فرسان الهيكل هو اختصار لاسم أول منظمة عسكرية وأشهرها في تاريخ أوروبا، وهي المنظمة الأم التي كانت كل المنظمات العسكرية في تاريخ أوربا فرعاً منها أو تقليداً لها، واسمها الكامل هو “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان” The Poor Fellow Soldiers of Christ and of Temple of Solomon، ولا توجد معلومات موثقة عن نشأة المنظمة ولا بداية تكوينها، وكل الذين أرخوا لفرسان الهيكل لجأوا إلى مصدر وحيد كُتب بعد سبعين سنة من إنشائها على يد وليَم الصوري. وقبل أن نستعرض نشأة المنظمة وتطورها وصولا إلى أفولها وتفتتها إلى عشرات المنظمات السرية القائمة حتى اليوم، يجدر بنا الحديث عن الجذور التاريخية التي تعود إلى بني إسرائيل.
رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)
الجذور الإسرائيلية يقول مؤرخون إن هيكل سليمان في بيت المقدس كان يضم مدرستين إحداهما للصبيان والأخرى للفتيات، وكانت الأولى تخرج كهنة الهيكل والربانيين والأحبار ليكونوا صفوة المجتمع اليهودي، وكانوا يُختارون من العائلات الثابت انحدارها من سبط لاوي المتحدر من هارون، بينما يختص سبط يهوذا المتحدر من داوود بالمُلك.
وعندما هدم الإمبراطور الروماني فسباسيان الهيكل سنة ٧٠ تفرق رؤساء السبطين وأسرهم ومن تبعهم في أرجاء الأرض، واستقر عدد كبير منهم في أوربا الغربية. وكانت تقاليدهم تقتضي الاندماج في المجتمعات الأخرى والتظاهر باتباع الدين السائد وإخفاء أنسابهم الحقيقية، بخلاف عوام اليهود ممن يعلنون أنسابهم ويمارسون شعائرهم.
وطوال قرون حرص سبط المُلك وسبط الكهانة على التوغل في المجتمعات والصعود إلى قمتها، فأحد فروع أسر الملك الإلهي صار هو صلب الأسرة السكسونية الحاكمة في إنجلترا، كما امتزج فرع آخر مع الأسرة الميروفنجية التي حكمت فرنسا مابين القرنين الخامس والثامن الميلاديين، بينما وصل فرع آل سيتوارت إلى عرش اسكتلندا.
ومن هذه الأسر أيضا آل سان كلير التي حكمت نورماندي شمال غرب فرنسا، وتزاوج أبناؤها مع أسر الملك الإلهي الأخرى في فرنسا وهي شومو وجيزور وكونت وكونت شامبان وبلْوا وبولون.
ووفقا لكتاب “المُلك الإلهي” Rex Deus الصادر عام 2000 للمؤلفين الثلاثة غراهام سيمانز وتيم والاس ميرفي وماريلين هوبكنز، فإن مجموعة أسر الملك الإلهي كانت قد سيطرت على معظم أوربا الغربية مع مطلع القرن العاشر الميلادي بتغلغلها في الأسر الحاكمة، وهو أمر لم يلاحظه معظم المؤرخين التقليديين.
ونتيجة لهذا النفوذ نجحت الأسرة الميروفنجية في التغلغل إلى داخل الكنيسة الكاثوليكية وصولا إلى تعيين ستة بابوات من أصول ميروفنجية، كان أولهم البابا سلفستر الثاني سنة ٩٩٩، وآخرهم هو أوربان الثاني الذي أعلن بدء الحروب الصليبية عام 1096 باسم الكاثوليكية، وذلك بعد استكمال خطة حشد أوربا المسيحية وراء أسر الملك الإلهي التي تجري فيها الدماء الإسرائيلية.
هوج دي بايان
تشكيل المنظمة مع وصول الصليبيين إلى الأراضي المقدسة وسيطرتهم على بيت المقدس، انتقلت خطة أسر الملك الإلهي إلى المرحلة التالية، ففي سنة ١١١٨ سافر إلى القدس تسعة فرسان من السلالة الإسرائيلية وعلى رأسهم هوج دي بايان وأندريه دي مونتبارد، والتقوا بالملك بلدوين الثاني الأخ الأصغر لأول ملوك مملكة أورشليم اللاتينية الصليبية جودفروا دي بويون وخلفه عليها، وأسفر اللقاء عن تكوين منظمة فرسان الهيكل تحت مسمى “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان”.
وكان الهدف المعلن للمنظمة هو حراسة طرق الحج المسيحية من سواحل يافا إلى أورشليم وحماية الحجاج المسيحيين القادمين من أوربا من قطّاع الطرق.
وذهب بعض الباحثين إلى أن هذا الهدف لم يكن سوى غطاء لأهدافهم الحقيقية، وذلك لسببين، الأول هو أن تأمين طرق الحج الطويلة من يافا إلى أورشليم مهمة يستحيل أن يقوم بها تسعة فرسان في الأربعينيات من العمر، والثاني أنهم جعلوا مقر قيادتهم في المسجد الأقصى وليس على طريق الحج كما يُفترض.
فبعد استيلاء الصليبيين على القدس وتحويلها إلى مملكة أورشليم اللاتينية، حوّلوا المسجد الأقصى إلى “هيكل الرب”، وفي السنوات العشر الأولى من عمر المنظمة لم تفعل شيئا له علاقة بالمهمة التي ادعتها بل كانت مشغولة فقط بالحفر والتنقيب تحت المسجد الأقصى، حيث اكتشف الكابتن البريطاني وارين في سنة ١٨٦٧ الأنفاق التي حفرها فرسان الهيكل وفيها بعض آثارهم من تروس وصلبان.
دي كليرفو
في مجمع طروادة سنة ١١٢٩ م تمكن برنارد دي كليرفو -كبير مستشاري البابا وابن أخ مونتبارد- من الحصول على اعتراف الكنيسة بفرسان الهيكل. وبما أن الكنيسة لم تكن تقبل فكرة أن يكون الرهبان مقاتلين، فقد كتب دي كليرفو عدة رسائل ومقالات، كان أشهرها رسالة كتبها سنة ١١٣٥ بعنوان “في مدح فرسان الهيكل” ووصف فيها فارس الهيكل بأنه “فارس لا يعرف الخوف الطريق إلى قلبه، وما يحرسه ويقوم على حمايته آمن ومصون، قوة الإيمان تحرس روحه، كما أن الحديد يحمي جسده، ولأن سلاحه في جسده وفي روحه معاً، فلا خوف يعتريه ولا يتمكن منه إنسان”.
وفي سنة ١١٣٩ تمكن دي كليرفو من استصدار مرسوم بابوي من البابا الجديد إنوسنت الثاني يمنح فرسان الهيكل حق المرور عبر حدود الممالك والإمارات الأوربية كافة بحرية تامة ودون دفع ضرائب عبور، كما استثناهم من الالتزام بالقوانين المحلية في كل أوربا، بحيث لا يخضع فرسان الهيكل إلا لأستاذهم الأعظم، بينما لا يخضع هو سوى للبابا نفسه. وهي امتيازات لم يحصل عليها أحد في كل أوربا.
وهكذا انهالت على المنظمة العطايا والهبات من النبلاء والملوك، فبعد انتهاء الفرسان التسعة من حفرياتهم تحت المسجد الأقصى وحصولهم على الشرعية عادوا إلى فرنسا سنة ١١٢٩، ثم رحل الأستاذ الأعظم دي بايان ومعه دي مونتبارد إلى إنجلترا ثم اسكتلندا، فحصلوا من آل سنكلير على أرض واسعة تحولت لاحقا إلى مقر قيادة.
ارتبط تكوين فرسان الهيكل ثم صعودهم بالحروب الصليبية، فهي التي جلبت لهم الشرعية وأجبرت الكنيسة الكاثوليكية على غض الطرف عن الجمع بين الرهبنة والقتال. ونظرا لكفاءتهم في القتال فقد أصبحت المنظمة القوة الأولى في مملكة أورشليم الصليبية، ففارس الهيكل الذي يجمع بين الرهبنة والفروسية يتصف بصفات لا يناظره فيها أي جندي آخر، كقوة البنية والتدريب العالي والتسليح الجيد.
ويُقسِم الفارس ألا يفر من القتال أو يخرج من الميدان إلا بإذن قائده أو إذا واجهه ثلاثة مقاتلين معاً على الأقل، والموت في الميدان هو أسمى صور الموت عنده. كما كانت خيول فرسان الهيكل مدربة على أجواء القتال، وكانت كتائبهم أشبه بقوات الصاعقة في الجيوش الحديثة، حيث تساند الجيوش الكبيرة بأعداد قليلة تنقض على العدو في سرعة خاطفة لخلخلة الصفوف.
القوة الاقتصادية
كنيسة تابعة لفرسان الهيكل في لندن وتبدو كالقلعة
مع الوقت طور فرسان الهيكل مهاراتهم ليصبح استثمار الأموال وإدارة المزارع وتربية الخيول وإقراض الأموال والتجارة من أبرز أنشطتهم، بل تقدمت على القتال الذي صار واجهة الفرسان لجلب الشرعية فقط .
كان النبلاء المتجهون إلى الأرض المقدسة للمشاركة في الحروب يتغيبون سنوات طويلة، فيضعون ثروتهم كلها تحت سيطرة فرسان الهيكل لحمايتها، فإذا مات أو لم يعد نقلوها إلى ورثته أو إلى المنظمة إن رغب في ذلك، ويقال إن ملك فرنسا فيليب أوجست أودع ثروة التاج الفرنسي بمقر فرسان الهيكل في باريس وفوضه في إدارة الأملاك الملكية، وطوال فترة غيابه كانت عوائد إدارة هذه الثروة تذهب إليهم.
وأقام فرسان الهيكل شبكة بنكية داخل أوربا، وبينها وبين الأرض المقدسة وعبر الطرق الممتدة بينهما، فإذا أراد أوربي الحج ذهب إلى أقرب مقر لهم ليودع أموالا تغطي تكاليف الرحلة ويأخذ ما يشبه الصك ليقدمه عند كل مرحلة في رحلته إلى مقر لفرسان الهيكل فيمنحوه ما يشاء من مال، وقد أكسبت هذه التقنية فرسان الهيكل قوة سياسية ونفوذاً اقتصادياً حتى انخرطوا في تمويل التجارة ونقل البضائع، فأنشأوا أسطولاً حربياً تجارياً يتكون من ثماني عشر سفينة، ولم تكن أي دولة أوربية في حينه تملك أسطولاً بمثل سرعته وكفاءته.
صار الفرسان بمثابة شركات متعددة القوميات وعابرة للبحار تستثمر أموال الأمراء والنبلاء وتدير أراضي الإقطاعيين وتؤجر ما تمتلكه من أراض للمزارعين، وبعد خمسين عاماً من تكوينها صارت قوتها الاقتصادية تفوق قوة دول غرب أوربا مجتمعة.
وكان من أبرز أنشطة فرسان الهيكل الإقراض بالربا، حيث التفّوا على حكم الكنيسة بتحريم الربا عبر تسميته بالأجرة بدلا من الفائدة، واضطرت الكنيسة للتغاضي عن الأمر لحاجتها إلى تمويل الجيوش، فمنذ النصف الثاني للقرن الثاني عشر أصبحت المنظمة هي الممول الأبرز للحملات الصليبية.
وفي عام 1200 زاد البابا إنوسنت الثالث من قوتهم بإصدار مرسوم ينص على عدم خضوع الأفراد والأموال والبضائع داخل مقرات فرسان الهيكل ومنازلهم للقوانين المحلية الأوروبية.
إحدى قلاع فرسان الهيكل بالبرتغال (DanielFeliciano)
وبالإضافة إلى قوتهم الاقتصادية، كان فرسان الهيكل أعظم البنائين في القرون الوسطى، فشيدوا لمنظمتهم خمسة عشر ألف مقر خلال قرنين، وكانت مقراتهم تتضمن مزارع وطواحين وحظائر خيول وكنائس وأديرة وحصونا، ومن أشهر آثارهم قلعة صفد في فلسطين.
وكان إنوسنت الثاني قد سمح لهم سنة 1139 ببناء كنائس خاصة بهم لا تخضع لسيطرة الأبرشيات والأسقفيات المحلية، فكثفوا عملية البناء، واختاروا لمقراتهم مواقع مرتفعة للإطلال على طرق الحج والتجارة، وابتدعوا تصميما جديدا للكنائس هو الطراز الدائري القوطي، والذي تعمدوا فيه محاكاة تصميم هيكل سليمان.
وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر تمايز البناؤون في أوربا إلى ثلاث طوائف، الأولى هي أبناء الأب سوبيس التي تتولى بناء الكنائس على الطراز الروماني، والثانية أبناء ميتر جاك المختصة بتشييد القناطر والجسور، أما الثالثة وهي المرتبطة بفرسان الهيكل فاسمها أبناء سليمان، وكانت تهتم ببناء الكنائس والأديرة الضخمة على نمط العمارة القوطية، وهي تنسب نفسها للنبي سليمان بن داوود باني الهيكل، وقد وضع فرسان الهيكل في عام 1145 لائحة قواعد تنظم شؤون الحياة اليومية لأبناء سليمان، بما فيها طريقة الأكل والنوم والثياب، فهي تجعل من بناء الكنائس رسالة خالدة ولها طقوس وشروط ونمط حياة خاص، وكانت هذه الطائفة هي بذرة الماسونية كما سنرى لاحقا.
العلاقة بالباطنيين يقول ول ديورانت في موسوعة “قصة الحضارة” إن الإسماعيليين استخدموا أعضاء جماعاتهم السرية في التجسس والدسائس السياسية، ثم انتقلت طقوسهم إلى بيت المقدس وأوربا، وكان لها أكبر الأثر في أنظمة فرسان الهيكل ومنظمة النور البافارية (إلوميناتي)، وغيرها من الجماعات السرية التي قامت في العالم الغربي، كما كان لها أكبر الأثر أيضًا في طقوسها وملابسها.
أما مؤلف كتاب “تاريخ الماسونية” كلافل –وهو من أقطاب الماسونية- فيؤكد أن منظمة فرسان الهيكل كانت على علاقة وثيقة بالإسماعيلية [ويقصد جماعة الحشاشين تحديداً]، فكلاهما اختارتا اللونين الأحمر والأبيض شعارًا لهما، واتبعتا النظام نفسه والمراتب نفسها، فكانت مراتب الفدائيين والرفاق والدعاة تقابل المراتب نفسها لدى فرسان الهيكل وهي المبتدئ والمنتهي والفارس، كما تآمرت المنظمتان على “هدم الدين” الذي تظاهرت باعتناقه، وشيدتا الحصون العديدة للاحتماء بها.
ويتفق معه الباحثان الماسونيان كرستوفر نايت وروبرت لوماس في كتابهما الشهير “مفتاح حيرام” بتأكيدهما على أن أصل الماسونية يرجع إلى فرسان الهيكل.
وتحدث مؤرخون عدة في الشرق والغرب عن زيارة قام بها دي مونتبارد إلى قلعة شيخ الجبل سنان بن سلمان ليتلقى على يديه أصول العمل السري والاغتيالات، ما دفعهم إلى القول إن الحشاشين الإسماعيليين لعبوا دورا جوهريا في تطوير أنظمة الجمعيات السرية لتصل إلى وضعها الحالي في العصر الحديث.
الأفول كانت موقعة حطين سنة 1187 التي كسرت الممالك الصليبية هي بداية أفول الفرسان، حيث ارتكب الأستاذ الأعظم للمنظمة جيرار دي ريدفورد أخطاء فادحة، إذ خرج بثمانين من نخبة فرسانه لمباغتة صلاح الدين الأيوبي قائد جيوش المسلمين، لكن هذا الأخير أحاط بهم وقضى عليهم، فأخطأ دي ريدفورد مجددا واستسلم ليقع أسيرا مخالفا دستور الفرسان، ثم أطلق سراحه بعد حطين بفدية باهظة.
يؤكد مؤرخون أوروبيون أن صلاح الدين أطلق سراح معظم الأسرى بعد حطين باستثناء فرسان الهيكل وفرسان مالطة، ويرى الأستاذ بجامعة نونتنغهام ديفيد نيكول في كتابه “حطين 1187” أن إعدامهم لم يكن عملاً قاسياً إذا ما أخذ بعين الإعتبار أن صلاح الدين يعلم استعداد هؤلاء الفرسان للموت بشكل دائم، فكان القضاء عليهم وعدم القبول بالفدية وسيلة ناجعة للقضاء على القوة الضاربة للصليبيين.
حاول فرسان الهيكل دفع أوروبا إلى معركة أخرى مع صلاح الدين لاستعادة القدس، لا سيما بعد سقوط إمارة صفد التي كانت تضم أمنع قلاع فرسان الهيكل، وانضم الفرسان إلى الحملة الصليبية الثالثة التي يقودها ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد وملك فرنسا فيليب الثاني، لكن الصليبيين عجزوا عن استعادة القدس بالرغم من محاولاتهم المتكررة، فركزوا جهودهم على المدن الثلاث المتبقية لديهم وهي أنطاكية وطرابلس وصور، ونجحوا أخيرا في السيطرة على ميناء عكا عام 1191.
وبعد قرن كامل من احتلال الصليبيين لعكا، فتحها المسلمون المماليك عام 1292، وسقطت بذلك آخر قلاع فرسان الهيكل في الشرق الإسلامي، فنقل أستاذهم الأعظم جاك دي مولاي مقر قيادتهم إلى جزيرة قبرص، وقام بجولات واسعة في أوربا لتحريض البابا والملوك على شن حملة صليبية جديدة ففشل، لكنه تمكن من الحفاظ على امتيازات منظمته.
حاول فرسان الهيكل عام 1300 استعادة طرطوس على الساحل السوري، فنقلوا أسطولهم إلى جزيرة أرواد، لكن المماليك طردوهم منها بعد سنتين. ومن حينها صارت فرسان الهيكل منظمة عسكرية بلا هدف وجيشاً بلا معركة، ولم يعد في حوزتها سوى السيطرة المالية والنفوذ الاقتصادي.
وفي سنة 1305 صعد البابا كليمنت الخامس إلى الفاتيكان، وبناء على رغبة ملك فرنسا فيليب الرابع طلب من جاك دي مولاي وفولك دي فيلاريه الأستاذ الأعظم لفرسان مالطة الحضور إلى فرنسا لمناقشة دمج المنظمتين، وعندما وصل دي مولاي بدأ التحقيق معه باتهامات فيليب الرابع له بالهرطقة وممارسة السحر والخروج عن المسيحية، حيث أكد الملك أنه تمكن من اختراق منظمته باثني عشر جاسوساً تحققوا من تلك الاتهامات.
أمر فيليب الرابع باعتقال دي مولاي مع سبعين من قياداته، فاعترفوا تحت التعذيب بالاتهامات، وخلال السنوات الخمس التالية اعتقل مئة وخمسة وثلاثون آخرون واعترفوا جميعاً.
إحراق بعض فرسان الهيكل بالنار
أصدر البابا مرسوماً باعتقال فرسان الهيكل في كل أوربا ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم والتحفظ عليها، وفي عام 1310 أمر فيليب الرابع بإحراق أربعة وأربعين فارساً منهم أحياء وعلناً في باريس، وقرر البابا حل المنظمة وتحويل ممتلكاتها إلى منظمة فرسان مالطة.
وفي السنة نفسها انتهت اللجنة التي كونها البابا لمتابعة قضية فرسان الهيكل وتقديم تقرير عن المنظمة وممارساتها، وكانت النتيجة هي الحكم على دي مولاي بالإعدام على الخازوق عام 1314.
وانتهت بذلك (ظاهريا) قصة الصعود الاستثنائي لأحد أكثر التنظيمات العسكرية نفوذاً، والتي نجحت خلال قرنين فقط من السيطرة على أكثر من 900 مستوطنة، وامتلاك عشرات القلاع والحصون، فضلا عن ابتكارها لأحدث أساليب التسليح والتخطيط العسكري والأعمال المصرفية والنقل والزراعة والتجارة، والتي كان لها فضل في تطور المجتمع الغربي لاحقاً.
منظمة فرسان مالطة ما زالت هذه المنظمة قائمة حتى اليوم، بل تحولت إلى دولة ذات سيادة ومعترف بها من قبل المجتمع الدولي، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي ليس لها وجود جغرافي على الأرض ولا حدود، بل هي منظمة تتخذ من قصر مالطة بمدينة روما مقرا لها، وأعضاؤها الذين يعيشون في شتى أنحاء العالم هم مواطنوها.
الأسد (يسار) يُمنح الوشاح الأحمر لإعلان قبوله عضوا ومواطنا في منظمة ودولة فرسان مالطة عام 2008
وكما هو حال الجمعيات السرية القائمة اليوم، فإنها تزعم أن نشاطها يقتصر على الأعمال الخيرية والطبية، حيث تدير مئات المستشفيات وتساعد في عمليات الإنقاذ والإسعاف في أكثر من 120 دولة حول العالم، إلا أنها تعلن أيضا أن هدفها الأساسي هو حماية الحق المسيحي في الحج إلى القدس، وهو الهدف الظاهري الذي أنشئت من أجله إبان الحروب الصليبية.
وتضم قوائم أعضاء المنظمة عددا من كبار السياسيين والمتنفذين في العالم، مثل رونالد ريغان وتوني بلير والملكة إليزابيث، إضافة إلى عدد من المسؤولين العرب، مثل رئيس النظام السوري بشار الأسد.
وقد أنتجت قناة الجزيرة في عام 2008 فيلما وثائقيا يبحث في علاقة دولة فرسان مالطة بعمليات عسكرية قذرة في العالم الإسلامي، وأهمها المشاركة في غزو العراق عبر شركة “بلاك ووتر” الأمنية.
اتهامات خطيرة هناك ثلاثة أنواع من التهم التي وجهت لفرسان الهيكل وهي:
1- الهرطقة: إهانة المسيح وإنكار ألوهيته، البصق على الصليب والتبول فوقه، احتقار القداس ورجال الكنيسة، وإنكار المقدسات.
2- الجرائم الأخلاقية: الشذوذ الجنسي الجماعي والمنظم، وابتكار طقوس للترقي داخل المنظمة تتضمن ممارسة الشذوذ وتقبيل أعضاء التناسل.
3- الوثنية: عبادة رأس حجري لكبش ذي قرون اسمه بافوميت، عبادة وثن العذراء السوداء، وعبادة وثن لساحرة على شكل قطة سوداء.
بافوميت بريشة إليفاس ليفاي
وهذه الأفعال كانت تمارس في سرية تامة، فلم يكن للمنظمة سجلات علنية بل تحفظ كل أوراقها داخل كنائسها وقلاعها بسرية بالغة.
انقسم المؤرخون بشأن هذه الاتهامات إلى قسمين، الأول يرى أنه تم تلفيقها لفرسان الهيكل بعد أن حقد عليهم الملوك لتزايد قوتهم، وأن اعترافهم جاء تحت التعذيب.
أما الفريق الثاني فيرى أنها منظمة مهرطقة غايتها القضاء على المسيحية، حيث اعترف الفرسان بالتهم كلها في دول أخرى غير فرنسا دون تعذيب، بل كان بعضهم في حماية ملوك إنجلترا وإسبانيا والبرتغال ومع ذلك اعترفوا بالهرطقة والشذوذ الجنسي وهي جرائم تستحق الإعدام في أوربا البابوية.
كما أن عبادة أوثان محددة هي ليست من ذلك النوع من التهم الذى يختلقه أحد ويقر به تحت وطأة تعذيب، فهذه تهم لم يقر بها أحد غيرهم، وكان يمكنهم أن ينكروها بعد اعترافهم بما هو أخطر من الهرطقة والشذوذ.
ما هو معبودهم؟ تعددت النظريات لتفسير رمزية بافوميت، فرأى البعض أن هذه الرأس الحجرية ترمز لرأس يوحنا المعمدان (النبي يحيى) التي قطعها هيرود، فكان فرسان الهيكل يرون أن يوحنا المعمدان هو المسيّا الحقيقي وأن عيسى المسيح نبي كذاب. وقال آخرون إن الفرسان عثروا حقا على رأس يوحنا المعمدان في الحملة الصليبية الرابعة، بينما ذهب رأي ثالث إلى أن رأس بافوميت ترمز إلى رأس دي بايان مؤسس فرسان الهيكل، كما فسره آخرون بأنه يرمز إلى أزموديوس الجني الحارس الذي ساعد سليمان في بناء الهيكل.
رسم لطقس عبادة بافوميت التي اقتبسها الماسون من فرسان الهيكل أورده الماسوني الفرنسي ليو تاكسيل في كتاب نشره عام 1884 لفضحهم
أما هوج شونفيلد فقام بتحليل كلمة بافوميت Baphomet وفقا لشفرة أتباش اليهودية القديمة واستنبط أنها تعني كلمة صوفيا Sophia، أي ربة الحكمة الإغريقية وكل ربات الحكمة الأخريات ومنهن إيزيس المصرية، ويدل على ذلك أن فرسان الهيكل قدسوا رموزا وأفكارا مصرية قديمة تختلط بالتقاليد اليهودية.
وتشير الرسوم والتماثيل إلى تشابه رأس بافوميت مع “كبش مِندِس” الذي كان يُعبد في مصر وبابل على أنه تمثيل للشيطان إبليس، حيث قالوا إن إبليس دخل الجنة في جلد أفعى ليشجع الإنسان (آدم وحواء) على اكتساب المعرفة بالأكل من الشجرة، وإن إبليس عندما يهبط إلى الأرض فإنه يتجسد في هيئة كبش له قرون.
وكانت الأساطير المصرية تقول إن إيزيس تعلمت السحر من والدها “سِب”، فجسدها الكهنة في صورة امرأة لها تاج على هيئة قرنين تتوسطهما الشمس. وإذا أعدنا قراءة هذه الرمزية في ظل الوحي الإسلامي فسنجد تطابقا عجيبا مع الأحاديث النبوية التي تحظر على المسلمين الصلاة في وقتي الشروق والغروب لأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان، مما يقوي اعتقادنا بأن إيزيس هي إحدى تجسدات الشيطان نفسه.
وتقول أساطير الفراعنة إن “حورس” الذي يُصور على هيئة صقر قد نتج عن تزاوج إيزيس مع أخيها أوزيريس، وإنه سعى للانتقام من جده “سب” الذي قتل أباه، فأصيبت إحدى عينيه ليبقى أعوراً بعين واحدة تمثل الشمس [انظر مقال الوثنية].
ولا نجد لهذه الأساطير في مناهج البحث الغربية تأويلات أبعد من الربط فيما بينها وفي ضوء ما قاله كتبة الأساطير نفسها، كما لا نجد لدى المؤرخين والفقهاء المسلمين في القرون الماضية سوى محاولات لفهم ما رواه لهم أهل الكتاب بعد إخفاء وتحريف الكثير، وذلك قبل أن تُكتشف في العصر الحديث الكثير من الأساطير إبان الفتوحات الكبيرة في استخراج الآثار واكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية.
كما نجد تشابها كبيرا بين حورس ذي العين الواحدة وبين الأعور الدجال الذي ورد ذكره فيه الحديث النبوي لدى المسلمين: {لم يُبعث نبي قبلي إلا حذر قومه من الدجال الكذاب} [رواه أحمد].
ويمكن القول إن إيزيس المصرية تحل أيضا سر العذراء السوداء، فهي تُجسد بتمثال لسيدة سوداء تحمل بين يديها رضيعًا أسود، لكن الكاثوليك في أوروبا كانوا يظنون أن فرسان الهيكل أرادوا بذلك تحقير العذراء والمسيح، وظل هذا الاعتقاد سائداً حتى القرن الثامن عشر عندما اكتشف باحثون في الآثار المصرية أن العذراء السوداء ليست سوى أم الحكمة والمعرفة ومصدر الخصوبة (إيزيس) وهي تحمل وليدها حورس، وهو الرأي الذي دافع عنه المؤرخ إيان بيغ والبروفيسور ستيفان بينكو، كما أثبته بالوثائق والصور المؤلفان لين بيكنيت وكلايف برنس في كتابهما المنشور عام 1994 “كفن تورينو: صورة من؟ كشف الحقيقة الصادمة”.
واحد من بين نحو 180 تمثالا للعذراء السوداء المتبقية حتى اليوم في فرنسا
ورجح باحثون -ومنهم إيان بيغ في كتابه “وثن العذراء السوداء”- أن دي كليرفو هو الذي ابتكر هذه العبادة عندما نظم مئتين وثمانين أنشودة، يتضمن كثير منها مقولة مأخوة من نشيد الأنشاد التوراتي تقول “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم” [1: 5-6]، وهي عبارة تم نقشها على كثير من تماثيل العذراء السوداء، وما زال نحو خمسمئة تمثال منها قائما وتؤدى عندها طقوس العبادة المسيحية في كنائس أوروبا.
بناء على ما سبق، يمكن القول إن العقيدة التي كان يخفيها فرسان الهيكل وكل من تبعهم لاحقا في الجمعيات السرية المتعددة هي قريبة جدا من الديانة المانوية الفارسية القديمة، والتي تدور حول ثنائية الآلهة، بحيث يكون الشيطان نداً للإله وأجدر منه بالعبادة والتعظيم، لذا نرى في بعض طقوسهم رموزا تبدو على النقيض من الطقوس الدينية للكاثوليكية، كالقداس الأسود والعذراء السوداء. ونظرا لممارسة الجمعيات السرية في درجاتها العليا طقوس السحر والاتصال بالشياطين فلا يُستبعد أن تتلقى “مكافأتها” من الشياطين بمزيد من النفوذ والملذات.
ولادة الجمعيات السرية لم يكن عدد المعتقلين والمحاكَمين سوى بضع مئات، بينما يقدر باحثون أن عدد الفرسان كان يتراوح ما بين 20 و50 ألفا، وقد اختفوا فور إعلان حل المنظمة، كما اختفت جميع وثائقهم وبياناتهم المالية وحتى ثرواتهم سفن أسطولهم.
قرر باحثون أن فرسان الهيكل انضموا إلى فرسان مالطة، بينما رأى آخرون أنهم اختفوا في جبال الألب السويسرية كما اندمج بعضهم في الحياة المدنية بدول أخرى وخصوصا اسكتلندا التي كانت خارج سلطة البابا، أما في البرتغال فاحتفظوا بكيانهم بعد تغيير اسمه إلى فرسان المسيح وظل قائما حتى أواخر القرن السادس عشر، وقد ساهمت هذه المنظمة في حركة الكشوف الجغرافية التي انطلقت من إسبانيا والبرتغال، فكان منهم هنري الملاح وفاسكو دي غاما، كما أبحر كريستوفر كولمبوس على متن سفن تحمل شعارهم لاكتشاف أميركا، وهو يحمل أحلاما توراتية لاستعادة أورشليم وبناء الهيكل بعد اكتشاف العالم الجديد ونهب ثرواته.
“أصول الماسونية تعود إلى عهد الحملة الصليبية الأولى، والذي أسسها في فلسطين هو أول ملوك أورشليم جودفروا دى بويون”. [كتاب الجمعيات السرية والحركات الخفية للمؤرخة نستا وبستر، نقلا عن نشرة أصدرها لمؤرخ الماسوني شيفالييه دي باراج عام 1747].
أما مؤرخو الماسونية والجمعيات السرية فيقولون إن محافل الماسون -التي كانت في الأصل أماكن لتجمع البنائين- أصبحت ملاذاً مثالياً لفرسان الهيكل، فهي الفرع الوحيد من المنظمة الذي نجا من الحل والتدمير والملاحقة، وهكذا بدأت نشأة الماسونية على يد فرسان الهيكل.
ويقول الأستاذ الأعظم للماسونية في القرن التاسع عشر الجنرال الأمريكي ألبرت بايك في كتابه “عقيدة الطقس الأسكتلندي القديم وآدابه” المنشور عام 1872: “إن هدف فرسان الهيكل الظاهر الذي أسبغ عليهم الشرعية ومنحهم الهبات وأكسبهم السلطة كان حماية الحجاج الكاثوليك، لكن الهدف الحقيقي الذي انخرطوا من أجله في الحملات الصليبية هو العمل على إعادة بناء هيكل سليمان كما وصفه النبي حزقيال وصفاً مفصلاً في السفر المسمى باسمه، فالهيكل حين يعاد بناؤه باسم الكاثوليكية وتحت راياتها سيكون قبلة العالم ومركز ومصدر أمنه وسلامه، وسيحكم بنو إسرائيل من خلاله كل الشعوب”.
ألبرت بايك
أما الهدف الثاني كما يقول بايك فهو إزالة الكاثوليكية وتأسيس عالم جديد له ديانة جديدة تستمد عقائدها من “التقاليد المسيحية الأولى والنقية” التي يمثلها يوحنا المعمدان. فالقديس يوحنا هو الأب الروحي لكل الحركات الغنوصية التي تؤمن بأن خلاص البشر في المعرفة والأفكار وليس في مطلق الإيمان، وهي الحركات التي يمتزج فيها نموذج يوحنا المعمدان بالتراث الشفوي اليهودي الباطني وما يحويه من معارف وأسرار القبّالاه، وفقا لكتاب بايك.
ويضيف بايك أنه كانت توجد في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى طائفة من المسيحيين من أتباع يوحنا وكانت تعرف التاريخ الحقيقي للمسيح والتقاليد اليهودية وروايات التلمود والقبالاه، وهي طائفة تعارض كنيسة القديس بطرس ومسيحها (عيسى) المتمثلة في الفاتيكان.
وتعد هذه الكنيسة سرية للغاية، ويقودها أحبار عظام يتسلسلون إلى يوحنا المعمدان، وفي زمن الحروب الصليبية كان الحبر الأعظم لها يدعى ثيوكليتس، وقد تعرف على دي بايان وأطلعه على أسرار كنيسته ونصّبه خلفاً له على رئاسة الطائفة، وهذا اعتراف من بايك بأن منظمة فرسان الهيكل لم تكن سوى واجهة مسيحية لكنيسة تعادي الكاثوليكية نفسها وتنتسب إلى يوحنا وتؤمن بعقيدة غنوصية قبالية يهودية.
ويقول بايك إنه حين كان دي مولاي ينتظر حكم الإعدام في السجن أمر بتكوين أربعة محافل مركزية، الأول في نابولي لقيادة فرسان الهيكل في شرق أوروبا، والثاني في إدنبره من أجل قيادتهم في غربها، والثالث في ستوكهولم لفرسان الشمال، والرابع في باريس لفرسان الجنوب .كما انشطرت المنظمة إلى عشرات الجمعيات السرية والمنظمات الخفية وجماعات السحر والشعوذة، وتحولت مقاطعة لانجدوك جنوب فرنسا -وهي معقل فرسان الهيكل- إلى مأوى للملحدين والمهرطقين واليهود والوثنيين. ويؤكد بايك أن الماسونية الاسكتلندية هي الوريث الأقدم لفرسان الهيكل والامتداد الشرعي لها.
