مقالات

ذُهان العصر

من الملاحَظ أن معيار نجاح أي عمل فني هو قدرته على إيصال رسالة أو فكرة معينة للمتلقي دون الحاجة إلى شرح أو تفصيل، كما يعتبر ناجحاً عندما تكون الرسالة مفهومة وواضحة لمختلف شرائح البشر في المجتمع، فنرى أن تذوق الفن المعقد أصبح شبه معدوم، وذلك بسبب تراجع وجود منظومة فكرية ثابتة لدى الإنسان الحداثي، فلا تحليل ولا محاولة لإدراك المعنى العميق للأعمال الفنية، حيث إن هدف الفن البصري الشعبي هو التركيز على ردات فعل الإنسان الطبيعية، حتى تكون النتائج شبه مؤكدة وفعالة.

قد يكون معيار النجاح (غير الرسمي) للتصميم -مما هو منتشر بين عوام الناس- هو إثارة الدهشة، أو الضحك، أو التأثير في الوعي والخلط بين الحقيقة والوهم، وهذا بحسب ما يذهب إليه الفيلسوف هيجل، الذي رأى أن الضحك ينشأ نتيجة لوجود التناقض بين المفهوم والمعنى الحقيقي الدفين الذي يقدمه هذا المفهوم.

الصورة على اليمين: عمل فني يتحدى مسلمات الإنسان الأولية. الصورة على اليسار: عمل فني يخلط بين ما هو مألوف وما هو خيالي.

وعادة ما تكون معايير نجاح الفن بعيدةً عن اعتبار المعايير الأخلاقية، فأصبحت إثارة الخوف والفزع بين المواطنين –مثلاً- عملًا مقبولًا وجائزًا لدى من يؤمن بنسبية الأخلاق، كما سنوضح بالأمثلة.

مع أن لهذه الثورة في الفن بعض النتائج الجيدة، حيث أصبح الفن يتكلم عن نفسه، فيصبح أقرب للفهم بغض النظر عن المستوى الثقافي للمتلقي. كما بات الفن مفيد جداً لطرح أسئلة وجودية لمن ضعف عندهم الوازع الديني، فتكون هذه الرسائل الفنية تنبيهًا للحقائق الوجودية التي لم يأخذوها بالحسبان مسبقًا في خضم الحياة المتسارعة، وهذا يوضح أهمية الفن وتأثيره في الإنسان.

إلّا أن اعتماد هذا النمط وحده من التعبير الفني قد يمحو الرقي في الفنّ تماماً بسبب تغيّر طرق استثارة المشاعر عند الإنسان الحديث، الناتج عن إهمال المسلمات الأولية للعقل، وذلك كما سنفصله في الأمثلة التالية:

هدم السياق لإيصال رسالة وجودية
نرى في الصورة الأولى مرآة موضوعة على عتبة درج في إحدى الطرقات، مما يوهم الماشي أنه سيسقط ويهوي في السماء، وبالرغم من أن هذا العمل الفني لا ضرر فيه من منظور مادي بحت، إلا أنه يعتبر جريمة أخلاقية يبث الخوف في الإنسان وإن كان لا تؤدي الى ضرر مادي مباشر على الماشي.

الصورة على اليمين: تم وضع لوح مرآة زجاجية على عتبة درج عام. الصورة على اليسار: لقطة لمشهد سريالي لإيصال رسالة وفكرة معينة.

الباطنية: الظاهر لا يدل على الباطن
لعله من الممكن تحريف المثل الشهير: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت، إلى “قل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت”.

في الصور الآتية كعكات تم تشكيلها بأشكال غير اعتيادية، هنا نتساءل: هل يؤثر ذلك في وعينا أم هو شيء ظريف يستحق الضحك والمزاح؟

تصميم كعكات الحلويات على أشكال غير اعتيادية

يقول الفيلسوف هنري برغسون في وصفه الضحك بأنه عادة ما يكون مصحوبا بانعدام الإحساس “Insensibilité” فالعدو الحقيقي للضحك هو العاطفة، لذا فلكي نضحك ينبغي أن نكون غير مبالين، ومن هنا يدعونا برغسون إذن إلى التجرد من عواطفنا والتسلح باللامبالاة كي تتحول الأحزان أمام أعيننا إلى أفراح.

 ناصية كاذبة خاطئة
تعرّف الناصية بأنها مقدمة الرأس وتقول دراسات مختلفة إنها مكانٌ في المخ مسؤول عن اتخاذ القرارات والقيام بالخداع والكذب أيضًا، وهي كذلك كناية عن الرضوخ والخضوع، ومن ثم نستشهد بقول الإمام الرازي: “واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع قالوا: ما ناصية فلان إلا بيد فلان”.

مثال على كتيب تعليمات لإحدى الآلات

إن التفكير في القرارات التي يتخذها الإنسان يزداد مع ازدياد تعقيد المسألة واحتياجنا لتحليل القرار بعمق إضافة للحصول على معلومات خارجية لدعم صحة قرارنا، أما القرارات العابرة مثل فتح الباب والجلوس على الكرسي، فتحدث مباشرة معتمدة على الحدس دون الحاجة للتفكير غالبًا، فلا نرى كثيرًا من الناس يدرسون كفاءة استعمال الكرسي ويحسبون الطريقة المناسبة للحصول على الراحة القصوى، أو الزاوية المناسبة لرؤية الغرفة بأكثر صورة شاملة، أو يحسِب الموقع والمقعد الأكثر كفاءة لوصول الصوت بوضوح في الغرفة الدراسية، لأن دراسة مثل هذه الأمور ليست من الأولويات عندهم، فالإنسان الطبيعي يعتمد على الحدس في اتخاذ هذه القرارات العابرة.

 كثرة رؤية التناقضات في المحيط المادي تؤدي إلى تخبط في ردات الفعل وفقدان الثقة بالظاهر، كما قد تدفع إلى تعطيل المسلّمات الأولية للإنسان ومبدأ اعتماد الإنسان على الحدس أيضًا. حينها سيصبح الإنسان بحاجة لورقة وكتيّب تعريفي فيه تعليمات معينة يوضح له الهدف من وجود المادة وطريقة استعمالها، حتى نقرؤه ونفهمه قبل استعمال كل أداة ومادة في حياتنا. لكن السؤال هو، من سيعطينا هذه التعليمات؟

إعادة برمجة للحدس
هل حاولت في مرة من المرات أن تفتح علبة ما أو تستعمل آلة ولم تعرف كيف؟ في بعض الأحيان نحن نتكاسل عن قراءة دفتر التعليمات ونحاول من خلال الحدس إدراك الكيفية التي تستعمل بها الآلة، وقد يضحك أحد ما فيقول: “لا، هذه ليست الطريقة لاستعمال هذه الآلة، دعني أُرِك كيف شرح المصمم طريقة تستعملها، فأنت لا تعرف”!

هنا نسأل: في حقيقة الأمر وواقعه، ناصيتنا بيد مَن؟
أليس كتيب التعليمات المسؤول عن كيفية استعمال المادة موجود أصلاً في الكائن الحي؟

نقصد بذلك الفطرة السليمة والحدس البشري بكل تأكيد.

ونعود لنتساءل أيضًا: هل هذه محاولة لمسح الفطرة والحدس الطبيعي وتبديله بكتيّب تعليمات جديدة من صنع البشر؟ هل الغاية أن نفقد الثقة بالحدس ونضع ثقتنا بيد المصممين؟

لكن هذا الأمر قد لا يخطر على بالنا، لكن من يدري، فعند استعمال أداة ما، وإثر العبث في تصميم الآلات والمواد قد نرى تؤثرًا في أفكار بعض البشر وعقائدهم؟

إنها مبالغة! هذا ما سيقوله كثيرٌ من الناس، بل قد يقولون: لا تعقّدوا الأمر، إنها مجرد قطعة كعكة لنستمتع بأكلها أو آلة معينة نريد استعمالها، فلا داعي لكل هذه الفلسفة والكلام المُعقّد، بل أنتم لا تعرفون الاستمتاع بوقتكم.

نماذج عابرة
قد يظهر لك في هذه الصورة بعض الأشياء المرمية التي لا قيمة لها، لكن انتبه، هذه قيمة فنية مجهّزة للعرض في مؤسسة فنية وليست أي شيءٍ يمكن إدراكه بسهولة، ربما يأتي عامل التنظيف فيرمي هذه الأشياء وحينها قد يصبح بحاجة للخضوع إلى تحقيق دوري للإفصاح عن علمه الباطني، وشهادة تثبت بصره النافذ و”رهافة إحساسه”، وقد يتعرض للمحاكمة إذا أطلق حكمًا على المادة وتصرف على أساسه دون أخذ موافقة المسؤولين.

