ذُهان العصر
من الملاحَظ أن معيار نجاح أي عمل فني هو قدرته على إيصال رسالة أو فكرة معينة للمتلقي دون الحاجة إلى شرح أو تفصيل، كما يعتبر ناجحاً عندما تكون الرسالة مفهومة وواضحة لمختلف شرائح البشر في المجتمع، فنرى أن تذوق الفن المعقد أصبح شبه معدوم، وذلك بسبب تراجع وجود منظومة فكرية ثابتة لدى الإنسان الحداثي، فلا تحليل ولا محاولة لإدراك المعنى العميق للأعمال الفنية، حيث إن هدف الفن البصري الشعبي هو التركيز على ردات فعل الإنسان الطبيعية، حتى تكون النتائج شبه مؤكدة وفعالة.
قد يكون معيار النجاح (غير الرسمي) للتصميم -مما هو منتشر بين عوام الناس- هو إثارة الدهشة، أو الضحك، أو التأثير في الوعي والخلط بين الحقيقة والوهم، وهذا بحسب ما يذهب إليه الفيلسوف هيجل، الذي رأى أن الضحك ينشأ نتيجة لوجود التناقض بين المفهوم والمعنى الحقيقي الدفين الذي يقدمه هذا المفهوم.

الصورة على اليمين: عمل فني يتحدى مسلمات الإنسان الأولية. الصورة على اليسار: عمل فني يخلط بين ما هو مألوف وما هو خيالي.
وعادة ما تكون معايير نجاح الفن بعيدةً عن اعتبار المعايير الأخلاقية، فأصبحت إثارة الخوف والفزع بين المواطنين –مثلاً- عملًا مقبولًا وجائزًا لدى من يؤمن بنسبية الأخلاق، كما سنوضح بالأمثلة.
مع أن لهذه الثورة في الفن بعض النتائج الجيدة، حيث أصبح الفن يتكلم عن نفسه، فيصبح أقرب للفهم بغض النظر عن المستوى الثقافي للمتلقي. كما بات الفن مفيد جداً لطرح أسئلة وجودية لمن ضعف عندهم الوازع الديني، فتكون هذه الرسائل الفنية تنبيهًا للحقائق الوجودية التي لم يأخذوها بالحسبان مسبقًا في خضم الحياة المتسارعة، وهذا يوضح أهمية الفن وتأثيره في الإنسان.
إلّا أن اعتماد هذا النمط وحده من التعبير الفني قد يمحو الرقي في الفنّ تماماً بسبب تغيّر طرق استثارة المشاعر عند الإنسان الحديث، الناتج عن إهمال المسلمات الأولية للعقل، وذلك كما سنفصله في الأمثلة التالية:
هدم السياق لإيصال رسالة وجودية
نرى في الصورة الأولى مرآة موضوعة على عتبة درج في إحدى الطرقات، مما يوهم الماشي أنه سيسقط ويهوي في السماء، وبالرغم من أن هذا العمل الفني لا ضرر فيه من منظور مادي بحت، إلا أنه يعتبر جريمة أخلاقية يبث الخوف في الإنسان وإن كان لا تؤدي الى ضرر مادي مباشر على الماشي.

الصورة على اليمين: تم وضع لوح مرآة زجاجية على عتبة درج عام. الصورة على اليسار: لقطة لمشهد سريالي لإيصال رسالة وفكرة معينة.
الباطنية: الظاهر لا يدل على الباطن
لعله من الممكن تحريف المثل الشهير: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت، إلى “قل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت”.
في الصور الآتية كعكات تم تشكيلها بأشكال غير اعتيادية، هنا نتساءل: هل يؤثر ذلك في وعينا أم هو شيء ظريف يستحق الضحك والمزاح؟

تصميم كعكات الحلويات على أشكال غير اعتيادية
يقول الفيلسوف هنري برغسون في وصفه الضحك بأنه عادة ما يكون مصحوبا بانعدام الإحساس “Insensibilité” فالعدو الحقيقي للضحك هو العاطفة، لذا فلكي نضحك ينبغي أن نكون غير مبالين، ومن هنا يدعونا برغسون إذن إلى التجرد من عواطفنا والتسلح باللامبالاة كي تتحول الأحزان أمام أعيننا إلى أفراح.
ناصية كاذبة خاطئة
تعرّف الناصية بأنها مقدمة الرأس وتقول دراسات مختلفة إنها مكانٌ في المخ مسؤول عن اتخاذ القرارات والقيام بالخداع والكذب أيضًا، وهي كذلك كناية عن الرضوخ والخضوع، ومن ثم نستشهد بقول الإمام الرازي: “واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع قالوا: ما ناصية فلان إلا بيد فلان”.