وكان من أبرز الجماعات الإلحادية والشيطانية التي نشطت في مناطق نفوذ فرسان الهيكل جماعة “الألبيين”، والتي حكمت عليها الفاتيكان عام 1139 بالهرطقة وبدأت بمطاردتها، ثم انضمت إلى الجمعيات السرية المشابهة التي انبثقت عن فرسان الهيكل بعد حلّها.
بيل كلينتون كان عضوا في تنظيم دي مولاي الدولي أثناء شبابه (demolay.org)
وتوجد في أوربا والقارة الأمريكية اليوم عشرات المنظمات السرية التي تقول إنها وريثة فرسان الهيكل، وكثير منها تضع في اسمها الهيكل أو فرسانه أو اسم أحد أساتذة فرسان الهيكل العظام، كما تحاكي في تنظيمها ودرجاتها ورموزها وطقوسها فرسان الهيكل.
ومن أهم هذه المنظمات تنظيم دي مولاي الدولي المخصص للشباب في الولايات المتحدة، الذي كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون من أعضائه [حسب موقع المنظمة]، ومنظمة فرسان الهيكل الاسكتلندية، وعصبة فرسان الهيكل الاسكتلندية، ومنظمة هيكل الشمس، ومنظمة دير صهيون التي سيأتي ذكرها بالتفصيل لاحقاً.
ومن أكثر المنظمات انتشارا اليوم “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” OSMTH، وهي تؤكد أنها امتداد لفرسان الهيكل وأن دي مولاي عهد بالأستاذية إلى يوهانس لارمينيوس ثم توالى الأساتذة العظام دون انقطاع، إلى أن أخرجها الماسوني الفرنسي برنارد ريموند فابري بالابرا إلى النور سنة ١٨٠٤، وأن نابليون بونابرت كان أباً روحياً لها. وفي سنة 2001 اعترفت الأمم المتحدة بهذا التنظيم كمنظمة عاملة من أجل السلام ووضعتها في قائمة الجمعيات المدنية التي تحظى باستشارة منظمات الأمم المتحدة لها في الأزمات وتفويضها في فض النزاعات. بينما تعلن المنظمة أنها تهدف إلى الحفاظ على الأراضي المقدسة في أورشليم وحولها، وإجراء البحوث الأثرية، ودعم السلام. وكثيرا ما يتم إرسال وفودها تحت غطاء الشرعية الدولية من الأمم المتحدة إلى أماكن النزاعات في العالم الإسلامي.
كتاب أصدره “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” عام 2017 بمناسبة “مرور خمسمئة عام على التأسيس”.
منظمة دير صهيون طبقاً للوثائق السرية التي نشرها الفرنسي بيير بلانتار في ستينيات القرن العشرين فإن جذور دير صهيون تعود إلى جمعية سرية غنوصية لا يعرف تاريخها، حيث أسسها رجل اسمه أورمس ومزج فيها المسيحية مع الوثنية، ثم أعيد بناؤها -حسب بلانتار- سنة 1070 عندما اجتمع عدة رهبان في إيطاليا لتأسيس منظمة سرية اسمها دير أورفال، وشاركوا بأنفسهم في الحملة الصليبية الأولى. وبعد سقوط بيت المقدس في يد الصليبين ساهموا في انتخاب دي بويون ليكون أول ملوك مملكة أورشليم الصليبية، لأنه سليل الأسرة الميروفنجية المتحدرة من الملك داوود.
وفي السنة نفسها أسس هؤلاء الرهبان ديرًا في جبل صهيون حسب رواية بلانتار، وكانت مهمتهم الأولى هي البحث عن كنز هيكل سليمان الذي نهبه الرومان أثناء اجتياحهم أورشليم إبان ثورة اليهود عليهم سنة 70م، ثم إعادة تكوين الأسرة الميروفنجية وإعادتها إلى حكم فرنسا وصولا إلى حكم أوروبا كلها، وكانت منظمة فرسان الهيكل جناحاً عسكرياً لدير صهيون طوال مائة عام تقريباً.
اصطدم ملك فرنسا فيليب الثاني مع ملك إنجلترا هنري الثاني عام 1188 في معركة عند قلعة جيزور بفرنسا في صراع على شرعية الحكم، حيث تنافس كلاهما على أحقية تمثيل السلالة الميروفنجية، وكان النصر من نصيب فيليب الثاني، لكن المعركة تسببت بانشقاق فرسان الهيكل المؤيدة للإنجليز عن دير صهيون المنحازة للفرنسيين، وهكذا اندثرت آثار الجمعية السرية وظلت خفية ثمانية قرون كاملة، وفقا لمزاعم بلانتار.
وفي عام 1989 نشر بلانتار قائمة بأسماء أساتذة دير صهيون العظام، زاعما أنه كان هو نفسه أستاذها الأعظم ما بين عامي 1981 و1984، كما ادعى أن كلا من إسحق نيوتن وروبرت بويل وكيجان كوكتو وليوناردو دافنشي وفيكتور هوغو كانوا في القائمة، واشتهرت هذا الجمعية باسم أخوية صهيون (أخوية سيون)، ولا سيما بعد ظهورها مؤخرا في الرواية الشهيرة “شفرة دافنشي” للبريطاني دان براون، والتي تحولت إلى فيلم هوليودي.
وبعكس المنظمات التي انحدرت من فرسان الهيكل أو زعمت أنها هي فرسان الهيكل أو أحد فروعها، فقد قدمت دير صهيون نفسها على أنها هي الأصل وأن فرسان الهيكل فرع منها. ويعد بلانتار هو المصدر الوحيد لهذه الوثائق والمعلومات، ما دفع الكثيرين للتشكيك فيها، حيث يقول المؤرخ أحمد دراج في كتابه “وثائق دير صهيون بالقدس الشريف” إن المراجع الأوروبية تجمع على أن بناء دير صهيون في القدس لم يتم إلا بعد أن اشترى ملك صقلية روبرت أنجو المنطقة من السلطان محمد بن قلاوون عام 1335، كما أن وجود الدير هناك لا يعني بالضرورة ارتباطه بجمعية سرية.
أهم المراجع بهاء الأمير، اليهود والحركات السرية في الحروب الصليبية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2012.
ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة وتحقيق سهيل محمد ديب، مؤسسة الرسالة، 2002.
محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار الهلال، 1925.
أحمد دراج، وثائق دير صهيون بالقدس الشريف، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1968.
Charles G. Addison, The History of the Knights Templar, Longman, Brown Green, London, 1842.
Nesta Webster, Secret societies and submersive movements, Boswell Publishing Co. Lltd, London, 1924.
Christopher Knight and Robert Lomas, The Hiram Key, The Century Books, 1996.
Lynn Picknett and Clive Prince, Turin Shroud: In Whose Image? The Shocking Truth Unveiled, Stoddart, 1994.
Albert Pike, Morals and dogma of the Ancient and Accepted Scottish Rite of Freemasonry, published by the authority of The Supreme Council of the thirty third degree, Charleston, 1871.
M.p. Hall, The secret teachings of all ages, H.S. Crocker Company, San Francisco, 1928.
David Nicolle, Hattin 1187: Saladin’s Greatest Victory, Osprey Publishing, 1993.
تعد الماسونية في العصر الحديث الجمعية الأم لمعظم الأخويات والمنظمات والجمعيات السرية في العالم، وهي بدورها الوريث الأهم لأخطر الحركات السرية التي تشكلت عبر قرون، وكان آخرها منظمة فرسان الهيكل التي نشأت في ظل الحروب الصليبية وتم حلّها في أوربا لاحقا.
تستمد الماسونية الكثير من أفكارها ومبادئها من الفلسفات الباطنية (الغنوصية) واليهودية المحرفة والسحر والقبالاه، وهي مرتبطة على الأرجح بعبادة الشيطان، وترمي في النهاية إلى تحقيق سيادة بني إسرائيل على العالم عبر بناء هيكل سليمان في القدس.
ومنذ إعادة هيكلتها عام 1717، يحاول الماسون إخفاء الكثير من أسرارهم وأهدافهم وإظهار منظمتهم في صورة جمعية خيرية وأخوية عالمية، إلا أن توالي حركات الانشقاق وانكشاف الكثير من الأسرار دفعهم في النهاية إلى فتح بعض الملفات لنفي تهم المؤامرة عن أنفسهم، وللظهور في مظهر الانفتاح، كما عمدوا في العقدين الأخيرين إلى ضخ عدد لا يحصى من الأفلام والكتب التي تخلط الحق بالباطل عن الماسونية ومؤامراتها، ليصل عامة الناس إلى نتيجة سطحية مفادها أن الأمر كله ليس سوى اتهامات باطلة وهواجس ذهانية تُصنف عالميا تحت مسمى “نظريات المؤامرة”، لا سيما وأن هناك الكثير من الاتهامات الباطلة فعلا في وسائل الإعلام وكثير من المؤلفات، إلا أن وجودها لا ينفي الحقيقة عن الأبحاث الجادة، فالبحث الموضوعي الرصين مازال قادرا على كشف الكثير من حقائق هذه الجمعية السرية، وهو ما يسلتزم عدم الانشغال بالكميات الهائلة من الأكاذيب التي تشجع الماسونية على نشرها للتغطية على الحقيقة.
أصل الماسونية لا يمكن الجزم بأصل هذه الجمعية السرية طالما كانت وثائقها خفية، وطالما كان من الصعب التحقق من التسريبات والاعترافات ونتائج الأبحاث التاريخية بسبب تداخل الحقائق بالأباطيل، فقد تكون الوثائق والشهادات المتوفرة لدينا صحيحة إلا أن الشاهد عليها لا يكون سوى شخص واحد أو بضعة أفراد، ويكاد التحقق من موثوقيتهم شبه مستحيل.
لذا تظل الروايات المتعددة بشأن نشأة الماسونية وأصلها في مقام النظرية المعرضة للنقد والتمحيص، وهذا لا يمنع ترجيحنا لصحة أو ضعف أي منها دون جزم، كما لا يمنع أن نصل إلى نتيجة مؤكدة بشأن أهداف الماسونية الحالية وما تسعى إليه، بغض النظر عن لحظة نشأتها التاريخية.
وسنتعرض فيما يلي لأهم النظريات التي تتحدث عن أصل الماسونية، علما بأن الخلاف يقع غالبا في لحظة البدء والمؤسس الأول وليس في المراحل اللاحقة من تاريخ الماسونية الممتد لآلاف السنين، وصولا إلى لحظة ولادة محفل إنجلترا الأعظم عام 1717 في لندن التي تعد الإعلان الأول لنشأة الماسونية باسمها المتداول اليوم، مع أن وجودها السابق كان تحت أسماء وأنظمة وطقوس مختلفة.
أولا، الرواية الماسونية: هي ليست رواية واحدة، حيث نجد لدى الماسون أنفسهم روايات مختلفة، وقد يكون ذلك نتيجة العماء الذي تتعمد قيادة الجمعية العالمية أن تبقيه مسيطرا على أعضائها، بما فيهم أولئك الذين ترقوا إلى أعلى الدرجات، أو نتيجة التضليل المتعمد لعامة المجتمع بشأن نشأة جمعيتهم السرية.
ففي دستور الماسونية الأول الذي وضعه جيمس أندرسون عام 1723، قيل إن الجمعية بدأت في فجر البشرية على يد آدم عليه السلام، مرورا بالأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وسليمان، ثم الملكين يوليوس قيصر وجيمس الأول.
غلاف الدستور الأول للماسونية
وحسب “مخطوطة الشوك” الماسونية (Thistle Manuscript) التي تعود إلى عام 1756، فإن الملك النمرود –الذي يقال إنه بنى مدينة بابل في العراق وكان معاصرا لإبراهيم عليه السلام- هو الذي أسس الماسونية قبل عصر سليمان عليه السلام، ووضع رموزها ومصطلحاتها ليميز أعضاءها عن بقية الناس.
ونجد في بعض المؤلفات من يزعم أن الماسونية سبقت البشرية نفسها، فينسبها إلى الكائنات الفضائية التي عرفت الحضارة قبل نشأة البشر على هذا الكوكب مثل الدكتور أوليفر [كتاب تبديد الظلام، ص 82]، ومع أن هناك من الماسون أنفسهم من يسخر من هذا الطرح، إلا أن له أصل مفهوم، فالجمعيات السرية تبث منذ سنوات أفكارا عن احتمال هبوط كائنات فضائية في المستقبل القريب لإنقاذ البشرية من حروب وكوارث محتمة، وقد عملت عشرات الأفلام والمسلسلات الهوليودية على تكريس هذه الفكرة، والتي يرى فيها البعض مقدمة لخروج الدجال Antichrist والشياطين التي تسير في موكبه.
ويقول مؤرخون ماسون آخرون إن سليمان عليه السلام هو الذي أسس الماسونية أثناء بناء الهيكل، وهو أول أستاذ أعظم.
المحفل الماسوني الأعظم بلندن
وفي كتابه “تاريخ الماسونية العام”، يستعرض الماسوني اللبناني الراحل جرجي زيدان تاريخ الجمعيات السرية القديمة التي يعتبرها الوسيلة الوحيدة لنشر العلم والخير، ثم يزعم أن الماسونية بدأت سنة ٧١٥ق.م على يد الملك الروماني نوما بومبيليوس الذي أسس أخويات للبنّائين وعهد إليهم مهمة بناء روما بهياكلها وأسوارها، ثم توسع نشاطهم وتراكمت خبراتهم الإبداعية مع تناقلهم لأسرار المهنة التي احتفظوا بها لأنفسهم على مر القرون، فالمؤرخ زيدان يشترك مع كافة زملائه الماسون بنسبة أصل الجمعية إلى العاملين في حرفة البناء، إلا أنه كان أكثر تظاهرا بالبراءة في الاعتقاد بأنها لم تكن سوى نقابة أو نادٍ اجتماعي للبنائين، ويعترف آخرون بأن حرفة البناء لم تكن سوى الجزء المعلن من عقائد وعلوم وطقوس الماسون الذين يخلطون الهندسة بالسحر والسياسة.
وتدّعي بعض المحافل الماسونية الكبرى الجهل بأصل الجمعية، فتجعل من تأسيس المحفل الإنجليزي عام 1717 هو نقطة البداية فقط، حيث يقول عوض الخوري في كتابه “تبديد الظلام” -الذي سيأتي ذكره لاحقا- إنه أرسل إلى كبار المحافل رسائل يسألها عن أصل الماسونية، فجاءه الرد من “الشرق المصري الأعظم” بأنهم لا يعرفون شيئا، في حين رد عليه “الشرق الأعظم في لندن” بقوله: “لا شيء عندنا ثابت عن تاريخ تأسيس الماسونية، فجل ما نعرفه هو أنها وجدت عندنا سنة 1717، ولا نعرف تاريخا ثابتا لتأسيسها”، ولكن لم ترد عليه كبرى المحافل العالمية التي طالبها بالتوضيح قبل أن يؤلف كتابه.
ثانيا، الأصل البابلي: بحسب هذه النظرية، يُعتقد أن الماسونية ظهرت في المرحلة التي بدأ فيها كتمان ما جاء فيها التوراة وإعادة كتابتها بعد ادعاء فقدها لطرح النسخة المحرفة المتداولة اليوم، فبعد غزو الملك البابلي نبوخذ نصر للقدس وسبي اليهود واقتيادهم عبيدا إلى بابل سنة 586 ق.م، حاولت نخبة من الأسباط الإسرائيلية الاثني عشر (سلالات أبناء النبي يعقوب) إعادة تشكيل الدين نفسه بتحريفه وبث نقيضه لتضليل البشرية، وذلك بوضع خطة محكمة لمحاربة الوحي وكل الأنبياء الذين سيعيدون إحياءه، واستفادوا في ذلك من تجارب الجمعيات السرية السابقة، فشكلوا جمعيتهم اليهودية السرية الخالصة التي كانت نواة الماسونية الحديثة، وقد حافظت على معظم طقوسها وأسرارها وأهدافها الجوهرية، وعلى رأسها إعادة اليهود إلى القدس وبناء هيكل سليمان.
ثالثا، القوة الخفية: لم نجد هذه الرواية لأصل الماسونية سوى لدى الكاتب اللبناني الراحل عوض الخوري، ففي كتاب “تبديد الظلام أو أصل الماسونية” الذي نشره عام 1926، يصف الخوري نفسه بأنه كاتم أسرار رئيس البرازيل برودنت دي مورايس، وهو ما يقابل اليوم مصطلح أمين السر أو السكرتير، ويقول إن الرئيس البرازيلي دبّر عام 1897 لقاءً يجمع بين الكاتب وتاجر مجوهرات روسي الأصل ويعمل في البرازيل اسمه لوران جورج صموئيل، حيث قدّم لوران للرئيس وثيقة باللغة الفرنسية مترجمة عن مخطوط قديم باللغة العبرية، مطالبا الرئيس بنشرها في أصقاع الأرض ليكتشف الناس حقيقة وأصل الماسونية، فطلب الرئيس من سكرتيره الخوري أن يترجمها إلى العربية لتُنشر أيضا في العالم الإسلامي عن طريق الدولة العثمانية التي كانت مؤسساتها تعاني آنذاك من التغلغل الماسوني، حيث كان الخوري قد هاجر سابقا من لبنان إلى البرازيل ولديه علاقات بالكثير من العرب والمسلمين في أقطار الدولة العثمانية.
يقول الخوري إنه ترجم الوثيقة إلى العربية تحت إشراف لوران الذي لم يسمح بخروجها من بيته، إلا أنه لم ينشر النسخة العربية عندئذ لسبب لم يذكره، ثم ضاعت منه الترجمة بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى كما يقول، فاسترجع نسخة ثانية من الترجمة كان قد تركها مع لوران، ونشرها أخيرا عام 1926.
وبحسب الكتاب، فإن لوران هو آخر أحفاد اليهود التسعة الذين أسسوا الماسونية في القرن الميلادي الأول، ويقول إن جده صموئيل أخبر ابنه جورج (والد لوران) بأن والد صموئيل الذي يدعى جوناس كان يهوديا واعتنق المسيحية بعد تعلقه بفتاة بروتستانتية تدعى جانيت، وعندما علمت زوجته المسيحية بالمؤامرة التي يتوارها أحفاد المؤسسين التسعة شجعته على نشر الوثيقة.
وتقول جانيت إن العالم كان قد هلك على يد امرأة (حواء حسب الرواية التوراتية) لكن الله يحب أن يكون خلاص العالم على يد امرأة أيضا، وتقصد بذلك نفسها بحرصها على نشر الكتاب وفضح الماسونية اليهودية. ويقول المترجم إنه بالرغم من كونها بروتستانتية، فلم تكن معادية للكاثوليكية والإسلام اللذين تناصبهما الماسونية العداء.
وعندئذ عهِد جوناس وجانيت لابنهما صموئيل -الذي نشأ نصرانيا- بنشر الكتاب، لكن صموئيل نقل المهمة إلى ابنه جورج بعد أن شعر بقرب موته بسبب المرض، ومات صموئيل بعد كشفه عن السر والوصية بأيام قليلة عام 1883. ثم بدأ جورج بترجمة المخطوط العبري إلى الفرنسية، ولم يستطع إكمال المشروع بالترجمة إلى الإنجليزية حيث مات بدوره بعد موت والده بسنة وهو في سن الرابعة والأربعين، إلا أنه كان قد استبق موته بثلاثة أشهر وأوصى ابنه لوران بمتابعة المشروع وترجمة المخطوط إلى الإنجليزية ثم نشر النسختين الفرنسية والإنجليزية حول العالم، وهو ما فعله حسب قوله.
وبحسب الوثيقة، فإن نشأة الماسونية تعود إلى عام 43 للميلاد، أي بعد السبي البابلي بمئات السنين، حيث يقول إن ملك فلسطين الروماني هيرودس أغريباس -وهو ابن هيرودس الأكبر الذي حاول قتل المسيح طفلا- شكّل مع ثمانية رجال يهود جمعية سرية اسمها “القوة الخفية”، وعلى رأسهم حيرام أبيود الذي اقترح الخطة على الملك. وكان هدفهم الوحيد هو القضاء على دعوة المسيح عيسى عليه السلام التي كانت قد أخذت بالانتشار بالرغم من صلبه كما يزعمون، وقد ظلت الجمعية تتوارث سرها الخطير وتمارس التآمر حتى قرر قادتها في منتصف القرن الثامن عشر إعادة تشكيلها وفق طقوس وهيكلية جديدة، وبعد منازعات وصراعات فيما بين القادة أنفسهم تم الاتفاق على تسميتها بالماسونية “فرماسون” أي البناء الحر، وتأسيس هيلكها الأول تحت مسمى محفل إنجلترا الأعظم عام 1717.
ويتضمن الكتاب حوارات مطولة لما جرى بين حيرام أبيود وهيرودس أغريباس منذ بدء التخطيط لتشكيل الجمعية، حيث يتم الاتفاق منذ البداية على أن يظل أمرها سرا لا يعرفه اليهود ولا أحد آخر سوى التسعة المؤسسين، كما لا يُكشف السر إلا للورثة ولمن يترقى في درجات الجمعية إلى أعلى المراتب، ولم يكن يسمح لأعضاء الجمعية بالبوح بسر انتمائهم لها أو وجودها حتى لعائلاتهم، وفي حال الشك بأن أحدا باح بشيء من الأسرار سرعان ما يحكم ثلاثة قضاة من الجمعية بقتله، وينفذون الحكم دون منحه فرصة الدفاع عن نفسه، ومع ذلك فقد قرر جوناس أن يكشف هذا السر بعد نحو سبعة عشر قرنا كما يقول.
ويقول عوض الخوري إن هدف الرئيس البرازيلي من نشر الكتاب هو خدمة الدين المسيحي، ويضيف أن الرئيس قال له أيضا إنه يسعى من نشره بالنسخة العربية في تركيا (العثمانية) لخدمة “الدين المحمدي”، على اعتبار أن اليهودية عدو مشترك لهما.
وبما أن هذه الرواية لا تملك أي شاهد آخر سوى شخص اسمه لوران، فلا يمكن التحقق من صحتها حتى لو بدت منطقية، مع أن لدينا شكوكا عديدة، فكيف تجرأ لوران على تحدي هذه الجمعية ونشر سرها الذي ظل خفيا مدة طويلة بالرغم من خطورتها، حيث لا يبدو في التفاصيل التي ذكرها الخوري أن هناك أي خطر أو تهديد فضلا عن اتخاذ إجراءات للحذر، كما يبدو أن الرواية تجعل من الكاثوليكية العدو الأساسي لليهود بل سببا لنشأة الماسونية كلها، ومع أننا نقر بهذا العداء إلا أنه في رأينا لا يقدم تفسيرا شاملا ووافيا.
ونحن نرجح أن التأسيس كان أثناء السبي البابلي، ولا نستبعد أن تكون جمعية القوة الخفية قد وجدت فعلا عام 43م، إلا أنها قد لا تكون هي الأصل.
مانلي هول
تاريخ الماسونية تعرضنا في مقال الجمعيات السرية إلى توارث تلك الجمعيات علوم السحر والقبالاه على مر القرون منذ ما قبل التاريخ، ويقر كبار المؤرخين الماسون بالإرث الذي ورثوه عن تلك الجمعيات، ويعتبرون أنها كانت بمثابة الجامعات التي تحتفظ بأهم أسرار الوجود من الاندثار والتحريف.
يقول الماسوني الكندي الذي بلغ الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي بي هول إن “العديد من المفكرين الكبار في العصور القديمة كانوا منتسبين إلى الجمعيات والأخويات السرية التي تمارس طقوسا غريبة وغامضة، وكان البعض منها قاسيا جدا”، ويعتبر أن العبادات الوثنية الباطنية لكل من إيزيس وسبازيوس وسيبيل وباخوس وإلوسيس من أهم الأمثلة على الإرث العقائدي الذي ورثته الماسونية.
يرى هول أن معظم الجمعيات السرية في العالم القديم كانت فلسفية ودينية، ثم بدأت في العصور الوسطى بالاهتمام بالسياسة، وأن هذا الاهتمام ظل قائما حسب قوله في الجمعيات السرية الحديثة في الغرب، فجميع المؤلفين الماسون ينفون عن أسلافهم القدماء أي طموح سياسي فضلا عن التآمر، لكن بعضهم -مثل هول- يقر بالدور السياسي للماسونية حديثا فيما يصر آخرون على النفي.
ويبدو أن هناك فترة انقطاع بين الجمعيات السرية الناشطة تحت غطاء الوثنيات القديمة وبين ظهور فرسان الهيكل في القرون الوسطى إبان الحروب الصليبية، وقد أشرنا في مقال “فرسان الهيكل” إلى أنهم كانوا الجمعية الأم للماسونية في أوربا، وهو ما يؤكده الكثير من الماسون حاليا مثل الباحثَين كرستوفر نايت وروبرت لوماس في كتابهما الشهير “مفتاح حيرام”.
ويبدو أن تاريخ أسلاف فرسان الهيكل والماسون في فترة الانقطاع تلك مازال غير موثق من قبل المؤرخين الماسون، وهي الفترة التي شهدت صعود الإسلام وتوسع دولته على حساب أقوى الإمبراطوريات في العالم، حيث لم يشهد التاريخ انتشارا لأي دين سابق أو لاحق بمثل تلك السرعة والاندفاع.
وإذا كانت الماسونية هي وليدة فكرة واحدة تتنوع أشكالها ومسمياتها عبر التاريخ منذ وضعها على يد محرفي التوراة وواضعي أسس القبالاه الشيطانية، فلا نستبعد أن تنسب إليها المؤامرات اليهودية والحركات الباطنية التي ولدت داخل جسد الدولة الإسلامية، بدءا من محاولات قتل يهود المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، ببناء مسجد الضرار وتسميم الطعام، ومرورا بالفتن التي اشتعلت بين كبار الصحابة في عصر الخلافة الراشدة، وعلى رأسها محاولات اليهودي عبد الله بن سبأ وجماعته في تحريف الإسلام وبث بذور الباطنية فيه، [انظر مقال الإسماعيلية]، ووصولا إلى الفتن الكبرى التي قادتها حركة الحشاشين وتأسيس دولة باطنية كبرى كادت أن تقضي على الدولة العباسية، وهي دولة العبيديين الفاطميين.
فيثاغورس
ويبدو أن الجمعيات السرية المشكلة على طريقة فيثاغورس وتعاليمه كانت قد وجدت لها قبل ذلك موطئ قدم في قلب الدولة العباسية، حيث ينقل محمد الزعبي (الذي انشق عن الماسونية) نصا عن برهان الدين البقاعي يقول فيه إن قوما برئاسة شخص قرطبي يدعى محمد بن مسرة كانوا يلتقون بمكان يدعونه نادي فيثاغور، ويعلق الزعبي بقوله إنه كان يسمع داخل المحافل كلمة فيثاغور دون أن يدرك معناها حتى اطلع على هذا النص [الماسونية في العراء، ص 303].
كما يقول الزعبي إن نوادي الجمعيات السرية العباسية كانت تقوم بطقوس التكريس المعروفة اليوم مع بعض التعديلات، حيث يبدأ التكريس بقراءة آيات من القرآن الكريم للتضليل، ثم تتابع الطقوس الشيطانية مع تهديد المنتسب الجديد بالقتل إن كشف أسرار الجماعة [الماسونية في العراء، ص 336]، ولعل كتابَي ألف ليلة وليلة ورسائل إخوان الصفا -اللذين لا يُعرف مؤلفوهما يقينا- هما من أوضح الأمثلة الباقية إلى اليوم على نشاط الجمعيات السرية وتغلغلها في الجسد الإسلامي آنذاك.
ويعتقد البعض أن أسلاف الماسون كانوا حاضرين داخل الدولة الإسلامية على شكل جمعيات حرفية للبناء، وهو اعتقاد يدعمه اعتراف الماسون بنسبة جمعيات البنّائين عبر التاريخ لجمعيتهم، حيث يقال إن المهندسين الماسون كانوا يستوطنون القسطنطينية تحت حماية البيزنطيين، وعندما أراد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بناء المساجد الضخمة في دمشق والقدس والمدينة المنورة استدعى هؤلاء البنائين الكبار لتشييد تلك المباني العملاقة مقابل مكافآت مجزية، ثم تغلغل البناؤون في المنطقة أكثر على يد العباسيين عندما عهد إليهم أبو جعفر المنصور مهمة تشييد عاصمته بغداد، فأرسل إلى عماله في الكوفة وواسط والبصرة يطلب منهم إمداه بالبنائين والمهندسين، ومع أن ابن الأثير الذي يذكر هذه الرواية في كتابه “الكامل في التاريخ” لا يوثق سوى اسمي الحجاج بن أرطاة وأبي حنيفة لتخطيط بغداد وإنشائها، لكن المؤرخين الماسون مثل جرجي زيدان يؤكدون أن الماسون كانوا حاضرين آنذاك، لا سيما وأن ابن الأثير يقول “ومن عادة البنائين إذا اتفقوا على بناء بلدة أو سور أو معبد يجعلون منازلهم من الخشب بجوار البناء، يقيمون فيه للطعام والرقاد والاجتماعات السرية ومحاسبة العمال، وكانوا لا يسمحون لأحد أن يدخل عليهم أو يطلع على أعمالهم، وذلك حتى يتم البناء فينصرفون بعد أن ينال كل منهم حقوقه، ويضيف أن رسولا من ملك الروم جاء بغداد وطاف فيها مع ربيع، فقال له ربيع كيف رأيتها؟ فقال رأيت بناءً حسناً إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة، فأخرجهم ربيع خشية أن يكون فيهم جواسيس، ويقول أيضا “كان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاري بحبتين”.
واستنتج البعض من كلام ابن الأثير أن طبيعة عمل البنائين السرية وعدم السماح للغرباء بالانضمام إليهم ترجح أنهم كانوا بالفعل أتباع جمعية سرية تحتفظ بأسرار بناء الهياكل والصروح الضخمة، كما يقول زيدان إن استخدام ابن الأثير لفظ “أستاذ” يذكرنا بلقب الأستاذية لدى الماسون، وإن لفظ الروزكاري ربما كان معربا لكلمة “روزيكروشن” أي الصليب الوردي [جمعية سرية سنأتي على ذكرها لاحقا]، مع أن ابن الأثير تتوفي عام 1233 أي قبل مولد مؤسسها المفترض كريستيان روسنكروز. لكن باحثين آخرين يقولون إن روزكار كلمة فارسية تعني الدنيا أو الزمان، ما يعني أن الروزكاري قد يكون هو الشخص العامي في مقابل الأستاذ.
وبالعودة إلى مقال “فرسان الهيكل“، فقد ذكرنا جانبا من تاريخ سلالات بني إسرائيل التي يعتقد أنها هاجرت إلى أوروبا واحتفظت بما تراه أنه حق تاريخي لها في “الملك الإلهي”، على اعتبار أن الإله وعدها بالسيادة على العالم، فدبرت تلك العائلات مخططا طويل الأمد للتغلغل في العائلات الحاكمة وصولا إلى نجاحها في السيطرة على معظم أوربا الغربية مع مطلع القرن العاشر الميلادي، وهو ما يؤكده كتاب “المُلك الإلهي” للمؤلفين الثلاثة غراهام سيمانز وتيم والاس ميرفي وماريلين هوبكنز. وقد ربطنا في المقال المذكور بين هذا التغلغل الخفي وبين إطلاق شرارة الحروب الصليبية عن طريق السيطرة على الفاتيكان، للوصول إلى القدس تحت غطاء الكاثوليكية، ثم تأسيس جماعة فرسان الهيكل لتحقيق أهداف النخبة الإسرائيلية المتحدرة من سبط يهوذا.
ألبرت بايك
ويقول الأستاذ الأعظم للماسونية في القرن التاسع عشر الجنرال الأمريكي ألبرت بايك في كتابه “الأخلاق والعقيدة” Morals & Dogma إن هدف فرسان الهيكل الظاهر كان حماية الحجاج الكاثوليك إبان الحروب الصليبية، لكن هدفهم الحقيقي الذي انخرطوا من أجله في الحروب هو العمل على إعادة بناء هيكل سليمان باسم الكاثوليكية، ليحكم بنو إسرائيل من خلاله كل الشعوب، ومن ثم كانوا يسعون لاحقا إلى إزالة الكاثوليكية وتأسيس عالم جديد له ديانة جديدة تستمد عقائدها من “التقاليد المسيحية الأولى والنقية” التي يمثلها يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) [818 -Morals and Dogma, 817].
ومن المتداول بين الباحثين أن الحركات الغنوصية تعتبر القديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) أبًا روحيًا لها، حيث يُقدم في صورة أسطورية تجعله من أساتذة أسرار القبّالاه.
ويقول بايك إنه حين كان دي مولاي -أحد مؤسسي فرسان الهيكل- ينتظر حكم الإعدام في السجن عام 1310م؛ أمر بتكوين أربعة محافل مركزية في نابولي وإدنبره وستوكهولم وباريس، ثم انشطرت المنظمة إلى عشرات الجمعيات السرية والمنظمات الخفية وجماعات السحر والشعوذة، وتحولت مقاطعة لانجدوك جنوب فرنسا -وهي معقل فرسان الهيكل- إلى مأوى للملحدين والمهرطقين والقبّاليين والوثنيين، مضيفا أن الماسونية الاسكتلندية هي الوريث الأقدم لفرسان الهيكل والامتداد الشرعي لها [Morals and Dogma, 821].
وهذا يعني أن فرسان الهيكل -وجماعة فرسان مالطة أيضا- كانت هي حلقة الوصل بين النشأة الأولى للمخطط الإسرائيلي الذي نشأ على الأرجح إبان السبي البابلي، وبين الجمعيات السرية التي تشكلت في القرون الوسطى قبل ظهور الماسونية رسميا في القرن الثامن عشر.
ومن أهم تلك الجمعيات جمعية الصليب الوردي “روزيكروشن” التي تأسست في ألمانيا عندما نُشر بيانان حول أفكارها عامي 1614 و1615، ونُسب تأسيسها إلى شخص قد يكون خياليا ويدعى كريستيان روسنكروز، حيث يقال إنه قام برحلة قبل نحو 130 عاما إلى العالم الإسلامي، من المغرب وشمال أفريقيا مرورا بتركيا العثمانية إلى بلاد فارس، لتلقي العلوم الباطنية والهرمسية وأسرار القبالاه والسحر، ويقر معظم المؤرخين بأن هذه الجمعية احتفظت بأسرار الجمعيات السرية حتى انتقلت إلى الماسونية.
نشأة الجمعية يقول جرجي زيدان إن “البنائين الأحرار” تابعوا انتشارهم في أوربا تحت رعاية الملوك، إلى أن اجتمعوا في مؤتمر بمدينة يورك الإنجليزية سنة 926 برعاية الملك إدوين الذي انتُخب أستاذا أعظم، وتم إقرار لوائح لتنظيم عملهم لتكون أول دستور ناظم لهم، وأصبحت يورك عاصمة البنائين.
