بحكم موقعها الجغرافي أضحت فلسطين محط اهتمام العالم منذ القديم، إلا أن فكرة توطين اليهود فيها لم تكن قد ظهرت على مستوى القيادات والحكومات إلا عند الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت الذي وجّه نداء كل يهود آسيا وإفريقيا للعودة لفلسطين تحت رعاية فرنسا، طبعا مع ضمان مصالحها في المنطقة، والتي تتمثل في قطع الطريق المؤدية إلى الهند أمام بريطانيا. [المسيري، الصهيونية والحضارة الغربية، ص: 121].
إسرائيل .. الحاجةُ الوظيفيّة!
كان وصول نابيلون لمصر وبداية تدهور الإمبراطورية العثمانية سبب كافيًا لتبلور فكرة التحكّم في فلسطين، وكذا سببًا وجيهًا في تطوّر أيديولوجية “الصهيونية” وتصاعدها، خاصة مع التهديد الذي مثله كل من محمد علي باشا وابنه إبراهيم [إميل توما، جذور القضية الفلسطينية، ص: 11].
في بريطانيا باتت الصهيونية حاجة ملحة ومصيرية ضمان لمستقبل التاج، والأمثلة التي يمكن أن نوردها في هذا الصدد كثيرة -لربما لكثرتها تحتاج مقالًا كاملًا-، إلا أننا سنكتفي بما صرح به سنة 1876 “شافتسري” وزير الخارجية وأحد أهم رجالات بريطانيا في القرن التاسع عشر، حيث يقول: ” إنها لضربة لإنكلترا إذا ما استولى أيٌّ من منافسيها على سورية، ألا تستدعي السياسة إذن أن تنمّي إنكلترا، وهي دولة تجارية بحرية عظمى، قومية اليهود وأن يرجع إليها فضل استيطان اليهود في فلسطين” [إميل توما، المرجع السابق، ص: 12-13].
سيتحقق الحلم البريطاني كما نعلم في الاستحواذ على فلسطين بعد ما يعرف تاريخيًّا بـ “معاهدة سايكس-بيكو ” عام 1916، وسيتحقق حلم الصهيونية في فلسطين بعد عام واحد فقط أي بعد وعد بلفور الشهير.
وعد بلفور
بداية من فرنسا مرورا ببريطانيا، وانتهاء بالولايات المتحدة الأمريكية التي “يشعر معظم المرشحين لأي منصب عن طريق الانتخابات في الولايات المتحدة بأنه من الضروري لهم إعلان التأييد المطلق لإسرائيل من أجل انتخابهم واستمرار الدولة اليهودية، ويمثل التأييد الأمريكي لإسرائيل ضرورة لاستمرار الدولة اليهودية” [إدوارد سعيد وكريستوفر هيتشينز، إلقاء اللوم على الضحايا، ص: 5].
هذا الإسهاب يسهل على ما أعتقد الإجابة عن سؤال “لماذا إسرائيل؟ ولماذا فلسطين؟”، فالإجابة واضحة للغاية ولا تحتاج منا لذكاء خارق ولا لبحث مضن، فإسرائيل ليست أكثر من شركة أو عقدة مقاولات أنشأتها القوى الرأسمالية في فلسطين، لأهداف سياسية-اقتصادية، وجيو-استراتيجية محضة.
وهنا نميز بين الإطلاق على عموم اليهود والصهاينة، إذ هناك طوائف من اليهود ضد إسرائيل ومع فلسطين، وهذا يؤكد لنا أيضًا أن إسرائيل جماعة وظيفية كأي جماعة وظيفية أخرى، إلا أن هذا يجب ألّا ينسينا الأهداف الدينية التي تدفع بالأمريكيين إلى دعم الوجود اليهودي في فلسطين، وذلك يعود لإيمان المسيحيين بعودة المسيح المخلص بشرط قيام الدولة اليهودية وتخريب فلسطين؛ والغريب أن النبوءة المسيحية تتحدث بعد ذلك عن تقتيل لليهود على يد المسيحيين والذي حدث جزء منه في بلاد الأندلس مع محاكم التفتيش.
أسطورة أرض الميعاد
ليس وجود هذه الدولة على أرض فلسطين يعني أنها أرض لليهود، ولا أدل على ذلك من أن الوجود اليهودي في نيويورك مثلًا يعادل حجم الوجود اليهودي في فلسطين، فلم يكن للهجرة إلى فلسطين سوى النصيب الضئيل من الهجرة اليهودية، فـبلد مثل كندا “كان يضم 150 ألف يهودي في عام 1930 بينما كانت فلسطين لا تضم سوى 170 ألفا، ولكن التحدي الأكبر لأرض الميعاد كان يأتي من البلد الذهبي أي الولايات المتحدة الأمريكية، ففي الفترة التي نشير إليها، هاجر إلى الولايات المتحدة ما بين 1890- إلى 2080 يهوديًّا، مقابل ما بين 378- إلى 965 هاجروا إلى أرض فلسطين” [اليهود أنثروبولوجيا، جمال حمدان، ص: 242].
بالطبع فإن من لم يسعفهم الحظ في الهجرة إلى الدول الغربية لأسباب تتعلق غالبا بالوضعية الاجتماعية وجدوا أنفسهم مكرهين على الهجرة نحو فلسطين، بل في أحيان كثيرة مرغمين على الهجرة نحو فلسطين تحت تهديد المافيا الصهيونية؛ ولا أدل على ذلك ما حاولت الفيلسوفة الألمانية اليهودية “حنة آرنت” شرحه في كتابها “تفاهة الشر”، حيث يعتبر هذا الكتاب مساهمة جدية من الراحلة في مسلسل فضح الصهيونية العالمية وكشفًا لحقيقة تغيب عن المثقفين قبل العامة؛ وتأكيد على حقيقة أن اليهود لم يبادوا على يد “الحزب النازي” فقط، وإنما بمساعدة الصهيونية العالمية أيضًا.
آنذاك قوبل هذا الكلام بمعارضة شديدة إلى الحدّ الذي هدد حياة الكاتبة، وحتى اليوم -رغم أن البعض يعتبرها أحد أهم مفكري القرن العشرين- فإن كتاباتها لا تلقى الترحاب لدى الكيان الصهيوني باعتبارها عدوة للصهيونية، وهذا ليس لحديثها عن تفاهة الشر بل كما أوضحنا عن دور الصهيونية في موت آلاف اليهود.
آلة الترهيب والخوف!
تقول حنة: “لقد وقع خلال هذه السنوات الأولى، إبرام اتفاقية مرضية جدًّا بين السلطات النازية والوكالة اليهودية لفلسطين “هآفره”، وفي نفس الوقت دخل مبعوثون من فلسطين في اتصال مع الغستابو والإس. إس، من تلقاء أنفسهم، ووجد اليهود أنفسهم في قبضة عدوين: السلطات النازية والسلطات اليهودية” [ينظر: حنة آرنت، تفاهة الشر، ص100-102.]
حنة آرنت
ولا شك أن اليهود تعرضوا للتقتيل على يد النازيين، وأنهم وجدوا أنفسهم منبوذين في القارة التي عملوا بجد لإشعاعها، فلا أحد ينكر مساهمتهم في بناء التفوق الأوربي، وخاصة في مجال الفكر والعلوم، فلا يمكن تجاوز كون شارح ابن رشد يهوديًّا “موسى بن ميمون”، إلا أن هذا كله لا يبرر اقتلاع الغير من أرضه واحتلالها، ولا يسوّغ تعذيب الفلسطينيين وتقتيلهم وارتكاب جرائم يندى لها الجبين في حق الإنسانية جمعاء. لا عمل -مهما كانت بشاعته- يبرر الأعمال الصهيونية في فلسطين.
يجب أن نعلم أن الوجود الصهيوني في فلسطين مؤسَّس من اليوم الأول على الخوف، فلا نتصوّر مهما حاول الإعلام أن اليهودي الصهيوني يعيش في مسرات لا ينغص حياته شيء، بل “إن التهديد الأكبر لرفاه وأمن الإسرائيليين، ليس إيران ولا سورية، إنه دولة إسرائيل ذاتها. بعيدًا عن سلوك إسرائيل العدواني والمولع بالحرب، فإن احتلالها لفلسطين لا يجعل حيوات الناس الذين يعيشون تحت هذا النظام مستحيلة فحسب، بل غير قابلة للاستدامة أيضاً” [جياني فاتيمو ومايكل ماردر، تفكيك الصهيونية، ص: 21]
ومن ثمّ، فإنه يجب على اليهودي الذي يعيش في فلسطين أن يدرك حياته على أرض فلسطين عذاب دنيوي مستمر، وأن وجوده فوق هذه الأرض الفلسطينية مسألة وقت فقط، فهما طال الزمن ستعود الأرض لأهلها، هكذا علمتنا دورس التاريخ.
فلسطين .. شجرة الزيتون في مواجهة حائط الإسمنت
أردت أن أشبه الاحتلال الصهيوني بالحائط الإسمنتي، وأحببت أن أرسم في الأذهان الوجود الفلسطيني كشجرة زيتون، لما تمثله الشجرة في ذهنية الشعوب عامة ولما تمثله لشعوب البحر الأبيض المتوسط خاصة، ولما يتماثل في ذهني -ربما في ذهن الجميع- عند تصوري لحائطِ إسمنت.
شامخة هي شجرة الزيتون، فناهيك عن أن ذاكرتها قوية للغاية فهي شاهدة على تاريخ تليد؛ ومن المعروف أن شجر الزيتون معمر، ففي بيت لحم تعيش شجرة زيتون يقدر عمرها بخمسة آلاف سنة -ويمكنك بضغطة زر أن تتأكد من ذلك-، ولطالما حضرت شجرة الزيتون جمعات العائلة الصباحية والمسائية، وعلى طول الساحل المتوسط يعد زيت الزيتون مكوّنًا أساسيًّا في نظامه الغذائي، وكم هي المرات التي اضطررننا لقطع الفطور صباحاً إثر نضوب غير متوقع لزجاجة زيت الزيتون أو لتعبئة المزيد من الزيتون الأسود اللذيذ.
تتمثل الشجرة في مخيلاتنا الأصل والبقاء، ويقف الحائط الإسمنتي على الضد من ذلك فهو كالضيف الثقيل على القلب، أو كجارٍ مؤذٍ، أو كمسخ يشوّه اللوحة الزيتية بلعابه المقزز، وفي مدرستي الإعدادية، كنت أحبذ الحلوس قرب النافذة التي تطل على جبال غرغيز، كان هذا في العام الأول، فما جاء العام الثاني حتى وجدتنا لا ننظر إلا لحائط الإسمنت. من يومها وأنا أبغض حائط الإسمنت.
لقد كان ذلك بسبب بناء السكن المجاور للمؤسسة، فقد احتاجوا لاقتلاع الأشجار المجاورة، وغيروا معالم المكان فلا تكاد تعرفه، وهكذا تريد أن تفعل الصهيونية بفلسطين، تريد أن تبني حائطها الإسمنتي الباهت على جذور شجرة الزيتون، وتسعى لصناعة تاريخها الخاص بمحو التاريخ الفلسطيني، وتغطية الجمال والبهاء الفلسطيني بإسمنتها المصمَت المستورد.
ماذا تفعل إسرائيل؟، إنها تقتل العصافير لإحلال صافرات الإنذار مكانها، تقتلع الدور لتبني المستوطنات السرطانية، تقوم بطرد العائلات الفلسطينية ونقل المستوطنين اليهود، في “آب/أغسطس 2009، بعد فرض الحصار على جزء من حي الشيخ جراح العربي في القدس الشرقية، طردت الشرطة الإسرائيلية عائلتين فلسطينيين مكونة من أكثر من 50 شخصًا من منازلهم وسمحت لمستوطنين يهود بالانتقال فورا إلى المنزلين الفارغين.” [سلافوي جيجك، مقال ضمن كتاب: تفيك الصهيونية، ص: 32].
هدف دولة إسرائيل ليس السلام كما يحاول الإسرائيليون والإسرائيليون الجدد –المطبّعون العرب- إفهامنا، إنما وضع الفلسطينيين أمام الأمر الواقع، ففي الوقت التي تدخل في مفاوضات مع الفلسطينيين ويقدّم “حل الدولتين” أحيانًا أمامهم، فإن جرافاتها تعمل على هدم منازل الفلسطينيين في مناطق متعددة، ولعلّ الأنكى من ذلك هو إجبار الفلسطيني على هدم منزله بيديه. فهل يتصور أي إنسان بشاعة كهذه؟
في الوقت الذي تورد أخبار عن اجتماع لرؤساء الدول مع المسؤولين الإسرائيليين لتباحث السلام، تبنى مستوطنات جديدة على أراضي الضفة الغربية، ويطرد الفلسطينيون من أراضيهم أو يجبرون بكل الطرق الوحشية على بيعها، وفي هذا الوقت التي يكتَب فيه المقال يقتَل فلسطيني؛ وتغتصب فلسطينية؛ وفي الوقت الذي ستقرأ في المقال لن يتوقف الأمر بل سيزداد بشاعة، وهكذا دواليك إلى ما لانهاية.
ماذا لو أردت أن أعدد جرائم الكيان الصهيوني في حق الفلسطينيين وفي حق الإنسانية، كم من الوقت سنستغرق؟ وكم من الحبر سنحتاج؟ لا أحد بإمكانه أن يحدد هذا، لأن جرائم هذا الكيان الطفيلي لا تتوقف ولا يمكن للعقل البشري استيعاب عددها وبشاعتها، وسأختم المقال بهذا المثال الذي يأتيكم برعاية المنطق الصهيوني: ففي”28 تشرين الأول/أكتوبر، حكمت المحكمة الإسرائيلية العليا بأنه يمكن لمركز “سايمون فيزنتال” أن يبني مركز الكرامة الإنسانية المخطط له منذ زمن طويل، ليكون ‘متحف التسامح’ ومهمة المتحف المعلنة ستكون إعلاء القيم الحضارية وثقافة احترام الآخرين، والعائق الوحيد الذي يتخطاه قرار المحكمة العليا أن موقع المتحف كان مقبرة المسلمين الرئيسية في القدس حتى عام 1948!” [جياني فاتيمو ومايكل ماردر، تفكيك الصهيونية، ص: 34]، فماذا يمكن القول بعد هذه الصفاقة؟
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2021/10/اسرائيل-2.jpg?fit=1200%2C456&ssl=14561200هادي صلاحاتhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngهادي صلاحات2021-10-17 17:45:272021-11-15 22:15:27فلسطين .. شجرة الزيتون في مواجهة حائط الإسمنت
تعود جذور الجمعيات السرية إلى عصور قديمة يصعب تتبعها، حيث يدعي بعض أعضائها اليوم انتسابهم لأنظمة وضعت أصولها منذ ما قبل التاريخ، بل يزعم آخرون -كما سنرى لاحقا- أن أول البشر آدم قد أسس بنفسه أولى جمعياتهم لتكون رديفا لسيرورة حياة البشر، وكأن هناك خطين متوازيين لا ثالث لهما يحكمان التاريخ، وهما مسار الحياة الظاهر بكل صراعاته وتذبذب صعوده وهبوطه، ومسار الأسرار الباطني الخفي الذي لا يزال يحتفظ بأسراره في أيدي “النخبة”.
وبما أننا نتحدث عن جمعيات تقوم على السرية والرمزية، وهي تعترف بذلك وتتشبث به، فنحن إذن أمام مادة غامضة للبحث، فليست هناك مصادر موضوعية أو أكاديمية يمكن الوثوق بها كما هو الحال في أي مادة أخرى تخضع للدراسة، وهذا هو السبب الذي يدفع الكثير من الجامعات لرفض مقترحات الطلاب بتقديم أطروحات علمية تبحث في الجمعيات السرية.
وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يُكتب عن هذه الجمعيات ضرب من التخمين، فالتحريات التي يجريها محققو البحث الجنائي والصحفيون الاستقصائيون لا تختلف كثيرا عن هذا النوع من البحث، حيث يمكن للباحث أن تجتمع لديه خيوط كثيرة تؤدي إلى حقيقة واحدة مهما كانت حريصة على التخفي. والعلم التجريبي نفسه يُسلّم بوجود الإلكترونات ومكونات الذرة الأخرى بالرغم من الاعتراف باستحالة رؤيتها لأنها أصغر حجما من الموجات المرئية، إلا أن آثارها في الواقع تدفعنا للاعتراف بوجودها.
وعليه؛ فإن الآثار التي تتركها بصمات الجمعيات السرية في الدين والفكر والسياسة والإعلام ومسار التاريخ وميادين كثيرة قد تدفعنا للجزم بحقائق ينكرها أتباع تلك الجمعيات.
أما من يؤمن بالوحي القرآني ويعلم أنه منزل من عند الله فسيجد أدلة أخرى تمنحه اليقين ببعض حقائق تلك الجمعيات السرية وأدوارها الخفية.
لماذا اللجوء إلى السرية؟ تتعدد التفسيرات والنظريات التي تحاول فهم طبيعة هذه الجمعيات وسبب لجوئها إلى السرية، وربما يمكننا إجمالها فيما يلي:
مردوخ
1- يزعم كثير من المؤرخين أن هناك فئة من الناس لجأت إلى السرية عبر التاريخ هربا من اضطهاد الأكثرية، وأنها أخفت طقوسها الدينية الخاصة بها لتحظى ببعض الخصوصية دون أن يكون هناك أي بعد تآمري للإضرار بالمجتمع. ومن الأمثلة التي يقدمونها لهذه الرواية لوح طيني اكتشف في بابل بالعراق ويزيد عمره عن أربعة آلاف سنة، وهو يتحدث عن عبادة سرية متفرعة عن العبادة الرسمية للإله مردوخ، حيث يقدم قصة أخرى لصراع الآلهة، ثم يصف طقوسا خاصة لأتباع هذه الجماعة السرية لتمثيل أدوار المسرحية التي تقام في عيد رأس السنة وتُجسد فيها صراعات الآلهة، ويختتم النص المنقوش بعبارة “إن المعاني الخفية لهذه الأفعال لا يجوز أن تقرأ من قبل الذين لم يدخلوا في هذه العبادة رسميا ووفق الطقوس المنصوصة”.
ويبدو أن تفسير هذا النص يختلف بسبب اختلاف المنهج نفسه كما أوضحنا في مقال “البحث في الدين“، فالمنهج الإلحادي الذي لا يعترف بوجود الغيبيات لن يجد في هذه الطقوس سوى تصرفات خرافية، أما من يؤمن بالوحي وبحقيقة وجود الجن والشياطين فسيرجّح ارتباط هذه الطقوس بالسحر.
وينبغي التذكير بأن بعض الطقوس والنصوص السرية قد تكون هي أصلا لب الدين نفسه، وليست مذهبا باطنيا منشقا عنه، أي أن بعض الأديان قائمة بذاتها على جوهر سري خفي، وأن كهنتها يظهرون لأتباعهم ما يريدون إظهاره فقط.
2- يزعم فريق آخر أن هناك فئة من الحكماء كانت تحتكر الحكمة الصحيحة التي لا يقدر العوام على فهمها منذ آلاف السنين، فاضطرت تلك النخبة لإخفاء وترميز علومها لحمايتها من التشويه والتحريف ومن الوقوع في أيدي الأشرار. ونجد تحت هذا الزعم عددا كبيرا من النظريات المتداولة عبر شبكة الإنترنت، ومنها مثلا أن النخبة كانت تحتفظ في حضارتي أطلنطس وراما الأسطوريتين بأسرار تكنولوجية أكثر تطورا مما نشهده اليوم، وكانت تستخدمها للتغلب على الجاذبية والسفر عبر الكواكب ورفع الحجارة العملاقة لبناء الصروح الهائلة مثل الأهرام وتشغيل الآلات بنوع خاص من الطاقة، ويقال إن هذه النخبة رمّزت علومها وأسرارها في طريقة بناء الهياكل والصروح التي بقيت قائمة حتى اليوم في مصر والهند وأمريكا الجنوبية والعراق، كي يتمكن أحفادهم بعد آلاف السنين من استخراج تلك العلوم والاستفادة منها، لا سيما وأن القدماء خافوا عليها من الاندثار بفعل الطوفان الذي حدث في عصر نوح وغيره من الكوارث.
ويجتهد أصحاب هذه النظريات في استخراج الرموز العميقة من تماثيل أبو الهول وإيزيس والمعابد العملاقة ومقارنتها بمعايير هندسية مثل النسبة الذهبية وبغيرها من الحقائق الفلكية والفيزيائية، كما يربطون بعض الاكتشافات المذهلة التي توصل إليها القدماء بكائنات فضائية يفترضون أنها هبطت إلى الأرض وأنها هي ذاتها كائنات الأنوناكي التي ذُكرت في الأساطير العراقية. ويذهب البعض إلى افتراض أنها كائنات من الزواحف نصف البشرية التي ما زالت تعيش على الأرض وتدير العالم في الخفاء، بينما لا يقدم أصحاب هذه النظريات أية أدلة علمية تربط “المشاهدات” المزعومة والروايات ببعضها.
مانلي هول
ويجدر بالذكر أن كبار المؤلفين المنتسبين إلى الماسونية وغيرها من الجمعيات السرية بدأوا بطرح هذه النظرية في وسائل الإعلام والأوساط الثقافية منذ بدايات القرن العشرين، وهو طرح يتزايد بثه باستمرار مع تزايد الانفتاح في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات الحالية، حيث بات من الصعب إخفاء أسرار تلك الجمعيات ومخططاتها، ولا سيما بعد نشر عدة كتب رصينة ألفها منشقون عن الجمعيات أو صحفيون تسللوا إلى محافلها وفضحوا ما يجري فيها، فلم تعد ملاحقة هؤلاء وقتلهم سياسة مجدية كما كانت في الماضي، فبدأت تلك الجمعيات بفتح أبواب محافلها أمام كاميرات الصحفيين لتصوير بعض طقوسها، مع الاعتراف بأن التصوير لا يطال كل ما يجري هناك وأن السرية ما زالت قائمة جزئيا، كما نشط منتسبوها في نشر الكتب والأفلام الوثائقية والسينمائية التي تزعم أن الماسونية وأمثالها لم تعد سرية كما كانت، وطرحوا فيها ما يزعمون أنه حقيقة تلك الأسرار التي احتفظوا بها آلاف السنين. ويعد الماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي هول من أوائل المؤلفين في هذا الباب عندما نشر كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” عام 1928، حيث زعم فيه أنه كشف كل ما كان يخفى عن الناس من “الحكمة” المتوارثة منذ عصور سحيقة، وهو كتاب مليء بالمغالطات التي لا تستند إلى دليل، وفيه الكثير أيضا من المزاعم التي لا يمكن لأحد إثباتها، فضلا عما فيه من إخفاء وتضليل لحقيقة الماسونية.
سلسلة أفلام “كنز وطني” من إنتاج شركة ديزني تعد من أهم محاولات هوليود الأخيرة لتلميع صورة الماسونية
ومن مظاهر هذه الحملة أيضا تحويل الجمعيات السرية إلى مادة للترفيه في أفلام هوليود، بحيث تُنزع عنها تهمة التآمر والخبث تحت وقع الكوميديا السوداء، بحيث يصبح أي ربط بين عوالم السر وبين التآمر مجرد خضوع “للفكر التآمري” وانعكاس لعقدة البارانويا ضد عدو وهمي.
ولكي تثمر هذه الحملة، كان لا بد من ضخ تلك الكتب والأفلام بأعداد لا تحصى، ففي كل عام تصدر عن دور النشر عشرات الكتب التي تزعم كشف المزيد من الأسرار والخفايا عن تلك الجمعيات، فضلا عن خلط الحق بالباطل، ما أدى في النهاية إلى نفور الكثيرين من الاطلاع على تلك المعلومات واعتبارها مجرد لغو لا يثمر أي نتيجة مفيدة.
3- ومن أسباب العمل السري أيضا اضطرار الحركات المقاومة للمحتل أو المعارضة للحكم إلى التخفي لحمايتها من القمع، فالهدف في هذه الحالة سياسي لا ديني، ومن الأمثلة المشهورة في العصر الحديث لهذه الحركات الجمعيات القومية الكاثوليكية الأيرلندية التي نشأت في القرن الثامن عشر لمقاومة حكم الأقلية البروتستانتية، كما نشأت على شاكلتها جميعات إيطالية قومية في أوائل القرن التاسع عشر لمقاومة السيطرة الأسبانية والنمساوية التي دامت نحو 250 سنة، لكن الجمعيات الإيطالية سرعان ما اندمجت بجميعات الكاربوناري وصارت جزءا من الماسونية، فلم تعد مجرد حركات ثورية لمقاومة المحتل بل تم تحريكها لأهداف الماسونية العالمية نفسها.
4- يرى فريق آخر أن ظهور الجمعيات السرية يعود أصلا إلى أسباب نفسية واجتماعية فقط، فالإنسان يسعى إلى التمرد على الطبيعة بالبحث في عالم المجهول السحري، وينجذب تلقائيا إلى التنجيم والباراسيكولوجي والتصوف، وقد يجد في رموز وطقوس الجمعيات الغامضة ما يشبع نهمه هذا.
ويقول أرسطو إن مغزى ممارسة الطقوس السرية لا يكمن في تعلم شيء ما فقط بل في مكابدة تجربة التغيير، ويعلق المؤلف نورمان ماكنزي في كتاب “الجمعيات السرية” عليه بالقول إن التغيير ليس مجرد رقي روحي ونشوة بل يُفهم على أنه بعث جديد، حيث يتم تجسيده في مسرحيات شعائرية يلعب فيها العضو الجديد دور المشارك والمشاهد، وهكذا يشعر العضو بأن السرية تمنحه طريقة تجعله استثنائيا ومختلفا عن عوام الناس، وأن لديه من الذكاء والحكمة ما يجعله في طبقة الصفوة. وهذا التفسير قد يصح فيما يتعلق بدوافع الأعضاء في الانتساب لتلك الجمعيات، ولكنه لا يبرر ظهور تلك الجمعيات أصلا، فقد يكون العضو المبتدئ مغررا به فعلا لكن القادة ليسوا كذلك بالضرورة.
ويرى هذا الفريق أن الذين يفشلون في التعامل مع العصر الحديث، بما فيه من مظاهر الاغتراب والقلق نتيجة الصراعات السياسية والتطور المتسارع، يلجؤون إلى اتهام الجمعيات السرية بوضع المؤامرات وتنفيذها.
ويتماشى هذا التفسير مع المنهج الإلحادي لدراسة الأديان [انظر مقال البحث في الدين]، فهو ينطلق من مبدأ استبعاد الجانب الروحي الغيبي من البحث، ويحاول إعادة كل ما يراه في نشاط الجمعيات السرية أو في ما ينسب إليها من مؤامرات إلى عوامل طبيعية واجتماعية لاإرادية، وكأن تلك الجمعيات مفعول بها وليست فاعلا لأي شيء يذكر. ونجد لهذه الفكرة أساسا لدى منظري الماركسية والرأسمالية على حد سواء، فهناك قانون حتمي لصراع الطبقات لدى الماركسيين، وقانون مماثل لدى النيوليبراليين يؤدي إلى صراع الحضارات، وهناك أيضا “يد خفية” تحرك المجتمع والاقتصاد نحو نهاية محتومة حسب الرؤية الرأسمالية الكلاسيكية، وليس للإنسان -فضلا عن الجمعيات السرية- دور في تغيير هذا الحراك أو تحريك مساره، حسب رأيهم.
عبد الوهاب المسيري (موقع المسيري)
وهذا التفسير هو السائد اليوم في الساحة الثقافية الغربية، وهو الذي يتلقى الدعم إعلاميا وأكاديميا حول العالم، وصار له أتباع كثر في العالم الإسلامي خلال العقود الأخيرة، ويُعد المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أحد أبرز منظريه، فهو ينفي عن الحركات السرية أي بعد ديني تآمري، ويكاد ينفي أي تأثير لها على أرض الواقع، بل يرى أنها نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي والسياسي، ويتجاوز دراسة الجانب الخفي لهذه الجمعيات إلى دراسة “الفكر التآمري” لدى من يقرون بوجود مؤامرة حقيقية في مشروع تلك الجمعيات، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون وهما في خيال الناس، كما هو حال الدين نفسه الذي يعتبره الملحدون واللادينيون مجرد وهم وليس له أي وجود موضوعي، وقد ظل المسيري متمسكا بقناعته بعد انتقاله من الماركسية إلى الإسلام، وتابعه في ذلك كثير من الإسلاميين الذين باتوا يبثون هذه الأفكار بقوة في الساحة الثقافية، وفي غلاف إسلامي أحيانا. [انظر كتاب اليد الخفية].
5- أخيرا، هناك فريق لا ينكر وجود الفكر التآمري، ويقر بأن المبالغة في ربط الأحداث بالجمعيات السرية ليس صائبا في كل مرة، كما يرى أن العديد من الجمعيات وُجدت لمقاومة العدو أو المحتل، أو لأهداف إنسانية أو بدوافع نفسية واجتماعية. لكن هذا كله لا يغطي الجمعيات السرية كلها، بل جانبا منها فقط.
ويستتند هذا الرأي إلى اعترافات كثير من المنشقين عن المحافل السرية، وتسريبات المتسللين إلى داخلها، مع ربط الحوادث التاريخية بما وضعه مؤرخون وشهود عيان على مجريات الأحداث، ولا سيما في القرون الثلاثة الأخيرة. كما يجد هذا الرأي ما يدعمه في نصوص الوحي القرآني، وهو ما يعطيه درجة اليقين ويغنيه عن الاكتفاء بالجدل الفلسفي لمن يؤمن بالوحي.
وتتفرع عن هذا الرأي نظريات تحتمل النظر والنقد كغيرها، لكن إطارها العام يربط غالبا النزوع إلى السرية مع المبادئ المعلنة الخارجة عن تعاليم الوحي بعالم السحر، فالسحرة كانوا طوال التاريخ أكثر الناس انطواءً وبعدا عن المجتمع، ولا يخفى ارتباط أنشطتهم بالأذى والشر والتآمر. ولا ينكر منظرو فك الرموز السرية المعاصرون الجانب السحري في علومهم، بالرغم من التلاعب في تقديم التفسيرات والمبررات.
وقد أوضحنا في مقالات “الإنسان والدين” و”الوثنية” و”الباطنية” تفرع التاريخ الإنساني إلى مسارات موازية لمسار الوحي. وبالعودة إلى إحدى روايات التأويل فقد بدأ السحر في وقت مبكر من عمر البشرية، وذلك في عصر النبي إدريس، وتزامن مع الجنوح عن سبيل الوحي كما يقول الحديث القدسي الذي رواه مسلم “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم”، وسنجد في هذا المقال وفي مقالات “القبالاه” و”فرسان الهيكل” و”الماسونية” مزيدا من التفاصيل عن هذا الارتباط.
تاريخ الجمعيات السرية يقول المؤرخ الماسوني الراحل جرجي زيدان (1861- 1914) في بداية كتابه “تاريخ الماسونية العام” إن هناك أقوالا كثيرة بخصوص نشأة جمعية الماسونية المعاصرة، فبالرغم من إقرار أتباعها بأنها خرجت في القرن الثامن عشر من عباءة جمعية الصليب الوردي التي تأسست سنة ١٦١٦، إلا أن الجذور تعود إلى ما هو أقدم بكثير، فهناك من يعود بتاريخها إلى الحروب الصليبية، وآخرون تتبعوها إلى القرن الثامن قبل الميلاد في اليونان، وآخرون قالوا إنها نشأت في هيكل سليمان، وفئة قالت إن منشأها يعود إلى بدايات الكهانة المصرية والهندية، وهكذا إلى أن زعم البعض أن مؤسسها هو آدم نفسه، وأن الخالق هو الذي أسَّسها في جنة عدن، وأن الجنة كانت أول محفل ماسوني، ويعلق زيدان على ذلك بقوله إنها أقوال مبنية على الوهم.
جرجي زيدان
كان زيدان يعمل في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة، وقد رافق القوات الإنجليزية التي حاولت قمع ثورة المهدي في السودان، فهو عضو أصيل في الحملة الدعائية للماسونية التي بدأت في أواخر القرن الماضي بمحاولة إقناع الناس بأن الحركات السرية قد تخلت عن سريتها المريبة وكشفت تاريخها وحقائقها للناس. لذا لا يمكننا الوثوق بمحاولة نفيه للعلاقة بين الماسونية والحركات السرية القديمة التي أرّخ لها في كتابه.
يصف زيدان في كتابه طقوس قبول المنتسب إلى “جمعية إيزيس السرية” في مصر القديمة، حيث يتحقق الكهنة من أهليته للالتحاق بهم وحفظ أسرارهم، ثم “يسومونه عند القَبول مشقات عظيمة تختلف بين تخويف وتهديد”، فإذا اجتازها بدأت مراسم الاستقبال، فيحقق معه كاهن يحمل اسم الإله أوزيريس، وبعد الانتهاء منه ينتقل العضو الجديد إلى قائد متنكر على رأسه غطاء كرأس الكلب، فيذهب به في دهاليز مظلمة إلى مجرى مائي، فيسقيه كأسا من “ماء النسيان” لينسلخ عن كل ماضيه ويبدأ حياته عضوا في الجمعية من جديد. وبعد انتهاء المزيد من الفعاليات الاحتفالية يبدأ تلقينه “الأسرار المقدسة”.
ويقول زيدان إن أول من نقل أسرار الجمعيات السرية إلى أوروبا هو أورفيوس الذي كان عضوا في الجمعية الإيزيسية بمصر، ثم عاد إلى بلاده في منطقة تراسيا (بلغاريا ورومانيا بأوروبا الشرقية حاليا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ونشر تعاليمها هناك. وبعد وفاته أسس تلاميذه “مجمع إلوسينيا” في إلوسيس باليونان، وابتكروا لأنفسهم طرقا جديدة في مراسم قبول الأعضاء بما فيها من أساليب غسل الأدمغة بالترهيب والتهديد، حيث يُمرر العضو الجديد على مواقع مليئة بالوحوش والأفاعي وحمم النيران والأصوات المخيفة بمراحل مدروسة، ويُزرع في عقله أن هذا هو الجحيم أو صورة عنه، ثم يُنقل إلى موقع يملؤه النور والأمان ليستقبله الكاهن ويلقنه الأسرار في أجواء احتفالية، وكأنه بلغ بذلك الجنة.
ويُطلب من العضو الجديد قبل خوض التجربة المرعبة أن يغتسل أولا بالماء والدم، وأن يقدِّم ثورا أو كبشا كأضحية، فإذا نجح في قبول عقيدتهم تم تعميده بالماء كما يُعمد المسيحيون اليوم في الكنائس، ومنحوه اسما جديدا سريا يُعرف به في مجتمعه الصغير بعيدا عن حياته الطبيعية، وهذه الطقوس تدل بوضوح على الخلفية الشيطانية لهذه الجمعية، فهي لا تختلف كثيرا عما يمارس في طقوس عبادة الشيطان المعلنة في عصرنا الحديث، وهو أمر لا يذكره زيدان.
ويقول زيدان إن تعاليم هذا المجمع انتشرت في سائر المدن القديمة مثل فينيقية (لبنان) والهند ومصر وسوريا واليونان وغيرها، حتى قيل إنها أصلٌ لجميع تعاليم المجامع السرية القديمة في العالم، مؤكدا أن حيرام ملك صور كان أحد كبار الكهنة فيها.
ويضيف زيدان أن هذه التعاليم انتشرت أيضا في المجتمع اليهودي عندما بُعث المسيح بينهم في فلسطين، فكان أتباعها يُعرفون باسم طائفة الأسينيين، إذ نجد في رؤيا يوحنا بالإصحاح الثاني (عدد ١٧) من الكتاب المقدس قوله “فَلْيسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن الخفي، وأهبه حصاة بيضاء منقوشا عليها اسم جديد لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه”، في دلالة إلى مراسم قبول العضو في مجمع الإلوسينيا حيث يُكتب اسمه السري على قطعة حجر يحتفظ بها حتى موته، وكأن مفاهيم الجمعيات السرية تسربت أيضا إلى الكتب السماوية التي تم تحريفها لاحقا.
ويُسهب زيدان في إظهار أتباع هذه الطائفة بمظهر المتقشفين المنقطعين عن الدنيا وملذاتها، وكأنهم مجموعة من الناسكين الزاهدين المنقطعين لاكتشاف المعرفة، فضلا عما يتمتعون به -حسب زعمه- من أخلاق راقية وتضحيات عظيمة فيما بينهم.
وما زالت طقوس العبادة الإلوسيسية السرية ماثلة حتى يومنا هذا بوضوح على جدران “فيلا الأسرار” Pompeii Villa of Mysteries في مدينة بومبي الإيطالية، حيث طمرت تحت الرماد منذ ثوران البركان المفاجئ قبل الميلاد بنحو ثمانين عاما لتبقى محفوظة حتى تُكتشف في عصرنا الحديث، إذ يبدو أن العبادة السرية لإله الخمر والنشوة “ديونيسوس” كانت مسيطرة على المنطقة، لا سيما وأن اقتصاد بومبي كان قائما على الدعارة، حيث تقدم لنا آثارها المحفوظة بدقة تثير الدهشة صورة واضحة عن تغلغل الجنس في حياة الناس إلى أقصى درجة.
فيلا الأسرار التي طمرها الرماد لأكثر من ألفي سنة، وهي تبدو اليوم في حالة جيدة بل تفاجؤنا أيضا بطرازها المعماري الذي لا يختلف كثيرا عن العمارة الحديثة، بل مازالت جدران الفيلا تشرح بالرسوم الملونة طقوس انضمام امرأة إلى عبادة ديونيسوس السرية (ElfQrin)
منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن
الهرمسية تحدثنا بإيجاز في مقال “الباطنية” عن النظريات التي تحاول كشف حقيقة شخصية هرمس وما ينسب إليها من مؤلفات وعلوم، وهي شخصية بالغ الباحثون في تعظيمها حتى قال فرانسيس باريت في كتابه “سيرة تاريخية قديمة”: “إذا كان الإله قد تجسّد فعليا في هيئة إنسان، فلم يكن ذلك سوى بشخص هرمس”، وقلنا إنه من الراجح أن تكون تلك الشخصية صورة محرفة عن شخصية النبي إدريس عليه السلام، بعد أن نُسبت إليه تراكمات من العلوم والخرافات والفلسفات الوثنية والسحرية.
أفرد الماسوني مانلي هول في كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” فصلا لتعاليم هرمس التي تحتل مكانة مهمة لدى الماسون، وقال إن البعض يعتبر أن هرمس هو ذاته الإله الإغريقي هرمز Hermes، وأنه هو نفسه الإله المصري تحوت Thoth أو توتي Tuti، الذي كان إله القمر أيضا، حيث رُسم على هيئة رأس طائر أبو منجل مع قرص وهلال القمر، وبما أنه دين باطني غنوصي سري، فقد أطلق عليه الكهنة -في الصيغة المعلنة للناس- إله الحكمة والأبجدية والزمن، بينما كان له وجه آخر في المعابد السرية والطقوس الخفية.
عصا هرمس
وبحسب كتاب مانلي هول، احتوى “كتاب تحوت” المقدس على الإجراءات السرية التي يمكن من خلالها “إعادة إصلاح البشرية”، وهو كتاب يصعب فك رموزه الهيروغليفية الغريبة, إلا أنه يمنح مستخدميه القادرين على فهمه “قوة غير محدودة على الأرواح العلوية والسفلية”، حيث يمكنهم تضخيم وعيهم البشري ورؤية الكائنات الخالدة Immortals والدخول إلى حضرة الآلهة الأسمى، وبما أن هول ماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين؛ فهو لا يعترف لعامة القراء بأن هذه الطقوس ليست سوى أعمال سحرية لاستحضار الشياطين.
أحد مؤلفات الشيطاني المعروف أليستر كراولي عن أسرار تحوت
ويضيف هول أن هناك أسطورة تقول إن “كتاب تحوت” كان في صندوق ذهبي في الحرم الداخلي للمعبد، ولا يمكن لأحد الوصول إليه سوى الأستاذ الأعظم، ويقول أيضا إن ذلك المعبد قد أزيل وتشتت أعضاؤه، إلا أن كتابهم هذا مازال محفوظا حتى اليوم، ويكتفي بالقول “لا يمكن تقديم أي معلومة إضافية للعالم حاليا، ولكن يجب الانتباه إلى أن الخلافة الرسولية المتسلسلة من عهد الأستاذ الأعظم الذي انتسب على يد هرمس شخصيا مازالت مستمرة حتى اليوم، ويمكن للأشخاص المميزين والملائمين لخدمة الخالدين [أي الشياطين] أن يجدوا هذا المخطوط النفيس الذي لا يقدر بثمن إذا اجتهدوا في البحث عنه بإخلاص”.
قارة أطلانطس ينسب مؤرخو الجمعيات السرية أصول الكثير من “الحكمة” السرية إلى قارة أطلانطس المفقودة، وهي جزيرة هائلة الحجم ورد ذكرها في كتاب “محاورة تيماوس” للفليسلوف اليوناني أفلاطون، حيث زعم أن الفيلسوف سولون الذي مات قبله بنحو 150 عاما، أي في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، سمع قصة القارة المندثرة من كهنة مصر ثم نقلها إلى اليونان شفهيا، وكان أفلاطون أول من وثقها لتبقى محفوظة إلى عصرنا الحالي.
أفلاطون
وبحسب هذه الرواية، فإن أطلانطس كانت جزيرة بحجم شمال أفريقيا وآسيا الصغرى، وتقع خلف “أعمدة هرقل” أي مضيق جبل طارق، فهي تحتل مكانا كبيرا من المحيط الأطلسي، وكانت قد اندثرت قبل الميلاد بنحو 9500 سنة، حيث كانت أشبه بالجنة على الأرض، ففيها من الحضارة والخيرات ما يحلم به كل إنسان، ثم بدأ ملوكها بالطمع في احتلال بلاد أخرى، فاحتلوا شمال أفريقيا، ثم هاجموا مصر وأثينا (اليونان)، وكانت نهاية تلك الحضارة بسلسلة من الزلازل والفيضانات التي أغرقت القارة كلها في البحر. [حضارات مفقودة، ص 17- 20].
ومما يهمنا من هذه الأسطورة أنه كان يحكم أطلانطس عشرة ملوك، وهم يمثلون مثلث “تيتراكتيس” الذي ترسم فيه عشر نقاط، وهو المثلث الذي قدّسه فيثاغورس بعد اقتباسه من مدرسة القبّالاه السحرية كما سيمر بنا لاحقا. وتضيف الأسطورة أنه كان في وسط أطلانطس معبد ديانة الحكمة هرمي الشكل، الذي يقع على هضبة مرتفعة في وسط مدينة البوابات الذهبية، ويقول أتباع الجمعيات السرية إنه أصل المعابد والهياكل والمحافل التي انتشرت لاحقا في قارات العالم من أمريكا الجنوبية مرورا بمصر إلى الهند.
ومن اللافت أن أفلاطون لم يوضح ما إذا كانت القصة خيالية أم حقيقة، كما أنه أسهب في رواية تفاصيلها دون ذكر مغزاها، وذلك على غير المعتاد في محاوراته الفلسفية، ما دفع البعض للاعتقاد بأنه كان يتحدث عن قصة حقيقية وليس من أجل ضرب الأمثلة الفلسفية. وسواء كانت قصة حقيقية أم خرافة، فقد وجد أتباع الجماعات السرية في القارة المندثرة فرصة لإلصاق جميع علومهم وأسرارهم وأكاذيبهم بأصل حضاري عريق، ما ينفي عنهم تهم الاتصال بالشياطين والاقتباس منهم.
لكن قصة أفلاطون تواجه تحديات كثيرة، فالمفترض أن سكان أطلانطس أنشأوا حضارة في غاية التقدم قبل 11500 سنة من يومنا هذا، مع أن أقدم الآثار المحفوظة لنشوء الحضارة لا يمتد إلى ما هو أبعد من حضارات العراق التي بدأت قبل نحو خمسة آلاف سنة، وبما أن جميع التنقيبات والأبحاث الجيولوجية لم تسفر عن أي أثر لها، فهناك من افترض أن أفلاطون كان يتحدث عن جزيرة كريت اليونانية وليس عن موقع في المحيط الأطلسي، كما قدم باحثون معاصرون عشرات التأويلات المختلفة لموقع أطلانطس المحتمل. ولا ننسى أن المؤرخين اعتقدوا طوال قرون أن طروادة لم تكن سوى مملكة خيالية وردت في أشعار هوميروس، إلى أن اكتشفت آثارها فعلا في شمال غرب تركيا عام 1871، وكذلك الحال مع الحضارة المينوية التي كان يعتقد أنها أسطورية حتى وجدت آثارها في كريت.
فرنسيس بيكون
في عام 1626، وضع الفيلسوف الإنجليزي المعروف فرانسيس بيكون كتابه “أطلانطس الجديدة”، وكان من أواخر مؤلفاته التي جعلت منه مؤسسا للعلم الحديث في الغرب، وفي العالم كله بحكم التبعية. وما يتداوله العالم بعد نحو أربعمئة سنة أن الكتاب كان يتضمن نبوءة فلسفية بريئة للعالم الحديث القائم على العلم، لكن بيكون كان في رأي بعض المؤرخين الأستاذ الأعظم للماسونية في عصره، ولم يكن هذا الكتاب سوى البيان الختامي الذي قدّم فيه رؤيته لنموذج الدول التي ستُدار من قبل محافل الجمعيات السرية كما كان الحال في أطلانطس، وذلك تحت مسميات العلم والحضارة. [انظر صفحة Occult theories about Francis Bacon في موسوعة ويكيبيديا]
في عام 1882، طرح الأميركي من أصل إيرلندي إغناطيوس دونيلي كتابه “أطلانطس: العالم العتيق”، وقدم فيه أدلة كثيرة تدعم نظريته في صحة وجود أطلانطس، وزعم أن عددا قليلا من سكانها استطاعوا النجاة بالسفن ونقلوا أسرار تلك الحضارة المتقدمة إلى العالم. وقد أطلق دونيلي بذلك موضة الاهتمام العالمي بهذه الأسطورة، وربما كان أول من نقلها من عالم الخيال إلى الأوساط الجادة لتداعب أحلام الكثيرين، كما تأثر بالكتاب العديد من السياسيين، حتى تحمس رئيس وزراء بريطانيا ويليام غلادستون لجمع المال وتمويل حملة استكشافية للعثور على مكان أطلانطس. وما زال الكثيرون يبجلون دونيلي حتى اليوم على اعتبار أنه كان باحثا مجتهدا ومخلصا لنظريته، ولكن معظمهم لا يعرفون أنه كان ماسونيا عتيدا، وأنه كان يمهد كما يبدو لإقناع عامة الناس بأن أطلانطس هي أصل حضارات العالم كله، وأن المنظمات السرية الموجودة اليوم هي الوريث الوحيد لأسرار الحضارة.
وفي عام 1924 بدأ الباحث الأسكتلندي لويس سبينس بنشر سلسلة كتب عن أطلانطس، حيث يرى البعض أن كتاباته كانت أفضل ما كتب علميا بشأن أطلانطس، وعلى أساسها افترض الكثيرون أن جزر أزور البرتغالية هي من بقايا القارة المفقودة، وما يزال حتى اليوم مئات الناشطين والمهتمين يتناقلون عبر الإنترنت نظريات تتحدث عن اكتشاف أهرام ضخمة في عمق المحيط، لا سيما قرب أزور وفي مثلث برمودا، ويقولون إن الحكومات الغربية تتعمد إخفاء هذه الحقيقة لتحتكر لنفسها أسرار أطلانطس التي لا يعرفها سوى كبار أعضاء الجمعيات السرية، وهي ادعاءات غير مؤكدة ولا يمكن التحقق منها.
ويجدر بالذكر أن عددا من الباحثين في خفايا الجمعيات السرية يؤكدون أن نخبة جمعية “المتنورين” (الإلوميناتي)، وهي جمعية منبثقة عن الماسونية، يعتقدون أنهم أسلاف ملوك وكهنة أطلانطس، أي أنهم من نتاج تزاوج الآلهة مع البشر، ويُعتقد أن فيلم “أطلانطس: الإمبراطورية المفقودة” الذي أنتجته شركة والت ديزني عام 2001 كان يتضمن هذه الفكرة رمزيا، لا سيما وأن ديزني نفسه (توفي عام 1966) كان على الأرجح ماسونيا من الدرجة الثالثة والثلاثين، ولا يزال في داخل مدينته الترفيهية بولاية فلوريدا “ديزني لاند” نادٍ مغلق يحمل اسم “33”، ولا يُسمح بالانضمام إليه إلا للنخبة وبعد دراسة طلب الانضمام التي قد تستغرق عشر سنوات.
المدرسة الفيثاغورية ربما لا يوجد أحد في العالم لم يسمع باسم العالم اليوناني فيثاغورس، فنظرياته الرياضية والهندسية تُلقن لطلاب المرحلة الابتدائية حول العالم، ولا يكاد معظم الناس يعرفون عنه شيئا أكثر من ذلك، وقد يفاجأ القارئ عندما يعلم أن فيثاغورس الذي ولد قبل الميلاد بنحو ستمئة سنة كان من أهم أقطاب الجمعيات السرية في التاريخ.
اشتهر فيثاغورس بنظرية حملت اسمه في الهندسة، لكن الوثائق التاريخية تشير إلى استخدام مثلثات قائمة بأضلاع أطوالها أعداد صحيحة في بابل قبل فيثاغورس بأكثر من ألف سنة، كما استخدم المصريون القدماء النظرية قبله أثناء عمليات البناء وتقسيم الأراضي.
ويجدر بالذكر أن بعض العلماء المعاصرين يؤكدون أنهم اكتشفوا ثغرات وأخطاء في النظرية المنسوبة لفيثاغورس.
تمثال فيثاغورس بمتحف الفاتيكان
يحظى فيثاغورس اليوم بمكانة عظيمة في مؤلفات الماسون، كما في كتاب مانلي هول، حيث نجد فيه تأريخا لحياته ابتداءً بقصة ولادته التي زعم أنها جاءت بنبوءة عندما قالت كاهنة معبد أبولو لوالديه إنهما سيرزقان بطفل، وإنه سيكون أعظم الرجال جمالا وحكمة، وسيساهم كثيرا في نفع البشرية. كما ينقل عن جودفري هيغينز ما سماه بأوجه التشابهة بين ولادة وحياة فيثاغورس وتاريخ حياة يسوع المسيح، ما دفع البعض لتسمية فيثاغورس بابن الإله أبولو، بل ظن البعض أن الإله حلّ فيه وتجسد.
ويجدر بالذكر هنا أن مؤرخي حياة فيثاغورس قد وضعوا الأساطير عن حياته وشخصية بعد ولادة المسيح بمدة ليست بالقصيرة مع أن فيثاغورس مات قبل ذلك بنحو خمسة قرون، فالذين كتبوا قصة فيثاغورس هم الذين اقتبسوا النبوءة من قصة المسيح، والذين حرّفوا دين المسيح عيسى بن مريم اقتبسوا في المقابل من الفيثاغورية أسطورة الحلولية والتجسد.
يقول المؤرخ والفيلسوف برتراند رَسل في كتابه “تاريخ الفلسفة الغربية” عن فيثاغورس إنه كان من أهم من شهدت الدنيا من رجال من الناحية العقلية، ويضيف “لست أعلم عن رجل آخر كان له من التأثير في نطاق الفكر ما كان لفيثاغورس، وأقول ذلك لأن ما قد يبدو لك أفلاطونيا، ستجده عند التحليل فيثاغوريا في جوهره… ولولاه لما فكر المسيحيون في المسيح على أنه الكلمة”.
ويتضح الأثر الذي تركه فيثاغورس عندما نعلم أن أفلاطون كان معجبا للغاية بأفكاره، ويقال إنه دفع مبلغا كبيرا مقابل الحصول على مخطوطات فيثاغورس التي نجت من التلف، حتى قال أرسطو (تلميذ أفلاطون) إن جمهورية أفلاطون المثالية (اليوتوبيا) لم تكن سوى ترجمة لأفكار فيثاغورس.
يقول المؤرخ الإغريقي ديوجينس ليرتيوس إن فيثاغورس كان يزعم أمام طلابه وأتباعه أن روحه تناسخت خمس مرات، وأنه يتذكر جيدا الحيوات التي عاشها قبل أن يلتقي بهم، ففي الحياة الأولى كان أثاليدس ابن إله الحرب، وفي الثانية كان يوفوربس أحد أبطال حرب طروادة، وفي الثالثة كان هيرموتيموس رسول آلهة الأولمب، ويبدو أنه تواضع في ما قبل الأخيرة فجعل نفسه صيادا عاديا، ثم تجسد على هيئة المعلم فيثاغورس.
ومن الطريف أن نجد هذه المزاعم لدى معلمين آخرين في الجمعيات السرية على مر العصور، ومنهم اليهودي الإيطالي كاجيلوسترو الذي ابتكر طقس ممفيس المصري لصالح المحافل الماسونية وكان له دور في إشعال الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، حيث كان يزعم أن روحه تناسخت عدة مرات، وأنه كان في إحداها صديقا ليسوع المسيح نفسه، وأن حياته الأخيرة امتدت أكثر من ثلاثمئة سنة.
ووفقا للماسوني هول، اكتسب فيثاغورس القدر المستطاع من المعرفة التي كانت متوفرة في اليونان، وانتسب لجمعية الإلوسيسية السرية التي تحدثنا عنها، ثم بدأ رحلاته لاكتساب المزيد من الأسرار، فتتلمذ على يد حاخامات اليهود القبّاليين، ثم سافر إلى مصر، وبعد محاولات عدة سُمح له بالانتساب إلى جمعية إيزيس السرية بمدينة طيبة، ثم توجه إلى سورية وبلاد الفينيقيين (لبنان) وانضم إلى جمعية أدونيس وتلقى أسرارها، وعبر بعد ذلك وادي الفرات ليتعلم أسرار الكلدانيين والبابليين.
ولم يكتف بذلك، فرحل إلى بلاد فارس والهند، حيث بقي هناك عدة سنوات للاطلاع على أسرار البراهمة والمجوس، وبعد نحو ثلاثين سنة من الترحال والتعلم عاد إلى أوروبا وأنشأ مدرسة في مدينة كروتونا (جنوب إيطاليا) التي كانت تحت حكم الإغريق، وأعلن عن فتح الباب لتعليم الرياضيات والهندسة والفلسفة، بينما كانت مدرسته في الباطن بمثابة الجمعية التي تتلخص فيها كل أسرار وطلاسم وطقوس الجمعيات السرية.
وضع فيثاغورس أصول تشكيل الجمعيات السرية التي ما زالت متبعة حتى اليوم، لذا يدين له أتباع الماسونية والصليب الوردي بالفضل، حيث قسّم منتسبي جمعيته إلى ثلاث درجات، بحيث لا يعلم أعضاء كل درجة شيئا عن التي تليها، فلكل منها طقوس وأسرار لا يعلم بها زملاؤهم الآخرون.
يقول مانلي هول إن فيثاغورس كان يتمتع بقدرات خارقة، فذكر أنه كان يزعم قدرته على التنبؤ بالمستقبل، ورجّح أنه كان قادرا على تنويم الناس والحيوانات، وعلى التغلغل إلى عقول الحيوانات لإقناعها بما يريد، وعلى رؤية الأشياء من مسافة بعيدة.
أما الدرجة الأولى فكانت علنية ومكشوفة، كما هو حال الدرجات الأولى من الماسونية اليوم، والتي تُفتح أبوابها للصحافة ويجاهر أعضاؤها بالانتساب لها ويُعلن أن أنشطتها تقتصر على المجال الخيري الإنساني، وكان طلاب هذه الدرجة يجلسون في أماكن مفتوحة للاستماع إلى محاضرات عامة دون مناقشة، حيث كان فيثاغورس يعلمهم أن الحقيقة في أعماقها رياضية وأن العدد هو أساس كل شيء، فلكل عدد معنى رمزي باطني، وبشكل يتطابق تقريبا مع فلسفة القبالاه اليهودية.
كراولي في زي جماعته “الفجر الذهبي”
وبعد خمس سنوات من الانتظام في تلك الدرجة يختار الأساتذة بعناية من يستحق الترقية إلى الدرجة الثانية، وهناك يفتح لهم باب المناقشة والتلقي ولكن داخل محافل سرية. ثم يتم اختيار الصفوة من هؤلاء للترقية إلى الدرجة الثالثة لتلقي الأسرار الخاصة، حيث يكتشفون آنذاك أن المعرفة لا تتعلق فقط بأسرار الهندسة والأعداد، بل هناك عقيدة كاملة بشأن الوجود والإله والموت وما بعده، وهي العقيدة الشيطانية المطابقة للقبالاه.
وقد أقر كبار مؤسسي الحركات الباطنية القبّالية والجمعيات الشيطانية الحديثة في الغرب باقتباس فيثاغورس من القبالاه، ومنهم الإنجليزي ماك غريغور ميثرز الذي شارك عرّاب الحركات الشيطانية الحديثة أليستر كراولي في تأسيس جمعية الفجر الذهبي، وذلك في كتابه “القبالاه بدون حجاب” The Kabbalah Unveiled.
ويمكن القول إن طقوس الجمعيات المندثرة حول العالم قد تم حفظها على يد فيثاغورس، حيث انتشرت عن طريقه تلك الطقوس في أنحاء أوروبا، فوصلت إلى شمالها حوالي عام 50 قبل الميلاد عندما تمرد الكاهن “سيغ” على الرومان وأخذ يدعو القبائل الهمجية الإسكندنافية إلى اتباعه، وخلط كما يبدو دينهم الوثني الذي يعبد الإله “أودن” بطقوس الجمعيات السرية، ثم أصبح بنفسه المعبود “أودن”.
وبعد بعثة النبي عيسى عليه السلام وسعي زعماء بني إسرائيل لإفشال دعوته ومحاولة صلبه وملاحقة أتباعه [انظر مقال المسيحية]، نجح اليهودي شاؤول (بولس) في تحريف رسالته التوحيدية إلى دين وثني زاعما أن عيسى إلهاً تجسد ليفدي الناس بنفسه ويغسل خطيئتهم، ولم يكتب لهذا الدين النجاح سوى بالعمل السري التقليدي كما هو حال جمعيات الإلوسيسية.
القوة الخفية أوضحنا في مقال “الماسونية” تفاصيل جمعية سرية حملت اسم “القوة الخفية” وتم تأسيسها في عام 43م على يد ملك القدس اليهودي هيرودس أغريباس، وذلك بهدف قمع الدعوة المسيحية التي أخذت بالانتشار. وذكرنا أن هذه القصة لم نجدها سوى في كتاب “تبديد الظلام” الذي يقول مترجمه عوض الخوري إنه ليس سوى ترجمة لوثيقة عبرية يورثها مؤسسو الجمعية التسعة لأبنائهم، حتى قرر آخرهم، ويدعى جوناس، أن يكشف السر في القرن التاسع عشر.
لا يمكننا الجزم بصحة الرواية لعدم وجود مصدر آخر يؤكدها، لكن الثابت تاريخيا أن كلا من اليهود وأتباع المسيح انتهجوا العمل السري في محاربة بعضهم.
وفي عام 330 بعد الميلاد، تبنى الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول نسخة معدلة من مسيحية بولس، وتم بذلك تأسيس الدين المسيحي القائم حتى اليوم [انظر مقال المسيحية]، وانتهى بذلك عهد السرية المسيحية، لكن طقوس العبادات الشيطانية القبّالية ظلت متوارثة داخل الجمعيات السرية في أوروبا لأكثر من سبعة قرون، إلى أن تغلغلت في الفاتيكان ولعبت دورا في إشعال الحروب الصليبية أملا في الوصول إلى هدفها النهائي وهو إنشاء هيكل سليمان في القدس، وهو ما عملت عليه بنشاط جمعية فرسان الهيكل التي أفردنا لها مقالا خاصا.
وبالرغم من نجاح فرسان الهيكل في الوصول إلى القدس والحفر تحت المسجد الأقصى، إلا أن صحوة المسلمين واستعادتهم للقدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ/1187م أفشلت المشروع، كما تصدت الكاثوليكية مجددا للجمعية بعد افتضاح خلفيتها الشيطانية، وتم تشتيتها في أوروبا لتنشأ عنها جمعيات الصليب الوردي والماسونية ومحافل المتنورين، التي كان لها دور كبير في إعادة صياغة المشهد السياسي الغربي عبر المساهمة في إشعال الثورة الفرنسية عام 1789 وما تلاها من انقلابات دامية على الأنظمة الإقطاعية الملكية المتحالفة مع الكنيسة. ثم أعادت النخب الفكرية المرتبطة بالجمعيات السرية صياغة المناهج الفكرية في الغرب، ولاحقا في معظم أنحاء العالم بفعل العولمة، فمعظم النظريات العلمانية بأطيافها المختلفة -وحتى المتضاربة- كُتبت على أيدي كبار الماسون، وكبار مؤسسي النهضة العلمية مثل ليوناردو دافينشي وجوردانو برونو وإسحق نيوتن وفرانسيس بيكون كانوا أقطابا في الجمعيات السرية.
ضرورة أم مؤامرة؟ ذكرنا سابقا أن المؤلفين الماسون حرصوا على تقديم صورة زائفة عن جمعياتهم السرية، واكتفوا بكشف ما يناسب توجهاتهم فقط، ومنهم جرجي زيدان الذي يقول “ولا نظن أحدا يجادلنا في احتياج البشر لمثل هذه الجمعيات السرية، وفي أن العلم لا ينمو وينتشر إلا بواسطتها، على أننا لا نحتاج إلى شديد عناء في إقناعهم إذا أصروا على الجدال؛ كيف لا وإن من أشهر الأديان الحديثة المتدينة لها أكبر دول الأعصر الأخيرة ما لم يَنمُ وينتشر إلا باتباعه خطة تلكم الجماعات من التعاليم والتبشير سرا”. [تاريخ الماسونية العام، ص 21].
ويصدق زيدان عندما يطبق كلامه هذا على دين عائلته المسيحي الذي وضعه بولس وانتشر في الخفاء قبل أن يتبناه قسطنطين، حيث يرى زيدان في هذه السرية فضيلةً للمسيحية، كما يصدق كلامه عندما يُنظر إلى الحضارة الغربية (الموصوفة بالعلم) على أنها الحق، ليبرر بذلك انتهاج العمل السري أولا، ويزعم طهارة تلك الجمعيات السرية ثانيا.
في مثل هذا الكهف الواقع في أخدود سحيق بالأناضول كان المسيحيون الأوائل يقيمون كنائسهم السرية هربا من السلطة الوثنية
لكن الأنبياء جميعا كانوا يجهرون بدعوة التوحيد بالرغم من كل ما كانوا يعانونه من أذى بسبب ذلك، وعندما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قريش لم يؤمر بالجهر مباشرة حتى تتكون من حوله نواة للدعوة، فظل يدعو أقاربه ومن يتوسم فيهم الخير ثلاث سنوات، ولم يؤمن به طوال تلك المدة أكثر من أربعين شخصا، ثم أمره الوحي بتبليغ الدعوة لعشيرته: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، فبدأت الدعوة الجهرية واشتد عليهم العذاب.
ومن الواضح أن مرحلة الدعوة “السرية” تلك لم تمتد لأكثر من ثلاث سنوات، ولم يتخللها إنشاء جمعية تراتبية ولا أداء طقوس سرية، ولم يترك النبي حتى مماته أي تعليمات سرية خاصة بالنخبة دون عوام الناس. وكل ما ظهر بعد ذلك من الفلسفة وعلم الكلام والتصوف فهو من العلوم الطارئة على الوحي الواضح الجلي، وليس من صلب الإسلام ولا من أصول دعوته [انظر مقال نبوة محمد].
في المقابل، لا يقدم أنصار الجمعيات السرية أي مبرر مقنع لمنهجهم السري، بالرغم من اجتهادهم الواضح في كتبهم وأفلامهم لإقناع العالم ببراءتهم، فإذا كان أسلافهم مضطرون للتخفي في القرون السابقة هربا من الاضطهاد، فقد زالت اليوم أسباب التكتم وأصبحت جمعياتهم شرعية في معظم دول العالم، ومع ذلك فإن أنشطتهم لاتزال تدار في الخفاء، ومازالوا يعترفون بذلك مع عجزهم عن تقديم أي توضيح يستحق التصديق.
يُنسب إلى الفيلسوف الرومانى ناتالاس قوله إن «الأشياء الحسنة تسعى للانتشار والانفتاح، أما الآثام فتتستر وراء حجاب السر والكتمان»، ومع ذلك فلسنا نتهم الجمعيات السرية بالإثم لمجرد كونها سرية، بل لأن الحقائق التاريخية والمعاصرة تؤكد أنها لم تكن سوى مراكز لتكريس عبودية الأتباع وغسل أدمغتهم ثم توظيفهم لتحقيق مصالح النخبة المسيطرة، كما كانت على مر التاريخ المكان المثالي لاجتذاب الموهوبين ثم توجيههم بأساليب الترغيب والترهيب لبث الأفكار الهدامة وقلب أنظمة الحكم ومواجهة أنصار الوحي، وسنبين في مقالات أخرى المزيد من الأدلة، وهذا لا يغني بطبيعة الحال عن الاطلاع على الكتب المتخصصة في هذا المجال.
أهم المراجع
عبد الوهاب المسيري، اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، دار الشروق، القاهرة، 1998.
مجموعة مؤلفين، الجمعيات السرية، تحرير نورمان ماكنزي، ترجمة إبراهيم محمد، دار الشروق، القاهرة، 1999.
جرجي زيدان، تاريخ الماسونية العام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013.
عوض الخوري، تبديد الظلام أو أصل الماسونية، بدون ناشر، 2002.
عبد المجيد همّو، الماسونية والمنظمات السرية: ماذا فعلت ومن خدمت؟، دار صفحات، دمشق، الطبعة الخامسة، 2009.
عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار أم البنين، بدون تاريخ.
برتراند رَسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2010.
ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.
محمد العزب موسى، حضارات مفقودة، الدار المصرية اللبنانية، 2000.
فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.
بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.
Manly P. Hall, The Secret Teachings of All Ages, H. S. Crocker Company Inc., San Francisco, 1928.
تعد الماسونية في العصر الحديث الجمعية الأم لمعظم الأخويات والمنظمات والجمعيات السرية في العالم، وهي بدورها الوريث الأهم لأخطر الحركات السرية التي تشكلت عبر قرون، وكان آخرها منظمة فرسان الهيكل التي نشأت في ظل الحروب الصليبية وتم حلّها في أوربا لاحقا.
تستمد الماسونية الكثير من أفكارها ومبادئها من الفلسفات الباطنية (الغنوصية) واليهودية المحرفة والسحر والقبالاه، وهي مرتبطة على الأرجح بعبادة الشيطان، وترمي في النهاية إلى تحقيق سيادة بني إسرائيل على العالم عبر بناء هيكل سليمان في القدس.
ومنذ إعادة هيكلتها عام 1717، يحاول الماسون إخفاء الكثير من أسرارهم وأهدافهم وإظهار منظمتهم في صورة جمعية خيرية وأخوية عالمية، إلا أن توالي حركات الانشقاق وانكشاف الكثير من الأسرار دفعهم في النهاية إلى فتح بعض الملفات لنفي تهم المؤامرة عن أنفسهم، وللظهور في مظهر الانفتاح، كما عمدوا في العقدين الأخيرين إلى ضخ عدد لا يحصى من الأفلام والكتب التي تخلط الحق بالباطل عن الماسونية ومؤامراتها، ليصل عامة الناس إلى نتيجة سطحية مفادها أن الأمر كله ليس سوى اتهامات باطلة وهواجس ذهانية تُصنف عالميا تحت مسمى “نظريات المؤامرة”، لا سيما وأن هناك الكثير من الاتهامات الباطلة فعلا في وسائل الإعلام وكثير من المؤلفات، إلا أن وجودها لا ينفي الحقيقة عن الأبحاث الجادة، فالبحث الموضوعي الرصين مازال قادرا على كشف الكثير من حقائق هذه الجمعية السرية، وهو ما يسلتزم عدم الانشغال بالكميات الهائلة من الأكاذيب التي تشجع الماسونية على نشرها للتغطية على الحقيقة.
أصل الماسونية لا يمكن الجزم بأصل هذه الجمعية السرية طالما كانت وثائقها خفية، وطالما كان من الصعب التحقق من التسريبات والاعترافات ونتائج الأبحاث التاريخية بسبب تداخل الحقائق بالأباطيل، فقد تكون الوثائق والشهادات المتوفرة لدينا صحيحة إلا أن الشاهد عليها لا يكون سوى شخص واحد أو بضعة أفراد، ويكاد التحقق من موثوقيتهم شبه مستحيل.
لذا تظل الروايات المتعددة بشأن نشأة الماسونية وأصلها في مقام النظرية المعرضة للنقد والتمحيص، وهذا لا يمنع ترجيحنا لصحة أو ضعف أي منها دون جزم، كما لا يمنع أن نصل إلى نتيجة مؤكدة بشأن أهداف الماسونية الحالية وما تسعى إليه، بغض النظر عن لحظة نشأتها التاريخية.
وسنتعرض فيما يلي لأهم النظريات التي تتحدث عن أصل الماسونية، علما بأن الخلاف يقع غالبا في لحظة البدء والمؤسس الأول وليس في المراحل اللاحقة من تاريخ الماسونية الممتد لآلاف السنين، وصولا إلى لحظة ولادة محفل إنجلترا الأعظم عام 1717 في لندن التي تعد الإعلان الأول لنشأة الماسونية باسمها المتداول اليوم، مع أن وجودها السابق كان تحت أسماء وأنظمة وطقوس مختلفة.
أولا، الرواية الماسونية: هي ليست رواية واحدة، حيث نجد لدى الماسون أنفسهم روايات مختلفة، وقد يكون ذلك نتيجة العماء الذي تتعمد قيادة الجمعية العالمية أن تبقيه مسيطرا على أعضائها، بما فيهم أولئك الذين ترقوا إلى أعلى الدرجات، أو نتيجة التضليل المتعمد لعامة المجتمع بشأن نشأة جمعيتهم السرية.
ففي دستور الماسونية الأول الذي وضعه جيمس أندرسون عام 1723، قيل إن الجمعية بدأت في فجر البشرية على يد آدم عليه السلام، مرورا بالأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وسليمان، ثم الملكين يوليوس قيصر وجيمس الأول.
غلاف الدستور الأول للماسونية
وحسب “مخطوطة الشوك” الماسونية (Thistle Manuscript) التي تعود إلى عام 1756، فإن الملك النمرود –الذي يقال إنه بنى مدينة بابل في العراق وكان معاصرا لإبراهيم عليه السلام- هو الذي أسس الماسونية قبل عصر سليمان عليه السلام، ووضع رموزها ومصطلحاتها ليميز أعضاءها عن بقية الناس.
ونجد في بعض المؤلفات من يزعم أن الماسونية سبقت البشرية نفسها، فينسبها إلى الكائنات الفضائية التي عرفت الحضارة قبل نشأة البشر على هذا الكوكب مثل الدكتور أوليفر [كتاب تبديد الظلام، ص 82]، ومع أن هناك من الماسون أنفسهم من يسخر من هذا الطرح، إلا أن له أصل مفهوم، فالجمعيات السرية تبث منذ سنوات أفكارا عن احتمال هبوط كائنات فضائية في المستقبل القريب لإنقاذ البشرية من حروب وكوارث محتمة، وقد عملت عشرات الأفلام والمسلسلات الهوليودية على تكريس هذه الفكرة، والتي يرى فيها البعض مقدمة لخروج الدجال Antichrist والشياطين التي تسير في موكبه.
ويقول مؤرخون ماسون آخرون إن سليمان عليه السلام هو الذي أسس الماسونية أثناء بناء الهيكل، وهو أول أستاذ أعظم.
المحفل الماسوني الأعظم بلندن
وفي كتابه “تاريخ الماسونية العام”، يستعرض الماسوني اللبناني الراحل جرجي زيدان تاريخ الجمعيات السرية القديمة التي يعتبرها الوسيلة الوحيدة لنشر العلم والخير، ثم يزعم أن الماسونية بدأت سنة ٧١٥ق.م على يد الملك الروماني نوما بومبيليوس الذي أسس أخويات للبنّائين وعهد إليهم مهمة بناء روما بهياكلها وأسوارها، ثم توسع نشاطهم وتراكمت خبراتهم الإبداعية مع تناقلهم لأسرار المهنة التي احتفظوا بها لأنفسهم على مر القرون، فالمؤرخ زيدان يشترك مع كافة زملائه الماسون بنسبة أصل الجمعية إلى العاملين في حرفة البناء، إلا أنه كان أكثر تظاهرا بالبراءة في الاعتقاد بأنها لم تكن سوى نقابة أو نادٍ اجتماعي للبنائين، ويعترف آخرون بأن حرفة البناء لم تكن سوى الجزء المعلن من عقائد وعلوم وطقوس الماسون الذين يخلطون الهندسة بالسحر والسياسة.
وتدّعي بعض المحافل الماسونية الكبرى الجهل بأصل الجمعية، فتجعل من تأسيس المحفل الإنجليزي عام 1717 هو نقطة البداية فقط، حيث يقول عوض الخوري في كتابه “تبديد الظلام” -الذي سيأتي ذكره لاحقا- إنه أرسل إلى كبار المحافل رسائل يسألها عن أصل الماسونية، فجاءه الرد من “الشرق المصري الأعظم” بأنهم لا يعرفون شيئا، في حين رد عليه “الشرق الأعظم في لندن” بقوله: “لا شيء عندنا ثابت عن تاريخ تأسيس الماسونية، فجل ما نعرفه هو أنها وجدت عندنا سنة 1717، ولا نعرف تاريخا ثابتا لتأسيسها”، ولكن لم ترد عليه كبرى المحافل العالمية التي طالبها بالتوضيح قبل أن يؤلف كتابه.
ثانيا، الأصل البابلي: بحسب هذه النظرية، يُعتقد أن الماسونية ظهرت في المرحلة التي بدأ فيها كتمان ما جاء فيها التوراة وإعادة كتابتها بعد ادعاء فقدها لطرح النسخة المحرفة المتداولة اليوم، فبعد غزو الملك البابلي نبوخذ نصر للقدس وسبي اليهود واقتيادهم عبيدا إلى بابل سنة 586 ق.م، حاولت نخبة من الأسباط الإسرائيلية الاثني عشر (سلالات أبناء النبي يعقوب) إعادة تشكيل الدين نفسه بتحريفه وبث نقيضه لتضليل البشرية، وذلك بوضع خطة محكمة لمحاربة الوحي وكل الأنبياء الذين سيعيدون إحياءه، واستفادوا في ذلك من تجارب الجمعيات السرية السابقة، فشكلوا جمعيتهم اليهودية السرية الخالصة التي كانت نواة الماسونية الحديثة، وقد حافظت على معظم طقوسها وأسرارها وأهدافها الجوهرية، وعلى رأسها إعادة اليهود إلى القدس وبناء هيكل سليمان.
ثالثا، القوة الخفية: لم نجد هذه الرواية لأصل الماسونية سوى لدى الكاتب اللبناني الراحل عوض الخوري، ففي كتاب “تبديد الظلام أو أصل الماسونية” الذي نشره عام 1926، يصف الخوري نفسه بأنه كاتم أسرار رئيس البرازيل برودنت دي مورايس، وهو ما يقابل اليوم مصطلح أمين السر أو السكرتير، ويقول إن الرئيس البرازيلي دبّر عام 1897 لقاءً يجمع بين الكاتب وتاجر مجوهرات روسي الأصل ويعمل في البرازيل اسمه لوران جورج صموئيل، حيث قدّم لوران للرئيس وثيقة باللغة الفرنسية مترجمة عن مخطوط قديم باللغة العبرية، مطالبا الرئيس بنشرها في أصقاع الأرض ليكتشف الناس حقيقة وأصل الماسونية، فطلب الرئيس من سكرتيره الخوري أن يترجمها إلى العربية لتُنشر أيضا في العالم الإسلامي عن طريق الدولة العثمانية التي كانت مؤسساتها تعاني آنذاك من التغلغل الماسوني، حيث كان الخوري قد هاجر سابقا من لبنان إلى البرازيل ولديه علاقات بالكثير من العرب والمسلمين في أقطار الدولة العثمانية.
يقول الخوري إنه ترجم الوثيقة إلى العربية تحت إشراف لوران الذي لم يسمح بخروجها من بيته، إلا أنه لم ينشر النسخة العربية عندئذ لسبب لم يذكره، ثم ضاعت منه الترجمة بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى كما يقول، فاسترجع نسخة ثانية من الترجمة كان قد تركها مع لوران، ونشرها أخيرا عام 1926.
وبحسب الكتاب، فإن لوران هو آخر أحفاد اليهود التسعة الذين أسسوا الماسونية في القرن الميلادي الأول، ويقول إن جده صموئيل أخبر ابنه جورج (والد لوران) بأن والد صموئيل الذي يدعى جوناس كان يهوديا واعتنق المسيحية بعد تعلقه بفتاة بروتستانتية تدعى جانيت، وعندما علمت زوجته المسيحية بالمؤامرة التي يتوارها أحفاد المؤسسين التسعة شجعته على نشر الوثيقة.
وتقول جانيت إن العالم كان قد هلك على يد امرأة (حواء حسب الرواية التوراتية) لكن الله يحب أن يكون خلاص العالم على يد امرأة أيضا، وتقصد بذلك نفسها بحرصها على نشر الكتاب وفضح الماسونية اليهودية. ويقول المترجم إنه بالرغم من كونها بروتستانتية، فلم تكن معادية للكاثوليكية والإسلام اللذين تناصبهما الماسونية العداء.
وعندئذ عهِد جوناس وجانيت لابنهما صموئيل -الذي نشأ نصرانيا- بنشر الكتاب، لكن صموئيل نقل المهمة إلى ابنه جورج بعد أن شعر بقرب موته بسبب المرض، ومات صموئيل بعد كشفه عن السر والوصية بأيام قليلة عام 1883. ثم بدأ جورج بترجمة المخطوط العبري إلى الفرنسية، ولم يستطع إكمال المشروع بالترجمة إلى الإنجليزية حيث مات بدوره بعد موت والده بسنة وهو في سن الرابعة والأربعين، إلا أنه كان قد استبق موته بثلاثة أشهر وأوصى ابنه لوران بمتابعة المشروع وترجمة المخطوط إلى الإنجليزية ثم نشر النسختين الفرنسية والإنجليزية حول العالم، وهو ما فعله حسب قوله.
وبحسب الوثيقة، فإن نشأة الماسونية تعود إلى عام 43 للميلاد، أي بعد السبي البابلي بمئات السنين، حيث يقول إن ملك فلسطين الروماني هيرودس أغريباس -وهو ابن هيرودس الأكبر الذي حاول قتل المسيح طفلا- شكّل مع ثمانية رجال يهود جمعية سرية اسمها “القوة الخفية”، وعلى رأسهم حيرام أبيود الذي اقترح الخطة على الملك. وكان هدفهم الوحيد هو القضاء على دعوة المسيح عيسى عليه السلام التي كانت قد أخذت بالانتشار بالرغم من صلبه كما يزعمون، وقد ظلت الجمعية تتوارث سرها الخطير وتمارس التآمر حتى قرر قادتها في منتصف القرن الثامن عشر إعادة تشكيلها وفق طقوس وهيكلية جديدة، وبعد منازعات وصراعات فيما بين القادة أنفسهم تم الاتفاق على تسميتها بالماسونية “فرماسون” أي البناء الحر، وتأسيس هيلكها الأول تحت مسمى محفل إنجلترا الأعظم عام 1717.
ويتضمن الكتاب حوارات مطولة لما جرى بين حيرام أبيود وهيرودس أغريباس منذ بدء التخطيط لتشكيل الجمعية، حيث يتم الاتفاق منذ البداية على أن يظل أمرها سرا لا يعرفه اليهود ولا أحد آخر سوى التسعة المؤسسين، كما لا يُكشف السر إلا للورثة ولمن يترقى في درجات الجمعية إلى أعلى المراتب، ولم يكن يسمح لأعضاء الجمعية بالبوح بسر انتمائهم لها أو وجودها حتى لعائلاتهم، وفي حال الشك بأن أحدا باح بشيء من الأسرار سرعان ما يحكم ثلاثة قضاة من الجمعية بقتله، وينفذون الحكم دون منحه فرصة الدفاع عن نفسه، ومع ذلك فقد قرر جوناس أن يكشف هذا السر بعد نحو سبعة عشر قرنا كما يقول.
ويقول عوض الخوري إن هدف الرئيس البرازيلي من نشر الكتاب هو خدمة الدين المسيحي، ويضيف أن الرئيس قال له أيضا إنه يسعى من نشره بالنسخة العربية في تركيا (العثمانية) لخدمة “الدين المحمدي”، على اعتبار أن اليهودية عدو مشترك لهما.
وبما أن هذه الرواية لا تملك أي شاهد آخر سوى شخص اسمه لوران، فلا يمكن التحقق من صحتها حتى لو بدت منطقية، مع أن لدينا شكوكا عديدة، فكيف تجرأ لوران على تحدي هذه الجمعية ونشر سرها الذي ظل خفيا مدة طويلة بالرغم من خطورتها، حيث لا يبدو في التفاصيل التي ذكرها الخوري أن هناك أي خطر أو تهديد فضلا عن اتخاذ إجراءات للحذر، كما يبدو أن الرواية تجعل من الكاثوليكية العدو الأساسي لليهود بل سببا لنشأة الماسونية كلها، ومع أننا نقر بهذا العداء إلا أنه في رأينا لا يقدم تفسيرا شاملا ووافيا.
ونحن نرجح أن التأسيس كان أثناء السبي البابلي، ولا نستبعد أن تكون جمعية القوة الخفية قد وجدت فعلا عام 43م، إلا أنها قد لا تكون هي الأصل.
مانلي هول
تاريخ الماسونية تعرضنا في مقال الجمعيات السرية إلى توارث تلك الجمعيات علوم السحر والقبالاه على مر القرون منذ ما قبل التاريخ، ويقر كبار المؤرخين الماسون بالإرث الذي ورثوه عن تلك الجمعيات، ويعتبرون أنها كانت بمثابة الجامعات التي تحتفظ بأهم أسرار الوجود من الاندثار والتحريف.
يقول الماسوني الكندي الذي بلغ الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي بي هول إن “العديد من المفكرين الكبار في العصور القديمة كانوا منتسبين إلى الجمعيات والأخويات السرية التي تمارس طقوسا غريبة وغامضة، وكان البعض منها قاسيا جدا”، ويعتبر أن العبادات الوثنية الباطنية لكل من إيزيس وسبازيوس وسيبيل وباخوس وإلوسيس من أهم الأمثلة على الإرث العقائدي الذي ورثته الماسونية.
يرى هول أن معظم الجمعيات السرية في العالم القديم كانت فلسفية ودينية، ثم بدأت في العصور الوسطى بالاهتمام بالسياسة، وأن هذا الاهتمام ظل قائما حسب قوله في الجمعيات السرية الحديثة في الغرب، فجميع المؤلفين الماسون ينفون عن أسلافهم القدماء أي طموح سياسي فضلا عن التآمر، لكن بعضهم -مثل هول- يقر بالدور السياسي للماسونية حديثا فيما يصر آخرون على النفي.
ويبدو أن هناك فترة انقطاع بين الجمعيات السرية الناشطة تحت غطاء الوثنيات القديمة وبين ظهور فرسان الهيكل في القرون الوسطى إبان الحروب الصليبية، وقد أشرنا في مقال “فرسان الهيكل” إلى أنهم كانوا الجمعية الأم للماسونية في أوربا، وهو ما يؤكده الكثير من الماسون حاليا مثل الباحثَين كرستوفر نايت وروبرت لوماس في كتابهما الشهير “مفتاح حيرام”.
ويبدو أن تاريخ أسلاف فرسان الهيكل والماسون في فترة الانقطاع تلك مازال غير موثق من قبل المؤرخين الماسون، وهي الفترة التي شهدت صعود الإسلام وتوسع دولته على حساب أقوى الإمبراطوريات في العالم، حيث لم يشهد التاريخ انتشارا لأي دين سابق أو لاحق بمثل تلك السرعة والاندفاع.
وإذا كانت الماسونية هي وليدة فكرة واحدة تتنوع أشكالها ومسمياتها عبر التاريخ منذ وضعها على يد محرفي التوراة وواضعي أسس القبالاه الشيطانية، فلا نستبعد أن تنسب إليها المؤامرات اليهودية والحركات الباطنية التي ولدت داخل جسد الدولة الإسلامية، بدءا من محاولات قتل يهود المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، ببناء مسجد الضرار وتسميم الطعام، ومرورا بالفتن التي اشتعلت بين كبار الصحابة في عصر الخلافة الراشدة، وعلى رأسها محاولات اليهودي عبد الله بن سبأ وجماعته في تحريف الإسلام وبث بذور الباطنية فيه، [انظر مقال الإسماعيلية]، ووصولا إلى الفتن الكبرى التي قادتها حركة الحشاشين وتأسيس دولة باطنية كبرى كادت أن تقضي على الدولة العباسية، وهي دولة العبيديين الفاطميين.