مثال على كتيب تعليمات لإحدى الآلات
إن التفكير في القرارات التي يتخذها الإنسان يزداد مع ازدياد تعقيد المسألة واحتياجنا لتحليل القرار بعمق إضافة للحصول على معلومات خارجية لدعم صحة قرارنا، أما القرارات العابرة مثل فتح الباب والجلوس على الكرسي، فتحدث مباشرة معتمدة على الحدس دون الحاجة للتفكير غالبًا، فلا نرى كثيرًا من الناس يدرسون كفاءة استعمال الكرسي ويحسبون الطريقة المناسبة للحصول على الراحة القصوى، أو الزاوية المناسبة لرؤية الغرفة بأكثر صورة شاملة، أو يحسِب الموقع والمقعد الأكثر كفاءة لوصول الصوت بوضوح في الغرفة الدراسية، لأن دراسة مثل هذه الأمور ليست من الأولويات عندهم، فالإنسان الطبيعي يعتمد على الحدس في اتخاذ هذه القرارات العابرة.
كثرة رؤية التناقضات في المحيط المادي تؤدي إلى تخبط في ردات الفعل وفقدان الثقة بالظاهر، كما قد تدفع إلى تعطيل المسلّمات الأولية للإنسان ومبدأ اعتماد الإنسان على الحدس أيضًا. حينها سيصبح الإنسان بحاجة لورقة وكتيّب تعريفي فيه تعليمات معينة يوضح له الهدف من وجود المادة وطريقة استعمالها، حتى نقرؤه ونفهمه قبل استعمال كل أداة ومادة في حياتنا. لكن السؤال هو، من سيعطينا هذه التعليمات؟
إعادة برمجة للحدس
هل حاولت في مرة من المرات أن تفتح علبة ما أو تستعمل آلة ولم تعرف كيف؟ في بعض الأحيان نحن نتكاسل عن قراءة دفتر التعليمات ونحاول من خلال الحدس إدراك الكيفية التي تستعمل بها الآلة، وقد يضحك أحد ما فيقول: “لا، هذه ليست الطريقة لاستعمال هذه الآلة، دعني أُرِك كيف شرح المصمم طريقة تستعملها، فأنت لا تعرف”!
هنا نسأل: في حقيقة الأمر وواقعه، ناصيتنا بيد مَن؟
أليس كتيب التعليمات المسؤول عن كيفية استعمال المادة موجود أصلاً في الكائن الحي؟
نقصد بذلك الفطرة السليمة والحدس البشري بكل تأكيد.
ونعود لنتساءل أيضًا: هل هذه محاولة لمسح الفطرة والحدس الطبيعي وتبديله بكتيّب تعليمات جديدة من صنع البشر؟ هل الغاية أن نفقد الثقة بالحدس ونضع ثقتنا بيد المصممين؟
لكن هذا الأمر قد لا يخطر على بالنا، لكن من يدري، فعند استعمال أداة ما، وإثر العبث في تصميم الآلات والمواد قد نرى تؤثرًا في أفكار بعض البشر وعقائدهم؟
إنها مبالغة! هذا ما سيقوله كثيرٌ من الناس، بل قد يقولون: لا تعقّدوا الأمر، إنها مجرد قطعة كعكة لنستمتع بأكلها أو آلة معينة نريد استعمالها، فلا داعي لكل هذه الفلسفة والكلام المُعقّد، بل أنتم لا تعرفون الاستمتاع بوقتكم.
نماذج عابرة
قد يظهر لك في هذه الصورة بعض الأشياء المرمية التي لا قيمة لها، لكن انتبه، هذه قيمة فنية مجهّزة للعرض في مؤسسة فنية وليست أي شيءٍ يمكن إدراكه بسهولة، ربما يأتي عامل التنظيف فيرمي هذه الأشياء وحينها قد يصبح بحاجة للخضوع إلى تحقيق دوري للإفصاح عن علمه الباطني، وشهادة تثبت بصره النافذ و”رهافة إحساسه”، وقد يتعرض للمحاكمة إذا أطلق حكمًا على المادة وتصرف على أساسه دون أخذ موافقة المسؤولين.

(عمل فني) جاهز للعرض في مؤسسة الشارقة للفنون
خدعة مضحكة.. لا داعي للتشدد
لماذا غاب عن أذهان الناس قول الرسول عليه الصلاة والسلام: “لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً” [أخرجه أبو داود] وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: “من أخاف مؤمناً كان حقاً على الله أن لا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة” [أخرجه الطبراني]، ربما تم تطبيع عقولنا مع النسيان وعدم الاهتمام بالبحث عن خلفيات الأمور، لربما نسينا هذه الأحاديث وقلنا إن الموضوع لا يحتاج مواعظ كبيرة، فهي مزحة لطيفة خفيفة في النهاية.

لعبة تستعمل للخدعة على شكل علكة
لا بد من التأكيد أن التساهل والعبث بالهدف من وجود المادة بدأ مع عقولنا منذ أيام الصبا والدخول إلى المدرسة، عندما كنا أطفالًا ونخدع أصدقائنا بجعلهم يأخذون منا قطعة العلكة لنضحك حين ينصدمون أنها لعبة فيها لسعة كهربائية.
الصور: