبَه البهائم إلى شبه الملائكة المقرّبين، فإنّ النفس إذا خُليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم، فإذا كفّت شهواتها لله، ضيَّقت مجاري الشيطان وصارت قريبة من الله بترك عادتها وشهواتها، محبّة له، وإيثاراً لمرضاته، وتقرُّبا إليه، فيدع الصائم أحبّ الأشياء إليه وأعظمها لصوقا بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه، فهو عبادة لا تُتصوّر حقيقتها إلا بترك الشهوة لله، فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهواته من أجل ربه.
وهذا معنى كون الصوم له تبارك وتعالى، وبهذا فسّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الإضافة في الحديث فقال: “يقول الله تعالى: كلّ عمل ابن آدم يُضاعف الحسنة بعشرة أمثالها، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي”[رواه البخاري] حتى إنّ الصائم ليتصوّر بصورة من لا حاجة له في الدنيا إلا في تحصيل رضا الله.
وأيُّ حُسنٍ يزيد على حسن هذه العبادة التي تكسِر الشهوة وتقمع النفس وتُحيي القلب وتُفرحه، وتُزهِّد في الدنيا وشهواتها، وتُرغِّب فيما عند الله، وتُذكّر الأغنياء بشأن المساكين وأحوالهم وأنهم قد أخذوا بنصيب من عيشهم فتُعطِّف قلوبهم عليهم، ويعلمون ما هم فيه من نعم الله فيزدادوا له شكرا؟
وبالجملة، فعون الصوم على تقوى الله أمر مشهور، فما استعان أحد على تقوى الله وحفظ حدوده واجتناب محارمه بمثل الصوم، فهو شاهد لمن شرعه وأمر به بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه إنما شرعه إحسانا إلى عباده ورحمة بهم، ولطفا بهم لا بُخلا عليهم برزقه ولا مجرّد تكليف وتعذيب خالٍ من الحكمة والمصلحة بل هو غاية الحكمة والرحمة والمصلحة وأنّ شرع هذه العبادات لهم من تمام نعمته عليهم ورحمته بهم” [مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، 867-868]
وإنك في رحلتك الروحية في رمضان تسعى لأن تكون طيب النفس، حسن العشرة، سليم الصدر، واضعاً حديث الرسول عليه الصلاة والسلام نصب عينك عندما قال: “إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق” [رواه البزار (9319)]، وعالماً جيداً ومدركاً لما قالته عائشة رضي الله عنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان خلقه القرآن” [رواه مسلم].
وإن القلب لا يجد سبيلاً إلى التزكية إلا بصيامه عمّا حرمه الله عليه من حسد وكبر وعجب وحقد وغيرها، ولا يجد جوّاً مناسباً يعينه على ذلك إلا الصيام الذي يقيد شهوات البطن والفرج، فاجعل لك في شهر رمضان منهجاً تسير عليه، ولتكن نيتك أن تزداد من الله قرباً، ولتجتهد ألا تضيعه بأن يكن نصيبك منه ترك مفطرات البطن والفرج مع التمادي باللسان والعين والأذن وصولاً إلى اليد وانتهاءً بالرجل!
أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك!
للباحثين عن جهاز كشف يمَكنهم أن يتعرفوا على أي نوع من النفوس ينطوون؛ أهي: الأمّارة بالسوء، أم اللوامة، أم المطمئنة؟ فما عليهم إلا أن يراقبوا أعمالهم في رمضان!
ففي كتاب لحجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله يحدد أعداء الإنسان الداخليين بالنفس، والشيطان، والهوى والدنيا. فالهوى والدنيا وسيلتان تستعملان حسب إغواء قائدي ركب رحلة الشر، وهما النفس والشيطان لعنه الله.
والشيطان -كفانا الله شره- ربما يضعف عمله بفعل التصفيد في شهر الخير -رمضان- لتتسلم النفس زمام رحلة الإرداء بالبشر، فيكون حال الناس في رمضان مرآة لنفوسهم!