(عمل فني) جاهز للعرض في مؤسسة الشارقة للفنون

خدعة مضحكة.. لا داعي للتشدد
لماذا غاب عن أذهان الناس قول الرسول عليه الصلاة والسلام: “لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً” [أخرجه أبو داود] وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: “من أخاف مؤمناً كان حقاً على الله أن لا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة” [أخرجه الطبراني]، ربما تم تطبيع عقولنا مع النسيان وعدم الاهتمام بالبحث عن خلفيات الأمور، لربما نسينا هذه الأحاديث وقلنا إن الموضوع لا يحتاج مواعظ كبيرة، فهي مزحة لطيفة خفيفة في النهاية.

لعبة تستعمل للخدعة على شكل علكة

لا بد من التأكيد أن التساهل والعبث بالهدف من وجود المادة بدأ مع عقولنا منذ أيام الصبا والدخول إلى المدرسة، عندما كنا أطفالًا ونخدع أصدقائنا بجعلهم يأخذون منا قطعة العلكة لنضحك حين ينصدمون أنها لعبة فيها لسعة كهربائية.


الصور:

https://cutt.ly/VjaB53X

https://cutt.ly/6jaNwI8

https://cutt.ly/kjaNtkT

https://cutt.ly/wjaNu7x

https://cutt.ly/DjaNhsd

https://cutt.ly/VjaNkUo

https://cutt.ly/IjaNzRD

نقض مظاهر الخرافة في العمارة

هذا المقال سيكون لطرح وإثارة أسئلة ومحاولة لتحليل ظواهر ومفاهيم معاصرة، دون وجود إجابات قاطعة بالضرورة وإنما محاولة للفهم، وذلك لئلا نطمئن لنمط واحد ثابت وحقيقة قاطعة لمفهوم العمارة خاصة في ظل عصر الحداثة السائلة المتغيرة.

الطريقة الأنسب للمضي قدما عند التكلم بموضوع شائك متشعب تكون بطرح الأفكار ووجهات النظر المختلفة، ثم النقاش ومبادلة الآراء وتفكيك المعلومات وترتيبها وتنقيتها للوصول للنقد دون الإسفاف والتسخيف والتسطيح، لتصبح الصورة أكثر وضوحا والفكرة أكثر تبلورا، ومن تلك المواضيع الجدلية هي مفهوم العمارة الإسلامية.

إننا عندما نتكلم عن العمارة الإسلامية، فإنه يخطر ببال البعض أجواء الصحراء الساحرة والأضواء الذهبية وقصر علاء الدين وعالم ألف ليلة وليلة، كما شبهها المؤرخ المعماري د. ناصر الرباط في محاضرته (إعادة تسمية العمارة الإسلامية) (1)

رسم متخيّل لقصر علاء الدين من انتاج شركة ديزني

نحن المسلمون مستمسكون بالوحي وقارئون للواقع، فهل نسمح لصورة العمارة الإسلامية أن يتم ربطها وتنميطها بالخرافة؟ كيف وصلت منتجات الحضارة الإسلامية لتلك الصورة النمطية ولماذا يتم الترويج لها، وربط الصورة الرومانسية للعمارة الإسلامية بأنها قديمة وصحراوية فيها قباب وأقواس عالية وزخارف معقدة؟ وما هو الحل للتخلّص من هذه الصورة النمطية؟

هل يكون الحل بالتخلي عن القباب والأقواس والزخارف؟

ربما قد يرى البعض أنه من الأفضل أن لا نثق بما أنتجته الحضارة، ويريد أن يفهم الاسلام من جديد ويتجرد من كل الأشكال التقليدية والشوائب التاريخية التي قد تعيق من فهمنا لجوهر الإسلام، بما أنه لا رموز في الإسلام، وأنه صالح لكل زمان ومكان؟

بالرغم من صحة أن الإسلام لا رموز مادية فيه، إلا أنه يجب التنبّه إلى أن الإسلام ليس فلسفة روحانية خالصة، وإنما هو منظومة كاملة تلقي ظلالها في جوانب الحياة الدنيا ومتطلباتها وقراراتنا فيها، والذي لا يقتصر دوره –في حالة العمارة- على الإفتاء بجواز البناء بشكل أو نمط معين وانما فهم استراتيجية البناء وفلسفته، وملاحظة إن كانت متوافقة مع الظروف المحيطة دون وجود أشكال ظلم وإجرام للبيئة/الأرض أو الناس أو الثقافة لذلك السياق.

العمارة الإسلامية في الواقع المعاصر
هل يتطلب فهمنا للواقع المعاصر التركيز على الوظيفة المادية للتصميم، وهل التركيز على الهوية قد يعيق هذا التقدّم؟ أم هل يعتبر التركيز على الهوية خطابًا عاطفيًّا؟ هل أصبح الشعور بالهوية والانتماء شيئًا ثانويًّا يضاف كلمسة أخيرة لإسكات ضمائرنا من التجرد الذي وصلنا إليه؟ هل العمارة الاسلامية مختزلة بأشكال وأنماط معينة؟ أم هل هي استراتيجية وفلسفة بناء؟ أم ربما لا يوجد شيء اسمه (عمارة اسلامية) وما هي إلا تبعية وتقليد للملل الأخرى؟

البعض ممن يريد أن يطور من التصميم العمراني ليواكب الواقع، يلجأ لتصميم حداثي متناقض لا علاقة له بالبيئة المحيطة، ثم يغطّيه بزخرفات ذات صبغة إسلامية ليعطيها طابعًا خاصًّا.

قاعة المؤتمرات والمعارض في جامعة GUtech Oman

العمارة في عصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
الصورة التالية توضح نموذج مجسمِ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسجد النبويّ عندما تم بناؤه.

مجسم بيت ومسجد الرسول (ص) عند بناءه

في حين إن رجعنا إلى القائمة التي تصنّف العمارة الإسلامية في الأقواس والقبب والزخارف، نرى أن بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن تصنيفه على أنه ذو طراز إسلامي، وهنا نستذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى). [أخرجه أحمد في المسند] لندرك أنه يجب إعادة فهم ما الأساس الفكري للعمارة الإسلامية.

قبل القفز للاستنتاج الفوري أنه لا يوجد طراز إسلامي بناء على تصميم منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقبل أن نتجه فورا لتقليد بناء هذا المبنى باعتباره تصميمًا مقدسًا، يجب إدراك مفهوم العمارة الاسلامية بأنها قائمة على مبادئ استراتيجية وليست مبنية على نتاج نهائي أو شكل ثابت مقدس، بل تتغير بحسب الحاجة.

إن العمارة الاسلامية مرنة على الدوام مع التأكيد على وجود عنصر الثبات حتى لا يصل التغير والمرونة الدائمة الى حد الهدم، كما أن التغير والتأقلم لا يعني بالضرورة أنه يجب علينا البدء من الصفر في كل مرة.. لقد كان تصميم منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناسبًا مع البيئة المحيطة في ذلك الوقت، ومع قيم وأسس المجتمع الذي كان فيه، ومن هنا نرى أن المهم إدراك الفرق والأبعاد المختلفة بين مفهوم المجتمع والحضارة في عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي عصرنا الحالي.

بناء على الشريعة السمحاء، فإن الأصل هو الإباحة في استخدام العناصر المعمارية المختلفة، واستنباط من العمارة السابقة ومن أنماط العمارة المعاصرة وعمارة الملل الأخرى ما يناسب عقيدة وهوية الإسلام. ويوجد مجال واسع للاجتهاد بأمور الدنيا وما يتطلبه الواقع. لكن يجب فهم متى تصبح اجتهاداتنا بدعة وجاهلية يجب التخلص منها وقطعها؟ وهل اتباع نمط معين في العمارة يعتبر تشبهًا بالملل الأخرى؟ هل يجب تمييز العمارة الإسلامية عن غيرها؟ أم نمشي على مبدأ أن الإسلام لجميع الناس، وبالتالي سيكون من التنفير والانغلاق أن نطور لغة معمارية خاصة بالحضارة الاسلامية؟ أم أنها فطرة طبيعية في الإنسان أن يبني حضارة خاصة ويترجمها في حياته؟

مفهوم الحضارة وتطور المجتمع
لغة التصميم العمراني يترجم جزء كبير من الحضارة وقيمها، ولفهم المنهج العمراني وفهم لماذا يتجه البشر لترجمة أفكارهم وقيمهم في جوانب حياتهم المختلفة، فإنه يجب فهم ماهية تطور الحضارة، إذ إن الحضارة لا تنتج من البداوة والتنقل المستمر، وإنما من الثبات والتجذر، وكما أن المرونة واجبة لكن لابد من وجود جذور لتترسخ قيم الحضارة وتتجلى بأشكال الحياة المختلفة كالطعام واللباس واللهجة واللغة والتصميم العمراني.

عرّف ابن خلدون الحضارة بأنّها “تفنّن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله”، كما عرّفها ضمن الإطار الإجتماعي والتاريخي بأنّها الوصول إلى قمّة العمران والتطوّر الثقافي والشخصي للمجتمع والدخول للرقي الاجتماعي الثابت فالحضارة بوجهة نظره هي نهاية العمران. (2)

مع أن الترف الزائد غير محمود وليس الأصل في الإسلام، إلا أن الاتجاه المعاكس من التقشف ليس من الإسلام أيضًا، بل يجب أن نصل لحالة توسط وموازنة. الحضارة هوية.

