المصعَد معطِّل استخدم السلّم
اعتدنا عند الحديث عن حلّ الأزمات أو معالجة الصدمات والمطبّات، ذكرَ سبيلَينِ، أحدهما: الصواب والآخر الخطأ.
على سبيل المثال: عند تعرضك لضائقةٍ ماليّة فإنك تمتلك خِيار “اليمين”، وهو تحصيل المال بالحلال، أما الآخر أي “اليسار” فهو الاحتيال والسرقة، فكأنّنا عند نقطة الأزمة نرسم طريقين ولنا حرية سلوك الذي نريده منهما تبعاً لما نملك من مبادئ أو قيم.
هذا الشكل والمشهد هو المنطق والصواب دونما شكّ، لكنّنا في هذا المقال سنخوض في بُعدٍ أوسعَ في السبيل الصائب، حيث سنكتشف أنَّ بعد مفترق الطرق واختيارِ صحيحها هناكَ سُلّمٌ، سيطرحُ علينا سؤالاً مهماً؛ وهو هل نصعده بتدرّجاته، أم أنّ مصعداً إلى الحلِّ الأخير مباشرةً هو الأجدى؟
مفهوم الخطة العلاجية
علم المداواة أو ما يسمى بـ (Therapeutics) هو علم مختلف عن علم الدواء، يتناول ما يسمى بالخطة العلاجية (guideline) لكل مرضٍ؛ حيث تترتّب في هذه الخطة كل الأدوية التي تذكر في علم الدواء (pharmacology) وفق خطة وهيكليّةٍ محددة قد يأخذ تشكيلها عشرات السنوات من الدراسات المخبرية والسريريّة، ليكون النتاجُ ترتيبَ هذه الأدوية والسلوكات العلاجية بدقّة، حيث يتم تفصيل بأيّها نبدأ وما الخيار الثاني وهكذا. وتبعاً لذلك يظهر مفهومٌ بديهيّ في هذا العلم يسمّى خط العلاج الأول (First line treatment) [1] والذي قد يكون ملهماً حتى على الصعيد الإنسانيّ إن أطلنا فيه النظر.
هذا المفهوم يُحتّم على الطبيب أو الصيدلاني اختيار دواءٍ أو علاجٍ محدّدٍ ما قبل أيّ خياراتٍ أخرى لأسباب كثيرة، منها أن هذا العلاج هو الأقلُّ من حيث آثاره الجانبية أَو مضاعفاته مثلاً، أو أنه الأجدى ماديّاً مقارنةً مع حجم المشكلة الصحية، قد يكون السبب أيضاً كون هذا العلاج هو الخيار الذي لاقت عليه أغلب الحالات المدروسة استجاباتٍ جيّدة دونَ غيره، ولذا فإن البداية به قد توفّر عناء تجريب علاجات أخرى مع هامش فرصة نجاحٍ كبيرة.. والأسبابُ كثيرة ومتنوعة.
الخطة العلاجية للحياة الإنسانية
حياة الفرد منّا داخلَ جسده لا تختلف كثيراً عنها في الخارج، فمن عظيمِ خلق الله أن جعل من هيكلية وتشريح أجسادنا عالماً فرضَ على دارسيه قروناً من الزمن للتعامل معه ووضع القوانين لفهم حاجاته ومعالجة أسقامه.
إنّه لمنَ الجميل أن يتفكّر الإنسانُ منّا، بأن كثيراً من القوانين في علمٍ ما قد تكون ملهمةً في مجال آخر وسياقٍ مختلفٍ، ولو أنّنا نتعامل مع المشكلات الحياتيّة بطريقة علم المداواة المذكورة لبضع دقائق من التفكير لوجدنا أنها منطقية جداً، بل إنّنا نمارسها في أوقاتٍ كثيرة ولكن ليس ضمن المسميّات ذاتها.
هناك الكثير من الخيارات حتى في سبيل الحلال، فوحدة وجهته واستقامة مراده لا تفرض غياب التدرّجات في السبيل لهذا المراد! بعض الحلول الحلال مرهقةٌ للنفس مستنزفة لها، وقد نكون قادرين على بلوغ نتيجتها نفسها بوسيلةٍ أيسر، والمؤمن كيّسٌ فطن، يدرك أن هذا الدينَ أكثر ما يحثُّ على الاستثمار في الإنسان دون التواءات مرهقة، وبأكثر الطرق وضوحاً.
وهذا المنظور ليس منظوراً شخصيّاً أو جديداً على هذا الدين، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه) [أخرجه البخاري في صحيحه]. وقد قيل في شرح ذلك أن هذا إنّما كان في المعاملات والحياة العاديّة لا العبادات، وهذا غاية المنطق، فإنما جعلت العبادات -ونخصُّ النوافل منها- زيادةً في القرب والاتّصال مع البارئ جلَّ وعلا، يزيد فيها العبد ما شاء ما دام في إطار الوارد والصحيح.
تحوي سورة النساء مثالين حيّين متتاليين لما نقول، يظهر فيهما أمرُ الله بالتدرج، أولهما إصلاح المرأة الناشز فيقول الله جلَّ في علاه {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ، وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ، ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]
يلي ذلك مثال الطلاق، حيث إن أول ما يتبادر للذهن عند ذكره قوله ﷺ: {أبغض الحلال إلى الله الطلاق} [أخرجه أبو داود وابن ماجه في السنن، وضعّفه جماعة من المحدّثين كالألباني]، أي أنّه حلالٌ إلا أنه ليس الخيار الأوّل ولا الثاني ولا سواه ما دام قبله مساحة ومجالٌ متسعٌ للحلول التي قد تدفعه أو لا تضطر الشخص للوصول إليه، وما دام هناك ظروفٌ مختلفة للحالة فإنه قد يتغيّر من حكمه أو الضرورة إليه. {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35]
التدرُّج دون قفزات أو مصاعد
إنّنا إذ نتحدث عن التدرّجِ في الحلول لكل أزمةٍ أو ضيقةٍ أو حتى قضيّةٍ حياتية، فإنّنا لا نقصد اختيار الأيسر منها والأكثر وضوحاً فقط باختيار الدرجات الأولى. وإنما هناكَ مقصدٌ وغايةٌ أكبرُ وأعظم وهيَ التدرُّج في الأسباب والوسائل والأهداف لبلوغ أقصاها على أسسٍ ثابتةٍ ومعطياتٍ صحيحة، تجعل بلوغ الغاية أو الحلّ بلوغاً حقيقيّاً سليماً.
ولعلَّ المثالَ خيرُ ما يشرحُ الفكرة ويوضحها، ولا مثالَ أهدى من كلام ربٍّ هو الأعلم بحيثيّات النفوس وما هو خيرٌ لها؛ إذ يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] ففي هذه الآية رسالةٌ لطيفةٌ ومنهجيّة بناء عظيمة لا تقتصر على أهمية الشورى فحسب، بل في هيئة التدرّج ذاتها، فالنبي ﷺ مؤيدٌ بالوحي، وهو أرجح الناس عقلاً، إلا أنّ هذا الترتيب سيجعل حتى إقبال المؤمنين على أمره ﷺ أكثرَ ثباتاً، وهنا يقول الإمام ابن كثير رحمه في تفسير ذلك: “يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييبًا لقلوبهم، ليكونوا فيما يفعلونه أنشط” فكأن الخطوة الأولى تأصيلٌ وتثبيتٌ لما يليها.
استخدِم السلّم
السبيل الصحيح واسعٌ متعدّدُ الوسائل، وكونه الغاية لا يوجب اتّباع أعقد الوسائل، ولا آخر الحلول مباشرةً، بل أكثرها عقلانيةً وبتدرّج وأنيّةٍ. فالسلالم لا تُعبَر في حلِّ المشكلات من أعلى درجاتها إلى أسفلها، بل من أقرب الدرجات إلى أعلاها على هونٍ ورويّة. وإنه لا يُقفَز إلى الحل الأخير مباشرةً ما دام قبله ما يهوّن الوصول إليه ويجعله وصولاً ثابتَ الخطو أصيلاً.
هيَ الحياةُ، فيها سبلٌ لا تحصى ولا تعدّ، وإنّ السبيل الواحد ليحوي من الطرق والتفاصيل ما يجعله مدينةً بل خريطةً معقّدة.
نسأل الله دوماً سدادَ سلوكنا إياها، وهدايتنا لعبورها بأوضح الطرق، وأحسن النتائج، بعيدين عن عمّا تَشابه أو فَتَن، مستعيذين بالله من الضبابيّات وتخبّط المسير.
[1] https://www.cancer.gov/publications/dictionaries/cancer-terms/def/first-line-therapy