ويتابع زيدان ربط تطور أخويات البنائين بتطور البناء طوال القرون الوسطى، وصولا إلى مرحلة “الماسونية الرمزية” التي انتقلت من صناعة البناء إلى “الفضيلة والعلم” –حسب قوله- مع الحفاظ على أدوات البناء وقوانينه كرموز لمعان تتعلق بالعمران البشري وليس المادي، وذلك مع إعلان لائحة قوانين لندن سنة 1717، وفي 24 يونيو من السنة نفسها –وهو عيد القديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى)- اجتمع الماسون وانتخبوا أنطوني ساير أستاذًا أعظم لهم، وبدأت بذلك الماسونية الرمزية بطقوسها ورموزها ودرجاتها التي لم تعد مقتصرة على البنائين، لكن المؤرخين من خارج الماسونية يؤكدون أن اختيار هذا التاريخ كان للتغطية على أهداف الجمعية المعادية للأديان، فاليهود أصلا يعادون النبي يحيى، وأسلافهم سعوا في قتله على يد الملك هيرودس.
قاعة المحفل الإنجليزي الأعظم
ويرى الكثيرون أن التأسيس العلني للمحفل الماسوني الأول في لندن عام 1717 كان مجرد إشهار للخلايا الماسونية النائمة، حيث طُلب آنذاك من كل المحافل الصغيرة إحضار ما لديها من وثائق لتكون في يد المحفل الرئيس، وبعد ثمان سنوات أعلن الإيرلنديون بدورهم تأسيس المحفل الكبير في دبلن، ثم أعلن الاسكتلنديون عن محفلهم عام 1773، وفي الوقت نفسه خرجت مئات المحافل الفرنسية عن صمتها وانتشرت في المجتمع كالنار في الهشيم.
في عام 1723 كتب جيمس أندرسون أول دستور للماسونية، وعندما أصبح بنيامين فرانكلين (أحد مؤسسي الولايات المتحدة) أستاذا أعظم للماسونية في بنسلفانيا عام 1734 أعاد طباعته مضيفا إليه طقوسا جديدة ومرتبة ثالثة تدعى الخبير بعد مرتبتي المبتدئ وأهل الصنعة، وجاء الدستور في 40 صفحة تتضمن تاريخ الماسونية، وفي أواخر القرن التاسع عشر أعاد الجنرال الأمريكي والأستاذ الأعظم للطقس الاسكتلندي ألبرت بايك كتابة الكثير من الطقوس الماسونية المعتمدة حتى اليوم.
جورج واشنطن يضع “حجر أساس واشنطن” في احتفال ماسوني رسمي كأول حجر في مبنى الكونغرس، حيث تأسست العاصمة الأمريكية على الأسس الماسونية منذ نشأة الدولة
الانضمام للجمعية تذكر المراجع الماسونية أنه يمكن لأي شخص الانضمام إلى المحافل وفق ثلاثة شروط، وهي أن يبلغ من العمر 21 عام على الأقل، وأن يكون مؤمنا بوجود إله دون اكتراث للعبادة التي يختارها، وأن يتحلى بأخلاق عالية.
وتنصح بعض المواقع الماسونية من يريد الانضمام بأن يبحث عن علامة “2B1Ask1” -وهي تعني إذا أردت أن تكون أحدهم فاسأل أحدهم- حيث يُطبع هذا الشعار على بعض القمصان والقبعات ويرتديها الماسون في تجمعات عامة لجذب الأعضاء الجدد ممن قرأوا عن معنى الشعار ويبحثون عنه فعليا.
وتقول تلك المواقع إنه إذا لم يحصل الباحث على هذا الشعار فليحاول الاتصال بأقرب محفل ماسوني إلى البلد الذي يقيم فيه ويسأله عن كيفية التقدم للعضوية. ومن المعروف أن معظم الدول الغربية ودولا أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تحتضن محافل رسمية معلنة ويمكن العثور على عناوينها عبر الإنترنت بسهولة.
على سبيل المثال، الرابط التالي ينقلك إلى صفحة على موقع “معهد ماساشوستس للتكنولوجيا”، الذي يعد أهم جامعة في العالم للتقنية، وهي تشرح كيفية الانضمام للماسونية، مع إبرازها على أنها جمعية أخوية للأشخاص الطيبين فقط! http://web.mit.edu/dryfoo/Masonry/how-to.html
تضيف المواقع الماسونية أن المحفل سيستقبل طلب الانضمام ويجري المقابلة مع المتقدم، ثم سيتحرى الماسون عن حياته وسلوكه، ليتحققوا من أخلاقه الحسنة، وفي حال الموافقة يدفع المتقدم رسوما بسيطة ويتم التكريس والبدء بالارتقاء في درجات الماسونية.
في المقابل، هناك مراجع تقول إنه من المستحيل الانضمام للماسونية عبر التقدم بطلب الانضمام، فالمحافل هي التي تبادر بمراسلة من يتم ترشيحهم من قبل بعض الأعضاء لتدعوهم للانضمام وإغرائهم بأن يكونوا من نخبة المجتمع.
ويبدو أن لكل محفل سياسته، فبعض المحافل لا تقبل الطلبات وتهملها والبعض الآخر يدرسها بعناية ويقبل بعض المتقدمين، كما أن بعض المنظمات الأخرى المنضوية تحت لواء الماسونية -والتي سيرد ذكرها لاحقا- تأخذ شكل النوادي الاجتماعية النخبوية وليس الجمعيات السرية، وهي بالفعل لا تقبل طلبات الانضمام بل تراسل من تراهم من نخبة المجتمع ولديهم القابلية لخدمة أهدافها، ولكل من هذه النوادي شريحة ما تسعى لاستقطابها، مثل نخبة رجال الأعمال والنخبة الأكاديمية ونجوم الفن والرياضة، وما شابه ذلك.
وحسب شهادة أحد الأصدقاء العرب، وهو من نخبة المجتمع سياسيا واجتماعيا، فقد تلقى بالفعل رسالة دعوة من المحفل العربي الوحيد في المنطقة والموجود في لبنان، دون أن يبادر بنفسه بالاتصال بأي عضو ماسوني.
أما طقوس الانضمام والتكريس فقد ذُكرت في مراجع عديدة، ونسبها المؤلفون لأعضاء منشقين عن الماسونية ممن تحدثوا عما جربوه بأنفسهم. وأهم ما فيها أن الطقوس مليئة بالرموز التي تحمل معاني محتملة, بحيث لا يفهم العضو الجديد من ظاهرها سوى أنه مقبل على الانضمام لأخوية عالمية يحرص أعضاؤها على حماية بعضهم وحفظ أسرارهم الخيّرة وتكريس أنفسهم لصالح المعرفة والعلم وخدمة المجتمع، ثم يأتي التهديد بالقتل في حالة الانشقاق أو كشف الأسرار، وهو ما يُبرر بأنه مجرد حرص على المواثيق والعهود المقطوعة فيما بينهم وليس تهديدا على شاكلة ما تفعله العصابات الإجرامية.
ومن أهم المراجع التي وصفت تلك الطقوس كتاب “السر المصون في شيعة الفرمسون” لرجل الدين اليسوعي اللبناني الراحل الأب لويس شيخو.
الجزء الأول من الفيلم الوثائقي “حركة الماسونية” ضمن برنامج “سري للغاية”: في مطلع هذا الفيلم، تم تجسيد طقوس الانضمام بمشهد درامي. علما بأن المراجع الماسونية تنكر هذه الطقوس وتزعم أنها اتهامات باطلة وممنهجة (مؤامرة) ضدها.
الرموز والعقائد يتضمن شعار الماسونية الأساسي صورة رمزية لمسطرة المعماري (الزاوية) بالتقاطع مع فرجار، وهي في معناها الظاهر من أدوات البناء، لكنها قد ترمز إلى علاقة الخالق بالمخلوق، وهي الرمزية التي يُشار إليها في النجمة السداسية التي اتخذها اليهود شعارا وأسموها نجمة داوود على اعتبار أنها ترمز إلى اتحاد الكهنوت مع رجال الدولة، وذلك من خلال سيطرة سلالة داوود على الحكم باتحادها مع الكهنة من سلالة هارون.
وتمثل الزاوية العنصر الثابت وهي أداة تحديد استقامة وصحة قائمية الحجر، أما الفرجار فيمثل العنصر المتحرك الذي يؤكد على ملكة الفكر وتحكمه بالمادة. وفي الدرجة الأولى توضع الزاوية فوق الفرجار الذي ما زال المريد يتعلم كيفية استعماله لصقل نفسه، وفي الدرجة الثانية يتداخل الاثنان ببعضهما، أما في الدرجة الثالثة فيوضع الفرجار فوق الزاوية.
ويتوسط الشعار حرف G الذي يزعم بعض الماسون أنه الحرف الأول من كلمة “God” أي الإله، كما يزعم البعض الآخر أنها أول حرف من كلمة هندسة Geometry، ولكن يذهب باحثون إلى أنه الحرف الأول من كلمة “Gematria” وهي تعني مجموعة القوانين التي وضعها أحبار اليهود لتفسير التوراة سنة 200 قبل الميلاد، أو ربما تكون دلالة على كلمة غنوصية Gnosticism وهي عقائد باطنية حلولية تداخلت مع أديان كثيرة بما فيها المسيحية واليهودية.
وتُستخدم أدوات البناء الأخرى لمعان رمزية مماثلة، حيث يمسك الأستاذ باليد اليسرى الإزميل الذي يُستخدم لنحت الحجر كرمز لاتخاذ القرار، كما يمسك باليمنى المطرقة كرمز للسلطة وتنفيذ القرار.
العمودان على مئزر ماسوني
أما العمودان اللذان لا يخلو منهما أي محفل فيرمزان إلى عمودين يزعم اليهود أن المهندس حيرام أنشأهما عند بوابة هيكل سليمان، حيث ورد ذكرهما في التوراة المحرفة تحت اسم ياكين (الملك الإسرائيلي الذي أسره نبوخذ نصر وقاده إلى بابل) وبوعز (أحد أجداد داوود)، ويقف مراقبا المحفل أمام كل منهما.
ويستحضر الماسون ذكرى حيرام الذي يقال إنه كان من أهم بنائي الهيكل، ويلقب بابن الأرملة، لذا يسمون أنفسهم بأبناء الأرملة، ويمثلون طقوس قتله على يد ثلاثة من البنائين الذين حاولوا أن ينتزعوا منه “الأسرار المقدسة لمرتبته المهنية الأعلى” فرفض. وتقول التوراة التي بين يدي اليهود اليوم “أرسل الملك سليمان فأخذ حيرام من صور وهو ابن أرملة من سبط نفتالي وأبوه رجل من صور صانع نحاس، وكان ممتلئًا حكمة وفهمًا ومعرفة في عمل كلِّ صنعة من النحاس”، وتدعي الأسطورة أن سليمان نفسه أوحى بفكرة قتله لأن حيرام أحب زوجته بلقيس، فالأساطير اليهودية لم تترك نبيا من أنبياء بني إسرائيل إلا وألصقت به تهمة شنيعة، ومع ذلك فقد أبقت على قداسته.
وبحسب كتاب “تبديد الظلام” الذي يروي قصة جمعية “القوة الخفية”، فإن حيرام الذي يقدسه الماسون ليس سوى شخص اسمه حيرام أبيود، وهو الذي أوحى للملك هيرودس أغريباس بفكرة الجمعية، وقد كان ابن أرملة يهودية فأطلق عليه الملك لقب ابن الأرملة، وصار اللقب شعارا لأعضاء الجمعية، ثم قُتل حيرام أبيود في جنوب لبنان دون أن يُعرف قاتله، فزعم زملاءه من مؤسسي الجمعية الآخرين أن هذا الاسم يعود إلى المهندس الذي صمم الهيكل واحتفظ بأسراره بنائه.
رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)
ويُعد المحفل Lodge بمثابة المعبد أو مقر الاجتماعات الذي يجتمع فيه الماسون، وهو يرمز لهيكل سليمان الذي يُعد النموذج الأعلى لمباني الماسون، حيث جاء في موسوعة الحركة الماسونية [طبعة فيلادلفيا 1906] أن “كل محفل هو في الحقيقة والواجب رمز للهيكل اليهودي وكل رئيس يعتلي كرسيه يمثل ملكا من ملوك اليهود وفي كل ماسوني تتمثل شخصية العامل اليهودي”. وينعقد الاجتماع في المحفل بما لا يقل عن سبعة ضباط يتولون مهام إدارة الاجتماع، وهم يرتدون مآزر وقفازات وقلادات خاصة بحسب درجاتهم.
ويسمى المحفل الرئيسي بالشرق الأعظم، وهناك عدة شروق عظمى حول العالم، فالمحافل كلها تجعل صدارتها في اتجاه المشرق، لأنهم يتجهون في طقوسهم باتجاه مشرق الشمس كما هو حال العبادات الشيطانية.
ويصرح الماسون في بياناتهم وخطاباتهم المعلنة والمتداولة بين الفئات الدنيا بمصطلحات تقديس “المهندس الأعظم للكون” على اعتبار أنه الإله الذي يؤمن به جميع أعضاء المنظمة على اختلاف أديانهم، لكن الباحثين في خفايا الماسونية يؤكدون أن الدرجات العليا لا تؤمن سوى بعقائد القبالاه، وأن هذا المهندس ليس إلا الشيطان “بافوميت” أو “لوسيفر” (حامل النور) الذي يُرجح المؤرخون أن فرسان الهيكل مارسوا عبادته بانتظام.
وتعد “العين التي ترى كل شيء” All Seeing Eye من أهم رموز الماسونية وأكثرها انتشاراً، ويزعمون أنها ترمز إلى عين المهندس الأعظم أو عين الكون العظيمة، كما يقول بعض مؤلفيهم إنها عين البصيرة، وهي تقابل العين الثالثة (شاكرا) لدى ممارسي رياضات التأمل واستجلاب الطاقة، ورُبطت تشريحيا في مصر واليونان بالغدة الصنوبرية الواقعة في تجويف الدماغ، حيث اعتبرها بعض الفلاسفة نقطة الوصل بين عوالم المعرفة، فالمتأمِّل يعمل على تشغيلها لبلوغ الاستنارة واستقبال المعرفة الكشفية العرفانية (الإلهام) في حين تبقى خاملة لدى عامة الناس، لذا يعمد الهندوس إلى رسم نقطة حمراء في وسط الجبهة لتحريض هذه الغدة على العمل.
أما أكبر قادة الماسونية في القرن التاسع عشر “ألبرت بايك” فيقول في كتابه “الأخلاق والعقيدة” إن العين كانت ترمز في العقائد الوثنية القديمة إلى عبادة الشمس، واعتُبرت في مصر رمزا للخالق أوزوريس [Morals and Dogma, 15].
ويشير المؤلف “رالف إبرسون” في كتابه “النظام العالمي الجديد” إلى أن العين ترمز لتوغل الماسونية في كل فئات المجتمع وقدرتها على مراقبته ومعاقبة من يفشي أسرارها.
ويرى بعض الباحثين في القبالاه والسحر أن هذه العين ليست سوى العين الشمال للشيطان، مشيرين إلى أنه لا يستخدم سوى العين الشمال واليد الشمال، وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه مسلم أن “الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله”.
شعارات الماسونية كانت معلنة في الثورة الفرنسية
ويمكن القول إن عبادة الشيطان تجسدت في الماضي على هيئة أوثان تخلط بين الشياطين والآلهة، وخصوصا في عبادة “بعل” و”حورس” و”رع” و”أوزوريس”، ولا نستبعد النظريات التي تقول إن هذه العين ليست سوى رمز قديم ومتجدد للأعور الدجال الذي أخبر عنه جميع الأنبياء.
إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أعلنته السلطة الثورية في فرنسا عام 1789 ويظهر في قمته شعار المتنورين الماسون
وفي منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، أدخل الرئيس الأميركي الماسوني فرانكلين روزفلت صورة هرم مصري تعلوه العين على تصميم الدولار. ويمكن للباحث أن يجد هذا الشعار أيضا في وثيقة حقوق الإنسان والمواطن التي أعلنتها الثورة الفرنسية عام 1789، في دلالة واضحة على الخلفية الماسونية للجهات التي أشعلت الثورة وسيطرت على البلاد بعدها.
ينفي الماسون تحالف منظمتهم مع اليهودية والصهيونية، ويزعمون أن كثرة الرموز والمصطلحات اليهودية فيها ليست سوى نتيجة للاقتباس عن “الدين التوحيدي الأول”، وذلك على اعتبار أنهم يؤمنون بالله ويحترمون كل الأديان السماوية، لذا فهم يفسرون تبجيلهم لهيكل سليمان بكونه المعبد الأول للإله الواحد في التاريخ. علما بأن المسلمين يؤمنون بأن الدين التوحيدي هو دين آدم وجميع الأنبياء بعده، وأن موسى عليه السلام لم يكن أول من جاء به.
رسم لطقس عبادة بافوميت (أحد أسماء إبليس) في محفل ماسوني أورده الماسوني الفرنسي ليو تاكسيل في كتاب نشره عام 1884 لفضح طقوسهم
وقد بات التحالف بين الماسونية واليهودية من الحقائق المتواترة التي لا يمكن لتصريحات الماسون ومبرراتهم التشكيك فيها، حيث أثبت ذلك الأستاذ في الفلسفة محمد علي الزعبي الذي انضم إلى محافل الماسونية في بيروت ثم انشق عنها وكشف علاقتها بالمشروع الصهيوني في كتابه “الماسونية في العراء”، وله أيضا كتاب آخر بعنوان “الماسونية منشئة ملك إسرائيل“، كما يقول الأب لويس شيخو في كتابه “السر المصون في شيعة الفرمسون” إنه بات من المقرر الثابت الذي لا يمكن أن ينكره عاقل لكثرة الدلائل على صحته أن العامل في الكبير في إدارة الماسونية وجمع كلمتها هو العنصر اليهودي.
كما وضع الكثير من المؤلفين المسيحيين في الغرب مؤلفات مرجعية تربط العقائد والرموز الماسونية بأصولها اليهودية والوثنية والشيطانية، ونذكر منها على سبيل المثال كتاب “الدستور السحري” Codex Magica للمؤلف الأميركي تيكس مارس Tex W. Marrs.
ينسب إلى ألبرت بايك قوله: “يجب أن نقول للجماهير إننا نؤمن بالله ونعبده ولكن الإله الذي نعبده لا تفصلنا عنه الأوهام والخرافات ونحن الذين وصلنا إلى مراتب الاطلاع العليا يجب أن نحتفظ بنقاء العقيدة الشيطانية”.
كما ينسب إلى الأستاذ الأكبر لمحفل لسينغ القول: “نحن الماسونيون ننتسب إلى أسرة كبير الأبالسة لوسيفر فصليبنا هو المثلث وهيكلنا هو المحفل”.
[المصدر: الماسونية، محمد صفوت السقا أمينى وسعدي أبو حبيب].
يميل كثير من الباحثين بعد تجميع الأدلة ومقارنتها أن الماسونية تعبد إبليس نفسه تحت مسمى “لوسيفر”، وذلك في معرض إيمانها بوجود الله تعالى كإله آخر يحمل الاسم العبري “أدوناي”، وبهذا يصبح العالم مسرحا لصراع بين إلهين.
وتتلخص هذه العقيدة في رسالة تُنسب إلى ألبرت بايك يُقال إنه أرسلها عام 1889 إلى عشرات المحافل العالمية، ونقتبس منها النص الآتي:
“ما يجب أن نقوله للعامة هو: نحن نعبد إلهاً، لكنه ذاك الإله الذي يُعبد دون خرافات. وإليكم أيها المفتشون العموميون (من الدرجة 33) نقول إنكم تستطيعون أن تكرروا لإخواننا في الدرجات 30 و31 و32 أن الديانة الماسونية يجب أن يحافظ عليها من قبلنا نحن الحاصلين على الدرجات العليا في إطار نقاء المذهب اللوسيفري.
لو أن لوسيفر ليس إلها، فهل أدوناي رب المسيحيين كذلك؟ والذي أثبتت أعماله عنفه وخيانته وحقده على البشر، وبربريته وتجاهله للعلم. فهل يفتري أدوناي وكهنته على نفسه؟
نعم إن لوسيفر إله، ومع الأسف فإن أدوناي إله كذلك. فالقانون الأبدي يقول إنه لا يوجد ضوء بدون ظل، ولا جمال بدون قبح، ولا بياض بدون سواد. لأن المطلق لا يمكنه إلا أن يتجسد في ثنائي، ولأن وجود الظلام ضروري ليكمل النور، كما أن القاعدة مهمة للتمثال، والمكبح مهم للقطار.
في الصراعات الكونية يعتمد المرء فقط على الذي سيقاوم، لذا فالكون متوازن بين قوتين تعملان على تحقيق التوازن، هما قوة التجاذب وقوة التنافر. وهما موجودتان في الفيزياء والفلسفة والدين. والحقيقة العلمية للثنائية في ظاهرة القطبية والقانون الكوني للتجاذب والتنافر. لهذا فإن الأتباع الأذكياء لزرادشت ومن جاء بعدهم من الغنوصيين وفرسان الهيكل اعترفوا بمفهوم غيبي عقلاني وحيد وهو نظام المبادئ الإلهية المتصارعة للأبد. ولا يصدق المرء بأن أحدهما أدنى من الآخر.
الأديان الفلسفية النقية والصحيحة تؤمن بلوسيفر، كندّ لأدوناي، لكن لوسيفر هو إله النور والخير، الذي يكافح من أجل الإنسانية ضد أدوناي إله الظلام والشر”.
ويجدر بالذكر أن الماسون ومؤيدوهم ينكرون صحة هذه الرسالة ويتهمون ليو تاكسيل (المذكور سابقا) بتلفيقها. [انظر مادة Luciferianism في موسوعة ويكيبيديا]
الدرجات الرئيسة يشيع بين الباحثين في الجمعيات السرية أن الماسونية تنقسم من حيث التنظيم إلى ثلاث طبقات كبرى، لكن الماسون لا يعترفون إلا بالدرجات المتضمنة في الطبقة الأولى فقط وينكرون وجود الطبقتين الثانية والثالثة. ونلخص هذه الطبقات فيما يلي:
1- الماسونية الرمزية العامة: هي التي يتدرج فيها الناس من كل الأديان والأعراق، وتتفرع إلى درجات يتفاوت عددها حسب الطقس المُتبع، فهي 33 درجة في الطقس الاسكتلندي (الإيكوسي)، و12 درجة في طقس يورك، و95 في الطقس المصري. وكلما ازداد ترقي العضو ازداد قربه من اكتشاف أسرار الماسونية مع تنامي ثقة القيادة به.
ويُعد الطقس الاسكتلندي هو الأكثر شيوعا، وتشكل الدرجات الثلاث الأُول منها قاعدة الماسونية الرمزية (الزرقاء) وهي درجات المريد والرفيق والأستاذ، ويقول الماسوني الفرنسي جورج مارتان إن العضو يصبح ماسونيا تاما عندما يبلغ الدرجة الثالثة (الأستاذ)، ثم يتدرج في “الاكتمال” عبر الدرجات الثلاثين التالية [المنظمة الماسونية والحق الإنساني، ص 54].
وتسمى الدرجات من 4 إلى 14 بمشاغل الإتقان (الماسونية الخضراء)، ثم تأتي مجالس البطاركة ما بين الدرجتين 15 و18 (الحمراء)، ثم المجامع ما بين الدرجتين 19 و30 السوداء)، ثم أسياد المحاكم من الدرجة 31، والمجامع القيادية من الدرجة 32، وأخيرا المجلس الأعلى من الدرجة 33، وتسمى الدرجات الثلاث الأخيرة بالماسونية البيضاء، وهي تضم الأعضاء الذين بلغوا الدرجات العليا في فهم الطقوس وممارستها فضلا عن الولاء المطلق.
2- الماسونية الملوكية: هي درجة سرية لا يعترف بها الماسون، ولا يحصل عليها سوى اليهود الحائزين على الدرجة الثالثة والثلاثين الرمزية، وممن قدموا للماسونية خدمات جليلة.
3- الماسونية الكونية: لا يعترف بها الماسون أيضا، وهي درجة سرية للغاية يؤكد الماسون المنشقون وجودها ولكن لايعرفون مقرها وأسماء أعضائها، ويُعتقد أنهم نخبة العائلات اليهودية الكبرى ممن يتزعمون المحافل الملوكية، وربما من سلالات “حق الملك الإلهي” المتحدرة من داوود عليه السلام، وهم الذين يرسمون خطط وسياسات المحافل العالمية بما يوافق مصالحهم الساعية في نهاية المطاف إلى بناء هيكل سليمان في أورشليم للسيطرة على العالم منه وفقا للنبوءات التوراتية.
الطقوس الماسونية الرئيسة بالرغم من وحدة الهدف العام للماسونية فهي لا تختلف عن أي تجمع بشري في النهاية، حيث لا بد للشقاق والاختلاف أن يتسلل إلى صفوفها، لكن هذا الاختلاف قد يصب في النهاية لصالحها، حيث يسمح لها باحتواء أطياف متنوعة من البشر لتوجيههم وتوظيفهم بما يحقق المصلحة العليا لقادتها، كما يُظهرها بمظهر أقل حنكة مما يساعد على نفي الاتهامات الموجهة إليها بصفتها يدا واحدة خفية، في حين يؤكد الباحثون في خفاياها أن الاختلاف لا يتعدى الطقوس والممارسات والرموز، كما هو حال الاختلاف بين المذاهب الفقهية في دين واحد، ولكن تتفق طرق (الطقوس) الماسونية جميعها في القيادات العليا الخارقة للحدود والأعراق.
يقال إن عدد الطقوس بلغ في منتصف القرن التاسع عشر 52 طقساً، لكن هناك طقوساً رئيسة تتبعها معظم المحافل حول العالم، وهي كالآتي:
الطقس الأسكتلندي القديم والمقبول (الإيكوسي): هو الأكثر شهرة وانتشارا في العالم، ويتدرج أعضائه في 33 درجة، آخرها درجة المفتش العام الأعظم.
الطقس الإنكليزي للماسون القدماء الأحرار والمقبولين: هو قريب من الاسكتلندي، ويعد أكثر ارتباطا بالقديس يوحنا المعمدان.
طقس يورك: هو الطقس الرئيسي الموازي للاسكتلندي ويعد الأكثر انتشارا في الولايات المتحدة، وهو يتكون من 12 درجة، ويشترط أن يكون العضو مسيحيا ليُقبل فيه بدءاً من الدرجة الرابعة، أي بعد حصوله على درجة الأستاذ.
طقس ممفيس-مصرائيم المتحد: في عام 1783 أقام جوزيف بالزامو نظاما ماسونيا على خليط من معتقدات الفيثاغورثيين والأفلاطونيين الجدد وصابئة حران والإسماعيليين، وجعل لنظامه المسمى “مصرائيم” 90 درجة، ثم أدخل عليه درجات إضافية مقتبسة من فرسان مالطا، وانتشر نظامه هذا في إيطاليا. وفي عام 1815 أسس صامويل هونيس (الذي كان يتردد كثيرا على القاهرة) محفلا في فرنسا باسم “حواريو ممفيس”، مستحضراً أساطير الكاهن المصري هرمس الذي عاش في القرن الميلادي الأول، وانتشرت محافل ممفيس في أوربا والأمريكتين ومصر. ثم اندمج النظامان على يد الجنرال جوزيبي جاريبالدي في إيطاليا عام 1881، وأصبحت له 95 درجة.
الطقس الفرنسي: يتضمن بالإضافة للدرجات الثلاث الأولى أربع درجات عليا، هي المختار والإيكوسي وفارس الشرق والصليب الوردي.
الطقس السويدي: يتضمن عشر درجات، إضافة لدرجة أخيرة شرفية لا يحملها سوى 60 شخصا من نخبة السويد، وهو يقتصر على المسيحيين فقط، وينتشر في الدول الإسكندنافية، ويعترف بأعضاء المحفل الأعظم المتحد لأنجلترا، ويتزعمه ملك السويد شخصيا.
المتنورون قبل أن نستعرض المنظمات الفرعية التي تعمل تحت مظلة الماسونية، لا بد من التوقف عند جمعية المتنورين السرية، والتي تعرف باسمها اللاتيني “إلوميناتي” Illuminati، فهي أخطر المنظمات الماسونية وأقدمها وأوسعها انتشارا، حيث نشأت على يد آدم وايسهاوبت Weishaupt الذي كان أكاديميا مسيحيا يسوعيا ثم أصبح من عبدة الشيطان، وأوكلت إليه العائلات اليهودية الممسكة بزمام الماسونية مهمة وضع مخطط شامل للسيطرة على العالم سياسيا واقتصاديا وفكريا عبر هذه المنظمة، وكان ذلك في مطلع شهر مايو من عام 1776 وفي ولاية بافاريا الألمانية.
وايسهاوبت
ليس للمنظمة محافل ظاهرة للعيان، فهي أكثر سرية من الماسونية الأم، وكان تأسيسها قائما منذ البداية على تنفيذ المخطط بالاستفادة من المحافل الماسونية والكفاءات المتوفرة فيها، وليس على إقامة الطقوس والتظاهر بإقامة أعمال خيرية أو إنشاء أخوية عالمية.
لكن المخطط لم يُكتب له البقاء خفيا لمدة طويلة، حيث تقول الرواية الشائعة تاريخيا إن صاعقة ضربت أحد أعضاء الجماعة ويدعى لانز في أحد أيام سنة 1785 أثناء سفره على الخيل من فرانكفورت إلى باريس، فوجدت الشرطة في جيوب الجثة وثائق ما زالت محفوظة في أرشيف مدينة ميونيخ، وفيها معلومات خطيرة عن أنشطة الجماعة ومخططها لإشعال الثورات والحروب وإسقاط الأنظمة، ويقال إن ألمانيا أرسلت هذه المعلومات إلى دول أوروبية عديدة تحذرها من هذا المخطط، إلا أن أحدا لم يستجب، حيث اندلعت الثورة الفرنسية بالفعل عام 1789 كما كان مخططا لها، ثم تساقطت الحكومات الملكية في بقية أوروبا مثل أحجار الدومينو. [Illuminati Hunter, 225].
في رسالة يقال إن البارون أدولف فون كينغ Baron Adolph von Knigge -الرئيس الثاني للمتنورين- إلى صديقه زفاك يقول فيها “إن العقائد اليهودية سر خفي والرعاع لا يصلحون لفهمها، فقد ظلت هذه الأفكار شعلة خامدة لم يحافظ عليها سوى الجمعيات السرية التي ورثتها خلفا عن سلف، وهي الآن في حوزة صفوة الماسونية”.
والشائع اليوم أن هذه المنظمة تهتم باستقطاب الموهوبين الصاعدين حول العالم وإغرائهم بالنجومية والثروة مقابل الولاء لمعبودها “لوسيفر”، وهو الشيطان نفسه. ولا تُلزم المنظمة أعضاءها بالانتساب والتدرج كما هو حال الماسونية التي تتخذ طابعا فلسفيا، فمنظمة المتنورين تهتم أكثر بالمغفلين المهووسين بالأضواء والصعود السريع، الذين يعملون على التطبيع مع رموز الماسون وشعاراته الشيطانية بتضمينها في أعمالهم، ويبثون الفن الهابط والإباحية والشذوذ والتمرد بين المراهقين، وهي الأهداف نفسها التي نصت عليها مخططات المنظمة كما يؤكد الباحث جون كولمان في كتابه “لجنة الثلاثمئة” The Committee of 300.
المنظمات الماسونية إلى جانب المحافل الكبرى التي تسمى بالشروق (جمع شرق) وما يتبعها من محافل رسمية، توسعت الماسونية منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر لتصبح مظلة لعشرات المنظمات والنوادي الاجتماعية التي لا تكاد تخلو منها أي مدينة غربية، فضلا عن الانتشار في مدن كثيرة في أفريقيا وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية، فمن خلال هذه النوادي والأخويات يتم جمع ملايين أعضاء إضافيين لتحقيق أهداف الماسونية دون انخراط في الطقوس الرمزية.
ومن الملفت أن هناك الكثير من النوادي الاجتماعية في مدن عربية وإسلامية اتخذت من هذا الأسلوب مظلة لاكتساب الشرعية واستمرار النشاط الماسوني، للتحايل على القرارات الرسمية التي اتخذت لإغلاق جميع المحافل الماسونية.
وفيما يلي قائمة بأهم المنظمات التابعة للماسونية، بشكل معلن أو خفي، والتي تنشط بقوة في الدول الغربية والعديد من الدول الأخرى بما فيها العالم الإسلامي:
الرئيس الأمريكي هاري ترومان يستقبل زعماء الشراينرز عام 1948
1- الشراينرز: تأسست المنظمة عام 1872 على يد 13 ماسونياً أثناء اجتماع لهم في نيويورك حيث طُرحت بينهم فكرة تأسيس منظمة ماسونية جديدة تقوم على بث مفاهيم المرح والزمالة بين أعضائها، وبينما كان أحد الأعضاء يتجول في باريس دُعي إلى حفل برعاية دبلوماسي عربي، فأعجبته الأجواء العربية في الملبس والموسيقى والديكور، وقرر أن يجعل هوية المنظمة الجديدة عربية صوفية، فتم تأسيسها تحت اسم “النظام العربي لنبلاء الضريح الصوفي المقدس”، وعُرف أول محافلها باسم معبد مكة المقدس، بالرغم من العداء الوجودي الذي تبطنه الماسونية للإسلام.
وكانت عضوية الشراينرز في الماضي قاصرة على من أتم درجات الطقس الاسكتلندي أو طقس يورك، ثم أصبحت متاحة لمن حصل على درجة الأستاذ الماسوني. ومنذ عام 1920 اتخذت المنظمة من العمل الخيري الطبي واجهة لها لتساعد في معالجة 575 ألف طفل مجانا حتى الآن، حيث تدير المنظمة شبكة من 22 مستشفى متخصصة بطب الأطفال في أمريكا الشمالية.
وبعيدا عن الرموز والعبادات الشيطانية، يُظهر الشراينرز للعالم وجها احتفاليا مبهجا، فيشاركون في الكرنفالات الراقصة وحفلات العشاء ومهرجانات السيرك، ويرتدون ملابس عربية فلكلورية مع طرابيش حمراء، ويتخذون أسماء عربية لمعابدهم مثل الرياض ومكة وابن سعود وابن علي وشوّال. وربما تخفي هذه الرموز والأسماء علاقة ما بالطقوس السحرية التي يمارسها أدعياء الصوفية عند الأضرحة، خصوصا وأن الكثير من محافلهم تُبنى على هيئة الأضرحة وعلى النمط المعماري الأندلسي.
ويتحدث جون روبنسون في كتابه “النشأة الدموية.. الأسرار المفقودة للماسونية” عن قيام مجموعة من قادة المنظمات الماسونية بتكريم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان عام 1988 في احتفال خاص بمكتبه البيضاوي، وكان منهم ملك الشراينرز الذي منحه عضوية فخرية في المجلس الإمبراطوري للضريح المقدس. وتقول مصادر غير مؤكدة إن المنظمة تخضع للقيادة المباشرة من ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش.
في هذا الفيديو يجري أحد الناشطين المسيحيين حوارا مع عضو في محفل للشراينرز، حيث يتعرف الأخير بتقديسه للشيطان لوسيفر، وفي نفس الوقت يصر على أنه ما زال مسيحيا، ثم يعجز عن تقديم أي مبرر لهذا التناقض.
قاعة الغروتو في نصب جورج واشنطن الماسوني التذكاري (SchuminWeb)
2- الغروتو: على شاكلة الشراينرز، تأسست هذه المنظمة في نيويورك عام 1889 لتتجاوز في جلساتها العلنية الطقوس الرسمية للمحافل التقليدية، حيث تُظهر احتفاءها بالأجواء المرحة والاجتماعية، وتُعلن اهتمامها بعلاج الأطفال المعاقين.
وبما أنها كالشراينرز تحصر عضويتها في الحاصلين على درجة الأستاذ الماسوني فلا شك في أن كل أعضائها يعلمون جيدا كواليس المنظمة وباطنها، فهم يتخذون من مدعي النبوة الذي ظهر أيام العباسيين بخراسان والمعروف باسم المقنع شعارا لهم، ويرتدون طرابيش سوداء، ويطلقون على محافلهم أسماء الكهف أو المسجد، ولا يخفى على أحد ما يخفيه احتفاؤهم بالمتنبي الكذاب من رمزية تعادي الوحي.
3- أشجار أرز لبنان الطويلة: أنشئ أول محافلها في عام 1901، وهي تدعي كسابقتيها توطيد العلاقة بين الأعضاء في جو من المرح وبذل الخير، فتركز أعمالها الخيرية المعلنة على علاج أمراض العضلات والأعصاب، لكنها تحصر عضويتها على الحاصلين على درجة الأستاذ الماسوني.
تعرف محافلها باسم الغابة، وتمنح درجتين لأعضائها هما البلاط الملكي والصيداوي، وربما تخفي وراء اسمها وشعارها احتفاءً بأشجار أرز لبنان التي كان لها دور في بناء هيكل سليمان.
شهادة الانضمام لمنظمة بناي بيرث ويظهر فيها الأثر اليهودي الصهيوني
4- منظمة بناي بيرث: تعد من أضخم المنظمات الماسونية وأكثرها انتشارا في العالم، تأسست في مدينة نيويورك عام 1843 على يد مهاجرين يهود من ألمانيا، وتتخذ من الشمعدان اليهودي شعارا لها. ساهمت في تأسيس مستعمرات يهودية صغيرة بفلسطين في وقت مبكر، وسخّرت جهودها للدفاع عن وجود اليهود بفلسطين ولعولمة خطابهم الصهيوني. وكغيرها من المنظمات الماسونية فإنها تقدم أنشطتها تحت غطاء خيري وثقافي، وتستقبل دوريا كبار الشخصيات لإلقاء كلمات على منابرها، مثل الرئيس الأمريكي دونالد ريغان الذي زار مقرها في واشنطن خلال حملته الانتخابية عام 1980.
5- نوادي الليونز Lions: وتعني الأسود (جمع أسد) وهي تتخذ من من الأسد شعاراً لها، ويُعتقد أن الأسود دلالة على حراس الهيكل، لكن البعض يرى أن الاسم مشتق من الأحرف الأولى للعبارة التالية liberty intelligence our nations safety، وقد تأسست على يد ملفن جونز عام 1915 لتكون بمثابة نوادٍ اجتماعية لنخبة المجتمع، ومن الملفت أنها لا تقبل طلبات الانتساب بل يرسل قادتها عروضهم لمن يرونه مناسبا لأفكارهم وتوجهاتهم كي ينضم إليهم.
6- نوادي الروتاري: تعني هذه الكلمة الدوران، في إشارة إلى تناوب عقد بعض الاجتماعات في بيوت الأعضاء ومكاتبهم. وقد تأسست هذه المنظمة على يد المحامي الأمريكي بول هارس عام 1905 ولها فروع حول العالم، وبما أنها تنفي عن نفسها الانتماء للماسونية فقد تمكنت من اختراق الدول التي تحظر الماسونية كالدول العربية مثل مصر، وهي تستقطب أيضا نخبة المجتمع كالسياسيين والفنانين، وتقدم لهم خدمات ترفيهية وتثقيفية إلى درجة أنها رحبت عدة مرات بتقديم محاضرات دينية لبعض “الدعاة الجدد” في القاهرة.
تأسس نادي روتاري مصر الجديدة عام 1954 ويعد من أقدم النوادي في المنطقة وما زال يضم نخبة المجتمع المصري
7- محفل برنس هال: أسسه الضابط الأميركي من أصل أفريقي برنس هال عام 1775 بانضمامه إلى أحد المحافل العسكرية الإنجليزية، وذلك بسبب رفض الماسون الأميركيين البيض لانضمام السود إليهم. وبعد استقلال الولايات المتحدة توسع هذا المحفل وأصبح منظمة بذاتها تتبعها محافل أخرى للأميركيين الأفارقة.
8- سيوتس: هو ناد ماسوني أنشئ في سان فرانسيسكو عام 1905، وجميع أعضائه حاصلون على درجة الأستاذ الماسوني، وتعرف محافله باسم الهرم، وبالنظر إلى شعاره يمكن اكتشاف صورة رأس بافوميت والشمس بين قرنيه.
النوادي الاجتماعية الفرعية بالتوازي مع تأسيس المنظمات الماسونية المذكورة أعلاه، والتي تنتشر في شتى أنحاء العالم وتقدم، ولكي تستوعب الماسونية أكبر قدر ممكن من المجتمع في محافلها، انبثقت عنها عشرات الجعيات والنوادي الفرعية التي تحتوي كافة شرائح المجتمع وتقدم أنواعا مختلفة من الخدمات وتلبي معظم الاهتمامات، ونذكر منها على سبيل المثال:
الكلية العظمى لطقوس الولايات المتحدة: مخصصة لدراسة الطقوس القديمة للماسونية.
حلقة مراسلي التيجان الأربعة: جمعية للدراسات الماسونية مكونة من الأساتذة الماسون ذوي الاهتمامات الفكرية والأدبية.
جوقة الشرف: جمعية للمحاربين القدماء من الشراينرز.
أندية منتصف الليل: صناديق لرعاية الأسر الماسونية في حالة موت معيلها.
نظام ديسومز: جمعية مخصصة للرجال الصم من أقارب الأساتذة الماسون.
جمعية محبي الحقيقة: مخصصة لدراسة الفلسفة والتاريخ الماسونيين.
النظام الملكي للمهرجين (جيسترز): منظمة يختار أعضاؤها من بين الشراينرز وتتخذ طابعا ترفيهيا.
نظام كيتزالكواتال: جمعية خاصة بالشراينرز المهتمين بالأساطير المكسيكية، وتقام بعض طقوسها خلال الحج إلى أهرامات المكسيك.
النادي الماسوني العالمي للدراجات النارية: يسعى لاستقطاب الشباب من محبي ركوب الدراجات النارية.
نظام النجمة الشرقية: تأسس عام 1850 وهو يضم الرجال والنساء معا، ومع أنه يتخذ من النجمة الخماسية شعارا له (وهي ذات رمزية شيطانية) فإنه يُعلن أن نظامه الأساسي مستمد من الإنجيل، مع أنه يستقبل المؤمنين بأديان أخرى.
محفل قوس قزح للفتيات في أوكلاهوما (Sorcha A. Hazelton)
النظام العالمي لفتيات قوس قزح: جمعية تأسست عام 1922 في أمريكا وتضم في عضويتها الفتيات من عمر 12- 21 سنة فقط، وهي جمعية تحظى برعاية نظام النجمة الشرقية.
النظام العالمي لفتيات أيوب: مخصص للبنات من عمر 10- 20 سنة فقط.
نظام دي مولاي: جمعية خاصة بالفتيان من عمر 12- 21 سنة، تأسس عام 1919 وهو يحمل اسم آخر أستاذ أعظم لفرسان الهيكل.
المحفل المحترم لحقوق الإنسان: تأسس في فرنسا عام 1893 ليكون أول محفل فرنسي مختلط يسمح بعضوية النساء.
نظام الناسجات: تأسس في هولندا في الثلاثينيات من القرن العشرين لاحتواء السيدات الماسونيات.
النظام المصري القديم لأميرات شارمخو: جمعية تضم السيدات من عائلات الشراينرز.
بنات المقنع: أخوية خاصة بقريبات أعضاء الغروتو في أمريكا.
بنات النيل: أخوية خاصة بقريبات الشراينرز، ويقع مقرها في سان فرانسيسكو.
جاء في منشور صادر عن مؤتمر الشرق الأعظم الفرنسي عام 1904 “إن آلاف المواطنين يترددون على المحافل للتباحث في شؤون الحياة وللدفاع عن الأفكار التي تبثها المحافل في وسائل الإعلام واللقاءات السياسية، وهكذا يتكون الرأي العام وتوجه الانتخابات، ومن ثَم يصبح البرلمان خاضعا لنا، وهكذا يجب أن تكون الديمقراطية”.
الماسونية في العالم الإسلامي سنستعرض نماذج لأهم المناطق التي تغلغلت فيها الماسونية في عالمنا الإسلامي، مع التأكيد بأن هناك مناطق أخرى لا يتسع لها المقال.
1- الدولة العثمانية
بدأ التغلغل الماسوني في العالم الإسلامي رسميا مع تأسيس أول محفل ماسوني في الدولة العثمانية سنة 1721، وذلك بمنطقة غالاتا سراي في إسطنبول، ثم توالى تأسيس المحافل واستقطاب النافذين والمفكرين إليها.
في عام 1907 أسس المحامي اليهودي “عمانوئيل قره صو” محفل سالونيك (وهي مدينة تقع في اليونان حاليا) بالتعاون مع الماسونية الإيطالية والشرق الأعظم الفرنسي، ويؤكد كثير من المؤرخين أن هذا المحفل عمل على إزاحة السلطان عبد الحميد الثاني بسبب رفضه هجرة اليهود إلى فلسطين. حيث أقنع “قره صو” رجال اتحاد تركيا الفتاةبالانتماء إلى الماسونية لحمايتهم من جواسيس السلطان، وقد أسسوا بالفعل جمعية الاتحاد والترقي التي أجبرت عبد الحميد على إعادة العمل بدستور سنة 1876، ثم خلعته عام 1909 لتعين محمد رشاد مكانه.
عمانوئيل قره صو يبلغ السلطان عبد الحميد الثاني بقرار خلعه عام 1909
في السنة نفسها أنشئ 12 محفلا جديدا يقودها يهود الدونمة الذي يظهرون الإسلام، وأسس الأمير عزيز حسن “محفل الشرق الأعظم العثماني” مع وصول عدد المحافل إلى 65، وأصبح وزير الداخلية طلعت بك الرئيس الأعظم لهذا المحفل، وأصبح من الشائع بين موظفي الحكومة وضباط الجيش أن الترقي والنفوذ بات مرتبطا بالانتساب للمحافل، كما كان للنواب في مجلس المبعوثان محفل خاص اسمه “محفل الدستور” وكان من أعضائه وزير المالية اليهودي جاويد بك.
نفى كثير من الغربيين علاقة الماسون بالمؤامرات ضد عبد الحميد وإسقاط الخلافة، لكن الدكتور إيلي خضوري عثر في سنة 1974 على إحدى وثائق الخارجية البريطانية التي أرسلها السفير البريطاني في إسطنبول جيرارد لوثر عام 1910 إلى وزير خارجيته يشرح فيها دور اليهود والماسون في المؤامرة.
وبعد إسقاط الخلافة تماماً واعتلاء مصطفى كمال أتاتورك -الذي كان عضوا في محفل فيدانا ويُعتقد أنه من يهود الدونمة- سدة الحكم في تركيا عام 1923، بدأت عملية انتزاع الهوية الإسلامية من البلاد بإغلاق الزوايا الصوفية والكثير من المساجد ومنع الأذان بالعربية واعتماد الحروف اللاتينية للغة التركية وحظر الحجاب في أماكن كثيرة.
وفي عام 1936 أغلقت المحافل أبوابها وسلّمت ممتلكاتها إلى “بيوت الشعب” التي أنشأها حزب الشعب الجمهوري الحاكم “بهدف إنهاض الروح العلمانية في تركيا”، على اعتبار أن مهمتها اكتملت بإسقاط الخلافة ولم يعد لها أي طموح سياسي، ولكن يقول البعض إن أتاتورك هو الذي أغلقها خشية تدخل الغرب في حكومته من خلالها. وعلى أي حال فقد كان عدد من كبار وزرائه من الماسون، ولايزال أتاتورك حتى اليوم هذا يحظى بتمجيد الماسون، ففي العاشر من نوفمبر 1993 قام الماسون بزيارة جماعية لضريحه وكتب أحد أساتذتهم ويدعى “أونده أقطامش” في دفتر التشريفات ما يلي: “سوف لن ننتهك علمنا وكتابنا والمبادئ التي نعتبرها مقدسة، والعملية التي بدأت بهاتاي سنواصلها دون أن ننسى الموصل وكركوك والجزر الاثني عشرة. إننا حاضرون للتضحية بأرواحنا. ارقد هنيئاً”. علما بأن هاتاي هي منطقة لواء الإسكندرون السوري الذي اغتصبه الكماليون من سوريا، أما الجزر فتقع في بحر إيجة وتتبع لليونان، في حين يسعى الانفصاليون الأكراد بدعم من الغرب وإسرائيل لفصل الموصل وكركوك عن العراق.
أعضاء المحفل التركي الأكبر يحتفلون بمرور 90 عاما على تأسيس المحفل بزيارة ضريح أتاتورك (mason.org.tr)
وبعد 13 سنة من التوقف الظاهري عادت الماسونية التركية للنشاط سنة 1948 بالتزامن مع إعلان دولة إسرائيل على أرض فلسطين، ورصد باحثون أسماء أكثر من 1900 ماسوني ضمن الشخصيات البارزة في تلك الفترة وعلى رأسهم سليمان ديميريل الذي عمل رئيسا للوزراء سبع مرات قبل أن ينتخب رئيسًا للجمهورية، ولعبت الماسونية دورا واضحا في تعزيز علاقة تركيا مع إسرائيل، إلى أن تمكن حزب العدالة والتنمية من تقليص هذا الدور تدريجيا منذ وصوله للحكم عام 2002.
2- مصر
من جهة أخرى، يرجح مؤرخون أن أول ظهور للماسونية في البلاد العربية تجسد في محفل إيزيس بالقاهرة الذي أنشئ عام 1798 إبان حملة نابليون على مصر، ثم تبعه تأسيس محفل ممفيس عام1838 ، وكانت المحافل المصرية تتنوع في تبعيتها للمحافل والشروق الإنجليزية والفرنسية والإيطالية ويتحدثأعضاؤها بلغات أجنبية، وفي عام 1868 تقرر إنشاء محفل نور مصر ليكون محفلا وطنيا، كما تأسس المجلس العالي ليكون بمثابة الشرق الأعظم الوطني على طريقة ممفيس.
بعد ذلك بثلاث سنوات أسس تسعة من كبار الماسون مجلس أعلى على الطريقة الاسكتلندية، ثم تم توحيد المحافل والمجالس جميعا تحت مظلة الشرق الأعظم الوطني المصري سنة 1876 مع أن رئيسه كان إيطاليًا واسمه “سوليتوري زولا”. ثم انتخب الخديوي توفيق باشا رئيساً للمحفل بعد 11 سنة، وتصاعد دور المحافل في السياسة والفكر حتى انضمت لها نخبة الحركات الإصلاحية بما فيها الإسلاميون، وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني الذي مازالت رسالة انضمامه للمحفل محفوظة في إيران، حيث أسس بنفسه لاحقا محفلا تابعاً للشرق الأعظم الفرنسي، ويؤكد مؤرخون أن هدفه من ذلك كان مناهضة الاحتلال الإنجليزي، وأنه انسحب من الماسونية كلها فيما بعد برسالة ينتقد فيها انتهازية أعضائها وقبل أن يكتشف صلاتها باليهود.
يقول المؤرخ العراقي علي الوردي إن الماسونية في مصر تختلف من حيث مكانتها الاجتماعية عنها في البلاد العربية الأخرى، فكانت تحظى بالاحترام الشعبي لانتماء الكثير من الأمراء والباشوات ورجال الدين إليها، أما في الشام والعراق فكانت بمثابة تهمة وشتيمة، مما دفع جرجي زيدان لتأليف كتابه “تاريخ الماسونية العام” للدفاع عنها.
3- الشام
وفي بلاد الشام، ظهر أول محفل ماسوني في بيروت سنة 1862 تحت رعاية الشرق الأعظم الاسكتلندي وعُرف باسم شرق فلسطين، وبعد ست سنوات تأسس “شرق لبنان” برعاية الشرق الأعظم الفرنسي، ثم أقيمت محافل عديدة في دمشق وحمص وحلب وعينتاب والإسكندرونة وأنطاكية، وكان معظمها تابعا للشرق الأعظم الإيطالي. ويقول جرجي زيدان إن الأمير عبد القادر الجزائري هو أول من أدخل الماسونية إلى دمشق بتأسيس محفل سورية.
المحفل الماسوني بدمشق أثناء الاحتلال الفرنسي في منتصف الثلاثينيات يضم كبار رجال الدولة وعلى رأسهم رئيسا الحكومة جميل مردم بك وعطا الأيوبي والمدعي العام حنا مالك
ولم يأت عام 1923 إلا وقد بلغ عدد المحافل في سورية ولبنان وفلسطين 30 محفلاً تضم نحو خمسة عشر ألف ماسوني، وتنتمي إلى خمسة شروق دولية، وبعد الاستقلال أصبح بعضها يتبع محافل أميركية. وكان من أبرز أعضاء تلك المحافل بدر الدين الشلاح وفارس الخوري وأديب الشيشكلي وفوزي سلو، وقد طالب القطب الأعظم محمد سعيد (حفيد عبد القادر الجزائري) بأن يستقل المحفل الأكبر السوري العربي عن التبعية للخارج عام 1951، ومن الملفت أن بعض تلك المحافل كان يتخذ أسماء إسلامية مثل أويس القرني وخالد بن الوليد، لكن هذا كله لم يكن كافيا لإقناع الناس ببراءة الماسونية، إلى أن اتُخذ قرار حل كل المحافل في سورية في عصر الحكم البعثي عام 1965.
كانت المحافل تؤيد سلطات الاحتلال أينما وجدت، فمع دخول الفرنسيين إلى الجزائر دعا الماسون فيها سنة 1834 إلى نشر الأفكار الفرنسية والعمل على “بعث نوع من الوحدة العائلية لتكوين شعب فرنسي جديد”. وكذلك الحال في لبنان حيث قرر المؤتمر العام للمحافل الماسونية المنعقد في بعلبك سنة 1924 “التعاون مع سلطات الانتداب”.
في عام 1964 أغلقت الحكومة المصرية جميع المحافل الماسونية في مصر، ويقول المؤرخ أحمد فؤاد عباس إن التحقيقات كشفت أن النادي الماسوني الإنجليزي سبق أن هرّب إلى لندن جميع سجلاته من عام 1952، لكن هذا لم يمنع التوثق من ارتباط النادي بإسرائيل حيث كانت جميع مقتنياته تتسم بالطابع البريطاني-الإسرائيلي. وفي السنة نفسها كشفت مجلة “آخر ساعة” القاهرية أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة سبق لها أن طلبت من الجمعيات الماسونية التسجيل لدى وزارة الشئون الاجتماعية والالتزام بالقانون فرفضت، وأن العراق أقدمت إثر ذلك على إلغاء هذه الجمعيات وتجريم أعضائها عام 1958، ولكن تأخر التنفيذ في مصر بضع سنين، ثم لحقت بهما معظم الدول العربية والإسلامية باستثناء لبنان.
الماسونية والأديان
في خطابها المُعلن للناس، تتبنى الماسونية موقفا ليبراليا يساوي بين كل الأديان، ففي كتابه العقيدة والأخلاق يقول قطب الماسونية ألبرت بايك “إن المسامحة تعني أن لكل إنسان الحق عينه في التعبير عن رأيه وإيمانه؛ وإن الليبرالية تعني أنه طالما لا يمكن لأي إنسان أن يدعي امتلاك الحقيقة (…) فينبغي أن يشعر بأن الآخرين يمتلكونها أيضا ولو كان لهم رأي مضاد”. وقد مرّ معنا أن كبار مؤسسي الليبرالية كانوا أعضاء في المحافل الماسونية.
وتحظر الماسونية في دساتيرها مناقشة السياسة والدين في المحافل، وتشترط على الأعضاء أن يكونوا مؤمنين بدين ما –باستثناء المحافل الفرنسية التي ترحب بالملحدين- وهي تعتمد كتابه المقدس الخاص به عندما يُطلب منه القسَم. لكن جميع المؤلفين الذين كتبوا عن الماسونية بعد انشقاقهم عنها أكدوا أن العضو يكتشف بعد ترقيه أن الدين الوحيد المُعتمد هو الثيوصوفية اليهودية (القبالاه)، فما إن يصل إلى الدرجة الثامنة عشرة في الطقس الاسكتلندي أو الدرجة الرابعة في طقس يورك حتى يصبح القسم على التوراة وحدها. وإذا نجح في الارتقاء إلى أعلى الدرجات فسينتهي الأمر بالماسوني إلى عبادة الشيطان.
لذا تصدّى المسلمون والكاثوليك للماسونية بشدة، في حين نجد تقاطعا في المصالح بين الماسون وأديان أخرى كالبوذية والهندوسية والبروتستنتية، مع أن هذا التوافق لا يظهر لدى جميع رجال الدين، وفيما يلي ملخص لأهم المواقف الدينية من الماسونية:
1- موقف الإسلام:
قام المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بدراسة هذه المنظمة وأصدر في عام 1978 بيانا مطولا جاء فيه أن أعضاء الماسونية المغفلين يُتركون أحراراً في ممارسة عباداتهم الدينية للاستفادة من توجيههم بما يحقق مصالح المنظمة، في حين يرتقي الملحدون في درجاتها العليا، وأنها ذات أهداف سياسية ولها في معظم الانقلابات أصابع ظاهرة أو خفية، كما أنها يهودية في جذورها وإدارتها، وتسعى لهدم الأديان جميعاً ولا سيما الإسلام.
وعليه فقد أفتى المجمع بأن “من ينتسب إليها على علم بحقيقتها وأهدافها فهو كافر بالإسلام مجانب لأهله”.
وفي عام 1979 أصدرت جامعة الدول العربية قرارا ينص على اعتبار الماسونية حركة صهيونية، وأنها تساعد على تدفق الأموال على إسرائيل من أعضائها مما يدعم اقتصادها ومجهودها الحربي ضد الدول العربية.
وفي عام 1984 أصدر الأزهر فتوى جاء فيها أن المسلم لا يمكن أن يكون ماسونياً لأن ارتباطه بالماسونية انسلاخ تدريجي عن شعائر دينه ينتهي بصاحبه إلى الارتداد التام عن دين الله.
2- موقف الكاثوليكية:
من المعروف تاريخيا أن فرسان الهيكل اصطدموا مع الفاتيكان مما أدى إلى تفريق جماعتهم وإعدام قادتهم في عام 1310م على يد البابا كليمنت الخامس، إلا أننا نقلنا في مقال “فرسان الهيكل” عن كتاب “المُلك الإلهي” أن الأسرة الميروفنجية -المنحدرة من نسل داوود- تغلغلت إلى داخل الفاتيكان قبل ذلك ونجحت في تعيين ستة بابوات من أصول ميروفنجية، كان أولهم البابا سلفستر الثاني سنة 999م، وآخرهم هو أوربان الثاني الذي أعلن بدء الحروب الصليبية عام 1096 باسم الكاثوليكية، ولا ندري إن كان قرار كليمنت الخامس بالقضاء على فرسان الهيكل قد جاء بعد تخليص الكنيسة من التغلغل اليهودي فيها أم أنه كان إجراء ظاهريا بضغط من الملك الفرنسي فيليب الرابع.
على أي حال، اصطدمت الفاتيكان أيضا بالماسونية (وريثة فرسان الهيكل) بعد فترة قصيرة من تأسيسها، حيث أصدر البابا كليمنت الثاني عشر عام 1738 مرسوما جاء فيه: “أفادتنا الأنباء عن تأليف جمعيات سرية تحت اسم فرماسون وأسماء أخرى شبيهة بهذا الاسم. ومن خواصها أنها تضم إليها رجالاً من كل الأديان والشيع، يرتبطون فيما بينهم بروابط سرية غامضة، وحسبنا شاهداً على أن اجتماعاتها الخفية هي للشر لا للخير، وأنها تبغض النور، وإذا كان فكرنا في الأضرار الجسيمة التي تنجم عن هذه الجمعيات السرية رأينا منها ما يوجب القلق، سواء كان لسلامة الممالك أم لخلاص النفوس، ومن بعد أخذ رأي إخوتنا الكرادلة، ولعلمنا التام، وقوة سلطتنا وحكمنا بأن هذه المنظمات، والجماعات المعروفة باسم الفرماسون يجب رذلها ونفيها. وبناءً عليه نرذلها ونشجبها بقوة هذا المنشور الذي يريد أن يكون مفعوله مخلداً”.
في عام 1917 أصدر الفاتيكان قرارا آخر بالحرمان الكنسي لمن ينضم إلى الماسونية، وفي عام 1966 حاول البابا بولس السادس استمالة الماسون عبر وعدهم برفع الحرمان عنهم في حال الانشقاق عنها “مهما كان حجم الفضائح والضرر الذي تسببوا به”، تقرر السماح للأساقفة برفع الحرمان عمن يرونه مناسباً من الماسون ضمن شروط وحالات محددة.
في عام 1974 حاول الماسون بشدة إقناع الفاتيكان بتغيير موقفها، وبعد ست سنوات من الاجتماعات والمفاوضات أصدرت الفاتيكان تقريرا يؤكد استحالة التقاء الطرفين على عقيدة واحدة، وجاء في التقرير أن الماسونية مذهب “ربوبي” ينكر إمكانية وجود الوحي الإلهي. وفي عام 1981 أعاد مجمع العقيدة والإيمان في الفاتيكان التأكيد على عدم إلغاء الحرمان الكنسي للماسون.
الفاتيكان
ما زال الموقف الرسمي المعلن للفاتيكان يصر على عدم التلاقي مع الماسونية، لكن هذا لم يمنع بعض الكرادلة من الانضمام سرا أو علنا للمنظمة وسط ترحيب الماسون. ومع ذلك يعتقد بعض المؤرخين والباحثين أن هذا الموقف المعلن لا يعني بالضرورة عدم وجود علاقة سرية بين الفاتيكان والجمعيات السرية، فمن المعروف أن خزائن الفاتيكان تُعد من أكثر الأماكن سرية في العالم، لاحتفاظها بوثائق لا يعلم مضمونها إلا النخبة هناك، وهذا وحده يكفي لإقناع الكثيرين بأن الفاتيكان لا تختلف في آلية عملها كثيرا عن الجمعيات السرية، فكما أن الماسونية لا تُطلع معظم أعضائها ممن لم يرتقوا إلى أعلى الدرجات على أسرار عقائدها، فربما يجهل معظم أتباع الفاتيكان الذين يتجاوز عددهم 1.13 مليار شخص حول العالم أن النخبة في الفاتيكان تخفي عنهم شيئا ما.
ويستشهد المشككون بالتقارب الذي حدث بين الفاتيكان والصهيونية، لا سيما بعد إعلان البابا بولس السادس عام 1965 براءة اليهود من دم المسيح، ولقائه مجموعة من أعضاء نادي “الروتاري”، وهو أمر تكرر أيضا مع البابا الحالي فرانسيس، مع أن قرارا كاثوليكيا سابقا كان ينص على أن “المسيحي الذي ينضم لنادي الروتاري يتعرض إيمانه للشبهة”.
وثيقة انضمام رئيس الوزراء الإيطالي السابق برلسكوني للمحفل P2
ومن أهم المواقف التي قد تدل على وجود علاقة سرية بين الطرفين، ما ذكرته صحف وكتب وأفلام وثائقية كثيرة عن فضيحة تورط الماسونية مع المافيا وأخطبوط الفساد الإيطالي في مقتل مدير بنك أمبروزيانو الإيطالي روبرتو كالفي عام 1982، الذي وُجد مشنوقا ومتدليا من جسر في لندن بطريقة تحمل رموز الماسونية، ولكن الملف أقفل قضائيا على أنه انتحار، حيث يقول المشككون إن أصل الجريمة يعود إلى محاولة البابا يوحنا بولس الأول فتح تحقيق في قضايا فساد ببنك الفاتيكان منذ بداية توليه المنصب عام 1978، وتقديمه قائمة بأسماء أكثر من مئة عضو في كنيسته للاشتباه بعضويتهم في محفل “بروباغاندا-2” P2 الماسوني الإيطالي، وهو الأمر الذي تسبب كما يبدو بالعثور على البابا نفسه ميتا (وبالأحرى مقتولا) في فراشه بعد 33 يوما من تنصيبه فقط، حيث تم تحنيطه فورا دون إجراء فحص طبي، ليتولى بعده يوحنا بولس الثاني كرسي البابوية، ويتم إغلاق ملف التحقيقات بشأن تغلغل الماسون في الكنيسة، وتبدأ سلسلة اغتيالات واعتقالات بشأن كل من كان يحاول ملاحقة الفضيحة من القضاة والمسؤولين والصحفيين والمصرفيين، ووصولا إلى مقتل كالفي نفسه وتعليقه أمام كل سكان لندن، دون أن يتمكن البابا -وربما دون أن يحاول- تخليص كنيسته وطائفته كلها من الفساد الذي قيل إن له علاقة بتجارة أسلحة وتمويل حروب. [المزيد من التفاصيل في كتاب: النشأة الدموية].
3- موقف البروتستنتية:
سبق أن أوضحنا في بحث المسيحية المتصهينة العلاقة الوطيدة بين اليهودية وبين البروتستانتية المتمردة على الكاثوليكية، لكن بعض المؤرخين (كما نجد في كتاب الماسونية للسقا أمينى وأبو حبيب) أكدوا أن مارتن لوثر -أحد مؤسسي البروتستنتية- كان ماسونيا، وأنه كان على علاقة وثيقة باليهود.
لكن البروتستنتية تظل مع ذلك كنيسة مسيحية تؤمن بالثالوث وترفض العقائد الوثنية التي يخفيها الماسون وتنتهي بهم إلى عبادة الشيطان، ففي اجتماع سنوي للمجمع المعمداني الجنوبي عام 1993 تم بحث موقف الكنيسة من الماسونية، ومع أنه اعترف بقيمة أعمالها الخيرية فقد أكد وجود 8 اختلافات جوهرية بين الماسونية والمسيحية، وأهمها استخدام الماسونية مصطلحات مسيئة تجاه الله، واستخدامها للأيمان الدموية التي يحظرها الكتاب المقدس، واعتقادها بأن الخلاص يتحقق عبر الأعمال الصالحة فقط وليس بالإيمان بالمسيح.
ويجدر بالذكر أن جانيت زوجة جوناس التي ورد ذكرها في هذا المقال عند استعراضنا لكتاب “تبديد الظلام” كانت سيدة بروتستنتية متدينة، وهذا لم يمنعها من إقناع زوجها المتحدر من سلالات مؤسسي الماسونية -وفق ادعاء المؤلف- بترك الدين اليهودي وفضح المؤامرة.
المؤامرة.. نظرية أم حقيقة؟ اعتمدت الماسونية طوال قرون على السرية وملاحقة كل من يكشف أسرارها، فهناك روايات عدة عن حالات اغتيال لمؤلفين وصحفيين حاولوا تسريب وكشف مؤامراتها مثل الروسي شيريب سبيريدوفيتش صاحب كتاب “حكومة العالم الخفية”.
ومع ذلك، بدأت الماسونية في القرن العشرين بانتهاج سياسة الانفتاح التدريجي، ولا سيما في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات التي أتاحت للجميع البحث والنشر بأقل قدر من القيود التي عرفها الإنسان في تاريخه، فباتت أسرار الماسونية وتاريخها الغامض مادة مثيرة لفضول الباحثين، ما دفع بأقطاب الماسونية -كما يبدو- إلى اعتماد سياسة الضخ المضلل لكمية هائلة من المعلومات التي يختلط فيها الحق بالباطل، حتى يصعب على الباحث تجريد الحقيقة وتوثيقها.
في الوقت نفسه، تسمح بعض المحافل للصحفيين بحضور بعض اجتماعاتها وإجراء مقابلات مع أعضائها لإظهار “الوجه الخيري” للمنظمة، كما افتتحت بعض المحافل متاحف ماسونية لاستقبال الزوار وتنظيم جولات سياحية فيها، في حين أطلقت هوليود وكبرى وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة عددا هائلا من الأفلام السينمائية والوثائقية والكتب والمجلات التي تُظهر الماسونية في صورة جمعية ثقافية وإنسانية لعبت دورا في حفظ أسرار البناء وحماية كنوز الحضارات القديمة فضلا عن تأسيس الولايات المتحدة على أسس إنسانية عظيمة.
ولا تتعرض هذه الأعمال للمؤامرات التي يوثقها الباحثون في خفايا الماسونية، وفي حال تم طرح شيء منها من قبل الصحفيين في إحدى اللقاءات فسرعان ما يتم نفيها بشيء من السخرية مع وصم من يؤمن بها بالخضوع لعقدة “نظرية المؤامرة”.
ويجدر بالذكر أن الكثير من المواقع والكتب والأفلام التي تفضح مخططات الماسونية و”المتنورين” لا تخلو من المبالغة التي قد تصل حد السخف، وهذا ما يسلط الضوء عليه منكرو المؤامرة، في حين تدور معظم الأبحاث والروايات التي تنفي المؤامرة حول الدوافع النفسية لدى من يؤمنون بوجودها، فالاتهامات تبدأ بالحديث عن شعور بالنقص يدفع البعض للبحث عن جهات كبرى تنشغل بالتآمر ضده أو ضد مجتمعه، وتصل إلى الحديث عن الإصابة بمرض البارانويا “جنون الارتياب” الذي يدفع المصاب للإحساس الدائم بالتعرض للملاحقة والاضطهاد. ومع أن هذه الاتهامات صحيحة في كثير من الحالات، إلا أن نفي المؤامرة يتطلب تحقيقا علميا في صحة وقوع التآمر بالفعل من حيث كونه حدثا تاريخيا ودون هدر الوقت والجهد في البحث عن الدوافع الأيديولوجية لمثبتي المؤامرة وصحتهم النفسية، فمن السهل بالمقابل اتهام منكري المؤامرة باتهامات مماثلة مع عكس الاتجاه.
أمبرتو إيكو
تعد روايات المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو نموذجا “راقيا” للأعمال التي نجحت في تسخيف الاعتقاد بوجود المؤامرة، فهو يستند فيها إلى خلفيته الموسوعية لتاريخ الأديان والصراعات السياسية في أوروبا، ثم يذهب بالقارئ إلى إنكار المؤامرة واعتبارها مجرد هوس.
علما بأن إيكو أقر بأنه اختار الإلحاد بعد إنهاء دراسته للدكتوراه وهو ما زال في العشرينات من عمره، وذلك في مقابلة لصالح مجلة تايم بتاريخ 5 يونيو 2005.
وهناك نمط آخر من المؤلفين والناشطين يحاول إقناع الناس بسخافة فكرة وجود مؤامرة عبر السخرية اللاذعة، فنجد مثل هذا الخطاب كثيرا على ألسنة مشاهير كوميديا الإلقاء Stand-up Comedy في أميركا، كما نجده في أعمال الكاتب الأمريكي روبرت أنطون ويلسون الذي أنجز عددا كبيرا من الكتب والمحاضرات والمقابلات الصحفية لتقديم فكرة المؤامرة (التي ينكرها) في إطار ساخر.
وعندما سأله المذيع ريتشارد ميتزجر عن رأيه في حقيقة “المتنورين”، قال ويلسون بأسلوبه الساخر إنه بعد دراسته لهذه الجماعة طوال ثلاثين سنة فإنه يرى أنهم مجموعة صغيرة من المفكرين الأحرار والمصلحين الديمقراطيين تشكلت داخل الماسونية، ثم استخدمت الماسونية غطاءً للانقلاب على ملوك أوروبا والبابا، ويضيف أنه سعيد جدا بنجاحهم في ذلك، وأنه يتمنى أنهم كانوا قد أكملوا المهمة وتخلصوا من البابا نهائيا. [كتاب Disinformation للمؤلف Richard Metzger، 2011].
إذن فهو لا ينكر المؤامرة فعلا، بالرغم من دأبه على تسخيف المؤمنين بها، ويتمنى مع ذلك أن تحقق كل أهدافها بالقضاء على الأديان.
وبما أن الكثير من المتعلقة بأنشطة الجمعيات السرية هي أصلا طي الكتمان، فمن الصعب إثبات نسبة الكثير من الأحداث التاريخية لها، كما يصعب أيضا إثبات نسبة كثير من الوثائق المسربة لتلك الجمعيات أو لأعضائها طالما كانوا ينكرونها. ومع ذلك فإن جهود بعض المحققين لم تذهب سدى في إقناع قرائهم بصحة الربط بين الأحداث والوثائق والتصريحات وتلك الجمعيات السرية، لكن الجزم يتطلب في رأينا ما هو أكثر يقينا وشمولا من التعلق بالجزئيات، وهذا شأن الوحي المنزل من السماء.
كتاب “الدستور السحري” Codex Magica للمؤلف الأميركي تيكس مارس، هو من المراجع المهمة لأسرار الماسونية وطقوسها ورموزها، إلا أن المؤلف يندفع فيما يبدو كثيرا أثناء رصده لمظاهر انتشار تلك الرموز في المجتمع، ويمكن للقارئ أن يلاحظ المبالغة في عشرات الصور التي ضمّنها في كتابه.
للاطلاع على نسخة إلكترونية اضغط هنا.
لذا فإن من يصل إلى يقين عقلي ووجداني بصحة نسبة القرآن الكريم إلى الله تعالى، سيجد في ثنايا الوحي دلائل كثيرة على صحة نسبة التآمر إلى بني إسرائيل وسعيهم للإفساد في الأرض، بعد إخفائهم للوحي التوراتي وكتمان ما فيه من الهدى عن البشر، بل بث نقيضه لتضليلهم.
ونظرا لضيق المساحة واضطرارنا للإيجاز، فإنا ننصح من أراد التوثق أن يعود إلى كتابَي الباحث المعاصر بهاء الأمير: كتاب “الوحي ونقيضه” الذي يثبت من القرآن الكريم حقيقة وجود المخطط الإسرائيلي، وكتاب “شفرة سورة الإسراء” الذي يستنبط من سورة الإسراء -أو سورة بني إسرائيل- الدليل على أن بني إسرائيل أفسدوا في الأرض مرتين، وأن الثانية منهما هي التي نعيشها اليوم بعلوّهم في الأرض كلها “علوا كبيرا”.
بعد سقوط مخططات “المتنورين” في يد السلطات البافارية، نُشرت عدة كتب مهمة لشرح تفاصيل المؤامرة العالمية، ومنها كتاب اليسوعي الفرنسي أوغستين بيرويل “مذكرات في تنوير تاريخ اليعقوبيون” (1797م)، وكتاب أستاذ الفلسفة في جامعة إدنبره والعالم الرياضي والفيزيائي الاسكتلندي جون روبيسون “الأدلة على وجود المؤامرة” (1798م). ومن الملفت أن روبيسون كان من الماسون الناشطين، حيث زار العديد من المحافل الماسونية في أنحاء أوروبا وفوجئ بوجود مخطط خفي للانقلاب على الحكومات وتدمير الأديان وإشغال الشعوب بحروب طاحنة، ثم تأكدت المؤامرة لديه بظهور وثائق المتنورين على يد حكومة بافاريا، فنشر ما لديه من مشاهدات وأدلة في كتابه، غير آبه بالتهديد والوعيد.
ينشر المجلس الأعلى الماسوني في واشنطن مجلة ماسونية تحت اسم “الطقس الاسكتلندي”، وهي متاحة على الإنترنت مجانا، وسيجد المتصفح فيها صورة مشرقة للماسونية بصفتها جمعية خيرية تقدم نشاطات اجتماعية وإنسانية، مع إرث تاريخي مفعم بالرموز المشوقة لكبار المفكرين والساسة، وطبعا دون أي بعد شيطاني. للاطلاع اضغط هنا.
أهم المراجع جرجي زيدان، تاريخ الماسونية العام، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2012.
أكرم أنطاكي، دراسة “أبناء الأرملة”، موقع معابر، بدون تاريخ.
أندريه برات، المنظمة الماسونية والحق الإنساني، ترجمة جورجيت الحداد، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2008.
محمد علي الزعبي، الماسونية في العراء، معتوق إخوان، 1972.
تبديد الظلام أو أصل الماسونية، عوض الخوري، بدون ناشر، 2002.
عبد المجيد همّو، الماسونية والمنظمات السرية: ماذا فعلت ومن خدمت؟، دار صفحات، دمشق، الطبعة الخامسة، 2009.
محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع.
إبراهيم خليل العلاف، دراسة “الماسونية في تركيا ودورها في الحياة الاجتماعية والسياسية المعاصرة”، مجلة دراسات اجتماعية، بغداد، العددان 3 و4، 1999- 2000.
بهاء الأمير، الوحي ونقيضه.. بروتوكولات حكماء صهيون في القرآن، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2006.
أحمد فؤاد عباس، الماسونية تحت المجهر، جدة، 1988.
محمد بن ناصر أبو حبيب، أثر القوة الخفية الماسونية على المسلمين، بدون ناشر، 1989.
حسين عمر حمادة، شهادات ماسونية، دار قتيبة، دمشق، 1980.
محمد صفوت السقا أمينى وسعدي أبو حبيب، الماسونية، رابطة العالم الإسلامي، 1982.
Christopher Knight & Robert Lomas, The Hiram Key – Pharaohs, Freemasons And The Discovery Of The Secret Scrolls Of Jesus, Barnes & Noble, 1998.
Cyndi Wallace-Murphy & Tim Wallace-Murphy, Rex Deus: The Families of the Grail, Grave Distractions Publications, 2016.
Marilyn Hopkins & Graham Simmans & Tim Wallace-Murphy, Rex Deus: the True Mystery of Rennes Le Chateau and the Dynasty of Jesus, HarperCollins Publishers, London, 2000.
Manly P. Hall, The Secret Teachings of All Ages, H. S. Crocker Company Inc., San Francisco, 1928.
Albert Pike, Morals and Dogma of the Ancient and Accepted Scottish Rite of Freemasonry, 1966.
Michael R. Poll, The Freemasons Key – A Study of Masonic Symbolism, Cornerstone Book Publishers, 2008.
Ethan Harrison, Illuminati Hunter: Adam Weishaupt and the Eye of Horus, 2014.
سنتعرض في هذا المقال لتيار فكري قديم للغاية، حيث لا يُعرف بالضبط تاريخ نشأته، وهو أشبه بإطار فكري عام تنبثق من داخله عشرات الأديان والمذاهب والفلسفات والتقليعات التي ما زالت تتوالد حتى اليوم، فهو ليس دينا أو فلسفة واحدة بل تيار يؤثر على أتباع أديان ومذاهب متنوعة فيعاد من خلاله تأويل تلك الأديان لتظهر في إطار جديد.
تيار عام
مصطلح الغنوصية (Gnosticism) مشتق من كلمة يونانية تعني المعرفة أو العرفان، ويُقصد بها المعرفة الكشفية الإشراقية (الحدسية) التي يكتشف صاحبها المعارف العليا مباشرة بالحدس دون استدلال وتفكير عقلي، ودون حاجة إلى الوحي [انظر مقال مصادر المعرفة]. لذا فهي فلسفة تضع نفسها موضع الدين من حيث اهتمامها بالإجابة على الأسئلة الثلاثة الأساسية للأديان، وهي: المبدأ (من أين جاء العالم؟)، الغاية (لماذا يوجد العالم؟)، والمصير (إلى أين نحن ذاهبون؟)، حيث يزعم أصحابها أنهم يتوصلون عبرها إلى معرفة الحقيقة واكتشاف غاية الحياة وطريق الخلاص، وذلك عبر الطرق السرية الباطنية.
يزعم الغنوصيون أن عقيدتهم هي أقدم العقائد البشرية، وأنها وصلت إليهم مباشرة من كائن خفي يسمونه “المطلق”، وهو ليس بالضرورة إلهاً خالقاً منزهاً كما يعتقد أتباع الديانات التوحيدية، بل هو كائن غامض قد تختلف تفسيراتهم وتسمياتهم له، فقد يسمونه “الكلي” أو “الطاو” أو “الطاقة الكونية” أو “القوة العظمى”.
أما مصطلح “الباطنية” فيعود لغويا إلى الباطن، أي إلى ما يخفى من الشيء، فهو الجانب المقابل للظاهر، ويقال في اللغة “بطنت الأمر” أي عرفت باطنه، أما كلمة “الباطني” فقد تطلق على ثلاثة أشخاص، الأول هو الشخص الذي يكتم اعتقاده ولا يظهره، والثاني هو المختص بمعرفة أسرار الأشياء، أما الثالث فهو الذي يعتقد أن لكل شيء ظاهر وباطن، أي أن لكل نص تأويل خفي، ولكل كلمة معنى سري.
يعد كتاب الزوهار من أبرز الكتب الباطنية المعتمدة لدى القبالاه اليهودية
وعندما نتحدث عن العقائد والفلسفة، فالباطنية هي تيار فكري يعتقد أصحابه أن هناك علوماً خفية تختص بها النخبة من علمائهم الذين يتلقون علمهم بالكشف والإشراق، أي بالحدس وليس الوحي، ونجد لهذا التيار انتشارا داخل معظم الأديان، فهو موجود منذ القدم لدى أتباع الأديان الشرقية كالهندوسية والبوذية والطاوية حيث نجد أثره واضحا في كتاب “الفيدا” المقدس، ويظهر أيضا في اليهودية تحت اسم القبالاه التي تزعم أن للتوراة معنى خفيا يُستخرج من أسرار الحروف والأرقام، حيث يعد كتاب “الزوهار” من أبرز الكتب الباطنية، كما تغلغلت الغنوصية في المسيحية المبكرة على يد مارقيون في أواخر القرن الميلادي الأول، أما في الإسلام فنشأت طوائف باطنية كثيرة داخل المذهب الشيعي على يد الإسماعيليين والدروز، وما زال الأثر الباطني واضحا لدى الشيعة في علم الجفر، بينما نجد بين ظهراني المسلمين السنة مذاهب متعددة من التصوف الفلسفي المتطرف التي تؤمن بأفكار مشابهة، ولا سيما لدى محيي الدين بن عربي وعبد الحق بن سبعين. [أصول الفلسفة الإشراقية، ص119]
يقول الإمام أبو حامد الغزالي (توفي عام 505هـ) في كتابه فضائح الباطنية “إن الباطنية إنما لقبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة” [فضائح الباطنية، ص11].
إذن فالباطنية والغنوصية يدلان على معتقد واحد، فالباطنيون يتشابهون في المعتقد الأساسي مهما كان دينهم الذي ينتمون إليه، ويؤمنون بأن المعرفة الباطنية “الغنوص” هي الغاية وأن الوصول إليها يتم بالإشراق (الحدس)، وذلك عبر التحرر من الماديات حتى تتجلى على العقل الحقيقة المطلقة. ويزعمون أن ذلك يحصل لكل من يسلك طريق العرفان، وأنه ليس بحاجة إلى الوحي الذي يأتي به الأنبياء، ويتم ذلك بالمجاهدات والرياضات الروحية، وبتعلم علوم خاصة لكشف أسرار الحروف والأرقام التي يتم بها كشف التأويل الباطني لنصوص الكتب المقدسة واكتشاف الحكمة السرية المخفية فيها، كما يتم ذلك بتوارث التعاليم والتقاليد التي توصل إليها الحكماء العارفين القدماء ممن توصلوا إلى بعض جوانب الحقيقة باجتهادهم وكشفهم وإشراقهم، فهم يقدسون ما يتركه هؤلاء الحكماء من تأويلات، ويعتبرون أنها تحتوي أيضا بذاتها أسرارا تحتاج إلى الكشف، وأن مؤلفيها لم يكشفوا ما فيها من أسرار لتبقى خفية عن عامة الناس.
تزعم المذاهب الغنوصية أن الوجود الإنساني هو نوع من الموت الروحي، فالشخص الذي يحقق الكشف والاستنارة ينتقل إلى عالم جديد. والأرواح تتناسخ من جسد إلى آخر بحثا عن رحلة خلاصها، فالموت بوابة قد تؤدي إلى القبر أو إلى دورة تناسخ جديدة، وليس هناك بعث للأجساد في القيامة كما تبشّر الأديان السماوية، بل تُبعث الأرواح فقط وتتخلص من الأجساد، فالبقاء في عالم المادة هو أكبر الخطايا، أما التوبة والخلاص والفلاح فلا تتحقق إلا بخلاص الروح من الجسد. [الغنوصية في الإسلام، ص7-11].
كما ترى الغنوصية أن مبدأ الأمر والنهي في القضايا الأخلاقية لدى الأديان السماوية لا يؤدي إلى نشوء أخلاق حقيقية، فالسارق يتوقف عن السرقة كي لا يتعرض بنفسه للسرقة من سارق آخر أو يتعرض للعقوبة، لذا يقترحون ربط الأخلاق بالخير الكامن في النفس الإنسانية بدلا من الخوف. وقد تأثر بهذا المفهوم بعض أتباع الأديان السماوية، ومنهم بعض المتصوفة في الإسلام الذين طرحوا مفهوم الحب الإلهي، بمعنى أن يعبد المسلم الله ويلتزم بأوامره لأنه يحب الله ويتعلق قلبه به، وليس طمعا في جنته أو خوفا من عذابه، لكن علماء مسلمين آخرين يرون أن هذه الدرجة المثالية من الحب ليست ممكنة عمليا.
عصا هرمس كانت رمزا للهرمسية في روما ثم أصبحت رمزا للطب في العصر الحديث
الهرمسية تعرضنا في مقال “الوثنية” بالتفصيل إلى التداخل الذي حصل بين قصة النبي إدريس وشخصيات عدة تحمل اسم هرمس، حيث يبدو أن الكتب السماوية التي أنزلت على النبي قد تعرضت لتحريف وتحوير وإضافات كبيرة، ولعل أهم المؤلفات التي تُنسب إليه هي “متون هرمس” المؤلفة من 18 فصلا، وقد تُرجمت هذه المتون إلى الإنجليزية في العصر الحديث نقلا عن اليونانية، والتي ربما تكون قد تُرجمت بدورها عن المصرية القديمة، أو كُتبت على يد اليونان ما بين القرنين الثاني والثالث الميلادية.
صيغت المتون على هيئة حوار يجريه الحكيم المصري تحوت أو اليوناني هرمس مع تلاميذه. ومع أنها تتضمن عقيدة التوحيد وعبادة الإله الواحد ففيها أيضا أصول الفكر الغنوصي الذي انتقل من الهرمسية إلى عدد لا يحصى من الفلسفات والأديان لاحقا.
نجد في متون هرمس شرحا واضحا لعقيدة الهرمسية في حقيقة الإله والشيطان، حيث تزعم أن هناك إلها خالقا يتجسد في الشمس، وأن الشياطين مخلوقات شريرة إلا أنها هي التي تحكم البشر وكأنها واسطة بين الإله والبشر، لأنها تستوطن الأفلاك والكواكب. وفي أحد النصوص يسمي هرمس الشياطين بالملائكة الشريرة، فهي بالأصل ملائكة غضب عليها الإله وسقطت من السماء، وهي أشبه ما تكون بأنصاف آلهة، تتحكم بالقدر ولا تخضع له، ومع أن الإله (الشمس) هو الذي أوجدها إلا أنه غير قادر على دفع ضررها أو التحكم بالبشر دون المرور بالشياطين.
وفيما يلي نص مترجم من متون هرمس يوضح ذلك: إن العالم المعقول برتبط بالله، والعالم المحسوس بالعالم المعقول، وتقود الشمس عبر هذين العالمين نفحة الله، أي الخلق. حولها الأفلاك الثمانية التي ترتبط بها، فلك النجوم الثابتة. والأفلاك الستة للكواكب والفلك الذي يحيط بالأرض. الشياطين مرتبطة بهذه الأفلاك والبشر بالشياطين، وهكذا كل الكائنات ترتبط بالله، الذي هو الأب الشمولي.
الخالق هو الشمس، والعالم هو أداة الخلق. الجوهر المعقول يوجه السماء، والسماء توجه الآلهة، وتحتها صنفت الشياطين التي تحكم البشر.
تلك هي تراتبية الآلهة والشياطين، وذلك هو العمل الذي يكمله الله بواسطتها ومن أجله ذاته.
[هرمس المثلث العظمة، ص254]
نسخة من اللوح الزمردي تعود للقرن السابع عشر
ومع توسع حجم الأساطير وتراكمها، يبدو أن الكثير من الكتب السحرية والغنوصية والعلمية صارت تُنسب إلى هرمس، حتى قال الفيلسوف الأفلاطوني إيامبليكوس إن هرمس ألّف عشرين ألف كتاب، أما المؤرخ المصري مانيثو الذي عاش في عصر البطالمة فقال إن هذا العدد وصل إلى أكثر من ستة وثلاثين ألف كتاب. وقد نسبوا إليه كتبا في الموسيقى والكيمياء والطب والفلسفة والجغرافيا والهندسة والسحر وفي مختلف مجالات المعرفة التي كانت متداولة.
أما كليمندس الإسكندري فينسب إلى هرمس 42 كتابا فقط، ويُعتقد أن معظمها فُقدت أثناء حريق مكتبة الإسكندرية الكبرى عام 30 قبل الميلاد وخلال حملة المسيحيين الأوائل على بقايا الوثنية، لكن هناك اعتقادا واسعا بأن ما بقي من كُتبه قد تم حفظه لدى الجمعيات السرية، وهي التي حافظت على وجودها عبر فرسان الهيكل وجمعية الصليب الوردي ثم الماسونية وجمعية الحكمة الإلهية و”المتنورون”.
لوحة تخيلية للوحة الزمردية رسمها هينرش خونراث عام 1606
ومن الكتب التي مازالت تُنسب إلى هرمس نص موجز يدعى اللوحة الزمردية، لكن المؤلف الماسوني مانلي هول يقول إنه ظهر للمرة الأولى باللغة العربية ما بين القرنين السادس والثامن الميلاديين وإن كاتبه نسبه إلى هرمس “إدريس”. وعندما بدأ الأوروبيون بالاهتمام بالخيمياء اعتبروا هذا النص مرجعهم الأساسي، ومن أهم المبادئ الواردة فيه “الذي في الأرض يساوي ذاك الذي في السماء”، ما يعني تأليه الإنسان وحلول الإله فيه، وهو معتقد تقوم عليه فلسفة القبالاه اليهودية والجمعيات السرية. [THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, 114]
في القرن التاسع عشر رسم الساحر الفرنسي إليفاس ليفي الشيطان بافوميت معبود الحركات السرية وهو يشير للأعلى والأسفل
في عام 2014 أنتجت هوليود فيلم رعب بعنوان “كما هو فوق كذلك هو تحت” وتجاوزت إيراداته 40 مليون دولار
“كما هو فوق، كذلك هو تحت”
هذه الجملة ترجمة حرفية للجملة المتداولة بكثافة في الغرب As Above, So Below، وقد أصبحت متداولة أيضا في مقررات التنمية البشرية وتطوير الذات بالدول العربية، حيث يتم من خلالها إقناع المتدرب بأن الإنسان مسؤول عن قدره، فكما تكون تصرفاته في الأرض يُكتب قدَره في السماء، وهذا منطق يتعارض مع الإسلام والأديان السماوية، فالقدَر ليس تابعا دائما لتصرفات الإنسان وقد يكون خارجا عن إرادته.
يسمى المتن الثاني من متون هرمس باسم بويماندريس Poimandres، ويطلق عليه أيضا اسم “سفر الرؤيا”، وقد تعرضنا له في مقال “الوثنية“، لكن ما يهمنا منه هنا هو أنه يعد من أوائل المراجع التي وضعت أصول الرؤية الغنوصية في خلق العالم، فالخالق عقل يفيض عنه النور، وعندما اندمجت الأرض مع السماء خرج منهما سبعة إنسيين تجتمع فيهم الذكورة والأنوثة، وبطريقة ما تم توالد البشر عن هؤلاء بعد فصل الجنسين، ويمكن للباحث أن يكتشف أصول القبالاه أيضا في هذه النظرية لخلق العالم والإنسان، كما نجد فيها فكرة التقمص وتناسخ الأرواح التي تبنتها البراهمية والهندوسية.
هناك تداخل كبير بين الوثنية والهرمسية والجمعيات السرية، إلى درجة يصعب فيها التمييز بين هذه المشارب الثلاث، فالديانات الوثنية الأولى كانت تتضمن في قلب كهنوتها منظومات سرية وتفسيرات باطنية غامضة، وكانت تنشأ من داخلها باستمرار أديان جديدة تعمل على إعادة تأويل الأساطير الكبرى في روايات باطنية أخرى، ولا يشذ عن هذا التقليد أي دين وثني قديم سواء في بلاد الرافدين أو مصر أو اليونان أو الهند أو الصين، وحتى الأديان الأفريقية والأمريكية.
وما بقي اليوم من آثار الهرمسية لم تعد له صلة بالوحي والنبوة، حيث يرى مؤرخون أن “الحكمة الهرمسية” تتضمن ثلاثة فروع، أولها الخيمياء التي تخلط بين الجانب الروحي-الخرافي وبين الكيمياء التجريبية، فتهتم مثلا بتجارب مزعومة لتحويل المواد الرخيصة إلى الذهب، والفرع الثاني هو التنجيم الذي يخلط بدوره بين الشعوذة والسحر وبين علم الفلك، ويؤمن أصحابه بأن الكواكب كائنات مقدسة وأن حركتها تؤثر على الأرض والإنسان، أما الفرع الثالث فهو السيمياء الذي يعد ضربا من ضروب السحر للتواصل مع الشياطين، مع أن أصحابه يزعمون التواصل مع الآلهة. [THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, 144]
ويُعتقد أن الهرمسية تقدس شكل المثلث بسبب هذا التقسيم الثلاثي، وهو الأمر الذي انتقل لاحقا إلى الجمعيات السرية المتأثرة بالهرمسية وصولا إلى الماسونية وجمعية المتنورين التي تتخذ المثلث شعارا لها.
نظرية الفيض هناك تياران فلسفيان كبيران لمحاولة تفسير الصلة بين الإله والعالم (الكون)، أي بين الخالق والمخلوقات، ونتج عن كل منهما نظريات ومذاهب فرعية. وباختصار شديد يرى أصحاب التيار الأول أن هناك صلة سببية بين الإله والعالم مثل ارتباط المسبب بسببه والمعلول بعلته، أي أن العالم حادث (مخلوق) والإله هو الذي أحدثه (خلقه) من عدم، وهذا ما يعتقد به معظم المؤمنين بالأديان السماوية، مع بعض الاختلافات الصغيرة.
الفيلسوف اليوناني أفلوطين
أما فلاسفة التيار الثاني فيعتقدون أن هناك مشكلة في الارتباط السببي بين الإله والعالم، لذا يفترضون أن الكون قديم (أزلي بلا بداية) مع أنه مخلوق، ويضعون لتبرير هذا التناقض افتراضات مختلفة، وقد تبنّى هذه النظرية بعض فلاسفة اليونان، وتبعهم في ذلك فلاسفة منتسبون للإسلام مثل الفارابي وابن سينا.
وضمن هذا التيار ظهرت نظرية الفيض على يد الفيلسوف اليوناني أفلوطين الذي عاش في الإسكندرية بالقرن الثالث الميلادي ويُنسب إليه مذهب “الأفلاطونية الجديدة”، وقد استقى آراءه من خليط يوناني وبوذي ويهودي ومسيحي، ثم تأثر به الكثير من الباطنيين في أديان مختلفة. [من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص102]
اضطر أتباع هذا المذهب إلى القول بآراء غير منطقية وغير ضرورية لأنهم سلموا من البداية بأنه لا ينبغي أن يكون هناك ارتباط سببي بين الخالق والكون، فابتكروا أيضا مبادئ فلسفية يرى معظم الفلاسفة أنها باطلة، مثل اعتقادهم بأن الكثرة لا يمكن أن تصدر عن الواحد من جهة واحدة وإلا صار الواحد كثيراً، أي أنه لا يمكن للخالق الواحد أن يخلق مخلوقات متعددة، وأن الشيء لا يوجد من غير جنسه، وأن الشيء المتغير (الكون) لا يصدر مباشرة عن غير المتغير (الإله) بل لا بد من واسطة. وبالنتيجة اضطر هؤلاء إلى القول إن الإله الواحد يصدر عنه مباشرة شيء واحد سموه “العقل الأول”، ثم صدر عن العقل الأول عقل ثان، وصدر عن الثاني عقل ثالث، وهكذا إلى العقل العاشر (واهب الصور) والذي قالوا إنه صدر عنه العالم السفلي وهو الكون المادي الذي نعيش فيه. وبمقارنة بسيطة يمكن أن نرى أثر الهرمسية -التي تعبد الشمس وتقدس الكواكب- في هذه الفلسفة.
انتقلت نظرية الفيض كما هي من أفلوطين إلى الفارابي وابن سينا بالرغم من كونهما مسلمين، حيث افترضا أنهما تمكنا بهذه النظرية من نفي النقص عن الله، وأنهما جعلا بين الإله والكون مسافة تتخللها عشرة “عقول” خيالية وهمية. وللمزيد من التنزيه -الذي تخيلاه دون ضرورة- قالوا إن الإله علِم بذاته وعلم أنه مبدأ الخير في الوجود ففاض عنه العقل الأول، وكأن أصحاب هذه النظرية يتخيلون أنه من النقص أن يقصد الله تعالى خلق العالم وأن يقول له كن فيكون، وهذا الافتراض لا داعي ولا مبرر له. وقد رد الإمام الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” على هذه الافتراضات الخيالية فلسفيا وأثبت أن المبادئ التي استندت إليها لم تكن ضرورية أصلا.
علاوة على ما سبق، تأثر أصحاب هذه النظرية بالغنوصية، وقالوا إنه لا يمكن الوصول إلى الألوهية بالعقل، لأنه قاصر عن ذلك، وإن معرفة الإله تتم عن طريق العرفان، وذلك بعد القضاء على الغرائز والأحاسيس المادية، ثم الوصول إلى ما أسموه حالة الفناء في الواحد (فقدان الإحساس بالذات)، وهي حالة من الوجد والنشوة والذهول، وتكاد تتطابق تماما مع حالتي “النيرفانا” لدى البوذية و”الموكشا” لدى الهندوسية.
أهم المراجع
أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق عبد الرحمن بدوي، وزارة الثقافة المصرية، 1964.
أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة.
لويس مينار، هرمس المثلث العظمة أو النبي إدريس: ترجمة كاملة للكتب الهرمسية مع دراسة عن أصل هذه الكتب، ترجمة عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق، 1998.
عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، بيروت، باريس، 1981.
محمد أبو ريان، أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1959.
هاينس هالم،الغنوصية في الإسلام، ترجمة رائد الباش، دار الجمل، ألمانيا، 2003.
هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.
فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.
خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.
عبد الله مصطفى نومسوك، البوذية.. تاريخها وعقائدها وعلاقة الصوفية بها، مكتبة أضواء السلف، الرياض.
Manly P. Hall, THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, H.S. CROCKER COMPANY INCORPORATED, SAN FRANCISCO, 1928.
بداية غامضة بدأت التجمعات البشرية بالظهور في شبه القارة الهندية بمنطقة دلتا نهر السند الواقعة في البنجاب بباكستان اليوم، وتطورت إلى نشوء حضارة بمدينة “هرابا” تزامنا مع وجود الدولة الأكادية في بلاد الرافدين (العراق)، وكانت الشعوب الأولى تتحدث بلغتي الموندا والدرافيدية، ثم غزت قبائل الآريين الهند قادمة من وسط آسيا وبلاد فارس (إيران) في وقت غير محدد بالضبط ويعتقد أنه ما بين عامي 1800ق.م و1200ق.م.
ابتكر الآريون نظام العبودية الطبقي ليبقى سكان البلاد الأصليين في الطبقة السفلى (شودرا) كي لا يتمردوا، أما الآريون فقسموا أنفسهم إلى كهنة (براهما) ومحاربين وطبقة عاملة، وتم ربط هذه العبودية بالأساطير الدينية. ويجدر بالذكر أن بعض المؤرخين يقولون إن التقسيم الطبقي كان موجودا قبل الغزو الآري.
كانت الكتابة نادرة في الهند حتى بين الكهنة، لذا لا نملك معلومات واضحة عن عبادات الهنود قبل الغزو الآري، وهناك من يعتقد أنه كان لدى الهنود الأوائل كهنة وتقديم قرابين دون وجود لمعابد وأصنام، ثم أصبحت الأساطير الوثنية أساسا للمؤسسة الدينية والسياسية على يد الآريين.
مخطوط ريغ فيدا
تُنسب إلى الكهنة الآريين مجموعة من الترانيم والأساطير باللغة السنسكريتية (أي الكاملة المقدسة) التي لم يكن يتقنها إلا هم، وكان أولها وثيقة تدعى “ريغ فيدا”، وهي تتضمن أكثر من ألف ترنيمة لآلهة الفيدا، كما تُنسب إليهم ثلاثة كتب أخرى هي سامافيدا (أغاني تتلى خلال الصلوات) وياجورفيدا (عبارات نثرية تتلى عند تقديم القرابين) وأتهَرفافيدا (طلاسم سحرية)، وتشكل هذه الكتب الأربعة الضخمة ما يسمى بالفيدات، ويُعتقد أنها إلهامات تلقاها الكهنة الأوائل عبر اتصالهم بمصدر المعرفة المتعالية، وهي حسب زعمهم أزلية وأبدية. وهناك من يضيف كتابا خامسا يدعى البورانات ويعتبره الفيدا الخامسة، كما يضيف البعض إلى الفيدات كتاب مهابْهارات الذي يتضمن أناشيد تدعى بْهاغافاد غيتا، وكذلك كتابي بنْشراترا ورامايان. وسنورد في مقال “نبوة محمد” نصوصا مقتبسة من بعض هذه الكتب وهي تُبشر بنبوته، وبعضها يذكر اسمه الصريح، ما يرجح أن أصولها تعود إلى الوحي السماوي.
مخطوطات من البهاغافاد غيتا
يعد كتاب بْهاغافاد غيتا من أكثر الفيدات تداولا، لأنه مختصر ويجمع خلاصة الدين الهندوسي، ويمكن للعوام قراءته، كما يعد محل إجماع جميع الطوائف والمذاهب الهندوسية.
ووفقا لكتاب “مدخل إلى الأسفار الفيدية” فإنه يمكن اعتبار أي كتاب على أنه من الفيدات طالما أنه يحفظ فحوى النصوص الأصلية للفيدات “حتى إذا لم يكن من جملة النصوص الأصلية الفيدية” [ص 1]، وهذا يكفي للاعتراف بأنها ليست كتبا موحى بها من الإله، حيث يقر باحثو الهندوس أيضا بأن كاتبي تلك النصوص غير معروفين على وجه التحديد.
ويختتم كتاب “مدخل إلى الأسفار الڤِدية” بسرد بعض ما يقال على لسان الباحثين والقارئين للفيدات من نقد، لا سيما بشأن تناقضاتها وإغراقها في الأساطير الخرافية عن العوالم الغيبية، حيث تتناقض أساطير البورانات مع أساطير الفيدات نفسها، لكن المؤلف يكتفي بالقول إن هذا الموقف لا يعكس سوى تحيز القراء غير المختصين لتراث الهند مطالبا الباحثين بأن يقرؤوا الفيدات بأنفسهم من دون فكر مسبق.
في عام ٨٠٠ ق.م تقريبا ظهرت سلسلة كتب أخرى تسمى “البراهمانا”، وهي مجموعة شروح للترانيم والأساطير والتأملات الباطنية (الغنوصية)، وتلاها ظهور كتب “أرانياكا” و”أوبانيشاد” التي استمرت كتابتها حتى عام 300ق.م. وفي هذه الكتابات الأخيرة بدأ ظهور الأثر اليوناني والروماني في الأساطير الهندية، وهو بالأحرى أثر القبّالاه اليهودية المحرفة للوحي كما سنرى لاحقا، مثل تأليه السماء المشرقة في آلهة تدعى “ديفاز” المشتقة من مصطلح “ديوس” اليوناني، وعبادة “هوديوس بيتر” الذي يقابل زيوس اليوناني وجوبيتر الروماني [راجع مقال الوثنية].
ويعد كتاب الفيداس Vedas المرجع الرئيس للهندوسية اليوم، فهو يضم مجموعة النصوص التي وضعها الكهنة والفلاسفة والشعراء خلال ثلاثة آلاف سنة، ويقع في نحو ثمانمئة مجلد تقريبا، حيث يضم الفيدات الأساسية والبراهمانات إلى جانب الأوبانيشادات التي تعد بمثابة تلخيصات وإضافات وتنويعات على الأصل.
وواقع الهندوسية اليوم يضع الباحث في حيرة من أمره، فهي طيف من الديانات والعقائد وليست دينا واحدا، حيث نجد تحت مظلتها من يؤمن بالتوحيد والتثليث وتعدد الآلهة والإلحاد في آن واحد. ومن الملفت أنه لا يُعرف على وجه التحديد من الذي وضع تلك الأساطير والنصوص، فمئات الملايين من الهنود مازالوا حتى اليوم يدينون بدين لا يُعرف من الذي أسسه. ويقول المؤرخ جون كولر في كتاب “الفكر الشرقي القديم” إنه من الصعب تتبع تاريخ الهندوسية لأنه يتسم بالغموض فيما يتعلق بالأسماء والتواريخ والأماكن، فالهندوسية تركز على العقائد والمبادئ أكثر من أي شيء آخر. [الفكر الشرقي القديم، ص 33].
تنص الكتب البراهمية المقدسة على أن أسرارها لا يمكن أن يفهمها سوى المنخرطون في سلك الرهبنة، فالسرية لا تقتصر على كونها مكتوبة باللغة السنسكريتية التي لا يعرفها عامة الناس، بل لا تُكشف المعاني الباطنية للنص إلا لمن يفني حياته في خدمة الدين، وهذه هي بالضبط فلسفة الجمعيات السرية والحركات الباطنية الغنوصية.
ينسب واضعو كتاب البهاغافاد غيتا إلى الإله كريشنا قوله “لا داعي لشرح هذا العلم الخفي لغير المرتاضين في الحياة أو غير المتتيمين، أو غير المنشغلين بالخدمة التتيمية، ولا لمن يحسدني”، [الإنشاد 18، الآية 67]، وهذا كفيل باتهام كل من ينتقد أساطير الهندوسية بأنه لم يفهمها، بل والزعم مسبقا بأنه من المستحيل أن يفهمها طالما كان لا يؤمن بها، ما يقطع الطريق على كل النقاد من خارج المؤسسة الكهنوتية.
ولحسم الجدل بشأن تعريف الهندوسية، فقد قررت المحكمة العليا الهندية أن الهندوسي هو الذي تتحقق فيه الصفات الست التالية:
1- يؤمن بالفيدات (نصوص كتاب الفيداس) ويحترمها.
2- يحترم عقائد الآخرين، على اعتبار أن للحق أوجها مختلفة (وهذا يدل على أن الهندوسية مجرد محاولة فلسفية لفهم العالم وليست حقيقة مطلقة في نظر أصحابها).
3- يعترف بأن الكون يمر بدورات خلق وانحلال متكررة إلى الأبد.
4- يؤمن يقينا بفكرة تناسخ الأرواح (وهي أكثر العقائد رسوخا لديهم، بل هي الأساس الذي تقوم عليه الهندوسية وتجتمع عليه كل مدارسها المتناقضة).
5- يؤمن بوجود عدد كبير من الآلهة وأزواجهم دون عبادة الأصنام نفسها.
6- عدم الإيمان بمبادئ فلسفية خاصة دون الهندوسية.
الألوهية والخلق تدل الفيدات والأوبانيشادات على أن البراهمية القديمة آمنت بإله واحد مجرد عن التجسد، وكامل الصفات، وهو يشبه نسبيًّا في صفاته الإله الواحد الذي ينص عليه الوحي الإسلامي.
ففي الفيدات نجد هذه النصوص التي تتحدث عن الإله:
“لا صورة له” [ياجورفيدا، الإنشاد 32، الآية 3].
“هو غير متجسد وطاهر” [ياجورفيدا، الإنشاد 40، الآية 8].
“اهدنا الصراط القويم واغفر الذنوب التي تجعلنا نضل ونضيع” [ياجورفيدا، الإنشاد 40، الآية 16].
“أيها الأصدقاء لا تعبدوا سواه, القدوس, ادعوه هو وحده” [ريغفيدا، الكتاب 8، الإنشاد 1، الآية 1].
أما في الأوبانيشادات فنجد العديد من النصوص المماثلة، وهذه بعضها:
“واحد أحد لا ثاني له” [شاندوغيا، الكتاب 6، الإنشاد 2، الآية 1].
“لا والدين له ولا سيد فوقه” [سفيتاسفتارا، الإنشاد 6، الآية 9].
“لا يمكن رؤيته ولا تجسيده”. [سفيتاسفتارا، الإنشاد 4، الآية 19].
ويبدو أن تراكم النصوص والتأويلات والتحريفات على يد الكهنة الآريين قد حولت هذا المفهوم الواحدي المجرد للإله إلى مفهوم تعددي متجسد (وثني) حلولي باطني، ففي الكتب نفسها التي تجرد الإله وتوحده وتقدسه نجد نصوصا تتحدث عن مصدر أولي للكون يدعى براهمان، وهو كائن غامض انبثق عنه الكون بطريقة الفيض [انظر مقال الباطنية].
وكما هو حال الأساطير الوثنية الأخرى، تخيل مبتكر الميثولوجيا الهندوسية (غير المعروف) وجود عائلة إلهية ثلاثية، ثم توسعت الأساطير وتوسع معها مجمع آلهة الفيدا حتى أصبح يضم طبقات متعددة من الآلهة، وهي كثيرة ويصعب حصرها، وفي الطبقات الدنيا نجد عددا هائلا من الآلهة إلى درجة أن بعض المصادر تتحدث عن وجود 330 مليون إله، أي أن الآلهة باتت بمثابة السلالات التي تتوالد كالبشر، فهي تملأ السماء والأرض. وكأن الكهنة اقتبسوا هذه الفكرة من أصل موحى به، فالأديان السماوية المعروفة اليوم تتحدث عن عدد كبير من الملائكة والجن في عوالم غيبية.
يقول المؤرخ البريطاني ويل ديورانت في كتاب قصة الحضارة عن آلهة الهندوس “تزدحم بهم مقبرة العظماء في الهند، ولو أحصينا أسماء تلك الآلهة لتطلب ذلك منا مئة مجلد، وبعضها أقرب في طبيعته للملائكة، وبعضها هو ما قد نسميه نحن بالشياطين، والبعض الآخر أجرام سماوية” [قصة الحضارة، المجلد 2 الجزء 3، ص 27].
ومن بين هذه الحشود من الآلهة، يركز الهندوس اهتمامهم على ثلاثة آلهة فقط، يشكلون ثلاثة أقانيم في واحد بحيث لا يتقدم أي منهم على الآخر، وكأنهم إله واحد يتجلى في ثلاث صور، وهم:
1- براهما: الخالق ومانح الحياة وزعيم الآلهة.
2- فيشنو: إله الحياة والرحمة والحب، ويتم تجسيده على هيئة إنسان.
3- شيفا: إله الفناء والموت والدمار، وهو في صراع مع فيشنو.
ثالوث الآلهة الهندوسية، من اليمين إلى اليسار: براهما، شيفا، فيشنو
وتقول الأسطورة إن الإله الواحد “براهمان” هو الذي أوجد هذا الثالوث المقدس، وهو الذي يتجلى في صورهم، فهو حقيقة سرمدية أبدية لا تحدها زمان ولا مكان، ولا يعرف كنهه أحد، ويسمونه أيضا “أوم” Aum أي الكائن الأسمى.
وكانت البداية عندما رغب براهمان بأن تخرج الموجودات التي كانت في داخله، أي أن العالم كله كان متضمنا فيه وكان هو يحملها كالسفينة بحسب وصف الفيدا، فتأمل براهمان تأملا عميقا حتى انبثق عنه الماء، ثم صدرت عنه بذرة تحولت إلى بيضة صفراء (أو زهرة لوتس)، فانفجرت البيضة وخرج منه الإله الأول براهما الذي تابع مهمة التأمل حتى انبثقت عنه بطريقة الفيض الكواكب وتضاريس الأرض والإنسان وكافة المخلوقات، لكن هذا الفيض لم يكن ليتم سوى بمعونة عشرة آلهة وسيطة انبثقت بدورها عن براهما، كما انبثق عن براهما أيضا الإلهان الآخران فيشنو وشيفا.
وحسب الأسطورة أيضا فإن للآلهة الثلاثة الرئيسة طبيعتان، أنثوية وذكرية، حيث تجسد الطبيعة الأنثوية في صورة كائن يسمى “شاكتي”.
لوسيفر (إبليس) يظهر في الثقافة الأوروبية على هيئة ملاك سقط من الجنة كما في هذه اللوحة لغوستاف دوريه
وعندما نقارن هذه العقيدة بما انكشف لاحقا من خفايا العقائد الباطنية السرية، ولا سيما القبالاه اليهودية، نجد تطابقا ملفتا، فالإله براهما يقابل أدوناي في سفر التكوين، والإله شيفا يحمل صفات أدوناي الذي حرّم المعرفة على الإنسان، كما يحمل صفات الإله يهوه الذي يميل إلى معاقبة بني إسرائيل وتعذيبهم كما ورد في سفر الخروج، أما الإله فيشنو فليس سوى لوسيفر (إبليس) الذي تزعم القبالاه وكافة الجمعيات السرية الشيطانية أنه الإله الذي أحب الإنسان (آدم وحواء) وأراد أن يعرّفه على شجرة المعرفة التي حرمها عليه أدوناي.
وكما زعمت اليهودية المحرفة أن إبليس تجسد في هيئة ثعبان ليدخل إلى الجنة ويغوي حواء بالأكل من الجنة ويكشف للإنسان سر المعرفة، فقد قدست الهندوسية أيضا الثعابين وجعلتها رمزا للفحولة الجنسية، وأقامت لها معابد وطقوسا لعبادتها.
ويجدر بالذكر أن القبالاه تزعم أيضا أن الألوهية لها طبيعتان، وأن الإله (الذي تسميه عين صوف) يتضمن في ذاته الذكورة والأنوثة (شخيناه)، وأن الكون والوجود كله كان متضمنا في داخله قبل أن تنبثق عنه “البيضة الكونية”، وقد تجلى عين صوف في شجرة الحياة (سيفروت) لتكون وسيلته للخلق بتجلياتها العشرة كما هو حال الآلهة العشرة التي كانت وسيطة لبراهما، حيث تجسد القبالاه هذه التجليات العشرة ببلورات كروية نورانية.
ومع تراكم الأساطير والتعديلات والتفسيرات، يمكن القول إن الهندوسية الآن تتفرع إلى عدة مذاهب يقدس كل منها أحد تجليات شيفنو أو شيفا، بينما لم يعد براهما يحظى بالكثير من الاهتمام، كما لا يلتفت الكثيرون إلى الأصل براهمان الذي انبثق عنه كل شيء، أما الآلهة الأخرى التي تأخذ صفات الملائكة والشياطين فقد تحظى باهتمام عوام الهندوس في بعض الصلوات والأدعية طلبا لمساعدتها أو اتقاءً لشرها، لكن ما يوحد جميع هذه الطوائف بكهنتها وعوامها أنهم يهتمون بعقيدة التناسخ والاتحاد بالحقيقة المطلقة (أياً كان اسمها وصفتها) أكثر من اهتمامهم بطبيعة الإله.
الطبقات يتكون المجتمع الهندوسي من أربع طبقات بناء على أسطورة الخلق، حيث أقنع واضعو الأساطير شعوبهم بأن براهما خلق كل فئة من الشعب على هيئة مسبقة فلا يمكن تجاوزها ولا التمرد عليها، وهي كما يلي:
1- الطبقة البيضاء (البراهمة): ينتمي إليها رجال الدين والعلماء، حيث خلقهم براهما من وجهه.
2- الطبقة الحمراء (الكاشاتريا): الأمراء والفرسان، وهم الذين خلقهم براهما من ذراعيه.
3- الطبقة الصفراء (الفيشيا): المزارعون والتجار والحرفيون، الذين خلقهم براهما من فخذيه.
4- الطبقة السوداء (الشودرا): الأنجاس المنبوذون، الذين خلقهم براهما من قدميه.
ومع أن الحكومة الهندية أصدرت قانونا بإلغاء العنصرية ضد “الشودرا” عام 1950، لكن الواقع لم يتغير إلا قليلا، فما زال ملايين المنبوذين مضطرون حتى اليوم للانخراط في مهن يأنف منها الآخرون مثل أعمال التنظيف وحفر القبور، وما زال أبناء الطبقات الأخرى يرفضون الاقتراب منهم أو حتى مسّ أيديهم كي لا يصيبهم “الدنس”.
التأمل والارتقاء بما أن الإنسان قد انبثق عن الإله في الأسطورة الهندوسية، فهو إذن ليس مخلوقا طارئا بل كان موجودا أزليا كامنا داخل الإله، ما يعني أن الإله والكون والإنسان جوهر واحد، وأن هناك قنوات للاتصال فيما بينهم يمكن تنشيطها عبر شحذ الطاقة الروحية للإنسان، فمن خلال التأمل وممارسة طقوس اليوغا يصبح بمقدور الروح (آتمان) أن ترتقي وتتصل بالكون بكل ما فيه من كائنات حية وبحار وجبال، وأن تبلغ درجة الألوهية نفسها، وليس الاتحاد بالإله فقط، وهذه هي حالة الموكشا الهندوسية أو النرفانا البوذية، وهي أيضا تقابل حالة الدفيقوت لدى القبالاه اليهودية.
وإلى جانب الموكشا، تحدد الهندوسية ثلاث غايات أخرى لحياة الإنسان، أولها تسمى دراهما (أو دارما) وتعني أداء الواجبات اليومية للفرد العادي، والثانية هي أرثا وتعني السعي لتحقيق النجاح في العمل وجمع الثروة، أما الثالثة فهي كاما والتي تختص بالإشباع الجنسي.
وبما أن الثالوث الإلهي كان يتضمن الأنوثة في جوهره، ما يعني أنه كان ينكح نفسه بطريقة ما، فالجنس إذن جزء من العبادة ووسائل التطهر التي ترتقي بالإنسان ليصل إلى حالة الموكشا، لذا نجد أن خُلق الحياء الذي اعتاد عليها معظم البشر في مختلف الشعوب يكاد يكون غائبا في بعض مناطق الهند، فالإباحية هناك ليست مرتبطة بالثورة الجنسية المعاصرة التي انطلقت من الغرب الرأسمالي في القرن العشرين، بل هي جزء من معتقدات بعض الطوائف الهندوسية القديمة، حيث تمارس معابدها طقوس التطهر عبر ممارسة الجنس الجماعي العلني، وتجسد نقوشها هذه الطقوس بوضوح، مثل معبد الشمس فى كونارك الذي يرجع إلى القرن الثالث عشر، و85 معبدا آخر في قرية خاجوراهو تعود إلى القرن العاشر الميلادي.
وتسعى الحكومة الهندية في العصر الحالي إلى مكافحة الإباحية عبر شبكة الإنترنت، لكن البلاد تشهد مطالب من قبل بعض الكهنة الأصوليين بإعادة إحياء الطقوس الجنسية ونشرها بين المجتمع.
تانترا فلسفة التانترا الهندوسية تعد أوضح مثال على تغلغل الشيطانية في الأديان الوثنية، فهي تقوم على فكرة اقتباس الطاقة (برانا) من الكون عبر التجارب الصوفية التأملية (اليوغا)، للوصول إلى اتحاد جنسي مع التجسد الأنثوي للإله (شاكتي)، ويتم ذلك باتخاذ وضعيات محددة للجسم (مودراس)، وترتيل تعاويذ معينة، واستخدام مخططات ورسوم رمزية (ماندالا)، وهي ليست سوى طلاسم شيطانية. وقد حفظت لنا بعض المعابد من القرن العاشر الميلادي منحوتات تجسد ممارسات جنسية جماعية لاستنزال تلك الطاقة السحرية، وهي مقبولة لدى طائفة من البوذيين أيضا.
لكن الأمر قد لا يقتصر على هذه الطقوس التي لا تختلف كثيرا عما يمارسه عبدة الشيطان، فبعض الرهبان يستعينون بشريكات عاريات للوصول إلى تلك “الاستنارة”، فيحصل الاتصال الجنسي بذريعة كونه عبادة وليس زنا، ولا تكون تلك الطاقة التي يستشعرون حلولها في الجسد إلهية المصدر بل حلولا للشياطين في أجسادهم، فالمعابد الشيطانية الحديثة التي يعترف أصحابها بأنهم يعبدون فيها الشيطان تقوم بنفس هذه الطقوس (التي تسمى هيروس غاموس) للاتحاد بالشياطين دون تدليس، لأنهم يعتبرون الشياطين هي آلهة هذا العالم.
ومن الملفت أن طقوس الجنس المقدس موجودة لدى القبالاه أيضا، ويبدو أن الثورة الجنسية التي حملتها الحداثة إلى العالم ليست سوى إحدى نتائج هذه العقيدة.
التشابه بين الهندوسية والقبالاه لا يعني بالضرورة أن الأولى هي أصل الثانية، حتى لو كانت مدونات القبالاه وعلى رأسها الزوهار لم تظهر سوى في الألف الثاني بعد الميلاد، فمن المعروف أن القبالاه أقدم من ذلك، حيث تقول القبّالية هيلينا بلافاتسكي في كتابها العقيدة السرية “الحقيقة أن القبالاه قديمة قدم الشعب اليهودي نفسه، وظلت تنتقل تعاليمها شفاهة عبر الأجيال والعصور إلى أن تم تدوينها”.
العبادات يحتل التأمل رأس قائمة العبادات الهندوسية، كما يمارس الهندوس نوعا من الصلاة في المعابد أمام الأصنام والأيقونات التي تمثل بعضا من الآلهة، فيقدمون لها قرابين ونذورا ويرتلون أمامها نصوصا من الأناشيد المقدسة.
كما يمارس الهندوسي نوعا من الذكر عبر ترديد صيغ مقدسة تدعى “مانترا”، وهي عبارة عن مقاطع صوتية تتضمن في الغالب أسماء الآلهة، ومن أشهر المانترات كلمة “أوم” التي يرددها الهندوسي بطريقة ملحّنة ومتتالية، حيث يعتقد أن هذه الكلمة هي الصوت البدائي الذي تم به خلق الكون بالفيض عن براهمان، ويساعد ترتيل المانترا على التركيز أثناء التأمل.
لا تُفرض على الهندوس تأدية زكاة على أموالهم، إلا أنهم يستحسنون تقديم الصدقات للفقراء، كما يشجعهم الكهنة على التبرع للمعابد لتغطية نفقاتها وكي لا يضطر الكهنة المتفرغون للمسألة.
يصوم الكهنة في بداية كل فصل من الفصول الأربعة، كما يصومون اليومين الأول والرابع عشر من كل شهر قمري، ويصومون مدة كسوف الشمس، ويتضمن الصوم الإمساك عن الطعام والشراب والكلام والجماع، أما عامة الناس فلا يُفرض عليهم الصوم بل يتطوع بعضهم لممارسته بهدف الارتقاء الروحي.
كما لا يُفرض الحج على الناس، لكن الملايين منهم يتطوعون للحج إلى نهر الكانج المقدس كل عام، وبعضهم يحج إلى المعابد الكبرى والمعالم المقدسة، ويتبرع ببعض ماله طمعا في الارتقاء وتحقيق الأمنيات.
ومن الواضح أن هناك تشابها بين هذه الطقوس والعبادات التي أمر بها الوحي (الإسلام)، إلا أن الهندوس تخففوا من عبء الفريضة وجعلوها نافلة لمن يشاء.
التناسخ والمعاد تقوم عقيدة الهندوسية أساسا على مبدأ تناسخ الأرواح (سمسارا)، والذي يزعم انتقال الروح بعد موت الجسد إلى جسد آخر، سواء كان جسد إنسان أم آلهة أم حيوان.
ويستند هذا الاعتقاد إلى مبدأ آخر يسمى “الكارما”، وهو ينص على أن لكل فعل يقوم بها الكائن الحي عواقب أخلاقية تتناسب مع الفعل، وذلك وفق نظام شامل للعدالة التي لا تستثني أحدا، وهو مبدأ تلقائي قائم بذاته ولا يخضع للسلطة الإلهية، مع أن الكهنة لا يملكون أي حجة عقلية تبرر عمل هذا القانون من تلقاء نفسه ودون جهة واعية تشرف عليه.
وبما أن العدالة لا تتحقق في هذه الحياة الدنيا دائما، فقد قرر الكهنة أن الأمر يتطلب الانتظار للتناسخ والعودة في حياة ثانية لينال كل فرد حقه سواء بالثواب أو العقاب، ويبرر الكهنة بهذا المبدأ تفاوت الناس في ما ينالونه من جمال وذكاء وصحة وثراء ومركز اجتماعي، ويطالبون الناس بأن يجتهدوا في العمل وحسن الخلق كي يعودوا إلى الحياة بشخصيات أفضل، بل يزعمون أن المرء قد يعود إلى الحياة على هيئة آلهة إذا حقق درجة الكمال والاستنارة، ويحذرون من إمكانية العودة بعد الموت إلى الدنيا في جسد حيوان عقابا له، لذا يحرّمون ذبح الحيوانات وأكلها خشية أن تكون حاملة لأرواح البشر.
تؤمن الهندوسية بنهاية العالم، ولكنها تعتقد بأن كونا آخر سيُخلق من جديد بعد نهاية الحالي حيث يتناسخ الكون في دورات متتالية مثل البشر، وتقول الأسطورة إن فترة “كالي” التي ستحل قبل نهاية العالم تحمل عددا من العلامات، مثل كثرة القتل وتقارب الزمان وانشغال الناس بالملذات وفساد الأخلاق.
كالكي مع حصانه
تنتظر الهندوسية شخصية تدعى “كالكي” في آخر الزمان، وتقول إنه سيكون التجسد العاشر والأخير للإله فيشنو، حيث سيظهر أخيرا لإنهاء عصر الظلام والدمار، وتعتقد الهندوسية أن للإله تجسدات متعددة تسمى “أفاتار”، وهناك من يرى أن بوذا كان أحد هذه التجسدات، كما يرى أتباع بعض القادة الهندوس والبوذيين الكبار أن قادتهم يمثلون إحدى تلك التجسدات أيضا، مثل سري راما كريشنا الذي سيأتي ذكره لاحقا.
نجد في نصوص الهندوسية ما يدل على أن النيران ستشتعل لتحرق كل شيء في اليوم الذي ينتهي فيه العالم، لكن هذه النار ليست للعقاب، كما أنه لا يوجد هناك حشر ولا حساب، بل يعاد خلق الكون بعد فترة من فنائه، ويكون الثواب والعقاب بإعادة تجسد البشر وفقا لأعمالهم في الكون الجديد.
ويبدو أن الهندوسية لم تنف وجود الجنة نهائيا، بل جعلتها مكانا مؤقتا لا يخلد فيه الصالحون، فهي مكان جميل يحتوي على قصور وحدائق وأنهار، وتعيش فيه الآلهة، ويمكن لمن يعيش حياة صالحة أن يدخل هذه الجنة لفترة محدودة بعد موته، لكن دورة التناسخ ستعود لانتزاعه من هناك وإعادته إلى الأرض، فالخلود لدى الهندوس يقتضي الاتحاد مع الحقيقة العظمى وليس دخول الجنة.
الهندوسية والجمعيات السرية سنستعرض الجانب السري للهندوسية في مرحلتين تاريخيتين، الأولى تعود إلى عصر الملك أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد، والثانية هي العصر الحديث.
أسرة الموريا والملك أشوكا
تعد الهندوسية من أقدم الوثنيات الباطنية التي ما زالت حية حتى اليوم، وبالرغم من نشأتها الغامضة كما أسلفنا فقد دخلت عليها طوال قرون العديد من المؤثرات حتى أصبحت خليطا من العقائد، كما انبثقت عنها أيضا عقائد أخرى في نيبال والصين ومناطق أخرى بآسيا، لكن تغلغل القبالاه في الهند لعب دورا إضافيا في جعلها أرضا خصبا للجمعيات السرية الباطنية.
في عام 269 قبل الميلاد، ورث الملك “أشوكا العظيم” الحكم عن والده بندوسارا، وبعد سبع سنوات تقريبا خاض في كالينغا بشرق الهند معركة طاحنة راح ضحيتها نحو مئة ألف إنسان كي يؤسس إمبراطوريته الضخمة، والشائع في التاريخ المتداول عالميا اليوم أن الملك أشوكا شعر بالندم على الدماء التي أزهقها، فتحول من ملك محارب إلى رسول للتسامح والأخوة الإنسانية، واعتنق الديانة البوذية (المشتقة من الهندوسية) دون أن يتخلى عن الأصل الهندوسي، وقرر أن يجعل من البوذية ديانة تبشيرية عالمية بإرسال الدعاة إلى أنحاء إمبراطوريته، ودوّن مبادئه في التسامح على أعمدة أشوكا الباقية حتى اليوم، والتي تعلوها منحوتة لأربعة أسود، ما زالت تمثل شعار الهند الرسمي حتى اليوم.
لكن ثمة رواية أخرى لقصة أشوكا، فعلى سبيل المثال يرصد الباحثان لويس بولز وجاك بيرييه في كتابهما “صباح السحرة” The morning of the magicians الجانب المخفي من تاريخ البلاد الذي لا نكاد نجد له أثرا في المراجع التاريخية الكبرى، فيقولان إن أشوكا أدرك بعد ضمه السواحل الشرقية للهند إلى دولته أنه لن يتمكن من الإمساك بزمام دولة مترامية الأطراف إلا بامتلاك قلوب الشعب قبل رقابهم، فسعى إلى نشر الهندوسية والبوذية لأنهما تقدمان للشعوب مبررا للسعي وراء الثروة والانحلال الأخلاقي دون أعباء. ولكي يضمن نجاح المشروع أسس جمعية سرية من تسعة قادة -وهو أحدهم- تحمل اسم “جمعية الرجال التسعة” [كتاب شفرة سورة الإسراء، ص 341].
وكما هو حال معظم الجمعيات السرية الأخرى التي تتوالد من رحم واحد منذ آلاف السنين، فإن هدف أشوكا من تأسيس جمعيته السرية كان بحسب زعم بولز وبيرييه هو “حفظ المعرفة وتطويرها كي لا تقع في أيدي الرجال الأذكياء ممن قد يوظفون علمهم وذكاءهم في سبيل الشر”، وقد أوضحنا في مقال الجمعيات السرية أن هذه المعرفة التي يحرصون على احتكارها ليست سوى مزيج من الفلسفة الباطنية الهرمسية والخيمياء والرياضيات والهندسة مع أكثر علوم السحر والتعامل مع الشياطين خطورة.
وتنتشر اليوم الكثير من المؤلفات والمواقع الإلكترونية التي تتحدث عن تفاصيل (يصعب التحقق منها رغم احتمال صحتها) بشأن استمرار وجود هذه الجمعية السرية، والتي يتم استبدال رجالها التسعة جيلا بعد جيل حتى اليوم، حيث يُعتقد أنهم ما زالوا يحتفظون بمعارفهم السرية المتطورة، ويؤمن الكثير من أصحاب هذه الروايات فعلا بأن هدف الجمعية هو حماية تلك المعرفة من الوقوع بيد الأشرار بدلا من العكس.
تقر المراجع التاريخية الكبرى بأن أسرة موريا التي حكمت الهند، والتي أسهها شاندرا غوبتا جد أشوكا عام 321ق.م غير معروفة الأصل، فلم يذكر لنا التاريخ سوى أن شاندرا غوبتا ظهر على المسرح الهندي لتأسيس مملكة تتصدى للغزو المقدوني (اليوناني) الذي قاده الإسكندر الأكبر، كما لم يحفظ التاريخ الكثير من آثار وقصص شاندرا وابنه بندوسارا، بينما احتفظ أشوكا بتاريخه المنحوت على أعمدة تحمل اسمه وصار تاريخ البلاد العظيم يبدأ من عنده، حيث أخبر عن نفسه بأنه ارتكب مذابح كبرى لتحويل مملكته الناشئة إلى إمبراطورية عظمى، ثم تحول بعدها إلى رمز للتسامح.
لكن الباحث بهاء الأمير -في كتابه شفرة سورة الإسراء- يرى سرًا آخر وراء هذه الأسرة مجهولة الأصل، ويتساءل لماذا ظل تشكيل جمعية الرجال التسعة طي الكتمان؟ ومن أين جاءت تلك الأسرة التي أعادت كتابة تاريخ شعب يقدر تعداده اليوم بأكثر من مليار نسمة؟
ينقل الباحث عن هيلينا بلافاتسكي أن نصوص البورانا الهندوسية المقدسة تنبأت بأن الموريا ستحكم الهند حكما روحيا خالصا وستكون مملكة التجلي القادم للإله، لكنه يفسر مقولتها بأن هذا التجلي ليس سوى تحريف لتجلي الإله في الماشيّح أو الهامشيحاه (المسيح المخلص بالعبرية) الذي ينتظره القباليون اليهود في آخر الزمان، وأن الأسود الأربعة التي اتخذتها الأسرة شعارات ليست سوى نسخة عن أسد سبط يهوذا الذي لا يكون حُكمُ بني إسرائيل إلا منهم وفقا لمقولة “حق الحكم الإلهي”. أما اسم موريا فليس سوى اسم جبل الهيكل الوارد في النص التالي من التوراة: “وشرع سليمان في بناء بيت الرب في أورشليم، في جبل الموريا حيث تراءى لداود أبيه”، ما يرجح -وفقا للباحث- أن تلك الأسرة الغامضة التي أسست جمعية سرية لحماية الهندوسية والبوذية ونشرها وتسييسها ليست سوى إحدى سلالات سبط يهوذا من بني إسرائيل الطامحين إلى حكم البشرية عبر ما يرونه وعدًا إلهيًّا.
العصر الحديث
كما هو حال القبالاه التي تزعم احتكارها للحقيقة الباطنية لليهودية، فإن فلسفة “فيدانتا” الهندوسية تتناول تفسيرات باطنية لكتب الفيدا والأوبانيشاد المقدسة، وتزعم أنها تعلم التأويلات السرية للنصوص وأنه يمكن من خلالها فهم الطبيعة المطلقة للحقيقة (الإله براهمان).
راما كريشنا
وهناك جزء من الفيدانتا تتمحور تعاليمه حول الإله فيشنو تحديدا، الذي سبق أن أوضحنا أنه يقابل إبليس نفسه بصفته الإله الحامل للمعرفة والمحب للإنسان، وقد بدأت هذه العقيدة الشيطانية بتشكيل جمعيات سرية منذ القرن الثامن عشر.
ومن أهم هذه الجمعيات جمعية “راما كريشنا” التي أسسها عام 1894م الراهب الهندي سْري راما كريشنا (المولود باسم غاداذار تشاتوبادياي) وتلميذه سوامي فيفيكاناندا، حيث انتقل فيفيكاناندا إلى نيويورك وأسس هناك جمعية فيدانتا وأصبح الأستاذ الأعظم لها، وما زالت الجمعيتان تنشئان فروعا ومدارس لنشر طقوسهما في الهند وأوربا وأمريكا الشمالية، وإليهما ينسب أيضا انتشار حركة العصر الجديد وثقافة اليوغا في كل الدول الغربية.
وبما أن الجمعيات السرية الشيطانية تنهل من نبع واحد، فقد التقى الأستاذ الأعظم للماسونية في الولايات المتحدة ألبرت بايك بالأستاذ الأعظم للفيدانتا، وأخذ بايك منه تعاليم الباطنية الهندوسية وجعلها أصلا لطقوس الدرجة الثانية والثلاثين الماسونية، وهي الدرجة قبل الأخيرة في الطقس الأسكتلندي.
كان سوامي فيفيكاناندا عضوا بارزا في محفل الأمل والمرساة الماسوني، وقد حصل على درجة الأستاذية فيه عام 1884.
ومن الملفت أن مدينة مدراس الهندية احتضنت أول محفل ماسوني أقيم خارج أوروبا وأمريكا، حيث تأسس عام 1724، أي بعد سبع سنوات فقط من تأسيس الماسونية في لندن. وما زالت الماسونية ناشطة بقوة في الهند، وقد أجرت صحيفة “تايمز أوف إنديا” لقاء مع أستاذ الماسونية الأعظم في الهند فاسوديفا ماسوريكار بتاريخ 10 فبراير/شباط 2013، وزعم فيه أن الماسونية ليست جمعية سرية بل مجرد “أخوية” تضم 22 ألف عضو.
وبطبيعة الحال، كان فيفيكاناندا يقدم نفسه إلى الغرب على أنه قديس يحمل رسالة السلام إلى العالم كما كان يفعل الملك أشوكا قبل أكثر من ألفي سنة، حيث يوثق أتباعه اليوم من محاضراته وكتاباته ما يدل على انفتاحه على كافة الأديان ودعوته للتعايش مع الجميع، وهو ما نجده في مؤلفات الروائي الإنجليزي كريستوفر إيشروود الذي كرس الكثير من حياته وأدبه للترويج للفيدانتا وتوثيق أقوال فيفيكاناندا، لكن هذا الخطاب “المتسامح” يصب في مجرى الجمعيات السرية الحديثة التي تسعى جاهدة لإعادة صهر الأديان كلها في بوتقة دين عالمي واحد، وهو دين عبادة لوسيفر أو فيشنو (إبليس) حامل الضياء الذي يسعى لكشف غشاوة الجهل عن الإنسان كما يزعمون.
في عام 1893، أطلق سوامي فيفيكاناندا مع القاضي الأمريكي تشارلز بوني مبادرة لإنشاء “البرلمان العالمي للأديان” في مدينة شيكاغو الأمريكية، والذي استمر بمزاولة أنشطته حتى أصبح مجلسا عالميا يحظى بشهرة كبيرة، ومنذ عام 2014 أصبح ينعقد سنويا. ويعتبر هذا البرلمان منصة عالمية لنشر فكرة “وحدة الأديان”، حيث يسعى رجال دين من كافة الأديان لتقديم أطروحات تفسيرية لأديانهم بأقل قدر من الفوارق والحدود، ما يسمح لاحقا بدمج هذه الأديان كلها في ملة واحدة، وذلك بذريعة نبذ عوامل التفرقة بين البشر.
تتجلى هذه الرسالة بوضوح في كتابات هيلينا بلافاتسكي، فقد بدأت بتلقي تعاليم الجمعيات السرية عبر الهندوسية أولا عندما التقت بمعلمها كوت هومي في لندن، وهو أحد مؤسسي أخوية النور العظمى التي تدمج تعاليم جمعية المتنورين (إلوميناتي) بتعاليم الفيدانتا، وقد رحلت بلافاتسكي معه إلى الهند في منتصف القرن التاسع عشر وبقيت هناك عدة سنوات، ثم أسست في الولايات المتحدة عام 1875 جمعية الحكمة الإلهية (ثيوصوفيا)، التي تعد الآن من أهم الجمعيات الباطنية التي تلهم الكثير من صناع الرأي والقرار في الغرب، وقد افتتحت بلافاتسكي في مدينة مدراس الهندية فرعا لها أيضا قبل افتتاح المزيد من الفروع في أمريكا وأوروبا.