وهنا نسأل: ما هي الهوية أصلا؟ ماذا عن الحديث الشريف (عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)؟ هل يتعارض الشعور بالانتماء مع هذا المبدأ؟ وهل الحنين للماضي وللوطن يعتبر شركًا؟ هل اتباع نمط معين في بناء الحضارة يعتبر تبعيّةً من أثقال القيود التي صنعها البشر في جاهلية الزمن الحديث؟

هل التمسك بالحضارة بدعة وجاهلية؟
هل مفهوم المجتمع في وقتنا الحالي نفس مفهوم المجتمع في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هل يناسبنا أن نستلهم الأشكال وأدوات البناء البدائية غير المتطورة في عصره وأن نطبّقها مباشرة على عصرنا وما وصلنا إليه من تشعّب وتشابك وتعقيد في مفهوم الحضارة؟

أم هل من الأفضل فهم واستنباط الاستراتيجية والفلسفة من وراء التصاميم الإسلامية السابقة، وتطبيقها على الواقع المعاصر بما يناسب الاحتياجات المعاصرة، محافظين على توازن بين المفاهيم التي تتطلب الثبات مثل الهوية والأخرى التي يمكنها التغير والمرونة كالتقدم التكنولوجي.

من اليسار إلى اليمين يوضح التحول المورفولوجي (التغير في التشكل العمراني) من مستعمرة رومانية إلى مدينة إسلامية. Kostof & Tobias (1991, page 49)

يجب أن نؤكد هنا، أنه ثمة عمارة إسلامية نابعة من الحضارة الإسلامية، وهي ليست بدعة أو شركًا أو تقليدًا، فمن فطرة الإنسان أن يميل إلى الاستقرار، وإيجاد أنماط يدركها ليتحكم بها، حتى يكون مسيطرًا على الطبيعة ويسخرها بما يفيده بطريقة فعالة ومستدامة، وتكون متوافقة مع معتقداته وأفكاره كي يعيش دون توتر أو تناقض، وبانسجام بين معتقداته والأدوات المادية في حياته اليومية، ونعرف هذا بالرغم من عيشنا في عصر الحداثة السائلة، حيث يعيش الإنسان الحديث البداوة الحديثة، وبالرغم من ذلك فإننا نحاول إيجاد الأنماط والمحافظة عليها لأن هذا من فطرتنا.(3)

لخّص الفيلسوف روجيه غارودي زياراته في البلدان الإسلامية وبخاصة العربية: لا انفتاح لطريق جديد ولكن هناك محاكاة مزدوجة: تقليد الغرب أو تقليد الماضي (4).

وهنا أتساءل هل الخيارات الموجودة في عمارة الدول الاسلامية هي إما بناء قصر علاء الدين أو التجرد التام المركّز على الوظيفة؟ وهل الخيارات المتاحة هي إما الرجوع للماضي أو التقليد للغرب؟

التمسك والبناء على ما خلفه الأولون وتطويره ليس نوستالجيا أو رومانسية غير عقلانية ولا اتجاه تام للماضي وإنما فطنة وقمة العقلانية فإننا لا “نعيد اختراع العجلة” كما يقال.

وهنا نسأل، ماذا عن التمسك وتطوير ما خلفته حضارتنا الاسلامية السابقة والبناء عليها؟ هل التمسك بقيم الحضارة يمحو الإبداع ويعتبر تخلفًا ورجعية؟ أم هل هو إرجاع لقيم عصر الاستنارة والتحكم الكامل للطبيعة وبالتالي ضد عقيدة التوحيد؟ أم أنه وسطية بين هذا وذاك؟ يحافظ على الهوية ويدرك بنفس الوقت أننا كلنا من جنس آدم؟

الإبداع والتطوير مهمان، إلا أن مفهوم الابداع حين يعرّف بأنه كسر النمط، فإننا نفهم أنه لابد من وجود نمط حتى يتم كسره، وبدون وجود نمط خاص فينا لن يكون لنا حضارة راسخة، وإنما أنماط مستوردة متناقضة تنتج الفوضى، وإن محاولة الإبداع دون وجود نمط متماسك ستكون تجربة عبثية لإنتاج شيء جديد لا معنى له ولا مضمون ولا سياق، وإنما العبثية فقط.

صورة تعبيرية لمفهوم الإبداع والتميز باعتباره كسرًا للنمط

إن الابتكار والتميز شيء أساسيّ في عملية التقدم وبناء الحضارة، إلا أن الوقت الآن يعتبر حالة طوارىء يستدعي من أولوياته التعاضد والتماسك وليس الفردانية والخروج عن الإطار، ففي هذا العصر المتغير، نرى أن البشر عموما، والمسلمين خصوصا، في حالة تشتت وتشرذم لم نصل لها من قبل، ولذلك يجب علينا التمسك بما هو مشترك في حضارتنا الإسلامية وبناء ثقافة مشتركة، كي تقوى شوكتنا وتتقارب اهتماماتنا.


المراجع:

1- محاضرة د. ناصر الرباط على يوتيوب بعنوان (Re-branding Islamic Architecture?) https://www.youtube.com/watch?v=2cg3JSifqus&t=348s

2- مفهوم الحضارة عند ابن خلدون https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%B9%D9%86%D8%AF_%D8%A7%D8%A8%D9%86_%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86#:~:text=%D8%B9%D8%B1%D9%91%D9%81%20%D8%A7%D8%A8%D9%86%20%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9%20%D8%A8%D8%A3%D9%86%D9%91%D9%87%D8%A7،%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AE%D9%88%D9%84%20%D9%84%D9%84%D8%B1%D9%82%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D8%A8%D8%AA%20%D9%81%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9

3- محاضرة د. هبة رؤوف عزت على يوتيوب بعنوان (الحداثة السائلة) https://www.youtube.com/watch?v=ArmgfnH0qhA&t=5s

4- كتاب روجيه غارودي: “جولتي في العصر متوحداً

مصادر الصور:

https://disney.fandom.com/wiki/The_Sultan%27s_Palace

https://design-middleeast.com/modern-mashrabiya/

https://madainproject.com/masjid_al_nabawi_at_the_time_of_prophet_muhammad

https://www.researchgate.net/figure/Morphological-transformation-of-a-Roman-colony-into-a-Islamic-city-Source-Kostof_fig7_295719509

https://egkw.com/Art/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A6-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%87-%D8%B9%D9%86-132516

باوهاوس والنمط العالمي الموحد

عند افتتاح مدرسة باوهاوس للفنون والهندسة المعمارية في ألمانيا، يقول المدير المعماري والتر غروبيوس في ورد “بيان الفنان” في أبريل 1919: ” دعونا نناضل وننشئ المبنى الجديد للمستقبل الذي سيوحد كل تخصص، والهندسة المعمارية والنحت والرسم، والتي سوف ترتفع في يوم من الأيام من السماء من أيدي الملايين من الحرفيين كرمز واضح لعقيدة جديدة قادمة.” (1)

أشهر مقولة تم تداولها في هذه المدرسة هي للمعماري سوليفان يقول فيها: (الشكل يتبع الوظيفة Form follows Function)، مما يعني أن أهم معيار لنجاح التصميم هو الكفاءة القصوى، يرد أستاذ آخر في المدرسة، المعماري مارسيل بروير ويقول (… ولكن ليس دائما).(2) اعتبر العديد من الفنانين أن باوهاوس ليست مجرد مدرسة بل هي أيديولوجيا وتحول وقناعة جديدة في الفكر الفني والمعماري.(3)

تدّعي مدرسة باوهاوس بأنها أول من ابتكر فكرة البناء مسبق الصنع، وذلك من أجل تشكيل لغة معمارية عالمية موحدة، والتأسيس لعمل معماري إنساني جماعي يتميز بالعطاء المتجدد.(4)

كتاب Neufert من إنتاج مدرسة باوهاوس، درس هذا الكتاب تحركات وسكنات الانسان وكل أعماله ووظائفه اليومية, مع حساب حجم المساحة المطلوبة لفعل كل وظيفة لتحديد الكفاءة القصوى للتصميم

أصبحت عبارة “الشكل (على الإطلاق) يتبع الوظيفة” صرخة معركة للمهندسين المعماريين الحداثيين بعد الثلاثينيات. حيث إنه تم أخذ العقيدة على أنها تشير إلى أن العناصر الجمالية، والتي يسميها المهندسون المعماريون “زخرفة”، كانت غير ضرورية في المباني الحديثة. مع أن سوليفان لم يفكّر ولم يصمّم على هذا المنوال الصارم المتشدد في ذروة حياته المهنية.(5)

العمارة الإسلامية واستيراد الأفكار الجديدة
ينبغي أن نعرف أنه من الجيد استعارة وتطبيق بعض القوانين والمبادىء التقنية المفيدة من مختلف بقاع الأرض عند التصميم التقني للآلات والمباني، خاصة فيما يتعلق بالكفاءة القصوى للتصميم، مما يساعد الانسان على التحكم ببيئته بطريقة حضارية ومستدامة. لكن قبل أن نأخذ تلك القوانين كحقيقة قاطعة، من الجيد أن نعرف تبعات هذه القوانين بكل أبعادها، ونعرف لأي مدى يكون حدود استعمال تلك القوانين، حتى لا تنتج عنها تبعات تتعارض مع نمط حياتنا وأفكارنا وما نؤمن به.

النمط العالمي الموحد (International Style) وعلاقته بالبساطة المفرطة (مينيماليزم (Minimalism
اشتهرت حركة البساطة المفرطة في التصميم من قبل المعماري لودفيغ مايس فان دير روه Mies Van Der Rohe بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان آخر مديري باوهاوس.

انتشرت الباوهاوسية واعتنقت فكرة الأقل هو الأكثر(Less is More) . نظرًا لتأثرها بشدة بالتصميم الياباني التقليدي وفلسفة الزن Zen، ومن هنا فإن التبسيطية أو الميناليزم Minimalism تبشر بتقليل العناصر في التصميم من خلال التجريد المستمر، فيتم الاهتمام بالأغراض المرئية والوظيفية من خلال التقلّص باستمرار من العناصر الأخرى المتعلقة بالنمط التراثي والجمالي والثقافي، ويروّجون أن بساطتها تعمل بالكفاءة. (6)

منزل حداثي مصمم على مبدأ البساطة المفرطة

 

منزل محاكي للأصل لأساتذة مدرسة باوهاوس مبني على مبادىء البساطة المفرطة

 

منزل حداثي مصمم على مبدأ البساطة المفرطة وفلسفة الزن

وبالرغم من أن ليست كل التصاميم على هذا النحو المتطرف من البساطة والتجريد، حيث تتنوع التصاميم أكثر بحسب استخدام مواد البناء وموقعه ضمن أشكال مختلفة من أجل تحقيق قيمة جمالية متناسقة بين المبنى والبيئة المحيطة، إلا أن كل هذه الفلسفة والقيم الجمالية مستوحاة من فلسفة الزن التي تركز على استعمال العناصر الخمسة للطبيعة، حيث لا يأخذ المهندسون المعماريون في الاعتبار الصفات المادية للمبنى فقط، بل إنهم يعتبرون البعد الروحي وغير المرئي، من خلال الاستماع إلى الشكل والاهتمام بالتفاصيل، والأشخاص، والفضاء، والطبيعة، والمواد.(7)

لا يعني انتقاد منهج التجريد والبساطة المفرطة التشجيع على البذخ والإسراف، وإنما محاولة فهم تبعيات هذا المنهج عند اتباعه حرفيا.

أما مفهوم البساطة، فانه ليس محتكرا بحركة المينيماليزم، وحتى نفهم أيديولوجيا معينة، فإنه يجب تخيل تبعاته الخالصة عند تطبيقه بحذافيره وتعاليمه الحرفية وما ينتج عنها، وهنا فإننا لسنا بحاجة لمفاهيم هجينة تعلمنا كيف نبني مساجدنا ومنازلنا، خاصة عندما تكون مبنية على عقائد وأيديولوجيات تعارض نمط حياتنا.

كيف وصلت باوهاوس لهذا الحد من التجريد؟
لفهم هذه النتائج العجيبة، نحتاج دراسة تاريخ العمارة في الغرب والسياق الذي كانوا فيه. الحداثة كمصطلح واسع يصف الحركة الفلسفية التي تلت التغيرات العظيمة للحضارة الغربية (مثل الثورة الصناعية) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد كان من نتائج الثورة الصناعية مفهوم (الوظيفية Functionalism) وهو السماح لوظائف المبنى بالتحكم، وبالتالي تشكيل الجماليات والأسلوب المعتمَد. (8)

اتخذ المصممون الوظيفيون من الوظيفة إلهًا خاصة الذين عاشوا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث لم يشيروا إلى الله خالق المواد وموجدها بل إلى تظللوا في مطالب “روح العصر- زايتجيست Zeitgeist” أو “العصر الحديث” أو “عصر الآلة”.(9)

كما أدى ذلك الى نتائج عجيبة في فهم الجانب الميتافيزيقي للإنسان، وحاولوا فهمه من خلال تجريد جسم الإنسان إلى أشكال هندسية مجردة للتجربة والعبث في فهم الإبداع والميتافيزيقيا في طبيعة الإنسان وعلاقته ببيئته.

طلاب مدرسة باوهاوس في أزياء تنكرية للمسرح الميتافيزيقي

احتلت الحفلات المسرحية منذ البداية مكانة بارزة في التقويم السنوي للمدرسة، والتي كانت أشبه بطقوس ميتافيزيقية من رقص وتصوير وعبث. (10) فنجد في الصور السابقة مثالًا من السبعينيات، حيث استخدم المصممون في حركة باوهاوس الملابس والأزياء التي قمعت العنصر البشري من أجل تحقيق مفهوم الإبداع.

هل اقتصر منهج الباوهاوس على التصميم المعماري فحسب؟
يقول مصمم هذين الكرسيين إنه أراد إعادة فهم ما هو الجدوى من الكرسي وأراد التخلص من كل شي لا وظيفة مباشرة له، فتخلص من زيادات كل ذرة ونقطة وانحناءة للمادة، ولذا ترى أن لا جيوب له أو فتحات إضافية أو أي شيء يدل على أنه من الممكن التغير أو التأقلم.

من الطبيعي أن تكون الخطوة التالية عدم وجود الكرسي، فتخيل أنك جالس وهذا كاف لجعلك تطوف في الهواء. وقد قالها المصمم بروير في تعريفه، حيث افترض بروير أن الكراسي ستصبح في نهاية المطاف رجعية، وستستبدل بأعمدة داعمة أو هواء. (11)

من الجيد استخدام المواد بالسبل الأمثل وعدم إهدارها، لكن، لمَ تجريد الكرسي لهذه الدرجة بحيث لا يمكن استعماله إلا لتحدي الجاذبية؟ بل حتى الجاذبية حاولوا التمرد عليها.

كراسي صممت على طراز باوهاوس

دخلت مبادئ باوهاوس في تصميمات شركات الأثاث الكبرى مثل أيكيا، بسبب تركيزها على الجانب العملي الوظيفي. مع أن التصميم العملي ذي الكفاءة يعتبر شيئًا مهما، لكن ليس لدرجة أن تصبح أعمالنا اليومية آلية لا روح فيها. مثال ذلك المطبخ الذي تحول الى مصنع لا يدخله إلا الشخص المسؤول. يتم تقديم الطعام من شباك يصل بين المطبخ مع باقي المرافق، فأصبح مكانًا لا معنى أو قيمة له أو للوسيلة (عملية الطبخ) وإنما للنتيجة فقط (الطعام) فهي المهمة في المنظور المادي الآلي.

مطابخ صممت على طراز باوهاوس

هل إنكار منهج باوهاوس وحركة المينيماليزم رجعيّة؟
عندما ننكر فلسفة المينيماليزم فهذا لا يعني مواجهة فكرة البساطة ورفضها، ومثل ذلك فإن رفض فلسفة مدرسة باوهاوس فهذا لا يعني رفض الكفاءة والوظيفية، لكننا نحاول فهم هذه الفلسفات وتبعاتها الخالصة عند تطبيقها، ونقارن بين نتائجها وبين حاجاتنا وندرس إن كانت تتوافق أم لا مع مبادئ ديننا وهويتنا الحضارية، وفي هذا الحال فإن استخدامنا لهذا الفلسفات يجب أن يكون مدروسًا ومحدودًا في نطاق معين، حتى يعود لنا بالفائدة دون المساس بمبادئنا ونمط حياتنا.

يجب أن ندرك أن الوظيفة مهمة في التصميم لكن يوجد حاجات أخرى للإنسان لا يمكن أن تفهمها الآلة، وهنا ندرك أن القوانين التقنية لا يمكن تطبيقها على كل الحاجات الإنسانية، خاصة غير المادية منها، والتي تشمل الإحساس بالجمال والشعور بالانتماء. وبنفس الوقت من الأفضل عدم اللجوء لفلسفات ميتافيزيقية هجينة ومحاولة أسلمتها لإدراك البعد غير المادي في التصميم.

الجري وراء تحديد الشكل من خلال الوظيفة فحسب يؤدي بالتأكيد الى مسح هويات البشر المختلفة وثقافاتهم، فقد خلقنا الله سبحانه وتعالى شعوبًا وقبائل لنتعارف، والاختلاف هنا في البيئة والثقافة الشعبية شيء محمود وموجود لحكمة. أما التركيز على الوظيفة الآلية المحضة من كل شكل وتصميم، فإن ذلك بالنسبة للمصممين المناهضين لباوهاوس يؤدّي إلى مغالطة أن الوظيفة تحررك من الشكل، والتركيز الوحيد على الوظيفة سوف يستدعي لغة نموذج عالمية متأصلة. (12)


المراجع:
(1) https://eferrit.com/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1-%D8%BA%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D9%88%D8%B3/
(2) https://www.greelane.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9/marcel-breuer-bauhaus-architect-and-designer-177371/
(3) https://www.arab48.com/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8-48/%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/2019/04/12/%D8%AC%D9%88%D8%AC%D9%84-%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%80-%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%88%D8%B3-%D8%A8%D8%A8%D8%B3%D8%B7%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B6%D8%A7%D9%84%D9%8A#:~:text=%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%A8%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%8A%D8%AF%20%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86%20%D8%A3%D9%86، %22%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D8%B3%22%20%D8%AD%D8%AA%D9%89%20%D8%B9%D8%A7%D9%85%201927
(4) https://alarab.co.uk/%D9%85%D8%A6%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%88%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8
(5) https://e3arabi.com/%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%83%D9%84-%D9%8A%D8%AA%D8%A8%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B8%D9%8A%D9%81%D8%A9/
(6) https://www.oysteinhusby.com/function-utopia-form-follows-function/
(7) https://en.wikipedia.org/wiki/Minimalism#Influences_from_Japanese_tradition
(8) The Function Utopia – Why ‘form follows function’ is misleading (oysteinhusby.com)
(9) Form Follows WHAT? History and critique of the form follows function formula. By Jan MICHL، Oslo، Norway
(10) http://people.brunel.ac.uk/dap/BauhausConstructivism.pdf
(11)The Bauhaus، 1919–1933 | Essay | The Metropolitan Museum of Art | Heilbrunn Timeline of Art History (metmuseum.org)
(12) https://www.oysteinhusby.com/function-utopia-form-follows-function/

مصادر الصور:
https://www.archdaily.com/881889/neufert-the-exceptional-pursuit-of-the-norm/59f672c2b22e3853b8000159-neufert-the-exceptional-pursuit-of-the-norm-image?next_project=no
https://www.dezeen.com/2018/07/19/bloco-arquitetos-white-cora-house-sloped-site-brasilia/
https://miesarch.com/work/580
https://www.archdaily.com/903195/project-nymph-zen-architects
https://www.penccil.com/gallery.php?show=11064
https://www.pinterest.pt/pin/406520303840893688/
https://www.midcenturyswag.co.nz/products/marcel-breuer-b33-chairs
https://www.bauhauskooperation.com/knowledge/the-bauhaus/works/joinery/slatted-chair-ti-1a/
http://collections.vam.ac.uk/item/O58657/armchair-breuer-marcel-lajos/
https://www.apartmenttherapy.com/brief-history-of-kitchen-design-from-the-1930s-to-1940s-247462
http://eldotdesigns.com/baukitchen/
https://www.pinterest.com/pin/752945631424794306/

 

تصميم دور العبادة والروحانية الجديدة: بين الجمال الحسي والهروب من الواقع

في الحياة العصرية السائلة، باتت التغيرات الزمانية والمكانية تحدث بسرعة غير مسبوقة، حيث يمكن للإنسان الانتقال بين قارات واسعة في بضعة ساعات، وقد أثّرت هذه الطفرة بسرعة الانتقال في طبيعة تفاعل الإنسان مع بيئته سواء أدرك ذلك أم لم يدركه.

من المهم جدًّا فهم كيفيّة تفاعل الإنسان وتأقلمه الناتج عن التعوّد على سرعة التغيرات في العالم المادي، وإن لم نكن محيطين ومتفقهين لهذا التغيّر، فإننا قد نقع فريسة الجهل وذلك بجعل البيئة قادرة على التحكم بنا، حيث نصبح أشخاصًا منهكين نفسيًّا لكثرة التغيرات الطارئة، فلا نريد سوى الانعزال والانفصال المؤقت عن العالم.

وفي هذه الحالة سنكون قد أعطينا البيئة السلطة التامة للتأثير على وعينا وفهمنا للواقع المحيط، مما يجعل ردود فعلنا -وحتى توجهاتنا ورغباتنا- متوقّعة يسهل التنبؤ بها، ويجعلنا ذلك أشبه بحال المأسور والشخص الواقع تحت تأثير التخدير، فيعطينا المسؤول جرعة تخدير للحظات قبل استيقاظنا ومواجهتنا للواقع، قبل وعينا الكامل، ونحن نتوهّم أنه يساعدنا ويهتمّ بنا لأنه على دراية بما نحتاج.

Church of the Sagrada Família مثال على الجمال الحسي

طبيعة التدين وعلاقة الإنسان ببيئته
إن دين الإسلام الذي جاء خاتمًا للأديان، جامعًا شاملًا ينتظم فيه شأن الدنيا والآخرة، سواءً حق العبد وحق الخالق، لم يأمر بالرهبنة ولم تكن من جملة تعاليمه، ولم يطلب منا لنكون عابدين مقربين أن نخلو بأنفسنا في صومعة على رأس جبل.

في الوقت ذاته فإن الإسلام لم يتم ترك أمر العبادات مفتوحًا للناس لينشؤوا أنماط عباداتهم وطقوسها بأنفسهم، حيث إن ذلك كله ينتهي باتباع الهوى وتقديس الجمال الحسي وكل ما يجلب المتعة، بحيث تصبح المتعة هي الخير، وقد أرسى الإسلام منهاجه الواضح في العبادة وهذا يتطلب منا فهمه وتطبيقه كي نعيش باستقامة وراحة.

يلجأ المعماريون -عند تصميم دور العبادة- لتصميم أشكال وزخارف مبهرة تأخذ كيان الإنسان ووعيه، بحيث يدخل حالة من الدوار والانبهار، ومما يلفت النظر انحصار هذه التصميمات ضمن اتجاهين ونمطين واضحين.

يركّز النمط الأول على الجانب الجمالي الحسي، معتمدًا على التنظيمات الهندسية المختلفة والألوان الخلابة.

أما النمط الثاني فيعتمد على التجريد، وقد لا يكون جميلًا بالمعايير المادية الحسية، إلا أنه يؤثر على إدراك الإنسان ووعيه وإحساسه، من خلال الاعتماد على عنصر المفاجأة والمباغتة، وذلك عند تغيير سياق إحساس الإنسان بالوجود، وعدم وجود نمط معين في البيئة يمكّن الإنسان من بناء وعيه.

يحدث ذلك عندما يتم التركيز في التصميم على التأثير على الحواس الذهنية والمبادئ الفكرية للإنسان. وهو ما سنشرحه وسيتم توضيحه بالأمثلة القادمة.

Nasir al-Mulk Mosque مثال على الجمال الحسي

 Liminal Space العمارة الانتقالية
تعتمد الحداثة السائلة –في كثير من صور العمارة الحديثة- على مبدأ المكان الانتقالي الفاصل غير المحدد: بحيث لا يكون للمكان هوية محددة له، وإنما يكون مرحلة انتقالية متجددة متغيرة، ويروّجون للروحانية فيه باعتباره تلك اللحظة أو الفراغ بين الأرض والسماء، المدخل أو العتبة بين العادي أو المدنّس والديني المقدّس.

Saint Andrew the Apostle Church مثال على العمارة الانتقالية

في كلتا الحالتين من أنماط التصميم، يبعث التصميم العمراني مشاعر مختلفة، إلا أن السؤال هو:

ما هي المشاعر التي تنطق بها العمارة؟ وهل يعتبر من المناسب أخلاقيا أن يتحكم معمارٌّي بمشاعر الناس ووعيهم بأكثر الأماكن أهمية في حياة الإنسان؟ وهل كل المشاعر محبذة ومرغوبة؟ هل يمكن جعل معيار النجاح المعماري متوقف على قدرته على إدراك وتحفيز المشاعر؟ بغض النظر إن كانت هذه المشاعر هي السكينة أو الخوف أو الحزن أو السعادة؟

بالرغم من أن النمط الأول -المعتمد على الجمال الحسي- سهلٌ من ناحية مراقبته وفهمه، إلا أن النمط الثاني يحتاج إلى التمهل والتمحيص، كما أن تأثيره يتخلل بشكل هادئ وغير مباشر، فتركيزه منصبٌّ على التغيير المفاجىء وإحداث بيئة غير متوقعة تجعل الإنسان في حالة توهّج بسبب كثرة التغيرات الطارئة، تنتهي بمكان فارغ وهادئ تجعل الإنسان بحالة سكون أشبه بحالة تخدير.

هذا المكان الهادىء يعرّف بمفهوم الواقع المغاير Altered Reality. حيث عندما يكون المكان غير مألوف ظاهرًا وكأن الانسان يراه لأول مرة حتى وإن اعتاد للذهاب عليه، بحيث تكون إيحاءات المكان مختلفة عن الإيحاءات المعتادة في الأماكن الأخرى.

يمكن تشبيه ذلك بمن يزور مدرسته أيام العطلة، حيث إنه يزورها بشكل معتاد وهي مكتظة ومليئة بالناس ثم يراها فارغة في وقت لاحق، إن ذلك يوحي له بمشاعر أخرى مختلفة، حيث يكون تصوّر العقل للمكان مغايرًا للواقع وهذا التحدي والتوتر يؤثر في وعي الانسان.

وهذا يدفعنا للسؤال: أليس من الإجرام الأخلاقي أن يتحكم المعماري بالبيئة الخاصة للعبادة؟ والتي تعتبر المعبّر الأسمى لعقيدة الإنسان في وجوده والغاية منه؟ أليس من الأفضل ترك المساحة محايدة يتجرد فيها الانسان للتقرب لربه؟ دون مساعدات خارجية ومحسنات يستجيب لها الإنسان؟

لأي مدىً يمكن للمعماري أن يتحكم بالبيئة المناسبة للعبادة؟ ومتى يصبح تحكمه جريمة أخلاقية تمنع الإنسان من الانفراد بربه؟

التخبط العشوائي ليس من الإسلام ولا فائدة فيه
قد يتوهم للبعض أن التخبّط والتشتّت جزء من الرحلة الروحانية، إلا أن تعاليم الإسلام ترفض التخبط وتطالب الإنسان بمجاهدة النفس أمام دعوات الاعوجاج، وشتان الفرق بين مفهومي التخبط والمجاهدة، إذ الأول مبنيٌّ على التجربة العبثيّة فلا هدف له سوى استشعار اللحظة والوسيلة الموصلة إليها، والثاني مبني على الوعي والإدراك، وغايته تطهير النفس وإلزامها الفضائل ولا يولي لذلك الوسائل المادّية كبير اهتمام.

إن التخبّط العشوائي ليس من الإسلام في شيء، وهنا يمثُل أمامنا قوله تعالى: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك: 22]. في الاستدلال على ذلك، -حيث يذكر لنا القرطبي في تفسيره- أن الله ضرب لنا فيها مثلاً للمؤمن والكافر، فيسير الكافر منكّسًا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه، فهل يكون كمن يمشي سويًّا معتدلًا ناظرًا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. نفهم من ذلك أن التجربة لا تكون غاية بحد ذاتها, ووجود مشاعر واستجابة للبيئة لا يعني بالضرورة صدق الرحلة الروحانية.

مفهوم القبلة في الإسلام
قال تعالى: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). [البقرة: 144]

 

يمكننا هنا أن ندرك أهمية وجود القبلة، فهي بوصلة الاتجاه الذي يوحّد جميع المسلمين في بقاع العالم كلّها، وقد نصّ الله على ذلك في قوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].

ويذكر لنا الإمام ابن كثير في تفسيره الآية الكريمة أن المراد إنما هو طاعة اللّه عزّ وجلّ، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجَّه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر اللّه وشرعه.

مفهوم المحراب في الاسلام
نتفق أن التأقلم واجب في هذا العصر المتغيّر، لكن بنفس الوقت يكون من الكياسة أن يستغل الإنسان لحظات ثباته كي يبني عليه وعيه، متى سنحت له الفرصة، وينبغي أن يوجد مكان مألوف للإنسان، بحيث لا يكون مطلوبًا منه المرونة والاستجابة للتغير طوال الوقت كي لا يهدر طاقته، وهذا ليس هروبًا من الواقع بل ترتيبًا للأولويات، حيث ليس كل تغيّر يستحق التفاعل والاستجابة، فالمقاومة والثورة واجبة مع المحيط المادي.

وكذلك فإنه ينبغي وجود مكان يستقر فيه الإنسان ويثبت, وهو المحراب، بحيث يشعر فيه بالأمان ويعلم أن المحيط لن يتغير، بحيث لا يتلاشى ولا يتشتت وعيه ويجعل تركيزه منصبًّا على شيء واحد يمكن البناء عليه، وهو العبادة.


المراجع:

https://smarthistory.org/gaudi-sagrada-familia/

https://mostlyamelie.com/iran-writing-about-the-most-beautiful-mosques-everyone-needs-to-see/

http://www.wastedevangelism.com/wasted-blog/church-building-as-liminal-space-our-worship-experience-has-a-history-and-habits-that-promote-a-dual-spirituality

https://en.wikipedia.org/wiki/Saint_Andrew_the_Apostle_Church#/media/File:SaintAndrewtheApostleChurchjf9747_04.JPG

https://www.alro7.net/ayaq.php?langg=arabic&sourid=2&aya=177

خيارات الإسلاميين لتجاوز أزمة الحداثة

أصدر المفكر الجزائري د. عبد الرزاق بلعقروز في عام 2013 كتابه القيم “أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي”، ووضع في خلاصة نقده للمفكرين العرب الذين حاولوا الخروج من أزمة الخطاب الإسلامي عبر استعارة أدوات ما بعد الحداثة من الغرب، وقدم قراءة واعية لفكر إسماعيل الفاروقي وطه عبد الرحمن باعتبارهما نموذجين ناضجين لتجاوز أزمات الغرب وإحياء الحضارة الإسلامية، مركزا على مسائل الحداثة وأزمة الحقيقة والتعارف والعقلانية والكونية.

يتساءل الكاتب: ما الذى يملكه الخطاب الإسلامى المعاصر من أجل الإسهام فى التحولات المعاصرة؟ وهل يؤسس هذه الخطاب رؤاه الفكرية منفصلا عن خطاب الحداثة وما بعدها؟

ويقول بلعقروز إن مُمكنات الخروج من نفق الطور الحداثي المُظلم، وإصلاح العطب في هذا المشروع لن تكون ممكنة دون إعادة تفعيل التوجيه الديني وقيم الإيمان في بناء الإنسان وملء العالم بالمعنى من جديد، لأنه لا فتوحات ممكنة تلوح سوى بأربعة شروط، وهي:

1- أن يستفتح الإنسان من جديد، من أجل أن يفتح اللّه له، ويعيد ترتيب الصّلة معه، لأن الذات دون إيمان ودون معنويات تنتج أنماط الحياة التي لا تُطاق.

2- أن ينتهي الإنسان عن غيه وظلمه وتخريبه للعالم، أي تدمير المعنى والعالم المحسوس.

3- أن يحذر من السقوط في أزمات المشروع الحداثي الغربي، لأنه لن يثْمر إلا عودة المآزق وفقدان الأمن الوجود ونَسْبنة المعرفة واختزالها في المصلحة، واختلال التوازن القيمي، ومن ثم الوصول إلى العَمى الوجودي والعبث السُّلوكي والتَّخريب للأرض.

4- التَّفكير في الارتقاء إلى مستوى الحدث الحضاري من أجل فهم هذه المشكلة بعمق، أي فهم الحداثة الغربية بعمق والكشف عن الفقر المعنوي والأخلاقي الذي ينخر أساساتها، وإعادة ترتيب سُلّم القيم الضائعة وبلورة نموذج إدراكي جديد للعالم.

ويرى المفكر الجزائري أننا لم نتعامل مع الحداثة في طورها الغربي بشكل ناضج بعد، فنحن فاقدون للرؤية والمنهج والإرادة، كما أننا لم نفهم الحضارة الإسلامية بعمق وشمول حتى نبحث في تراثنا المعنوي والأخلاقي الضخم ونفسّره من جديد.

ويعتبر أن النهضة تبدأ بإعداد قادة في الفكر من أجل إنجاز وظيفة الفهم المزدوج للحضارة الغربية وأسسها بعمق، وفهم الحضارة الإسلامية بعمق أيضا.

ويسعى في كتابه إلى رصد جوانب الاجتهاد في الخطاب الإسلامي المعاصر الساعية إلى بلورة رؤى فاعلة مستقلة عن سياق الحداثة.

ومن مباحث الكتاب المهمة أنه بيّن حدود النظريات التواصلية الغربية التي تأثر بها الفكر العربي المعاصر، وشدد على الحاجة إلى الأخذ بالرؤية التَّعارفية التي اقتبسها من قوله تعالى {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، مستندا في الأساس إلى المبدأ القرآني لرؤية الإنسان للوجود من خلال التوحيد، فوحدانية الله هي أساس كل شيء، ومن ثم انفصال الذات الإلهية عن الإنسان والعالم المخلوق دون حلول ولا اتحاد، وتأتي بعد ذلك الرؤية التعارفية بناء على مفاهيم: التَّكريم الإنساني {ولقد كرمنا بني آدم}.، ووِحدة الإنسانية (دون تمييز عرقي)، والاختلاف التّكاملي (وليس التفاضلي العنصري).