فيثاغورس
ويبدو أن الجمعيات السرية المشكلة على طريقة فيثاغورس وتعاليمه كانت قد وجدت لها قبل ذلك موطئ قدم في قلب الدولة العباسية، حيث ينقل محمد الزعبي (الذي انشق عن الماسونية) نصا عن برهان الدين البقاعي يقول فيه إن قوما برئاسة شخص قرطبي يدعى محمد بن مسرة كانوا يلتقون بمكان يدعونه نادي فيثاغور، ويعلق الزعبي بقوله إنه كان يسمع داخل المحافل كلمة فيثاغور دون أن يدرك معناها حتى اطلع على هذا النص [الماسونية في العراء، ص 303].
كما يقول الزعبي إن نوادي الجمعيات السرية العباسية كانت تقوم بطقوس التكريس المعروفة اليوم مع بعض التعديلات، حيث يبدأ التكريس بقراءة آيات من القرآن الكريم للتضليل، ثم تتابع الطقوس الشيطانية مع تهديد المنتسب الجديد بالقتل إن كشف أسرار الجماعة [الماسونية في العراء، ص 336]، ولعل كتابَي ألف ليلة وليلة ورسائل إخوان الصفا -اللذين لا يُعرف مؤلفوهما يقينا- هما من أوضح الأمثلة الباقية إلى اليوم على نشاط الجمعيات السرية وتغلغلها في الجسد الإسلامي آنذاك.
ويعتقد البعض أن أسلاف الماسون كانوا حاضرين داخل الدولة الإسلامية على شكل جمعيات حرفية للبناء، وهو اعتقاد يدعمه اعتراف الماسون بنسبة جمعيات البنّائين عبر التاريخ لجمعيتهم، حيث يقال إن المهندسين الماسون كانوا يستوطنون القسطنطينية تحت حماية البيزنطيين، وعندما أراد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بناء المساجد الضخمة في دمشق والقدس والمدينة المنورة استدعى هؤلاء البنائين الكبار لتشييد تلك المباني العملاقة مقابل مكافآت مجزية، ثم تغلغل البناؤون في المنطقة أكثر على يد العباسيين عندما عهد إليهم أبو جعفر المنصور مهمة تشييد عاصمته بغداد، فأرسل إلى عماله في الكوفة وواسط والبصرة يطلب منهم إمداه بالبنائين والمهندسين، ومع أن ابن الأثير الذي يذكر هذه الرواية في كتابه “الكامل في التاريخ” لا يوثق سوى اسمي الحجاج بن أرطاة وأبي حنيفة لتخطيط بغداد وإنشائها، لكن المؤرخين الماسون مثل جرجي زيدان يؤكدون أن الماسون كانوا حاضرين آنذاك، لا سيما وأن ابن الأثير يقول “ومن عادة البنائين إذا اتفقوا على بناء بلدة أو سور أو معبد يجعلون منازلهم من الخشب بجوار البناء، يقيمون فيه للطعام والرقاد والاجتماعات السرية ومحاسبة العمال، وكانوا لا يسمحون لأحد أن يدخل عليهم أو يطلع على أعمالهم، وذلك حتى يتم البناء فينصرفون بعد أن ينال كل منهم حقوقه، ويضيف أن رسولا من ملك الروم جاء بغداد وطاف فيها مع ربيع، فقال له ربيع كيف رأيتها؟ فقال رأيت بناءً حسناً إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة، فأخرجهم ربيع خشية أن يكون فيهم جواسيس، ويقول أيضا “كان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاري بحبتين”.
واستنتج البعض من كلام ابن الأثير أن طبيعة عمل البنائين السرية وعدم السماح للغرباء بالانضمام إليهم ترجح أنهم كانوا بالفعل أتباع جمعية سرية تحتفظ بأسرار بناء الهياكل والصروح الضخمة، كما يقول زيدان إن استخدام ابن الأثير لفظ “أستاذ” يذكرنا بلقب الأستاذية لدى الماسون، وإن لفظ الروزكاري ربما كان معربا لكلمة “روزيكروشن” أي الصليب الوردي [جمعية سرية سنأتي على ذكرها لاحقا]، مع أن ابن الأثير تتوفي عام 1233 أي قبل مولد مؤسسها المفترض كريستيان روسنكروز. لكن باحثين آخرين يقولون إن روزكار كلمة فارسية تعني الدنيا أو الزمان، ما يعني أن الروزكاري قد يكون هو الشخص العامي في مقابل الأستاذ.
وبالعودة إلى مقال “فرسان الهيكل“، فقد ذكرنا جانبا من تاريخ سلالات بني إسرائيل التي يعتقد أنها هاجرت إلى أوروبا واحتفظت بما تراه أنه حق تاريخي لها في “الملك الإلهي”، على اعتبار أن الإله وعدها بالسيادة على العالم، فدبرت تلك العائلات مخططا طويل الأمد للتغلغل في العائلات الحاكمة وصولا إلى نجاحها في السيطرة على معظم أوربا الغربية مع مطلع القرن العاشر الميلادي، وهو ما يؤكده كتاب “المُلك الإلهي” للمؤلفين الثلاثة غراهام سيمانز وتيم والاس ميرفي وماريلين هوبكنز. وقد ربطنا في المقال المذكور بين هذا التغلغل الخفي وبين إطلاق شرارة الحروب الصليبية عن طريق السيطرة على الفاتيكان، للوصول إلى القدس تحت غطاء الكاثوليكية، ثم تأسيس جماعة فرسان الهيكل لتحقيق أهداف النخبة الإسرائيلية المتحدرة من سبط يهوذا.
ألبرت بايك
ويقول الأستاذ الأعظم للماسونية في القرن التاسع عشر الجنرال الأمريكي ألبرت بايك في كتابه “الأخلاق والعقيدة” Morals & Dogma إن هدف فرسان الهيكل الظاهر كان حماية الحجاج الكاثوليك إبان الحروب الصليبية، لكن هدفهم الحقيقي الذي انخرطوا من أجله في الحروب هو العمل على إعادة بناء هيكل سليمان باسم الكاثوليكية، ليحكم بنو إسرائيل من خلاله كل الشعوب، ومن ثم كانوا يسعون لاحقا إلى إزالة الكاثوليكية وتأسيس عالم جديد له ديانة جديدة تستمد عقائدها من “التقاليد المسيحية الأولى والنقية” التي يمثلها يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) [818 -Morals and Dogma, 817].
ومن المتداول بين الباحثين أن الحركات الغنوصية تعتبر القديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) أبًا روحيًا لها، حيث يُقدم في صورة أسطورية تجعله من أساتذة أسرار القبّالاه.
ويقول بايك إنه حين كان دي مولاي -أحد مؤسسي فرسان الهيكل- ينتظر حكم الإعدام في السجن عام 1310م؛ أمر بتكوين أربعة محافل مركزية في نابولي وإدنبره وستوكهولم وباريس، ثم انشطرت المنظمة إلى عشرات الجمعيات السرية والمنظمات الخفية وجماعات السحر والشعوذة، وتحولت مقاطعة لانجدوك جنوب فرنسا -وهي معقل فرسان الهيكل- إلى مأوى للملحدين والمهرطقين والقبّاليين والوثنيين، مضيفا أن الماسونية الاسكتلندية هي الوريث الأقدم لفرسان الهيكل والامتداد الشرعي لها [Morals and Dogma, 821].
وهذا يعني أن فرسان الهيكل -وجماعة فرسان مالطة أيضا- كانت هي حلقة الوصل بين النشأة الأولى للمخطط الإسرائيلي الذي نشأ على الأرجح إبان السبي البابلي، وبين الجمعيات السرية التي تشكلت في القرون الوسطى قبل ظهور الماسونية رسميا في القرن الثامن عشر.
ومن أهم تلك الجمعيات جمعية الصليب الوردي “روزيكروشن” التي تأسست في ألمانيا عندما نُشر بيانان حول أفكارها عامي 1614 و1615، ونُسب تأسيسها إلى شخص قد يكون خياليا ويدعى كريستيان روسنكروز، حيث يقال إنه قام برحلة قبل نحو 130 عاما إلى العالم الإسلامي، من المغرب وشمال أفريقيا مرورا بتركيا العثمانية إلى بلاد فارس، لتلقي العلوم الباطنية والهرمسية وأسرار القبالاه والسحر، ويقر معظم المؤرخين بأن هذه الجمعية احتفظت بأسرار الجمعيات السرية حتى انتقلت إلى الماسونية.
نشأة الجمعية يقول جرجي زيدان إن “البنائين الأحرار” تابعوا انتشارهم في أوربا تحت رعاية الملوك، إلى أن اجتمعوا في مؤتمر بمدينة يورك الإنجليزية سنة 926 برعاية الملك إدوين الذي انتُخب أستاذا أعظم، وتم إقرار لوائح لتنظيم عملهم لتكون أول دستور ناظم لهم، وأصبحت يورك عاصمة البنائين.
ويتابع زيدان ربط تطور أخويات البنائين بتطور البناء طوال القرون الوسطى، وصولا إلى مرحلة “الماسونية الرمزية” التي انتقلت من صناعة البناء إلى “الفضيلة والعلم” –حسب قوله- مع الحفاظ على أدوات البناء وقوانينه كرموز لمعان تتعلق بالعمران البشري وليس المادي، وذلك مع إعلان لائحة قوانين لندن سنة 1717، وفي 24 يونيو من السنة نفسها –وهو عيد القديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى)- اجتمع الماسون وانتخبوا أنطوني ساير أستاذًا أعظم لهم، وبدأت بذلك الماسونية الرمزية بطقوسها ورموزها ودرجاتها التي لم تعد مقتصرة على البنائين، لكن المؤرخين من خارج الماسونية يؤكدون أن اختيار هذا التاريخ كان للتغطية على أهداف الجمعية المعادية للأديان، فاليهود أصلا يعادون النبي يحيى، وأسلافهم سعوا في قتله على يد الملك هيرودس.
قاعة المحفل الإنجليزي الأعظم
ويرى الكثيرون أن التأسيس العلني للمحفل الماسوني الأول في لندن عام 1717 كان مجرد إشهار للخلايا الماسونية النائمة، حيث طُلب آنذاك من كل المحافل الصغيرة إحضار ما لديها من وثائق لتكون في يد المحفل الرئيس، وبعد ثمان سنوات أعلن الإيرلنديون بدورهم تأسيس المحفل الكبير في دبلن، ثم أعلن الاسكتلنديون عن محفلهم عام 1773، وفي الوقت نفسه خرجت مئات المحافل الفرنسية عن صمتها وانتشرت في المجتمع كالنار في الهشيم.
في عام 1723 كتب جيمس أندرسون أول دستور للماسونية، وعندما أصبح بنيامين فرانكلين (أحد مؤسسي الولايات المتحدة) أستاذا أعظم للماسونية في بنسلفانيا عام 1734 أعاد طباعته مضيفا إليه طقوسا جديدة ومرتبة ثالثة تدعى الخبير بعد مرتبتي المبتدئ وأهل الصنعة، وجاء الدستور في 40 صفحة تتضمن تاريخ الماسونية، وفي أواخر القرن التاسع عشر أعاد الجنرال الأمريكي والأستاذ الأعظم للطقس الاسكتلندي ألبرت بايك كتابة الكثير من الطقوس الماسونية المعتمدة حتى اليوم.
جورج واشنطن يضع “حجر أساس واشنطن” في احتفال ماسوني رسمي كأول حجر في مبنى الكونغرس، حيث تأسست العاصمة الأمريكية على الأسس الماسونية منذ نشأة الدولة
الانضمام للجمعية تذكر المراجع الماسونية أنه يمكن لأي شخص الانضمام إلى المحافل وفق ثلاثة شروط، وهي أن يبلغ من العمر 21 عام على الأقل، وأن يكون مؤمنا بوجود إله دون اكتراث للعبادة التي يختارها، وأن يتحلى بأخلاق عالية.
وتنصح بعض المواقع الماسونية من يريد الانضمام بأن يبحث عن علامة “2B1Ask1” -وهي تعني إذا أردت أن تكون أحدهم فاسأل أحدهم- حيث يُطبع هذا الشعار على بعض القمصان والقبعات ويرتديها الماسون في تجمعات عامة لجذب الأعضاء الجدد ممن قرأوا عن معنى الشعار ويبحثون عنه فعليا.
وتقول تلك المواقع إنه إذا لم يحصل الباحث على هذا الشعار فليحاول الاتصال بأقرب محفل ماسوني إلى البلد الذي يقيم فيه ويسأله عن كيفية التقدم للعضوية. ومن المعروف أن معظم الدول الغربية ودولا أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تحتضن محافل رسمية معلنة ويمكن العثور على عناوينها عبر الإنترنت بسهولة.
على سبيل المثال، الرابط التالي ينقلك إلى صفحة على موقع “معهد ماساشوستس للتكنولوجيا”، الذي يعد أهم جامعة في العالم للتقنية، وهي تشرح كيفية الانضمام للماسونية، مع إبرازها على أنها جمعية أخوية للأشخاص الطيبين فقط! http://web.mit.edu/dryfoo/Masonry/how-to.html
تضيف المواقع الماسونية أن المحفل سيستقبل طلب الانضمام ويجري المقابلة مع المتقدم، ثم سيتحرى الماسون عن حياته وسلوكه، ليتحققوا من أخلاقه الحسنة، وفي حال الموافقة يدفع المتقدم رسوما بسيطة ويتم التكريس والبدء بالارتقاء في درجات الماسونية.
في المقابل، هناك مراجع تقول إنه من المستحيل الانضمام للماسونية عبر التقدم بطلب الانضمام، فالمحافل هي التي تبادر بمراسلة من يتم ترشيحهم من قبل بعض الأعضاء لتدعوهم للانضمام وإغرائهم بأن يكونوا من نخبة المجتمع.
ويبدو أن لكل محفل سياسته، فبعض المحافل لا تقبل الطلبات وتهملها والبعض الآخر يدرسها بعناية ويقبل بعض المتقدمين، كما أن بعض المنظمات الأخرى المنضوية تحت لواء الماسونية -والتي سيرد ذكرها لاحقا- تأخذ شكل النوادي الاجتماعية النخبوية وليس الجمعيات السرية، وهي بالفعل لا تقبل طلبات الانضمام بل تراسل من تراهم من نخبة المجتمع ولديهم القابلية لخدمة أهدافها، ولكل من هذه النوادي شريحة ما تسعى لاستقطابها، مثل نخبة رجال الأعمال والنخبة الأكاديمية ونجوم الفن والرياضة، وما شابه ذلك.
وحسب شهادة أحد الأصدقاء العرب، وهو من نخبة المجتمع سياسيا واجتماعيا، فقد تلقى بالفعل رسالة دعوة من المحفل العربي الوحيد في المنطقة والموجود في لبنان، دون أن يبادر بنفسه بالاتصال بأي عضو ماسوني.
أما طقوس الانضمام والتكريس فقد ذُكرت في مراجع عديدة، ونسبها المؤلفون لأعضاء منشقين عن الماسونية ممن تحدثوا عما جربوه بأنفسهم. وأهم ما فيها أن الطقوس مليئة بالرموز التي تحمل معاني محتملة, بحيث لا يفهم العضو الجديد من ظاهرها سوى أنه مقبل على الانضمام لأخوية عالمية يحرص أعضاؤها على حماية بعضهم وحفظ أسرارهم الخيّرة وتكريس أنفسهم لصالح المعرفة والعلم وخدمة المجتمع، ثم يأتي التهديد بالقتل في حالة الانشقاق أو كشف الأسرار، وهو ما يُبرر بأنه مجرد حرص على المواثيق والعهود المقطوعة فيما بينهم وليس تهديدا على شاكلة ما تفعله العصابات الإجرامية.
ومن أهم المراجع التي وصفت تلك الطقوس كتاب “السر المصون في شيعة الفرمسون” لرجل الدين اليسوعي اللبناني الراحل الأب لويس شيخو.
الجزء الأول من الفيلم الوثائقي “حركة الماسونية” ضمن برنامج “سري للغاية”: في مطلع هذا الفيلم، تم تجسيد طقوس الانضمام بمشهد درامي. علما بأن المراجع الماسونية تنكر هذه الطقوس وتزعم أنها اتهامات باطلة وممنهجة (مؤامرة) ضدها.
الرموز والعقائد يتضمن شعار الماسونية الأساسي صورة رمزية لمسطرة المعماري (الزاوية) بالتقاطع مع فرجار، وهي في معناها الظاهر من أدوات البناء، لكنها قد ترمز إلى علاقة الخالق بالمخلوق، وهي الرمزية التي يُشار إليها في النجمة السداسية التي اتخذها اليهود شعارا وأسموها نجمة داوود على اعتبار أنها ترمز إلى اتحاد الكهنوت مع رجال الدولة، وذلك من خلال سيطرة سلالة داوود على الحكم باتحادها مع الكهنة من سلالة هارون.
وتمثل الزاوية العنصر الثابت وهي أداة تحديد استقامة وصحة قائمية الحجر، أما الفرجار فيمثل العنصر المتحرك الذي يؤكد على ملكة الفكر وتحكمه بالمادة. وفي الدرجة الأولى توضع الزاوية فوق الفرجار الذي ما زال المريد يتعلم كيفية استعماله لصقل نفسه، وفي الدرجة الثانية يتداخل الاثنان ببعضهما، أما في الدرجة الثالثة فيوضع الفرجار فوق الزاوية.
ويتوسط الشعار حرف G الذي يزعم بعض الماسون أنه الحرف الأول من كلمة “God” أي الإله، كما يزعم البعض الآخر أنها أول حرف من كلمة هندسة Geometry، ولكن يذهب باحثون إلى أنه الحرف الأول من كلمة “Gematria” وهي تعني مجموعة القوانين التي وضعها أحبار اليهود لتفسير التوراة سنة 200 قبل الميلاد، أو ربما تكون دلالة على كلمة غنوصية Gnosticism وهي عقائد باطنية حلولية تداخلت مع أديان كثيرة بما فيها المسيحية واليهودية.
وتُستخدم أدوات البناء الأخرى لمعان رمزية مماثلة، حيث يمسك الأستاذ باليد اليسرى الإزميل الذي يُستخدم لنحت الحجر كرمز لاتخاذ القرار، كما يمسك باليمنى المطرقة كرمز للسلطة وتنفيذ القرار.
العمودان على مئزر ماسوني
أما العمودان اللذان لا يخلو منهما أي محفل فيرمزان إلى عمودين يزعم اليهود أن المهندس حيرام أنشأهما عند بوابة هيكل سليمان، حيث ورد ذكرهما في التوراة المحرفة تحت اسم ياكين (الملك الإسرائيلي الذي أسره نبوخذ نصر وقاده إلى بابل) وبوعز (أحد أجداد داوود)، ويقف مراقبا المحفل أمام كل منهما.
ويستحضر الماسون ذكرى حيرام الذي يقال إنه كان من أهم بنائي الهيكل، ويلقب بابن الأرملة، لذا يسمون أنفسهم بأبناء الأرملة، ويمثلون طقوس قتله على يد ثلاثة من البنائين الذين حاولوا أن ينتزعوا منه “الأسرار المقدسة لمرتبته المهنية الأعلى” فرفض. وتقول التوراة التي بين يدي اليهود اليوم “أرسل الملك سليمان فأخذ حيرام من صور وهو ابن أرملة من سبط نفتالي وأبوه رجل من صور صانع نحاس، وكان ممتلئًا حكمة وفهمًا ومعرفة في عمل كلِّ صنعة من النحاس”، وتدعي الأسطورة أن سليمان نفسه أوحى بفكرة قتله لأن حيرام أحب زوجته بلقيس، فالأساطير اليهودية لم تترك نبيا من أنبياء بني إسرائيل إلا وألصقت به تهمة شنيعة، ومع ذلك فقد أبقت على قداسته.
وبحسب كتاب “تبديد الظلام” الذي يروي قصة جمعية “القوة الخفية”، فإن حيرام الذي يقدسه الماسون ليس سوى شخص اسمه حيرام أبيود، وهو الذي أوحى للملك هيرودس أغريباس بفكرة الجمعية، وقد كان ابن أرملة يهودية فأطلق عليه الملك لقب ابن الأرملة، وصار اللقب شعارا لأعضاء الجمعية، ثم قُتل حيرام أبيود في جنوب لبنان دون أن يُعرف قاتله، فزعم زملاءه من مؤسسي الجمعية الآخرين أن هذا الاسم يعود إلى المهندس الذي صمم الهيكل واحتفظ بأسراره بنائه.
رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)
ويُعد المحفل Lodge بمثابة المعبد أو مقر الاجتماعات الذي يجتمع فيه الماسون، وهو يرمز لهيكل سليمان الذي يُعد النموذج الأعلى لمباني الماسون، حيث جاء في موسوعة الحركة الماسونية [طبعة فيلادلفيا 1906] أن “كل محفل هو في الحقيقة والواجب رمز للهيكل اليهودي وكل رئيس يعتلي كرسيه يمثل ملكا من ملوك اليهود وفي كل ماسوني تتمثل شخصية العامل اليهودي”. وينعقد الاجتماع في المحفل بما لا يقل عن سبعة ضباط يتولون مهام إدارة الاجتماع، وهم يرتدون مآزر وقفازات وقلادات خاصة بحسب درجاتهم.
ويسمى المحفل الرئيسي بالشرق الأعظم، وهناك عدة شروق عظمى حول العالم، فالمحافل كلها تجعل صدارتها في اتجاه المشرق، لأنهم يتجهون في طقوسهم باتجاه مشرق الشمس كما هو حال العبادات الشيطانية.
ويصرح الماسون في بياناتهم وخطاباتهم المعلنة والمتداولة بين الفئات الدنيا بمصطلحات تقديس “المهندس الأعظم للكون” على اعتبار أنه الإله الذي يؤمن به جميع أعضاء المنظمة على اختلاف أديانهم، لكن الباحثين في خفايا الماسونية يؤكدون أن الدرجات العليا لا تؤمن سوى بعقائد القبالاه، وأن هذا المهندس ليس إلا الشيطان “بافوميت” أو “لوسيفر” (حامل النور) الذي يُرجح المؤرخون أن فرسان الهيكل مارسوا عبادته بانتظام.
وتعد “العين التي ترى كل شيء” All Seeing Eye من أهم رموز الماسونية وأكثرها انتشاراً، ويزعمون أنها ترمز إلى عين المهندس الأعظم أو عين الكون العظيمة، كما يقول بعض مؤلفيهم إنها عين البصيرة، وهي تقابل العين الثالثة (شاكرا) لدى ممارسي رياضات التأمل واستجلاب الطاقة، ورُبطت تشريحيا في مصر واليونان بالغدة الصنوبرية الواقعة في تجويف الدماغ، حيث اعتبرها بعض الفلاسفة نقطة الوصل بين عوالم المعرفة، فالمتأمِّل يعمل على تشغيلها لبلوغ الاستنارة واستقبال المعرفة الكشفية العرفانية (الإلهام) في حين تبقى خاملة لدى عامة الناس، لذا يعمد الهندوس إلى رسم نقطة حمراء في وسط الجبهة لتحريض هذه الغدة على العمل.
أما أكبر قادة الماسونية في القرن التاسع عشر “ألبرت بايك” فيقول في كتابه “الأخلاق والعقيدة” إن العين كانت ترمز في العقائد الوثنية القديمة إلى عبادة الشمس، واعتُبرت في مصر رمزا للخالق أوزوريس [Morals and Dogma, 15].
ويشير المؤلف “رالف إبرسون” في كتابه “النظام العالمي الجديد” إلى أن العين ترمز لتوغل الماسونية في كل فئات المجتمع وقدرتها على مراقبته ومعاقبة من يفشي أسرارها.
ويرى بعض الباحثين في القبالاه والسحر أن هذه العين ليست سوى العين الشمال للشيطان، مشيرين إلى أنه لا يستخدم سوى العين الشمال واليد الشمال، وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه مسلم أن “الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله”.
شعارات الماسونية كانت معلنة في الثورة الفرنسية
ويمكن القول إن عبادة الشيطان تجسدت في الماضي على هيئة أوثان تخلط بين الشياطين والآلهة، وخصوصا في عبادة “بعل” و”حورس” و”رع” و”أوزوريس”، ولا نستبعد النظريات التي تقول إن هذه العين ليست سوى رمز قديم ومتجدد للأعور الدجال الذي أخبر عنه جميع الأنبياء.
إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أعلنته السلطة الثورية في فرنسا عام 1789 ويظهر في قمته شعار المتنورين الماسون
وفي منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، أدخل الرئيس الأميركي الماسوني فرانكلين روزفلت صورة هرم مصري تعلوه العين على تصميم الدولار. ويمكن للباحث أن يجد هذا الشعار أيضا في وثيقة حقوق الإنسان والمواطن التي أعلنتها الثورة الفرنسية عام 1789، في دلالة واضحة على الخلفية الماسونية للجهات التي أشعلت الثورة وسيطرت على البلاد بعدها.
ينفي الماسون تحالف منظمتهم مع اليهودية والصهيونية، ويزعمون أن كثرة الرموز والمصطلحات اليهودية فيها ليست سوى نتيجة للاقتباس عن “الدين التوحيدي الأول”، وذلك على اعتبار أنهم يؤمنون بالله ويحترمون كل الأديان السماوية، لذا فهم يفسرون تبجيلهم لهيكل سليمان بكونه المعبد الأول للإله الواحد في التاريخ. علما بأن المسلمين يؤمنون بأن الدين التوحيدي هو دين آدم وجميع الأنبياء بعده، وأن موسى عليه السلام لم يكن أول من جاء به.
رسم لطقس عبادة بافوميت (أحد أسماء إبليس) في محفل ماسوني أورده الماسوني الفرنسي ليو تاكسيل في كتاب نشره عام 1884 لفضح طقوسهم
وقد بات التحالف بين الماسونية واليهودية من الحقائق المتواترة التي لا يمكن لتصريحات الماسون ومبرراتهم التشكيك فيها، حيث أثبت ذلك الأستاذ في الفلسفة محمد علي الزعبي الذي انضم إلى محافل الماسونية في بيروت ثم انشق عنها وكشف علاقتها بالمشروع الصهيوني في كتابه “الماسونية في العراء”، وله أيضا كتاب آخر بعنوان “الماسونية منشئة ملك إسرائيل“، كما يقول الأب لويس شيخو في كتابه “السر المصون في شيعة الفرمسون” إنه بات من المقرر الثابت الذي لا يمكن أن ينكره عاقل لكثرة الدلائل على صحته أن العامل في الكبير في إدارة الماسونية وجمع كلمتها هو العنصر اليهودي.
كما وضع الكثير من المؤلفين المسيحيين في الغرب مؤلفات مرجعية تربط العقائد والرموز الماسونية بأصولها اليهودية والوثنية والشيطانية، ونذكر منها على سبيل المثال كتاب “الدستور السحري” Codex Magica للمؤلف الأميركي تيكس مارس Tex W. Marrs.
ينسب إلى ألبرت بايك قوله: “يجب أن نقول للجماهير إننا نؤمن بالله ونعبده ولكن الإله الذي نعبده لا تفصلنا عنه الأوهام والخرافات ونحن الذين وصلنا إلى مراتب الاطلاع العليا يجب أن نحتفظ بنقاء العقيدة الشيطانية”.
كما ينسب إلى الأستاذ الأكبر لمحفل لسينغ القول: “نحن الماسونيون ننتسب إلى أسرة كبير الأبالسة لوسيفر فصليبنا هو المثلث وهيكلنا هو المحفل”.
[المصدر: الماسونية، محمد صفوت السقا أمينى وسعدي أبو حبيب].
يميل كثير من الباحثين بعد تجميع الأدلة ومقارنتها أن الماسونية تعبد إبليس نفسه تحت مسمى “لوسيفر”، وذلك في معرض إيمانها بوجود الله تعالى كإله آخر يحمل الاسم العبري “أدوناي”، وبهذا يصبح العالم مسرحا لصراع بين إلهين.
وتتلخص هذه العقيدة في رسالة تُنسب إلى ألبرت بايك يُقال إنه أرسلها عام 1889 إلى عشرات المحافل العالمية، ونقتبس منها النص الآتي:
“ما يجب أن نقوله للعامة هو: نحن نعبد إلهاً، لكنه ذاك الإله الذي يُعبد دون خرافات. وإليكم أيها المفتشون العموميون (من الدرجة 33) نقول إنكم تستطيعون أن تكرروا لإخواننا في الدرجات 30 و31 و32 أن الديانة الماسونية يجب أن يحافظ عليها من قبلنا نحن الحاصلين على الدرجات العليا في إطار نقاء المذهب اللوسيفري.
لو أن لوسيفر ليس إلها، فهل أدوناي رب المسيحيين كذلك؟ والذي أثبتت أعماله عنفه وخيانته وحقده على البشر، وبربريته وتجاهله للعلم. فهل يفتري أدوناي وكهنته على نفسه؟
نعم إن لوسيفر إله، ومع الأسف فإن أدوناي إله كذلك. فالقانون الأبدي يقول إنه لا يوجد ضوء بدون ظل، ولا جمال بدون قبح، ولا بياض بدون سواد. لأن المطلق لا يمكنه إلا أن يتجسد في ثنائي، ولأن وجود الظلام ضروري ليكمل النور، كما أن القاعدة مهمة للتمثال، والمكبح مهم للقطار.
في الصراعات الكونية يعتمد المرء فقط على الذي سيقاوم، لذا فالكون متوازن بين قوتين تعملان على تحقيق التوازن، هما قوة التجاذب وقوة التنافر. وهما موجودتان في الفيزياء والفلسفة والدين. والحقيقة العلمية للثنائية في ظاهرة القطبية والقانون الكوني للتجاذب والتنافر. لهذا فإن الأتباع الأذكياء لزرادشت ومن جاء بعدهم من الغنوصيين وفرسان الهيكل اعترفوا بمفهوم غيبي عقلاني وحيد وهو نظام المبادئ الإلهية المتصارعة للأبد. ولا يصدق المرء بأن أحدهما أدنى من الآخر.
الأديان الفلسفية النقية والصحيحة تؤمن بلوسيفر، كندّ لأدوناي، لكن لوسيفر هو إله النور والخير، الذي يكافح من أجل الإنسانية ضد أدوناي إله الظلام والشر”.
ويجدر بالذكر أن الماسون ومؤيدوهم ينكرون صحة هذه الرسالة ويتهمون ليو تاكسيل (المذكور سابقا) بتلفيقها. [انظر مادة Luciferianism في موسوعة ويكيبيديا]
الدرجات الرئيسة يشيع بين الباحثين في الجمعيات السرية أن الماسونية تنقسم من حيث التنظيم إلى ثلاث طبقات كبرى، لكن الماسون لا يعترفون إلا بالدرجات المتضمنة في الطبقة الأولى فقط وينكرون وجود الطبقتين الثانية والثالثة. ونلخص هذه الطبقات فيما يلي:
1- الماسونية الرمزية العامة: هي التي يتدرج فيها الناس من كل الأديان والأعراق، وتتفرع إلى درجات يتفاوت عددها حسب الطقس المُتبع، فهي 33 درجة في الطقس الاسكتلندي (الإيكوسي)، و12 درجة في طقس يورك، و95 في الطقس المصري. وكلما ازداد ترقي العضو ازداد قربه من اكتشاف أسرار الماسونية مع تنامي ثقة القيادة به.
ويُعد الطقس الاسكتلندي هو الأكثر شيوعا، وتشكل الدرجات الثلاث الأُول منها قاعدة الماسونية الرمزية (الزرقاء) وهي درجات المريد والرفيق والأستاذ، ويقول الماسوني الفرنسي جورج مارتان إن العضو يصبح ماسونيا تاما عندما يبلغ الدرجة الثالثة (الأستاذ)، ثم يتدرج في “الاكتمال” عبر الدرجات الثلاثين التالية [المنظمة الماسونية والحق الإنساني، ص 54].
وتسمى الدرجات من 4 إلى 14 بمشاغل الإتقان (الماسونية الخضراء)، ثم تأتي مجالس البطاركة ما بين الدرجتين 15 و18 (الحمراء)، ثم المجامع ما بين الدرجتين 19 و30 السوداء)، ثم أسياد المحاكم من الدرجة 31، والمجامع القيادية من الدرجة 32، وأخيرا المجلس الأعلى من الدرجة 33، وتسمى الدرجات الثلاث الأخيرة بالماسونية البيضاء، وهي تضم الأعضاء الذين بلغوا الدرجات العليا في فهم الطقوس وممارستها فضلا عن الولاء المطلق.
2- الماسونية الملوكية: هي درجة سرية لا يعترف بها الماسون، ولا يحصل عليها سوى اليهود الحائزين على الدرجة الثالثة والثلاثين الرمزية، وممن قدموا للماسونية خدمات جليلة.
3- الماسونية الكونية: لا يعترف بها الماسون أيضا، وهي درجة سرية للغاية يؤكد الماسون المنشقون وجودها ولكن لايعرفون مقرها وأسماء أعضائها، ويُعتقد أنهم نخبة العائلات اليهودية الكبرى ممن يتزعمون المحافل الملوكية، وربما من سلالات “حق الملك الإلهي” المتحدرة من داوود عليه السلام، وهم الذين يرسمون خطط وسياسات المحافل العالمية بما يوافق مصالحهم الساعية في نهاية المطاف إلى بناء هيكل سليمان في أورشليم للسيطرة على العالم منه وفقا للنبوءات التوراتية.
الطقوس الماسونية الرئيسة بالرغم من وحدة الهدف العام للماسونية فهي لا تختلف عن أي تجمع بشري في النهاية، حيث لا بد للشقاق والاختلاف أن يتسلل إلى صفوفها، لكن هذا الاختلاف قد يصب في النهاية لصالحها، حيث يسمح لها باحتواء أطياف متنوعة من البشر لتوجيههم وتوظيفهم بما يحقق المصلحة العليا لقادتها، كما يُظهرها بمظهر أقل حنكة مما يساعد على نفي الاتهامات الموجهة إليها بصفتها يدا واحدة خفية، في حين يؤكد الباحثون في خفاياها أن الاختلاف لا يتعدى الطقوس والممارسات والرموز، كما هو حال الاختلاف بين المذاهب الفقهية في دين واحد، ولكن تتفق طرق (الطقوس) الماسونية جميعها في القيادات العليا الخارقة للحدود والأعراق.
يقال إن عدد الطقوس بلغ في منتصف القرن التاسع عشر 52 طقساً، لكن هناك طقوساً رئيسة تتبعها معظم المحافل حول العالم، وهي كالآتي:
الطقس الأسكتلندي القديم والمقبول (الإيكوسي): هو الأكثر شهرة وانتشارا في العالم، ويتدرج أعضائه في 33 درجة، آخرها درجة المفتش العام الأعظم.
الطقس الإنكليزي للماسون القدماء الأحرار والمقبولين: هو قريب من الاسكتلندي، ويعد أكثر ارتباطا بالقديس يوحنا المعمدان.
طقس يورك: هو الطقس الرئيسي الموازي للاسكتلندي ويعد الأكثر انتشارا في الولايات المتحدة، وهو يتكون من 12 درجة، ويشترط أن يكون العضو مسيحيا ليُقبل فيه بدءاً من الدرجة الرابعة، أي بعد حصوله على درجة الأستاذ.
طقس ممفيس-مصرائيم المتحد: في عام 1783 أقام جوزيف بالزامو نظاما ماسونيا على خليط من معتقدات الفيثاغورثيين والأفلاطونيين الجدد وصابئة حران والإسماعيليين، وجعل لنظامه المسمى “مصرائيم” 90 درجة، ثم أدخل عليه درجات إضافية مقتبسة من فرسان مالطا، وانتشر نظامه هذا في إيطاليا. وفي عام 1815 أسس صامويل هونيس (الذي كان يتردد كثيرا على القاهرة) محفلا في فرنسا باسم “حواريو ممفيس”، مستحضراً أساطير الكاهن المصري هرمس الذي عاش في القرن الميلادي الأول، وانتشرت محافل ممفيس في أوربا والأمريكتين ومصر. ثم اندمج النظامان على يد الجنرال جوزيبي جاريبالدي في إيطاليا عام 1881، وأصبحت له 95 درجة.
الطقس الفرنسي: يتضمن بالإضافة للدرجات الثلاث الأولى أربع درجات عليا، هي المختار والإيكوسي وفارس الشرق والصليب الوردي.
الطقس السويدي: يتضمن عشر درجات، إضافة لدرجة أخيرة شرفية لا يحملها سوى 60 شخصا من نخبة السويد، وهو يقتصر على المسيحيين فقط، وينتشر في الدول الإسكندنافية، ويعترف بأعضاء المحفل الأعظم المتحد لأنجلترا، ويتزعمه ملك السويد شخصيا.
المتنورون قبل أن نستعرض المنظمات الفرعية التي تعمل تحت مظلة الماسونية، لا بد من التوقف عند جمعية المتنورين السرية، والتي تعرف باسمها اللاتيني “إلوميناتي” Illuminati، فهي أخطر المنظمات الماسونية وأقدمها وأوسعها انتشارا، حيث نشأت على يد آدم وايسهاوبت Weishaupt الذي كان أكاديميا مسيحيا يسوعيا ثم أصبح من عبدة الشيطان، وأوكلت إليه العائلات اليهودية الممسكة بزمام الماسونية مهمة وضع مخطط شامل للسيطرة على العالم سياسيا واقتصاديا وفكريا عبر هذه المنظمة، وكان ذلك في مطلع شهر مايو من عام 1776 وفي ولاية بافاريا الألمانية.
وايسهاوبت
ليس للمنظمة محافل ظاهرة للعيان، فهي أكثر سرية من الماسونية الأم، وكان تأسيسها قائما منذ البداية على تنفيذ المخطط بالاستفادة من المحافل الماسونية والكفاءات المتوفرة فيها، وليس على إقامة الطقوس والتظاهر بإقامة أعمال خيرية أو إنشاء أخوية عالمية.
لكن المخطط لم يُكتب له البقاء خفيا لمدة طويلة، حيث تقول الرواية الشائعة تاريخيا إن صاعقة ضربت أحد أعضاء الجماعة ويدعى لانز في أحد أيام سنة 1785 أثناء سفره على الخيل من فرانكفورت إلى باريس، فوجدت الشرطة في جيوب الجثة وثائق ما زالت محفوظة في أرشيف مدينة ميونيخ، وفيها معلومات خطيرة عن أنشطة الجماعة ومخططها لإشعال الثورات والحروب وإسقاط الأنظمة، ويقال إن ألمانيا أرسلت هذه المعلومات إلى دول أوروبية عديدة تحذرها من هذا المخطط، إلا أن أحدا لم يستجب، حيث اندلعت الثورة الفرنسية بالفعل عام 1789 كما كان مخططا لها، ثم تساقطت الحكومات الملكية في بقية أوروبا مثل أحجار الدومينو. [Illuminati Hunter, 225].
في رسالة يقال إن البارون أدولف فون كينغ Baron Adolph von Knigge -الرئيس الثاني للمتنورين- إلى صديقه زفاك يقول فيها “إن العقائد اليهودية سر خفي والرعاع لا يصلحون لفهمها، فقد ظلت هذه الأفكار شعلة خامدة لم يحافظ عليها سوى الجمعيات السرية التي ورثتها خلفا عن سلف، وهي الآن في حوزة صفوة الماسونية”.
والشائع اليوم أن هذه المنظمة تهتم باستقطاب الموهوبين الصاعدين حول العالم وإغرائهم بالنجومية والثروة مقابل الولاء لمعبودها “لوسيفر”، وهو الشيطان نفسه. ولا تُلزم المنظمة أعضاءها بالانتساب والتدرج كما هو حال الماسونية التي تتخذ طابعا فلسفيا، فمنظمة المتنورين تهتم أكثر بالمغفلين المهووسين بالأضواء والصعود السريع، الذين يعملون على التطبيع مع رموز الماسون وشعاراته الشيطانية بتضمينها في أعمالهم، ويبثون الفن الهابط والإباحية والشذوذ والتمرد بين المراهقين، وهي الأهداف نفسها التي نصت عليها مخططات المنظمة كما يؤكد الباحث جون كولمان في كتابه “لجنة الثلاثمئة” The Committee of 300.
المنظمات الماسونية إلى جانب المحافل الكبرى التي تسمى بالشروق (جمع شرق) وما يتبعها من محافل رسمية، توسعت الماسونية منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر لتصبح مظلة لعشرات المنظمات والنوادي الاجتماعية التي لا تكاد تخلو منها أي مدينة غربية، فضلا عن الانتشار في مدن كثيرة في أفريقيا وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية، فمن خلال هذه النوادي والأخويات يتم جمع ملايين أعضاء إضافيين لتحقيق أهداف الماسونية دون انخراط في الطقوس الرمزية.
ومن الملفت أن هناك الكثير من النوادي الاجتماعية في مدن عربية وإسلامية اتخذت من هذا الأسلوب مظلة لاكتساب الشرعية واستمرار النشاط الماسوني، للتحايل على القرارات الرسمية التي اتخذت لإغلاق جميع المحافل الماسونية.
وفيما يلي قائمة بأهم المنظمات التابعة للماسونية، بشكل معلن أو خفي، والتي تنشط بقوة في الدول الغربية والعديد من الدول الأخرى بما فيها العالم الإسلامي:
الرئيس الأمريكي هاري ترومان يستقبل زعماء الشراينرز عام 1948
1- الشراينرز: تأسست المنظمة عام 1872 على يد 13 ماسونياً أثناء اجتماع لهم في نيويورك حيث طُرحت بينهم فكرة تأسيس منظمة ماسونية جديدة تقوم على بث مفاهيم المرح والزمالة بين أعضائها، وبينما كان أحد الأعضاء يتجول في باريس دُعي إلى حفل برعاية دبلوماسي عربي، فأعجبته الأجواء العربية في الملبس والموسيقى والديكور، وقرر أن يجعل هوية المنظمة الجديدة عربية صوفية، فتم تأسيسها تحت اسم “النظام العربي لنبلاء الضريح الصوفي المقدس”، وعُرف أول محافلها باسم معبد مكة المقدس، بالرغم من العداء الوجودي الذي تبطنه الماسونية للإسلام.
وكانت عضوية الشراينرز في الماضي قاصرة على من أتم درجات الطقس الاسكتلندي أو طقس يورك، ثم أصبحت متاحة لمن حصل على درجة الأستاذ الماسوني. ومنذ عام 1920 اتخذت المنظمة من العمل الخيري الطبي واجهة لها لتساعد في معالجة 575 ألف طفل مجانا حتى الآن، حيث تدير المنظمة شبكة من 22 مستشفى متخصصة بطب الأطفال في أمريكا الشمالية.
وبعيدا عن الرموز والعبادات الشيطانية، يُظهر الشراينرز للعالم وجها احتفاليا مبهجا، فيشاركون في الكرنفالات الراقصة وحفلات العشاء ومهرجانات السيرك، ويرتدون ملابس عربية فلكلورية مع طرابيش حمراء، ويتخذون أسماء عربية لمعابدهم مثل الرياض ومكة وابن سعود وابن علي وشوّال. وربما تخفي هذه الرموز والأسماء علاقة ما بالطقوس السحرية التي يمارسها أدعياء الصوفية عند الأضرحة، خصوصا وأن الكثير من محافلهم تُبنى على هيئة الأضرحة وعلى النمط المعماري الأندلسي.
ويتحدث جون روبنسون في كتابه “النشأة الدموية.. الأسرار المفقودة للماسونية” عن قيام مجموعة من قادة المنظمات الماسونية بتكريم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان عام 1988 في احتفال خاص بمكتبه البيضاوي، وكان منهم ملك الشراينرز الذي منحه عضوية فخرية في المجلس الإمبراطوري للضريح المقدس. وتقول مصادر غير مؤكدة إن المنظمة تخضع للقيادة المباشرة من ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش.
في هذا الفيديو يجري أحد الناشطين المسيحيين حوارا مع عضو في محفل للشراينرز، حيث يتعرف الأخير بتقديسه للشيطان لوسيفر، وفي نفس الوقت يصر على أنه ما زال مسيحيا، ثم يعجز عن تقديم أي مبرر لهذا التناقض.
قاعة الغروتو في نصب جورج واشنطن الماسوني التذكاري (SchuminWeb)
2- الغروتو: على شاكلة الشراينرز، تأسست هذه المنظمة في نيويورك عام 1889 لتتجاوز في جلساتها العلنية الطقوس الرسمية للمحافل التقليدية، حيث تُظهر احتفاءها بالأجواء المرحة والاجتماعية، وتُعلن اهتمامها بعلاج الأطفال المعاقين.
وبما أنها كالشراينرز تحصر عضويتها في الحاصلين على درجة الأستاذ الماسوني فلا شك في أن كل أعضائها يعلمون جيدا كواليس المنظمة وباطنها، فهم يتخذون من مدعي النبوة الذي ظهر أيام العباسيين بخراسان والمعروف باسم المقنع شعارا لهم، ويرتدون طرابيش سوداء، ويطلقون على محافلهم أسماء الكهف أو المسجد، ولا يخفى على أحد ما يخفيه احتفاؤهم بالمتنبي الكذاب من رمزية تعادي الوحي.
3- أشجار أرز لبنان الطويلة: أنشئ أول محافلها في عام 1901، وهي تدعي كسابقتيها توطيد العلاقة بين الأعضاء في جو من المرح وبذل الخير، فتركز أعمالها الخيرية المعلنة على علاج أمراض العضلات والأعصاب، لكنها تحصر عضويتها على الحاصلين على درجة الأستاذ الماسوني.
تعرف محافلها باسم الغابة، وتمنح درجتين لأعضائها هما البلاط الملكي والصيداوي، وربما تخفي وراء اسمها وشعارها احتفاءً بأشجار أرز لبنان التي كان لها دور في بناء هيكل سليمان.
شهادة الانضمام لمنظمة بناي بيرث ويظهر فيها الأثر اليهودي الصهيوني
4- منظمة بناي بيرث: تعد من أضخم المنظمات الماسونية وأكثرها انتشارا في العالم، تأسست في مدينة نيويورك عام 1843 على يد مهاجرين يهود من ألمانيا، وتتخذ من الشمعدان اليهودي شعارا لها. ساهمت في تأسيس مستعمرات يهودية صغيرة بفلسطين في وقت مبكر، وسخّرت جهودها للدفاع عن وجود اليهود بفلسطين ولعولمة خطابهم الصهيوني. وكغيرها من المنظمات الماسونية فإنها تقدم أنشطتها تحت غطاء خيري وثقافي، وتستقبل دوريا كبار الشخصيات لإلقاء كلمات على منابرها، مثل الرئيس الأمريكي دونالد ريغان الذي زار مقرها في واشنطن خلال حملته الانتخابية عام 1980.
5- نوادي الليونز Lions: وتعني الأسود (جمع أسد) وهي تتخذ من من الأسد شعاراً لها، ويُعتقد أن الأسود دلالة على حراس الهيكل، لكن البعض يرى أن الاسم مشتق من الأحرف الأولى للعبارة التالية liberty intelligence our nations safety، وقد تأسست على يد ملفن جونز عام 1915 لتكون بمثابة نوادٍ اجتماعية لنخبة المجتمع، ومن الملفت أنها لا تقبل طلبات الانتساب بل يرسل قادتها عروضهم لمن يرونه مناسبا لأفكارهم وتوجهاتهم كي ينضم إليهم.
6- نوادي الروتاري: تعني هذه الكلمة الدوران، في إشارة إلى تناوب عقد بعض الاجتماعات في بيوت الأعضاء ومكاتبهم. وقد تأسست هذه المنظمة على يد المحامي الأمريكي بول هارس عام 1905 ولها فروع حول العالم، وبما أنها تنفي عن نفسها الانتماء للماسونية فقد تمكنت من اختراق الدول التي تحظر الماسونية كالدول العربية مثل مصر، وهي تستقطب أيضا نخبة المجتمع كالسياسيين والفنانين، وتقدم لهم خدمات ترفيهية وتثقيفية إلى درجة أنها رحبت عدة مرات بتقديم محاضرات دينية لبعض “الدعاة الجدد” في القاهرة.
تأسس نادي روتاري مصر الجديدة عام 1954 ويعد من أقدم النوادي في المنطقة وما زال يضم نخبة المجتمع المصري
7- محفل برنس هال: أسسه الضابط الأميركي من أصل أفريقي برنس هال عام 1775 بانضمامه إلى أحد المحافل العسكرية الإنجليزية، وذلك بسبب رفض الماسون الأميركيين البيض لانضمام السود إليهم. وبعد استقلال الولايات المتحدة توسع هذا المحفل وأصبح منظمة بذاتها تتبعها محافل أخرى للأميركيين الأفارقة.
8- سيوتس: هو ناد ماسوني أنشئ في سان فرانسيسكو عام 1905، وجميع أعضائه حاصلون على درجة الأستاذ الماسوني، وتعرف محافله باسم الهرم، وبالنظر إلى شعاره يمكن اكتشاف صورة رأس بافوميت والشمس بين قرنيه.
النوادي الاجتماعية الفرعية بالتوازي مع تأسيس المنظمات الماسونية المذكورة أعلاه، والتي تنتشر في شتى أنحاء العالم وتقدم، ولكي تستوعب الماسونية أكبر قدر ممكن من المجتمع في محافلها، انبثقت عنها عشرات الجعيات والنوادي الفرعية التي تحتوي كافة شرائح المجتمع وتقدم أنواعا مختلفة من الخدمات وتلبي معظم الاهتمامات، ونذكر منها على سبيل المثال:
الكلية العظمى لطقوس الولايات المتحدة: مخصصة لدراسة الطقوس القديمة للماسونية.
حلقة مراسلي التيجان الأربعة: جمعية للدراسات الماسونية مكونة من الأساتذة الماسون ذوي الاهتمامات الفكرية والأدبية.
جوقة الشرف: جمعية للمحاربين القدماء من الشراينرز.
أندية منتصف الليل: صناديق لرعاية الأسر الماسونية في حالة موت معيلها.
نظام ديسومز: جمعية مخصصة للرجال الصم من أقارب الأساتذة الماسون.
جمعية محبي الحقيقة: مخصصة لدراسة الفلسفة والتاريخ الماسونيين.
النظام الملكي للمهرجين (جيسترز): منظمة يختار أعضاؤها من بين الشراينرز وتتخذ طابعا ترفيهيا.
نظام كيتزالكواتال: جمعية خاصة بالشراينرز المهتمين بالأساطير المكسيكية، وتقام بعض طقوسها خلال الحج إلى أهرامات المكسيك.
النادي الماسوني العالمي للدراجات النارية: يسعى لاستقطاب الشباب من محبي ركوب الدراجات النارية.
نظام النجمة الشرقية: تأسس عام 1850 وهو يضم الرجال والنساء معا، ومع أنه يتخذ من النجمة الخماسية شعارا له (وهي ذات رمزية شيطانية) فإنه يُعلن أن نظامه الأساسي مستمد من الإنجيل، مع أنه يستقبل المؤمنين بأديان أخرى.
محفل قوس قزح للفتيات في أوكلاهوما (Sorcha A. Hazelton)
النظام العالمي لفتيات قوس قزح: جمعية تأسست عام 1922 في أمريكا وتضم في عضويتها الفتيات من عمر 12- 21 سنة فقط، وهي جمعية تحظى برعاية نظام النجمة الشرقية.
النظام العالمي لفتيات أيوب: مخصص للبنات من عمر 10- 20 سنة فقط.
نظام دي مولاي: جمعية خاصة بالفتيان من عمر 12- 21 سنة، تأسس عام 1919 وهو يحمل اسم آخر أستاذ أعظم لفرسان الهيكل.
المحفل المحترم لحقوق الإنسان: تأسس في فرنسا عام 1893 ليكون أول محفل فرنسي مختلط يسمح بعضوية النساء.
نظام الناسجات: تأسس في هولندا في الثلاثينيات من القرن العشرين لاحتواء السيدات الماسونيات.
النظام المصري القديم لأميرات شارمخو: جمعية تضم السيدات من عائلات الشراينرز.
بنات المقنع: أخوية خاصة بقريبات أعضاء الغروتو في أمريكا.
بنات النيل: أخوية خاصة بقريبات الشراينرز، ويقع مقرها في سان فرانسيسكو.
جاء في منشور صادر عن مؤتمر الشرق الأعظم الفرنسي عام 1904 “إن آلاف المواطنين يترددون على المحافل للتباحث في شؤون الحياة وللدفاع عن الأفكار التي تبثها المحافل في وسائل الإعلام واللقاءات السياسية، وهكذا يتكون الرأي العام وتوجه الانتخابات، ومن ثَم يصبح البرلمان خاضعا لنا، وهكذا يجب أن تكون الديمقراطية”.
الماسونية في العالم الإسلامي سنستعرض نماذج لأهم المناطق التي تغلغلت فيها الماسونية في عالمنا الإسلامي، مع التأكيد بأن هناك مناطق أخرى لا يتسع لها المقال.
1- الدولة العثمانية
بدأ التغلغل الماسوني في العالم الإسلامي رسميا مع تأسيس أول محفل ماسوني في الدولة العثمانية سنة 1721، وذلك بمنطقة غالاتا سراي في إسطنبول، ثم توالى تأسيس المحافل واستقطاب النافذين والمفكرين إليها.
في عام 1907 أسس المحامي اليهودي “عمانوئيل قره صو” محفل سالونيك (وهي مدينة تقع في اليونان حاليا) بالتعاون مع الماسونية الإيطالية والشرق الأعظم الفرنسي، ويؤكد كثير من المؤرخين أن هذا المحفل عمل على إزاحة السلطان عبد الحميد الثاني بسبب رفضه هجرة اليهود إلى فلسطين. حيث أقنع “قره صو” رجال اتحاد تركيا الفتاةبالانتماء إلى الماسونية لحمايتهم من جواسيس السلطان، وقد أسسوا بالفعل جمعية الاتحاد والترقي التي أجبرت عبد الحميد على إعادة العمل بدستور سنة 1876، ثم خلعته عام 1909 لتعين محمد رشاد مكانه.
عمانوئيل قره صو يبلغ السلطان عبد الحميد الثاني بقرار خلعه عام 1909
في السنة نفسها أنشئ 12 محفلا جديدا يقودها يهود الدونمة الذي يظهرون الإسلام، وأسس الأمير عزيز حسن “محفل الشرق الأعظم العثماني” مع وصول عدد المحافل إلى 65، وأصبح وزير الداخلية طلعت بك الرئيس الأعظم لهذا المحفل، وأصبح من الشائع بين موظفي الحكومة وضباط الجيش أن الترقي والنفوذ بات مرتبطا بالانتساب للمحافل، كما كان للنواب في مجلس المبعوثان محفل خاص اسمه “محفل الدستور” وكان من أعضائه وزير المالية اليهودي جاويد بك.
نفى كثير من الغربيين علاقة الماسون بالمؤامرات ضد عبد الحميد وإسقاط الخلافة، لكن الدكتور إيلي خضوري عثر في سنة 1974 على إحدى وثائق الخارجية البريطانية التي أرسلها السفير البريطاني في إسطنبول جيرارد لوثر عام 1910 إلى وزير خارجيته يشرح فيها دور اليهود والماسون في المؤامرة.
وبعد إسقاط الخلافة تماماً واعتلاء مصطفى كمال أتاتورك -الذي كان عضوا في محفل فيدانا ويُعتقد أنه من يهود الدونمة- سدة الحكم في تركيا عام 1923، بدأت عملية انتزاع الهوية الإسلامية من البلاد بإغلاق الزوايا الصوفية والكثير من المساجد ومنع الأذان بالعربية واعتماد الحروف اللاتينية للغة التركية وحظر الحجاب في أماكن كثيرة.
وفي عام 1936 أغلقت المحافل أبوابها وسلّمت ممتلكاتها إلى “بيوت الشعب” التي أنشأها حزب الشعب الجمهوري الحاكم “بهدف إنهاض الروح العلمانية في تركيا”، على اعتبار أن مهمتها اكتملت بإسقاط الخلافة ولم يعد لها أي طموح سياسي، ولكن يقول البعض إن أتاتورك هو الذي أغلقها خشية تدخل الغرب في حكومته من خلالها. وعلى أي حال فقد كان عدد من كبار وزرائه من الماسون، ولايزال أتاتورك حتى اليوم هذا يحظى بتمجيد الماسون، ففي العاشر من نوفمبر 1993 قام الماسون بزيارة جماعية لضريحه وكتب أحد أساتذتهم ويدعى “أونده أقطامش” في دفتر التشريفات ما يلي: “سوف لن ننتهك علمنا وكتابنا والمبادئ التي نعتبرها مقدسة، والعملية التي بدأت بهاتاي سنواصلها دون أن ننسى الموصل وكركوك والجزر الاثني عشرة. إننا حاضرون للتضحية بأرواحنا. ارقد هنيئاً”. علما بأن هاتاي هي منطقة لواء الإسكندرون السوري الذي اغتصبه الكماليون من سوريا، أما الجزر فتقع في بحر إيجة وتتبع لليونان، في حين يسعى الانفصاليون الأكراد بدعم من الغرب وإسرائيل لفصل الموصل وكركوك عن العراق.
أعضاء المحفل التركي الأكبر يحتفلون بمرور 90 عاما على تأسيس المحفل بزيارة ضريح أتاتورك (mason.org.tr)
وبعد 13 سنة من التوقف الظاهري عادت الماسونية التركية للنشاط سنة 1948 بالتزامن مع إعلان دولة إسرائيل على أرض فلسطين، ورصد باحثون أسماء أكثر من 1900 ماسوني ضمن الشخصيات البارزة في تلك الفترة وعلى رأسهم سليمان ديميريل الذي عمل رئيسا للوزراء سبع مرات قبل أن ينتخب رئيسًا للجمهورية، ولعبت الماسونية دورا واضحا في تعزيز علاقة تركيا مع إسرائيل، إلى أن تمكن حزب العدالة والتنمية من تقليص هذا الدور تدريجيا منذ وصوله للحكم عام 2002.
2- مصر
من جهة أخرى، يرجح مؤرخون أن أول ظهور للماسونية في البلاد العربية تجسد في محفل إيزيس بالقاهرة الذي أنشئ عام 1798 إبان حملة نابليون على مصر، ثم تبعه تأسيس محفل ممفيس عام1838 ، وكانت المحافل المصرية تتنوع في تبعيتها للمحافل والشروق الإنجليزية والفرنسية والإيطالية ويتحدثأعضاؤها بلغات أجنبية، وفي عام 1868 تقرر إنشاء محفل نور مصر ليكون محفلا وطنيا، كما تأسس المجلس العالي ليكون بمثابة الشرق الأعظم الوطني على طريقة ممفيس.
بعد ذلك بثلاث سنوات أسس تسعة من كبار الماسون مجلس أعلى على الطريقة الاسكتلندية، ثم تم توحيد المحافل والمجالس جميعا تحت مظلة الشرق الأعظم الوطني المصري سنة 1876 مع أن رئيسه كان إيطاليًا واسمه “سوليتوري زولا”. ثم انتخب الخديوي توفيق باشا رئيساً للمحفل بعد 11 سنة، وتصاعد دور المحافل في السياسة والفكر حتى انضمت لها نخبة الحركات الإصلاحية بما فيها الإسلاميون، وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني الذي مازالت رسالة انضمامه للمحفل محفوظة في إيران، حيث أسس بنفسه لاحقا محفلا تابعاً للشرق الأعظم الفرنسي، ويؤكد مؤرخون أن هدفه من ذلك كان مناهضة الاحتلال الإنجليزي، وأنه انسحب من الماسونية كلها فيما بعد برسالة ينتقد فيها انتهازية أعضائها وقبل أن يكتشف صلاتها باليهود.
يقول المؤرخ العراقي علي الوردي إن الماسونية في مصر تختلف من حيث مكانتها الاجتماعية عنها في البلاد العربية الأخرى، فكانت تحظى بالاحترام الشعبي لانتماء الكثير من الأمراء والباشوات ورجال الدين إليها، أما في الشام والعراق فكانت بمثابة تهمة وشتيمة، مما دفع جرجي زيدان لتأليف كتابه “تاريخ الماسونية العام” للدفاع عنها.
3- الشام
وفي بلاد الشام، ظهر أول محفل ماسوني في بيروت سنة 1862 تحت رعاية الشرق الأعظم الاسكتلندي وعُرف باسم شرق فلسطين، وبعد ست سنوات تأسس “شرق لبنان” برعاية الشرق الأعظم الفرنسي، ثم أقيمت محافل عديدة في دمشق وحمص وحلب وعينتاب والإسكندرونة وأنطاكية، وكان معظمها تابعا للشرق الأعظم الإيطالي. ويقول جرجي زيدان إن الأمير عبد القادر الجزائري هو أول من أدخل الماسونية إلى دمشق بتأسيس محفل سورية.
المحفل الماسوني بدمشق أثناء الاحتلال الفرنسي في منتصف الثلاثينيات يضم كبار رجال الدولة وعلى رأسهم رئيسا الحكومة جميل مردم بك وعطا الأيوبي والمدعي العام حنا مالك
ولم يأت عام 1923 إلا وقد بلغ عدد المحافل في سورية ولبنان وفلسطين 30 محفلاً تضم نحو خمسة عشر ألف ماسوني، وتنتمي إلى خمسة شروق دولية، وبعد الاستقلال أصبح بعضها يتبع محافل أميركية. وكان من أبرز أعضاء تلك المحافل بدر الدين الشلاح وفارس الخوري وأديب الشيشكلي وفوزي سلو، وقد طالب القطب الأعظم محمد سعيد (حفيد عبد القادر الجزائري) بأن يستقل المحفل الأكبر السوري العربي عن التبعية للخارج عام 1951، ومن الملفت أن بعض تلك المحافل كان يتخذ أسماء إسلامية مثل أويس القرني وخالد بن الوليد، لكن هذا كله لم يكن كافيا لإقناع الناس ببراءة الماسونية، إلى أن اتُخذ قرار حل كل المحافل في سورية في عصر الحكم البعثي عام 1965.
كانت المحافل تؤيد سلطات الاحتلال أينما وجدت، فمع دخول الفرنسيين إلى الجزائر دعا الماسون فيها سنة 1834 إلى نشر الأفكار الفرنسية والعمل على “بعث نوع من الوحدة العائلية لتكوين شعب فرنسي جديد”. وكذلك الحال في لبنان حيث قرر المؤتمر العام للمحافل الماسونية المنعقد في بعلبك سنة 1924 “التعاون مع سلطات الانتداب”.
في عام 1964 أغلقت الحكومة المصرية جميع المحافل الماسونية في مصر، ويقول المؤرخ أحمد فؤاد عباس إن التحقيقات كشفت أن النادي الماسوني الإنجليزي سبق أن هرّب إلى لندن جميع سجلاته من عام 1952، لكن هذا لم يمنع التوثق من ارتباط النادي بإسرائيل حيث كانت جميع مقتنياته تتسم بالطابع البريطاني-الإسرائيلي. وفي السنة نفسها كشفت مجلة “آخر ساعة” القاهرية أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة سبق لها أن طلبت من الجمعيات الماسونية التسجيل لدى وزارة الشئون الاجتماعية والالتزام بالقانون فرفضت، وأن العراق أقدمت إثر ذلك على إلغاء هذه الجمعيات وتجريم أعضائها عام 1958، ولكن تأخر التنفيذ في مصر بضع سنين، ثم لحقت بهما معظم الدول العربية والإسلامية باستثناء لبنان.
الماسونية والأديان
في خطابها المُعلن للناس، تتبنى الماسونية موقفا ليبراليا يساوي بين كل الأديان، ففي كتابه العقيدة والأخلاق يقول قطب الماسونية ألبرت بايك “إن المسامحة تعني أن لكل إنسان الحق عينه في التعبير عن رأيه وإيمانه؛ وإن الليبرالية تعني أنه طالما لا يمكن لأي إنسان أن يدعي امتلاك الحقيقة (…) فينبغي أن يشعر بأن الآخرين يمتلكونها أيضا ولو كان لهم رأي مضاد”. وقد مرّ معنا أن كبار مؤسسي الليبرالية كانوا أعضاء في المحافل الماسونية.
وتحظر الماسونية في دساتيرها مناقشة السياسة والدين في المحافل، وتشترط على الأعضاء أن يكونوا مؤمنين بدين ما –باستثناء المحافل الفرنسية التي ترحب بالملحدين- وهي تعتمد كتابه المقدس الخاص به عندما يُطلب منه القسَم. لكن جميع المؤلفين الذين كتبوا عن الماسونية بعد انشقاقهم عنها أكدوا أن العضو يكتشف بعد ترقيه أن الدين الوحيد المُعتمد هو الثيوصوفية اليهودية (القبالاه)، فما إن يصل إلى الدرجة الثامنة عشرة في الطقس الاسكتلندي أو الدرجة الرابعة في طقس يورك حتى يصبح القسم على التوراة وحدها. وإذا نجح في الارتقاء إلى أعلى الدرجات فسينتهي الأمر بالماسوني إلى عبادة الشيطان.
لذا تصدّى المسلمون والكاثوليك للماسونية بشدة، في حين نجد تقاطعا في المصالح بين الماسون وأديان أخرى كالبوذية والهندوسية والبروتستنتية، مع أن هذا التوافق لا يظهر لدى جميع رجال الدين، وفيما يلي ملخص لأهم المواقف الدينية من الماسونية:
1- موقف الإسلام:
قام المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بدراسة هذه المنظمة وأصدر في عام 1978 بيانا مطولا جاء فيه أن أعضاء الماسونية المغفلين يُتركون أحراراً في ممارسة عباداتهم الدينية للاستفادة من توجيههم بما يحقق مصالح المنظمة، في حين يرتقي الملحدون في درجاتها العليا، وأنها ذات أهداف سياسية ولها في معظم الانقلابات أصابع ظاهرة أو خفية، كما أنها يهودية في جذورها وإدارتها، وتسعى لهدم الأديان جميعاً ولا سيما الإسلام.
وعليه فقد أفتى المجمع بأن “من ينتسب إليها على علم بحقيقتها وأهدافها فهو كافر بالإسلام مجانب لأهله”.
وفي عام 1979 أصدرت جامعة الدول العربية قرارا ينص على اعتبار الماسونية حركة صهيونية، وأنها تساعد على تدفق الأموال على إسرائيل من أعضائها مما يدعم اقتصادها ومجهودها الحربي ضد الدول العربية.
وفي عام 1984 أصدر الأزهر فتوى جاء فيها أن المسلم لا يمكن أن يكون ماسونياً لأن ارتباطه بالماسونية انسلاخ تدريجي عن شعائر دينه ينتهي بصاحبه إلى الارتداد التام عن دين الله.
2- موقف الكاثوليكية:
من المعروف تاريخيا أن فرسان الهيكل اصطدموا مع الفاتيكان مما أدى إلى تفريق جماعتهم وإعدام قادتهم في عام 1310م على يد البابا كليمنت الخامس، إلا أننا نقلنا في مقال “فرسان الهيكل” عن كتاب “المُلك الإلهي” أن الأسرة الميروفنجية -المنحدرة من نسل داوود- تغلغلت إلى داخل الفاتيكان قبل ذلك ونجحت في تعيين ستة بابوات من أصول ميروفنجية، كان أولهم البابا سلفستر الثاني سنة 999م، وآخرهم هو أوربان الثاني الذي أعلن بدء الحروب الصليبية عام 1096 باسم الكاثوليكية، ولا ندري إن كان قرار كليمنت الخامس بالقضاء على فرسان الهيكل قد جاء بعد تخليص الكنيسة من التغلغل اليهودي فيها أم أنه كان إجراء ظاهريا بضغط من الملك الفرنسي فيليب الرابع.
على أي حال، اصطدمت الفاتيكان أيضا بالماسونية (وريثة فرسان الهيكل) بعد فترة قصيرة من تأسيسها، حيث أصدر البابا كليمنت الثاني عشر عام 1738 مرسوما جاء فيه: “أفادتنا الأنباء عن تأليف جمعيات سرية تحت اسم فرماسون وأسماء أخرى شبيهة بهذا الاسم. ومن خواصها أنها تضم إليها رجالاً من كل الأديان والشيع، يرتبطون فيما بينهم بروابط سرية غامضة، وحسبنا شاهداً على أن اجتماعاتها الخفية هي للشر لا للخير، وأنها تبغض النور، وإذا كان فكرنا في الأضرار الجسيمة التي تنجم عن هذه الجمعيات السرية رأينا منها ما يوجب القلق، سواء كان لسلامة الممالك أم لخلاص النفوس، ومن بعد أخذ رأي إخوتنا الكرادلة، ولعلمنا التام، وقوة سلطتنا وحكمنا بأن هذه المنظمات، والجماعات المعروفة باسم الفرماسون يجب رذلها ونفيها. وبناءً عليه نرذلها ونشجبها بقوة هذا المنشور الذي يريد أن يكون مفعوله مخلداً”.
في عام 1917 أصدر الفاتيكان قرارا آخر بالحرمان الكنسي لمن ينضم إلى الماسونية، وفي عام 1966 حاول البابا بولس السادس استمالة الماسون عبر وعدهم برفع الحرمان عنهم في حال الانشقاق عنها “مهما كان حجم الفضائح والضرر الذي تسببوا به”، تقرر السماح للأساقفة برفع الحرمان عمن يرونه مناسباً من الماسون ضمن شروط وحالات محددة.
في عام 1974 حاول الماسون بشدة إقناع الفاتيكان بتغيير موقفها، وبعد ست سنوات من الاجتماعات والمفاوضات أصدرت الفاتيكان تقريرا يؤكد استحالة التقاء الطرفين على عقيدة واحدة، وجاء في التقرير أن الماسونية مذهب “ربوبي” ينكر إمكانية وجود الوحي الإلهي. وفي عام 1981 أعاد مجمع العقيدة والإيمان في الفاتيكان التأكيد على عدم إلغاء الحرمان الكنسي للماسون.
الفاتيكان
ما زال الموقف الرسمي المعلن للفاتيكان يصر على عدم التلاقي مع الماسونية، لكن هذا لم يمنع بعض الكرادلة من الانضمام سرا أو علنا للمنظمة وسط ترحيب الماسون. ومع ذلك يعتقد بعض المؤرخين والباحثين أن هذا الموقف المعلن لا يعني بالضرورة عدم وجود علاقة سرية بين الفاتيكان والجمعيات السرية، فمن المعروف أن خزائن الفاتيكان تُعد من أكثر الأماكن سرية في العالم، لاحتفاظها بوثائق لا يعلم مضمونها إلا النخبة هناك، وهذا وحده يكفي لإقناع الكثيرين بأن الفاتيكان لا تختلف في آلية عملها كثيرا عن الجمعيات السرية، فكما أن الماسونية لا تُطلع معظم أعضائها ممن لم يرتقوا إلى أعلى الدرجات على أسرار عقائدها، فربما يجهل معظم أتباع الفاتيكان الذين يتجاوز عددهم 1.13 مليار شخص حول العالم أن النخبة في الفاتيكان تخفي عنهم شيئا ما.
ويستشهد المشككون بالتقارب الذي حدث بين الفاتيكان والصهيونية، لا سيما بعد إعلان البابا بولس السادس عام 1965 براءة اليهود من دم المسيح، ولقائه مجموعة من أعضاء نادي “الروتاري”، وهو أمر تكرر أيضا مع البابا الحالي فرانسيس، مع أن قرارا كاثوليكيا سابقا كان ينص على أن “المسيحي الذي ينضم لنادي الروتاري يتعرض إيمانه للشبهة”.
وثيقة انضمام رئيس الوزراء الإيطالي السابق برلسكوني للمحفل P2
ومن أهم المواقف التي قد تدل على وجود علاقة سرية بين الطرفين، ما ذكرته صحف وكتب وأفلام وثائقية كثيرة عن فضيحة تورط الماسونية مع المافيا وأخطبوط الفساد الإيطالي في مقتل مدير بنك أمبروزيانو الإيطالي روبرتو كالفي عام 1982، الذي وُجد مشنوقا ومتدليا من جسر في لندن بطريقة تحمل رموز الماسونية، ولكن الملف أقفل قضائيا على أنه انتحار، حيث يقول المشككون إن أصل الجريمة يعود إلى محاولة البابا يوحنا بولس الأول فتح تحقيق في قضايا فساد ببنك الفاتيكان منذ بداية توليه المنصب عام 1978، وتقديمه قائمة بأسماء أكثر من مئة عضو في كنيسته للاشتباه بعضويتهم في محفل “بروباغاندا-2” P2 الماسوني الإيطالي، وهو الأمر الذي تسبب كما يبدو بالعثور على البابا نفسه ميتا (وبالأحرى مقتولا) في فراشه بعد 33 يوما من تنصيبه فقط، حيث تم تحنيطه فورا دون إجراء فحص طبي، ليتولى بعده يوحنا بولس الثاني كرسي البابوية، ويتم إغلاق ملف التحقيقات بشأن تغلغل الماسون في الكنيسة، وتبدأ سلسلة اغتيالات واعتقالات بشأن كل من كان يحاول ملاحقة الفضيحة من القضاة والمسؤولين والصحفيين والمصرفيين، ووصولا إلى مقتل كالفي نفسه وتعليقه أمام كل سكان لندن، دون أن يتمكن البابا -وربما دون أن يحاول- تخليص كنيسته وطائفته كلها من الفساد الذي قيل إن له علاقة بتجارة أسلحة وتمويل حروب. [المزيد من التفاصيل في كتاب: النشأة الدموية].
3- موقف البروتستنتية:
سبق أن أوضحنا في بحث المسيحية المتصهينة العلاقة الوطيدة بين اليهودية وبين البروتستانتية المتمردة على الكاثوليكية، لكن بعض المؤرخين (كما نجد في كتاب الماسونية للسقا أمينى وأبو حبيب) أكدوا أن مارتن لوثر -أحد مؤسسي البروتستنتية- كان ماسونيا، وأنه كان على علاقة وثيقة باليهود.
لكن البروتستنتية تظل مع ذلك كنيسة مسيحية تؤمن بالثالوث وترفض العقائد الوثنية التي يخفيها الماسون وتنتهي بهم إلى عبادة الشيطان، ففي اجتماع سنوي للمجمع المعمداني الجنوبي عام 1993 تم بحث موقف الكنيسة من الماسونية، ومع أنه اعترف بقيمة أعمالها الخيرية فقد أكد وجود 8 اختلافات جوهرية بين الماسونية والمسيحية، وأهمها استخدام الماسونية مصطلحات مسيئة تجاه الله، واستخدامها للأيمان الدموية التي يحظرها الكتاب المقدس، واعتقادها بأن الخلاص يتحقق عبر الأعمال الصالحة فقط وليس بالإيمان بالمسيح.
ويجدر بالذكر أن جانيت زوجة جوناس التي ورد ذكرها في هذا المقال عند استعراضنا لكتاب “تبديد الظلام” كانت سيدة بروتستنتية متدينة، وهذا لم يمنعها من إقناع زوجها المتحدر من سلالات مؤسسي الماسونية -وفق ادعاء المؤلف- بترك الدين اليهودي وفضح المؤامرة.
المؤامرة.. نظرية أم حقيقة؟ اعتمدت الماسونية طوال قرون على السرية وملاحقة كل من يكشف أسرارها، فهناك روايات عدة عن حالات اغتيال لمؤلفين وصحفيين حاولوا تسريب وكشف مؤامراتها مثل الروسي شيريب سبيريدوفيتش صاحب كتاب “حكومة العالم الخفية”.
ومع ذلك، بدأت الماسونية في القرن العشرين بانتهاج سياسة الانفتاح التدريجي، ولا سيما في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات التي أتاحت للجميع البحث والنشر بأقل قدر من القيود التي عرفها الإنسان في تاريخه، فباتت أسرار الماسونية وتاريخها الغامض مادة مثيرة لفضول الباحثين، ما دفع بأقطاب الماسونية -كما يبدو- إلى اعتماد سياسة الضخ المضلل لكمية هائلة من المعلومات التي يختلط فيها الحق بالباطل، حتى يصعب على الباحث تجريد الحقيقة وتوثيقها.
في الوقت نفسه، تسمح بعض المحافل للصحفيين بحضور بعض اجتماعاتها وإجراء مقابلات مع أعضائها لإظهار “الوجه الخيري” للمنظمة، كما افتتحت بعض المحافل متاحف ماسونية لاستقبال الزوار وتنظيم جولات سياحية فيها، في حين أطلقت هوليود وكبرى وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة عددا هائلا من الأفلام السينمائية والوثائقية والكتب والمجلات التي تُظهر الماسونية في صورة جمعية ثقافية وإنسانية لعبت دورا في حفظ أسرار البناء وحماية كنوز الحضارات القديمة فضلا عن تأسيس الولايات المتحدة على أسس إنسانية عظيمة.
ولا تتعرض هذه الأعمال للمؤامرات التي يوثقها الباحثون في خفايا الماسونية، وفي حال تم طرح شيء منها من قبل الصحفيين في إحدى اللقاءات فسرعان ما يتم نفيها بشيء من السخرية مع وصم من يؤمن بها بالخضوع لعقدة “نظرية المؤامرة”.
ويجدر بالذكر أن الكثير من المواقع والكتب والأفلام التي تفضح مخططات الماسونية و”المتنورين” لا تخلو من المبالغة التي قد تصل حد السخف، وهذا ما يسلط الضوء عليه منكرو المؤامرة، في حين تدور معظم الأبحاث والروايات التي تنفي المؤامرة حول الدوافع النفسية لدى من يؤمنون بوجودها، فالاتهامات تبدأ بالحديث عن شعور بالنقص يدفع البعض للبحث عن جهات كبرى تنشغل بالتآمر ضده أو ضد مجتمعه، وتصل إلى الحديث عن الإصابة بمرض البارانويا “جنون الارتياب” الذي يدفع المصاب للإحساس الدائم بالتعرض للملاحقة والاضطهاد. ومع أن هذه الاتهامات صحيحة في كثير من الحالات، إلا أن نفي المؤامرة يتطلب تحقيقا علميا في صحة وقوع التآمر بالفعل من حيث كونه حدثا تاريخيا ودون هدر الوقت والجهد في البحث عن الدوافع الأيديولوجية لمثبتي المؤامرة وصحتهم النفسية، فمن السهل بالمقابل اتهام منكري المؤامرة باتهامات مماثلة مع عكس الاتجاه.
أمبرتو إيكو
تعد روايات المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو نموذجا “راقيا” للأعمال التي نجحت في تسخيف الاعتقاد بوجود المؤامرة، فهو يستند فيها إلى خلفيته الموسوعية لتاريخ الأديان والصراعات السياسية في أوروبا، ثم يذهب بالقارئ إلى إنكار المؤامرة واعتبارها مجرد هوس.
علما بأن إيكو أقر بأنه اختار الإلحاد بعد إنهاء دراسته للدكتوراه وهو ما زال في العشرينات من عمره، وذلك في مقابلة لصالح مجلة تايم بتاريخ 5 يونيو 2005.
وهناك نمط آخر من المؤلفين والناشطين يحاول إقناع الناس بسخافة فكرة وجود مؤامرة عبر السخرية اللاذعة، فنجد مثل هذا الخطاب كثيرا على ألسنة مشاهير كوميديا الإلقاء Stand-up Comedy في أميركا، كما نجده في أعمال الكاتب الأمريكي روبرت أنطون ويلسون الذي أنجز عددا كبيرا من الكتب والمحاضرات والمقابلات الصحفية لتقديم فكرة المؤامرة (التي ينكرها) في إطار ساخر.
وعندما سأله المذيع ريتشارد ميتزجر عن رأيه في حقيقة “المتنورين”، قال ويلسون بأسلوبه الساخر إنه بعد دراسته لهذه الجماعة طوال ثلاثين سنة فإنه يرى أنهم مجموعة صغيرة من المفكرين الأحرار والمصلحين الديمقراطيين تشكلت داخل الماسونية، ثم استخدمت الماسونية غطاءً للانقلاب على ملوك أوروبا والبابا، ويضيف أنه سعيد جدا بنجاحهم في ذلك، وأنه يتمنى أنهم كانوا قد أكملوا المهمة وتخلصوا من البابا نهائيا. [كتاب Disinformation للمؤلف Richard Metzger، 2011].
إذن فهو لا ينكر المؤامرة فعلا، بالرغم من دأبه على تسخيف المؤمنين بها، ويتمنى مع ذلك أن تحقق كل أهدافها بالقضاء على الأديان.
وبما أن الكثير من المتعلقة بأنشطة الجمعيات السرية هي أصلا طي الكتمان، فمن الصعب إثبات نسبة الكثير من الأحداث التاريخية لها، كما يصعب أيضا إثبات نسبة كثير من الوثائق المسربة لتلك الجمعيات أو لأعضائها طالما كانوا ينكرونها. ومع ذلك فإن جهود بعض المحققين لم تذهب سدى في إقناع قرائهم بصحة الربط بين الأحداث والوثائق والتصريحات وتلك الجمعيات السرية، لكن الجزم يتطلب في رأينا ما هو أكثر يقينا وشمولا من التعلق بالجزئيات، وهذا شأن الوحي المنزل من السماء.
كتاب “الدستور السحري” Codex Magica للمؤلف الأميركي تيكس مارس، هو من المراجع المهمة لأسرار الماسونية وطقوسها ورموزها، إلا أن المؤلف يندفع فيما يبدو كثيرا أثناء رصده لمظاهر انتشار تلك الرموز في المجتمع، ويمكن للقارئ أن يلاحظ المبالغة في عشرات الصور التي ضمّنها في كتابه.
للاطلاع على نسخة إلكترونية اضغط هنا.
لذا فإن من يصل إلى يقين عقلي ووجداني بصحة نسبة القرآن الكريم إلى الله تعالى، سيجد في ثنايا الوحي دلائل كثيرة على صحة نسبة التآمر إلى بني إسرائيل وسعيهم للإفساد في الأرض، بعد إخفائهم للوحي التوراتي وكتمان ما فيه من الهدى عن البشر، بل بث نقيضه لتضليلهم.
ونظرا لضيق المساحة واضطرارنا للإيجاز، فإنا ننصح من أراد التوثق أن يعود إلى كتابَي الباحث المعاصر بهاء الأمير: كتاب “الوحي ونقيضه” الذي يثبت من القرآن الكريم حقيقة وجود المخطط الإسرائيلي، وكتاب “شفرة سورة الإسراء” الذي يستنبط من سورة الإسراء -أو سورة بني إسرائيل- الدليل على أن بني إسرائيل أفسدوا في الأرض مرتين، وأن الثانية منهما هي التي نعيشها اليوم بعلوّهم في الأرض كلها “علوا كبيرا”.
بعد سقوط مخططات “المتنورين” في يد السلطات البافارية، نُشرت عدة كتب مهمة لشرح تفاصيل المؤامرة العالمية، ومنها كتاب اليسوعي الفرنسي أوغستين بيرويل “مذكرات في تنوير تاريخ اليعقوبيون” (1797م)، وكتاب أستاذ الفلسفة في جامعة إدنبره والعالم الرياضي والفيزيائي الاسكتلندي جون روبيسون “الأدلة على وجود المؤامرة” (1798م). ومن الملفت أن روبيسون كان من الماسون الناشطين، حيث زار العديد من المحافل الماسونية في أنحاء أوروبا وفوجئ بوجود مخطط خفي للانقلاب على الحكومات وتدمير الأديان وإشغال الشعوب بحروب طاحنة، ثم تأكدت المؤامرة لديه بظهور وثائق المتنورين على يد حكومة بافاريا، فنشر ما لديه من مشاهدات وأدلة في كتابه، غير آبه بالتهديد والوعيد.
ينشر المجلس الأعلى الماسوني في واشنطن مجلة ماسونية تحت اسم “الطقس الاسكتلندي”، وهي متاحة على الإنترنت مجانا، وسيجد المتصفح فيها صورة مشرقة للماسونية بصفتها جمعية خيرية تقدم نشاطات اجتماعية وإنسانية، مع إرث تاريخي مفعم بالرموز المشوقة لكبار المفكرين والساسة، وطبعا دون أي بعد شيطاني. للاطلاع اضغط هنا.
أهم المراجع جرجي زيدان، تاريخ الماسونية العام، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2012.
أكرم أنطاكي، دراسة “أبناء الأرملة”، موقع معابر، بدون تاريخ.
أندريه برات، المنظمة الماسونية والحق الإنساني، ترجمة جورجيت الحداد، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2008.
محمد علي الزعبي، الماسونية في العراء، معتوق إخوان، 1972.
تبديد الظلام أو أصل الماسونية، عوض الخوري، بدون ناشر، 2002.
عبد المجيد همّو، الماسونية والمنظمات السرية: ماذا فعلت ومن خدمت؟، دار صفحات، دمشق، الطبعة الخامسة، 2009.
محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع.
إبراهيم خليل العلاف، دراسة “الماسونية في تركيا ودورها في الحياة الاجتماعية والسياسية المعاصرة”، مجلة دراسات اجتماعية، بغداد، العددان 3 و4، 1999- 2000.
بهاء الأمير، الوحي ونقيضه.. بروتوكولات حكماء صهيون في القرآن، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2006.
أحمد فؤاد عباس، الماسونية تحت المجهر، جدة، 1988.
محمد بن ناصر أبو حبيب، أثر القوة الخفية الماسونية على المسلمين، بدون ناشر، 1989.
حسين عمر حمادة، شهادات ماسونية، دار قتيبة، دمشق، 1980.
محمد صفوت السقا أمينى وسعدي أبو حبيب، الماسونية، رابطة العالم الإسلامي، 1982.