مما يعزز ذلك ويؤيده -شيئا ما- ما يذكر من أحوال السلف في رمضان وكيف كانوا يتركون المباح للواجب، وخلاف الأولى للمندوب.. فيركضون في حقل فعل الخيرات ليعيش الجميع على مدار الشهر الفضيل في باحة من الخير: فمنهم سابق بالخيرات..وما ذاك إلا لصلاح نفوسهم.
بخلافي أنا وأمثالي فإننا للأسف ربما تساوى عندنا أَوَلى شهر الخير شطره إلينا أم ولى مدبرا عنا! فتجد الواحد منا بالكاد لا يفرق بين رمضان وغيره، فقد تراه ناشرا صورة لعارية على صفحته الذي لا يعلم متى تطوى، فتبقى الصورة حسابا جاريا من الذنوب بعده لاقدر الله، وقد تراه يتكلم في العلماء بما شاء غير آبه بحرمة عِلم ولازمان، وربما تساببنا السباب تلو السباب، وتجادلنا من أجل تزكية نفوسنا، {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء}.
ناسين أو متناسين قول الحبيب صلى الله عليه وسلم “فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم مرتين”.
أما مواعيد “العمة الفيفا” مقدسة، فإنها لم ولن تفقدنا حيث أمرتنا! وحتى لو جاء وقت المباراة متزامنا مع وقت عروج ملائكة الرحمن الذين سيسألون عنا: كيف تركتم عبادي؟ فيكون الجواب: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون، فيفوتنا للأسف قطار تلك البشارة!
نعم يفوتنا للأسف قطار التشريف ذلك: وهم يصلون.. لأننا كنا حينها في المقاهي، وحسبك به من حرمان والعياذ بالله!
كل ذلك لتسليمنا العنان لأنفسنا الأمارة بالسوء، فعن النفس يخبرنا ابن القيم رحمه الله تعالى حين يقول: سبحان الله؛ في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان.
ومع ذلك أظل وأمثالي نصالحها ونهادنها بدل أن نناصحها، وكأنا ما قرأنا يوما إخبار الحسن البصري وقوله: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه.
ثم نهيم نحن ونهيم في غفلة شديدة على حد تعبير أحد أعلام السلف رحمه الله وكأني به -يعنيني-وأمثالي: وما أحسب أحداً يفرغ لعيب الناس إلا عن غفلة غفلها عن نفسه، ولو اهتم بنفسه ما تفرغ لعيب أحد ولا لذمه.
فنرجو رغم كل ذلك أن لا نكون قد وصلنا إلى درجة أن يتتلمذ علينا إبليس لعنه الله! على حد تعبير الحسن البصري رحمه الله الذي قيل أنه رأى إبليس لعنه الله في المنام فقال له: كيفك مع عباد الله؟ فرد عليه ابليس لعنه الله: كنت أُعلم الناس الشر، فصرت أتعلم منهم!
فالبدار البدار، لنبادر عسانا نتدارك أنفسنا ولنحذر أن يمضي رمضان قبل أن نتعلم منه ونلحق بركب تلامذته، ولنحذر كذلك أكثر أن نكون ممن تتلمذ عليهم إبليس عليه لعنة الله.
وما المرءُ إلا حيث يجعل نفسهُ * ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
ونحذر من أعوان إبليس من الإنس الذين يقومون بالدور على أكمل وجه، حين لم يتركوا باب لهو ولا غواية إلا طرقوه، لإشغال الناس في هذا الشهر الفضيل: مسلسلات، برامج، سهرات، إثارة..
كل ذلك يبذل في الغالي والنفيس، لأجل هدف واحد: تضييع فرصة العتق من النار في رمضان على عوام المسلمين.
وصدق مولانا الكريم: {يريد الله أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما}.
يقيس علماء إدارة الموارد البشرية نجاح المؤسسات بمعيار جوهريّ؛ هو قدرة هذه المؤسسة نظاماً وميزانيّةً على “تدريب العاملين فيها”، وهو معيارٌ يُحدّد نجاحها الآني والمستقبليّ، إذ لا يمكن لمؤسسةٍ لا تُدرّب أعضاءها أن تتطوّر، فضلا عن أن تبقى واقفةً على قدميها، وإذا صحّ أن نعدّ الإسلام مؤسسةً كبيرةً نظامها الداخليّ موقّعٌ من الذات الإلهيّة، وصحّ أن نعايرها بمعايير المؤسسات الإنسانيّة، فإنّ “التدريب” فيها يبهرنا بأنّه “مجاني”، “منظّم ومحدّد”، “شاملٌ لجميع أعضاء المؤسسة”، وأنّ آليّاته قادرةٌ على إعادة إحياء المؤسسة إن تعثّر أعضاؤها في الطريق.
إنّ التدريب الذي يقدّمه النظام الداخليّ الإلهيّ (ولله المثل الأعلى) للمسلمين لمدّة شهرٍ واحدٍ من كلّ عام هو الصيام الذي نزعم هنا أنّه ليس إلا تدريباً للمسلم على أن يكون مسلماً حقّاً، إذ إنّ حقيقة المسلم هي الحقيقة التي يعيشها الصائم في الشهر العظيم، فإذا عاش المسلم بحقيقته شهراً من كلّ عام، عاشت فيه هذه الحقيقة بقيّة العام، فالصيام يحول الأفكار التي يتلقّفها المسلم من الكتاب والسنة، ويحفظها في عقله، ويؤمن بها في قلبه تحويلها إلى حياة عمليّة يعيشها بجسمه وروحه فترقى بذلك من أن تكون معارف مجردة إلى أن تصبح معارف محسوسة ملموسة حيّة، تلك الآليّة التي ارتأتها الحكمة الربانيّة لتدريب المسلم على معاني الإشراق الإلهي على النفس الإنسانية.
وإذا كان الأمر كما نقول، فما هي حقيقة المسلم التي يدرّبه شهر الصيام عليها؟ والتي تتجلّى واضحةً فيه و هو صائم؟ لاستجلاء ذلك، سنحاول فيما يلي تتبع المعاني التي يتدرّب المسلم عليها في هذا الشهر، والتي ينبغي أن يخرج المسلم بعد الالتزام بالصيام لشهر كامل، يخرج متقناً لها عامَه كاملاً.
1- العبودية والمساواة، إذ يتساوى الناس كلّهم في ذلك الفقر الإجباري، وتكون الأمة كلها على حالة نفسية واحدة يستوي فيها الفقير بالغنيّ، يجوع فيها الغنيُّ تماماً كما يجوع الفقير، شأنُ الصيام في ذلك شأن الصلاة والحج في تحقيق المساواة، ليدرك الناس الحقيقة الإنسانية الخالدة «الخلق كلهم عباد الله» ويتحقق في نفوسهم معنى العبودية الصحيح! ويتعمّق هذا المعنى في النفوس حين يخرج الناس ليجتمعوا في صلاة التراويح، فيستوون بين يدي ربّهم يركعون ويسجدون.
2- مراقبة الله، فالصّوم عبادةٌ سريّةٌ لا يطّلع على حقيقتِها إلّا الله، وهو عبادةٌ تستقصي الطاقة حدّ الوسع، فالصّائم يجوع ويعطش ويترفّع عن شربة ماءٍ أو لقيمةٍ صغيرةٍ استجابةً للأمر الإلهي، لا رقابةَ عليه في ذلك إلّا استحضار أنّ الله هو الرقيب.
3- تربية الإرادة، فالصائم يمتنع بإرادته عن شهواته الجسدية، فتتدرّب فيه القدرة على الاختيار بين الحق والباطل، وتنمو فيه إرادة الخير، والقدرة على الاستجابة لوازعها في نفسه. والمرتبة التي يرتقي إليها الصائم في تكوين الإرادة هي أعلى منزلة يمكن أن تبلغها إرادة المرء حين تكون شهواته منقادة لفكره، ورغباته مذعنة للحس الديني فيه.[1]
إنّ كون الصيام عبادةٌ سريّةٌ بين العبد وربه يعمّق معنى الحريّة في الالتزام بهذه العبادة بعيداً عن أيّ سلطةٍ اجتماعيّة تماماً كما يعمّق معنى المراقبة للّه في السرّ قبل العلن، وهذه الحريّة في الاختيار، والإرادة الخاضعة للفكر لا للحس هي الحرية الحقيقية التي ينضبط بها المسلم، ليكون حرّاً عبداً لله وحده.