وفي نقده لأزمة الحقيقة والقيمة، يشرح بلعقروز كيف هيمنت الاتجاهات الارتيابية على الفلسفة الغربية فيما بعد الحداثة، ثم استعرض أفكار إسماعيل الفاروقي التي تتجاوز هذه الاتجاهات وتؤسس الرؤية على وحدة الحقيقة والقيمة والحياة، وتستمدها من وحدانية الله.

أما أزمة العقلانية فقد عرضها المؤلف في فكر محمد أركون، ثم استعرض نقد طه عبد الرحمن لأركون الذي فضح افتتانه بمناهج العلوم الإنسانية الغربية ومحاولته تطبيقها على المعرفة الإسلامية، حتى في نصوصه المقدّسة، حيث كشف طه أن ادعاءات أركون لا ترقى إلى تصورات الفقهاء، ويقول إنه لو كانت مذاهب الفقهاء فعلا امتدادا لتناحُرات السّياسيين لما اختصّت بالوفاء لشروط الاستدلال والبناء النّسقي، فالسّلطة لا تخاطب العقل بل تتوسل العاطفة.

وفي الفصل الخامس والأخير، ينقد المؤلف طرح “الفلسفة الكونية” لدى المثقفين الحداثيين العرب، ويطرح البديل المتمثل في “الفلسفة المقارِنة” التي تدرك العالم بالمعنى الاختلافي، معتبرا أن الفلسفة الكونية تؤدي للانغراس في أنماط فكرية أخرى لا تخرج من عمق معاناتنا ولا تستجيب لمشكلاتنا.

مكة بين ذوبان الروح وتغوّل الحداثة

لا يُعرف عن مدينة مكة تاريخ مؤكَّد سابق على بناء البيت الحرام، ولذا فإن مكانة مكة تاريخياً عند العرب، وحاضرًا عند المسلمين، مرتبطة برمزها الديني المقدَّس، أي الكعبة المشرفة التي بناها آدم عليه السلام، ثم أقام قواعدها بعد اندثارها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، والتي يصفها الله في مواضع عديدة في القرآن بأجلّ الأوصاف وأسماها، كقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96-97].

ولا تغيب عن المسلمين الأحاديث التي جاءت في فضل مكة وحرمها وعظمة ثواب الصلاة في مسجدها وحب النبي صلى الله عليه وسلَّم لها، ممَّا جعل احترام مكَّة مرتكزاً في الأذهان، وثابتًا في القلوب والأرواح، فهي مهبط الوحي، ومبدأ الرسالة، ومأوى الأفئدة المؤمنة بالله، والهويَّة التي دفعت كثيرًا من الرحّالة غير المسلمين للتنكُّر بغية استكشاف هذا المكان العظيم والتعرُّف إلى أسرار جذبه الروحي لملايين الناس.

رحلة جول جرفيه كورتيلّمون
في رحلته إلى المشرق العربي وإلى أرض الحجاز تحديدًا، رسم الرحَّالة الفرنسي جول جرفيه كورتيلِّمون (ت 1931م) لوحة دقيقةً فائقة التميُّزِ عن المدينة الأقدس في تراث المسلمين.

وفي سبيل إتمام رحلته، أظهر جول إسلامه، وارتحل بجواز سفر سمّى نفسه فيه “عبد الله بن البشير”، متجها نحو مكة عام 1894م، وتاركاً خلفه وثيقة مهمة في وصف الديار الحجازية إبَّان تلك الأيام.

من ذلك كلماته الآتية التي تأخذنا إلى واقعٍ مفعم بالصور عن الحرم المكِّي الشريف: “عند ظهور ضوء النهار اجتزنا بوّابة المدينة المقدَّسة، إنها بوّابة مؤلفة من عمودين يشبهان أعمدة بوابة مزرعة… لقد مررنا بأسرابٍ لا تحصى من طيور الحجل وعندليب الصحراء، تهرب مهرولة أمامنا دون أن تتنازل وتطير، كانت تطير حولنا بأعداد هائلة العديد من مجموعات الحمام وكأنها غيوم، في الحقيقة هذه الحمائم مصدر احترام كبير لغالبية سكّان مكة.

فجأةً عند مفترق طريق، دخلنا إلى المدينة المقدَّسة، لا شيء يجعلك تتوقع مدى قربها، إنها تختبئ بين جبلين قريبين جدًّا من بعضهما، وعندما تجتاز الشارع الأول تدرك أنك وصلت، لا منظر شامل للمكان، كل الأماكن متشابهة، حتى تصل إلى الجامع الكبير المستقر في أخفض مكان في المدينة، مختبئاً عن الأنظار، وكأنه بيضة وسط عشٍ”[1].

ثم يقول: “ها هي الكعبة بهيئتها الملكية مرتدية كساءها الأسود الثمين، ليست الكعبة –كما كنَّا نظنُّ- قبرًا للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، إنها بيت الله الحرام بالنسبة إلى جميع المسلمين”[2]، إلى أن قال “لقد بقيت مع تأملاتي أفكِّر في أقاربي في فرنسا وفي هذه الرحلة العجيبة إلى هذه المدينة الغامضة حيث أشعر أن معجزة ما تسيِّرني… أكون بمنتهى الفرح عندما أذهب لأحلم عند الجامع الكبير، لا يمكن لبشر حين يسمع صوت الأذان في هذا المكان أن يحلم بإنجاز لحن بهذه الرقة والتناغم، أي تنميق مدهش هذا”[3].

أقام جول في مكة أياماً عديدة وجال في أزقَّتِها يدرس معالمها ويتعرف على أسواقها وأشكال عمرانها، ليتأتى لنا عبر هذه الرحلة أن نتعرف إلى صورة مكة الاجتماعية والعمرانية في أواخر العهد العثماني، مشيراً باهتمام بالغ إلى الحِرَف المهنية التي اختصت بها أسواق دون غيرها، فثمة سوق للصاغة وآخر للأخشاب، وثالث للقماش وهكذا دواليك، التي تشبه في شكلها العام شوارع دمشق أو القاهرة القديمة”فالجامع الكبير المستقر في أخفض إلا أن الاندهاش بلغ قمته بالنسبة إليَّ حين مررت على كلماته الآتية: “يعتني السكَّان بأنفسهم بنظافة الشوارع التي تشبه في شكلها العام شوارع دمشق أو القاهرة القديمة”[4]، وموضع الاندهاش آتٍ من تشبيهه مكةَ بدمشق والقاهرة، فالصورة النمطية عن مكة تلك الأيام موحٍ بافتقارها إلى الترتيب والاعتناء العمراني، إلا أنها بحسب شهادته شبيهة بالتنظيم والترتيب المعروف عن دمشق والقاهرة أي دُرَّتَي بلاد الشام ومصر، وهو ما لا نجده في مكة –من الجانب التراثي- هذه الأيام حتماً.

أين الجذب الروحي لمكة؟
يتحدث د. علي عبد الرؤوف عن حادثة تعرَّض لها أثناء إعداده كتابه الشهير “من مكَّة إلى لاس فيغاس: أطروحات نقدية في العمارة والقداسة” قائلاً: “لم يستوقفني وأنا أُعدُّ دراسات كتابي الصادر في القاهرة، أكثر من إعلان فندقي به صورة سرير أبيض بشراشف حريرية عليه وردة حمراء كُتب أسفله تمتَّع بشهر العسل وأنت مُطلٌّ على الحرم!

لقد صدمتني فكرة استغلال الإطلال على الحرم المكي ليس فقط لتبرير دفع مئات بل آلاف الدولارات لقضاء ليلة واحدة، بل تصعيد الاستغلال إلى التحول بعيدًا عن الهدف الروحاني إلى الترويج الفندقي الفج لجناح العرائس المطل بنوافذه العملاقة من ارتفاع شاهق على الكعبة التي تقزَّمت أمام هذا العملاق الخرساني البغيض المسمَّى برج الساعة”[5]، لقد تعاظمت الصدمة –والكلام له- عندما أدرك أن مكة باتت تشبه بأبنيتها الفاخرة وتسارع الوقت فيها مدينة لاس فيغاس الأمريكية، ولعلّ تأثير الصدمة الأولى يزداد “عندما ندرك أن لاس فيجاس ليست مجرد مدينة أمريكية، ولكنها تسمى (مدينة الرذيلة) في مقابل (المدينة المقدسة) مكة، وثمة صدمة أخرى فاجأته عند زيارته دولة الفاتيكان، وذلك لدى رؤيته التناسق المعماري مع الحفاظ على الهوية، واحترام الكنائس والمقر البابوي، والإصرار على جعله أهم وأكبر المباني، وصاحب المركز المسيطر المرتفع في النطاق البصري للمدينة.

وثمة صدمة أخرى، وهي التي تخص مدينة القدس، الأكثر مدعاة للحزن والألم. فعلى الرغم من وقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي وبرغم المحاولات الدائمة لتهويدها، إلا أنه لم يصبها ما أصاب مكة من تشويه معماري وعمراني، وما زالت القدس تحافظ على هويتها المعمارية، وشخصيتها الفريدة، وعبقها التاريخي، الذي يبدو جليًّا في وضعها الراهن الموثق في أدبيات متعددة”[6].

يبدو أن الدعوى المذكورة آنفًا تثير في النفس بعض التهكُّمِ الممزوج بالفضول والاستغراب!

كيف يحق الادعاء بهذا، وقد أنشأت حكومات المملكة السعودية أفضل شبكات الطرق والأنفاق الضخمة والجسور والتوسعات المتعددة لأرض الحرم وما حوله، إضافةً إلى الكثير من المشاريع الإعمارية لتسهيل استيعاب ملايين الحجاج كل عام دون وقوع حوادث تؤذيهم أو تعكر صفو عبادتهم أو تودي بحياة العشرات منهم.

طغيان الحداثة وثقافة الاستهلاك
“إذا كانت أولى زيارتك لإحدى المدن وكان في مدى بصرك مبنيان؛ أولهما بارتفاع 14 متراً، والآخر بارتفاع  600 متر، تعلوه أكبر ساعة في العالم وتحيط به أبراج شاهقة، فأيُّ المبنيَين تعتقد أنه يجذب انتباهك ويستحوذ على كل مجالك البصري: ناطحة السحاب أم ذلك المبنى الذي لا يتجاوز ارتفاعه 4 طوابق”[7]؟

إن المسألة التي نتوقف عندها ههنا ليست توسيع مساحة الاستيعاب للحجاج والمعتمرين في الحرمين الشريفين أو تحديث شبكة الخدمات فيهما، وإنما تغيير الحالة الثقافية للروح التي تسكن المدينتين واندثار الهوية الروحية التي تميز هذه المدن المقدسة، فلم تعد زيارة المدينة المنورة أو مكة المكرمة مظهراً من مظاهر التساوي بين المسلمين وإنما باتت خاضعة للبهرجة التجارية وطغيان الثقافة الاستهلاك والابتزاز العولمي الصارخ.

إن السؤال آنف الذكر يقال لمن يزور مكة في هذا العصر الذي طغت فيه قيم العولمة والصورة الاستهلاكية، ولذا لا عجب في أن يكون الجواب متوجهاً في الغالب بالإشارة إلى البناء الأعلى والمطل كعين مادية ناظرة تراقب كل شيءٍ منخفض عنها، وبالطبع فإن كل ذلك جارٍ على حساب الكعبة، إذ تبدو صغيرة للغاية أمام هذه الأبراج العملاقة، وبالتالي تخضع جموع المسلمين إلى صورة القيمة الدنيوية على حساب القيمة الأخروية التي تمثلها الكعبة المشرفة التي قصد زيارتها طالبًا التقرب بها إلى الله[8].

هنا ترى قلب المدينة منفصلاً عن غايته الروحية في محيط حداثيٍ يقطع صلته بالقلوب التي اتجهت إليه، فلا يؤثر ذلك بالروح العمرانية فقط، وإنما بالروح التي يملكها زوار هذه الأماكن وقاطنوها[9].

لقد كانت الدول المتعاقبة على حكم الحجاز في غاية التنبه لواقع مكة الروحي، فبخلاف ما فعلته دولة القرامطة -بقيادة أبي طاهر القرمطي- من أخذهم للحجر الأسود وإعادته بعد عشرين سنة، لم تقم هذه الدول بتغيير معالم الحرم أو إزالة أجزاء منه بل كان التعظيم والاعتناء بالآثار المتبقية من الحرم ماثلاً مدة بقائها، فلم يشهد المسجد الحرام توسعةً تذكر بعد الخليفة المقتدر بالله طيلة حكم الفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين، وإنما اقتصر العمل في المسجد خلال هذه الحقبة على الترميم والإصلاح[10].

غياب الذات وحضور العولمة
يتساءل د. مشاري عبد الله النعيم: “أين هي الهوية المعمارية لهذه المدن، فعلى الرغم من أن تراثها المعماري عميق للغاية إلا أن الملمح الذي يقود لاكتشاف الهوية الخاصة بهذا التراث مفقودة”[11]، ولا يمكن إنكار أن بعضاً من آثار الماضي حاضرة إلا أنها تبدو كمن يقبع في زاوية الذاكرة أو ما يكاد يصل إلى النسيان.

إن الناظر لحال مكة المكرمة والمدينة المنورة الآن يتوقف مليًّا عند غياب المظاهر الروحية في مقابل تغوُّل الحداثة في أزقة وشوارع المدينتين، حيث تتعرضان -ومنذ وقت ليس بالقصير- إلى تحديات تغيير الوجه الثقافي بدعوى استيعاب الحجاج والزيادة السكانية المتزايدة في المدينة، لتختلف مكة في الوقت الحاضر بشكل كامل عن حالها قبل خمسين عامًا مثلاً، إذ محيت معظم المعالم العمرانية التاريخية التي ورثتها دول الخلفاء المتعاقبة في مواجهة طوفان التطوير العقاري المتباين أصلاً مع هوية المكان التاريخية ونمط التطوير المعولَم الذي يجري تنفيذه، فما أعجب أن تمحى معظم الآثار الموروثة عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، بل ما أعجب أن لا تكون لمكة والمدينة بصمتهما المعمارية (الإسلامية)، وأعجب من كل ذلك أن تكون أبنية كلٍّ منهما مستنسخة عن أبنية نيويورك أو لاس فيغاس، بل إن اللغة العربية تكاد تنمحي من اللافتات وأسماء العمارات الشاهقة، ليحل محلها أنتركونتننتال أو الميريديان  أو هيلتون، أو غيرها من الفنادق التي تتعالى على المسجد الحرام والمسجد النبوي.

ترفيه أم تطهير!

المسجد النبوي

يمكن وصف البناء المستمر الذي يغير وجه مدينتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه استغلال عمراني لفرض سيطرة نماذج “مدن الإسمنت” على القلب النابض لروح المدن الإسلامية.

كانت قوافل الحجاج تمضي شهورًا أو سنوات في سفر متواصل للوصول إلى أقدس الأماكن لأداء فريضة الحج ثم الإياب بالأجر والتطهر الروحي إلى بلادها، في رحلة مضنية جسميًّا مُغنيةٍ معنويًّا، يرى فيها الحاج تحقق التساوي بين الأغنياء والفقراء والأمراء والرعية، أما اليوم فإننا نرى “لمحو تاريخ مكة المعماري أثراً في الحج نفسه، إذ انقلب إلى رحلة سياحية ترفيهية، فلم يعد الحج تجربة روحية لا تتكرر، بل أصبح ممارسة اعتيادية -سنوية لكثيرين- يختلط فيها التسوق بممارسة الطقوس والشعائر الدينية، فمكة صورة مصغرة للعالم الإسلامي، وكل ما يحدث فيها يؤثر بعمقٍ على المسلمين في كل مكان، وها هي الآن تغرق في الحداثة، وقد أُفرغت من تاريخها، وأصبح الاستهلاك هو الهدف الأسمى من زيارتها”[12]، فلم يعد الحاج أو المعتمر يمتلك من خواطر رحلته شيئاً ذا بال مقارنةً بذكريات السكن في فندق الهيلتون، والغداء في ماكدونالدز، والتسوُّق في كارفور، مع الانبهار منقطع النظير ببرج الساعة الشهير.

فمتى تعود مكة للأرواح “قبلةً” والمدينة المنورة “منورةً”؟


الهوامش

[1] رحلتي إلى مكة، جول جرفيه كورتلمون، ترجمة: أحمد إيبش، دار الكتب الوطنية، أبو ظبي، ط1، 2013، ص69، 70.

[2] المصدر السابق، 70.

[3] المصدر السابق، 73، بتصرف.

[4] المصدر السابق، 97.

[5] تدوينة د. علي عبد الرؤوف المعنونة بـ “مكة المكرمة والوردة الحمراء والساعة العملاقة” عبر الرابط الآتي: http://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/3/19/%D9%85%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%B1%D9%85%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9

[6] المصدر السابق.

[7] من مكة إلى لاس فيغاس، كيف استطاعت القيم المادية التغول على الروحية، مقال منشور على هافنغتون بوست بالعربي، عبر الرابط الآتي: http://www.huffpostarabi.com/2017/09/01/story_n_17885042.html

[8] من مكة إلى لاس فيغاس: أطروحات في العمارة والقداسة،د. علي عبد الرؤوف، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، ط1، 2014، ص117.

[9] مقال د. مشاري عبد الله النعيم  نواة الهوية الثقافية والعمرانية على الرابط الآتي: http://www.alriyadh.com/1637000

[10] مقال: التوسعات التاريخية للحرم، موقع بوابة الحرمين، عبر الرابط الآتي: http://www.alharamain.gov.sa/index.cfm?do=cms.conarticle&contentid=5942&categoryid=1024

[11] مقال عبر الرابط الآتي: http://www.alriyadh.com/1637000

[12] مقال ضياء الدين سردر المنشور على شبكة (نون بوست): https://www.noonpost.org/content/3881