Christopher Knight & Robert Lomas, The Hiram Key – Pharaohs, Freemasons And The Discovery Of The Secret Scrolls Of Jesus, Barnes & Noble, 1998.
Cyndi Wallace-Murphy & Tim Wallace-Murphy, Rex Deus: The Families of the Grail, Grave Distractions Publications, 2016.
Marilyn Hopkins & Graham Simmans & Tim Wallace-Murphy, Rex Deus: the True Mystery of Rennes Le Chateau and the Dynasty of Jesus, HarperCollins Publishers, London, 2000.
Manly P. Hall, The Secret Teachings of All Ages, H. S. Crocker Company Inc., San Francisco, 1928.
Albert Pike, Morals and Dogma of the Ancient and Accepted Scottish Rite of Freemasonry, 1966.
Michael R. Poll, The Freemasons Key – A Study of Masonic Symbolism, Cornerstone Book Publishers, 2008.
Ethan Harrison, Illuminati Hunter: Adam Weishaupt and the Eye of Horus, 2014.
تتفاوت آراء المنظّرين بشأن تعريف العلمانية تفاوتا كبيرا، ويرجع ذلك في الغالب لزاوية النظر والمعالجة، وفيما يلي ثلاثة تعريفات للعلمانية في أهم الموسوعات الغربية:
معجم أكسفورد: كلمة secular تعني دنيوي أو مادي، أي ليس دينياً ولا روحياً، مثل التربية اللادينية والفن والتربية الموسيقى اللادينية والسلطة اللادينية، والحكومة المناهضة للكنيسة.
دائرة المعارف الأمريكية: العلمانية نظام أخلاقي مستقل مؤسس على مبادئ من الخلق الطبيعي، مستقل عن المظهر الديني أو الفوق طبيعي.
دائرة معارف الدين والأخلاق: العلمانية توصف بأنها حركة ذات قصد أخلاقي منكر للدين، مع المقدمات السياسية والفلسفية، فهي مؤسسة بقصد إعطاء نظرية معينة للسلوك والحياة، وهي تتبع في ذلك المذهب الوضعي الأخلاقي، منذ أن تكفلت بأن تعمل هذه دون الرجوع إلى الألوهية أو الحياة الآخرة، ولهذا فقد كان مطلبها هو تتميم وظيفة الدين خالية من الاتحاد الديني، ولذلك فإنه يجدر بها أن تكون ديناً إنكارياً سلبياً.
إذن فالعلمانية في المنظور الغربي تعني التحرر من الأديان بحكم التطور عبر “السيرورة” التاريخية، واعتبار الأديان مرحلة بدائية لأنها تشتمل على عناصر “خرافية” كالماورائيات والغيبيات، ولا يتم الخلاص من هذه الأعباء إلا عن طريق تحقيق النضج العقلي الذي تحققه العلمنة عبر آلياتها الثقافية والفكرية والإعلامية.
كثيرا ما يحصل اللبس عند القراء العرب، فيلفظون العلمانية بكسر العين بدلا من فتحها، ويعتقدون أنها مشتقة من العِلم، والصحيح أنها مشتقة من العالَم أي الدنيا في مقابل الغيب وكل ما يتعلق بالملكوت. لذا فالكلمة ليست إلا اشتقاقا خاطئا درج على ألسن العرب وصار مصطلحا لازما، وكان يجب أن يقال بدلا منها العالَمانية أو الدنيوية.
تعليقات ابن رشد على كتاب “في الروح” لأرسطو مترجمة للفرنسية
إرهاصات الظهور في أوربا
درج بعض الباحثين على ربط تبلور العلمانية بصفته تيارا فكريا بعصر النهضة الذي يؤرخ لبدايته عادة مع فتح القسطنطينية في عهد السلطان محمد الفاتح سنة 1453م، كما درجوا عادة على القول بأن مساوئ الكنيسة واضطهادها وتاريخها الأسود هي التي أنتجت العلمانية. لكن بدايات الصراع بين الفكر والكنيسة يمكن أن تُعد من آثار ترجمة فلسفة ابن رشد إلى اللغة اللاتينية منذ بدء احتكاك الأوربيين بالمسلمين عقب الحروب الصليبية، كما كان لليهود الذين تغلغلوا في الحركات السرية دور كبير في تأصيل العلمانية.
كان ميشيل سكوت أول من أدخل فكر ابن رشد إلى أوربا في القرن الثالث عشر. ومن المعروف أن ابن رشد تبنى مذهب أرسطو وانبهر به حتى كاد أن يفضّل أرسطو على الأنبياء حين قال “نحمد حمداً لا حد له ذاك الذي اختار هذا الرجل (أرسطو) للكمال فوضعه في أعلى درجات الفضل البشري التي لم يستطع أن يبلغها أي رجل في أي عصر كان”.
تزامن انتقال الفكر الرشدي إلى الغرب مع عاملين: الأول هو الفتح الثقافي الإسلامي والعربي للبلاد الأوروبية، ولم يكن ابن رشد وحده هو الذي يحتل الساحة الثقافية الأوربية بل أعلام كثر. أما الثاني فهو حالة العداء الشديدة التي تزعمتها الكنيسة لكل ما هو عربي وإسلامي إبان الحروب الصليـبية، لذا حاربت الكنيسة الفكر الرشدي وترجمت كتاب “تهافت التهافت” ترجمة محشوة بالتحريف والتناقض والافتراء، ومع أن ابن رشد كان يتبع أرسطو مثل الكنيسة، إلا أن الكنيسة حاربته لكونه مسلما في الأصل.
شعار جامعة بادوفا
وهكذا نشأت حركة تعاطف مع الحضارة الغازية من جانب الراغبين في التحرر من الاحتكار الكنسي للعلم والثقافة، فالكنيسة اضطهدت الفكر الرشدي واعتبرته إلحاديا، بينما رحب المتمردون بهذه الصورة التي رُسمت لابن رشد وفكره واستُخدمت كسلاح مضاد للكنيسة.
احتلت “الرشدية” مقام السيادة في الجامعات الغربية الكبرى مثل جامعة بادوفا في إيطاليا التي أصبحت معقل الرشديين، ثم وجدت لها صدى في الجامعة الباريسية، وصارت الرشدية معياراً للثقافة والتحضر والرقي.
الحقيقة المزدوجة
في أوائل القرن السادس عشر أصبحت الرشدية تسيطر على جميع إيطاليا تقريباً، وأدى ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر إلى انتشار الأفكار المناهضة للكنيسة والعقائد الشائعة، كما استطاع الأفراد أن يمتلكوا نسخاً من الكتاب المقدس ويقرؤوه بأنفسهم. وبدأت الكنيسة تفقد سلطانها على العقول والأفكار.
وهنا نشأت الحقيقة المـزدوجة أو الحقيقة ذات الوجهين، وهي تعني أنه يمكن للشيء أن يكون صادقاً فلسفياً وخاطئاً لاهوتياً أو العكس، وبذلك يصبح الفيلسوف حراً في المجاهرة بآرائه ونتائجه في مجال الفلسفة بحجة أنه فيلسوف حتى لو كانت مخالفة للدين.
فرنسيس بيكون
ثم ظهر في بريطانيا فرنسيس بيكون 1561– 1626م كمدافع عن نظرية الحقيقة المزدوجة، وهي تعني عنده أن ما يثبت بالعقل لا علاقة للإيمان به، وبالنتيجة ساد الاعتقاد بأن الكتاب المقدس شيء، وكتاب الطبيعة شيء آخر.
ولم يكن الفلكي الإيطالي غاليليو 1564– 1642م بعيداً عن هذه النظرية، كما استمات الفيلسوف باروخ سبينوزا 1632- 1677م في الدفاع عنها متدثرا بغطاء دينه اليهودي.
وبالرغم من التناقض الظاهر في هذه النظرية، فقد أصبحت وسيلة للتمويه لدى الكثيرين حتى في العصر الحديث، وكان طه حسين من أوائل العرب الذين تبنوها عندما نشر كتابه “في الشعر الجاهلي”، حيث شكك في وجود بعض الأنبياء مع اعترافه في الوقت نفسه بأنه مقر بكل ما جاء في القرآن الكريم.
ثورة العقل الأوربي
بدأت ثقة الناس تتزعزع في الكنيسة عندما وجه الفيلسوف الإيطالي مكيافلي 1469– 1527م انتقادات فاضحة إلى رجالها الذين يحيون حياة الرذيلة في حين يدعون الناس إلى الزهد والتقشف، ثم تفاقمت نزعة التمرد على يد فريدريك نيتشه 1844– 1900م الفيلسوف الألماني اليهودي الذي نادى بالقضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء لأنه يؤمن بالبطل وبالإنسان الأعلى الذي يجب أن يستعيض بالقوة عن الأخلاق، مستبطنا عقيدة الشعب اليهودي المختار.
مارتن لوثر
تزامنت المبادئ المكيافلية مع ثورة القس مارتن لوثر 1483– 1546م في ألمانيا عام 1518م داخل الكنيسة للإصلاح الديني، فقد جعل لوثر الفرد حراً في قراءة الكتاب المقدس وحراً في تفسيره، وألغى وساطة الكهنـة والأسرار المقدسة التي تحتفظ بها الكنيسة، وجعل الصلة مباشرة بين الله والإنسان الفرد، فتأسس على يديه مذهب البروتستانتية.
ورحبت الطبقة المتوسطة بالبروتستانتية لأنها رأت فيها منفذاً يتيح لها ممارسة الحياة بحرية، وأصبح الكثيرون لا يذكرون الدين إلا يوم الأحد وينهمكون بقية الأسبوع في الحياة الدنيوية.
في هذه المرحلة كان الفلكي كوبرنيكوس 1473– 1543م متردداً في طرح نظريته الجديدة لأنها تهدم نظام الفلك الأرسطي الذي تتبناه الكنيسة، فبدلاً من النظرة التي كانت تعتبر الأرض مهد المسيح وقلب الكون جعلت النظرة الجديدة الشمس مركزاً والأرض مجرد كوكب يدور حولها، فرفض زعيما البروتستانتية مارتن لوثر وكالفن 1509– 1564م هذه النظرية.
جيوردانو برونو
تبنى الإيطالي جيوردانو برونو 1548– 1600م نظرية الفلك الكوبرنيكي ووضع نظريته في “الكون اللامتناهي”، وقال إن الإله هو روح الكون، وإن الإله والطبيعة الجوهرية شيء واحد، وهذه فلسفة قديمة تسمى “وحدة الوجود” تؤمن بأن الإله يتحد مع الكون، فحكمت عليه الكنيسة بالإعدام حرقا، ويعتبره أتباع الجمعيات السرية اليوم (المتنورون أو الإلوميناتي) من رموزهم و”شهدائهم”.
ثم خرج جوليو سيزار فانيني 1585– 1619م بهرطقاته الإلحادية ونفى وجود الإله لكي لا ينسب إليه الشر، فقُبض عليه وأعدم حرقاً في مدينة تولوز بفرنسا. وفي أسكتلندا أنكر جون الأسكتلندي التثليث وألوهية المسيح، وقيل له ذات يوم ألا تذهب إلى الكنيسة؟ فقال ليذهب الإله إلى حبل المشنقة، فذهب هو إلى حبل المشنقة.
وقد قدّر سكرتير التفتيش في إسبانيا لورنتي عدد الضحايا الذين تم إحراقهم بحكم الكنيسة ما بين عامي 1790 و1792م بنحو ثلاثين ألف شخص، مما زاد من كراهية الناس للكنيسة وللأديان جميعا.
تمثال كوبرنيكوس
الحتمية الفلكية الميكانيكية
في النصف الثاني من القرن السادس عشر، بدأت نظرة الإنسان الغربي إلى الكون بالتغير مع شيوع نظرية كوبرنيكوس، فاعتنقها كبلر وغاليليو، ثم أيد الأخير الانفصال التام بين العلم والإيمان، وأنجز الإنجليزي إسحاق نيوتن انتصارات علمية كبيرة بتقديم قانون الجاذبية وقوانين الحركة.
وترافقت هذه النظريات مع اكتشافات علمية كبرى، فاكتشف ليفنهوك 1632– 1723م الكائنات العضوية أحادية الخلية والبكتيريا والحيوانات المنوية، واخُترع الميكروسكوب المركب والتلسكوب، كما اخترع غاليليو الترمومتر، وقدّم تلميذه تورشيلي البارومتر، ثم ظهرت مضخة الهواء والقوة المغنطيسية، وأعلن هارفي اكتشاف الدورة الدموية مع أن ابن النفيس كان قد سبقه إليها.
أدى كل ذلك إلى تغير نظرة الإنسان للكون، وسيطرت النظرة الآلية الميكانيكية على العلماء والفلاسفة حتى أصبح الكون يُشبّه بالساعة، وهكذا تحول الإله في نظر الفلاسفة والعلماء إلى ساعاتي رفيع المقام، بل تخيلوه إلها ساكنا غائبا عن العمل، لأن قوانين الطبيعة والكون أصبحت حتمية فلم يعد للإله دور حسب فهمهم، لكنهم أبقوا مع ذلك على دور الإله الخالق في تكوين الكون بالبداية.
وسيطرت هذه النظرة الآلية لمدة قرنين من الزمن على الفكر الأوربي وسميت بمبدأ الحتمية، وظل النزاع بين الحتمية واللاحتمية قائما حتى ظهرت فيزياء الكم ونظرية هايزنبرغ (اللايقين) في القرن العشرين، حيث سقط مبدأ الحتمية واستعاد الإنسان تواضعه، وأعيد الاعتبار للإيمان بالخالق المُسيّر والمدبر للكون [انظر مقال مصادر المعرفة].
التدرج نحو الإلحاد
يُعتبر فرنسيس بيكون من أبرز الفلاسفة الذين نادوا باعتماد المنهج التجريبي بدلا من المنهج النظري الفلسفي، علما بأنه أخذ معظم مبادئ المنهج من المسلمين في الأندلس ومن كتابات الحسن بن الهيثم. وكان يرى أن الحركة الطبيعية للذرة هي حقاً أقدم قوة في الوجود، وأنه لا يمكن أن تكون لهذه المادة الأولية وقوتها وفعلها أي علة طبيعية فما من شيء يسبق المادة نفسها وكأنها غير محتاجة للإله.
توماس هوبز
أما توماس هوبز 1588– 1679م فرأى أن جوهر الدين لا يقوم على الحقائق، وإنما على خوف الفرد من القوة المجهولة أو خوفه من الموت.
ثم جاء الإنجليزي جون لوك 1632– 1704م وقال إنه لم تبق حاجة للوحي طالما أن الإله أعطـانا وسائـل حسية أكثر يقينـاً لنتـوصل بهـا إلى المعرفة، أما ديفيد هيوم 1711– 1776م فتبنى نزعة الشك على طريقة بعض قدماء الإغريق، وكاد أن يوقع العقل الأوربي في دوامة رهيبة من الشك في كل شيء.
وإلى جانب التجريبيين كان هناك عدد من الفلاسفة العقلانيين، وعلى رأسهم الفرنسي رينيه ديكارت الذي استخدم الشك ليصل به إلى اليقين، ومع ذلك كان إيمانه قاصرا ويشبه إيمان أتباع النظرة الآلية كما يقول بعض الباحثين.
ثم جاء بعده ليبنتز 1646– 1716م وقال إن الوجود مكون من شيء خيالي اسمه “المونادات” وهي خالدة، ما يعني أن العالـم لانهـائي، لكنه كان يؤمن بوجود الخالق.
وتولد من الصراع بين الفلكيين والتجريبيين والعقلانيين ظهور “الدين الربوبي” أو “الدين الطبيعي”، ويسمى أتباعه بالربوبيين، وهم يؤمنون بالله عز وجل، ويرفضون النبوة والوحي والكنيسة. وازدهرت في القرن الثامن عشر بلندن “جمعية البحث الحر المخلص” التي كان معظم أعضائها من المؤمنين بالدين الطبيعي.
فولتير
وفي فرنسا كان دنيس ديدرو وفولتير وجان جاك روسو من أنصار هذه النزعة، مع إيمانهم بوجود إله. وظهر بعدهم الإنجليزي جون ستيوارت مل 1806– 1873م الذي شكك في وجود الإله، ثم انضم إليه الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس 1842– 1910م الذي اعترف مبدئياً بأن مصدر مذهبه في الألوهية ليس النظام في الكون والاتساق فيه، وإنما إحساس شخصي بالحاجة إلى إله.
وسار بهذه الأفكار فلاسفة آخرون مثل صمويل ألكسندر وماكس شيلر وبرايتمان وتشارلز هاتشورن وهنري برغسون وألفرد نورث هوايتهد، وكانت لدى بعضهم أفكار تنتقص من قدسية الإله.
وفي هذه الأجواء تمكن الألماني نيتشه من إعلان إلحاده والقول بأن الإله قد مات، حيث أراد بذلك إفساح الطريق أمام الإنسان ليصبح إلهاً، ثم لحق به فيورباخ 1804– 1872م، وأصبح الطريق سالكا لليهودي الألماني كارل ماركس 1818– 1883م ليرفض الألوهية من أساسها ولا يعترف إلا بالمادة.
حاول الألماني إمانويل كانط 1724– 1804م أن يتصدى للتيار المادي الإلحادي فواجه صعوبات جمة، إذ كان مذهبه نفسه محملا ببذور الشك واللاأدرية، لكنه قال إن الإيمان بالإله ضروري لأسباب أخلاقية بحتة، مُرجعا الدين إلى العاطفة المجردة.
العلمانية السياسية
كنتيجة لشيوع العلمانية (الدنيوية) في الحياة والفكر والعلم، وبدء التحول الاقتصادي نحو الرأسمالية، وتزايد أتباع المذهب البروتستانتي الجديد، أصبح الطريق ممهدا أمام فصل الدين عن السياسة أيضا، وساعد على ذلك تبني بعض الملوك والنبلاء للعقيدة البروتستانتية الجديدة التي سمحت لهم بالتمرد على الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، حيث ظل بابا الفاتيكان لقرون الجهة الوحيدة التي تمنح الشرعية لملوك أوربا.
توقيع معاهدة وستفاليا
استُخدم مصطلح العلمانية “سكيولاريزم” secularism بالإنجليزية لأول مرة سنة 1648م عند توقيع صلح وستفاليا الذي يعد موعد ظهور الدولة القومية الحديثة، وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة، مثل الإشارة إلى علمنة ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطة الدولة التي لا تخضع لسلطة الكنيسة.
تضمن صلح وستفاليا معاهدتي سلام لإنهاء حرب الثلاثين عاماً داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة (ألمانيا وجوارها اليوم) وحرب الثمانين عاماً بين إسبانيا ومملكة هولندا. ورفض ممثل البابا أن يوقع على الصلح لكن أوروبا تجاهلت هذا الاحتجاج ونجحت للمرة الأولى في الحد من سلطة الفاتيكان.
تخلت الكنيسة الكاثوليكية بموجب هذا الصلح عن قرار إعادة أملاك الكنيسة، وصار من حق الأمراء تقرير عقيدة رعاياهم، وتم الاعتراف رسمياً بكنيسة الإصلاح أو الكنيسة الكالفنية (بروتستانتية)، وتم الفصل تدريجيا بين الدين والدولة، حيث أصبحت السلطة قائمة على المصالح الدنيوية وليس على الشرعية الممنوحة من رجال الكهنوت، كما أصبحت الشعوب مرتبطة فيما بينها برابط الهوية القومية (العنصرية) وليس على الأخوة بين أتباع الدين الواحد.
تدريجيا أصبحت العلمانية هي المنهج الوحيد المتبع في أنظمة الحكم بالدول الغربية مع اختلافات طفيفة في التطبيق، ثم انتشرت العلمانية في معظم دول العالم، وترتبط العلمانية سياسيا بالديمقراطية من حيث المبدأ، مع أن الكثير من الأنظمة العلمانية تمارس أقصى درجات الاستبداد، وتعتبر الثورة الفرنسية (1789م) نقطة بدء التطبيق العملي للعلمانية السياسية.
أصبحت المقصلة رمزا للثورة الفرنسية لكثرة استخدامها في عمليات الإعدام لكل من كان يُعتبر عدوا للثورة والعلمانية
يعتمد نظام الحكم العلماني على إقصاء الدين عن السلطة، ويقابله النظام الثيوقراطي الذي تتربع على قمته طبقة الكهنوت، ويرى المفكرون الإسلاميون أن الحكم الإسلامي ليس ثيوقراطيا لعدم وجود مؤسسة دينية كهنوتية في الإسلام، فعلماء الشريعة يتلقون العلم ويقدمون اجتهاداتهم دون طبقية، والحاكم المسلم ينفذ قوانين الشريعة ويحمي “بيضة الإسلام” دون امتلاك حق (تفويض) إلهي ولا شرعية مطلقة، بل هو مطالب بالالتزام بالشرع كما يُلزم به بقية الشعب دون امتياز.
وتمثل مرحلة الخلافة الراشدة النموذج التطبيقي لهذه المبادئ، ومع أن المراحل التالية شهدت تراجعا كبيرا في التطبيق، لا سيما مع ظهور طوائف وفرق أخرى مثل الإسماعيلية التي أنشئت على أسسها الدولة الفاطمية وإمارات القرامطة والحشاشين، إلا أن الإسلام ظل عصيا على التحول إلى أيديولوجيا كهنوتية مؤسسية، لأن القرآن ظل محفوظا عن التحريف والتشويه، ولأن سنة النبي وخلفائه في الحكم الراشد لا يمكن طمسها، فكل مخالفة لمبدأ توحيد الله وحده ولتحرير البشر من تقديس الملوك والكهنة هي تجاوزات سياسي سلطوية تتعارض جوهريا مع عقيدة الإسلام وشريعته وليست محسوبة على الإسلام نفسه. [انظر كتاب الإسلام ليس أيديولوجيا، د.هاني نصري، دار الفكر].
أما الحكم الثيوقراطي المسيحي، الذي قامت على أنقاضه العلمانية، فكان يستند إلى فكرة مفادها أن البابا هو الممثل المعصوم للمسيح وأنه مؤيَّد بالروح القدس، لذا فهو يمثل سلطة الإله على الأرض ويحق له وحده منح الشرعية للملوك والأمراء كي يحكموا الشعوب.
إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أعلنته السلطة الثورية في فرنسا عام 1789 ويظهر في قمته شعار المتنورين الماسون
دور الحركات السرية
تميل الرواية السائدة في المراجع التاريخية والدراسات الأكاديمية إلى أن الفكر العلماني بدأ بالتشكل في القرن الخامس عشر في أوروبا على يد المفكرين “المتنورين” الذين تمردوا على تحالف سلطة الكنيسة والحكم الوراثي الإقطاعي، وأنهم تجاوزوا الأفكار “المدرسية” الكهنوتية للعودة إلى الميراث الإنساني الذي تراكمت فيه خبرات حضارات سابقة والاقتباس منه، فاستلهموا بعض أفكارهم من شريعة حمورابي وتجربة أثينا الديمقراطية وخبرة فلاسفة روما، وبذلك تصبح العلمانية -حسب هذه الرؤية- نتيجة طبيعية للتطور الإنساني من مراحل الاستبداد والعبودية والاعتقاد بالأساطير إلى مرحلة الإقرار بحقوق الإنسان البديهية وحرية التعبير ورفع يد الحكومة والكهنوت عن معتقدات الناس، واعتماد المنهج التجريبي للسيطرة على الطبيعة بدلا من الركون للخرافة، أو بحسب تعبير ماكس فيبر “نزع السحر عن العالم”، وتكون العلمانية بذلك أيضا حصيلة نضال طويل مفعم بالبطولات والتضحيات في سبيل خير البشرية وتحررها.
لكن الباحثين في تاريخ الحركات السرية، وكذلك بعض المختصين في مقارنة الأديان، ويتبعهم عدد من المفكرين والمؤرخين المسيحيين والمسلمين، يؤكدون أن الفكر العلماني لم يتشكل بهذه الطريقة الطبيعية البريئة وعبر الاحتكاك والصدام بين الحضارات ووجهات النظر، بل يؤكدون أنها نتاج تدخل واع وخطة مدبرة من قبل تحالفات عديدة تشمل عبدة الشيطان وبعض سلالات بني إسرائيل، وأنه تم تدبيرها في محافل ومعابد الجمعيات السرية، وعلى رأسها الماسونية وجمعية النور البافارية (إلوميناتي) وجمعية الصليب الوردي (روزكروشين). [Nesta Webster, Secret Societies and Subversive Movements].
ويرى هؤلاء الباحثين أن العوامل الظاهرة، كالصراع الطبقي والتقلبات السياسية والاقتصادية، كانت أدوات موضوعية وظروفا مؤاتية استفاد منها أقطاب الجمعيات السرية لبث أفكارهم في المجتمعات، بهدف إقصاء الأديان عن التأثير في الأخلاق والرؤى العامة للحياة، ولإعادة بناء المناهج الفكرية والأنظمة السياسية في “النظام العالمي الجديد” على مبادئ دنيوية مجردة. فالباحثون لا ينكرون وجود تلك العوامل المؤكدة تاريخيا ويرون أنها الجزء الظاهري فقط من الحدث التاريخي.
ويقدم أصحاب هذه الرؤية عددا من الأدلة، ونذكر منها بإيجاز ما يلي:
1- كان الكثير من مؤسسي الفكر العلماني في مراحل تشكله الأولى أعضاء في جمعيات سرية أو مقربين منها، بل كان بعضهم قادة كبارا فيها، مثل فرنسيس بيكون وإسحاق نيوتن وفولتير، وتكشف بعض المراسلات والوثائق عن دورهم في إقصاء الأديان ونشر العلمنة كأحد أهم مشاريع جمعياتهم السرية [انظر: كتاب الوحي ونقيضه للمؤلف بهاء الأمير]. وفي العالم الإسلامي تولت المحافل الماسونية داخل الدولة العثمانية وخارجها هذا الدور حتى تم الإجهاز على نظام الخلافة، وكان الكثير من مروجي العلمانية في الأوساط الفكرية والأدبية من أعضاء المحافل الماسونية التي تشكلت في دمشق وبيروت والقاهرة [انظر مقال الماسونية].
2- لعبت طائفة من اليهود الأشكناز والسلالات الإسرائيلية دورا جوهريا في ترويج المذهب البروتستنانتي لمواجهة الكاثوليكية وتسلط البابا على أوروبا، كما كان لهم دور في معاهدة وستفاليا التي قوضت سلطة الفاتيكان [انظر كتاب: اليهود والماسون في الثورات والدساتير للمؤلف بهاء الأمير]. ويقول الباحثون إن اليهود وجدوا في العلمانية الحل الوحيد للقضاء على سلطة الكنيسة التي اضطهدتهم. [انظر مقال المسيحية المتصهينة].
3- تعتبر الثورة الفرنسية من أهم المفاصل التاريخية التي جعلت العلمانية أساسا للنظم الدستورية والمناهج الفكرية في العصر الحديث، ولا يخفى على الباحثين من كل التيارات دور المحافل الماسونية في نشر أفكار الثورة قبل اندلاعها، كما لعبت الماسونية أيضا الدور الأهم في وضع الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان بعد تأسيسها على النظم الحديثة، وفي فرضها على العالم أجمع عبر الأمم المتحدة ومنظماتها، وذلك وفقا للمبادئ العلمانية. [انظر مقال الماسونية].
انتقال العلمانية للعالم الإسلامي
بعد إقامة النظم السياسية الأوروبية على المبادئ العلمانية، سعت تلك الدول إلى نقل العلمانية للعالم الإسلامي، ويمكن القول إن بداية تسلل العلمانية إلى العالم الإسلامي كانت بالتلفيق من داخل الفكر الديني. فكما بدأت العلمانية في أوروبا بالتمرد على الكنيسة عبر حركة الإصلاح الديني ثم انتهت إلى العلمنة الشاملة؛ نشأت في المقابل حركة إصلاح وتجديد ديني في بعض الأقطار الإسلامية بأواخر القرن التاسع عشر، وكان روادها من الفقهاء المحسوبين على العلم الشرعي، والذين استفاد من أفكارهم العلمانيون العرب لاحقا.
محمد عبده
يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري إن إدخال الأفكار الوافدة بعد تشذيبها ضمن المركب التوفيقي لا يضمن أنها ستبقى دون تأثير خطير، وأنها ستظل منضبطة بالحدود الاعتقادية الدينية. فنظراً لكونها وافدة من حضارة أخرى فإنها تحتفظ في باطنها بطبيعتها الأصلية والمباينة للطبيعة الإسلامية، وتتحرك –بوعي أو دون وعي من التوفيقيين الذين قبلوها بشروطهم- حسب قوانينها الوافدة معها، إلى أن تؤثر على الفكر التوفيقي كله وتوجهه وجهة جديدة لم تكن في حسبان التوفيقيين في البداية. وهذا ما حدث بالضبط عندما صرّح كبار العلمانيين العرب بوفائهم لمدرسة الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده [الفكر العربي وصراع الأضداد للأنصاري، ص 262].
وفيما يلي أمثلة للدول التي تسللت إليها العلمانية عبر بعض المفكرين وبدعم غربي دبلوماسي أو عسكري (بالاحتلال المباشر لاحقا)، وصولا إلى قلب أنظمة الحكم الإسلامية وتمكين العلمانيين من السيطرة على سدة الحكم والجيوش والجهات الأمنية والإعلام ومناهج التعليم.
الجامعة الأمريكية في بيروت
لبنان: يعد هذا البلد الصغير البوابة التي تسلل منها الغرب إلى الشرق الإسلامي منذ بدأت بوادر الضعف تدب في جسد الدولة العثمانية، فتذرع الأوروبيون بحماية الأقليات المسيحية في لبنان وسورية للتدخل بهذه المنطقة سياسيا وتعليميا، كما احتضنت الجامعات والمدارس في إيطاليا وفرنسا طلبة مشرقيين مسيحيين لتلقينهم المبادئ العلمانية بهدف نشرها في المشرق.
وقد شرح الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر هذه السياسة بصراحة مدهشة في منتصف القرن العشرين، فقال “كنا نُحضر أبناء رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في لندن وباريس وأمستردام، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويرتدون السترات والسراويل، ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا نزوج بعضهم من أوربا، ونلقنهم أسلوب
سارتر
الحياة على أثاث جديد، وطرز جديد من الزينة، واستهلاك أوربي وغذاء أوربي، كما نضع في أعماق قلوبهم أوربا، والرغبة في تحويل بلادهم إلى أوربا، ثم نرسلهم إلى بلادهم حيث يرددون ما نقوله بالحرف تماماً مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض، هذه أصواتنا تخرج من أفواههم، وحينما كنا نصمت كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت أيضاً، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاساً صادقاً وأميناً لأصواتنا من الحناجر التي صنعناها، ونحن واثقون أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم، وليس هذا فحسب، بل إنهم سَلبوا حق الكلام من مواطنيهم” [يحيى هاشم فرغل، العلمانية بين الخرافة والتخريب، ص 270].
وبالتزامن مع تعليم بعض الطلاب النابغين في الجامعات الأوروبية، افتتح الغربيون جامعات ومدارس كثيرة في لبنان لتنشئة الجيل على التغريب، وكانت الجامعة الأمريكية البروتستانتية التي أُسست في بيروت سنة 1866م أحد المراكز الرئيسة للتبشير ولإشاعة الثقافة العلمانية في الوقت نفسه. فتخرج منها الرهط الأول من العلمانيين وعلى رأسهم شبلي شميّل ويعقوب صرّوف وفارس نمر وجرجي زيدان.
“قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميِّل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وسلامة موسى، وولي الدين يكن، ولويس عوض، وغيرهم.. يدْعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي: فصْل الدين عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع. والملاحَظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام، الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ولا ينتسبون إلى الإسلام ديناً أو حضارة، وتربَّوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير. فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخْذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوْا إليه، ورأوه ماثلاً في تقدم الغرب الفعلي”.
[حسن حنفي، كتاب حوار المشرق والمغرب، 35-366].
نابليون أمام تمثال أبو الهول بريشة جان ليون جيروم
مصر: كانت حملة إمبراطور فرنسا بونابرت التي بدأت سنة 1798م بداية الغزو الحديث، فرافقتها ملابسات وأعراض مرضية أخذت تتفشى وتنتشر في المجتمع المصري من أزياء وعادات وأخلاق، كما حرص نابليون على زرع بذور الفكر العلماني في عقول النخبة لتنمو لاحقا وتؤتي ثمارها على يد سلامة موسى وأمثاله.
وبعد أن خرج الفرنسيون من مصر استولى الألباني محمد علي على حكم مصر ما بين عامي 1805 و1848م، وكان من أبرز مشاريعه إرسال بعثات الطلاب إلى فرنسا، فانبهر بعض الطلاب بالحضارة الغربية هناك إلى درجة كبيرة، حتى إن الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي رافق طلاب البعثة الأولى إلى فرنسا ليؤمهم في الصلاة ويحافظ على تدينهم كان من أكثر المنبهرين بالغرب، ونجد ذلك واضحا في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.
وفي ظل الاحتلال البريطاني (1882-1952م) بدأت العلمانية رسميا بالظهور، وساهم في الترويج لها مثقفون ينتمي معظمهم لأقليات غير مسلمة، مثل يعقوب صروف وفارس نمر ونقولا حداد، ثم ركب الموجة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق عندما نشر كتابه “الإسلام وأصول الحكم” محاولا فيه تبرير فصل الدين عن الدولة.
وفي عام 1919 تأسس أول كيان سياسي علماني تحت اسم الحزب العلماني الذي غير اسمه لاحقا إلى حزب الوفد، ونال شعبيته من مناهضته للحكم الملكي والاحتلال البريطاني، وعندما قام الجيش بانقلاب عسكري في الخمسينات تم اعتماد العلمانية بالقوة وقُمع الإسلاميون وعلى رأسهم جماعة “الإخوان المسلمون”.
تركيا: كان ضياء كوك ألب 1875- 1942م يردد في تركيا نفس أفكار سلامة موسى وطه حسين، فدعا إلى سلخ تركيا عن ماضيها، وتكوينها تكويناً قومياً خالصاً، كما اعتبر تركيا صانعة للحضارة الغربية باعتبارها امتدادا لحضارة المتوسط.
وبعد مؤامرات طويلة ساهم فيها الماسون ويهود الدونمة، نجح الضابط مصطفى كمال أتاتورك 1881- 1934م في تطبيق أفكار ضياء كوك ألب بانقلابه على الدولة العثمانية عام 1924، وكان جريئا في محاربة الإسلام عندما قال إنه “يخنق الطموح في نفوس أصحابه”، ثم اتخذ خطوات بعيدة في اتجاه التغريب وإعلان العلمانية منهجا قسريا للدولة، فألغى استخدام الحرف العربي وأحل مكانه الحرف اللاتيني حتى لا يتمكن الأتراك من قراءة الكتب الإسلامية، كما ألغى وزارة الشؤون الدينية وحلّ المنشآت الدينية والمحاكم الشرعية، ووضع قانونا جزائيا جديدا بناء على القانون السويسري، وفي عام 1928 ألغى اعتماد الإسلام كدين رسمي للدولة.
في كتابه “العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين”، يقارن الباحث التركي أحمد كورو بين التجربتين العلمانيتين المتطرفتين في فرنسا وتركيا، ويقول إن المتدينين الكاثوليك الفرنسيين تحالفوا مع النظام الملكي واستخدموا أدوات القهر والعنف للإبقاء على النظام الاستبدادي، وحاربوا القوى الثورية الفرنسية المدعومة شعبيا، أما في تركيا العثمانية فكان المتديِنون في صف الإصلاحيين السلميين في مقابل انخراط العلمانيين في الجيش، وعندما أسقطوا حكم السلطان حاولوا الحدَّ من صلاحيات البرلمان المنتخَب بالهيمنة التامة على الرئاسة والجيش والقضاء. ويضيف أن المجتمع الفرنسي تقبل العلمانية الديمقراطي الحرّة بعد انتصار الثورة وما زال ينبذ العودة إلى الكنيسة حتى الآن، في حين قهرت العلمانية التركية بالقوة كل محاولات الشعب التركي للعودة إلى الحكم الإسلامي. [أحمد كورو، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين: الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا، ص 369 وما بعدها].
سيد أحمد خان
الهند: كان سيد أحمد خان 1817– 1898م من أوائل الداعين إلى العلمانية والتغريب، وكان متعاوناً مع الإنجليز حيث سعى لإخماد ثورة عام 1857م، فكافأه الإنجليز براتب شهري، ومن أقواله “لا بد أن يرغب المسلمون في قبول هذه الحضارة الغربية بكمالها حتى لا تعود الأمم المتحضرة تزدريهم أعينها، ويعتبروا من الشعوب المتحضرة المثقفة”.
إيران: كرر تقي زادة نفس مقولات العلمانيين، ومن أقواله “فلنلق بقنبلة الاستسلام للأوروبي في هذه البيئة ولنفجرها. والخلاصة: لنصبح أوروبيين من قمة الرأس إلى أخمص القدم”. وعندما عُين رضا بهلوي ملكا على البلاد عام 1925 أصبحت إيران دولة علمانية.
تونس: طالب عبد العزيز الثعالبي -قبل اعتداله- بالاستسلام للحضارة الغربية، ودعا إلى تأويل القرآن تأويلاً “صحيحاً” أي بما يناسب مبادئ الثورة الفرنسية كي يتحضر الإنسان المسلم، حسب رأيه. وقد تبعه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بعد خروج المحتل الفرنسي وتأسيس الجمهورية التونسية العلمانية، وتُنسب إلى بورقيبة العديد من التصريحات المعادية للإسلام ومقدساته، ومنها قوله إن القرآن الكريم متناقض ولا يقبله العقل.
عبد الوهاب المسيري (موقع المسيري)
العلمانية والإسلام
يرى المفكر اليساري المصري عبد الوهاب المسيري أن العلمانية تتفرع إلى تيارين رئيسين، هما:
1- تيار العلمانية الكلية الشاملة، وهو مادي يطمح إلى تحرير الحياة بجميع ميادينها وتحرير الإنسان في كل عوالمه من الدين بكل أبعاده القيمية والقانونية والشعائرية، وتُعد الماركسية من نماذج هذه العلمنة الكلية والشاملة.
2- تيار العلمانية الجزئية الذي لا ينكر الإيمان بالله والدين، ولكنه يقف بالدين عند العلاقة الفردية بين الإنسان والله، وعند الشعائر العبادية، وبعض القيم الأخلاقية لمن يريد، بينما يرفض كل تدخل للدين في تدبير الدولة والاجتماع الإنساني، فهو يكتفي بفصل الدين عن الدولة.
وكان المسيري رحمه الله يتبنى العلمانية الجزئية ويرى أنها لا تتعارض مع الإسلام، وهو أمر يوافقه عليه المفكر التونسي راشد الغنوشي، الذي يرى أن “العلمانية ظهرت وتبلورت في الغرب كحلول إجرائيّة لا كفلسفة أونظرية في الوجود”، ما يعني أنها لا تتناقض مع الإسلام. لكن الكثير من الباحثين يخالفون هذا المفهوم، فحتى المسيري كان يقر من البداية بأن العلمانيتين الشاملة والجزئية من حيث الجوهر شيء واحد، لذا فحتى لو اقتصرت الجزئية على بعض الإجراءات دون أن تتصادم مع الدين فإنها تعود في النهاية إلى مرجعية دنيوية “إنسانوية” في مقابل المرجعية الإلهية التي لا تقبل التجزئة في الإسلام.
أما الكاتب المصري فهمي هويدي فيميز بين تيارين علمانيين، يسميهما المتطرفين والمعتدلين، ويرى المسيري أنهما يقابلان إلى حد ما العلمانيين الشامليين والجزئيين عنده، حيث يُعرف هويدي المتطرفين بأنهم ضد الشريعة والعقيدة معا، وأنهم يعتبرون الإسلام مشكلة يجب استئصالها، أما المعتدلون فيعتبرون أنه يمكن التعايش مع الإسلاميين إذا أقيم حاجز بين الدين والسياسة، ويرى هويدي أن من حق المعتدلين المشاركة في الحياة السياسية للمجتمع الإسلامي.
وهذا الرأي لا يلقى موافقة لدى كثير من المفكرين الإسلاميين كما ذكرنا، فهناك خلاف في الوسط الإسلامي بين رأيين، الأول يتقبل وجود العلمانية “المعتدلة” في المشهد السياسي للدولة الإسلامية (وهي دولة غير موجودة بالواقع حاليا)، سواء بحكم ضرورة التدرج ومقتضيات العصر أو لأن ذلك لا يتعارض مع جوهر الدين، والرأي الثاني يرفض وجود أي تيار سياسي علماني حتى لو كان “معتدلا” [انظر كتاب العلمنة من الداخل للمؤلف البشير المراكشي].
كما يرفض بعض المفكرين مصطلح “العلمانية المعتدلة” بغض النظر عن القبول بوجودها في الوسط السياسي، لاعتقادهم بأن دين الإسلام جاء لهداية الناس إلى ما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة، فالشريعة تشتمل على شعائر الدين ومبادئ السياسة وأحكام المعاملات، وتحديد الإطار العام للنظام السياسي يستند إلى الوحي، فيرى هذا التيار أن مساندة السياسة العلمانية -حتى لو كانت معتدلة- تؤدي إلى الكفر.
بيغوفيتش
وقد أصدرت المديرية العامة للإفتاء في المملكة العربية السعودية بيانا تقول فيه «إن كل من يؤمن بأن هناك توجيها أكثر كمالا من تعاليم الرسول أو أن حكم أي شخص كان أفضل من حكم الرسول فهو كافر»، وفصّلت الرأي الشرعي في ذلك بالقول إن هناك “انحرافا خطيرا” عن مبادئ الإسلام لدى كل من يعتقد بأن القوانين التي تصدر عن الإنسان تسمو على أحكام الشريعة أو يرى أن الإسلام يقتصر على علاقة الفرد مع الله وليس له أي علاقة مع الشؤون اليومية للحياة.
ويقول المفكر المصري طارق البشري “لا يمكن أن تتوافق العلمانية والإسلام إلا عن طريق التلفيق أو ابتعاد كل منهما عن معناه الحقيقي”.
أما المفكر والرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش فيقول في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” إن الدين هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، وإنه هو الأصل الذي زرع الضمير الأخلاقي في البشرية المستمر حتى اليوم بالرغم من خفوت أثره بسبب انتشار العلمانية، ويضيف أن “المجتمع العاجز عن التدين، هو أيضا عاجز عن الثورة”.
وبدوره، يقول الدكتور محمد البهي في كتابه “العلمانية وتطبيقها في الإسلام: إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الأخر” بعد أن عرض لشمولية الإسلام في جميع جوانب الحياة وعدم قابليته للتجزؤ: “وبما عرضناه هنا من مبادئ الإسلام كما تذكرها آيات القرآن الكريم، نجد أن الإسلام نظام شامل لحياة الإنسان ومترابط في مبادئه وفي تطبيقه لا يقبل التجزئة بحال وقصر التطبيق على جانب مثلاً في حياة الإنسان أو على جانبين فأكثر من جوانب هذه الحياة دون باقي الجوانب الأخرى، معناه إفساح مكان لهوى الإنسان بجانب ما يطبق من مبادئ القرآن”.
“العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة” [مقدمة ابن خلدون، ص 1899].
أهم المراجع عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، 2002.
عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، 1998.
روجيه غاروي، النظرية المادية في المعرفة، ترجمة إبراهيم قريط، دار دمشق.
محمد عمارة، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، دار الرشاد، 1997.
يوسف القرضاوي، التطرف العلماني في مواجهة الإسلام، دار الشروق، 2008.
أحمد إدريس الطعان، العلمانيون والقرآن الكريم: تاريخية النص، دار ابن حزم، الرياض، 2007.
محمد قطب، العلمانيون والإسلام، دار الشروق، 1994.
يحيى هاشم فرغل، العلمانية بين الخرافة والتخريب، دار الصابوني.
بهاء الأمير، الوحي ونقيضه: بروتوكولات حكماء صهيون في القرآن، مكتبة مدبولي، 2006.
أحمد كورو، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2007.
اليهودية مصطلحٌ يُطلق على الديانة التي تُنسب إلى العبرانيين المنحدرين من إبراهيم عليه السلام، والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل وهم اثنا عشر سبطاً، وقد أُرسلت إليهم مجموعة من الأنبياء بدءاً بموسى عليه السلام مؤيداً بالتوراة. ويُعرف أتباعها بأسماء عدة ولكل منها مدلول خاص به، ومنها:
1- اليهود: واختلفت الأقوال في سبب التسمية وأشهر الأقوال فيها عند المسلمين: من التهوّد، وهي التوبة لأنهم تابوا عن عبادة العجل فنقل القرآن الكريم حكايةً عن موسى عليه السلام قوله: {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ}، أما عند اليهود: فالتسمية جاءت نسبةً إلى يهوذا أحد أبناء إسرائيل (يعقوب)، وقلبت الذال دالاً على لغة العرب، وسبب اختياره من بين إخوته لأن من نسله ظهر داود، ومن داود سيظهر المسيح المنتظر كما يعتقدون فهو المفضَّل عندهم.
2- الإسرائيليون: نسبةً إلى بني إسرائيل (أبناء يعقوب) مع أن معظم أتباع هذه الديانة اليوم لا يجمعهم نسب بإسرائيل، والموسويون أي: أتباع موسى عليه السلام.
3- العبرانيون ومفردها عبري وهم: البدو الرُّحل، وقيل نسبةً إلى النبي إبراهيم وهو إبرام أو عبرام في العبرية وهو التفسير المفضل عند اليهود لتوثيق ارتباطهم به.
أما في الغرب فيطلق عليهم Jewish أو Juif وهي من جوشوا أو يوشوا أي يوشع بن نون، وهو فتى موسى (مرافقه) والنبي الذي تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاته وهو ذو شأن عظيم عندهم.
تاريخ بني إسرائيل لعل أهم مراحل تاريخ اليهودية هي تلك الحقبة الزمنية الممتدة لألفي عام منذ عهد إبراهيم إلى ما قبل ظهور المسيح، ومع أن تاريخ اليهودية كدين يبدأ مع بعثة موسى في قومه الذين لم يسموا باليهود إلا بعد بعثته، إلا أنهم حريصون على ربط تاريخهم بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
وأهم مصادر تلك الحقبة الطويلة من الزمن: ما ورد في التوراة وبقية أسفار العهد القديم على ما فيها من تناقضات وأساطير يقرُّ بها علماء اللاهوت من اليهود والنصارى فضلاً عن علماء التاريخ والآثار، وما وجده علماء الآثار من مدونات تاريخية مكتشفة حديثاً في مصر والعراق وبلاد الشام، وما اتضح من الحفريات، ونقله الإخباريون من مسلمين وغيرهم مع أن معظم رواياتهم لا يمكن الوثوق بها لمناقضتها لبعض وقائع التاريخ المسجلة وامتلائها بالأساطير والخرافات، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة عن بني إسرائيل وأنبيائهم.
وإبراهيم عليه السلام هو الجد الأعلى للعدنانيين (أولاد إسماعيل) كما أنه الجد الأعلى لبني إسرائيل، وله ولدان، الأول إسماعيل الذي خرجت من سلالته القبائل العربية وخاصة قريش التي ظهر منها النبي محمد، والثاني إسحاق الذي ولد له ولدان، هما عيسو ويعقوب.
أما يعقوب فهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل، وقد وُلد له اثنا عشر ولداً من زوجتيه ليئة وراحيل وجاريتيهما، منهم يوسف النبي ويهوذا الذي ظهر داود من نسله، وكل واحد من هؤلاء أعقب سبطاً من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.
عاش يعقوب مع أبنائه في أرض فلسطين ثم فُقد يوسف بمكيدة من إخوته، وقصته ذُكرت في القرآن الكريم والكتاب المقدس، حيث وصل به المطاف إلى مصر التي تعرض فيها لسلسلة من المحن، فنجّاه الله منها ليتولى بحكمته وسياسته عملية إنقاذ مصر وما حولها من القحط الشديد الذي أصابها، ما دفع إخوته إلى المجيء إليه ثم استقرارهم مع أبيهم في مصر، وكان ذلك في عهد الهكسوس في القرن السابع عشر قبل الميلاد.
وبعد طرد الهكسوس من مصر وتولي الفراعنة المصريين الحكم بدأت مرحلة اضطهاد شديدة لبني إسرائيل لعلاقتهم السابقة مع الهكسوس الغرباء، وازداد العنت والظلم في عصر رمسيس الثاني الذي ترجح بعض المصادر أنه فرعون الذي أمر بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم واستعبادهم حتى هلك منهم الكثير.
وفي زمانه الذي امتد بين سنتي 1304 ق.م و1237 ق.م يُعتقد أن موسى وُلد من سبط لاوي بن يعقوب، وقبله بثلاث سنوات وُلد أخوه هارون. وقصته مع فرعون وقومه وخروجه بهم ومواجهته لانحرافاتهم العقدية المتجددة ذُكرت أيضا في القرآن الكريم والكتاب المقدس، وقد أدت إلى بقائهم في مرحلة التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء وحرمانهم من دخول الأرض المقدسة (فلسطين) لأنهم رفضوا أمر نبيهم موسى بمقاتلة الكنعانيين وفتح فلسطين.
لوحة تخيلية ليوشع بن نون وهو يأمر الشمس بالتوقف عن الحركة حتى لا تغرب قبل أن يتم له النصر
وبعد وفاة موسى خلفه تلميذه يوشع بن نون، وهو أول نبي بعده، وهو الذي قاد بني إسرائيل وتمكن من فتح بعض المدن الكنعانية، وبوفاته انقطعت القيادة الاجتماعية لبني إسرائيل وتفرقت الأسباط إلى مجموعات يقود كلا منها قاضٍ أو كاهن، وهو بمثابة الحاكم العسكري، وبدأ بذلك ما يعرف بعصر القضاة، وهو عهد يتصف بالتوتر والضعف والانحراف عقدياً، حيث ارتد فيه بنو إسرائيل عن عبادة الله إلى عبادة بعل وعشتاروت وغيرها من الأوثان وشيدوا لها المعابد وقدموا القرابين وانتشرت فيهم الفاحشة انتشاراً كبيراً، وتسلط عليهم الكنعانيون والفلسطينيون الوثنيون، وفي آخر عصر القضاة ظهر فيهم نبي ترجح المصادر أنه صموئيل، وقد ورد ذكره مبهماً في القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا، قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246].
وقد طلب بنو إسرائيل من نبيهم أن يختار لهم ملكاً عليهم ليوحدهم في مواجهة أعدائهم، فأوحى الله إليه أنه سيولي عليهم طالوت (أو شاؤل كما ورد في أسفارهم)، فجمعهم للقتال وانتصروا على الفلسطينيين الوثنيين، وذلك بعد أن قام داود -والذي كان ضمن الجيش شاباً صغيراً- بقتل جالوت (جليات).
وبعد موت طالوت تولى داود قيادة بني إسرائيل، وفيه اجتمعت النبوة والملك، ثم خلفه من بعده ابنه النبي سليمان، والذي كان عصره أزهى العصور لبني إسرائيل، فنعمت مملكته برخاء وسلام لم تعرف له مثيلاً من قبل ومن بعد. وبعد وفاته انقسمت مملكته بين ابنه رحبعام وأحد عبيده يربعام، وانقسم معها الأسباط إلى مملكتين:
مملكة إسرائيل: بقيادة يربعام في الشمال وعاصمتها السامرة (نابلس)، ومعبدها على جبل جرزيم وكانت تضم عشرة من أسباط بني إسرائيل، واستمرت إلى أن قضى عليها الآشوريون سنة 722 ق.م.
مملكة يهوذا: بقيادة رحبعام بن سليمان في الجنوب وعاصمتها أورشليم (القدس)، وتضم سبطي يهوذا وبنيامين، واستمرت إلى أن حطمها نبوخذ نصر ملك بابل سنة 586 ق.م.
رسم تخيلي لتدمير القدس على يد البابليين
انتشرت المفاسد وعبادة الأوثان في المملكتين وظهر فيهم الكثير من الأنبياء، وذكر القرآن اثنين منهم هما إلياس واليسع، بينما تعدد المصادر اليهودية والمسيحية أسماء أنبياء آخرين مثل إشعيا وعاموس وغيرهم، وقد حاولوا تصحيح انحرافات قومهم ولقوا منهم عنتاً واضطهاداً، حتى يقال إن الإسرائيليين قتلوا مئات الأنبياء ونشروا بعضهم بالمناشير كما حدث للنبي إشعيا. وقد أدى فسادهم هذا إلى تسلط أعدائهم عليهم حتى قضي على الدولتين تماماً ودمَّر نبوخذ نصر أورشليم وهدم أسوارها وما فيها وسبى ثلث شعبها وساقهم عبيداً إلى بابل في العراق، كما يقال إنه قتل الثلث منهم.
وفي المنفى بالعراق، عاش اليهود مرحلة جديدة اتسمت بالانعزال والذل، مع الشعور بأنهم شعب الله المختار، وظهر في مرحلة السبي هذه أنبياء آخرون، ونقرأ في مصادرهم أسماء بعضهم ومنهم عزير (عزرا) ودانيال وحزقيال.
استفاد اليهود من تسلط الفرس على الدولة البابلية، واستغلوا نساءهم الجميلات (وأشهرهم إستير) للتقرب من حكَّام الفرس حتى استطاعوا إقناع الملك الفارسي قورش بعودتهم من السبي إلى فلسطين وإعادة بناء أورشليم و”هيكل الرب” كما يسمونه سنة 538 ق.م، وتزعَّم النبيان عزرا ونحميا -حسب مصادرهم- حركة العودة من المنفى.
رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)
ورغم الدعم والتعاطف الشديد الذي قدمه الفرس لليهود، إلا أن اليهود سرعان ما تحوّل ولاؤهم للقوة الجديدة الصاعدة في المنطقة والمتمثلة في الإمبراطور اليوناني الإسكندر المقدوني الذي تمكن سنة 330 ق.م من القضاء على الحكم الفارسي لبلاد الشام، وخضع اليهود لحكمه وقدموا له المساعدات فعاملهم معاملةً حسنة.
بعد وفاة الإسكندر اقتسم قوّاده إمبراطوريته الواسعة وظهر البطالسة في مصر مع تولى بطليموس الأول حكم مصر وفلسطين، وفي عهده بدأ اليهود تمردهم الأول على اليونان والذي كان نتيجته اقتياد أكثر من 100 ألف منهم أسرى إلى مصر، ثم عاد قسم كبير منهم إلى فلسطين في عهد خليفته بطليموس الثاني الذي أسس مكتبة الإسكندرية الشهيرة، وقد أبدى تعاطفاً كبيراً معهم، كما تمت في عهده ترجمة النسخ المعتمدة آنذاك من التوراة إلى اللغة اللاتينية بواسطة 72 حبراً من أحبار اليهود وخلال 72 يوماً كما يزعمون، مع أن الكثير من الباحثين -ومن بينهم الرهبانية اليسوعية- يشككون في هذه القصة.
ومع انتصار السلوقيين على البطالسة وسيطرتهم على فلسطين بدأ عصر الاضطهاد والإذلال لليهود حوالي سنة 200 ق.م، وجرت محاولات لإجبارهم على ترك دينهم واعتناق الوثنيات اليونانية مما أدى إلى انفجار ثورة المكابيين سنة 166 ق.م على يد يهوذا ابن الكاهن ميتاس ولُقِّب بالمكابي أي: المعيَّن من الرب يهوه.
الحصار الروماني على يد تيطوس وتدمير القدس بريشة ديفيد روبرتس عام 1850
وبحو نحو قرن، خضع اليهود لحكم الرومان الذين سيطروا على القدس سنة 63 ق.م، وبدأت سلسلة من الثورات على حكمهم من قبل اليهود، انتهت بإقدام الحاكم الروماني تيطوس على تدمير أورشليم تدميراً كاملاً سنة 70 م، ففرَّ من اليهود من بقي حياً إلى الجزيرة العربية (تيماء وخيبر والمدينة) ومصر وليبيا وغيرها، وذهب قسم منهم إلى روما وبيعوا عبيدا، ومن هنا بدأت قصة وجودهم في أوربا.
أما في الشرق فاعتنقت إحدى القبائل التركية الوثنية المعروفة بالخزر دين اليهودية في القرن التاسع الميلادي، أي بعد ظهور الإسلام، وكانت قد استوطنت المعبر الحيوي بين بحر قزوين والبحر الأسود ومنها انحدر يهود شرق أوربا (الإشكناز) الذين يشكلون نحو 90 بالمئة من يهود العالم اليوم، وهم الذين يقوم عليهم الكيان الصهيوني في فلسطين.
ومن الملاحظ أن السرد التاريخي لمسيرة اليهود المدوَّن في العهد القديم يتوقف قبيل بعثة المسيح عيسى عليه السلام.
العـقائـد: أولاً- الإله: تعد قضية الألوهية في اليهودية من القضايا المشكلة للباحثين، فقد كانت اليهودية في أصلها ديانة توحيدية تدعو إلى عبادة إله واحد لا شبيه له، لا تدركه الأبصار وتعتمد عليه المخلوقات كافة ولا يعتمد على أيٍّ منها بل يسمو عليها. وكثرة الأنبياء فيهم كان هدفها تنقية عقيدتهم باستمرار مما أصابها من شوائب الوثنية المتكررة والتي أدت- إضافةً إلى عوامل أخرى- إلى تطور مفهوم الألوهية عندهم إلى الحلول والمشابهة، فالإله في اليهودية وكما تصفه أسفار العهد القديم كائن يتصف بصفات البشر فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء متقلب الأطوار، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل ويحس بالندم ووخز الضمير، وهو ليس عالماً بكل شيء لذلك نجده مثلاً يطلب من أبناء إسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم المصريين عن طريق الخطأ.
وباستعراض نماذج مما ذكرته التوراة والتلمود من صفات الرب يمكن استنتاج الملامح التالية لعقيدتهم فيه:
1- يعتقد اليهود أن آدم هو ابن الله لأن الله خلقه من روحه فبثّ فيه جزءاً من ذاته، فهم عندما يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه لا يقصدون البنوة المعنوية كما يتبادر للذهن للوهلة الأولى لكنهم يقصدون أن أرواحهم جزء من ذات الله لأنهم وحدهم يمثلون نسل آدم وحواء في نقائه وهم أبناؤه حساً ومعنىً على الحقيقة، فآدم وحواء -عندهم- زنى كلٌّ منهما مع عشاق لهما من الجن وأنجبا ذرية ينحدر منها باقي البشر أما اليهود فهم من أبناء آدم وحواء وحدهم.
2- الرب عندهم هو رب الأرباب الأخرى التي يدخل في صراع معها ويدمرها، وهو لا يهتم بأن تعبد الشعوب الأخرى غيره لكنه يهتم اهتماماً شديداً بأن يعبده أبناؤه وشعبه إسرائيل ويغار غيرة شديدة عندما يتجهون لغيره لأنه اصطفاهم وجعلهم أحباءه وأبناءه، لذلك نجده يحجب الهداية عن فرعون ويقسِّي قلبه مع أنه قال لموسى وهارون “صلّيا لأجلي”، أي أنه أراد الهداية ولكن الرب لا يهمه ذلك. وقد استخدم كاتب التوراة أسلوباً بذيئاً حين صوّر الرب وكأنه قد تزوج إسرائيل التي ذهبت تزني مع أوثان وهو يغار عليها ويرجوها أن ترجع إليه كعهدها السابق، فيقول: “حاكموا أمكم -أي إسرائيل- لأنها ليست امرأتي وأنا لست رجلها، لكي تعزل زناها عن وجهها.. ولا أرحم أولادها لأنهم أولاد زنى، لأن أمهم زنت، التي حبلت بهم صنعت خزياً لأنها قالت: أذهبُ وراء محبيَّ الذي يعطون خبزي ومائي وصوفي.. لكن هأنذا أتملقها وأذهب إلى البرية وألاطفها وأعطيها كروماً هناك وهي تغني هناك كأيام صباها.. يكون في ذلك اليوم يقول الرب: إنك تدعينني رجلي ولا تدعينني بعلي” [سفر يوشع 2/ 2- 21]، فالرب -حسب زعمهم- ينفر من كلمة بعل لأن إسرائيل عبدت بعل فأصبح يكره هذه الكلمة، وقد اضطررنا للاجتزاء من النص السابق لأنه يتضمن أوصافا غير لائقة.
3- الله حسب زعمهم لا يريد للإنسان أن يكتسب المعرفة بل أن يبقى جاهلاً حتى لا ينافسه لذلك منعه من أكل الشجرة، بل كان أيضا جاهلاً ولم يعرف أن آدم أكل منها إلا عندما أخبره هو بذلك، ثم طرده من الجنة ومنعه من دخولها خوفاً من يأكل من شجرة الخلد فيشاركه الخلود.
4- الرب في التوراة متجسد على هيئة البشر ويمكن رؤيته في الدنيا وقد رآه كل الأنبياء، ومنهم إبراهيم الذي زاره الإله على هيئة رجل مع اثنين من الملائكة وجلسوا ليستريحوا تحت شجرة وغسلوا أرجلهم وأكلوا وشربوا. كما ظهر لبني إسرائيل على شكل عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل ومشى أمام شعبه ليهديهم الطريق، ويتكرر نزوله إلى الأرض مرات ومرات ويمكن أن يتكلم مع غير المؤمنين أيضاً ليهددهم إن أرادوا إيذاء شعبه المفضل.
5- تنسب التوراة له الندم والبكاء واللطم على وجهه، وقد ظهر ذلك منه بعد أن شرد أبناءه اليهود وخرب بيت المقدس، فخصص ساعات من النهار ليبكي على تشريدهم وصرخ قائلاً “تباً لي لأني صرّحت بخراب بيتي وإحراق هيكلي ونهب أولادي”، وعندما سمع أبناءه يمجدونه بالرغم مما فعله بهم بكي ولطم وجهه وقال “طوبى لمن يمجده الناس.. وويلٌ للأب الذي يمجده أبناؤه مع عدم استحقاقه لذلك لأنه قضى عليهم بالتشريد”.
تابوت العهد كما جاء وصفه في الأسفار والذي يعتقدون أنه يحتوي على الألواح التي أنزلت على موسى وهو مفقود اليوم
6- يعتقدون أنه أمر موسى وهارون ببناء خيمة الاجتماع ليسكن فيها ثم جعل التابوت مقراً له ليكون على مقربة من أبنائه يرعاهم ويدبر أمورهم، ويسمونه “رب الجنود الجالس في التابوت”، وبما أن التابوت وقع في أيدي أعدائهم مراراً فقد سُجن الرب فيه، فقرر أن يسكن في جبل صهيون في أورشليم، وأخيراً بنى له سليمان الهيكل العظيم ليستقر فيه ويرتاح من التجوال، لكن الهيكل نفسه هُدم فانتقل الرب إلى السماء، ومن هنا يتبين حرص اليهود على بناء الهيكل ليعود الرب إليه بزعمهم فهم لا يستطيعون التخلي عن نزعتهم المادية المحسوسة التي تصوروا الإله من خلالها والتي لازمتهم طوال تاريخهم رغم الجهود المضنية التي بذلها الأنبياء لتخليصهم منها.
7- الرب عندهم يحب القرابين واللحم المشوي، وبمجرد أن يتنسم رائحته تنبسط أساريره ويفعل لهم ما يشاؤون من تعذيب الأمم الأخرى وقتلها وحرقها ولا يهم بعد ذلك إن عبدوا الأوثان أو سرقوا الأموال، كما لا يهمه ما إذا كانت اللحم المشوي نفسه من أغنام مسروقة أم لا، فقد زعموا أن يعقوب سرق أغنام خاله وقدّم اللحم المشوي للرب فرضي وقبله بعد أن تنسم رائحته وأعطى يعقوب العهد له ولأولاده، ويقال إن هذه الفكرة تطورت حتى أصبحت طقساً راسخاً يقتلون لأجله في كل سنة طفلاً غير يهودي ويستخدمون دمه لصناعة الفطير المقدس الذي يعتقدون أن الرب يحبه كثيراً ويأكل منه كبار الأحبار والكهنة، بينما يردّ اليهود بالنفي ويعتبرون أن “فرية الدم” افتراء أُلصق بهم بلا دليل.
وعلى أي حال، يظهر التاريخ غلبة الطبيعة المادية على الكثير من بني إسرائيل، فحتى مع وجود موسى بينهم وما جاءهم به من الآيات كانوا يطلبون منه أن يجعل لهم رباً مادياً كغيرهم من الوثنيين، ثم امتد أثر هذه العقيدة ليخالط تصورهم للإله، ويقول عباس محمود العقاد: “إن الوحدانية التي يدركها اليهود لم تكن وحدانية تفكير لكنها وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب.. لليهود إله يعلو على آلهة غيرهم من البشر” [إبراهيم أبو الأنبياء، ص 112].
وللإله في اليهودية أسماء متعددة وهي:
1- يهوه: وهو أكثر الأسماء قداسة ولا يُعرف اشتقاقه بشكل مؤكد، وأكثر ما قيل فيه إنه مشتق من مادة الحياة أو من مصدر الكينونة في العبرية (أهييه آشر أهييه) أي أكون الذي أكون، أو هي نداء لضمير الغائب أي “يا هو”، وقيل إن معناه سيد ورب في العبرية واستخدمه اليهود في الإطلاق على الخالق سبحانه. ولم يعرف هذا الاسم تاريخياً كما نصت التوراة قبل موسى كما جاء في سفر الخروج [6/2- 3] عندما كلم الرب موسى قائلاً “أنا الرب ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء وأما باسمي يهوه فلم أُعرف عندهم”.
ولقداسة الاسم كان اليهود لا يتفوهون به بل يستخدمون كلمة “أدوناي” العبرية بمعنى سيدي أو مولاي للإشارة إلى الإله. وبما أنه مكون من أربعة أحرف فقد استعاضوا عن التلفظ به بكلمة “تتراجراماتون” أي الرباعي، ولا ينطق اسم يهوه إلا الكاهن الأعظم فقط داخل قدس الأقداس بهيكل سليمان في يوم الغفران. [المجتمع اليهودي، ص 293]
وقد نسب العهد القديم إلى يهوه صوراً عديدة للقسوة، فكان يأمر شعبه بالغدر والقتل كما أنه محدود المعرفة وتنسب إليه صفات النقص في البشر.
2- إلوهيم: اسم من أصل كنعاني وهو بصيغة الجمع لكلمة “إيلوَّه” أي إله، وعدّها بعض الباحثين دليلاً على إيمان اليهود في مرحلة من مراحلهم بتعدد الآلهة، إلا أن المدقق في أوصاف إلوهيم عندما يأتي الاسم في العهد القديم يلاحظ أن صفات إلوهيم تختلف عن صفات يهوه، فإلوهيم إله رحيم خلق السماوات والأرض ولا يشبه مخلوقاته، لذا رجح البعض أن الاسم يدل على الإله مع إضافة لاحقة الجمع (يم) العبرية التي تدل على التفخيم، وظهور هذا الاسم فيهم يشير إلى مرحلة شهدت تنقية عقائدهم من كثير من الشوائب، وهو الاسم الذي شاع استخدامه علماً على الإله في مملكة إسرائيل الشمالية.
3- إيل: لا يعرف أصل هذا الاسم أيضاً، فقيل هي كلمة أكادية وتعني الإله على وجه العموم، وكثيراً ما تستخدم مع لقب من ألقاب الإله مثل “إيل عليون” أي الإله العلي، كما تستعمل كجزء من أسماء عديدة مثل “إيلعازر” أي الإله قد أعان، وهو أسلوب مستخدم حتى يومنا هذا.
وتُذكر للإله في العهد القديم أسماء أخرى كثيرة، منها رب الجنود، ومقدِّس يسرائيل، وإله إسرائيل الذي يتكرر مئات المرات ويترتب عليه أن أبناء إسرائيل وحدهم هم البشر ولهم إله خاص بهم أما باقي الخلائق فليسوا كذلك.
ثانياً- الأنبياء: من يقرأ الكتب المقدسة عند اليهود يجد أنهم يثبتون بعثة عدد كبير من الأنبياء المتفق على نبوتهم في الإسلام كنوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن جاء من بنيه من رسل، ومنهم موسى وهارون ويوشع بن نون وداود وسليمان وإلياس واليسع وغيرهم.
ويلاحظ الباحث اختلاف مصطلح النبوة عند اليهود عما هو عليه لدى المسلمين، فهو لا يقتصر عند اليهود على من اصطفاهم الله لهذه المهمة العظيمة بل يتسع ليشمل أصنافا متعددة، ومن قراءة أسفار التوراة والكتب الملحقة بها يمكن رسم ملامح مفهوم النبوة كما يفهمه اليهود ويدينون به من خلال النقاط التالية:
1- جاء التصريح في العهد القديم بنبوة بعض النساء مثل مريم أخت موسى وهارون (وهي ليست مريم أم عيسى)، ودبورة التي جمعت بين القضاء والنبوة، وخلدة التي جمعت بين الكهانة والنبوة أيضاً، كما أنها ممكنة للكبار والصغار والعبيد والإماء.
سفر إشعيا
2- النبوة ممتدة في بني يعقوب (إسرائيل) إلى الآن، ففي التوراة نقرأ “قال الرب (لأشعيا): روحي الذي عليك وكلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك ولا من نسلك قال الرب من الآن وإلى الأبد”. [أشعيا 59/21].
3- قد يجتمع فيهم مئة نبي في مكان واحد مما يدلُّ على كثرتهم فيهم.
4- دلت الأسفار على أن النبوة تُكتسب اكتساباً وليس اصطفاءً من الله، فزعموا بذلك أن بعض الأنبياء سلكوا طرقاً ملتوية للحصول عليها، كما فعل يعقوب حين خدع أباه إسحاق وانتزع حق خلافته في النبوة من أخيه البكر عيسو بخطة دبرها مع أمه، وعندما علم إسحاق بذلك سُقط في يده ولم يستطع تغيير الأمر الواقع، بل حتى الرب نفسه بزعمهم رضي بالخديعة وقبل نبوة يعقوب الذي سيصبح أباً لشعبه المفضل.
5- قد يرسل الرب أنبياء لإرشاد الأنبياء أنفسهم، “وكان إلى كلام الرب قائلاً يا ابن آدم تنبأ على أنبياء إسرائيل” [حزقيال: 13/2-3]، ما يعني أن الأنبياء قد ضلوا فتطلب الأمر إرسال أنبياء آخرين ليردوهم إلى جادة الصواب، وهذه الفكرة تؤدي بالضرورة إلى رفع العصمة عن الأنبياء، ومن ثم فلا يلزم الناس اتباع أي منهم لاحتمال كذبهم وضلالهم في أي شيء.
6- الباحث في العهد القديم يجد أن الأنبياء المذكورين في أسفاره لا يختلفون عن بقية البشر في شيء، فيجوز عليهم الكذب والغش والخداع والمعاصي كبيرها وصغيرها في حال نبوتهم، كما يجوز عليهم الإشراك بالله ودعوة الناس إلى الشرك أيضاً، كما تذكر الأسفار أنبياء للأوثان كأنبياء بعل وعشتاروت مما يصعب على الباحث مهمة التمييز بين النبي الصادق والكاذب في نظر التوراة، وقد ذهب الحَبر اليهودي موسى بن ميمون إلى أن النبي هو كل مُخبَر بغيب من جهة التكهن والشعور أو من جهة الرؤيا الصادقة ولعل هذا هو سبب تسمية أنبياء البعل وعشتاروت بذلك.
7- ذهب الحبر سعديا الفيومي إلى تعريف النبوة بأنها اصطفاء من الله، وتعريف الرسول بأنه مؤيد بالمعجزات، فيقول: “فأي رسول اختاره الله الخالق لرسالته جعل سبيله أن يعطيه علامة من هذه الأعلام: إما قهر طبائع كمنع النار أن تحرق أو حبس الماء أن يجري أو قلب عين كما يقلب الحيوان جماداً والجماد حيواناً… فإذا دفع إليه علامة من هذه وجب على من رآها من الناس أن يفضلوه ويصدقوه فيما يقول”، وهذا التعريف يخالف ما نجده في التوراة من إثبات نبوة كثير من أنبيائهم.
وعد بلفور
8- استفادت الصهيونية من سعة مصطلح النبوة في العهد القديم وجعلته أكثر سعةً وامتداداً حتى جعلتها في متناول كل من يقوم بدورٍ مهم لخدمة الشعب اليهودي في كل زمان، حتى أصبح كل يهودي مخلص في مصافِّ الأنبياء، فقالوا عن ديفيد بن غوريون إنه النبي المسلح وعن جابوتنسكي نبي محارب، بل يزعم البعض أن رئيس وزراء بريطانيا آرثر بلفور (صاحب وعد بلفور) هو الآخر نبي.
ومضامين الوحي تشمل أوامر الله ونواهيه وتعاليمه لبني إسرائيل، كما تشتمل في رأيهم أيضاً على أمور لا تتناسب مع تنزيه الإله وكرامة أنبيائه، ومنها:
1- الرب يأمر أنبياءه بالفواحش، فيقول “اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى” [يوشع: 1/2]، كما يطلب من نبيه أشعيا أن يتعرى تماماً ويدعو بني إسرائيل لثلاث سنوات ويمدحه على ذلك [أشعيا: 20/2]، وفي المقابل يقول القرآن الكريم {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28].
2- يطلب الرب من أنبيائه أن يقضوا له حاجاته، فيطلب من داود مثلا أن يبني بيتاً له لأنه كان يسكن في خيمة: “في تلك الليلة كان كلام الله إلى ناثان قائلاً اذهب وقل لداود عبدي هكذا قال الرب أنت لا تبني لي بيتاً للسكنى لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت إسرائيل إلى هذا اليوم بل سرت من خيمة إلى خيمة ومن مسكن إلى مسكن” [صموئيل الثاني: 7/ 6].
3- تتضمن التوراة التي يعتقدون أنها من الوحي سرداً تاريخياً لحياة بني إسرائيل، فأغلب الأسفار هي حكاية تاريخية وبيانٌ لحروبهم وصراعاتهم وتنقلاتهم وأسماء أماكنهم ورجالهم.
4- تحتوي الأسفار على صفات قبيحة للأنبياء يتنزه عنها الرجل العادي فضلاً عن الصالح، فتزعم أن سليمان مال إلى عبادة الأصنام بسبب حبه لنسائه الوثنيات وأنه ختم عمره بعبادتها وبالسحر، وتتهم هارون بأنه هو الذي صنع العجل الذهبي وأمر بني إسرائيل بعبادته في غياب موسى، وتورد قصصا عن محاججة الأنبياء للرب واعتراضهم على أحكامه كما فعل إبراهيم وموسى وإلياهو (إلياس)، أما يعقوب فقالوا إنه علم بزنى ابنه راؤبين بزوجته ومع ذلك سكت عن فعله، ونسبوا إلى لوط الزنا بابنتيه بعد سكره معهما، أما داود فقد شاهد -حسب زعمهم- امرأة عارية تستحم فأعجب بها وزنا بها وتخلص من زوجها (أحد قادة جيشه) بإرساله في معركة وجعله في مقدم الجيش ليضمن قتله، ثم ضم هذه الزوجة إلى نسائه فكانت نتيجة هذا الفعل ولادة ابنه سليمان.
ثالثاُ- الكتب المقدسة: الكتاب الأول- العهد القديم أو التوراة: هو كتاب اليهود المقدس وشريعتهم المكتوبة، وسمي بالعهد القديم للتمييز بينه وبين العهد الجديد الذي يؤمن به المسيحيون، فقد كُتبت أسفاره قبل عهد المسيح، وهو “عهد الرب” الذي تكرر لإبراهيم ثم إسحاق ثم يعقوب ثم تكرر على لسان موسى والأنبياء من بعده.
ويضم حسب رأي اليهود الأسفار التي جاء بها موسى وأنبياء بني إسرائيل من بعده، ويطلق اسم التوراة على الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، كما يطلق على الكتاب بكامله لأن أسفارها هي الأقدس عندهم ومن باب إطلاق اسم الجزء على الكل، والأسفار جمع سِفر وهو الكتاب، أما الأسفار الخمسة فهي:
1- سفر التكوين: يبدأ من خلق الكون مروراً بقصة آدم وتعرضه للإغواء وخروجه من الجنة، وقصة نوح والطوفان وما كان من أمر أبنائه بعد الطوفان سام وحام ويافث، ثم قصة إبراهيم وسلالته والعهد الذي قطعه الرب معه، ويذكر بالتفصيل قصة أبناء يعقوب الإثني عشر وقصة يوسف وينتهي بوفاة يوسف.
2- سفر الخروج: يتضمن قصة موسى منذ ولادته أثناء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل، ونشأته في قصر فرعون وتحركاته وخروجه إلى مدين وصحراء سيناء وكلام الله له فيها ونبوته، وترد في هذا السفر الوصايا العشر وقانون العهد وهي مجموعة من الشرائع والقوانين، كما ترد في السفر قصة ارتداد بني إسرائيل وعبادتهم العجل وتفاصيل رحلتهم شرقاً.
3- سفر اللاويين (أو الأحبار عند المسيحيين): لاوي هو أحد أبناء يعقوب، ومن نسله تحدر السبط الذي ولد فيه موسى وهارون، وفي نسله تنحصر الكهانة حسب ما جاء في السفر، إلا أن أحبار اليهود تعاونوا فيما بعد على إلغاء هذه القاعدة. وفي هذا السفر يتوقف السرد التاريخي ويبدأ التركيز على التعاليم الخاصة بالحياة الدينية حتى سماه علماء الشريعة الإسرائيلية “القانون الكهنوتي”.
4- سفر العدد: سمي بذلك لبروز ظاهرة التعداد الدقيق فيه، حيث ترد فيه إحصاءات تفصيلية لتعداد بني إسرائيل الراحلين مع موسى في التيه وعدد المدن والذبائح، ويُذكر فيه أن مدة التيه أربعين سنة، ويعود فيه السرد التاريخي لقصة موسى وقومه ويكثر فيه تذمرهم منه والاحتجاج عليه وعلى ربه حتى يصل إلى التآمر عليه من إخوته هارون ومريم أنفسهم.
5-سفر التثنية: هو آخر الأسفار الخمسة، ومعناه تثنية الشريعة أي إعادتها وتكرارها على بني إسرائيل مرة ثانية عند خروجهم من صحراء سيناء ووصولهم إلى سهول النقب وجنوب الأردن، وتضمن نسخاً لبعض تعاليم الشريعة الأولى أو إضافة أشياء لم ترد من قبل، ويتحدث عن وفاة هارون واستخلاف يوشع بن نون تلميذ موسى وخادمه، ثم وفاة موسى في جبل مؤاب وعدم معرفة قبره إلى الآن. فيقول في الفقرتين 5 و6 “فمات هناك موسى.. وتم دفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فاعور ولم يعرف أحدٌ قبره إلى يومنا هذا”.
أما القسم الثاني من العهد القديم فهو كتاب “الأنبياء”، ويضم بدوره قسم الأنبياء الأول وقسم الأنبياء الآخر، ويتضمن الأول أربعة أسفار يتتابع فيها السرد التاريخي لمسيرة الاسرائليين وهي: يوشع بن نون، والقضاة، وصموئيل، والملوك. ويتضمن الثاني أسفار خمسة عشر نبياً عندهم تولوا قيادتهم الروحية في ظروف سياسية واجتماعية حالكة، ومنهم عاموس وإشعيا وإرميا وحزقيال.
والقسم الثالث من العهد القديم هو “الكتب” أو “أسفار الحكمة”، وهي أسفار يغلب عليها الطابع الأدبي شعراً ونثراً وتتضمن قصصاً وحكماً تواترت لديهم وتحتوي تمجيداً لبطولاتهم في الاستقرار في فلسطين أو الرجوع إليها بعد السبي البابلي، وعددها اثنا عشر سفراً وأهمها: مزامير داود (وهو الزبور)، وأمثال سليمان، وأيوب، ونشيد الأناشيد، ودانيال، وإستير، وعزرا.
كان علماء اليهود واللاهوت المسيحي يعتقدون أن موسى هو الذي كتب الأسفار الخمسة، وأن الذي نزل من السماء مكتوباً هو لوحان فقط، وأن موسى كسرهما عندما رأى بني إسرائيل يعبدون العجل. كما اعتقدوا أن بقية أنبياء بني إسرائيل كتبوا الأسفار المنسوبة إليهم، وأن معظمها كُتب باللغة العبرية وبعضها بالآرامية، ثم تُرجمت في عهد بطليموس الثاني (246ق.م) إلى اليونانية، وذلك على يد 72 حبراً من أحبار الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، فسميت بالترجمة السبعينية، وهي الترجمة المعتمدة لدى معظم الطوائف اليهودية والمسيحية.
الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ إسبينوزا كان من أوائل الباحثين الأوروبيين الذين اجترأوا على نقد العهد القديم وكشف تناقضاته في القرن السابع عشر
لكن هذه الاعتقادات بدأت بالتلاشي في القرن الثامن عشر، حيث أكدت أبحاث كثيرة أن الأسفار الخمسة كتبها مئات الأحبار على مدى القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، أي بعد وفاة موسى بقرابة ألف عام، وأنها جُمعت بشكلها الحالي بعد ذلك بكثير، كما وجدوا أنها عبارة عن كتب تجمع أساطير وأشعار وتراث شعوب وحضارات الشرق الأدنى المتنوعة، وأن قيمتها تقتصر على الجانب الأدبي فقط
كما أثبتت الدراسات أن الأسفار المنسوبة للأنبياء لم يكتبها الأنبياء بل اشترك في كتابتها عدد كبير من المؤلفين والأحبار الذين لم تُعرف أسماؤهم، وكذلك بقية أسفار العهد القديم.
وبالنتيجة اضطر الكثير من علماء اللاهوت والأحبار لتغيير موقفهم، فقالوا إن الأسفار لم يكتبها موسى والأنبياء إلا أن روح الرب كانت تظلل الكتَّاب المجهولين على مدى ألف عام، وبهذا فقد أسقطوا المعنى الحقيقي للوحي، كما رأوا أن وجود الأخطاء التاريخية في الأسفار لا ينفي عنها صفة الإلهام لأن الوحي من الله لا يمنع الوقوع في أخطاء وتناقضات -حسب تصورهم- ورتبوا على ذلك ضرورة فهمها بالمعنى الإجمالي، وتأويل ما يناقض العلم والتاريخ وإن كان تأويلاً متعسفاً
وأرجع الباحثون في العهد القديم أسفار موسى الخمسة إلى أربعة مصادر رئيسية هي:
1- المصدر أو النص اليهَوي: حيث يُذكر الله باسم (يهوه) الذي كان شائعا في مملكة الجنوب يهوذا في القرن التاسع قبل الميلاد، ويتحدث هذا النص عن بدء الخليقة وينتهي بموت يعقوب، ويتميز بأنه تصويري وساذج ومليء بالأساطير، حتى أنه يجسد يهوه بصورة بشرية.
2- المصدر الإلوهيمي: حيث يذكر اسم الله باسم (إلوهيم) الذي كان شائعا في مملكة الشمال إسرائيل وعاصمتها السامرة، وزمان كتابته متقدم على النص اليهوي في القرن الثامن قبل الميلاد. وموضوعه الأحداث الخاصة بإبراهيم وذريته، وأسلوبه أكثر اعتدالاً لا سيما في تصويره للرب الذي يتحدث عنه بتنزيه أكبر، وأنه رب العالمين وليس خاصاً بإسرائيل وحدها. ويمتاز هذان المصدران بكثرة الروايات والقصص وندرة التشريعات، وقد أدمجا في مجموعة واحدة في القرن السابع قبل الميلاد.
3- مصدر سفر التثنية (تثنية الاشتراع): وهو سفر تتكرر فيه الشرائع والقوانين، وقد أعلن العثور عليه في زمن الملك يوشياهو ملك يهوذا سنة 620 ق.م، وأسلوبه مختلف عما سبق ويتميز بالإنشاء الخطابي.
4- النص الكهنوتي: وهو يتألف من فصول كتبها الكهنة في عصر النفي إلى بابل وما بعد النفي، أي في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد في زمن عزرا (عزير في القرآن الكريم)، ويتميز هذا النص بالتكرار والتشدد والميل إلى كل ما يتعلق بالذبائح والطقوس والكهانة.
وبعد كتابة الأنواع الأربعة السابقة، جمعها الأحبار في كتاب واحد أسموه “التوراة” أو أسفار موسى الخمسة، وذلك في عصور متأخرة جداً تصل إلى ما بعد ظهور المسيح عيسى. وهذا يفسر التناقض الكبير بين الأسفار نفسها.
ويقول الباحث اليهودي إدمون جاكوب في كتابه “العهد القديم” إنه لا يوجد نص واحد للعهد القديم بل نصوص كثيرة، ففي القرن الثالث قبل الميلاد كان هناك -على الأقل- ثلاث مدونات للنص العبري للأسفار الخمسة وهي: النص الماسوري أي المحقق الذي تم اعتماده بعد عصر موسى بحوالي 2300 سنة، والنص السامري الذي تؤمن به طائفة يهود السامرة، والترجمة السبعينية إلى اليونانية [موريس بوكاي، ص39]
وثمة شكوك أيضا حول الترجمة السبعينية، حيث ترى المسكونية الفرنسية أنها تمت خلال فترة زمنية طويلة بواسطة كتَّاب لم يلتزموا بدقة الترجمة، بل كان لهم حق الإضافة والحذف. كما صرحت دائرة المعارف البريطانية (الطبعة 15: 2/879) بأن النص اليوناني يختلف عن النص العبري اختلافاً بيناً، وفيه زيادات كثيرة في مختلف الأسفار.
