مقالات

كيف تبنى الخديعة في قضية فصل الدين عن السياسة؟

لا يمكن وصف مسألة (فصل الدين عن السياسة) بوصف أدقّ من أنها (وهم) وتلاعب بالألفاظ؛ ذلك أن هذه المقولة بحد ذاتها بمثابة الاعتقاد الديني إلا أنه من منشأ دنيوي (عالماني) لمن يعتنقها، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن هذه الفكرة قد نشأت وتصاعدت ردًّا على الارتباط الوثيق بين حُكم رجال الكنيسة الكاثوليكية وبين طبقة الحكّام في أوروبا وتوليهم أمور السياسة في أوروبا، كما أنها كانت نتاجًا لتحول في عقيدة المجتمع قاده فلاسفة أرادوا للعقل البشري أن يكون المصدر الأول للتشريع، بعد قرون من ممارسات لا عقلانية من رجال الدين في شؤون السياسة والمجتمع ومحاربتهم لكل خروج عن تفسيراتهم للحق الإلهي، واحتكارهم علوم الدين وما ينبغي للعلوم الطبيعية أن تصرح به وما يجب اعتباره هرطقة وتجديف لمخالفته الكنيسة من تلك العلوم حتى لو ثبت صحته بالتجربة العلمية، فظهرت فلسفة الحق الطبيعي ضد الحق الإلهي، وسادت الفلسفة الإنسانية العالمانية التي نصَّبت العقل الإنساني كمرجعية نهائية للتشريع والسلوك والحكم إلهاً دنيويا ليحل مقام الميتافيزيقي المتعالي الإلهي الكنسي، في ثورة جددت شروط العقد الاجتماعي ونظم السياسة في الحضارة الغربية.

إن المطالب بهذا الفصل مُطالَب هو أيضًا بتطبيقه كما يفعل من يطالب بتطبيق الشريعة، فكلاهما يطالب بتطبيق ما يؤمن أنه الأصلح للحكم، والتلاعب اللفظي في الجملة واضح، إذ المقصود فصل (الشرائع السماوية) التي لا يؤمن بها دين العالمانية عن سياسة الشعب، فهو دين يريد أن يحتل مكانة دين آخر في مصادر التشريع..

الدين والسياسة، هل من فَصْلٍ؟

في واقع الحال فإنه من المستحيل الوصول إلى فصل للدين -أي دين- عن السياسة، فكل التشريعات والقوانين البشرية الوضعية السياسية، مصدرها الأصلي ما يدين به ويعتقده المشرعون، وما تلتزمه الدولة من عقيدة سواء أكانت سماوية أو بشرية مصدرًا للحكم، وعلى أساسها يقوم بناء الدولة كله وبه ينظّم مجتمعها، فالزعم بأن العالمانية ليست ديناً ينبعث من أحد سببين: إما القُصور في فهم ماهية الدين أو التلاعب لفظي.

إلى جانب ذلك فإن الزعم بأن العالمانيّة تقف على حياد موضوعي من كل الديانات هو زعم –آخر- أفضل ما يقال عنه إنه خيالي ومستعلٍ لا يمت للواقع بعلاقة أو صلة؛ إذ أن العقيدة العالمانية تتغلغل بالفعل في صميم المجتمعات العالمانية، بدءًا من المناهج التعليمية التي تشكل وعي الأطفال حتى الأطر والقوانين التي تنظّم العلاقات الاجتماعية، وقوانين الاقتصاد والتجارة وكل شؤون الفرد والأسرة والمجتمع.

لترسيخ ذلك كله، فإن الماكينة الإعلامية لدول العالمانية تعمل ليل نهار على ترسيخ مفاهيمها، وكل خروج عنها أو محاولة نشر قيم دينية مخالفة لها يقابَل بالقمع من قبل الدولة (كما هو مشهور في مسألة النقاب في بعض الدول العالمانية واعتباره مظهراً يتناقض مع قيم المجتمعات العالمانية، وخصوصاً اللائكية الفرنسية)، ولن يغيب عنّا أن الممارسات العنيفة التي تتبعها دول العالمانية قد تتجاوز حدود الخيال، فالحروب الدموية وعمليات الإبادة التي تمت في حق المؤمنين بالكنيسة بعد الثورة الفرنسية، وتلك التي كانت بعد الثورة البلشفية في حق المؤمنين بالديانات السماوية معروفة ومسجلة ولا أحد ينكرها من الباحثين والمؤرخين، ومن ثم فإن الزعم الساذج بسماحة العالمانية وقبولها لجميع الأديان تدحضه أحداث التاريخ القديم والحديث. فإذا لم تعتبر تلك الممارسات ديناً يحارب ديناً آخر، فإنما هذا من تلبيس بعضهم في تعريف الدين وحصره فقط في الشرائع السماوية.

مفهوم الدين

للدين معان متعددة وتعريفات مختلفة، إلا أن مفهومه العام يتأطر في الإذعان لوجودٍ أو تصوّر ما، وبذلك فإن مفهوم الدين ليس مفهوماً ينطبق فقط على الشرائع السماوية، بل أنه كل ما يدين ويؤمن به المرء في أمور الدنيا والآخرة ويشكّل منظومة معتقداته والسلوك والأخلاق والتعاملات التي تنتظم بها حياته، سواء أكان مؤمناً بالله واليوم الآخر أم لا، كما قال تعالى لمن كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ]الكافرون: [6فسمى ما هم عليه بـ “الدين” بالرغم من عدم إيمانهم.

إن الدولة حتى في ادعاء حياديتها فهذا الحياد المزعوم هو دين وأيديولوجيا دنيوية تتعالى على الدين بمفهومه السماوي وتفرض عقيدة تزعم سماحتها مع جميع الأطراف، لكن تطبيقاتها الواقعية تثبت أن هذه السماحة والحيادية تنتهي إذا ما انتشرت عقيدة مخالفة لعالمانيتها في المجتمع _أحداث فرنسا الأخيرة وإجراءات ماكرون دليل صارخ على ذلك_ فلا توجد عقيدة تعتنقها دولة يمكن أن تسمح بانتشار أخرى!

ففصل الدين عن السياسة بل وعن كل جوانب الحياة ممتنع في ذاته، ونظرية خيالية تفترض أن السياسات والقوانين والتشريعات الوضعية موضوعية وبمعزل عن عقيدة المشرع الذي وضعها وعن إيمان أولئك الذين يسوسون المجتمع.

وعليه فإن دعاوى فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين، أمر لا وجود له في الواقع، ولو تم زعم إمكانية تحقيقه فهذا جهل أو خداع، فكل سياسة لابد وأن تنطلق من عقيدة (دين)، فلابد من إيمان بغاية ما للسياسة؛ تلك الرؤية الاجتماعية التي يتم بها هندسة المجتمع، والغاية التي تنشدها السلطة للمجتمع ورضي المجتمع بالانصياع للسلطة لأجل تحقيقها؛ سواء قلت دولة مدنية عالمانية ليبرالية تعددية ديمقراطية، أو اشتراكية شمولية فاشية نازية شيوعية؛ أو إسلامية ومسيحية ويهودية؛ فهذه كلها غايات دينية عقائدية لحركة المجتمع، تندرج تحت المعنى العام للدين، فالدين بشكل عام هو رؤية شاملة للحياة، سواء كانت رؤية تؤمن بالله واليوم الآخر وتحكم بالشرائع السماوية، أو كانت رؤية دنيوية ذات مرجعية ديمقراطية ليبرالية فردية أو اشتراكية شيوعية شمولية؛ جميعهم يحدد اتجاه حركة المجتمع وغاياته وآليات حركة تدفق العلاقات والتعاملات فيه والمرجعية الشرعية التي سيحتكم إليها كل فرد ينتمي لهذا المجتمع!

المدنية بين الدين  والعالمانية، رديف أم مناهض؟

إن محاولة جعل الدين -بوصفه ديناً سماوياً- ضد الدولة المدنية -التي تُعرف بكونها نقيضًا للدولة ذات المرجعية الدينية- هو نوع من الخداع! بل هما دين سماوي ضد دين دنيوي وهذه هي حقيقة الصراع.

من ناحية أخرى فإن ادعاء أن المدنية تقتصر على تعريف العالمانية لها هو ادعاء باطل، لأن المدنية غاية اجتماعية مشتركة وليست رديفاً للعالمانية، فشرائع الأديان السماوية إنما هي لتحقيق المجتمع المدني المنظم السليم وتوفير ما يضمن حفظه وأمنه واستقراره الديني والثقافي والأخلاقي والسلوكي، وضمان نموه بتنفيذ تلك الشرائع السماوية، بينما في المقابل تزعم العلمانية رؤية نقيضة إنسانية تمنح الشرعية للحق الطبيعي لا الحق الإلهي. فهل سمعت أي اعتراض على تسمية الدولة الإسلامية الأولى (دولة المدينة) وصرخ “لا بل نريدها دولة الدين؟ لأن المدينة من المدنية وهي مصطلح كافر”؛ لن تجد أبداً مثل ذلك لأن المدينة والمدنية ليست بالأساس ضد الدين، وإنما عمل الدين في المدينة هو تنظيمها وفق أحكامه وشرائعه! كمثل ما تدعي العلمانية فعله في المجتمع.

كما ارتبطت العالمانية بالعلم لا لأنها مشتقة منه كما يحسب البعض، فالعالمانية من الدنيوية والدهرية والعالَم لا من العِلم، لكن الحكم بها واكب نهضة علمية في مقابل قمع الكنيسة للعلماء المخالفين لتعاليمها في نتائجهم وملاحظاتهم العلمية التجريبية، حتى تم الانقلاب على الكنيسة التي وصلت لحالة من الاستبداد والتخلف والحرص على نشر الجهل لم يعد أحد يستطيع تحملها. فظن البعض لدينا ونتيجة ترجمتها المغلوطة ب (العِلمانية) بكسر العين أنها حركة علمية في مقابل تعسف الدين ورفضه للعلم، وليس صحيحاً ف Secularism تعني دنيوية أي المرجعية هي العالم أو الدنيا ومادتها وقوانينها، فالصحيح أنها (عالمانية) لا عِلمانية والأصح أنها وكما سماها علماؤنا من السلف الصالح (دهرية) لكونها في نسختها الأصلية أو كما يعرفها البعض بوصفها عالمانية شاملة في مقابل عالمانية جزئية؛ هي نفس عقيدة من قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].

ومن المهم وضوحه في هذا الصراع الدائر الأبدي منذ هبط آدم وزوجه وانتشرت ذريتهما في الأرض؛ أن العالمانية ليست دينًا أوروبيًّا جديدًا، وإنما هي نفسها دين “الدهرية” التي هي ملة معروفة منذ شهد التاريخ عملية تدوينه، ولها في كل مرحلة اسم اشتهرت به، وهي ليست مرادفة للمدنية، فالمدنية غاية أي مجتمع يترقى من البداوة للحضر ثم المدنية، فهي مرحلة اجتماعية يكون فيها المجتمع في ذروة نموه وتطوره وازدهاره. وإنما ارتبطت بالعالمانية وظهرت كنقيض للدين، لأن الحكم السائد قبل ظهور المدنية الغربية كان لرجال دين الكنيسة في أوروبا، والتحول للحالة المدنية والعقد الاجتماعي صاحب الثورات العالمانية الإنجليزية والفرنسية والأمريكية والبلشفية وغيرها.

الدين بين الضرورة والوراثة (1)

 في عصر طغت عليه النظرة المادية للكون وإنكار الخالق الحكيم العليم من قِبل كثير من الخَلق، وفي عصر أثّر هذا المعتقد تأثيرا سلبيا كبيرا في جوانب الحياة المختلفة، تكمن أهمية نداءات العلماء من مختلف أرجاء المعمورة – على اختلاف مشاربهم وطُرقهم- على ضرورة استرجاع الدين إلى الحياة ومنحه الفرصة كي يعمل عمله بجدية وتفانٍ.

إنّ إخراج الإنسانية من مأزقها المعاصر يكمن في الانتقال بالبشرية من التصور المادي للعالم إلى التصور الديني للعالم، وهو سيقود حتما إلى بروز مجتمع تُحترم فيه الروح الإنسانية، وتلتقي فيه القوتان الأقوى في التاريخ: الدين والعلم؛ ليُرسِيا أصول التعاون والعلاقة المتبادلة بينهما[1] فالدين هو المصدر الحيوي الزاخر للحكمة الإنسانية والبوصلة الأخلاقية التي يجب أن تقود مسيرة حياتنا[2] وهذا هو دور الدين بأسمى درجاته في حياة البشرية.

فطرة الله التي فطَر الناس عليها
الاعتقاد هو الإيمان بجملة من المفاهيم والأفكار على أنّها الحق، وخاصة منها تلك التي تُفسّر الوجود والكون والحياة ويتشعّب منها كل ما يتعلّق بشؤون الإنسان الفردية والجماعية[3]،  والدليل على فطريّة الاعتقاد البشري هو دوام هذا الشعور وشموليته لجميع الأفراد، في جميع الأزمان وهذا ما يدلّ على أنّه أمر فطري غريزي.[4] 

فالإنسان مخلوق متديّن، وتديّنه نزعة فطرية لا يمكن تصوّر خلوّ إنسان منها مهما كان نوع ذلك التديّن وصورته، كما أن الاستقراء يُؤكّد أنّه وُجِدت في التاريخ مُدن ليس فيها مصانع ولا معامل ولا مدارس ولا نوادٍ؛ إلا أنه لم توجد في تاريخ الإنسان الطويل مدينة بلا معابد.

يقول كثير من المفكّرين وفلاسفة المادة: بالرغم من انشغالنا طيلة النهار بضجيج الآلات وزيادة الإنتاج وتحسينه إلاّ أنّنا عندما نأوي إلى مضاجعنا؛ تُؤرقنا مجموعة أسئلة لا نجد لها جوابا شافيا: كيف بدأ الخلق؟ كيف سينتهي؟ هل يمثّل الموت النهاية الأبدية؟ ما الذي يجعل الحياة تستحق أن نعيشها؟[5] وغيرها من الأسئلة التي تتكرر يوميًّا في أذهان الناس لأنّها تُشكّل الجوهر الحاسم والحقيقي لإنسانيتنا.[6]

يُضيف د. جيفري لانغ قائلا: “يبدو أنّ الطبيعة الإنسانية تشتمل على روحانية وأنّ هذه الروحانية لا يمكن تجاهلها فيما يبدو لنا أنّها حاجة غريزية تدفعنا كي يرى كل منّا حياته على أنّها ذات معنى.”[7]

جيفري لانغ

حاجة الإنسان إلى الاعتقاد والتعبّد
قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) إن الدين هنا لم يعُد مجرّد تشريع وقرار من أعلى، وإنّما فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله؛ وبذلك فكما أنّه لا يمكن نزع الإنسان من إنسانيّته، فكذلك لا يمكن نزع من الإنسان دينه، فالدين ليس مقولة حضارية مكتسبة يمكن إعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها، لأنّه في حالة من هذا القبيل لا تكون فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تكون خلق الله الذي لا تبديل له.