بلافاتسكي
وتعلن بلافاتسكي في كتابيها “إيزيس بلا حجاب” و”العقيدة السرية” ما تسعى إليه بكل وضوح، فهي تصرح بأن لوسيفر (إبليس) هو حامل النور والحياة والمعرفة والحضارة والحرية، وهو إله هذا الكون الذي يستحق أن يعبد بدلا من الإله الخالق الذي طرد الإنسان من الجنة، وبما أن الأرواح تتناسخ وفقا للعقيدة الهندوسية (والتي يؤمن بها الباطنيون) فإن الإنسان المخلّص (المايتريا) سيحل للمرة الخامسة والأخيرة في أحد الأجساد قريبا، ويتجلى فيه الإله براهمان، فيقود البشرية نحو الاندماج في أمة واحدة ودين واحد وهو دين عبادة لوسيفر.
وقد آمنت بهذه العقيدة أيضا سيدة أميركية يهودية تدعى أليس بيلي، وأسست منظمة عالمية تدعى “لوسيفر ترست” عام 1922، ثم تم تعديل الاسم إلى “لوسيس ترست” لدفع الشبهات عنها، وتلعب هذه المنظمة اليوم دورا مهما في دعم أنشطة منظمة الأمم المتحدة، وفقا للموقع الرسمي للمنظمة.
كانت بيلي أكثر وضوحا من أستاذتها، ففي كتابها “ظهور المسيح” تقول إن المسيح المنتظر سيكون من سلالة اليهود، وهو الماشيّح الذي ينتظرون ظهوره في آخر الزمان، وسيوحد الشرق والغرب ويحل به السلام في العالم كله. كما خصصت العديد من كتبها لشرح تعاليم “العصر الجديد” الذي تبشر به، [انظر مقال حركة العصر الجديد]، وجميع هذه الكتب متاحة للبيع على موقع “لوسيفر ترست” وليست سرية.
وهكذا تتقاطع الباطنية اليهودية مع الباطنية الهندوسية، فالماشيّح هو نفسه المايتريا، ولوسيفر هو فيشنو، والخلاص النهائي سيحدث عندما يخرج المخلّص إلى العلن ليوحد الناس جميعا في عقيدة واحدة بإخلاص العبادة لذلك الإله، وذلك مصداقا للنبوءات التي ينتظر المسلمون تحققها في آخر الزمان عندما يخرج الأعور الدجال.
أليس بيلي مع شعار منظمتها وغلاف كتابها
أما التلميذة الثانية لبلافاتسكي الكاتبة البريطانية آني بيزنت فكانت من أهم ملهمي المهاتما غاندي، مؤسس الدولة الهندية الحديثة، حيث التقى غاندي شخصيا بالسيدتين عام 1889، وكان يعلق صورة بيزنت في مكتبه بجوهانسبرغ في جنوب أفريقيا قبل أن يصبح قائدا للثورة ضد بريطانيا، ويقال إن بيزنت هي التي أطلقت عليه لقب مهاتما (الروح العظيمة)، وهو اللقب السنسكريتي المقابل للقب الأستاذ في جمعية الثيوصوفيا.
آني بيزنت مع غاندي
اشتهر غاندي عالميا بأنه كان منفتحا على كل الأديان ورافعا لراية السلم ومناهضا للعنف، وينقل عنه قوله “إن للأديان روحا واحدة، إلا أنها تتجلى في أشكال متعددة، والجوهر سيبقى حتى النهاية، والرجال الحكماء سيتجاهلون القشور ويهتمون بالروح الحية التي تحتها… أما الحقيقة فليست ملكا حصريا لأي كتاب مقدس على حدة”، وهذا ما كان يقوله المعلم راما كريشنا الذي اعتبر أن كل الأديان بما فيها الإسلام والمسيحية تؤدي إلى نتيجة واحدة.
والحقيقة أن هذه الدعوات للانفتاح لا تعدو كونها شعارات لتمييع الحقيقة حتى تتماهى مع الباطل، وليصبح الوحي السليم مكافئا للدين الأسطوري المحرف، فالأديان الباطنية وحركاتها التي مازالت تتوالد باستمرار لا تخوض في الأسئلة الوجودية الكبرى، وتكتفي بالدوران حول المسلّمات التي تتفق عليها كافة الأديان مثل وجود الإله ومحبته وضرورة التعايش في وئام وسلام، بينما تدعو بشكل غير مباشر إلى نبذ الأصول الأخرى التي لا يكتمل أي دين إلا بها ولا يصح جمعها مع أصول الأديان الأخرى.
وهذا التمييع يقع في قلب أهداف الجمعيات السرية كلها، وهو ما تعلنه جمعية بلافاتسكي وتلميذاتها بوضوح، وهذا يفسر تبجيل الغرب -بما فيه بريطانيا التي كانت تحتل الهند- لغاندي، حتى أصبح أيقونة عالمية يراد تعميمها واستنساخها، فهناك جانب غير معلن من قصة المهاتما واستقلال الهند وتقسيمها على حساب المسلمين.
منظمة أشوكا العالمية تأسست هذه المنظمة في الهند عام 1981 لدعم أصحاب المشاريع الاجتماعية الرائدة في العالم ممن يسعون للتغيير الاجتماعي، وذلك على يد المدير المساعد للوكالة الأمريكية لحماية البيئة بيل درايتون. وتمنح المنظمة أعضاءها لقب زمالة أشوكا للدلالة على التميز والريادة، وتعلن في موقعها الرسمي أنها استمدت اسمها من “الإمبراطور أشوكا الذي تخلى عن العنف وأصبح واحدا من أكثر القادة تسامحا وانفتاحا وإبداعا في التاريخ”.
وإلى جانب المشاريع الخيرية والتنموية التي تدعمها، وهي مشاريع رائدة وتستحق التقدير، تولي المنظمة اهتماما كبيرا بالمشاريع التي تحث على التسامح والاندماج، وفقا للمفاهيم التي يتبناها دعاة اللاعنف مثل فيفيكاناندا وغاندي.
هاري كريشنا
أحد مهرجانات هاري كريشنا في موسكو
في عام 1965 قطع الهندوسي “أيه سي بهاكتي فيدانتا سوامي برابهوبادا” شوطا طويلا في دمج الهندوسية بالثقافة الغربية عندما أسس في نيويورك “الجمعية الدولية لوعي كريشنا”، والتي باتت تعرف باسم حركة هاري كريشنا، وهي تستمد أصولها من الكتب الفيدية التقليدية وتعتمد على تعاليم حركة “غوديا فاشينافا” التي سبق أن ظهرت في الهند عام 1486، وتركز جل اهتمامها على عبادة فيشنو وكريشنا.
استقطبت حركة هاري كريشنا اهتمام آلاف الشباب الأمريكيين تزامنا مع صعود حركات العصر الجديد، فكانت أشبه بموضة فكرية تضفي بعدا روحيا على حياة الهيبيين المليئة بالعبث والجنس والمخدرات، دون أن تحمّلهم أعباء أخلاقية أو تحرمهم من التمتع بالملذات الحسية، وذلك بالرغم من إصرار أدبيات الحركة على أنها تدعو للتقشف ومقاومة الشهوات، إلا أن فلسفتها الغامضة ظلت كما يبدو حبيسة الكتب، كما أن محاولتها إضفاء البعد الروحي على الممارسات الجنسية تكفي لجذب الشباب حتى لو اكتفوا بالبحث عن المتعة دون التفات إلى وصايا التقشف.
سرعان ما توسعت الحركة، وأصبحت اتحادا عالميا يضم مجتمعات مصغرة تكتفي بذاتها في الغابات، وذلك بعيدا عن ضجيج الحياة العصرية. وعندما انهار الاتحاد السوفيتي وسقط النظام الشيوعي الإلحادي؛ وجدت هذه الحركة أرضا خصبة في أوروبا الشرقية، لملء الفراغ الروحي لدى الشباب الباحث عن أي بوصلة.
ميهير بابا في عام 1925، بدأ شاب هندي من والدين إيرانيين زرادشتيين اسمه ميروان شيريار رحلته الروحية التأملية، وكان عمره آنذاك تسعة عشر عاما، وعندما أصبح جاهزا أسس جماعته الخاصة في بومباي مدعيا أنه “أفاتار” جديد يتجسد فيه الإله.
وكما هو حال الكثير من الزعماء الهندوس، لحق به الآلاف فأسس لهم قرية أسماها ميهيرأباد، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة التي باتت أرضا خصبة لحركات العصر الجديد، وأصبح من نجوم المجتمع إلى أن توفي عام 1969، وتحول مقره في مايرتل بتيش بولاية كارولاينا الجنوبية إلى متحف يستقطب المعجبين حتى اليوم، وهو شاهد على حياة الترف التي كان يعيشها.
مهاريشي ماهيش عام 2007 قبل شهور من وفاته (Global Good News)
التأمل التجاوزي بعد نجاح راما كريشنا و فيفيكاناندا في عولمة الهندوسية وربطها بالجماعات السرية الغربية، جاء دور مهاريشي ماهيش يوغي (المولود عام 1918 باسم ماهيش براساد فارما)، حيث انعزل في جبالا الهيمالايا ثلاثة عشر عاما حتى يصل إلى “الاستنارة”، ثم بدأ بتأسيس مشروعه عام 1959 محاولا تقديم الأساطير الغنوصية في ثوب علمي، فقدّم أبحاثا في مجال الوعي وعلاقته بهالات الطاقة المحيطة بالجسم، وأسس “جمعية التأمل التجاوزي الدولية” في لندن لتكون مظلة لأفكاره.
ذاع صيته في الستينات عندما بدأت فرقة البيتلز الغنائية الشهيرة بالتعلم على يديه، حتى أصبح من نجوم حركات العصر الجديد، مما منحه فرصة أكبر لترويج نظرياته التي كان يحاول من خلالها تقديم حلول لمشاكل العالم الاقتصادية والسياسية والتربوية والأخلاقية والصحية والإدارية، ثم أسس جامعات في الولايات المتحدة واليابان وهولندا وروسيا لتخريج أجيال من المعلمين الحاملين لأفكاره، والتي أصبحت جزءا من إمبراطوريته القائمة حتى اليوم.
في عام 1975 بدأ بالتبشير بما سماه “فجر عصر الإشراق”، وقام بجولة عالمية للترويج لبدء عصر جديد للإنسانية، وكان رئيس وزراء كندا بيير ترودو أحد الشخصيات المهمة التي استقبلته بحفاوة. وتتقاطع هذه الفكرة مع نظرية بلافاتسكي المذكورة أعلاه عن عصر جديد ونهائي يتجلى فيه لوسيفر “إبليس” حاملا الخلاص والنور والسلام إلى البشرية.
أوشو ولد تشاندرا موهان جين عام 1931، وبدأ بشق طريقه نحو الشهرة في الستينات من خلال انتقاداته للأديان والسياسة وحتى بعض الرموز لدى الشعب الهندي مثل المهاتما غاندي، وفي أواخر الثمانينات اتخذ اسم “أوشو” وأصبح من أكثر رجال الدين الهندوسي إثارة للجدل.
على عكس المعلمين السابقين الذين حرصوا على الظهور في صورة المتقشفين، لم يتردد أوشو في الانفتاح على كل الملذات ومظاهر الخلاعة. فبعد انتقاله إلى الولايات المتحدة عام 1981 أنشأ في ولاية أوريغون قرية خاصة بأتباعه تحت اسم “راغنشبورام”، والتي أصبحت محجّا للباحثين عن أساليب جديدة تدمج التأمل بالجنس، وتصل بالممارسين إلى حد الهلوسة، وهي لا تختلف في شيء عن طقوس الجماعات الشيطانية.
لم يكن أوشو يخفي عن أتباعه وعن الصحفيين الجانب المترف من حياته الخاصة، فكان يمتلك عددا كبيرا من سيارات رولز رويس ويعيش في قصر فخم، فضلا عن ممارساته الجنسية المتعددة. وقد دخل في صراعات مع جهات إعلامية وسياسية واجتماعية كثيرة في أميركا مما أدى إلى طرده، حيث منعته أكثر من عشرين دولة من اللجوء إلى أراضيها، فاضطر للعودة إلى بلدته بيونيه في الهند ليموت فيها عام 1990.
أتباع أوشو كانوا يصطفون يوميا في قريته الخاصة بأميركا لتحيته عند مغادرته بسيارته الفارهة
والملفت أن أفكاره لاقت رواجا بعد موته أكثر مما كانت عليه في حياته، وهي من أكثر أنماط العيش ملاءمة لحركات العصر الجديد المنفلتة عن قيود الأديان والأخلاق، حيث يجتذب منتجع أوشو الدولي في بيونيه نحو مئتي ألف زائر سنويا، وتعد مريم نور من أهم مروجي فلسفته في العالم العربي.
في هذا الفيديو يتبرّك أتباع أوشو بقدميه في عيد ميلاده عام 1972:
البوذية تقول الحكاية إن أميرا هنديا اسمه سدهارتا غوتاما ولد عام 560ق.م لملك كان يحكم مملكة صغيرة على الحدود الفاصلة بين الهند ونيبال، وعندما بلغ الأمير سن التاسعة والعشرين شعر بالملل من حياة الترف وانطلق في الغابات والجبال للتقشف والتأمل على طريقة اليوغا حتى بلغ حالة الاستنارة، وأصبح لقبه بوذا، أي المستنير.
انطلق بوذا للدعوة إلى مذهبه الذي يعد طريقة للخلاص تحت مظلة الهندوسية، فآمن به الناس وذاع صيته، ولم يترك بوذا لأتباعه كتابا يوثق تعاليمه، كما لم يرشح أحدا منهم ليخلفه، ويقال إن ثلاثة من كبار الرهبان الذين آمنوا به قرروا بعد وفاته تدوين فلسفته، وبعد نحو ثلاثة قرون وجد الملك آشوكا العظيم في هذه الفلسفة نسخة أكثر قابلية للتطبيق والتبشير، لا سيما وأنها تلغي الطبقية التي كانت موجودة في الهندوسية القديمة، فجعل منها دينا عالميا.
هناك من يشكك في وجود شخصية حقيقية اسمها بوذا ويرجح أنها مجرد أسطورة، وهناك من يرى في المقابل أن بوذا كان نبيا مرسلا من الله وداعيا إلى التوحيد الذي دعا إليه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنه من الصعب التحقق من صحة هاتين المقولتين فسنتعامل مع شخصيته وآثاره وفقا لما يقوله أتباعه.
تمثال لبوذا في حالة تأمل
من الملفت أن بوذا لم يتحدث عن وجود إله على الإطلاق، مع أن الهندوسية الأصلية تعبد ملايين الآلهة وتجعل على رأسها إلها خالقا، لكن بوذا ركز اهتمامه كله على الاستنارة والتوحد بالحقيقة المطلقة ونبذ الطبقية ورفع الظلم عن المضطهدين، وعندما يُسأل الرهبان البوذيون اليوم عن مفهومهم لبدء الخلق وأصله ومصيره وما بعد الموت فإنهم لا يقدمون إجابات شافية، فالبوذي يقصر اهتمامه على الجانب الأخلاقي والسلوكي ويتهرب من التفكير في الأسئلة الوجودية، ما يدفع بعض الباحثين للتردد في تصنيف البوذية ضمن الأديان واعتبارها مجرد فلسفة باطنية.
ونظرا لغياب مفهوم الألوهية لديهم، رفع الكهنة بوذا إلى مرتبة الإله مع الإقرار بأنه مجرد معلم وليس خالقا، إلا أنهم يقصدونه بالعبادة والتقديس. وتقام اليوم في المعابد البوذية صلوات وتتلى أناشيد ملحنة أمام أصنام بوذا، كما يؤدي الكثير من أتباعه صلاتهم في منازلهم أمام أيقونات على هيئة بوذا.
تُفرض الزكاة على أموال عامة الناس، وقدرها تُسع المال، أما الصيام فيتطلب الامتناع عن الأكل والشرب باستثناء الحليب، وبعضهم يصوم ثلاثة أيام محددة في السنة، بينما يصوم آخرون اليوم الرابع عشر من كل شهر قمري، أما الحج فيتطلب السفر إلى أربعة أماكن مقدسة في الهند ونيبال، ويقر الكهنة أن هذه العبادات لم يأمر بها بوذا بل وُضعت بعد موته.
وكما هو الحال لدى الهندوسية، يؤمن البوذيون بمبدأ “الكارما” والتناسخ، ويزعمون أن المرء قد يعود إلى الحياة على هيئة آلهة إذا حقق درجة الكمال والاستنارة، ويحذرون من إمكانية العودة بعد الموت إلى الدنيا في جسد حيوان، لذا يعتقد البوذيون أن بعض الديدان والحشرات ليست سوى كائنات بشرية ممسوخة، فيمتنعون عن قتلها.
تعد البوذية أكثر مادية من الهندوسية، فهي ترى أن الخلاص حالة لا تخضع للتغير، وهو الخلود والمجد والمعرفة المتعالية، حيث يشعر الإنسان بالطمأنينة والسعادة عندما ينال هذه الدرجة. كما لا تقر البوذية بوجود الروح (الأتمان عند الهندوس)، بل تزعم أن الإنسان مركب من أجزاء مادية متغيرة، وآلية الكارما تؤدي إلى تمتع الإنسان بالملذات المادية بعد التناسخ، فلا وجود للآخرة بنهاية المطاف. وهذه الرؤية المادية تعطي البوذية ميزة القبول في الغرب، لا سيما ضمن إطار حركة العصر الجديد.
بعد نحو ألف سنة من خروج البوذية من رحم الهندوسية، قدّم بوذيدارما -الذي يعتقد أنه الخليفة الثامن والعشرون لبوذا- مذهبا جديدا تحت مسمى بوذية التشان، والتي تعد النسخة الصينية من البوذية، ثم انتقل هذا المذهب إلى اليابان تحت مسمى بوذية الزن. ولا يختلف هذا المذهب كثيرا عن الأصل، إلا أنه يحاول أن يجعل تعاليم البوذية أكثر التصاقا بالحياة اليومية، ما يعطيه أيضا ميزة الانتشار في الغرب.
التقاطع مع الإسلام
الهندوسية والإسلام تتقاطع الهندوسية مع الإسلام في الإقرار بالألوهية، لكن الإسلام يقوم على التوحيد والإيمان بأن للإله وجودا حقيقيا مطلقا، وبأن للمخلوقات وجودا حقيقيا نسبيا، ويتنافى هذا التوحيد مع وحدة الوجود واتحاد الخالق بالمخلوقات أو حلوله فيها.
أما الهندوسية فتقوم على تعدد الآلهة (الشرك)، وتقر بخلود الروح وتناسخها، وتعطي الأولوية للروح على الجسد، ما يؤدي إلى الزهد المتطرف، بينما يقول الإسلام بوحدة الروح والجسد وتحقيق التوازن بينهما مع الدعوة إلى الزهد المعتدل.
يرى كثير من المؤرخين أن الهندوسية لعبت دورا جوهريا في نشوء بعض الفرق الإسلامية أو التأثير عليها جزئيا، مثل الإسماعيلية وبعض الطرق الصوفية، غير أنه يجب التمييز بين نمطي التصوف الإسلامي لتحديد مدى تأثيرها عليه، ففي التصوف السني التعبدي ظل تأثيرها ثانويا ومحدودا، حيث أخذ عنها الزهاد بعض المظاهر كالسُّبحة والمخلاة، والقول بأولوية النفس على الجسد بصورة مخففة، أما التصوف الفلسفي فتأثر بها بقوة حتى كانت من مصادره الأساسية، ونرى ذلك واضحا في مقولة الحلول التي تُنسب للحلاج، وفي نظرية وحدة الوجود لدى ابن سبعين. [انظر: الباطنية والتصوف الفلسفي].
البوذية والإسلام تلتقي البوذية مع الإسلام في العديد من القيم الأخلاقية والاجتماعية، مثل الدعوة للمساواة التي نص عليها الحديث النبوي “ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى” [رواه البيهقي وصححه الألباني]، وكذلك في التوسط بين الإباحة المطلقة والزهد المطلق، والذي نجده في الآية {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77].
لكن الاختلاف يظهر في عقائد جوهرية، وأهمها تأليه بوذا الذي يتناقض مع التوحيد، وإنكار البوذية لخلود الروح رغم قولها بالتقمص، وهو تناقض واضح.
أهم المراجع:
أبو الريحان البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، 1958.
ويل ديوارنت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود ومحمد بدران، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد 2 الجزء 3.
كيم نوت، الهندوسية: مقدمة قصيرة جدًا، ترجمة أميرة الصادق، مكتبة هنداوي، 2022.
جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ترجمة كامل حسين، سلسلة عالم المعرفة، 1995.
أمَة الرفيع محمد بشير، المعاد في الهندوسية (أطروحة دكتوراه)، الجامعة الإسلامية العالمية، إسلام أباد، بدون تاريخ.
عبد الرزاق الموحي، العبادات في الأديان السماوية، دار الأوائل، دمشق، 2001.
بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.
يدل مصطلح القبّالاه على مذهب يهودي باطني (غنوصي) في تفسير الكتاب المقدس يقوم على افتراض أن لكل كلمة ولكل حرف معنى خفيا، ويتضمن نظريات مستوردة من فلسفات أخرى لتفسير وفهم الخلق وطبيعة البشر وحقيقة الروح والقدر، ويحاول أتباعه اليوم نشره عالميا بمعزل عن الدين اليهودي بحيث يُقدم كفلسفة روحانية يمكن اعتناقها دون أن يغير المرء دينه.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعة اليهودية إن القبالاه هي مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود، فاسمها مشتق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف، أي «التقاليد والتراث», وكان يُقصد بها أصلاً تراث اليهودية الشفوي المتناقل فيما يعرف باسم «الشريعة الشفوية»، ثم أصبحت الكلمة تعني منذ أواخر القرن الثاني عشر «أشكال التصوف والعلم الحاخامي المتطورة»، وقد أطلق العارفون بأسرار القبَّالاه على أنفسهم لقب “العارفين بالفيض الرباني”، ويمكن القول إن هذا المذهب يمثل الجانب الصوفي الباطني لليهودية. [موسوعة اليهودية، 14/ 17].
ويجدر بالذكر أن هناك أنواع من الباطنية (التصوف العرفاني) تحرص على البقاء في نطاق توحيد الله وتنزيهه عن الاندماج بالمخلوقات، فالإله بهذا المعنى يتجاوز الإنسان والكون والتاريخ، ويحاول المتصوف من خلال مجاهدة شهواته وعشقه للإله أن يتقرب منه. لكن هناك نوعا آخر للتصوف ينتهي به الحال إلى “وحدة الوجود” و”الحلولية”، حيث يؤمن بالواحدية الكونية وبأن الإله يحل في الطبيعة والإنسان والتاريخ ويتوحد معها، وبدلا من المجاهدة والزهد يهتم المتصوف هنا بالفلسفة الباطنية التي يحاول فيها تفسير اندماجه بالإله وتألّهه، فهذا التصوف أقرب للعلمنة من الدين لأنه يسعى لتعظيم الإنسان وتأليهه بدلا من تكريس عبوديته لله.
ونجد أثر هذا المذهب الحلولي الغنوصي في بعض أشكال التصوف الفلسفي داخل أديان عدة بما فيها الإسلام، لكنه في القبالاه يبلغ أقصى درجات التطرف حتى يصبح ضربا من محاولات التدخل في الإرادة الإلهية، أملا في أن يتمكن اليهودي المتصوف من التحكم في الكون من خلال الاندماج بالإله وفهم آلية عمل الكون وسر الخليقة. [الغنوصية في الإسلام، ص7-11].
“ليس هناك تقشف في الكابالا (القبالاه)، فيجب أن يعيش حياته”. كتاب علم الكابالا للمبتدئين، ص 26.
إسبينوزا
يبدو أن هذا الفكر الغنوصي المتطرف هو الذي مهّد لحركات الإلحاد في عصر النهضة المستمرة حتى اليوم، والتي زعمت أن اكتشاف قوانين نيوتن وغيرها من السنن الكونية الفيزيائية يبرر تأليه الإنسان وعدم احتياجه للإله. وهذا ما يؤكده الفليسوف اليهودي باروخ إسبينوزا الذي تأثر بالصوفية الحلولية واعتبر أن حلول الإله في المادة يسمح للطبيعة بأن تصبح هي الإله، وأن الصوفي صاحب العرفان يصبح قادراً على التحكم في الإله والطبيعة والكون.
ويمكننا هنا أن نرى ملامح “سوبرمان” الذي اخترعه الفيلسوف الألماني نيتشه، فهو الذي أطلق فكرة “موت الإله” وقدرة الإنسان على التحكم بالعالم، وهو أيضا الذي مهّد للأفكار النازية المتطرفة التي لا تؤمن إلا بإرادة القوة وتتجاوز أخلاق الضعفاء، كما يمكننا أن نلمس آثار القبالاه في نظرية عالم النفس النمساوي اليهودي سيغموند فرويد، فقد وضع تعريفاته لما يسمى بالأنا “إيغو” وفقا لمفاهيم القبالاه للنفس البشرية.
في كتابه “مفاتيح هذا الدم” The Keys of This Blood يكشف القس الكاثوليكي والبروفسور في جامعة الفاتيكان ملاخي مارتن الأثر الذي تركته الغنوصية القبّالية في العقل الأوروبي على يد حركة النهضة الإيطالية، حيث تعاونت مع الماسونية العالمية على نشر الفلسفة الإنسانوية “الهيومانية” المادية التي تستغني في جوهرها عن الإله.
في كتابه “القبالاه وما بعد الحداثة” يؤكد المؤلف “سانفورد إل درور” تأثر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا بالقبالاه في وضع أفكاره للفلسفة التفكيكية، ومن المعروف أن فلسفات ما بعد الحداثة انتهت إلى العدمية والسفسطة، فهي تنتقد الإيمان بالمطلقات وتميل إلى التشكيك والنقد.
يقول باحثون متخصصون في الغوص بأسرار القبالاه إن هناك جزءا خفيا وراء ما يعلنه “حكماؤها” من الاندماج بالإله، فالحقيقة هي أن فكرة الاتحاد بالإله تطورت إلى الاتحاد بالشيطان نفسه عبر السحر، وذلك بعد أن تداخلت العقيدة اليهودية الحلولية بالأفكار الثنوية (ثنائية الإله)، فنتجت فكرة تأليه إبليس كإله أرضي مقابل للإله السماوي، ومن ثم فإن إبليس وشياطينه يقدمون لهم عبر طقوس السحر -من باب التضليل- من الخدمات والقدرات الخارقة ما يكفي للاعتقاد بألوهيته، لكن هذه الأسرار لا تُكشف إلا لمن يرتقي إلى أعلى الدرجات كما هو حال الجمعيات السرية التي تستمد بناءها الفكري من القبالاه، في حين يعلن بعض أتباعهم أن السحر ليس إلا علما خاصا أنزله الخالق إلى البشر عن طريق الأنبياء ليبلغوه إلى الحكماء. [مفهوم الخلاص في الديانة اليهودية، 94].
دافنشي
القبالاه والعلم يجاهر معلمو القبالاه في العصر الحديث بأن كتبهم القديمة تضمنت الكثير من أسرار الكون التي لم يُكشف عنها إلا في هذا العصر، وأن علماء الغرب تعلموا القبالاه قبل أن يكتشفوا قوانين الطبيعة، فهم يؤكدون أن اكتشافات فيثاغورس الرياضية وفلسفة أفلاطون وأرسطو استندت إلى أسرار القبالاه. [موقع حكمة الكابالا].
ومع بدء النهضة في القرن الخامس عشر كان الإيطالي ليوناردو دافنشي منكباً على دراسة القبالاه، وما زال مؤرخون غربيون يتساءلون عن مصدر عبقريته المفاجئة التي أنتجت مخترعات غير مسبوقة ورسوما تشريحية لتفاصيل جسم الإنسان والأجنة في الأرحام، حيث تقول بعض المصادر إن أفكاره الإبداعية السابقة لزمانها لم تظهر إلا بعد أن اعتزل الناس سنتين في أحد الكهوف وفقا لما ورد في بعض أوراقه، ما دفع البعض لافتراض اتصاله بكائنات فضائية لديها حضارة متقدمة، بينما لا نستبعد -إن صحت الرواية- أن يكون قد اتصل بعالم الشياطين عبر بوابة القبالاه السحرية. لكن آخرين يرون أن ما ذكره دافنشي عن دخوله الكهف لم يكن سوى استعارة مجازية. [موقع الماركسي].
خريطة مطابقة للواقع رسمها دافنشي لمدينة إيمولا الإيطالية وكأنه ينظر إليها من السماء
نيوتن
وفي كتابه “دين إسحاق نيوتن” يقول المؤلف فرانك مانويل إن عالِم الرياضيات والفيزياء الشهير نيوتن (القرن السابع عشر) كان يؤمن بأن النبي موسى لم يتلق التوراة فقط بل أوحيت إليه أيضا قوانين التحكم بالطبيعة، لذا انشغل نيوتن بحل ألغاز القبالاه واكتشاف العلاقة بين بناء “خيمة الاجتماع” التي كان يحملها بنو إسرائيل أثناء التيه وبين بنية الكون. [The Religion of Isaac Newton, 364].
كما كتب رائد الرياضيات الحديثة الألماني غوتفريد لايبنتز (القرن الثامن عشر) أن المدينة الفاضلة “يوتيوبيا” يجب أن تبنى على أساس مفاهيم القبالاه التي تُشتق منها كل العلوم. [انظر كتاب: Leibniz And The Kabbalah].
أما ماكس ديمونت فيقول في كتابه “اليهود، الله والتاريخ” إن أبرز علماء القرن السابع عشر في أوروبا كانوا قد تتلمذوا على يد معلمي القبالاه، وإنهم لم يجدوا مشكلة في الخلط بين ألغاز القبالاه والخيمياء والعلوم التجريبية كما كان يفعل جميع أتباع الجمعيات السرية، مؤكدا أن القبالاه هي التي قادت إلى النهضة العلمية في ذلك العصر. لذا لا نستبعد أن تلك النهضة العلمية التي تسارعت بطريقة غير مسبوقة في تاريخ البشرية لم تكن نتيجة تراكم علمي تجريبي بحت، بل انطلق العلماء أساسا في تجاربهم مما اكتسبوه من عوالم القبالاه وما يسمى بالحكمة القديمة. [Jews, God and History, 292].
في هذا المقطع القصير، يتحدث عدة علماء معاصرين عن أسبقية القبالاه في الكشف قبل آلاف السنين عن نظريات علمية حديثة، مثل تكوين الذرة وتشريح الإنسان ونشأة الكون عبر الانفجار العظيم.
تاريخ القبالاه يزعم القباليون أن فلسفتهم قديمة قدم البشرية، وأنها بدأت مع آدم عليه السلام نفسه، ثم نقلت عنه إلى نوح عليه السلام، ثم إلى النبي إبراهيم عليه السلام الذي يقولون إنه تأمل في عظمة ومعجزة الوجود الإنساني وبنية الكون وعمل قوانين الطبيعة فظهر له العالم الأعلى من خلال الوحي والإلهام، فقام بنقل جزء من أسرار هذه المعرفة إلى أتباعه الذين نقلوها بدورهم شفهيا عبر الأجيال، كما كان كل معلم يضيف براهين تجربته الشخصية. [موقع حكمة الكابالا].
ويؤمن المسلمون واليهود بأن النبي موسى تلقى التوراة عن ربه في جبل الطور بسيناء، لكن القباليين زعموا أنه ذهب إلى الجبل ثلاث مرات، مدة كل منها 40 يوما، حيث تلقى في الأولى نصوص الشريعة الظاهرية التي تم تدوينها في التوراة ويتم تعليمها للعوام من بني إسرائيل، وفي الثانية تلقى روح الشريعة التي يتعلمها الأحبار (الحاخامات)، أما الثالثة فتلقى فيها روح روح الشريعة، أي الأسرار الخاصة بعلماء القبالاه، ويزعمون أن موسى أخفاها في النصوص ولا يتم فهمها إلا باستخدام شفرات معينة وعبر التأمل الخاص.
شمعون بن يوحاي
خلال تعرض اليهود للسبي البابلي، نُسبت إلى حزقيال رواية وردت في سفر يحمل اسمه، حيث تقول إنه رأى رؤيا عن صعوده إلى السماء تمكن فيها من رؤية الإله على عرشه، فاستفاد القباليون من هذه القصة لابتكار عقيدة رؤية الإله والاتحاد فيه، وفي عام ٥۸٦ قبل الميلاد بدأوا بتدريس القبالاه ضمن مجموعات صغيرة من التلاميذ.
وعندما سيطر الرومان على أرض فلسطين واضطهدوا بني إسرائيل عادت القبالاه إلى السرية. ويقولون إن الحاخام شمعون بن يوحاي والملقب “بالراشبي” بدأ مرحلة جديدة عام 150 بعد الميلاد، حيث اختفى في كهف لمدة 13 سنة بعد أن تعرض أستاذه عاكيفا وزملاؤه للقتل من قبل الرومان، ثم خرج الراشبي ومعه كتاب الزوهار زاعما أن النبي إيليا (إلياس) عليه السلام ظهر له خلال اعتكافه وأملاه عليه كلمة كلمة، كما زعم أنه طبّق ما أملاه عليه بنفسه وترقى إلى أعلى درجات العالم الروحي متخطيا كافة درجات السلّم البالغ عددها 125 التي وضعها الإله، والتي بإمكان الإنسان إحرازها في هذا العالم.
مخطوط يُعتقد أنه يصور إسحاق الأعمى
ويقولون إن الزوهار ظل مخفيا ولا يُتداول إلا بالسر حتى نشر القبالي موسى بن ليون أول نسخة منه في القرن الثالث عشر في إسبانيا، بينما يرى بعض المؤرخين أن بن ليون هو الذي ألف الزوهار ونسبه إلى القرن الثاني بعد الميلاد مدعيا أن الراشبي تلقاه عن النبي إيليا. [موقع حكمة الكابالا].
وقبل ظهور الزوهار بقليل، كان القباليون يعتمدون كتاب “الباهير” (الإشراق) الذي لا يُعرف على وجه الدقة مؤلفه، لكن بعض المصادر تقول إن الحاخام إسحاق الأعمى جمعه من مخطوطات قديمة وطرحه في فرنسا حوالي عام 1200م، وهو يصنف ضمن كتب السحر.
الزوهار يقسم كتاب الزوهار مراحل تطور الإنسانية على مدار ستة آلاف سنة، حيث تتطور خلالها النفس البشرية بمراحل من النمو في كل جيل، وصولا إلى “نهاية مراحل التصحيح” وهي المرحلة الأعلى في الكمال والروحية.