ويقول جاكوب إن ما يرويه العهد القديم عن موسى والأنبياء لا يتفق إلا بشكل تقريبي مع المجرى التاريخي للأحداث، لكن الرواة كانوا يعرفون كيف يضفون الأناقة والخيال على مروياتهم بحيث يربطون بين أحداث شديدة التنوع، وقد نجحوا في تقديم هذه الأحداث في شكل حكاية لما حدث في أصل العالم والإنسان، أي أن كتَبة التوراة أضافوا بخيالهم إلى النص أشياء كثيرة لم تحدث.
وهذا يؤكد ما جاء في القرآن الكريم عن تحريف اليهود للتوراة الأصلية تحريفاً كبيراً، حيث يتفق علماء الإسلام على وقوع هذا التحريف بيد أنهم يختلفون في معناه على قولين، هما:
القول الأول: التحريف والتبديل وقع في التأويل والنص ولكن في أجزاء محدودة من التوراة، مثل زعم الأحبار أن الله صارع يعقوب طوال الليل ولم يستطع أن يتغلب عليه، وأنه سبحانه تعب بعد خلق السماوات والأرض فاستراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، وأن النبي لوط زنى بابنتيه بعد أن شرب الخمر، وغيرها مما رأى النقاد الأوروبيون أنفسهم -في عصر النهضة وبعده- أنه لا يمكن أن يكون من الوحي الإلهي.
القول الثاني:التوراة التي أنزلت على موسى بُدِّلت كلها أو أكثرها، ولا يوجد تطابق بين توراة موسى والتوراة الموجودة اليوم في شيء، والشذرات الصحيحة المنبثَّة في الأسفار الحالية نادرة جداً. وهذا القول هو الأرجح الذي ذهب إليه المتبحرون في دراسة الأسفار ومقارنة الأديان، مثل ابن حزم الأندلسي، وأبي حامد الغزالي، وإمام الحرمين الجويني، وابن تيمية، وابن القيم، والقرطبي صاحب التفسير، ورحمة الله الهندي وغيرهم.
أما أنواع تحريف التوراة التي نبَّه إليها القرآن فهي: تحريف بالتبديل ويكون بوضع كلمة مكان كلمة أو جملة مكان جملة، وتحريف بالزيادة والنقصان ويكون بزيادة أو حذف كلمة أو جملة، وتحريف بتغيير المعنى دون تغيير اللفظ. وهناك قسمٌ من أصل التوراة نسيه اليهود وفُقد منهم بسبب بذنوبهم، كما بيّن ذلك القرآن بقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13].
ويرجع الباحثون أسباب ضياع التوراة إلى عوامل عدة منها: الحروب التي خاضها بنو إسرائيل مع أعدائهم، وما تعرضوا له من سبي وشتات، وانحرافاتهم العقدية وارتدادهم المتكرر عن دينهم حتى عبدوا البعل وعشتروت ومولوخ وغيرها من الأوثان كما تذكر أسفار العهد القديم، فضلا عن اضطهادهم لأنبيائهم إلى درجة قتل بعضهم.
ويرى باحثون مسلمون معاصرون أن أحبار اليهود كتموا ما بقي لديهم من التوراة وأخرجوا للناس نقيضها لإفسادهم وحجبهم عن معرفة الحق، لأن انتشار الإلحاد والفساد بأنواعه يضمن لهم السيطرة على العالم، ويرجح الباحث بهاء الأمير في كتابه “الوحي ونقيضه” أن العائلات اليهودية الكبرى التي تسيطر على إمبراطوريات المال والإعلام في العالم تحتفظ بالتوراة وتبث نقيضها عبر أذرعها في الجمعيات السرية المسيطرة على مفاصل القوة في الدول العظمى. ويقول إن أحد أبرز مظاهر إفسادهم هو تحريفهم لقصة خلق الإنسان في التوراة، وما ترتب على هذا التحريف من فساد عقدي وتمكينٍ لسطوة الشيطان على الإنسان الذي يضمن سيطرتهم ونفوذهم.
تناقضات وتساؤلات في أسفار العهد القديم يذكر سفر التكوين قصتين للخلق، ففي الأولى [1: 20- 27] خلق الله النباتات والحيوانات أولاً ثم خلق الإنسان، وفي الثانية [2: 7، 19] خلق الإنسان أولاً ثم خلق النباتات والحيوانات.
المدة الفاصلة بين خلق آدم وطوفان نوح تبلغ في النسخة العبرية 1656 سنة، وفي النسخة اليونانية 2262 سنة، أما في النسخة السامرية فتبلغ 1307 سنة.
في سفر الخروج [6: 2] يخبر الله نبيه إبراهيم بأن اسمه ليس “يهوه”، إلا أنه يؤكد له في سفر التكوين [22: 14] أن اسمه “يهوه”.
يقول سفر العدد إن النبي هارون توفي في جبل هور [20: 28]، بينما يقول سفر التثنية إنه توفي في موسير (موسره) [10: 6].
في سفر صمويل الأول [18: 19]: ابنة شاؤول اسمها ميراب، أما في سفر صموئيل الثاني [21: 8] فاسمها ميكال، ويقول السفر إن داود أخذ بني ميكال الخمسة وأسلمهم للصلب مع إثنين آخرين حتى يرضى الرب ويمنع استمرار المجاعة، لكن نسخا أوروبية حديثة للسفر عدّلت النص وجعلتهم أولاد ميراب.
يقول سفر التثنية “فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مواب… ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم” [34: 5- 6]، فلو كان موسى هو كاتب العهد القديم فكيف يكتب عن وفاته واختفاء قبره؟
جاء في سفر حزقيال [18: 20] أن الأبناء لا يحملون ذنوب الآباء، وفي سفر التثنية [24/ 16]: “لا تقتل الآباء بالبنين ولا تقتل البنون بالآباء، بل كل امرئ بذنبه يُقتل”، بينما ينص سفر الخروج [20: 5] على أن الرب ينتقم من الأبناء حتى الجيل الثالث والرابع بسبب ذنوب الآباء.
الكتاب الثاني- التلمود: يأتي في المقام الثاني بعد التوراة، وهو الشريعة الشفوية، ويتألف من قسمين هما المشناة والجمارا.
أحبار يتدارسون التلمود بريشة كارل تشيلشر
أما المِشناة فهي مجموعة من الشرائع اليهودية المروية على الألسنة، حيث يعدها اليهود مصدراً رئيسياً من مصادر التشريع، ويظنون أنها تعود إلى موسى نفسه، فيسمونها “التوراة الشفوية”. ولم يبدؤوا بتدوينها إلا بعد السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد واستقرت كتابتها على الوضع الذي نعرفه في نهاية القرن الثاني بعد الميلاد.
تقسم المشناة إلى ستة أقسام تتضمن التعاليم الدينية الخاصة بكل من: الأرض والزراعة، الأيام والأعياد المقدسة، النساء وأحكامهن، القصاص والعقوبات، القرابين وخدمة الهيكل، أحكام الطهارة والحلال والحرام. وقد كتبت بلغة عبرية حديثة قياساً إلى عبرية التوراة.
وبعد الانتهاء من تدوينها انكب أحبار اليهود على شرح المشناة، وأودعوا في شرحهم كل ما أرادوا إشاعته بين عوام اليهود من شرائع وحكايات في كل مجال، فسمي هذا الشرح “جمارا” أي التكملة، وكتب بالآرامية، ومن اجتماع المِشناة والجمارا تكون “التلمود”.
تركزت مدارس الشرح في العراق خلال السبي البابلي كما ظهر لها شرّاح في فلسطين من فلول اليهود التي بقيت هناك بعد السبي، وأدى ذلك إلى ظهور تلمودين: تلمود بابلي شرح المشنة كاملةً، وتلمود أورشليمي ناقص شرح فصولاً منها، وعندما يُطلق التلمود يقصد به التلمود البابلي.
رابعاً- عقيدة يوم الرب وعقيدة الماشيَّح المنتظر: يعتقد اليهود أن الرب اختار إسرائيل شعباً له ووعدهم بإخضاع شعوب الأرض لهم. ومع أن ذلك لم يحدث دائماً، ومع أنهم يقرّون بإصرارهم على التفريط في عهدهم معه وأن الدنيا تبدو بعيدة عن الكمال المطلوب وفق تصورهم لها، فإن ذلك يقتضي أن يُنزل الرب عقابه الصارم وينتقم لشعبه المختار ويكون له مع الدنيا يومٌ عظيم.
وقد ذُكر “يوم الرب” على لسان النبي عاموس في السفر المنسوب له محذراً من الانتقام الإلهي من المخالفين، وخلط اليهود بدهاء قضيتهم بقضية الإله، فهم ينتظرون يوم الرب ليحمل لهم انتصار شعب الرب المختار على الأمم الأخرى التي ستدين لهم بالخضوع فيه، أما كلمات عاموس نفسه فتشير إلى أنه يومٌ تنتصر فيه العدالة الإلهية التي سيرتعد منها الشعب اليهودي رعباً مما اقترفه من آثام. [عاموس 5/18-20].
أما “يوم الرب” بالمعنى الذي قصده الأنبياء من وعيد وانتقام من العصاة، سواء من اليهود أو غيرهم، فهو موضع تهكم وسخرية لديهم حيث أطلقوا عليه اسم “أحَريت هَيَّاميم” أي آخرة الأيام أو اليوم الآخر، ويقصدون به معنىً مختلفاً تماماً عن المعنى المتعارف عليه عند المسيحيين والمسلمين الذين يؤمنون بالآخرة، فهو عندهم اليوم البعيد جداً الذي لن يأتي مما اضطر نبيهم حزقيال إلى تقريعهم وتحذيرهم كما جاء في سفره [12/21 وما بعدها].
أرض الموتى كما تخيلها الرسام جون مارتن في القرن الثامن عشر
كانت النصوص الإسرائيلية القديمة تتحدث عن أرض الموتى (شيول)، وهي مكان أسطوري محايد يذهب إليه الموتى وغير مرتبط بالثواب والعقاب أو البعث والحساب. ثم اختلف مفسرو التوراة وأحبار التلمود في تفسير معنى “جهنم”، فقال البعض إنه “الوادي الملعون” الذي يُعاقب فيه المذنبون داخل الزمان، ودون تحديد لمدى العقوبة، حيث قيل إن الآثمين من بني إسرائيل سيُعاقَبون عاما واحدا ثم تباد أرواحهم، وقيل إنهم سيذهبون إلى الجنة بعد قضاء فترة العقوبة، ورأى آخرون أن كل بني إسرائيل سيبعثون بعد الموت وينقذهم إبراهيم من دخول جهنم، كما أنكر بعض الحاخامات وجود جهنم وقالوا إن أرواح الأشرار ستباد ولن تخلد في العذاب، وفي العصر الحديث أسقط كثير من اليهود فكرة جهنم نهائيا، وما تزال مفاهيم البعث والآخرة غامضة في فكرهم الديني. [موسوعة المسيري: 14/289].
وأما قضية المسيح المنتظر فهي من أهم قضايا اليهود على الإطلاق، والمسيح أو الماشيَّح أو المسيّا هو الممسوح بالزيت، وهو رجل من نسل داود سيأتي حسب زعمهم ليعيد دولة اليهود في فلسطين ويقيم بناء الهيكل المهدم، وبواسطته سيحكم اليهود العالم.
وقد زاد الحديث عنه بكثرة في مرحلة النفي، وفي كل مرحلة ضعف تعرضوا لها ازداد تعلقهم بالمسيا الذي سيأتي ليخلصهم وينتقم لهم من العالم، وتكررت نبوءات الأنبياء بقدومه حتى ملأت معظم أسفار العهد القديم والتلمود البابلي خاصة.
ولا بد من علامات تسبق ظهور الماشيح، فيقولون إنه لن يظهر إلا بعد تجمع اليهود من الشتات في الأرض المقدسة، وتجمع الثروة في أيدي اليهود وسيطرتهم على العالم اقتصادياً بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة، كما أنه لا يظهر إلا بعد قيام حرب عالمية رهيبة يهلك فيها ثلثا سكان العالم ويؤمن به الثلث الباقي، وتسمى هذه الحرب عندهم “حرب التنين” وهي التي يطلق عليها المسيحيون المتصهينون معركة “هرمجدون” [انظر مقال المسيحية المتصهينة]، فيظهر الماشيح عقبها وتدين له شعوب الأرض كافة بالخضوع.
كما لا بد أن يسبق ظهوره هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه، ويزعم التلمود أنه بظهوره ستعم البركة والخير والعدل الأرض ويصبح اليهود سادة البشر. واختلف الحاخامات في مدة بقائه فمنهم من جعلها أربعين سنة، وقال بعضهم إنها سبعون سنة، وزعم آخرون أنها آلاف السنين.
ومن أشهر الشخصيات المترتبة على تعلقهم بفكرة المسيح المنتظر وأشدها ارتباطاً به هي شخصية النبي إلياس الذي يسميه اليهود (إلياهو)، وأخباره كثيرة مشهورة في سفر الملوك الأول وكان معاصراً للملك آخاب في مملكة إسرائيل -عاصمتها السامرة- الذي عبد بعل إرضاء لزوجته الصيدونية الوثنية، وكانت له مواقف عديدة في مواجهة الملك وقومه الذين انحرفوا عن عبادة الله وشاع فيهم الفساد حتى رُفع إلى السماء في مركبة نارية كما يذكر العهد القديم.
ودوره الأهم عندهم يتمثل في عودته قبل ظهور الماشيح مبشراً به، كما يقولون إنه ينزل من حين إلى حين إلى هذه الدنيا ليطمئن على اليهود وإقامتهم لشعائرهم، لذلك اقتضت تقاليد عيد الفصح عندهم تخصيص كأس نبيذ ومكان فارغ على مائدة الفصح في كل بيت للنبي إلياهو لعله يحضر الاحتفال كما تصوره قصصهم الشعبية للأطفال كشخصية مماثلة لشخصية “بابا نويل” أو “سانتا كروز” عن المسيحيين.
ويسجل التاريخ ظهور كثير من اليهود الذين ادعى كل منهم أنه المسيح المنتظر، ومنهم داود الرائي (حوالي سنة 1163م) في العراق زمن الخلافة العباسية، الذي استفاد من علوم المسلمين المزدهرة في عصره وأتقن التنجيم والسحر ودعا للذهاب إلى القدس وانتزاعها من يد المسلمين وإعلان حكم يهودي فيها وأنه المسيح المخلص لليهود، ومن أشهرهم في العصر الحديث شبتاي صِبي (زيفي) الذي عاش في الدولة العثمانية حوالي عام 1647م، وقام بدور أساسي في نشوء ما عرف بعد ذلك بيهود الدونمة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية، وكانوا العامل الأبرز في إسقاط الخلافة الإسلامية فيما بعد سنة 1908م.
بالرغم من إنكار الكثير من اليهود المعاصرين، فإن هناك أدلة تاريخية كثيرة على أن الإسرائيليين القدامى تقربوا إلى الإله الكنعاني “مولوخ”، والذي يُرجح أنه تجسيد للشيطان، عن طريق التضحية بالأطفال، وما زال البعض يمارسون هذه الطقوس السرية في العصر الحديث.
نصوص تأمر بالعنف في العهد القديم: “فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة” [سفر التثنية 18: 28].
“حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك” [سفر التثنية 20: 10- 15].
“فالآن أقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها” [سفر العدد 31: 17].
“فالآن اذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا” [سفر صموئيل الأول 15: 3].
“كما أثكل سيفك النساء كذلك تُثكل أمك بين النساء” [سفر صموئيل الأول 15: 33].
“طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة” [سفر المزامير 137: 9].
“تجازى السامرة لأنها قد تمردت على إلهها، بالسيف يسقطون، تحطم أطفالهم والحوامل تشقّ” [سفر يوشع 13: 16].
“وأطعمهم لحم بنيهم ولحم بناتهم فيأكلون كل واحد لحم صاحبه في الحصار والضيق الذي يضايقهم به أعداؤهم” [سفر إرميا 19: 9].
الشريعة اليهودية تعد الوصايا العشر التي وردت في سفر الخروج عصب الشريعة الموسوية، وقد تكررت في سفر التثنية للتأكيد على أهميتها وجاء فيها: ثم تكلم الله بجميع هذا الكلام قائلاً:
أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمام وجهي.
لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة،… لا تسجد لها ولا تعبدها لأني أنا الرب إلهك إله غيور أتعقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع من أعدائي، وأصنع إحساناً إلى أولف من أحبائي وحافظي وصاياي.
لا تحلف باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يبرئ من ينطق باسمه باطلاً.
اذكر يوم السبت لتقدسه في ستة أيام تعمل وتنجز كل أعمالك واليوم السابع سبت للرب إلهك… لأن الرب خلق السماوات والأرض والبحر وكل ما فيها في ستة أيام، وفي اليوم السابع استراح ولذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه.
أكرم أباك وأمك كيي يطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك.
لا تقتل.
لا تزن.
لا تسرق.
لا تشهد على قريبك شهادة زور.
لا تشتهِ بيت قريبك، لا تشتهِ امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك.
عرس يهودي في أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر
كما تتصف الشريعة اليهودية بأحكام تميزها عن غيرها من الشرائع، ففي الزواج مثلاً يعد بقاء اليهودي في العزوبة أمراً منافياً للدين، لأنه يتسبب في أن يتخلى الرب عن شعبه إسرائيل، ويحرم الزواج بين اليهود وغيرهم الذين يسمون في كتب الشريعة عندهم كفاراً أو (الغوييم) أي الأمم الأخرى أو الأغيار، ويستوي في ذلك المسلمون والمسيحيون والوثنيون، ومنهم من تشدد فأكد على ضرورة وحدة المذهب أيضاً، والأولاد الناتجون عن زواج مخالف هم أولاد زنا، ويصح عندهم أن يعقد بين اثنين كان أحدهما أجنبياً ثم اعتنق الدين لكن أولادهما لا يصح أن يكون منهم كهنة في إسرائيل تأكيداً للنزعة العنصرية التي تصبغ أكثر شرائعهم الفقهية. ويجوز للإسرائيلي الزواج من ابنة أخته أو ابنة أخيه ولكن العكس محرم فلا يحل للمرأة الزواج من ابن أختها أو ابن أخيها، ثم حرم كثير من أحبارهم الزواج ببنت الأخ. كما أن تعدد الزوجات كان جائزاً شرعاً ولم يرد نص بتحريمه أو تحديد حدٍّ أقصى له، وكانت عادة اليهود باتخاذ أكثر من زوجة إلى أن أفتى الحاخام جرشوم بن يهودا الفرنسي (توفي عام 1040م) بتحريم تعدد الزوجات، وذلك نتيجة ما لاقاه يهود أوروبا في العصور الوسطى من اضطهاد واحتقار لأسباب منها تعدد الزوجات المحرم عند المسيحيين، لكن فتواه لم تطبق واستمر التعدد سراً وعلناً لاسيما في بلدان آسيا وأفريقيا.
عرس تقليدي لابن أحد الحاخامات
ومن خصائص الشريعة اليهودية مسألة اليِبُّوم، وهي أرملة اليهودي الذي مات ولم ينجب فيجب عندئذ تزويجها لأخيه الأعزب، فإذا أنجب منها فإن المولود لا يحمل اسمه بل اسم أخيه الميت وينسب إليه، وإذا امتنع أخو المتوفى عن هذا الزواج فإنه يشهر به ويخلع من المجتمع الإسرائيلي.
كذلك تهتم الشريعة اليهودية بالابن البكر فهو خليفة أبيه في السلطة والثروة، وكثيراً ما كانت تشتعل المنافسات بين الإخوة الصغار وأخيهم الأكبر بسبب هذا وتنسج المؤامرات، وأوضح الأمثلة قصة يعقوب وتآمره مع أمه على انتزاع حق البكورية من أخيه عيسو المذكورة في سفر التكوين. والعبارة التالية توضح الغاية من هذا التشريع، فقد نص بن شمعون في قانونه على أن: “البكر من الجارية أو الأجنبية لا يمنع البكورة من الإسرائيلية” والمقصود نزع حق النسبة وميراث النبوة من إسماعيل جد العرب من أبيه إبراهيم وإثباتها لإسحاق ونسله فقط، فمع أن إسماعيل وُلد قبل أخيه إسحاق إلا أنه ابن هاجر الجارية المصرية، أما إسحاق المتأخر في الولادة فكان سليل الزوجة سارة التي توصف بأنها عبرية، وكان لا بد من هذا التشريع لتستقيم نظريتهم في شعب الله المختار.
أما بالنسبة للأموال والممتلكات فنجد أن الرِّبا محرم بين اليهود فقط، وعقوبة المخالف لذلك التكفير والخلع، بينما يباح الرِّبا إذا أقرض اليهودي لغير اليهودي. لكن الأحبار تحايلوا على هذا التشريع فيما بينهم أيضاً.
وباستعراض تقاليد اليهود في الطعام والشراب، نجد أنه يحلُّون من الحيوانات كل ما له ظلف مشقوق وليست له أنياب ويأكل العشب ويجتر، وبذلك يحرم عليهم الخيل والبغال والحمير وكذلك الجمل، والخنزير لأنه ذو ناب والسباع بأنواعها كما يحرم عليهم الأرنب وما يتصل به من قوارض آكلة للعشب لأنها ذات أظافر لا أظلاف مشقوقة، كما يحرم من الطيور كل ما له منقار معقوف أو مخلب أو كان ممن يأكل الرمم، وتذبح الحيوانات الصالحة للأكل من منحرها بالطريقة الشرعية وبعد تلاوة بركة تتضمن اسم الرب. أما صيد البحر فكله حرام عليهم باستثناء السمك الذي له زعانف وعليه قشور فقط، كما أن الدم محرم عليهم كتحريمه على المسلمين، ويحرم عليهم الجمع بين اللحم واللبن الحليب أو أي شيء يمت له بصلة في طعام واحد، لذلك يحرم طبخ اللحوم في السمن والزبد بل تطبخ بزيوت نباتية. كما يحرم أن يوضع اللحم في إناء كان قد وضع فيه لبن أو جبن من قبل.
ويولي اليهود اهتماماً شديداً بأعيادهم الدينية لارتباطها بتعاليم التوراة من جهة وبتاريخهم من جهة أخرى، وأكثر أعيادهم أهمية في توضيح عقيدتهم:
طقوس يوم السبت في لوحة من القرن الرابع عشر
1- السبت: هو العيد الأسبوعي لدى اليهود، ويبدأ من غروب يوم الجمعة إلى غروب السبت، وأهم شعائره الكفُّ عن أي عمل في ذلك اليوم لأن الرب -كما زعم كتبة سفر التكوين- استراح فيه بعد أن تعب من خلق السماوات والأرض، حيث يقول “وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع وبارك الله اليوم السابع وقدسه” [التكوين: 2/ 3]. وتقدم ذبيحة في هذا اليوم لأن الرب “يحب اللحم المشوي”، وتتشدد الشريعة اليهودية في أحكام السبت فمن يعمل عملاً فيه يحكم بالإعدام، حيث زعم كتبة التوراة أن موسى قتل رجلاً لأنه احتطب يوم السبت [الخروج: 31/ 14- 15]، وتطبيق شعائره من أهم بنود الوصايا العشر التي جاء بها موسى كما يقولون.
ومن الأمور المحرمة في السبت استدعاء طبيب لمعاينة مريض مهما كانت حالته حرجة، وعدم صنع طعام أو إيقاد نار، لذلك يصنع اليهود المتدينون طعامهم قبل غروب الجمعة، والامتناع عن الكتابة والتعاقد والبيع والشراء والخروج من البيوت والقتال وإبرام عقود الزواج. لكن الأحبار أبدعوا طرقاً للتحايل على هذه القيود، حيث ذكر القرآن نموذجاً منها في قصة أصحاب السبت [البقرة: 65]، وللتحايل على مسألة الحروب والقتال أباحوا للكاهن الأعلى أن يعلن الحرب على أساس أنها حرب دفاعية، ولهذا يسمى جيشهم اليوم بجيش الدفاع الإسرائيلي.
2- عيد الفصح أو عيد العبور أو الفطير: هو أهم الأعياد اليهودية على الإطلاق، فيحتفلون فيه بإخراجهم من مصر ونجاتهم من فرعون، والفصح كلمة عبرية تعني العبور أي عبور البحر، وسمي عيد الفطير لأنهم لا يأكلون فيه إلا فطيراً قبل أن يختمر كما فعل آباؤهم عند خروجهم من مصر حيث أخذوا معهم عجينهم قبل أن يختمر، وتستمر الاحتفالات بهذا العيد سبعة أيام ويقع في شهر أبيب العبري الموافق لشهر أبريل/نيسان، وعلى كل عائلة أن تذبح استعداداً له خروفاً وأن تلطخ بدمه باب بيتها وعتبته وقائمتيه، وذلك إحياءً لما نص عليه سفر الخروج الذي جاء فيه أن الرب عندما قرر إهلاك كل المصريين -وليس فرعون وجيشه فحسب- نزل وتمشى في أرض مصر ليقتل كل المصريين وأبناءهم وبهائمهم، وحتى لا يخطئ الرب ويقتل أحداً من شعبه المختار فقد جعل لهم علامة تيميز بيوتهم عن بيوت المصريين، فأمرهم بأن يذبح كل منهم شاة ويغمس عتبة بيته بدمها كي يتعرف الرب على بيوتهم فلا يمسها بسوء، وفي هذا التصور للإله يبدو واضحا أنه لا يعلم كل شيء.
شوارع تل أبيب فارغة في يوم الغفران (Roy Boshi)
3- يوم الغفران (يوم كِبُّور): هو يوم من كل سنة حددته الشريعة اليهودية للتكفير عن الخطايا ويسمى يوم الكفارة، ويوافق اليوم العاشر من الشهر السابع من السنة العبرية، وينبغي فيه الامتناع عن العمل، مع الصوم والاعتراف بالخطايا وإقامة الطقوس المستمدة من التوراة، حيث ينص سفر اللاويين على أن الرب أمر موسى وهارون بأن يحضرا تيسين، الأول يقدمانه للرب بعد أن يتلو هارون على رأسه كل خطايا بني إسرائيل ويذبحانه ليحملها عنهم، ويلطخان بدمه قدس الأقداس في خيمة الاجتماع وغطاء التابوت الذي فيه الرب، أما الثاني فيحمل خطاياهم ويرسلونه في البرية، وهو مقدم لعزازيل (إبليس نفسه) في طقوس أقرب ما تكون من عبادة الشيطان وتقديم القرابين له، ما يؤكد تسلل عقيدة ثنوية (ثنائية) الآلهة لدى اليهود، انطلاقا من مفهوم ازدواجية الخير والشر في العالم. وبما أن ذنوب الشعب المختار كلها تُكفّر في هذا اليوم فقد أصبح لدى البعض يوماً لارتكاب جميع الموبقات ونكث العهود، بل وإنكار الحقوق والديون والتحلل من الالتزامات، وبعد انتهاء الطقوس تذهب كل الذبائح والقرابين إلى بيت الكاهن.
4- عيد الفوريم أو البوريم أو عيد المساخر: له ارتباط وثيق بسفر أستير الذي يحكي قصة غانية فاتنة من بي إسرائيل اسمها أستير نجحت في الوصول إلى قلب الملك الفارسي أحشويروش أو قورش الأول (الذي حكم بلاد فارس من 485 إلى 465 ق. م) بعد أن علمت أن وزيره هامان يزمع استصدار أمر من الملك بإعدام طائفة من اليهود في مملكته لجرائمهم، فدبرت مكيدة بمساعدة عمها مردخاي بن يائير، وبعد أن أغوت الملك وأسكرته اتهمت هامان بأنه يتآمر عليه، فصدقها وأعدم هامان وأولاده وجنوده، وجعل عمها أحد وزرائه وقرب اليهود، وعندما تولى ابنه (ربيب أستير) العرش وحطم الدولة البابلية استصدرت أمراً بإعادتهم إلى فلسطين. وكلمة “بوريم” الفارسية تعني القرعة، حيث كان هامان قد أجرى قرعة لتحديد اليوم الذي سينفذ فيه الإعدام، فوقعت القرعة على يوم 13 آذار قبل أن تنقلب الأمور عليه ويقتل. وكتب أحبار اليهود سفرا كاملا باسمها في العهد القديم، وما زالوا يتعبدون بتلاوة هذا السفر مع أنه يتضمن قصة إغوائها للملك، ويعتبرونها من أبطال إسرائيل التي أنقذت شعبها. وفي الثالث عشر من آذار من كل سنة يحتفلون بهذه المناسبة بالإكثار من شرب الخمور والفجور، ويلبسون الأقنعة والملابس التنكرية في أجواء احتفالية (كرنفالية)، فاشتهر هذا العيد -وخاصة لدى المؤرخين المسلمين الذين عاش اليهود بينهم- باسم “عيد المسخرة أو المساخر”.
أشهر الفرق اليهودية: ينقسم جمهور اليهود عرقيا إلى طائفتين كبيرتين هما:
أولاً- الإشكناز: هم من سلالات شعوب “الخزر” التي استوطنت حوض نهر قزوين وشمال أوربا وشرقها، حيث تخلوا عن الوثنية واعتنقوا اليهودية في القرن التاسع الميلادي، أي بعد ظهور الإسلام أيضا، فهم ليسوا من بني إسرائيل ولا يمتون إليهم بصلة، ومع ذلك فهم يشكلون اليوم غالبية يهود العالم الذين يطالبون بعودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة.
كانت كلمة “إشكناز” تدل في العصور الوسطى على الأراضي الأوربية التي يسكنها الجنس الجرماني ثم أصبحت تدل على ألمانيا، وكذلك شمال فرنسا وشرقها والنمسا وبولونيا وسائر أوربا الشرقية ودول الاتحاد السوفييتي السابق. ونتيجة البعد الجغرافي عن فلسطين لم يستخدم الإشكناز اللغة العبرية، فحلّت محلها رطانة خاصة بحارات اليهود (غيتوهات) أساسها لهجة ألمانية قديمة ممزوجة بألفاظ عبرية، ومستقاة من المصطلح الديني عند اليهود، فلما عادوا للاهتمام بالعبرية في العصر الحديث ظهرت بينهم لهجة خاصة محرفة، ولهم طقوس خاصة في الأعياد وبعض التقاليد المختلفة في المأكل والمشرب والملبس، وذلك بتأثير الأمم التي عاشوا في كنفها والمناخ البارد الذي اعتادوا عليه قروناً، ومن الإشكناز خرج أقطاب الصهيونية المعاصرة في بدايات القرن العشرين الميلادي.
ثانياً- السفارد (سفارديم): هم اليهود الذين استقروا في حوض البحر الأبيض المتوسط المتحدرون من يهود شبه جزيرة إيبيريا (إسبانيا والبرتغال)، فبعد دخول المسلمين إلى الأندلس تمتع اليهود هناك بحرّية دينية وثقافية واجتماعية كبيرة مما سمح لهم بالمحافظة على استعادة عبريتهم التي فقدوها لقرون، وعندما تعرض اليهود مع المسلمين للاضطهاد في محاكم التفتيش الكاثوليكية بعد سقوط الأندلس عام 1492م، هاجر عدد كبير منهم إلى فرنسا وإنجلترا وإيطاليا واليونان وتركيا وأطلق عليهم اسم سفارديم. ومع تأسيس الكيان الصهيوني نزح معظمهم إلى هناك وشكلوا أغلبية السكان، لا سيما وأنهم كانوا يحافظون على اللغة العبرية التي أصبحت اللغة الرسمية للدولة الناشئة، لكن قادة الصهيونية من الإشكناز سارعوا إلى الضغط على الاتحاد السوفييتي لترحيل ملايين اليهود الإشكناز كي يشكلوا غالبية سكان إسرائيل ويطبعوا الدولة بطابعها الغربي العنصري.
تشير دراسات مختلفة إلى أن اليهود الإشكناز يمثلون 83.33% من مجموع اليهود في العالم، أما السفارديم فنسبتهم حوالي 5.3%، بينما تصل نسبة يهود العالم الإسلامي والشرق إلى 11.39% من مجموع اليهود في العالم والبالغ 13.2 مليوناً.
ويعتبر الكثيرون اليوم أن الإشكناز هم اليهود الغربيون وأن السفارديم هم الشرقيون، وهذا ليس صحيحا، فهناك الكثير من السفارديم اليوم في دول أوربا الغربية، كما ينبغي التمييز بين السفارديم واليهود الشرقيين (المزراحيين)، فمصطلح “اليهود الشرقيين” كان يُطلَق على بني إسرائيل الذين غادروا أورشليم بعد هدمها إلى العراق وإيران وأفغانستان والجزيرة العربية وشمال أفريقيا وجورجيا.
مجموعة من نساء الفلاشا عند حائط البرقاق بالقدس (سبوتنيك)
ومن الصعب أيضا الإقرار بأن كل المزراحيين ينحدرون من سلالة بني إسرائيل، فبالرغم من حرص اليهود على نقاء عرقهم إلا أن الكثير منهم تزوج وصاهر أعراقا أخرى في المشرق العربي والإسلامي، وهناك سلالات يهودية اليوم في الهند، وكذلك سلالة أخرى في الحبشة (الفلاشا).
ويجدر بالذكر أن يهود المشرق يختلفون عن السفارديم بخلفياتهم الثقافية والتاريخية مع أنهم يتبعون النهج السفاردي في العبادة.
وتتسم العلاقة بين الإشكناز الغربيين والسفرديم الشرقيين بتوتر شديد وصراع دائم في الكيان الصهيوني بسبب التمييز العنصري، إذ يعتبر الإشكناز أنفسهم أعلى رتبة من الآخرين، ويحتكرون لأنفسهم أهم مناصب السياسة والامتيازات الاقتصادية، مما يولد أحقاداً بين الطرفين.
وإلى جانب التصنيفات العرقية السابقة، والتي تتبعها فوارق مذهبية وثقافية أيضا، فهناك فرق أخرى انبثقت عن التطور المستمر في الفكر الديني اليهودي، وقد عاشت بعضها لمدة قد تطول أو تقصر بحسب الأحوال والملابسات، بينما اندثر أكثرها، ونذكر من هذه الفرق ما يلي:
السامريون
1- السامريون: هي فرقة صغيرة لا يزيد عدد أبنائها عن المئات، تعيش بجوار مدينة نابلس الفلسطينية التي قامت على أنقاض مدينة السامرة التي ينتسبون إليها، ويزعمون أنهم البقية الباقية على الدين الصحيح، ولا يؤمنون بنبوة الأنبياء الذين جاءت أسفارهم بعد توراة موسى في العهد القديم ويعدونها من صنع البشر باستثناء سفر يوشع بن نون، فيرفضون التلمود وغيره من كتابات الأحبار. ولهم نسختهم الخاصة من التوراة التي تختلف اختلافاً محسوساً عن التوراة الشائعة، ويقدسون جبل جرزيم قرب نابلس ويسمونه جبل الطور تيمناً بالطور الذي كلم الله عليه موسى، ويعيشون في عزلة عن بقية اليهود، وينفون عن عامة اليهود الانتساب إلى إسرائيل أو الإيمان بإله إسرائيل.
2- الفريسيون: هم طائفة علماء الشريعة (الأحبار) قديماً الذين كانت لهم الكلمة العليا في توجيه المجتمع اليهودي على عهد المسيح، كما كانوا من ألدّ خصومه وأكثرهم تعصباً، وامتازوا آنذاك بمنزلتهم عند الولاة الرومان. واسمهم مشتقٌ من كلمة “فروشيم” التي تعني “المفروزون” أي الذين امتازوا على الجمهور وعزلوا أنفسهم عنهم وأصبحوا لعلمهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة الصفوة المختارة، ويعتبرون بقية اليهود من “عوام الأرض”. وإذا كان اليهود عامة يرون أنفسهم شعب الله المختار فإن الفريسيين عدّوا أنفسهم “خاصة الخاصة”.
رسم تخيلي لبولس
والفريسيون هم الذين وضعوا التلمود وتعاليمه التي تقرر “أن مخافة الحاخامات هي مخافة الله، وأن أقوالهم أفضل من أقوال الأنبياء، وتعاليمهم لا يمكن نقضها ولا تغييرها ولو بأمر الله تعالى نفسه”. واشتهروا بوضع الحيل للتخلص من قوانين الشريعة التي كانوا يتظاهرون بالتقيد بها، لذا ناصبهم المسيح عيسى بن مريم وابن خالته يحيى بن زكريا عليهما السلام العداء، وامتلأ الإنجيل -الذي أنزل على عيسى- بذمِّهم وفضح نفاقهم حتى أصبحت كلمة “فريسي” تدل على العار.
وكان بولس -وهو أول من بدَّل دين المسيح كما سنرى في مقال المسيحية– يهودياً فريسياً، إلا أن تغلغل اليهود التدريجي في الثقافة الغربية المعاصرة بلغ من القوة أن يقنع المسيحيين البروتستانت -ولاحقا الكاثوليك- بتبرئة اليهود مما ذمهم به المسيح نفسه والنبي يحيى (يوحنا المعمدان)، مع أن اليهود هم الذين اتهموا السيدة مريم بالبهتان وقالوا في المسيح إنه ابن زنا [انظر مقال المسيحية المتصهينة].
3- القنّاؤون: كلمة قنّاء العبرية تعني الغيور أو صاحب الحميّة، والمقصود هو الحميّة الدينية، وتشبه هذه الفرقة بعقائدها وطقوسها الفريسيين إلا أنها أشد تعصباً منهم، فأتباعها يتهمون الفريسيين بالجبن والخيانة لأنهم رضوا بحكم الرومان وتعاونوا معهم فلا يُقبل أن يحكم وثني يهودياً. وقد ظهروا بعد هزيمة المكابيين على يد الرومان وكانوا يقومون بعمليات اغتيال للرومان واليهود المتعاملين معهم، ما دفع السلطات الرومانية الحاكمة إلى قمعهم بقوة، الأمر الذي رد عليه القناؤون بمزيد من التشدد وتشكيل الجماعات السرية.
وكان القناؤون يقتلون كل من يخالف الشريعة اليهودية حتى أطلق عليهم الفريسيون اسم “سيقارين” أي السفاح، وكانوا شديدي العداء للمسيح عليه السلام.
هرتزل
4- الصهيونية: إذا كانت كثير من الفرق اليهودية قد اندثرت وانتهى وجودها فإن آثارها الفكرية امتدت في الحركات اليهودية المعاصرة التي تتشكل منها مجتمعات اليهود اليوم، وأشهرها الحركة الصهيونية التي جمعت بين فكر الفريسيين وتعصب القنائين وأساليبهم.
فالصهيونية حركة سياسية عنصرية متطرفة ترمي إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين تحكم من خلالها العالم كله، وقد اشتقت اسمها من جبل صهيون في القدس الذي تطمع إلى أن تشيد فيه “هيكل سليمان” ليكون مركز مملكتها.
وإذا عدّ معظم الباحثين في الصهيونية النمساوي اليهودي تيودور هرتزل (توفي 1904م) الداعية الأول للفكر الصهيوني فإن جذورها الفكرية والتاريخية تعود إلى ثورة المكابيين ومعظم الحركات اليهودية التي أُججت فيها الروح الدينية والقومية، فهي تنظيم وتجديد للصهيونية القديمة.
تقوم الصهيونية على تعاليم التوراة والتلمود، ومع ذلك يوجد من زعمائها من يوصف بالملحد، وهي التي تقود ما يسمى بدولة إسرائيل وتخطط لها، كما أن الماسونية تتحرك بتعاليمها وتوجيهاتها، ويخضع لها الكثير من زعماء العالم ومفكريه، ولها مئات الجمعيات في أوروبا وأمريكا في مختلف المجالات، والتي تبدو متناقضة في الظاهر لكنها في الواقع تعمل كلها لمصلحة اليهودية العالمية.
واليهود اليوم ينقسمون إلى فرق على أساس انتمائهم الديني: فمنهم المحافظون والإصلاحيون والأرذثوكس، إضافة إلى معتنقي فكر القبالاه والحسيدية.
وهناك من يبالغ في قوة اليهود مبالغة كبيرة جداً، كما نجد آخرين يقللون من شأنهم ودورهم في صنع المؤامرات، والرأيان يحتاجان إلى تقويم وتوجيه لتحديد مواطن قوة اليهود ومدى تأثيرهم في العالم وكشف خفايا مؤامراتهم، على أن استقراء الواقع يدل على أن اليهود الآن يحيون فترة علوٍ استثنائية تحتاج من المهتمين إلى الدراسة والبحث [انظر خاتمة مقال الماسونية].
يهود أرثوذكس يتجمعون للصلاة عند حائط البراق (المبكى) وهو جزء من الجدران الخارجية للمسجد الأقصى
أهم المراجع بولس الفغالي وأنطوان عوكر، العهد القديم العبري: ترجمة بين السطور، الجامعة الأنطونية والمكتبة البولسية، 2007م.
زالمان شازار، نقد العهد القديم، ترجمة أحمد محمود هويدي، رؤية للنشر والتوزيع، 2014م.
د.م. دنلوب، تاريخ يهود الخزر، ترجمة سهيل زكار، دار قتيبة للنشر: دمشق، 2005م.
حسن ظاظا، الفكر الديني اليهودي: أطواره ومذاهبه، دار القلم: دمشق، 1999م، ط4.
محمد علي البار، المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم، دار القلم: دمشق، 2011م، ط2.
زكي شنوده، المجتمع اليهودي، مكتبة الخانجي، القاهرة، بدون تاريخ.
عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق: القاهرة، 1999م، ط1.
عبد المنعم فؤاد، قضية الألوهية في الأسفار اليهودية، مكتبة الثقافة الدينية: القاهرة، 2004م.
سليمان بن قاسم العيد، النبوة والأنبياء في العهد القديم، جامعة الملك سعود: الرياض، 2003م.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي: الرياض، 1989م، ط1.
طارق سويدان، اليهود الموسوعة المصورة، شركة الإبداع الفكري: الكويت، 2009م، ط1.
Jean Schorer, Das Christentum in der Welt und für die Welt, Wien 1949.
إن ما يعرف بالمسيحية المتصهينة ليس بالفكر الجديد، أو الطارئ على الثقافة والمعتقد المسيحي عامة والغربي منه خاصة؛ بل له جذور ربما تعود إلى البدايات المسيحية الأولى التي كان لشاؤول اليهودي الذي أصبح يعرف بالقديس بولس دور بارز فيها، وقد تطورت حتى وصلت إلى عقيدة متكاملة تتبناها الفرقة التي تمسك بزمام السلطة في الغرب والولايات المتحدة وتحاول انطلاقاً منها السيطرة على العالم وتسييره لخدمة رؤاها العقدية.