إن كلمة “لا” في الآية الكريمة ليست ناهية بل نافية؛ وهذا يعني أنّ الدين لا يمكن أن ينفكّ عن خلق الله مادام الإنسان إنسانًا فالدين سنّة لا بدّ وأن يسير عليها الإنسان، وقد يكون هناك تحدّ لهذه السنة بالإلحاد أو الشرك كتحدّي قوم لوط-عليه السلام- للفطرة البشرية بالشذوذ إلا أن هذا الوضع لا يدوم أبدًا إذ لا ينفكّ عن الانهيار وأن يكون مآله العقاب الشديد[8].

أيًّا يكن رأي العلماء والباحثين في تعريف الدين ووصف جوهره فإن النقص والحالة البشرية في عبادات الديانات الوثنيّة أمر مفروغ منه، ولا يُستَدلُ بذلك على نفي أو إثبات ما يتعلّق بالدين القويم، وإنّما يصح أن تنتزع تلك الحالات لتوصف بالغرابة لانعقاد الإجماع على عدم خلوٍّ إنسان من الاعتقاد أيّا كان موضوع اعتقاده، أي أن الإنسان في حاله الأولى مستعدٌّ للعقيدة أوّلا ثم تكون العقيدة في حقه على اختلاف نصيبه من الرشد والضلال، ففي الطبع الإنساني جوع إلى الاعتقاد كجوع المعدة إلى الطعام، ونخال أنّنا لا نخرج بالمشابهة إلى الشطط إذا قلنا: إنّ إنكار الحاسة الدينية لمجرّد رداءة العقيدة الدينية الأولى أو سُخف موضوعها كإنكار المعدة في الجوف لرداءة المأكول وسخافة الغداء، إذ إن المرجع إلى بنية الروح وبنية الجسد في الحالتين وكلتاهما حق لا يقبل المِراء. فحق لا يقبل المِراء أن يقال إن الحاسة الدينية بعيدة الغور في طبيعة الإنسان وأنه لا يمكن له أن يستقر وسط عالم المادة بغير إيمان.[9]

التوحيد: الطريق الصحيح
إنّ أحد الأبعاد العاطفية لحاجة الإنسان إلى الله هو حاجته للشعور بوجود قدرة مطلقة وملاذ آمن ومعنى مُقدّس حاكم على الوجود بأسره، وهذه الحاجة لا تشبعها مختلف الملل المنحرفة، سواء كانت وثنيّة معدّدة بلا حدود أم ثنوية أم مثلّثة؛ بل إنّ هذه المذاهب تُنغّص هذه الحاجة على الإنسان وتُصيّر الوجود ميدانا لتضارب هذه القوى المُتصارعة، ومن ثمّ كان التوحيد الشكلَ الوحيد من أشكال الإيمان والعبادة القادرة على أن تمنح العبد يقينًا وطمأنينة وأملا والتزاما، وإعطاء الوجود هدفًا جليلًا ومعنىً ساميًا؛ ولهذا فإن الموحّد، بالمعنى الواقعي للكلمة،  لا يمكن أن يكون صاحب شخصية قلقة متزلزلة[10].

نص التوحيد

خصائص دين التوحيد
يتميّز دين التوحيد بالطابع النقدي وذلك مقابل الطابع التبريري الذي يُشكّل السمة الأكثر بروزا من بين السمات الأخرى لملل الشرك بمفهومها الأوسع، وبطبيعة الحال فإن الاعتقاد النقديّ يُغذي أتباعه ومعتنقيه برؤية فاحصة حيال ما يُحيط بهم من البيئة المادية أو المعنوية ويُكسبهم شعورا بالمسؤولية تجاه الوضع القائم، مما يجعلهم يُفكّرون بتغييره ويسعون لذلك فيما لم يكن مناسبا مع مبادئهم.

يتفادى الدين التوحيدي تسويغ الوضع القائم دينيًّا ولا يُؤمن بمبدأ الرضوخ للأمر الواقع أو اتخاذ موقف اللامبالاة حيال الواقع المتردي الذي تنغمس فيه البشرية أو ما يُحيط به من مآسٍ معنوية.

ويمكن لنا هنا أن نلاحظ حركة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث سيتضح لنا أنّ رسالات الأنبياء التوحيدية خاصة في مراحل البعث والظهور الأولى –في حالة نقائها عن الشوائب والتحريف- تتسم بطابع رافض للوضع القائم ونزعة  ثورة وتمرّد على كل جور وفساد، وهذا التمرد والطغيان يأتي مُصاحبا للعبودية والخضوع لمُوجِد الكون، إضافة للانقياد لقوانين الوجود التي تتجلّى فيها الإرادة والقدرة الإلهيتان[11].

والمقصود من إقرار العدالة والميزان والقسط في الدين التوحيدي هو تغيير الوضع الموجود لا مُداهنته، ومن ثمَّ فإن دين التوحيد الذي يرتكز على وعي الإنسان وبصيرته وعشقه وحاجته الفلسفية الفطرية يقف في وجه الشرك وملله المنبثقة من جهل الناس وخوفهم[12].