ونجد أثر هذه الفكرة اليوم لدى مفكرين يعتنقون أيديولوجيات مختلفة، فالمفكر الفرنسي “أوغست كونت” استخدمها في القرن التاسع عشر لتبرير التخلي عن الدين على اعتبار أن البشرية تنمو تاريخيا كما ينمو الفرد من مرحلة الطفولة إلى النضج، وهكذا ينتقل البشر من المرحلة اللاهوتية إلى الميتافيزيقية وصولا إلى الوضعية التي تنفي وجود أي علة إلهية للظواهر الطبيعية. كما استخدم بعض الإسلاميين (مثل مصطفى العقاد وجودت سعيد) هذه الفكرة لوضع فرضية مفادها أن الإنسان كان يحتاج إلى الوحي في مراحل سابقة بينما أصبح اليوم (بعد انتهاء فترة النبوات) مكتفيا بالعقل.
والملفت أننا نجد في أدبيات الحركات السرية الفكرة نفسها، والتي تقول إن الإنسان في هذا العصر يزداد نضجا بما يمهد لخروج المسيح المنتظر (الدجال الذي قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم إن كل الأنبياء حذروا منه) لتحقيق الاستنارة المرتقبة للإنسان، بينما يزعم أتباع الديانة الإبليسية أن إبليس يوحي لهم بأن وقت ظهوره اقترب بعد انتظار آلاف السنين ريثما يكتمل نضج الإنسان.
قبر إسحاق لوريا في صفد
وبحسب مراجعهم، بدأ إسحاق لوريا، ولقبه “الآري”، مرحلة أخرى في القرن السادس عشر عندما وضع أسسا جديدة للقبالاه التي أصبحت تدعى بالقبالاه اللوريانية (نسبة إليه) حيث جعل منها مدخلا لعلم اللاهوت والفلسفة وعلم النفس، وبذلك اكتمل البناء الفكري للقبالاه لتصبح نسقا أيديولوجيا يمكن من خلاله التأثير على علوم إنسانية شتى، فكان له دور كبير في تطوير أفكار الحركات السرية الشيطانية، وعلى رأسها الماسونية في القرن الثامن عشر وجمعية الثيوصوفيا في القرن التاسع عشر. [موقع حكمة الكابالا].
ومن مؤلفاته “شجرة الحياة” و”مداخل النوايا” و”مراحل دورة النفس”، وهي كتب تركت أثرا في فلسفة هيغل ونظريات فرويد. وقد فتح لوريا المجال جزئيا أمام العامة من الناس لدراسة القبالاه، ومن الطريف أنه طلب عند موته عدم نشر مؤلفاته للعامة قبل حلول الوقت المناسب لنشرها.
تقول مصادر القبالاه إن الرواد تعمدوا السرية لأنهم علموا أن أجيالهم لم تكن على قدر كاف من الوعي، بل إن بعضهم أحرقوا ما بين أيديهم من مدونات كي لا يتضرر بها العالم المادي لعدم قدرته على تحمل آثارها، ولكن مع حلول منتصف القرن الثامن عشر أصبحت دراسة الزوهار شائعة جدا بين العامة وخاصة في بولندا وروسيا والمغرب والعراق واليمن. [موقع حكمة الكابالا].
وفي عام ۱٩٤٣ بدأ المحامي اليهودي يهودا أشلاغ بتأليف كتاب “الشرح السُلّمي لكتاب الزوهار ولتعاليم الآري”، وذلك بعد هجرته من بولندا إلى فلسطين وتفرغه للتأمل في تراث القبالاه، وصار لقبه “صاحب السُلّم” لأنه فصّل طريقة ترقي درجات السلّم المئة والخمسة والعشرين، ثم جاء من بعده ابنه باروخ شالوم أشلاغ، ولقبه “راباش”، ليضع سلسلة مقالات وشروح جديدة، حيث أصبحت مع كتاب أبيه المصدر الرئيس اليوم لفهم الزوهار، لا سيما وأنها تحاول التوفيق بين القبالاه ومكتشفات العصر الحديث.
فلسفة الخلق والاتحاد استلهم القباليون كما أسلفنا من سفر حزقيال ممارساتهم الباطنية التي يهدفون من خلالها إلى رؤية الإله والاتحاد فيه، ثم تطور الأمر على يد شمعون بن يوحاي الذي وصف في “الزوهار” طريقة الترقي في السماء واختراق البوابات التي تحرسها الملائكة، وذلك بتعلم أسرار الحروف والأعداد، وصولا إلى العرش.
وخلال تلك الفترة ظهر كتاب اسمه “سفر يتزيراه” (كتاب الخلق) لمتصوف يهودي مجهول، شرح فيه نظريته عن خلق الله للكون عبر تشكيل 20 حرفاً من الأبجدية العبرية، حيث زعم أن الله ينطق بالعبرية ويشكل منها الموجودات عبر دمج الحروف.
لذا اهتم القباليون بما يسمى حساب الجمّل (جماتريا) والاختصارات (نوطيرقون)، وأصبحوا يستنتجون منهما معاني الكلمات وأسرارها ويتنبؤون بمستقبل الأحداث.
يعتبر فلاسفة القبالاه أن التوراة هي مخطَّط الإله للخلق كله، ولكن فهمها لا يتم إلا عبر التفسير الباطني، فكل كلمة فيها تمثل رمزاً، ولكل علامة أو نقطة سراً داخلياً، وبما أن الأبجدية العبرية مقدسة فهي ليست مجرد حروف، بل تنطوي على قوى خفية، وبالذات الأحرف الأربعة التي تكوِّن اسم يهوه (الإله). [مفهوم الخلاص في الديانة اليهودية، ص93]
وبينما حاول حاخامات اليهود تفسير ما ورد في التوراة من خلع صفات بشرية على الإله وتجسيمه بأنها من قبيل المجاز، فإن القبَاليين أخذوها بمعنى حرفي، وبما أن التوراة تقول إن الإله خلق الإنسان على صورته، فقد آمنوا بوجود مخلوق أول هو “آدم قدمون” وأنه كان إنسانا كاملا، حيث كان جسمه يعكس التجليات النورانية العشرة (سفيروت).
وتتدرج هذه التجليات على هيئة فروع “شجرة الحياة” التي يتخيلون جذورها مغروسة في السماء بينما تلامس فروعها الأرض، فالحكيم القبالي يتسلق تلك الشجرة المقلوبة بدءا من عالمه الدنيوي حتى يصل إلى الإله في السماء.
حساب الجمّل: يستخدم هذا النظام عبر منح كل حرف رقما يدل عليه، ومن خلاله يتم احتساب المعادل الرقمي للكلمة أو الجملة، ويُستنتج بذلك تفسير النص أو يُتنبأ منه بحدث مستقبلي يتعلق به عبر احتساب تاريخ حدوثه، فمثلا فسروا العبارة التي وردت في سفر التكوين «318 عضواً في بيت إبراهيم» بأنها تعني «خادم إبراهيم»، كما استخرجوا عدة مرات تواريخ ظهور الماشيح (المسيح المخلّص). وقد امتد أثر هذه الخرافة إلى المسلمين في عصور سابقة، ونجدها واضحة في كتاب “القانون” لأبي الريحان البيروني الذي عاش بين القرنين الرابع والخامس الهجري، ومازال البعض يستخدم هذا النظام للتنبؤ بزوال إسرائيل.
الاختصارات: استخدم القباليون هذا النظام أيضا للتلاعب بالنصوص وتفسيرها كما يحلو لهم، فمثلا فسروا كلمة المسيح (يشو) بأنها كلمة مركبة من الحروف الأولى لعبارة “ليفنى اسمه ولتفنَ ذكراه”. وبات بإمكان أي مفسر يزعم معرفته بهذا الفن أن يستخرج معان غامضة من أي كلمة أو نص، وانتقلت هذه الخرافة أيضا إلى المسلمين وأديان أخرى، ونحن نجد أثر الاختصارات في العصر الحديث حيث شاع اختصار أسماء المؤسسات والمنظمات إلى كلمة واحدة مكونة من الحروف الأولى.
السفيروت
السفيروت هي تجليات الإشعاعات الصادرة من النور الإلهي التي يزعم القبّاليون أنه تم بها خلق العالم، وأنها أداة الإله في خلق العالم وحُكمه، وتأتي في عشر درجات تُرسم على هيئة بلورات، كما يُطلق عليها اسم شجرة الحياة، وكل منها تقابل عضوا من أعضاء الجسم البشري وجرما من أجرام السماء:
1- كيتير عليون، أي التاج الأعلى للإله، وهي الإرادة المقدَّسة والعقل الفعّال، وهي أول مرحلة تخرج من الإله الخفي الذي يكون متوحدا مع العدم، فيخرج من هذا التجلي زوجان بلا جنس محدد. وهي تقابل رأس الإنسان والنور الأساسي.
2- حوخمة، أي الحكمة، وهي أول التجلِيات الصادرة عن الإله المتخفي، وتمثل العلة (الذكرية) الأولى. ويقابلها النصف الأيمن من المخ والأبراج الاثني عشر (زودياك).
3ـ بيناه، أي الفهم أو الذكاء، وهي العلة الأنثوية الأولى، حيث يدخل مع التجلي السابق في علاقة جنسية لإنجاب التجليين السادس والعاشر. ويقابلها النصف الأيسر من المخ وكوكب زحل.
4ـ حيسيد، أي الرحمة. يقابلها الذراع الأيمن وكوكب المشتري.
5- جبوراه، أي الشدة، وهي مصدر الحكم الإلهي والشريعة. يقابلها الذراع الأيسر وكوكب المريخ.
6- تِفئيرت، أي الجمال، ويشار إليها بالشمس والابن والملك المقدس، وهي مصدر عقيدة الخلاص المسيحية. يقابلها القلب والشمس.
7- نيتساح، أي التحمل والنصر. يقابلها الساق اليمنى وكوكب الزهرة.
9- ياسود عولام، أي أساس العالم، وهي أساس كل القوى النشيطة في الإله. يقابلها عضو التناسل والقمر.
10- ملخوت، أي الملكوت، وهي تمثل بني إسرائيل. يقابلها الأقدام والعناصر الأربعة.
وبحسب فلسفة القبالاه، كان الإنسان والكون قبل الخلق داخل الذات الإلهية، ثم انبثق آدم القديم عن هذه الذات على صورة الإله، ثم انبثق عنه الكون بنجومه وكواكبه.
لذا يرسمون آدم القديم على شجرة التجليات الإلهية (شجرة الحياة) بحيث يناظر كل عضو فيه صفة أو تجلياً من تجليات الذات، ويقع داخل البلورة النورانية التي انبثق منها، كما يناظر جزءا من الكون.
وبهذه الفلسفة يتم تقديس الإنسان والموجودات لارتباطهما بالإله، حيث يُزرع في عقول الأتباع أن هناك قنوات تصل الإنسان بالإله ويمكن تنشيطها عبر تنشيط الطاقة الروحية التي يتم جلبها من الأجرام السماوية، ما يسمح للإنسان بالترقي الروحي والتحرر من الجسد عبر حالة من التأمل تدعى “كافاناه”، ليتحد في النهاية بالإله، أو يحلّ الإله فيه، وهذه الحالة تدعى “دفيقوت” وهي تشبه حالة النيرفانا في الديانات الشرقية.
وتقول القبالاه إن آدم القديم كان خنثى مثل الإله (تتساوى فيه صفات الذكورة والأنوثة)، وكذلك الكون، وعليه فإن الاتزان يتطلب عودة الإنسان إلى صورته الكاملة وحالته الروحانية المتسامية، وذلك بالمساواة الكاملة بين الذكورة والأنوثة في الموقع، والاشترك التام في الفعل، وهذا ما نراه واضحا في الحركات الداعية إلى المساواة بين الجنسين اليوم.
وتبدو القبالاه أكثر تطرفا من اليهودية المحرفة في تقريب الإنسان من الإله والتعاطف مع إبليس، فقد أوضحنا في مقال “اليهودية” أن محرفي التوراة وضعوا قصة مختلفة تماما في سفر التكوين عن قصة الخلق التي نجدها في القرآن، فجعلوا من الشجرة المحرمة في الجنة شجرة للمعرفة، وزعموا أن الإله نهى آدم عن الأكل منها كي لا يكتشف الحقيقة ويصبح خالدا مثله فخدعه وأوهمه بأنه إن أكلها سيموت، وفي المقابل سعى الشيطان لمساعدة آدم بالتجسد على هيئة حية للتسلل خلسة إلى الجنة وإطلاع آدم على سر الشجرة، ما يعني أن الإله هو المضلل وإبليس هو المنقذ.
كما يزعم واضعو سفر التكوين أن الإله ترك آدم ليضع بنفسه أسماء الموجودات، وهذا على عكس الرواية التي يوثقها القرآن لهذه الحادثة، حيث علّم الله آدم الأسماء كلها وترك آدم ليتحدى الملائكة بما لديه من المعرفة بعد أن تلقاها من خالقه، فاليهودية المحرفة تزعم أن الإله ترك الإنسان ليصوغ معرفته ورؤيته للعالم بنفسه دون تدخل إلهي
وإذا كانت اليهودية قد أنزلت من قيمة الإله ورفعت مقام الإنسان إلى هذه الدرجة، فإن القبالاه ذهبت إلى ما هو أبعد وقلبت المعادلة كلها، فانصرفت إلى عبادة الشيطان نفسه وجعلت من الإله عدوا لها، فنرى أن طقوسهم وعبادتهم وفلسفتهم قائمة على فكرة منازعة الإله في قدراته وعلمه عبر اكتساب قدرات الشياطين والتقرب إليهم، وكأن بني آدم في علاقة منافسة مع الإله لمحاولة الوصول إلى منزلته بعد أن حرمهم منها.
ويزعم القباليون أن هناك حاسة سادسة كامنة لدى الإنسان، وأنهم قادرون على تفعيلها ليكتسب بها المرء القدرة على فهم “العالم الأعلى” ويدير بذلك حياته بنفسه، ويقولون إن تعاليمهم هي الوسيلة الوحيدة لبناء الوعاء الروحي الذي يمكن للإنسان أن يستخدمه لتلقي نور الخالق في نفسه، وبدون هذا الوعاء فإن الإنسان العادي لا يدرك من الواقع سوى 10% فقط، بينما تبقى 90% من الحقيقة غافلة عنه.
وبحسب مراجع القبالاه المتاحة لعامة الناس، فإن التتلمذ على أيديهم بنيّة إحراز التقدم الروحي يتيح للمرء الاستنارة وتصحيح ذاته، أما إذا أراد أن يصبح حكيما فلا تكفيه المعرفة بل عليه أن يتسلح بالرغبة الملحّة لتلقي “الحكمة”، ما يدل على دور الاستعداد النفسي لدى هذا النوع من التصوف الباطني.
ويجزمون أيضا بأن هذه “الحكمة” ليست ضربا من الفلسفة التأملية، فهي ليست من نتاج عقول البشر الذي يقبل الصواب والخطأ، بل هي علم حقيقي واقعي مُنزل من الخالق إلى الصفوة من خلقه [كتاب علم الكابالا للمبتدئين، ص 39]، ومن يتعمق في القبالاه سيجد أنهم يعتبرونها منحة من إبليس نفسه لمنافسة الخالق.
كما يزعمون أن علماء القبالاه لا يدركون العالَم الأعلى عن طريق خيالهم، كما يحدث للصوفيين في الأديان الأخرى، بل يدركونه على النحو نفسه في استخدام حواسهم الخمسة لإدراك هذا العالم المادي. [المرجع السابق، ص 33].
القبالاه والسحر
لا يُعرف على وجه التحديد متى ظهر السحر في تاريخ الإنسان للمرة الأولى، فهناك من ينسب بداياته إلى عصر نوح عليه السلام، لكن المؤكد أنه كان شائعا لدى شعوب كثيرة في عصور مغرقة في القدم، وأن السحر تداخل مع الأديان الوثنية حتى اختلط على العوام التمييز بين الاستعانة بالشياطين والتوسل إلى الآلهة أو الملائكة، ومازال كثير من الناس يخلطون اليوم بين هذا وذاك، إذ يستغل السحرة هذا الجهل للظهور بمظهر رجال الدين، فهم غالبا يستخدمون النصوص الدينية في التعويذات والطلاسم كغطاء لأعمالهم القذرة.
وكما هو حال جميع الكتب السماوية، فإن التوراة تحرّم السحر بوضوح، فحتى ما بقي منها بعد التحريف مازال ينص على ذلك، حيث نقرأ في سفر التثنية نصا موجها إلى النبي موسى عليه السلام يقول “متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم، ولا يكن بينكم من يجيز ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عانف ولا متفائل ولا ساحر، ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانا أو تابعه، ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب”. أما عقوبة الساحر فكانت الرجم كما جاء في سفر اللاويين عند قوله “أي رجل أو امرأة يمارس الوساطة مع الجانّ أو مناجاة الأرواح، ارجموه ويكون دمه على رأسه” [اللاويين: 20/ 27].
وبالرغم من وضوح هذا التحريم فقد اشتهر اليهود بالسحر بعد السبي البابلي الذي حصلت خلاله الكثير من التحريفات للدين، ويقال إن اليهود الذين وجدوا أنفسهم أسرى في بابل بعد أن كانوا من أغنى الناس وأقواهم بدأوا بالاحتيال على أهل بابل، فاشتغلوا بالسحر والتنجيم، وراجت عنهم منذ ذلك الحين قصص تتهم النبي سليمان عليه السلام –الذي كان أعظم ملوكهم قبل السبي- بأنه كان ساحرا يستخدم الجن في أعمال الشر، حيث كان يملك بالفعل سلطة تسخير الجن في البناء والنحت دون السحر، لكنهم نسبوا إليه كتمان أسرار السحر في كتاب خاص، وأنهم وحدهم من يعرف هذه الأسرار.
ولا يُذكر الشيطان في الأسفار القديمة للتوراة التي بين أيدينا الآن إلا قليلا، فالخير والشر وجهان متكاملان للرب يهوه الذي عبده اليهود وحلّ فيهم -حسب معتقدهم- وكأن الذين كتبوا التوراة لم يريدوا منح الشيطان أهمية كبيرة، لأن قصة الإنسان لا تدور حول صراعه مع الشياطين بل حول صراع بني إسرائيل مع بقية البشر.
رسم تخيلي لعزازيل يعود للقرن التاسع عشر
وفي الأسفار التوراتية (المنحولة) والتلمودية التي ظلت تُكتب حتى نهاية القرن الثاني الميلادي وبتأثير كبير من الفلسفات الشرقية [انظر مقال اليهودية]، برز دور الشيطان بقوة، فاعتبروا إبليس “ملاكا ساقطا” اسمه عزازيل، حيث عصى ربه فأُبعده عن مملكة السماء مع مئتي ملاك تمكّن من إغوائهم، فتحول إلى شيطان يعارض إرادة الرب، ثم اشتهت بعض الملائكة الساقطة معه عددا من نساء البشر فتزوجوهن، وولدن لهن سلالة مميزة من العمالقة الذين عاثوا في الأرض فسادا، وهنا أرسل الرب نبيه أخنوخ (وهو إدريس عليه السلام) مع مجموعة من الملائكة السماوية لعقابهم، ويقول لهم الرب إن أرواحهم الشريرة ستظل حبيسة الأرض بعد موت أجسادهم، بينما تمت ترقية إدريس إلى مستوى الملائكة بعد أن عُرج به إلى السماء عدة مرات والتقى بكل الملائكة على مختلف درجاتهم وأصبح اسمه الملاك مطاطرون.
ومع أن تفاصيل سقوط عزازيل تأتي في عدة روايات، إلا أنها تنتهي إلى أن يصبح كائنا مواجها للإله يهوه، وكأنه ند له. ففي السفر المنحول المسمى باليوبيليات (الخمسينات) تصبح العلاقة بين يهوه وإبليس متفاوتة بين التقييد والإطلاق لمتابعة مهامه، والعجيب أن إبليس هذا كان قادرا على خداع الرب في بعض الحالات.
أما عند القبالاه فأصبح لإبليس (عزازيل) دور أكبر وأخطر، ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري إنه امتداد للأفكار الوثنية الغنوصية التي أخذها القباليون من الأساطير الثنوية (مثل المانوية والمجوسية) التي تؤمن بإلهين متضادين أحدهما للخير والآخر للشر، فأصبح القباليون يقدمون أدعية وصلوات للشيطان لتجنب شره، ويقدمون له القرابين في الأيام السبعة الأولى من عيد المظال باعتباره حاكم الأغيار (غير اليهود)، لكي ينشغل عنهم، ثم يقدمون القرابين لمعبودهم يهوه في اليوم الثامن. [موسوعة اليهود، 14/ 300]
وبينما تنظر الأديان التوحيدية (المسيحية والإسلام) إلى الملائكة على أنها مخلوقات نورانية تقوم بمهام أوكلها إليها الله، فإنها في الأديان الحلولية (اليهودية والقبالاه) تصبح جزءا من الإله ووسطاء له، وهو موكلة بتصريف كل شؤون الكون مثل إنزال المطر وتحريك الكواكب وإنبات العشب، لذا يشار إلى الملائكة في التراث العبري بأنهم أبناء الإله “بنو إلوهيم”. وبما أن اليهودية اعتبرت الشيطان إبليس من الملائكة، فقد تم منحه من البداية منزلة عليا، فالشياطين في عُرفهم ليسوا صنفا آخر من الكائنات التي تدعى بالجن كما هو واضح في الإسلام، بل هم مجرد ملائكة عصوا الأوامر.
وفي اليهودية الأرثوذكسية نجد صلوات موجهة للملائكة، وهو أمر تطور لدى القبالاه الذين منحوا الملائكة منزلة أعلى، واستخدموا أسماءهم في التمائم والتعاويذ، وجعلوا لهم إرادة مستقلة عن إرادة الإله مثل الشيطان عزازيل، على نقيض ما هو معروف في الإسلام الذي ينص على أن الملائكة “لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون” [سورة التحريم: 6]، وهكذا تلاشت الحدود الفاصلة لدى القبالاه بين الشياطين والملائكة، وأصبحت جميعها كائنات مستقلة ذات قدرات خارقة في تسيير الكون والتأثير في الإنسان.
ويقول مؤلف كتاب الزوهار إن الملائكة تمتلك طبيعتين، خيرة وشريرة، حيث حاول الأشرار منهم منع أخنوخ (إدريس) من الوصول إلى أعالي السماء أثناء عروجه لكن الملائكة الخيّرة ساعدته. ويضيف أن أخنوخ تمكن من تطهير نفسه من بذرة الشر الموجودة في كل إنسان حتى ترقى إلى درجة الألوهية فمنحه الرب درجة رئيس الملائكة وسماه مطاطرون.
ويزعم الحاخام أفراهام (في موقع بيت مدراش الإلكتروني) أن أخنوخ ترك تعاليمه في كتب سرية وأوصى بعدم كشفها إلا لمن يفهمها ولمن لديه معرفة كافية بعلم الفلك (التنجيم) من أبنائه، متوعدا بعقوبة الطرد لمن يخالف ذلك كما طُرد آدم من الجنة.
ويبدو أن هذا التدرج في فهم المفهوم القبالي للملائكة والشياطين انتهى إلى تأليه الشياطين وتقديمها على الملائكة الخيّرة، لما تتمتع به من قدرات خارقة يراها ممارسو السحر بأنفسهم عبر اتصالهم بالشياطين وتعاونهم معهم، وعبر المعارف الكونية التي اقتبسها القباليون من الشياطين الذين يتمتعون بأسبقية على البشر في الوجود الزمني وفي القدرة على الانتقال المكاني.
وحسب بعض التأويلات، أدخل القباليون في سحرهم نصوصا من كتاب المزامير، وهو كتاب أوحى به الله إلى النبي داود عليه السلام الذي كان مؤسس مملكة إسرائيل، فأصبحوا يكتبون بعض المزامير بطرق معينة ويضيفون عليها طلاسم سحرية، ويزعمون أن لها قدرات خاصة.
شنويبلين
لكن المصادر اليهودية القبّالية تنفي أي علاقة لها بالسحر، بل تسخَر من هذه الأقوال وتزعم أنها مجرد اتهامات لتشويهها. وبما أن اليهود والقباليين والحركات السرية قد سيطروا على معظم وسائل الإعلام والمؤسسات العلمية في الغرب بشكل تراكمي منذ بداية حركة النهضة في إيطاليا واندلاع الثورة الفرنسية وحتى اليوم، فإن الفكرة الشائعة اليوم هناك هي أن اليهودية والقبالاه بريئتان من السحر كبراءة الذئب من دم يوسف.
ولا يشذ عن هذه القاعدة في الغرب سوى الناشطين ضد الحركات السرية، وهم في معظمهم من الكاثوليك المتدينين، إضافة إلى بعض الماسون المتمردين، ومنهم اليهودي وليام شنويبلين William Schnoebelen الذي انشق عن الماسونية، ويقر بأن القبالاه هي العنصر الأساسي في كل أنظمة السحر الحديثة، وأن معظم السحرة والمشعوذين الكبار في القرن العشرين كانوا من القباليين. [The Dark Side of Freemasonry, 267].
يعتبر “سفر رازيل هاملاخ” من الكتب القبالية التي ظهرت بالتزامن مع ظهور الزوهار في القرن الثالث عشر، وهناك خلاف حول أصوله ومصدره، فهو مكتوب بالعبرية والآرامية ويتضمن أسطورة فريدة عن سقوط الملاك “رازيل” من السماء لتعليم آدم وإبراهيم أسرار الكون، لذا يتضمن الكتاب الكثير من المعارف الفلكية، ويربطها بمفاهيم الطاقة الروحية المعروفة لدى الباطنيين، ويجعلها محور الوجود.
يتضمن الكتاب أيضا أسطورة عن امرأة تدعى ليليث، ويقول إنها الزوجة الأولى لآدم قبل حواء، حيث تمردت عليه وأصبحت عشيقة الشيطان، ويُعد الكتاب من المصادر النفيسة للسحر والأساطير الغنوصية.
يعتقد باحثون أن هذا السفر ظهر على يد فرسان الهيكل الذين جلبوه من حفرياتهم في القدس أثناء الحروب الصليبية، وأنه يتضمن أسرارا سحرية خطيرة.
ويجدر بالذكر أن ليليث أصبحت رمزا في الحضارة الغربية للتمرد النسوي، ويُرمز لها بالبومة التي تحتل مركزا مهما في طقوس بعض الجمعيات السرية، حيث نجد صورة مصغرة لها بين خفايا الدولار، كما يوجد تمثال عملاق لها في الغابة البوهيمية بالولايات المتحدة حيث يقال إن القرابين تُقدم لها بحضور النخبة السياسية والمالية.
القبالاه والحركات السرية
بلافاتسكي
اشتهر جميع مؤسسي الجمعيات السرية الحديثة بتلقيهم علوم القبالاه على يد كبار أساتذتها، وعلى رأسهم اليوناني فيثاغورس الذي رحل إلى المشرق قبل الميلاد بنحو خمسة قرون وتتلمذ على يد حاخامات القبالاه، ثم أسس جمعيته السرية في كروتونا بجنوب إيطاليا التي أصبحت المرجع الرئيسي للحركات السرية في الغرب كله [انظر مقال الجمعيات السرية].
وفي العصر الحديث، يظهر أثر القبالاه الواضح في كتابات هيلينا بلافاتسكي مؤسسة جمعية الحكمة الإلهية، وأليستر كراولي مؤسس جمعية الفجر الذهبي، وألبرت بايك الأستاذ الأعظم للمحافل الماسونية في أميركا بمنتصف القرن العشرين، حيث مارسوا جميعا السحر بدرجات مختلفة.
كما يظهر بوضوح تغلغل القبالاه في الجمعيات السرية عن طريق عبادة كهنتها للشيطان الذي بات يُعرف باسم “لوسيفر”، وهي كلمة لاتينية وردت في الكتاب المقدس وتعني حامل الضياء.
ألبرت بايك
ولعل بايك هو أكثر هؤلاء وضوحا في الكشف عن ارتباط القبالاه والجمعيات السرية بالشيطان وعبادتها له، فيقول في كتابه “الأخلاق والعقيدة” Morals and Dogma إن “الاسم الحقيقي للشيطان، كما يقول القباليون، هو نقيض يهوه (الرب عند اليهود Yahveh)؛ لأن الشيطان ليس إلها أسود، بل هو نقيض الرب God. الشيطان هو تجسيد للإلحاد والوثنية. وللمبتدئين، هو ليس شخصا بل قوة خُلقت لأجل الخير، لكنها قد تخدم الشر، إنه أداة الحرية والإرادة الحرة” [Morals and Dogma, 102].
وهناك نص متداول بكثافة في الكثير من المراجع منسوبا إلى بايك، ويقال إنه ورد في إحدى رسائله إلى رؤساء المحافل الماسونية الكبار، ويقول فيه إن لوسيفر هو ند الإله (أدوناي)، وإن المسيحية (وكذلك الأديان التوحيدية كلها) حاولت قلب هذه “الحقيقة” لأن أدوناي يكره الإنسان فحرمه من المعرفة وطرد لوسيفر من الجنة لأنه دله عليها، لذا فإن أتباع الدرجات 31 و32 و33 في الماسونية يعبدون لوسيفر مباشرة، بينما يتركون بقية أتباع الدرجات الدنيا غائبين عن هذه “الحقيقة” التي يعتبرونها السر الأعظم للوجود. لكن المناوئين يقولون إن هذه الرسالة مختلقة من قبل الصحفي الفرنسي ليو تاكسيل (وفي 1907) وإنه لا يوجد دليل على صحتها، ولا يزال الجدل قائما بين الطرفين حتى الآن، وقد يستحيل البتّ في الأمر لأن الماسونية قائمة أساسا على السرية ونقض كل ما يشاع عنها من مؤامرات. [انظر مادة Luciferianism في موسوعة ويكيبيديا]
العين والهرم على الدولار
من جهة أخرى، نرى أثر القبالاه في الماسونية عبر رمز المثلث الذي تتوسطه أو تتربع على قمته “العين التي ترى كل شيء” All Seeing Eye، وهي ترمز إلى عين لوسيفر المطلعة على كل شيء وينبع منها النور، بحسب الكثير من المؤرخين والباحثين. وقد تم استيراد المثلث على الأرجح من مثلث قبّالي يُكتب فيه اسم يهوه (الإله)، حيث كان اليهود يعتبرون هذا الاسم مقدسا ولا يجوز لأحد أن ينطق به إلا الحبر الأعظم داخل قدس الأقداس بهيكل سليمان، أما القباليون فيعتبرون الإله قد تجلى عبر ثلاثة مراحل (كما هو حال الأديان الغنوصية الأخرى) فكان في آخر مرحلة يدعى بالنور اللانهائي (بالعبرية: عين صوف أور)، وهو النور الذي يُرمز له بالمثلث، ولكن يبدو أنه مع الانتقال إلى عبادة الشيطان لوسيفر رسموا عينه داخل مثلث الوجود الإلهي بدلا من وضع اسم الإله يهوه.
في كتابه “شفرة سورة الإسراء”، يرصد المؤلف بهاء الأمير ملامح انتقال القبالاه ومشروعها السري لتحريف الوحي وإفساد البشرية عبر الزمان والمكان، ولا سيما في الهند التي تشربت أفكار القبالاه وأعادت توليدها في أساطير البراهمية الهندوسية، ثم في بعض الأعمال الأدبية التي انتشرت في المشرق الإسلامي مثل ألف ليلة وليلة، وصولا إلى الغرب الذي تشبع عقله ووجدانه بأفكار القبالاه دون أن يدري.
كوتشر (وسط) يحضر جنازة الحاخام القبالي فيليب بيرغ في صفد عام 2013
القبالاه والمشاهير بعد أن كانت طقوسا سرية على مدى قرون، انتهجت القبالاه نهج الانفتاح على شاكلة الماسونية، فقدم القباليون أنفسهم على أنهم رعاة الحكمة القديمة وسدنة أسرارها المحفوظة من أجل صلاح البشرية كلها، وبدأوا بافتتاح المدارس والمعاهد لتعليم الراغبين بفهم علوم القدماء، مع أن ما يتم تلقينه للناس -وهم غالبا من الغربيين الذين تشكلت عقولهم في بيئة فارغة من الروحانيات والعقائد- ليس سوى قشور القبالاه وليس أسرارها.
يحرص القباليون أيضا على استقطاب النجوم ومشاهير الرياضة والفن كما هو حال منظمة “المتنورين” الماسونية، ولا سيما المغفلين منهم، ففي إحدى المقابلات التلفزيونية أرادت الممثلة الهوليودية ديمي مور أن تستعرض اهتماماتها الجدية فقالت إنها منكبة على تلقي دروس “حكمة القبالاه”، ووافقها المذيع بأمارات الإطراء والتشجيع.
ويمكن للمتابع أن يلاحظ غلبة الغفلة والسطحية لدى المشاهير الذين استقطبتهم القبالاه، ومن أبرزهم لاعب ريال مدريد السابق ديفيد بيكهام وزوجته المطربة فيكتوريا، وعارضتا الأزياء ناعومى كامبل وباريس هلتون، ومغنية البوب مادونا التي اتخذت الاسم اليهودي “إستر” مرادفا لاسمها، والممثل آشتون كوتشر الذي زار مراكز القبالاه في تل أبيب وصفد عام 2013 وقال “إن إسرائيل قريبة وعزيزة على قلبي”، وغيرهم كثير.
ويعلن هؤلاء المشاهير وغيرهم الولاء للقبالاه بارتداء “تميمة حمراء” على معاصمهم، وهي خيط من الصوف الأحمر يتم اقتطاعه من خيوط طويلة يلفها القباليون حول قبر راحيل في فلسطين، بزعمهم أن هذا الفعل يشحن الطاقة التي يبثها القبر، ثم يقسم الخيط ويباع حول العالم. علما بأن بعض مواقع القبالاه تعترض على هذه الظاهرة وتعتبر أنها تشوه أسرار وحكمة أسلافهم.
ليوناردو دي كابريو (يمين) وأشتون كوتشر يرتديان التمائم الحمراء
أهم المراجع عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة.
ميخائيل لايتمان، علم الكابالا للمبتدئين، موقع حكمة الكابالا، 2005.
هاينس هالم،الغنوصية في الإسلام، ترجمة رائد الباش، دار الجمل، ألمانيا، 2003.
سامي الإمام، الفكر العقدي اليهودي، جامعة الأزهر، بدون تاريخ.
هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.
بهاء الأمير، التفسير القبالي للقرآن، بدون ناشر، 2015.
محمد حمزة الكتاني، مفهوم الخلاص في الديانة اليهودية، دار الكتب العلمية، 2012.
علي الرشيدي، إرواء الظمآن بأخبار الشيطان، الدار العالمية، الإسكندرية، 2014.
Martin Malachi, The Keys of This Blood: Pope John Paul II Versus Russia and the West for Control of the New World Order, Simon & Schuster, New York, 1990.
Frank E. Manuel, The Religion of Isaac Newton, Clarendon Press, 1974.