وتٌعرف المسيحية المتصهينة بأنها تيار واسع من الطوائف المسيحية التي تدعم الصهيونية، ثم أخذ هذا المصطلح بعداً دينياً فأصبح المسيحي الصهيوني هو المهتم بتحقيق نبوءات الكتاب المقدس من خلال الوجود العضوي والسياسي لإسرائيل، بدلاً من تحقيق البرنامج الإنجيلي من خلال المسيح والكنيسة. وأول من استخدم تعبير المسيحية الصهيونية هو تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية عندما أطلقه على السويسري جان هنري دونان، الذي يُنسب إليه الفضل في تأسيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهو من الأثرياء الذين مدّوا يد العون إلى الحركة الصهيونية اليهودية، وكان أول شخصية تفوز بجائزة نوبل للسلام في عام 1901م.
تيار الألفية
رسم تخيلي لبولس
جاءت المسيحية بعد اليهودية كحركة إصلاحية مكمِّلة لها لكنها لم تنج من التبديل كحال سابقتها، فبعد رفع النبي عيسى عليه السلام إلى السماء بدأ التغيير في المسيحية، والذي كان لشاؤل (بولس) دورٌ بارزٌ فيه، وقد ركز على فكرتين قامت عليهما المسيحية، وهما ألوهية المسيح، وأممية المسيحية بعد أن كانت مقتصرةً على بني اسرائيل.
والملاحظ ظهور عدة فرق وحركات في وقت مبكر من تاريخ المسيحية تؤمن بعودة المسيح إلى الأرض، ومنها حركة المونتانية (Montanism) التي ظهرت بعد منتصف القرن الثاني الميلادي في آسيا الصغرى، وترجع إلى راهب اسمه مونتانوس الذي أعلن أنه يتلقى الوحي من الروح القدس، واعتقد أتباعه أنه هو “الفارقليط” أو المعزّي الذي بشّر به المسيح في الإنجيل كما في إنجيل يوحنا: “ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي”، إذ كان من الشائع في المراحل الأولى من المسيحية أن يسوع سيعود قريبًا ليحكم العالم بالعدل.
وكان سفر الرؤيا -وهو آخر أسفار العهد الجديد وأكثرها تنبؤاً بالمستقبل- هو المفضل لدى أتباع هذه الحركة، كما أعلن مؤسسها نهاية العالم ورجوع المسيح السريع إلى الارض، دون أن يحدد القدس مكاناً لذلك. وكان أتباعه يستعدون لهذا المجيء الثاني بالامتناع عن الزواج والإكثار من الصيام، واستمرت الحركة ولم تمت -كما كان متوقعاً- عندما لم تأت نهاية العالم التي تنبأت بها؛ بل ازدهرت وانتشرت حتى بعد موت مؤسسها.
وفي بداية القرن الميلادي الثالث، امتدت الحركة إلى الغرب واحترم الكثيرون أتباعها لما يتمتعون به من التقشف، لكن الكنيسة حاربتهم وطردتهم من المدن، فانتشرت الحركة في القرى حتى القرن الخامس الميلادي.
ظهرت كتابات نبوئية كثيرة -يهودية ومسيحية- في تلك المرحلة، وكانت تركز على النبوءات التي تتعلق بنهاية الزمان وعلاماتها، وتتميز بامتلائها بالرموز والأعداد والكتابات السرية، وكان جل اعتمادها على نبوءات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.
وهكذا ميّز الاهتمام بالمجيء الثاني للمسيح الكنيسة المسيحية منذ سنواتها الأولى، وقد ركزت كل التفسيرات اللاهوتية على انتظار العصر الألفي الذي سيحكم فيه المسيح الأرض لمدة ألف عام.
مرحلة العصور الوسطى
الغيتو اليهودي في فرانكفورت في منتصف القرن التاسع عشر
تميزت العصور الوسطى باضطهاد اليهود في أوربا، حيث فرض عليهم العيش في جيوب منعزلة (غيتو) بالمدن، واعتبر المسيحيون أن كل ما يصيب اليهود من ويلات هو عقاب من الله لهم بسبب “صلبهم” للمسيح، وأنهم بسبب خيانتهم يحملون ذنباً جماعياً يجعلهم دائماً موضع لعنة. ومع ذلك كان لهم تأثير خفي مع تسرب تراثهم تدريجيا إلى الفكر المسيحي، إلى أن نجحوا في السيطرة على الفاتيكان خلال الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، إذ كانت دوافع تلك الحملات في الظاهر مسيحية خالصة، وكان هدفها المعلن الاستيلاء على القدس كموطن للمسيح، لكن بعض الباحثين رجَّحوا أن اليهود هم الذين دفعوا الصليبيين إلى شن حملاتهم، فقد نجحت كثير من العائلات الميروفنجية ذات الأصول اليهودية في غرب أوروبا بالتغلغل داخل الطبقة الحاكمة حتى سيطرت عليها، وأقامت هذه السلالة مملكة من الأديرة والرهبان لا سلطان للفاتيكان عليها، بل هي تملك زمام الفاتيكان بالخفاء، وقد نجحت في تهيئة الظروف لشن الحملات الصليبية والوصول إلى الأرض المقدسة، حيث كانت جماهير المسيحيين مهيأة لقبول القراءة الحرفية لنبوءات النصوص المقدسة.
اللباس التقليدي لفرسان المعبد
وهنا يبرز دور فرسان الهيكل في دعم الحرب وتقديم العون المالي والعسكري لأمرائها، وهم أعضاء جماعة عسكرية دينية أحاطت نفسها وتاريخها بكثير من الغموض، تأسست في القدس عام 1119م، وأطلقوا على أنفسهم بدايةً اسم “الإخوة الفقراء جنود المسيح وهيكل سليمان”، وهو اسم يشير إلى جذورهم اليهودية المتغلغلة في النسيج الفكري المسيحي، وتقول الروايات التاريخية إنهم اتخذوا مقراً في القدس بعد احتلالها قرب الموقع الذي يعتقد أن الهيكل كان فيه، فللهيكل أهمية جوهرية في الفكر اليهودي وإعادة تشييده هي أسمى أهدافهم، أما المسيحية فلا يعنيها من الأرض المقدسة إلا قبر المسيح وكنيسة القيامة، بل يشكل خرابه وبقاؤه خرباً دليلا على صدق نبوءة المسيح كما جاء في سفر متى.
ويمكن النظر إلى الحروب الصليبية على أنها تعبيرٌ مبكر عن الإرهاصات الصهيونية الأولى بصبغتها المسيحية، فقد ساهمت بعمق في صياغة الإدراك الغربي لفلسطين والمسلمين.
بُذلت لاحقا جهود ضخمة لتحويل يهود أوربا إلى المسيحية، لاسيما في إسبانيا والبرتغال بعد سقوط الأندلس، فاعتنق كثيرون المسيحية ظاهريا، بينما قام البعض بعملية توفيق بين المسيحية ومعتقداته اليهودية. وكان لهؤلاء دور فاعل في إنضاج اليهودية المسيحية أو المسيحية اليهودية خلال المدة ما بين 1491 و1497م في إسبانيا والبرتغال، ويقدر عدد هؤلاء بالآلاف وقد سُموا بالمسيحيين الجدد.
لعب المسيحيون الجدد دوراً تاريخياً بنشر الاعتقاد بأن العناية الإلهية متضمنة في حضور الرب خلال التاريخ الإنساني، وقالوا إن التاريخ الإلهي سيبدأ بمجيء المسيح مع بداية الألف عام السعيدة (الألفية)، فظهرت بين اللاهوتيين والمفكرين الدينيين تفسيرات جديدة للكتاب المقدس، تتصور تحول اليهود إلى المسيحية وظهور القبائل الإسرائيلية المفقودة باعتبارها الخطوات الأخيرة التي تسبق نهاية العالم، فأصبحت الأحداث العظمى المرتقبة هي عودة اليهود إلى أرض صهيون وإعادة بناء هيكل سليمان، وإعادة تأسيس الحكم الإلهي للأرض من القدس.
ومن هنا رأى المسيحيون أن اليهود شركاء لا غنى عنهم في الأحداث العظمى قبل مجيء المسيح، بعد أن كانوا أعداء يستحقون اللعنة.
كريستوفر كولومبس
اكتشاف أمريكا من الشائع عن كريستوفر كولومبس أنه كان مغامراً وباحثا عن الشهرة والثروة والسلطة، ما دفعه لاكتشاف القارة الجديدة التي سميت (أمريكا)، إلا أن كولومبس كان يفكر بهدف أسمى –في نظره- حتى كرّس له كل وحياته، وهو اكتشاف ممالك جديدة يَهدي شعوبها إلى الدين المسيحي، ثم يجندها في ما أسماه “حرب الحياة أو الموت ضد إمبراطورية محمد”.
أما هدف النهائي لكولومبس فكان استعادة الأراضي المقدسة، تمهيداً لنزول مملكة الله على جبل صهيون في موقع الهيكل.
وكان يعتقد أن العناية الإلهية اختارته لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس، كما ترسخت لديه أسس الإيمان بخطة كونية لها بداية ونهاية، وكان يرى أن الكتاب المقدس بنصوصه التي يؤمن بحرفيتها هو دليل هذه الخطة، كما تصوّر نفسه رسول الوحي المستقبلي الكتابي الذي ينبئ باستعادة القدس وهداية اليهود، فكان يوقّع اسمه بصيغة مميزة، وهي “كريستوفرنز”، التي تعني باللاتينية “حامل المسيح”.
وهكذا كان الهدف من رحلاته إلى الشرق “هداية” الأمم الأخرى، وجمع الثروات لتوظيفها في تمويل حرب صليبية أخيرة، يقودها العرش الإسباني لاستعادة الأرض المقدسة من المسلمين.
وترافق اكتشافه لأمريكا مع سقوط الأندلس وخروج المسلمين منها، وإجبار من بقي منهم على اعتناق المسيحية، فشكل هذا الحدث حافزاً على حماس تبشيري جديد، وكان كولومبس يذكّر ملوك أوربا بتداخل هذه المصادفات التاريخية وتوافقها، ويدلل بذلك على تدخل العناية الإلهية ضمن خطة الله للكون، وهكذا استطاع إقناع ملك إسبانيا وملكتها بتمويل مشروعه.
ويجدر بالذكر أن كل هذه الأنشطة التبشيرية جاءت قبل حركة الإصلاح الديني، أي قبل نشوء البروتستانتية التي تعد تطوراً نوعياً في مسيرة المسيحية المتصهينة، حيث اشتهرت بنشاطها التبشيري الذي سيكون له عظيم الأثر في تغلغل الفكر الديني اليهودي بالمسيحية.
يؤكد باحثون مختصون في حركة الكشوف الجغرافية التي نشطت في القرن الخامس عشر أن فرسان الهيكل كانوا من رواد هذه الحركة، التي أسمت نفسها حينئذ “فرسان المسيح”، حيث انطلقت سفنها وهي ترفع على الصواري صليب فرسان الهيكل الأحمر الشهير، كما تبنى “المسيحيون الجدد” مشروع كولومبس ودعموه بالخرائط والتمويل، وكانوا من أوائل المستوطنين في أمريكا.
مارتن لوثر
حركة الإصلاح الديني ترجع الانطلاقة الكبرى للمسيحية المتصهينة إلى حركة الإصلاح الديني التي أطلقها القس الألماني مارتن لوثر (1483- 1546)، فقد كان من بنود احتجاجه على الكنيسة البابوية احتكار الكنيسة لقراءة الكتاب المقدس بلغات لا يعرفها العوام.
كما احتج على احتكار الكنيسة تفسير النصوص الدينية ولعب دور الوسيط بين الناس والإله، ومنحهم صكوك الغفران التي ادعت الكنيسة أن حاملها يتحرر من العقاب الدنيوي ويحوز مكاناً في الجنة مقابل المال.
وهكذا تُرجم الكتاب المقدس إلى اللغات المتداولة وأصبح متوفرا للقراءة من قبل الجميع، وبعد التغلغل اليهودي الذي تحدثنا عنه في العقل المسيحي جاءت حركة الإصلاح لتشكل بعثاً عبرياً تولدت عنه وجهة نظر جديدة عن الماضي والحاضر والمستقبل اليهودي.
لم يكن لليهود في الفكر المسيحي مكانة متميزة قبل حركة الإصلاح كما أصبح لهم بعدها، فكان القساوسة يرفضون التفسير الحرفي للتوراة ويعطون قصصه وأحداثه معاني مجازية لحالات روحية وأخلاقية. وكانوا يرون أن اليهود ملعونين فطردهم الله من فلسطين إلى المنفى، وأنه نفاهم مجددا عندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر، وبذلك انتهى وجود الأمة اليهودية إلى الأبد ولن يجد شتاتهم الخلاص إلا بارتدادهم إلى المسيحية.
وكانوا يؤولون النبوءات المتعلقة بعودة اليهود على أنها العودة من المنفى في بابل بالعراق، والتي تحققت في القرن السادس قبل الميلاد، أما الفقرات التي تتنبأ بمستقبل مشرق لإسرائيل فكانت تُحمل على الكنيسة المسيحية، فالكنيسة هي مملكة المسيح وهي التجسيد التام للعصر الألفي.
لكن الانقلاب الفكري للبروتستانتية جعل اليهود هم شعب الله المختار والأمة المفضلة على كل الأمم، وبدأ الاعتقاد بأن ثمة ميثاقاً إلهياً يربط اليهود بفلسطين، وأن العودة الثانية للمسيح ترتبط بقيام دولة صهيون الإسرائيلية في فلسطين، قبل أن يعود ويقيم مملكته مدة ألف عام، ثم تقوم الساعة بعد ذلك.
في عام 1523م كتب لوثر كتابه “المسيح ولد يهودياً”، وشرح فيه المواقف المؤيدة لليهودية، وأدان اضطهاد الكنيسة لليهود محتجاً بأن المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد.
وقال فيه “إن الروح القدس شاءت أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل ما يتساقط من فتات أسيادها”.
ثم ألف كتاباً آخر اسمه “ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم” عام 1544م، وطالب فيه بنقل اليهود من ألمانيا قائلاً “من الذي يحول دون اليهود وعودتهم إلى أرضهم في فلسطين، لا أحد، إننا سنزودهم بكل ما يحتاجون إليه في رحلتهم، لا لشيء إلا لنتخلص منهم”.
ويرى بعض الباحثين أن لوثر تراجع عن مواقفه المؤيدة لليهود في كتابه الأخير؛ إلا أن المتابع لحياة لوثر وأفكاره ربما يلاحظ أن رغبة لوثر في التخلص من اليهود ليست نابعة عن كراهية؛ بل هي تجسد عقيدته بشأن ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، كما كان يمارس نوعاً من التقية لامتصاص غضب بعض المسيحيين الذين أثارتهم أفكاره الصهيونية، والدليل على ذلك ما أنتجته حركته من انقلاب نظرة المسيحيين لليهود من أعداء إلى شركاء، وربما سادة.
لقد ساهمت حركة الإصلاح الديني في اعتبار العهد القديم المرجع الأعلى للاعتقاد البروتستانتي ومصدر المسيحية النقية، وجعلته جزءاً من عبادات الكنائس، ومرجعا لتاريخ الأراضي المقدسة والأنبياء، ومصدرا لنبوءات آخر الزمان. وهكذا ظهر شعار “العودة إلى الكتاب المقدس”، كما ساد الاعتقاد بإقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون فرض قيود على التفسيرات التوراتية، مما فتح الباب أمام تسرب المزيد من الأفكار اليهودية إلى المسيحية.
زيادة على ما سبق، أعطى الإصلاح الديني للغة العبرية -باعتبارها لغة الكتاب المقدس- أهمية كبرى، حتى أصبحت جزءاً من الثقافة العامة ومن المنهج الدراسي اللاهوتي، فكانت وسيلة لفهم “كلمة الله” بشكل صحيح.
وبالنتيجة، تخلص البروتستانت من فكرة كراهية اليهود واعتبروهم شركاء محبوبين، ليس حبا في دينهم فقط بل لاعتقادهم بأن لهم دوراً في خلاص المسيحيين. وقد انتشرت البروتستانتية من ألمانيا وسويسرا إلى معظم دول أوربا الوسطى والغربية بعد جولات من الصراع مع الكاثوليكية.
الحركة البيوريتانية (الطهورية)
جون كالفن
بلغت النهضة العبرية بأفكارها الصهيونية ذروتها في عهد الثورة البيورتانية (الطهورية) في إنجلترا، وهي حركة دينية متشددة نشأت في القرن السادس عشر من رحم البروتستانتية، وكانت تتبع تعاليم القس الفرنسي جون كالفن (1509- 1564).
جاء وصف التطهر من عمل أتباعها على استئصال ما تبقى من الكاثوليكية في بريطانيا، وكانوا مغالين في إجلال الكتاب المقدس، كما خصوا العهد القديم بمكانة تفوق العهد الجديد، حتى استعملوا لغته والأسماء الواردة فيه باعتبارها أنسب أداة لنقل أفكارهم العنيفة، كما طالبوا الحكومة بأن تعلن التوراة دستوراً للقانون الإنجليزي، وساهموا في نشر فكرة الشعب المختار داخل الفكر الإنجليزي، وهي فكرة لعبت دورا جوهريا في الهجرة إلى العالم الجديد (أمريكا) باعتبارها أرض الميعاد.
جاء التطور الأهم في تاريخ المسيحية المتصهينة بانتقالها في أوائل القرن السابع عشر مع المهاجرين البروتستانت والطهوريين إلى أمريكا، حيث كان رواد الفكر الطهوري أهم مؤسسي الأمة الأمريكية وواضعي أسسها الدينية واتجاهاتها السياسية والاجتماعية القائمة حتى اليوم.
ويقوم هذا الفكر على ثلاثة اعتقادات رئيسة: 1- وجود خطة إلهية شاملة للعالم، يلعب فيها الطهوريون بهجرتهم إلى أمريكا دوراً هاماً، والإيمان بأن أمريكا كانت موجودة في “عقل الإله” لأهداف محددة منذ بداية الخلق.
2- اختيار العناية الإلهية للطهوريين المهاجرين إلى العالم الجديد، فهم شعب الله الذي اختارهم للهرب من فساد العالم القديم وإنشاء مملكة الله على الأرض، وهم في ذلك يشبّهون أنفسهم بقبائل إسرائيل في هروبها من مصر إلى أرض فلسطين.
3- الطهوريون على علاقة تعاهدية مع الله، وهم شركاء في تنفيذ مهمة حددها لهم في هذا العالم، تتلخص في تنوير بقية الأمم وإنقاذها من الجهالة والظلام.
ونرى أثر هذه المعتقدات في سلوك الأمريكيين العملي، سواء كانوا أفراداً عاديين أم شخصيات قيادية حاكمة، فقد حمل المهاجرون الأوائل معهم التقاليد اليهودية، وكانوا يُنزلون قصص التوراة على حياتهم اليومية، وأطلقوا على أمريكا اسم أرض الميعاد وإسرائيل الله الجديدة وصهيون، كما أطلقوا على مدنهم أسماء توراتية من قبيل كنعان وسيناء والقدس والناصرة، ويوجد في أمريكا على الأقل 12 مدينة وبلدة اسمها الخليل، و6 مدن اسمها بيت لحم.
أما مطاردتهم للهنود الحمر (السكان الأصليين) فكانت مقتبسة من مطاردة العبرانيين القدماء للكنعانيين في فلسطين، وبما أنهم الشعب المختار فقد أباحوا لأنفسهم التضحية بالآخرين، واستعملوا أبشع وسائل القتل لإبادة ملايين السكان الأصليين، حتى بات اصطياد الهنود رياضة شعبية مسلية في بعض الولايات، بحيث يمزق جسد الضحية التي تصاب منهم، أو تلقى طعاماً للكلاب.
وانبثق عن هؤلاء مذاهب وحركات دينية تتمتع بحماس ديني بالغ، سيصل في مداه إلى تحول الرؤية الصهيونية من الموقع الرمزي لإسرائيل الأمريكية في العالم الجديد إلى الأراضي المقدسة (فلسطين) في العالم القديم، وهي من أهم أفكار اليمين المتطرف في أمريكا اليوم.
في عام 1776 اقترح ثلاثة من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة وهم جيفرسون وآدمز وفرانكلين أن يتضمن شعار البلاد صورة لفرعون وهو يطارد بني إسرائيل بينما يضيء عمود من النار طريقهم، في إشارة إلى أن أمريكا هي أرض إسرائيل الثانية
العقيدة والأفكار تؤمن المسيحية المتصهينة بما تؤمن به المذاهب المسيحية الأخرى فيما يتعلق بألوهية المسيح وبنوّته لله، كما تشاركها الاعتقاد بعقيدة التثليث والصلب والفداء. أما أهم ما يميزها فهو العقائد ذات الصبغة الصهيونية، والاعتقاد بأن لديها خطة إلهية للدهر تتضمن أحداثاً لا بد من وقوعها، فهي نبوءات آخر الزمان التي تشكل جوهر الفكر المسيحي الصهيوني، وفيما يلي أهم هذه العقائد:
1- عودة المسيح المخلص: تؤمن المسيحية عامة بدور المسيح في خلاص البشرية من آثامها عبر صلبه ظلماً ليكفر عن خطايا البشر، وأضيف إلى هذا الاعتقاد لدى المسيحية المتصهينة الإيمان بأن المسيح سيعود في نهاية الزمان، وأن تاريخ نزوله يوافق رقماً ألفياً، ثم يؤسس مملكته التي تدوم ألف عام ومقرها القدس، كما أنه سيبطش بأعداء اليهود ويضع الأمم تحت أقدامهم، فيحكمون العالم معه.
كانت هذه في البداية رؤية اليهود للمسيّا أو الماشيَّح المنتظر عندهم، وهو شخص آخر غير عيسى بن مريم الذي ينكرون نبوته ويعتبرونه كاذبًا؛ لكن فكرة انتظار الماشيح سرعان ما تسربت إلى الأدبيات المسيحية وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من البروتستانتية، فأصبحوا ينتظرون المسيح كما ينتظر اليهود الماشيح. وهذه العقيدة تجعل الخلاص مرهوناً بالانتماء إلى اليهود (لدى اليهودية)، وبمساعدة اليهود (لدى المسيحية المتصهينة)، وتبرر أفعال القتل والإبادة في سبيل هذه الغاية.
2- ظهور شروط العودة المنتظرة، وهي:
تجمُّع اليهود في دولة لهم هي إسرائيل، وذلك يوجب مساعدتهم والتقرب منهم.
احتلال القدس وانتزاعها من المسلمين، فهي المدينة التي سيحكم منها المسيح العالم.
“إعادة” بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى.
دعم دولة إسرائيل والدفاع عنها ومباركة سياستها، واعتبارها إشارة إلهية لرحمة الله واستجابةً لإرادته.
الدجال يتلقى تعليماته من الشيطان كما تخيله الرسام لوقا سيغنوريلي عام 1501
3- ظهور عدو المسيح Antichrist (يماثل المسيح الدجال لدى المسلمين) وجيوش الشر، وبحسب المسيحية المتصهينة فهو شخصية كافرة وطاغية وابن الشيطان، وهو المقصود بالوحش الذي ورد ذكره في العهد الجديد “فرأيت وحشاً طالعاً من البحر.. وأعطاه التنين قدرته وعرشه وسلطاناً عظيماً” (الرؤيا 13: 1- 2)، ويقولون إنه سيظهر في منطقة العرب بآخر الزمان، وسيحكم الأرض مع الشيطان ويدنس الهيكل ببناء تمثال له فيه فينتشر الظلم والبؤس في العالم، كما سيعاد بناء مدينة بابل مما يؤدي إلى نزول المسيح لإنقاذ البقية الصالحة، فتدور معركة رهيبة يفنى فيها الكثيرون ويُقتل الدجال.
والمعركة المقصودة هي معركة “هرمجّدون”، وهي كلمة عبرية مكونة من مقطعين، هما (هَرْ) ومعناه تل أو جبل، و(مجدو)، وهو اسم سهل صغير شمال فلسطين، ويقولون إنها ستكون معركة ضخمة تحشد جيوشاً جرارة قوامها 400 مليون جندي، حيث تحتشد أمم الأرض ضد إسرائيل.
وينظر المسيحيون المتصهينون إلى المسلمين على أنهم أتباع الدجال، وأن المسيح سيغرقهم في بحيرة الكبريت والنار، وقد فسر بعضهم هذه النبوءة بالقنابل النووية، ثم يرفع المسيح أتباعه إلى السحاب وينقذهم من المعاناة.
تل مجيدو يضم أطلالا أثرية (AVRAM GRAICER)
ويؤمن بهذه النبوءة شخصيات عسكرية وسياسية وأكاديمية أمريكية كبيرة، وعلى رأسهم الكثير من رؤساء الولايات المتحدة.
4- عقيدة الألفية: يطلق اسم الألفية على مدة الألف عام التي يحكم المسيح فيها مملكته الألفية بعد الانتصار في هرمجدون والقضاء على جيوش الشر، ثم ينتهي العالم بعد ألف عام يحكم فيها المسيح كل الأرض من عاصمته في القدس. وقد درجت بعض الفئات المسيحية المتطرفة على ربط بداية هذه المملكة الألفية ببداية كل ألفية تقويمية، ما أدى إلى حماس ديني شديد يوصف بحمى الألفية، وقد ظهر في نهاية الألف الأول والألف الثاني من التقويم الميلادي.
5- تقديم العهد القديم على العهد الجديد، فمع أن بقية الطوائف المسيحية لا ترفض العهد القديم وتعتبره متكاملاً مع العهد الجديد؛ إلا أن العهد القديم أخذ موقعاً أساسياً لدى حركة الإصلاح الديني، لاسيما في إنجلترا البيوريتانية وفي العالم الجديد بالقارة الأمريكية، حيث بدأت قراءته بطريقة مختلفة عن السابق تعتمد النص الحرفي والتسليم بكل ما جاء فيه، لاسيما ما يتعلق منه بالنبوءات خاصة.
أبرز الشخصيات هنالك العديد من قيادات المسيحية المتصهينة المعاصرة ممن أمضوا عقوداً كثيرة في الترويج للنبوءات المقدسة، منهم زعماء دينيون وشخصيات سياسية يجمعهم هدف واحد، هو ضمان الدعم التام لإسرائيل. وهم يشنون باستمرار حملات عنيفة على الإسلام والمسلمين، ويشتركون في مهارة استخدام وسائل الإعلام، كما يترأسون منظمات دينية وثقافية وسياسية واجتماعية، ويتصرفون بثروات وموارد مالية هائلة، ومن أبرز هؤلاء نذكر ما يلي:
جيري فالويل (Liberty University)
1- جيري فالويل: قس بروتستانتي أمريكي، يترأس إمبراطورية أصولية تعد من أكبر الإمبراطوريات الفردية قوة في العالم، ويتمتع بدور بارز في صناعة القرار السياسي الأمريكي.
يمتلك محطة إذاعية وتلفازية يستمع لها الملايين، ويركز من خلال برامجه على إعلان دعمه التام لإسرائيل وعلى مهاجمة الإسلام، وكان قد تأثر باحتلال القدس عام 1967م وأعطاه معنىً توراتياً.
2- بيلي غراهام: يعد من أكثر القادة المسيحيين تأثيراً في العالم، عمل مستشارا غير رسمي للبيت الأبيض، وكان مقربا من الرئيس السابق جورج بوش الإبن.
بات روبرتسون (Paparazzo Presents)
3- بات روبرتسون: زعيم ديني يتمتع بشهرة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الخارج، أنشأ مؤسسات إعلامية، ومن أهمها الشبكة التلفازية- الإذاعية المسيحية (CBN) التي أسسها عام 1960، ويقول إنه ينتظر اللحظة التي ستتولى فيها محطته نقل وقائع نزول المسيح فوق جبل الزيتون في القدس، كما صرح بأن ولاءه لإسرائيل جاء قبل ولائه لأمريكا نفسها.
4- هال ليندزي: يعد من أكثر العاملين في مجال تجارة النبوءات إثارة وشهرة، ألف العديد من الكتب، وبلغ من شهرته وقوة تأثيره أنه يُدعى للخطابة أمام المخططين العسكريين الأمريكيين في كلية الحرب الجوية ووزارة الدفاع (البنتاغون)، إضافة إلى علاقته الوثيقة بإسرائيل.
تضاف إلى القائمة السابقة أسماء عدد من رؤساء الولايات المتحدة، مثل هاري ترومان (1945- 1952) الذي يعد بإجماع التواريخ الصهيونية تجسيداً للمسيحية الصهيونية الأمريكية على المستوى السياسي، فكان أول رئيس في العالم يعترف بقيام دولة إسرائيل عام 1948.
ونذكر أيضا ليندون جونسون (1963-1969 )، وجيمي كارتر (1977- 1981) الذي اعترف بأن مشاعره المؤيدة للصهيونية كانت الحافز الذي صاغ سياسته في الشرق الأوسط، لكن رونالد ريغان (1981- 1989) قطع شوطا أبعد، فكان يعلن إيمانه بنبوءة “هرمجدون” ويتمنى أن تقع خلال حكمه، وتعتبر مدة رئاسته العصر الذهبي للحركة في أمريكا، وكان يدعو قساوسة الحركة إلى البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي لإبداء رأيهم في القضايا الاستراتيجية في ضوء النبوءات التوراتية.
أما جورج بوش الابن فيعد من “المسيحيين المولودين في المسيح من جديد”، وهو تعبير يستخدم للتعبير عن حدوث تحول جذري في عقيدة شخص ما، فقد ظل بوش الابن حتى سن الأربعين غير ملتزم دينياً إلى أن التقى بالقس غراهام، فقرأ الكتاب المقدس قراءة دقيقة، وتبين له أن المسيحية شهدت بداياتها في أرض إسرائيل التي تعد تحقيقاً للنبوءات المقدسة، وأن اليهود هم شعب الله المختار، ثم تطور لديه الاعتقاد بأنه شخص اختاره الله ليعيد الأرض إلى سيطرة الله، لذا لم يتردد عام 2001 في إطلاق وصف “الحملة الصليبية” على حروبه التي شنها في أفغانستان والعراق.
أهم المنظمات والفرق تتمتع المسيحية الصهيونية بحضور قوي في الأوساط البروتستانتية، وتشكل الولايات المتحدة مركز الثقل لنشاطها وتوسعها، إذ يعمل في ميدان التبشير 80 ألف قسيس، وفي الثمانينات وحدها تم إنشاء 250 مؤسسة وجمعية دينية أمريكية مؤيدة لإسرائيل.
وتملك المسيحية الصهيونية مئات المحطات الإذاعية والمتلفزة، ويدعي قادتها أن عدد أتباعهم يزيد عن 100 مليون.
ومن أبرز مؤسساتها وأكثرها نشاطاً نذكر ما يلي:
1-المصرف الأمريكي المسيحي من أجل إسرائيل: مهمته الأساسية تمويل استملاك الأراضي العربية، وبناء المستوطنات وتهجير اليهود.
2-منظمة جبل المعبد: مهمتها إعادة بناء هيكل سليمان في القدس، ويقع مركزها بمدينة القدس، وهي تمول عمليات الحفر تحت المسجد الأقصى بحثاً عن الهيكل، وتجمع الأموال لامتلاك العقارات المجاورة له.
3-السفارة المسيحية الدولية في القدس: تعد من أبرز المنظمات وأكثرها أهمية، تكونت عام 1980م رداً على قرار 13 دولة نقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب.
تشارلز راسل
ويجدر بالذكر أن من أهم الفرق المسيحية المتصهينة وأخطرها جماعة شهود يهوه، وهي جماعة نشأت في الولايات المتحدة عام 1872 على يد تشارلز راسل (1852- 1961)، وتدور أفكارها حول أطروحة عودة المسيح وضرورة الخلاص ونهاية العالم، وقد حددت عام 1914 لعودة اليهود، وفيما بعد أعلنت أن المقصود هو عام 1917 في إشارة إلى وعد بلفور.
ويؤمن أتباعها بأن اليهود يلعبون دوراً حاسماً في صراع “الرب” ضد الشيطان، ولها اتصالات بالقيادات الصهيونية وتلعب دورا في الدعوة للهجرة إلى فلسطين، كما تتمتع بنشاط ملحوظ في نحو 200 بلد، ويزيد عدد أتباعها عن مليوني شخص.
بين الدين والسياسة تمتزج هذه العقيدة بالسياسة، بل تشكل الأرضية التي تنطلق منها كثير من القرارات السياسية في الولايات المتحدة وأجزاء كثيرة من أوربا، وقد كانت فلسطين ولا تزال راسخة في أذهان المسيحيين على أنها أرضهم المقدسة منذ الحملات الصليبية، كما أن فكرة “إعادتها” للعبريين كانت شائعة، لأنها المقدمة الحتمية لعودة المسيح، وهي عقيدة كثيراً ما أطلت برأسها طوال التاريخ المسيحي.
ولم يمض وقت طويل حتى شهدت أوربا حركة منظمة تنادي بعودة اليهود إلى فلسطين، لا سيما في إنجلترا البيوريتانية، حيث أرسل الاسترحام التالي للحكومة الإنجليزية عام 1649م: “ليكن شعب إنجلترا أول من يحمل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لتكون إرثهم الأبدي”.
وكان نابليون بونابرت أول رجل دولة يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين، وذلك قبل وعد بلفور بنحو 118 عاماً. فخلال وجوده في بلاد الشام إبان حملته على الشرق، أصدر بياناً دعا فيه اليهود إلى أن يقاتلوا تحت لوائه لإعادة إنشاء مملكة القدس القديمة، وعندما رأى نابليون سهل مجيدو قال “إن هذا المكان سيكون مسرحاً لأعظم معركة في العالم”.
وفي تلك المرحلة، استُغل الأدب -الذي غدت أفكار العهد القديم من أهم مصادر إلهامه- لتحقيق هذا الهدف، فظهرت أعمال شعرية مثل “الفردوس المستعاد” التي تتحدث عن عودة إسرائيل، وكذلك رواية “ناثان الحكيم” التي تصور صلاح الدين على أنه الحاكم المسلم “القاسي والتافه” الذي احتل القدس، وأنه المسيح الدجال في نفس الوقت.
شافتسبري نشر في صحيفة تايمز المخصصة للمستعمرات عام 1841 “مذكرة إلى الملوك البروتستانت في أوروبا لإعادة اليهود إلى فلسطين”
وفي بريطانيا برز اللورد أيرل شافتسبري (1801- 1885) الذي وصف فلسطين بأنها “بلاد بدون أمة، لأمة بلا بلاد”، وهو الشعار الذي حولته الحركة الصهيونية فيما بعد إلى “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”، ثم بدأ التمهيد لتوطينهم من خلال بعثات استكشافية إلى فلسطين ابتداءً من عام 1865.
وفي العالم الجديد (أمريكا)، أصبح الوضع هناك أشد خطورةً وتأثيراً، وتمثل ذلك في تحول أنظار المستوطنين في العالم الجديد من أمريكا -بصفتها أرض الميعاد الرمزية- إلى الأراضي المقدسة الحقيقية (فلسطين). وغادرت جماعات أمريكية في القرن التاسع عشر إلى فلسطين لإنشاء مستوطنات هناك انتظاراً للحدث الكبير.
واستجاب كثير من الرحالة الأمريكيين في الشرق العربي لدعوة دينية لا تقاوم لتقفي أثر الإسرائيليين في رحلتهم إلى أرض الميعاد. فكانت رحلة الحج الأكثر أهمية في اعتقادهم تلك التي تسلك الطريق الذي سلكه الإسرائيليون، وتنطلق من القاهرة لتقطع صحراء سيناء على ظهور الدواب والجمال، رغم ما تتضمنه الرحلة من أخطار، وصولاً إلى فلسطين على خطى بني إسرائيل.
وقد دونوا في مذكراتهم تعبيرهم عن الألم -عند رؤية المسجد الأقصى- لاحتلال المسلمين موقع هيكل سليمان، ودعوا إلى ضرورة القضاء على الخلافة العثمانية، وإعادة اليهود إلى “دولتهم”.
وبدأ التخطيط لتحقيق هذه العودة، مرورا بمراحل متعددة بدأت بمحاولة السفير البريطاني في الأستانة (إسطنبول) “بونسو بني” عام 1840 بإقناع السلطان العثماني بقبول هجرة اليهود إلى فلسطين، كما اختير المسيحي الصهيوني وليم يونج ليكون أول نائب لقنصل بريطانيا في القدس كي يعمل على تهيئة الأوضاع لهجرة اليهود.
ومع انهيار الدولة العثمانية وسقوط الخلافة أعطت المسيحية الصهيونية وعدها الشهير على لسان أبرز دعاتها، وهو رئيس الوزراء البريطاني آرثر جيمس بلفور عام 1917. ثم عينت بريطانيا عند احتلالها لفلسطين يهودياً في منصب المندوب السامي هو هربرت صموئيل.
وكان الرأي العام الأمريكي يؤيد بشدة وعد بلفور، كما وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على الوعد وأيده عام 1918 قائلاً “كما خلّص موسى الإسرائيليين من العبودية، فإن الحلفاء الآن يخلصون يهوذا من أيدي الأتراك القبيحين، إن يهوذا يجب أن تقوم لتشكل أمة مستقلة، ويجب على حكومة الولايات المتحدة أن تمارس سلطاتها الملائمة لرؤية هذه الدولة اليهودية تقام، لتنبثق منها تعاليم ومبادئ يهوذا القديمة”.
وعد بلفور المقدم إلى روتشيلد
وتحقق الحلم عام 1948 بإعلان قيام دولة “إسرائيل”، وسارعت الدول الأوربية والولايات المتحدة إلى الاعتراف بها، لكن المرحلة الأهم بدأت عام 1967 مع احتلال القدس، ما أنعش آمالهم بتحقق الخطة الإلهية واسترداد القدس بالكامل من أيدي “مغتصبيها”.
إحراق المسجد الأقصى عام 1969
ومن المعروف أن حريق المسجد الأقصى ، الذي شب في 11/8/1969، افتعله الأسترالي مايكل روهان الذي ينتمي إلى إحدى الكنائس المسيحية المتصهينة، وكان قد دخل الأراضي المحتلة بصفة سائح، ثم انضم إلى عدد من أعضاء كنيسته في مستوطنة بالضفة الغربية، وأقدم على جريمته بحماية قوات الاحتلال تمهيدا لبناء الهيكل على أنقاض الأقصى.
ومنذ ذلك الوقت تتسابق الحكومات الغربية، والأمريكية خاصة، على تقديم الدعم بكافة أشكاله لإسرائيل، وتبرير كل ما تقوم به من أفعال إجرامية.
أما في العراق فقد تنوعت التحليلات السياسية لأسباب الغزو الأمريكي، وتعرضت إلى جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاستعمارية؛ إلا أن معظمها أغفل الجانب الأهم لكل ما جرى وما يجري على أرض العراق، إذ كان لهذا الغزو بُعد ديني توراتي يعود إلى حقد دفين منذ أيام السبي البابلي عام 586 ق.م، على يد نبوخذ نصّر، فأمجاد العهد القديم وأحداث سبي اليهود هي بمثابة تاريخ حي لليهود والمسيحيين المتصهينين، ومن الخطأ محاولة فهم ما يجري من أحداث في المنطقة بمعزل عن التاريخ القديم.
وتختلف النظرة للعراق عن مثيلتها بالنسبة لفلسطين، فالثانية أرض مقدسة يطمحون للسيطرة عليها كي يحكم منها المسيح مملكته الألفية، أما العراق فهي رمز الظلم ومكان الشر الأول الذي يجب القضاء عليه.
ونجد في العهد القديم روايات تصور بابل في هيئة مركز للخطيئة والفساد، ومنذ بدء الحديث عن غزو العراق نُشرت في أمريكا آلاف المقالات التي تقول إن كل الأنظمة الكاذبة بدأت في أرض بابل، وإنها ستشهد اكتمالها بإعادة بناء بابل في آخر الأيام، فهي دولة معادية لله.
وقد صرح بوش بأن الحرب على العراق مهمة إلهية و”حملة صليبية”، وقال القس دافيد بريكيز إن تدمير بابل الذي ورد في سفر إشعيا (الإصحاح 13) يعني تدمير العراق، كما فسر النبوءات الواردة في الإصحاح على أنها تشير إلى قيام صدام حسين الذي اعتبره خليفة نبوخذ نصر.
ويعتمد هؤلاء كثيراً على المزمور 137 من العهد القديم في ترسيخ عقيدة “بابل الشر” التي يجب أن تُدَمَّر، إذ يقول “على أنهار بابل هناك جلسنا بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون… إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني… يا بنت بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة”.
الحركات المسيحية المتصهينة تنتظر تدمير دمشق
وبالفعل، حاصر الغرب المتصهين العراق سنوات عديدة ، ومنع عن أهله الدواء والغذاء مما أدى إلى وفاة مئات الآلاف من أطفاله، الذين “ضُربوا بالصخرة” تنفيذاً لما ورد في النص.
وبعد سقوط العراق وتدميره، تروج الحركات المسيحية المتصهينة والمنظمات التابعة لها نبوءة أخرى تتعلق بدمشق، والتي تقول”وحي من جهة دمشق، هو ذا دمشق تُزال من بين المدن وتكون رجمة ردم” أشعيا (17:1)، وتمتلئ شبكة الإنترنت بمئات المواقع التي ترصد إرهاصات هذه النبوءة. ففي شهر أيار من عام 2002، نشر موقع apocalypsesoon.org على سبيل المثال بصفحته الرئيسية عنواناً كبيراً باللون الأحمر يقول “دمشق لن تبقى مدينة بعد الآن”.
أهم المراجع فؤاد شعبان، من أجل صهيون، دار الفكر، دمشق، ط1، 2003م.
ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ الغربي، ترجمة أحمد عبد الله عبد العزيز، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1985م.
جون ك. كولي، تواطؤ ضد بابل، ترجمة أنطوان باسيل، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2006م.
غريس هالسل، يد الله: لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل، ترجمة محمد السماك، دار الشروق، القاهرة، 2000م.
منير العكش، أمريكا والإبادة الجماعية: حق التضحية بالآخر، بيروت، دار رياض الريس.
محمد السماك، الدين في القرار الأمريكي، دار النفائس، بيروت، 2003م.
محمد السماك، الصهيونية المسيحية والموقف الأمريكي، مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطة، 1991م.
بهاء الأمير، اليهود والحركات السرية في الحروب الصليبية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2013.
رضا هلال، المسيح اليهودي ونهاية العالم، مكتبة الشروق، القاهرة، 2001م.