مقامُ العقل في الإسلام
جاء الإسلام بتشريعات تُحرّر فكر الإنسان من المكبّلات التي من شأنها أن تعوق حركته عن التعامل الموضوعي مع موضوع البحث فتُوجهه إلى نتائج مرسومة مُسبقا لتكون له مُعتَقَدا، وذلك يُفضي إلى الضلال في المعتقد مع ما يُفضي إليه من آثار سلبية في سيرورة مُجمل الحياة. من أمثلة ذلك:

– النهي عن الخضوع للعادات والتقاليد المنحدرة من الآباء والأجداد لمُجرّد كونها إرثا أبويا؛ قال الله تعالى:” وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ”(البقرة:170)

– النهي عن الخضوع للهوى بشُعبه المختلفة: شهوات النفس، متابعة عواطف الحب والكره، التعصّب الأعمى لفكرة أو لنحلة أو لعرق:” فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ” (النساء: 135)

إذا فالكيفية المُشرّعة في تحصيل الاعتقاد هي النظر الاستدلالي الصادر عن فكر حرّ من كلّ القيود والمكبّلات الظاهرة والخفيّة، وذلك ما يحمله التوجيه القرآني المستمرّ في دعوته إلى الإيمان بالعقيدة على التأمّل والتدبّر والتفكّر في دواخل الأنفس وفي آفاق الكون للوقوف فيها على الأدلّة والشواهد المثبتة لتلك العقيدة. وقد ظلّ المعتبَر في الشرع هو الإيمان الحاصل بالنظر الاستدلالي الحرّ[13]، فالقرآن الكريم وضع قواعد وقوانين ينتهجها العقل البشري إن أراد الوصول إلى نتائج أكثر موضوعية، من هذه القواعد نذكر:

– التّأكّد الدقيق والتثبّت من الأخبار والمعلومات التي تُعرَض على العقل.

– بناء القناعات على حقائق قوية متينة وأدلّة راسخة.

– الالتزام بالحق، فالتصديق والالتزام والتطبيق ما هي إلا مراحل تأتي بعد جهد جهيد على مستوى العقل وتثبّت طويل وعدم تسرّع في إصدار الأحكام، وبهذا العمل يأتي الفهم الصحيح لكل مكونات الحياة ودقائقها، وأكثر ما يهمنا في هذا الصدد هو فهم الدين وخاصة دين الإسلام.

الفهم الصحيح للإسلام وواقع المسلمين
يُعدّ الفهم الصحيح للإسلام علاجا من الغربة عن الذات والتشبّه والتقليد، والفراغ الروحي والفكري، والعبودية التامة النابعة من داخل من ابتُلي بها، فهي عبودية مَن سُلبت منه أُسس ثقافته وفِكره وانقلب بذلك إلى مستهلك لما يُفرض عليه من قوى مسلطة عليه، فغدا مُجرّد  آنية خالية تبتلع كل ما يضعه فيها العدوّ[14].

لقد قامت تيارات كبيرة من المستشرقين والناهضين بالفتن الفكرية لتحويل نظرتنا إلى القرآن من كونه كتاب قراءة وفكر وفهم وتنوير وحصول على طريق ونهوض وعمل، إلى مجرد شيء مُقدّس ومجال للتبرّك، فانتقل من عمله الواقعي في “هداية” أتباعه و”بيان الحلول” و”مسؤولية الخيار الإنساني” لينحصر في “الاستخارة” وتأدية التعظيم والتكريم والتبجيل والتقبيل كواجب شكليٍّ من قبل المسلمين المؤمنين به..

ومنذ أن عجز المسلمون عن الاتصال بالقرآن اتصالاً مباشرًا وتحلّقوا حول مراسمه دون معانيه، وتركوا الروح التي جاء بها وتمحوروا حول الأشكال الجامدة والانحرافات الفكرية في تاريخهم، مما جعلهم يسقطون في الخرافة والضعف الاجتماعي والتعصّب والانحطاط العلمي والاقتصادي والسياسي[15].

بعد هذا الاستعراض لضرورة الدين بالنسبة للبشر بصفة عامة وأنّ التوحيد من بين جميع الطرق هو الطريق الوحيد الصحيح، ثمّ أبرزنا أهمية العقل في الميزان الإسلامي في التعامل مع مختلف مصادر المعلومات ثم انتقلنا إلى الحديث عن ما أصاب المسلمين جرّاء إقصائهم العقل عن ساحة الفعل –باقتضاب شديد – وبالتالي نتج عن ذلك غربة عن روح وتعاليم القرآن؛  نرى من الضروري التعريج على تأثيرات الوراثة السلبية للأجيال حول إيمانهم بالدين والتي أدّت إلى أفول نجمه في كثير من الأحيان[16]، حيث إنها نقطة في غاية الأهمية ولها علاقة وثيقة بالعنصر الأخير الذي ذكرناه، في تشويه مسار الدعوة إلى دين الإسلام بصفة خاصة، وهو ما سيكون المحور الأساسي في الجزء الثاني لهذا المقال. 


الهوامش:

[1]  “لماذا الدين ضرورة حتمية؟:لقد فقد العالم بُعده الإنساني وبدأنا نفقد السيطرة عليه“! http://www.arrabita.ma/contenu.aspx?C=186&S=7

[2]  لماذا الدين ضرورة حتمية، مرجع سابق.