4- الرحمة، فالإنسان إذا صام يومه كاملاً، صياماً يمتنع فيه امتناعاً باتا عن أي غذاء يدخل جوفه، حتى استنفد طاقته، صارت نفسه قادرةً على الإحساس بغيره ممن يجوع لفقره، وأصغى لصوت ضميره الذي يوجّهه إلى الصدقة ومد يد العون لأخيه الفقير الجائع بنفسه لا بإرادته. ومن هنا جاءت صدقة الفطر ترجمةً عمليّةً سلوكيّةً لانغراس هذا المعنى في نفس المسلم، وكانت فرضيّتها على جميع المسلمين تأكيداً لارتباط خُلُقِ العطاء بالمسلم الرحيم الذي يسلم الناس من لسانه ويده، وتمتدّ يده بالخير وتمسك عن الشرّ استجابةً للوازع الإيمانيّ في داخله.
كلُّ ما ذكرنا من المعاني يندرجُ تحت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: «كُلّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلّا الصّيام فإنّه لي، وأنا أجزي به، والصّيامُ جُنّة، وإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه، فليقل: إنّي امرؤٌ صائمٌ، والذي نفس محمدٍ بيده، لَخَلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسكِ، للصّائمِ فرحتانِ يفرحُهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربّه فرح بصومه» [رواه البخاري]، فقوله عليه السلام “الصيام جُنّة” أي وقاية، وقايةٌ للإنسان من شرور نفسه و وقايةٌ للمجتمع من شروره الداخليّة، وإنّ الصائم لا يسبُّ أحداً و لا يقاتله، ذلك أنّه قد تحققت في نفسه معاني القرب من الله والمعية الإلهية، فهو أرقى من النزول إلى مراتب الشر البشريّ، لذلك فهو يجيب بقوله «إني امرؤ صائم» يعني أنا فوق أن أجيبك.
وفي الحديث إشارة لطيفة تستوقفنا فالحبيب صلى الله عليه وسلم يقسم بأنّ تلك الرائحة المنبعثة من فم الصائم هي عند الله أطيب من ريح المسك، ليؤكد قرب الصائم من ربه وارتقائه إلى تلك المراقبة اليومية السامية.
فليكن لنا من مراقبة الله صدقةً مخفيّةً لا تعلم شمالُنا فيها شيئاً عمّا أنفقت يمينُنا، وليكن لنا من العبوديّة إقبالٌ إلى التراويح في المساجد نتأمّل في إقبال القلوب كلّها إلى ربٍّ واحد، وليكن لنا من تربية الإرادة توبةٌ نصوحةٌ نُقلع فيها عن الذنوب، ونجاهد أنفسنا و هواها، ونجتهد في ضبط ألسنتنا التي يكبُّ النّاس على وجوههم في جهنّم من حصائدها، ولنأخذ الكتاب بقوّةٍ تلاوةً واستماعاً و فهماً وتأمّلاً حتى يرسخ خلق الرّحمة في قلوبِنا، فنبلغ يوم الجائزة وقد اجتزنا التدريب ناجحين، ويبقى من أثر رمضان ما يجعل حياتنا كلّها كرمضان.
[1] الرافعي؛ مصطفى صادق: وحي القلم ، ط مؤسسة الرسالة 2000 ، ج 2 ص 349، (بتصرف).
استلهمنا فكرة ورسالة الموقع من الحديث الشريف الذي رواه عبد الله بن مسعود حيث قال:”خط لنا رسول الله ﷺ يوماً خطاً ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وخطوطاً عن يساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾”.
هل لديك سؤال أو استفسار؟