[3]  د. عبد المجيد النجار، “حرية التفكير والاعتقاد في المجتمع المسلم: الأبعاد والحدود” : http://www.biblioislam.net/Elibrary/Arabic/library/card.asp?tblid=2&id=6791

[4]  د. علي شريعتي، “دين ضد الدين”، تر: حيدر مجيد، دار الأمير، ط1، 2003 ص 35.

[5]  د. عبد المجيد النجار، “في فقه التدين فهما وتنزيلا” ج1 ، ط1 ، ينظر: تقديم د.محمد عبيد حسنة للكتاب ص9.  د. علي شريعتي: مرجع سابق.

[6]  د. هوستن سميث: مرجع سابق.

[7]  د. جيفري لانغ، “حتى الملائكة تسأل”، تر: منذر العبسي، دار الفكر، سوريا ط2/ 2006.ص23.

[8]  محمد باقر الصدر: “السنن التاريخية في القرآن”، دار التعارف للمطبوعات. 1989، ص90، 91.

[9]  عباس محمود العقاد، “الله” دار المعارف، مصر ط3 /1960 ص14.

[10]  د. علي شريعتي، “معرفة الإسلام”، تر: حيدر مجيد، دار الأمير، بيروت، ط1/ 2004 ص160.

[11]  د. علي شريعتي، دين ضد الدين، ص40.

[12]  المرجع سابق، ص53.

[13] د. عبد المجيد النجار: “حرية التفكير والاعتقاد في المجتمع المسلم”.

[14]  د. علي شريعتي: “أبي.. أمي، نحن متهمون” تر: د. ابراهيم دسوقي شتا، دار الأمير، ط1/2003 ص28، من المقدمة.

[15]  المرجع سابق: ص126 ، 127.

[16]  نخص بالتركيز في هذا المقام تلك الوراثة الشكلية التقليدية للدين والمفرغة من المحتوى الحقيقي دون غيرها.

كورونا والصحة النفسية.. الوباء يبرز آثار غياب الدين عن المجتمعات

في صبيحة يوم  الأحد السادس والعشرين من شهر أبريل الفائت استفاقت عائلة الطبيبة لورنا برين، رئيسة قسم الطوارئ في مشفى بنيويورك، على فاجعة انتحار ابنتهم الطبيبة المرموقة عن 49 عاماً.

لورنا كانت تعالج المرضى في أكثر الولايات الأمريكية تأثراً بوباء كورونا، حيث وصل عدد الحالات فيها إلى أكثر من 300 ألف حالة في 4 مايو 2020، حسب قناة CNN – وكما يقول والد الطبيبة فإن عملها أودى بحياتها [1].

لورنا ليست الضحية الوحيدة للضغط النفسي المترافق مع وباء كورونا رغم أن حالتها قد تكون الأكثر وضوحاً حتى الآن، فبحسب دراسة حديثة  في مدينة ووهان الصينية فإن واحدا من كل خمسة طلاب بالمدارس يظهر أعراضاُ اكتئابية بسبب إجراءات الحجر الصحي [2].

كما أظهرت دراسة منفصلة في ووهان الصينية أن حوالي نصف العمال في القطاع الصحي يعانون من القلق أو الاكتئاب جراء المرض [3].

إضافة إلى ذلك أعرب مسؤولون في مركز التحكم بالأوبئة في الولايات المتحدة الأمريكية (CDC) عن قلقهم بشأن تزايد حالات الاكتئاب والانتحار جراء العزلة الاجتماعية والقلق والخوف من العدوى [4]، كما توقع أطباء نفسيون في رابطة الأطباء الأمريكيين(AMA)  تزايداً حاداً في حالات القلق، الاكتئاب، إدمان المخدرات، الوحدة، العنف المنزلي وإساءة معاملة الأطفال تزامناً مع الوباء [5].

أما في بريطانيا فقد أصدرت هيئة الصحة العقلية إرشادات عامة للمواطنين للتعامل مع الضغط النفسي والاقتصادي في ظل الوباء ترقباُ للأسوأ [6].

 كل ذلك يجري تزامناً مع وباء عضوي لا يؤثر على العمليات الدماغية، لكن العوامل الكثيرة التي سببها الوباء تتدخل في صياغة أسباب هذا الضغط النفسي ومنها كالخوف من المرض، العزلة الاجتماعية، تدني الوضع الاقتصادي، القلق من المستقبل، إغلاق المرافق الترفيهية كالمولات والمقاهي، إغلاق عيادات الطب النفسي، وغيرها.

وليقيني أن ما منّ الله به علينا من دين هو الشريعة الكاملة التي لم تُغفل من جوانب النفس شيئاً، بدأت بتوصيل النقاط بين مشاهداتي في الغرب، الدراسات العلمية و تعامل الإسلام مع كل ذلك لتضح الصورة الكاملة ويكون لنا فيها عبرة.

القلق من المستقبل ومشاعر عدم الاستقرار والخوف تحديداُ هي أمور لاحظتها بوضوح بين كثير من زميلاتي ومعلميّ في الجامعة. فالوباء الحاليّ أمرٌ مفاجئٌ وغير متوقع لمعظم الأمريكيين الذين اعتادوا الشعور بالسيطرة على حياتهم وأهدافهم وتربَّوا على أنهم يملكون تحقيق غاياتهم إن عملوا بجد ونظموا أوقاتهم بالدقة الكافية.

هذه المفاهيم السائدة في المجتمعات الغربية، رغم أنها تولد انتاجيَّة مادية سريعة، إلا أنها تخلِّف هشاشة نفسية وانكساراً أمام الأزمات التي قد تقلب الموازين وتشعر الإنسان بضعفه. فهؤلاء صُدموا بمحدوديتهم وقلة حيلتهم أمام فيروس لم تتمكن شبكات الأنباء من التنبؤ بخطورته. فجأةً تأخَّر الاقتصاد ونفذ مخزون المحال التجارية من المعقمات والكمامات وغيرها وخسر الكثيرون وظائفهم وأُجبروا على نمط حياة جديد لم يكن في الحسبان. كلُّ هذا أدّى بالناس إلى شعورٍ عارمٍ بالصدمة.

فاجأتني في بداية الأمر ردة فعل زميلاتي غير المسلمات تجاه الوباء، تحديداً ما كنّ يصفنه بعدم التأكد (uncertainty) من المستقبل وما قد يجلبه وكونهنّ على حافة الانهيار إن فُتِح الموضوع أمامهنّ. كنت أقارن ذلك بعقلية الإيمان المطمئنة التي منّ الله بها علينا والتي تُشعر الإنسان أنّه أضعف من أن يملك غده، وكان لسان حالي يقول: ومتى كنّا متأكدين من المستقبل أصلاً؟ شعرت حينها بقيمة المرونة التي يوطنها الإيمان في النفس.

العقيدة الإسلامية تربّي في المؤمن الاعتماد على خالقه تبارك وتعالى وتؤصل فيه حقيقة كونه عبداً لله ينبغي أن يتوكل عليه ويسلم له أمره، فمنه وحده المدد والقوة. تتجلى هذه المعاني بوضوحٍ جليّ في أذكار المسلم اليوميّة التي علّمنا نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم. فإذا أصبح المسلم أو أمسى يقول “حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم”. فيذكر نفسه بأن اعتماده على الله الذي يملك قدره وحده وهو يكفيه في كل أمر من أمور الدنيا والآخرة [7]. وإذا خرج من منزله قال “بسم الله توكلت على الله ولاحول ولا قوّة إلا بالله” مفوضاً أمره لمولاه سبحانه [7] معترفاً بحقيقة عبوديته له فهو المتحكم في كل الخلق مالك الملك. ولنتأمّل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما أخذ بمنكبيّ ابن عمر رضي الله عنهما وقال له: “كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل”، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: “إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك.” (رواه البخاري)

فالحال الطبيعي أننا لا نملك ضمانات عن المستقبل ونعلم أنّنا لله وإليه راجعون في أي وقت يختاره سبحانه. وقد روي عن الصحابية أمّ سليم رضي الله عنها لما قبض ولدها وأرادت أن تنبئ زوجها بذلك قولها له: أرأيت لو أن قومًا أعارُوا عاريتَهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، أَلَهُم أنْ يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسِب ابنك. (رواه البخاري)

وهذا لا يعني أن التدين الحقّ والتوكل يدعوان لترك الأخذ بالأسباب أوأنهما يبعثان روح الانهزام في الإنسان، بل على العكس، فالنبي صلّى الله عليه وسلم خرج من مكّة إلى المدينة عند الهجرة مستتراً بالليل متخفياً مع صاحبه رضي الله عنه متوجهين جنوباً نحو غار ثور مع أن وجهتمهما كانت يثرب في الشمال. هذا وهو النبي الكريم الذي عصمه الله من الناس، ليعلّمنا أن المسلم يخطط ويأخذ بالأسباب ومن ثم يتوكل على الله الذي يدبر الأمر كيف يشاء.

وقد قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: لو عرف الناس ماهية التوكل لعلموا أنه ليس بينه وبين الأسباب تضاد. ذلك أن التوكل اعتماد القلب على الوكيل وحده، وذلك لا يناقض حركة البدن في التعلق بالأسباب ولا ادخار المال. فقد قال تعالى: “ولا تؤتوا السّفهاء أموالكمُ الَّتي جعل الله لكم قياماً” أي قواماً لأبدانكم. والذي أمر بالتوكل أمر بأخذ الحذر فقال: “خذوا حِذركم” وقال: “وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة”. فالتوكل لا ينتفي الاحتراز [8]. والحقيقة أنني لم أكن أستشعر نعمة التوكل إلى أن رأيت من يفقدها وشعرت بمقدار الضياع الذي يصيبه إن اختلت القوانين التي ألِفها في الكون. فلله الحمد والمنّة سبحانه.

 من الجدير بالذكر هنا أن كون هذه المعاني جزءاً مهماً من عقيدة الإسلام لا يستوجب ضرورةً أن يستحضرها جميع المنتسبين للدين الإسلاميّ في حال البلاء، فالبُعد عن القرآن وهدي النبيّ عليه الصلاة والسلام ينسي المرء حقيقة وجوده، وفقره وضعفه. وهذا شائعٌ خصوصاً بين من يقيمون في الغرب -كما أشار د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي في أحد دروسه- إذ من السهل عليهم نسبة النتائج للأسباب الدنيوية وحدها وقد يغفلون عن قيمة الاعتماد على الله سبحانه وتفويض الأمر إليه، فمثلا إن قالت شركة أمازون إن الطرد سيصل في اليوم الفلاني، فهو حتماَ سيصل! ويغيب عن الذهن بسهولة استحضار معية الله؛ خصوصاً مع نمط الحياة السريع الصاخب. لذلك كان الذكر والتواصي بالحق والصبرمن الضرورات الأساسية في حياة المسلم.

الأمر الآخر الذي وجدته سبباً للأزمات النفسية في ظل الوباء هو بروز الأسئلة الوجودية لم تعد المُلهيات كافية لإسكاتها، ومن أهم هذه الاسئلة مشكلة وجود الشر وتحديداً الأوبئة في العالم.

الإنسان في الغرب قبل أزمة كورونا توهّم أنّ الشر لن يصل إليه لأنه في موضع قوّة وعلم بالنسبة لغيره، فهو في بلاد متقدمة عسكرياً، غنيّةٍ ماديّاً وتملك كافة أشكال الترفيه والمتعة، ومن هنا كان بروز وباءٍ لا يقدر الناس على احتوائه سبباً في شعورهم بالتهديد، وبالتالي اضطرت النفوس مواجهة مشكلة الشر. بدأت التساؤلات حول أصل الشر وسببه وغير ذلك، وبينما قابلت نسبة كبيرة من الناس هذا الاشكال بالهروب إلى وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الأفلام أو الألعاب الالكترونية، وجد آخرون أنفسهم مجبرين على مواجهة الواقع، فكان التعب النفسي. فالجهل يولد الخوف وهذا يتزايد مع الوقت إن لم يجد الإنسان مايشبع به تساؤلاته.

وجدت هذا بشكل واضح في مقالات تتحدث عن العاملين في القطاع الصحي وكيف صدمتهم قسوة الوباء والموت وشعروا بقلة حيلتهم غير الاعتيادية أمام ذلك مما أدى بهم إلى الشعور بالعجز والإحباط الشديدين [1].

لا أنكر هنا صعوبة التعامل مع وباء عالمي مثل فيروس كورونا المستجد ولا أقلل من قيمة ما يفعله من يعمل في القطاع الصحي، بل نحتسبهم في سبيل الله إن كانوا من أهل الإيمان، ولكن كل ذلك ينبغي أن يُعتبر في ضوء قوله تبارك وتعالى {ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصّابرين}، فالله أخبرنا أنه لابد أن يبتلي عباده بالمحن ليتبين الصادق من الكاذب والصابر من الجازع وهذه سنته تعالى في عباده لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان ولم يحصل معها محنة لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر [9].

فالمؤمن لا يتفاجأ بالمحن لأن الله أخبره أنها قادمةٌ لا محالة وأنها لخيرٍ حتى وإن كان ظاهرها شراً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو الذي لا ينطق عن الهوى: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كلّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له” (رواه مسلم).

فسبحان من منحنا أكبر نعمة وتفضل علينا بما لا يسعنا شكره إذ قذف في قلوبنا الإيمان، وله الحمد أن أرانا واقع من يعيش بلا هدي القرآن إذا امتحن أو أصيب كيف يكون. فكلّ زخرف الحضارة الغربية لا يساوي شيئاً مقابل لحظة طمأنينة في النفس لقضاء الله تبارك وتعالى وقدره. نسأله أن يهدينا ويهدي بنا، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.


المصادر

1- https://www.washingtonpost.com/nation/2020/04/28/nyc-doctor-lorna-breen-coronavirus/

NYC emergency doctor dies by suicide, underscoring a secondary danger of the pandemic, Washington Post

2- https://jamanetwork.com/journals/jamapediatrics/fullarticle/2765196

Mental Health Status Among Children in Home Confinement During the Coronavirus Disease 2019 Outbreak in Hubei Province, China, Journal of The American Medical Association

3- https://jamanetwork.com/journals/jamanetworkopen/fullarticle/2763229

Factors Associated With Mental Health Outcomes Among Health Care Workers Exposed to Coronavirus Disease 2019, Journal of The American Medical Association

4- https://www.cdc.gov/coronavirus/2019-ncov/daily-life-coping/managing-stress-anxiety.html Coronavirus Disease 2019 (COVID-19), Stress and Coping, CDC

5- https://jamanetwork.com/journals/jamainternalmedicine/fullarticle/2764404

The Mental Health Consequences of COVID-19 and Physical Distancing. The Need for Prevention and Early Intervention, Journal of The American Medical Association

6- https://mentalhealth-uk.org/help-and-information/covid-19-and-your-mental-health/

Managing your mental health during the coronavirus outbreak, Mental Health UK

7- شرح حصن المسلم .سعيد بن علي بن وهف القحطاني.

8- تلبيس إبليس. الإمام ابن الجوزي

9- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي