التاريخ ذاكرة، والذاكرة هي كل ما نمتلك، إنها أرشيفنا الخصب ينبوع الذكريات الذي لا ينضب، وليس ثمة أمة دون تاريخ، ولا بقاء لأمة تحتقر تاريخها، وكم هي المرات التي زُوِّر فيها التاريخ وقلبت فيها الحقائق، بل إن تزوير التاريخ حرفة تتفن فيها أعداء الإسلام، من المستشرقين والاستعمار وحتى بعض الكتاب المتحدثين بلسان الغرب من بني جلدتنا.
لقد عمل هؤلاء على كتابة تاريخ يناسب أهواهم، ويساير سياسة الاحتلال الغربي، ويضع لتدخلاته المتكررة أعذاراً، قصد التلاعب بأذهان الشعوب المستعمرة كي لا تقف في وجهم وكي لا تعرقل خططه التدليس المستقبلية.
وللأسف وجدت هذه الكتابات آذانا صاغية بين مثقفينا الحَرْكيين -مفهوم صاغه مالك بن نبي يطلَق على المتعاونين مع الاحتلال- وشبابنا، وعوض أن يوجه كتاباتهم للآخر ويفضحه، وجدنا أنفسنا في مواجهة إخواننا ممن يتكلمون لغتنا ويعتنقون ديننا ويشتركون معنا في الدم، وهكذا فتحت أمام كتابنا جبهتان، جبهة يواجهون فيها الكتابة الغربية وأخرى يقفون في وجه أتباع المستعمر وأعينهم على الشباب، وهكذا باتت المهمة شاقة للغاية.
فلسطين .. حجر الأساس
يعتقد الكثيرون أن القضية الفلسطينية ليست بتلك الأهمية، بل يرى بعض المسلمين –ونتأسف لذلك- أنها مجرد حجر عثرة أمام تقدم دولهم، فالعداء مع الكيان الصهيوني عداء مع العالم الغربي، الذي لولاه لما عاش المسلمون ولما حصلوا على التقنيات الخ، وليس كلام يصيب المرء بالصدمة أكثر من هذا، وخاصة إذا ما سُمِع من أشخاص مثقفين.
والحقيقة أن فلسطين والاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين قضية كل إنسان حر مهما كانت أصوله أو ديانته، فالقضية ليست تنازع بين طرفين كما يحب البعض أن يصورها، إنما هي معركة بين صاحب الأرض والمستوطن، بين صاحب الدار واللص.
فالقضية الفلسطينية نعلم جميعًا كونها قضيّة شعب أعزل يواجه كل أنواع الإرهاب المقدس إرهاب مرتزقة قدموا من جميع أنحاء العالم ليحتلوا أرض غيرهم تحت مقولة:” جدي كان هنا”
ويا ليت شعري هل هم أبناء الجد فعلاً، أم أنهم من ملل ونحل متفرقة لا تاريخ لها ولا أصل، ولك أن تتأمل وجوه جنود الصهاينة، حيث لا تجد بينهم أي وجه شبه، وذلك على الضد مثلا مما إذا تفرست ملامح الجيش السعودي أو المغربي مثلا، وهكذا مع شعب الكيان الإسرائيلي، فليس هناك قاسم مشترك بين هؤلاء سوى أنهم على دين واحد، وهذا ما تحتاجه فحسب لتصبح فجأة مواطنًا إسرائيليًّا لك حق تاريخي في فلسطين!
المسألة اليهودية
إن كل من يتحدث عن كون الصهاينة من نسل ” الأسباط” إما مدلس أو جاهل، فلا يخفى على عاقل أن نسبة هؤلاء -نسل الأسباط- لا تتجاوز 1%، بينما البقية فهم ممن اعتنق اليهودية في القرون الأولى، وهم غالبًا سكان أوروبا الشرقية من الخزر، وهؤلاء لا تربطهم أية صلة بأرض فلسطين لا من قريب ولا من بعيد فكل ما في الأمر أن اعتناقهم لليهودية وتوالي السنين عليهم؛ وتلقيهم لعقيدة التلمود غرس في أنفسهم فكرة “أرض الميعاد”.
ومع اشتداد الأحوال في أوروبا وتقلبات السياسة والمجتمع والاقتصاد، بات الكثير من يزاحم اليهود في المهن التي احتكروها لقرون طوال وعلى رأسها التجارة، وفجأة وجد اليهود أنفسهم مهدّدين في أعمالهم، وأخذت سطوتهم على الأسواق تقل شيئا فشيئا، وهنا سيبدأ ما يسمى تاريخيًّا ” المسألة اليهودية”.
لم تكن المسألة اليهودية حسب الدكتور عبد الوهاب المسيري سوى نتاج انقلاب سوسيو-اقتصادي عرفه العالم، فالوضع اليهودي كان مستقرًّا داخل المجتمع الإقطاعي، إلا أن الكشوفات الجغرافية وازدهار التجارة على حساب الزراعة فتحت أعين المسيحيين على الأسواق العالمية، وهكذا أنشئت شركات تجارية كالعصبة الهانسية واتحاد لندن، بوصفها شركات مسيحية تقود التجارة الدولية وتدعمها الممالك.
اضطر اليهود إلى ممارسة التجارة الداخليّة والاستثمار في الربا، لكن سرعان ما نمت طبقة مسيحية متخصصة في هذا المجال، وهكذا ولكون الجماعة اليهودية “وظيفية” باتت بلا وظيفة، وهكذا أُزيحوا من الوسط إلى الهامش.
يربط الدكتور المسيري هذه الحركة التاريخية بانسحاب اليهود نحو أوروبا الشرقية وخاصة بولندا الدولة التي حافظت على نظامها الإقطاعي، إلا أن الأمور لم تسعفهم في المنزل الجديد فسرعان ما انتقلت عدوى الرأسمالية إلى بولندا ليجد اليهود أنفسهم مرة أخرى أمام الواقع المرير، واقع لم تصنعه المؤامرات بقدر ما صنعته سيرورة التاريخ.
يصف نيتشه هذه الأحداث التي عصفت بيهود أوربا ويحدد حالتهم النفسية بعد تعرضهم للاضطهاد، فيقول: “إن كل ما وُوجه به النبلاء والأقوياء والسادة وأصحاب السلطة. لا يعد شيئا إذا ما قورن بالذي واجهه اليهود، هذا الشعب الكهنوتي الذي لم يجد في نهاية المطاف ما يشفي غليله من أعدائه والمسيطرين عليه سوى قلب جذري للقيم -التلاعب بأخلاق المسيحية- أي من خلال عمليّة ثأر أكثر روحانية، هذا فقط ما كان ملائمًا لشعبٍ من الكهّان، للشعب الذي تميّز بحبّ الانتقام الكهنوتي الأعمق غورًا، إنما اليهود هم الذين تجرأوا على قلب معادلة القيم الارستقراطية، بإحكام مرعبٍ، وثبتوا عليه مكشّرين عن أنياب الكراهية التي لا قرار لها” [نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، ص:55].
ومن هنا نفهم أن القضية الفلسطينية ليست إلا نتيجة رغبة أوربية في إزاحة اليهود عن التجارة وإبعادهم قدر الإمكان عن القارة العجوز، ودعمًا لهذا الرأي يقول الدكتور جمال حمدان:
“لابد أن ندرك أن حركة أعضاء الجماعات اليهودية الضخمة كانت مصدر قلق الدول الغربية، لخوفها على أمنها الداخلي، وليهود الغرب المندمجين الذين كان وصول يهود الشرق يهدد مكانتهم الاجتماعية” [اليهود أنثروبولوجيا، جمال حمدان، ص:235]. والملاحظ أن بغض اليهود والتوجس منهم لم يصدر من الأوربيين فقط بل حتى من اليهود الصفوة.
د. جمال حمدان
أقرت الدول الأوربية جميعها قوانين لمنع توافد اليهود، وعلى رأس هذه الدول بريطانيا التي أصدر برلمانها ” قانون الأجانب” سنة 1906 للحد من هجرة اليهود، ومن الطريف أن آرثر بلفور –صاحب الوعد الشهير- كان من أشد المدافعين عنه.
اختلاق إسرائيل
كون إسرائيل مجرد اختلاق وكونها دولة مزيفة قامت على أرض فلسطين، وأن اختلاق هذا الكيان أمرٌ دبّر بليل وكيدٌ سخّرت له كل الإمكانات، لا يختلف إليه أهل الاختصاص من الشرق والغرب، وهنا أقتبس قول كيث وايتلام –في كتابه، اختلاق إسرائيل القديمة-: “النموذج السائد حتى الآن نتيجة لتزييف التاريخ القديم للمنطقة على يد الباحثين التوراتيين، هو أنه كانت هناك مملكة إسرائيلية عظمى حكمها داود ثم سليمان في فلسطين سنة 1200 ق.م. لكن إسرائيل التاريخية لم تكن إلا لحظة عابرة في مسيرة التاريخ الحضاري لفلسطين القديمة” [ص: 12]. ويرى فيليب ديفيس أن إسرائيل القديمة المذكورة في الدراسات التوراتية هي من اختراع العلماء، وأن هذا الاعتقاد -وجود إسرائيل الكبرى- مبني على فهم خاطئ للتراث التوراتي بل إنه بعيد عن الحقيقة التاريخية، وإذا نظرنا من منظور أوسع وأطول وزمانًا، فإن تاريخ إسرائيل القديم يبدو كلحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني الطويل” [المرجع نفسه، ص: 26].
إذًا فليس هناك في تاريخ المنطقة سوى فلسطين، وقوم إسرائيل ليسوا إلا حدثًا عابرًا، إمارة كأي إمارة في التاريخ البشري تظهر فجأة ثم تنسى كأن لم تكن، وإسرائيل التي نتحدث عنها اليوم ليست مملكة بناها نبي مرسل، وليست حتمية تاريخية أفرزتها تضحيات شعب ما، إنما هي كيانٌ لجماعة وظيفية ولا يمكن فهم هذه الجماعة خارج السياق الاستعماري الامبريالي، فالحلم اليهودي بالعودة إلى أرض الميعاد لم يكن مقترحًا بشكل جماعي قبل القرن التاسع عشر، بل إن فكرة التجمع في فلسطين تبدو من منظور اليهود انتحارًا ما لم يأذن بها “المسيا”، ومن يتجرأ على الذهاب إلى فلسطين فإنه يرتكب خطيئة “دحيكات هاكتس” أي التعجيل بالنهاية [المسيري، الصهيونية والحضارة الغربية، ص: 25] حيث إن مسار التاريخ المقدَّس بالنسبة لهم يأخذ الشكل التالي: النفي ثم الانتظار ثم العودة بمشيئة الإله.. ومع هذا تغلغلت الصهيونية في صفوف المتدينين من اليهود ونجحت في “صهينة” قطاعات واسعة منهم -في الواقع الغالبية العظمى- بحيث تم طرح تصوُّر مفاده أنه يجب العودة قبل ظهور “المسيا” -أو الماشيّح- دون انتظار لمشيئة الإله للإعداد لعودته، وبهذا يأخذ التاريخ الشكل التالي: النفي ثم العودة للإعداد لمقدم الماشيَّح ثم الانتظار ثم مقدم الماشيَّح.
لقد اتخذ إرساء إسرائيل في أرض فلسطين زمنًا طويلاً من الإعداد والتمكين، بدءًا من تكوين الفكرة الإيديولوجية مرورًا بالتغيير الفكري الجمعي وصولاً للتأثير في مسارات السياسة وتغيير الواقع الديمغرافي عسكريًّا، والاعتراف بالواقع الجديد المغاير ثم العمل على التطبيع معه، وهذا مما ينبغي تفصيله في مقال منفصل.
لطالما اجتذبت القضية الفلسطينية تضامن الشعوب وبعض الأنظمة -ولو دبلوماسيًّا- عقب كل حدث بارز، أو إثر كل هجوم إسرائيلي على الأراضي المقدسة. إلا أن الأحداث الأخيرة في الأراضي المحتلة وما تلاها من تصعيد إسرائيلي قد شدّت انتباه العالم -على غير المعتاد- بالتضامن هذه المرة الذي تجاوز المألوف.
لقد جدّد هذا التصعيد وما رافقه من تدنيس للأقصى وتهجير قسري لأهالي حي الشيخ جراح مواقف التضامن بين الشعب الفلسطيني وشعوب شتى، الغربية منها قبل العربية والإسلامية، وشدّ من أزر عرى الأخوة بين المسلمين والفلسطينيين، مما أحدث ضغطًا دوليًّا على الكيان دفعه إلى وقف العدوان المباشر وتدنيس المقدسات بالأراضي المباركة.
ما لبث هذا التضامن الدولي ضد إسرائيل أن أعاد لساحة النقاش التنبّؤات التي قالت بفرضية زوالها، خصوصًا بعد الصراعات السياسية الداخلية التي يعيشها الكيان بين مختلف طبقاته، والتي سنأتي للإشارة إليها خلال المقال.
يهود وليس صهاينة
تعددت النبؤات المؤذنة بزوال إسرائيل من خلال الإشارات الضمنية والصريحة أو التأويلات لنصوص في الكتب المنزَلة، ومن أشهر الروايات المؤيدة لذلك هي اليهودية منها، فهذه الأخيرة لا تعترف أصلًا بقيام دولة إسرائيل، إذ تؤكّد النصوص التوراتية أن قَدَرَ الشعب اليهودي أن يظل مشتَّتًا إلى أجل مسمًّى يصنع الله أثناءه معجزةً توحد البشرية جمعاء تحت لواء حكمه تعالى.
وهذا حسب زعم عرّاب هذه الرواية الحاخام دوفيد فيس (Yisroel Dovid Weiss) الذي ردّ على سؤال المذيع عما إذا كانت هذه الرواية استنتاجه أو استنباطه الخاص من التوراة، فأجاب نافيا؛ ”لا، في الحقيقة قيام الدولة الصهيونية يخالف الخضوع والاستسلام لحكم الله الذي حرّم أن تشيّد دولة قومية لليهود على حساب أرض شعب آخر أو حتى أن تقام على أرض خالية وغير مأهولة، فهذا مُحرم ويعد ثورة ضد الحكم الإلهي”
في حين تُنبئ روايات أخرى من التوراة أن آخر زعماء الدولة الإسرائيلية سيكون ”عطاء الله” فحدد علماء وحاخامات عمرَ الدولة في 76 عاماً ونسبوا ذلك إلى ”نتنياهو” باعتبار أن كلمة “نتن” مرادفة لـ ‘عطاء” وياهو مرادفة لـ كلمة ”الله”
هل اقتربت الساعة؟! 2022 موعد الزوال
من المسلمين، يعتبر الشيخ بسام جرار أشهر من نظّر لزوال إسرائيل عام 2022 اعتمادًا على ما أطلق عليه الإعجاز “العددي القرآني” ومتطلباته من خلال علم “حساب الجُمّل” الذي لا يسع المجال للتفصيل فيه بهذا المقال، لكن من جملة ما اعتمد عليه في فرضيته هو ربطه للأحداث المتعاقبة على الدولة الإسرائيلية بالإفساد في الأرض المذكور في القرآن حسب الآية:
فربط الإفساد الثاني (حيث الوعد بالعقوبة) بآية أخرى من السورة نفسها {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] كما أشار إلى أنّ عدد الآيات من الآية 21 من سورة المائدة (حيث بداية الكلام عن نبوءة اسرائيل) إلى الآية 104 من سورة الإسراء هو 1443 آية، وأنّ عدد الكلمات من بداية الكلام عن نبوءة الإفساد أول سورة الإسراء إلى قوله تعالى: “لفيفا” هو أيضاً 1443 كلمة، وهذا العدد يوافق العام 1443 هـ/ 2022م.
وسواء كانت تنبؤات الكتب المقدسة أساس ما اعتمدت عليه أطراف أخرى في تأييدها لنفس مصير الدولة الإسرائيلية أم أحداث حسية تعيشها هذه الأخيرة.
بعيدًاعن التنبؤات .. واقع إسرائيل المضطرب
شنت إسرائيل الحرب على نفسها إثر تصعيدها الأخير على الأراضي المحتلة، فتفاجؤها بمستوى الردّ وزعزعة المقاومة الفلسطينية لاستقرار الداخل الإسرائيلي، أعاد اعتدال ميزان الرعب بين الطرفين بعدما تمكن الكيان من ساحة الحرب لعقود. لم تفلح هذه المرة في شيطنة المقاومة و”أرهبة ” حركتها، ولا أرى من العدل بخس وسائل التواصل الاجتماعي فضلها في ذلك، بعدما صرفت هذه الأخيرة انتباه الجماهير عن العديد من القنوات، الغربية منها والعربية، لعدم مهنيّتها في نقل الحقائق وتحيزها السياسي الواضح لرأي أنظمتها.
مما يؤكد ذلك، استطلاع رأي أجرته مؤسسة “هارفارد هاريس” يُظهر تغير كبير في آراء الأمريكيين بالنسبة للقضية الفلسطينية مع تراجع تأييد إسرائيل في المنطقة، وجاء في إجمالي الاستطلاع حول سؤال ”مَن المسؤول الأكبر عن العنف في الشرق الأوسط ” أن %60 من الفئة الشابة صوّتت ضد إسرائيل، فضلًا عن المظاهرات الشعبية بعدد من الولايات والمقاطعات التي ندّدت بالجولة التصعيدية الإسرائيلية على الأراضي المحتلة.
لم يقتصر هذا التنديد على الشعوب والمجتمع المدني فقط، فوفق ما نشَرته صحيفة الغارديان (The Gardian) البريطانية، وقع أكثر من 50 سياسي أوروبي رسالة تدعم تحقيق الجنائية الدولية بشأن جرائم حرب في ”الأراضي الفلسطينية”.
أما على المستوى الداخلي، لم تسلم إسرائيل من التخبط السياسي والاجتماعي إثر صعود التيارات الدينية القومية لمواطن صنع القرار فنتج عن ذلك تضارب في السياسات الممثلة للنظام على جميع المستويات، الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية والإعلامية، بفعل الطابع الأيديولوجي والفقهي للحراك الجديد الذي يسبح ضد التيار العلماني الممثل للقيم الديمقراطية والليبرالية، ففي دراسة حديثة أخرجها الدكتور صالح النعامي الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي بيّن فيها مدى تأثير هذا التشكل الجديد للنخبة الإسرائيلية على الصراع العربي الإسرائيلي كافة.
إن هذا التناقض السياسي يمكنه أن يغير الواقع الاجتماعي على المستوى الداخلي مربكًا بذلك المخططات الكبرى المعتمدة في تأسيس الدولة التي اتخذت من الدين ذريعة (لاستقطاب اليهود) من أجل الاستيطان الأوّلي.
على أيٍّ، فإنه لا يمكن لنا الجزم يقينًا بزوال الكيان الصهيوني في عام محدّد كـ ( 2022)، خصوصًا وأن أكثر من نافح عن فرضية الزوال في هذا التاريخ “الشيخ بسام جرار “أكد على أنه اجتهاد قد يصيب فيه وقد يخطئ، والأوضاع السياسية الدولية ما تزال موجهة لصالح الكيان وتزداد هيمنته الدولية والإقليمية، إذ إن زوال “الكيان” يستوجب تغيُّرًا دوليًّا في موازين القوة وفي ظرف وجيز لصالح الدول المناهضة لإسرائيل، هذا بالإضافة إلى سلسلة التطبيع مع عدد من الأنظمة العربية التي نفت عن العلاقة مع الكيان نكهة الصراع والعدائية.
إلا أنه يجب التنبيه على أنه تعالى لا شيء يعجزه، فهو المتصرف في كونه المُمضي حكمه فيه. وبداية الأمل تتجلى في تعثرات وتخبط الكيان تجاه الرأي العام بفعل تطورات وأحداث شدّت الانتباه وأعادت الاعتبار لطرف القضية الأضعف الذي ظل لعقود متحيَّز ضده لقلة حيلته، وسط عالم قل ما وزعه الضمير بقدر ما وزعه السلطان والقوة.
المصادر:
صالح النعامي، النخبة الإسرائيلية الجديدة دراسة في أثر صعود التيار الديني على مراكز صنع القرار، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة – قطر، ط1، 2020.
بسام جرار، زوال إسـرائيل عام 2022م نبوءة أم صُدَف رقميـة، مركز نون للأبحاث والدراسات القرآنية
“إنَّ الحوادث هي أكبرُ مُعلِّم” .. فليس أمعن في الدلالة من حادث حقيقيّ، لا يعتمد على تخيُّل أو تصوُّر مُجرَّد. وإذا أردنا إثبات شيء فأوَّل وأقوى درجاته هي رؤيته بالعيان. فما الذي سيثبُتُ في ضميرنا ومعرفتنا إذا رأينا مشاهد من التي تجري الآن في فلسطين؛ من أحداث توالتْ عقب محاولات الاحتلال إجلاءَ سُكَّان حيّ الشيخ جرَّاح، وانتقال الهبَّة إلى كَنَف المسجد الأقصى نفسه؟
هذه الحالات الجُنونيَّة الهِستيريَّة الصُّهيونيَّة التي رأيناها في اليوم الثامن والعشرين من رمضان المُبارك عام 1442هـ، وما قبله؛ من تهجير أرض وأخذها أمام ناظر أهلها، وهؤلاء الشُّهداء الذين لقوا الله صائمين، وهؤلاء الجَرحى الذين وقفوا مُتصدِّينَ للاحتلال أمام مسجدهم، وغيرها من مشاهد الاقتياد والعُنف تفرض علينا النَّظر بتمعُّن، ثمَّ اكتشاف أصول هذا الجنون الصهيونيّ. فتعالوا ننظر إلى المَشاهد ونؤصِّلها من نفسيَّة الجماعة اليهوديَّة.
نظرة عن كَثَب
إذا رأيتَ ما يحدث الآن على أرض فلسطين من انتفاضة؛ فلا تنظر إلى العرب أو المُسلمين! بل انظر وتمعَّن في جانب الاحتلال الصهيونيّ؛ سواء في ذلك رعايا الاحتلال أو عناصر شرطة الاحتلال. انظر إلى تلك العيون الهادئة المطمئنَّة في حلقات الذِّكر الدِّينيّ اليهوديّ من الرَّعايا؛ هؤلاء الذين يرتدون قبعة اليهود، ويلتفُّون حول بعضهم في حِلَق، ويقف بجوارهم رجال لهم لِحى طويلة.
فرِحُون كأنَّهم أطفال في يوم عيد! فرحون لأنَّهم سيقتحمون مسجد المُسلمين الأقصى، فرحون لأنَّهم سيقتلعون أبوابه، فرحون لأنَّهم سيسمعون صرخات المُسلمين واستغاثاتهم، فرحون لأنَّهم -من وجهة نظرهم- سيطأُونَ ما يُقدِّسه المُسلمون بأقدامهم، وسيدخلون على تلك المحلات التي يعتبرها المُسلمون طهورًا يحنون هاماتهم فوقها، وسيرون المُسلمين عاجزين عن فعل أيّ شيء أمام أفعالهم.
شرطة الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنون يقتحمون باحات المسجد الأقصى المبارك صباح 23/05/2021
انظر إلى عزيمتهم وهُم يقفزون مُتجاورين، وهُم ينزعون أبواب المسجد الجانبيَّة بكُلِّ ما أُوتوا من طاقة. ثمَّ انظر إلى جُرأتهم وهم ينظرون إلى المُسلمين الذين يصورونهم بهواتفهم، وكأنَّهم يقولون: نعم، نحن الجُناة الفاعلون ونفتخر! ثمَّ انظر إلى قسوة ما يأتون من أفعال وتشنُّجات أجسادهم وهُم يؤدُّونها.
وانظر إلى هذا الجنون الأعمى الذي يدفع أحدهم لأنْ يقود سيَّارته ليُحطمها ويحوِّل بها مُسلمًا مُرابطًا أمام مسجده إلى أشلاءٍ دهسًا في صخرة! يا له من مشهد يستحقُّ التأمُّل! الصهيونيّ لمْ يعبأ بملكه وسيَّارته -رغم ما يُعرف عن اليهود من حرص عن الأموال-، ولمْ يعبأ ببقيَّة المُسلمين من حوله، لمْ يفكِّر في شيء إلا في “تحطيم” و”مَحو” هذا المُسلم من أمامه!
ثمَّ انقُل نظرك قليلاً إلى هذا الشُّرطيّ الذي يحميه.. انظر إليه إنْ استطعتَ تمييزه أصلاً من كثرة الدُّروع، والحاميات في الساق والكتفَيْنِ والرأس، والأسلحة التي يتسلَّح بها، والمتاريس التي يقف وراءها ليحتمي -فوق كلّ ما على جسده-! رغم أنَّه على حسب ادِّعائه على أرضه!.. انظر إليه وهو يقتاد شابة -أو قُل بالأحرى طفلة- بين ذراعيه يكاد يسحق عنقها؛ وهي عزلاء إلا مِن لباسٍ يستر جسدها، لا تهدِّد أمنًا له ولا سلامًا. وانظر إلى غضبه أمام الكاميرات الذي سرعان ما يتحوَّل إلى هلع وفرار من حجارة وعِصيٍّ يتقاذفها شباب الأرض وشيوخها عليه. انظر إلى إكماله العنف والتعنيف على مَن أسر واقتاد رغم أنَّه صار أسيره وفي حوزته!
إنَّ مثل هذه المظاهر -كـالتشنُّج والتسارع والهوجائيَّة- كلُّها مظاهر طبيعيَّة في حال الحرب، لا ينكرها نظر الإنسان حين يراها. وحال الحرب تكون قوَّتَيْنِ بينهما أقلّ درجة من درجات التكافُؤ؛ حتى يصلح أنْ تدخَل في تصنيف “الحرب”. لكنَّ ما نراه هنا ليس حربًا؛ بل اعتداء من جهة تمتلك كلَّ شيء تجاه أخرى لا تمتلك إلا أجسادها وحقها في الثبات على أرضها.
وبالقطع يرى الجميع أنَّ الفلسطينيّ الذي يقف صارخًا لا يمثِّل أيَّ تهديد على المُحتلّ؛ ويكفي أنْ نستدعي هذا المشهد الذي نجد فيه مُدرَّعات ومُجنزرات تحمل جنودًا تملك كافَّة أنواع الأسلحة، أمام رجال لمْ يجدوا ما يمسكونه في أيديهم فأمسكوا بألعاب ناريَّة!.. صاروخ يستخدمه الأطفال في الأعياد أمام رصاصات من كافَّة الأقيسة والأعيرة المتاحة!
دلالة ما رأينا، وبعض تفسيره
فما الذي تدلُّ عليه تلك المشاهد؟ لا تدلُّ مشاهد اليوم إلا على مزيدٍ مِمَّا أثبتَتْه مشاهد الأمس القريب والبعيد؛ تدلُّ على أنَّها حرب دين من جهةٍ تُجاه جهةٍ. جهة تعتقد في نفسها أنَّها شعب الله المُختار منه، وأنَّ سائر شعوب الأرض مُسخَّرة لها، وأنَّ هذه الشُّعوب هُم أغيار -أيْ غير يهود في مُصطلح شريعتهم- يستحقُّون أنْ يُجتثُّوا من الأرض، حتى إنْ بقوا عليها بقوا خَدَمًا لهذا الشِّعب المُختار، لا مُساوين لهم، بقوا من غير أرض ولا عرض؛ فالأغيار لا يستحقُّون التملُّك لهذه الأرض المُقدَّسة التي وعدهم الربُّ إيَّاها -وقت أنْ كان اليهود طائعين لله، ليس يهود اليوم-، بل لا يستحقُّون الوجود فوق “أرضه”.
رجاء جارودي
وسوف ندلِّل على ما يأتي به اليهود اليوم من أفعال بأحد أسفار كتابهم “التَّناخ” -الذي يُسمِّيه المسيحيون “العهد القديم-؛ هو “سِفر يَشُوع” لما له من خصوصيَّة قي مسألة تعامُل اليهود مع غيرهم. ولعلَّ هذا هو ما دفع “رجاء جارودي” أن يُخصِّص له فصلاً خاصًّا في كتابه الشهير “الأساطير المُؤسِّسة للسياسة الإسرائيليَّة”.
وسِفر “يَشُوع”، الإصحاح الأوَّل: “الرَّبُّ قال ليَشُوعَ بن نُون؛ خادمِ مُوسى: مُوسى عبدي قد مات. فالآنَ قُمْ اعبُر هذا الأُردُنَّ أنت وكلُّ هذا الشعب إلى الأرض التي أنا مُعطيها لبني إسرائيل. كُلُّ موضع تدوسُهُ بُطونُ أقدامكُم لكُم أعطيتُه كما كلَّمتُ موسى (يقصد في العهد). من البَرِّيَّة ولُبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفُرات، جميع أرض الحِثِّيِّيْنَ، وإلى البحر الكبير نحو مَغرب الشَّمس يكون تُخُمُكُم (حدودكم). لا يقف إنسانٌ في وجهك كلَّ أيام حياتك”.
وها هو ذا اليهوديُّ يستدعي أمر ربِّه في كتابه الحاليّ -وكأنَّه هو اليوم يهوديٌّ مُؤمنٌ مُسلِم الوجه إلى الله كما كان اليهوديّ الذي كلَّمه الله-، ويُشجِّعه على استدعائه هذا كلُّ صاحب منفعة في وجود اليهود على هذه الأرض، وفي نفي المُسلمين من هذه الأرض.
وعلى هذا؛ كيف ينظر هذا اليهوديّ المُختار من الله إلى هؤلاء العبيد وهُم يحتلُّون أرضه التي وعده الله؟! لا تتعجَّبْ فاليهود حقًّا يقولون هذا القول في كلِّ مَحفَل، ويعتبروننا مُغتصِبِين لأرضهم، ويُعلِّمون أولادهم هذه العقيدة .. بل كيف يهدأ وهو يرى مساحةً كبيرةً من الأرض لا يحتلُّها المُسلمون وحسب، بل يُسمِّيها المُسلمون مسجدًا، يحاربون عليه بأرواحهم؛ وكيف يُجاريه المُسلمون -وهو يرى نفسه (ابن الله)- وقد خلقهم الله ليكونوا خدمه وتحت قدمَيْه؟!
ولا يكتفي اليهوديّ باستدعاء عقيدة ترسمها له كُتُبُه، بل إنَّه يرى فينا نحن صورة تلك الأُمم التي أمره الله باقتلاعها من الأرض المُقدَّسة، وبما أنَّ اليهود يعتقدون أنَّهم الشعب المُختار؛ فكلُّ شعب دونهم هو شعب غير مُختار. غير أنَّ الذاكرة الشعبيَّة تقرأ الكتاب وتُلبس المُسلمين الموجودين الآن لباس “الكنعانيِّين” -وهُم قوم من العرب كانوا أهل فلسطين، وتجبَّروا على أمر الله. وجاء اليهود بأمر الله ليمتلكوها من أولئك القوم القُدامى. وهذا اللباس في الصورة هو العنصر المفقود فيها؛ حيث يُمثِّل نصف الصورة الأخرى، فاليهود الآن لا بُدَّ وهُم يحاربون أنْ يُحاربوا عدوًّا لله؛ هُم نحن!
فكيف يأتي إلى هذه الأرض مُحتلاً وعليها أهلها؟! يجب أنْ يُشيطنهم في ذاكرة رعاياه، ويلبسهم لباس الكُفَّار القدامى الذين أمر الرَّبُّ بقتلهم وطرد الباقي منهم. وهؤلاء الآخرون -نحن في هذه الحالة- كانوا يرهبون اليهود قديمًا، ففي السِّفر نفسه، الإصحاح الخامس: “وعندما سمع جميع مُلُوك الأَمُورِيِّين الذين في عَبْر الأُردُنّ غربًا، وجميع مُلُوك الكنعانيِّينَ الذين على البحر أنَّ الرَّبَّ قد يبَّسَ مياه الأُردُنِّ من أمام بني إسرائيل حتى عبرنا؛ ذابتْ قلوبُهم، ولمْ تبقَ فيهم رُوحٌ بعدُ مِن جرَّاء بني إسرائيل”.
وانتبه أنَّ اليهود العُصاة اليوم الذين كفروا بنبيّ الله “عيسى”، ثمَّ من بعده “محمَّد” -عليهما السلام- ليسوا هُم عباد الله المَوعودينَ؛ لذا تراهُم خائفين مَذعورين من أقلّ كرٍّ وفرٍّ مع أطفال بيدهم حجارة أو إطارات سيَّارة! فلمَّا بدَّلوا الإيمانَ كُفرًا أبدل الله حالَهم خوفًا وذُعرًا. فها هُم يبنون حصنًا ودروعًا مضادة للصواريخ، وقُبَبًا حديديَّة في السماء، ويُقيمون المتاريس في كلّ مكان على الأرض، ويتسلحون بكُلّ الأسلحة، ويتدرَّعون بدرع ثقافيّ هائلة -إعلام الغرب يكاد يكون كاملاً-؛ ثمَّ ما لهم يصيحون صيحة الموت من أقلَّ صوت يسمعونه، ثمَّ يكتشفون أنَّه صوت إطار سيَّارة أحدهم قد انفجر؟! أليسوا على أرض الله التي وعدهم إيَّاها؟! أمْ أنَّ وعد الله قد تبدَّل بتبديل الحال؟!
ثمَّ ها هو اليهوديّ اليوم يستدعي ما فعله يهود أمس مع أهل هذه الأرض. وهذه بعض اقتباسات من السِّفر نفسِه في إصحاحه العاشر تُريْكُم كيف كان الأمر: “وحارَبَ لِبْنَةَ … فضربها بحدّ السيف، وكلَّ نفس بها. لمْ يُبْقِ شاردًا … ثمَّ اجتاز يشوع وكلُّ إسرائيل معه من لِبْنة إلى لَخِيشَ، ونزل عليها وحارَبَها … وضربها بحدّ السيف وكلَّ نفس بها حسب كلِّ ما فعله بلبنة … ثمَّ اجتاز يشوع وكلُّ إسرائيل معه من لَخِيشَ إلى عَجلُون فنزلوا عليها وحاربوها. وأخذوها في ذلك اليوم وضربوها بحدّ السيف، وحرَّمَ كلَّ نفس بها …”. وهكذا يرى اليهوديّ اليومَ ما يأمره كتابه -الحاليّ هو الآخر- به في تعامُله مع أهل المنطقة؛ من أنْ يُبيد كلَّ نفس فيها ولا يُبالي.
ولعلَّ هذا يفسِّر لك هذه الجُرأة النَّفسيَّة البالغة التي يمتلكها هؤلاء لقتل وسفك دماء العُزَّل غير المُحاربين. فإنَّ قتل النِّفس -بالحقّ أو بغير الحقّ- في الأصل فعل ذو رهبة بالغة على النفس البشريَّة، وتجاوُز تلك العقبة الهائلة لا بُدَّ له من مُحفِّز قويّ، يستطيع أنْ يُحيل هذا الفعل إلى أمر هيِّنٍ على النفس. وهنا أنوِّه إلى أنَّ كسر هذا الحدّ النفسيّ يُساعد النفس على قبول القتل؛ فمتى اعتاد الإنسان على القتل استَمرَأَه. فإذا أكلمنا لنشهد بقيَّة فعل بني إسرائيل بأهل البلاد فُوجِئْنا بفعلٍ صُوِّرَ كثيرًا من جُنُود الاحتلال؛ وهو دهس الرقاب والرؤوس بالأقدام.
يقول السِّفر في إصحاحه العاشر: “ولمَّا انتهى يشوع وبنو إسرائيل من ضربهم ضربةً عظيمةً جدًّا حتى فنوا … قال يشوع: افتحوا فم المَغارة، وأخرجوا إليَّ هؤلاء الخمسة المُلُوك من المغارة. ففعلوا كذلك؛ وأخرجوا إليه المُلُوك الخمسة من المغارة: مَلِك أورشليم، ومَلِك حَبْرُونَ، ومَلِك يَرْمُوتَ، ومَلِك لَخِيشَ، ومَلِك عَجْلُونَ. وكان لمَّا أخرجوا أولئك المُلُوك إلى يشوع؛ أنَّ يشوع دعا كلَّ رجال إسرائيل. وقال لقُوَّاد رجال الحرب الذين ساروا معه: تقدَّموا وضعُوا أرجُلَكم على أعناق هؤلاء المُلُوك. فتقدَّموا ووضعوا أرجُلهم على أعناقهم. فقال لهم يشوع: لا تخافوا، ولا ترتعبوا. تشدَّدوا وتشجَّعوا؛ لأنَّه هكذا يفعل الرَّبُّ بجميع أعدائكم الذين تحاربونهم. وضرَبَهُم يشوعُ بعد ذلك وقتَلَهم وعلَّقهم على خمس خَشَب، وبقوا مُعلَّقين على الخشب حتى المساء”.
فها هو يهوديّ اليوم يطابق فعل مَن قرأ عنهم، وها نحن نشهد كلَّ ما هو مكتوب في الكتاب الحاليّ معهم حاضرًا بين يدَيْنا. وإذا هالَك فعلُهُم بإخراج أهل القُرى منها، فها نحن نقرأ في الإصحاح الرابع العشرين، من السِّفر نفسه: “ثمَّ عبرتُم الأُردُنَّ، وأتيتُم إلى أريحا. فحارَبَكُم أصحاب أريحا: الأَمُورِيُّون… والكنعانيُّون… واليبوسيُّون، فدفعتُهم بيدكُم… وأعطيتُكم أرضًا لمْ تتعبوا عليها، ومُدُنًا لمْ تبنوها، وتسكنون فيها. ومن كُرُومٍ وزيتون لمْ تغرسوها تأكلون”.
وفي موضع آخر من الإصحاح الثالث والعشرين يقول: “قد قسَّمتُ لكُم بالقُرعة هؤلاء الشُّعوب الباقين مُلكًا حسب أسباطِكم … والرَّبُّ إلهُكم هو ينفيهم من أمامكم ويطرُدُهم من قُدَّامكُم؛ فتملكون أرضهم كما كلَّمَكم الرَّبُّ إلهُكم”.
ولعلَّ ما أتى سابقًا يُفسِّر لنا الكثير من أفعال اليهود وجرائمهم. ومن هُنا نرى أنَّ جُزءًا كبيرًا من تحرُّكنا يبدأ من الوعي الحقيقيّ الذي نقف عليه، من خلال معرفة الآخر ودراسته. ولا تريد هذه السُّطور أنْ تُعرِّفك هذه الكلمات لتهدأ، بل لتتحرَّك حركةً واعيةً مُتَّزنةً تعرف فيها مَن أمامك، وما دوافعه؛ لتدرك كيف تقاومه وتنصر عليه. وأنوِّه إلى أنَّ التفسير الدينيّ ليس كلَّ مناحي التفسير لهذه الظاهرة الاستعماريَّة التي نُعانيها منذ عقود شارفتْ على الثمانية، بل هي وجه واحد -وإنْ كان الوجه الأكبر في عمليَّة التحفيز الصُّهيونيّ- وهناك الكثير من المناحي الأخرى التي قد يأتي وقت إلقاء الضوء عليها.
يقال إن تسمية هذه الطائفة من اليهود بالفلاشا تعود إلى كلمة فلسين، ومعناها: الغرباء أو السكان غير الأصليين، أو المهاجرين من الخارج. ويقال إنها مشتقة من “فلاس” وهي لفظة تعني العبور؛ فتكون كلمة العبرية مشتقة منها أيضاً، حيث يسمى اليهود بالعبريين لأنهم عبروا البحر مع موسى عليه السلام حسب بعض المؤرخين.
وتعود جذورهم إلى بلاد كوش “الحبشة” أو ما يسمى اليوم بإثيوبيا، وقد اختلف في أصولهم إلى عدة آراء، وهي:
ـ الرأي الأول: الفلاشا من نسل الأسباط العشرة المفقودة؛ رحلوا إلى إثيوبيا بين القرن العاشر قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، وذهب إلى هذا الرأي الرحالة اليهودي الداد هدني، ويرى هدني أنه بعد انقسام المملكة اليهودية بين رحبعام بن سليمان ويربعام بن نبط قرر سبط دان الهجرة إلى الحبشة، وعدم المشاركة في القتال، ويوافق الداد هدني في هذا الاعتقاد الحبر اليهودي عوفديا، والحبر دافيد بن زمرا.
ـ الرأي الثاني: الفلاشا هم جزء من يهود مصر، ويرى أصحاب هذا الرأي أنه بعد تدمير الهيكل الأول هاجرت طائفة من اليهود إلى مصر، ومنها إلى الحبشة، ودليلهم التشابه الكبير بين يهود مصر ويهود الحبشة في عادة تقديم القرابين ووجود مصطلحات آرامية في الترجمات الجعزية للكتب المقدسة.
ـ الرأي الثالث: الفلاشا جزء من يهود اليمن “الجزيرة العربية”، ويقوم هذا الرأي على احتمالية هجرة بعض اليهود من الجزيرة العربية عن طريق اليمن إلى الحبشة، فالتقارب الجغرافي والعلاقات التاريخية بين ساحلي البحر الأحمر أسهما في ذلك.
ـ الرأي الرابع: الفلاشا هم نتاج هجرة بعض اليهود من مصر والجزيرة العربية، وهذا الرأي يجمع بين الرأيين الثاني والثالث.
ـ الرأي الخامس: الفلاشا تعود أصولهم إلى قبيلة آجاو الإفريقية، وقد تهودوا في زمن غير معروف، ويستدلون بالتشابه الكبير بين معتقدات آجاو النصرانية الأرثوذكسية وبين تعاليم يهود الفلاشا اليهودية، وممن ناصر هذا الرأي ولندروف.
وتختلف الروايات أيضا حول أعدادهم، مما حدا البروفيسور لسلاو إلى زيارة أثيوبيا في عام 1946م للكشف عن هذا الموضوع، فقدر أعدادهم بعشرين الف نسمة، وكذلك قدرها الدكتور شوشكس، بينما قدرت صحيفة نيويورك تايمز أعدادهم بما يقارب 52 ألفاً.
وينتشر الفلاشا حول بحيرة تانا في الشمال الغربي الإثيوبي، ومن مناطقهم: بجمدر، كوارا، بلسا، لسطا، دمبيا، جوندر، أرمشوهو، وجرا، لقيط، سمين، كما يتواجدون بأعداد قليلة في العاصمة أديس أبابا.
ويتكلم الفلاشا اللغة الأمهرية واللغة التجرية، أما لغة صلواتهم الدينية فهي لغة الجعز، وهي لهجة سامية قديمة كانت تستخدمها الكنيسة القبطية الإثيوبية.
وجميعهم ذوو جلد أسود كبقية الأفارقة، وغالب مساكن الفلاشا مبنية من فروع الأشجار المتراصة والمتلاصقة بالطين، فهي بيوت بدائية، ويعتمدون في الطهي على النار وإشعال الأخشاب، وهم لا يؤمنون بالتجارة لأنها تضطرهم للاختلاط بالأجانب غير اليهود “الغوييم”، حيث ينظرون إلى الأجانب على أنهم رجس، فهم منعزلون من الناحية الاجتماعية.
المعتقدات والطقوس الدينية
أولاً: الكتب المقدسة يؤمن يهود الفلاشا بخمسة أسفار من أسفار العهد القديم، وببعض الأسفار الخارجة عنه، وهي أخنوخ واليوبيل وباروخ وعزرا، وهي مكتوبة بخط اليد.
وهم لا يعرفون شيئاً عن التلمود، ولا عن الجاؤنيم وهم رؤساء المدارس الدينية اليهودية في بابل، وجميع النصوص الدينية عندهم كتبت بلهجة الجعز السامية التي ترجمت عن نصوص يونانية في عهود نصرانية متقدمة.
ومن كتبهم المقدسة كتاب “أرديت” أو التلاميذ، وأعمال موسى، وجورجوريوس النبي، ومدراش أبا الياهو، وكتب الآباء مثل آدم وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وهارون.
ثانياً: الصلاة والكنيس تقام صلوات الفلاشا الدينية في كنيس مميز عن أكواخ القرية، وينقسم إلى قسمين: داخلي وهو قدس الأقداس وخاص بالكهنة، وخارجي لبقية اليهود، ولابد قبل دخول الكنيس من نزع الأحذية، ولا يغطي عوام اليهود رؤوسهم، بل هو خاص بالكهنة.
ويتوجهون في قبلتهم إلى القدس، وصلاتهم عبارة عن رقصات وحركات بالأيدي وسجود وغناء جماعي، وعدد صلواتهم ثلاث صلوات في اليوم، صلاة السحر وهي بعد طلوع الفجر وقبل الخروج إلى العمل، والثانية في منتصف اليوم، والثالثة بعد غروب الشمس.
كذلك لديهم صلاة يوم السبت، والصلاة السابقة للوليمة واللاحقة لها، وصلاة استقبال الضيف ووداعه وذكرى الأموات والختان والزواج.
ثالثاً: يوم السبت هو يوم عيدهم الأسبوعي، فهم يزعمون أن الله استراح فيه بعد خلق العالم، وله أسماء عندهم فهو سبت الراحة والسبت المقدس وسبت السلام والسبت الملكة، ويحتفلون بقدومه فيغسلون ملابسهم ويعدون طعامهم، ويبدأ يوم السبت عندهم من غروب شمس يوم الجمعة.
رابعاً: التقويم والأعياد يحتفل الفلاشا بأعياد التوراة، ولهم أيضا أعيادهم الخاصة بهم، وأبرزها:
ـ رأس السنة: وهو اليوم الأول من الشهر السابع نيسان، ويسمونه يوم شروق النور، وهم على خلاف بقية اليهود الذين يحتفلون به في أول شهر تشرين.
ـ يوم الغفران.
ـ يوم المظال: أو عيد الظل، وهو اليوم الخامس عشر من نيسان، ويستمر ثمانية أيام.
ـ عيد الفصح: وهو في الرابع عشر من نيسان.
ـ عيد الأسابيع: أو عيد الحصاد، وهو بعد خمسين يوماً من عيد الفصح.
ومن أعيادهم: أول كل شهر، والعاشر من كل شهر، والثاني عشر من كل شهر، والخامس عشر من كل شهر.
ويعتمدون في مواعيد أعيادهم التقويم الحبشي والذي يعتمد على الحساب القمري، على عكس بقية اليهود الذين يعتمدون التقويم الشمسي.
خامساً: الصوم يعبّرون عنه بلفظ عبري معناه: إذلال نفس، وهم يصومون إما تكفيراً عن ذنوبهم أو إحياء لذكرى بعض الأحداث التاريخية، أو امتثالاً لبعض أوامر علية القوم، أو تضرعاً لله تعالى لكشف الكرب.
سادساً: الطعام الحلال “الكوشير” لا يأكلون اللحم إلا إذا ذبحه الكاهن، ويدفنون دم الذبيحة في التراب، ولا يأكلون لحم غير اليهود “الغوييم” لنجاسة أصحابه في نظرهم.
سابعاً: النجاسة والطهارة كل من هو غير يهودي هو نجس عندهم، فلا يؤكل لحمه، ولا يمس، ولا يسمح له بدخول بيت اليهودي إلا بعد الغطس في النهر، والميت عندهم نجس، وكذلك نجاسة من قام بتغسيل الميت أو دفنه أو حمله.
ويقولون بنجاسة المرأة الحائض والنفساء، فتعتزلهم خارج البيت إلى خيمة اللعنة، أو خيمة الدم، ولهم طقوس خاصة فيمن تلد ولداً أو بنتاً.
ثامناً: الختان يعد الفلاشا خاصة واليهود عامة الختان عهداً بين الرب والشعب، وهم لا يزوجون بناتهم لغير المختون “الأغلف”، فيختتنون لأسباب عدة، كالأسباب الصحية والتعبدية، وعادة ما ينفذون هذه العملية في اليوم الثامن من الولادة، ويؤجلونه لليوم التاسع إذا كان الثامن سبتاً على خلاف بقية اليهود.
تاسعاً: زواجهم للزواج عندهم خيمة خاصة، والزواج يتم بربط خيط ملون عند قدمي العريس، ثم يمرره على بقية جسمه، وتقام له الولائم الخاصة والاحتفالات، وغالباً ما يتم الزواج من غير الأقارب لأنهم يكرهون زواج الأقارب.
عاشراً: الدفن يتم دفن الميت عند الفلاشا من خلال أربعة رجال، يغسلونه ويصلون عليه صلاة تسمى “فتح”، ومراسم العزاء عندهم تشابه نظيراتها عند بقية الأمم.
أهم المراجع ـ يهود الفلاشا: أصولهم ومعتقداتهم وعلاقتهم بإسرائيل، الدكتور محمد جلاء إدريس، مكتبة مدبولي، القاهرة.
ـ الفلاشا: الخيانة والمحاكمة، صلاح عبد اللطيف، مكتبة مدبولي، القاهرة.
استعرضنا في مقال “الإنسان والدين” رواية الوحي والنظريات اللادينية لنشأة الدين، وأوضحنا أن الرواية الثانية تنطلق من منظور إلحادي في تفسيرها لنشوء كل العقائد والجوانب الروحية والشعائر والممارسات السحرية في حياة البشر، وسنتابع في هذا المقال تطور هذه العقائد والعبادات من منظوري الوحي والنظريات اللادينية بعد نشوء الحضارة وظهور الكتابة والتاريخ.
ولا بد لنا من مراجعة الفارق بين الروايتين والخلل في المنهج، حيث لا نجد في أي كتاب علمي حديث وصفا “علميا” يمكن الركون إليه عن نشأة الدين، والسبب ببساطة يعود إلى أن العلماء يبنون نظرياتهم بهذا الشأن على أساس من التخمين، فلم يترك لنا البشر الأوائل أي أثر مكتوب عن نشأة معتقداتهم، بل تركوا وراءهم وصفا أدبيا لأساطيرهم على هيئة ملاحم أدبية، بجانب ما بقي من المعابد والتماثيل والصور (الأوثان) التي كانوا يقدسونها، أما تفسير نشوء المعتقد نفسه ودوافعه فليس هناك أي دليل تاريخي عليه.
تعود هذه المشكلة إلى المنهج العلمي نفسه، حيث تقوم جميع الأبحاث العلمانية في نشأة الأديان ومقارنتها -وهي الأبحاث التي توسم وحدها بأنها علمية- على فكرة مفادها أن “العلم” يقتضي عدم البناء على أي نص ديني، ويمكن أن تُقبل هذه القاعدة طالما كان العلم التجريبي يبحث في أمور مجردة، بحيث يتوصل العلماء من كل الأديان على نتائج التجربة العلمية، إلا أن المشكلة تبدأ عندما يصر الباحث على اعتبار العلم التجريبي مصدرا وحيدا للمعرفة في كل شيء وأنه لا وجود للحقيقة إلا في إطار المادة والتجربة، ففي حال غياب أي معلومة علمية تجريبية عن نشأة الإنسان الأول ومعتقداته لن يكون “العلم” مفيدا ولا قادرا على تقديم أي جواب سوى التخمين، والمشكلة لا تكمن في التخمين فقط بل في افتراض أن أي تفسيرات غيبية لنشوء الكون والحياة والدين هي غير مقبولة طالما أنه لا يستطيع اختبارها بأدواته المحدودة، والمؤسف أن تصر المؤسسات العلمية حول العالم على منح “العلم” هذا الدور التخميني والمضي فيه إلى أبعد مدى، حتى باتت كتب الأكاديميين الكبار تخلط بين العلم والفلسفة.
انطلقت الأبحاث العلمانية لنشأة الدين من نظرية التطور (الداروينية) باعتبارها التفسير “العلمي” الوحيد لنشأة الإنسان [انظر مقال “وجود الله“]، وعليه فإن نظريات نشوء الدين تدور حول رغبة الإنسان الأولى في اكتشاف العالم والبحث عن أجوبة شافية للأسئلة الوجودية الكبرى وتفسير الظواهر الطبيعية، دون تطرق لاحتمال أن يكون هذا الإنسان قد خُلق من قبل إله واعٍ وأنه منحه المعارف الأولى منذ وجوده على الأرض ليتمكن من العيش وإعمار الأرض.
إدوارد تايلور
هيمنت أفكار الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور التطورية على الفكر الأنثروبولوجي خلال القرن التاسع عشر، فكان يزعم أن “الإحيائية” Animisme هي الشكل الأولي الوحيد للدين الذي تطور عبر العصور خلافا لباقي الأشكال الأخرى، وصار شائعا لدى الباحثين في الأديان تفسير كل ما يتجمع لديهم من معلومات عن حياة المجتمعات غير الغربية –التي سموها بالشعوب البدائية- من منطلق التطور.
في الوقت نفسه، زعم جيمس فريزر أن الدين تطور مع ظهور الزراعة في عصور ما قبل التاريخ، وأن البشر تطوروا بتطور عقولهم عبر ثلاث مراحل، هي السحر البدائي ثم الدين وصولا إلى العلم. ووافقه في ذلك أوغست كونت وفريدريك هيغل، أما إميل دوركهايم فرأى أن الدين نشأ بتقديس القبائل “البدائية” لما يسمى بالطوطم، وهو رمز (أيقونة) حيواني كان يُشكل هوية القبائل ويحظى باحترامها، وتلاقى معظم الباحثين الغربيين على الإيمان بالتطور الدارويني في المجال الديني سواء عن طريق الصدفة أو بالحتمية الاجتماعية.
طوطم
تفترض تلك الأبحاث أن السحر هو الأصل، وأن الإنسان “البدائي” حاول السيطرة على الطبيعة عبر ادعاء حصوله على قوى السحر والشعوذة، ثم قرر بعد قرون من الفشل أن يتجه إلى الدين ويعبد الإله أو الآلهة المتعددة ليسترضيها. لكن هذا الزعم لا تسعفه الأدلة التاريخية لأن السحر والدين يعيشان جنبا إلى جنب في ظل الجماعات القديمة والحديثة، فالفارق بينهما في الوظيفة وطبيعة النظم وليس في التسلسل التاريخي. كما أن السحر نقيض الدين، فهو يتضمن الجانب العقائدي والشعائري لعبادة الشياطين في مقابل عبادة الإله أو الآلهة الوثنية، وليس هناك أي دليل تاريخي يؤكد فرضيات أسبقية السحر على الدين أو حتى يفسر نشوء السحر عن غريزة السيطرة أو الحاجة إليها في ظل غياب الدين.
كما أثبت روبرت شميت تهافت نظرية الطوطمية لدى دوركهايم، فهناك أمم عديدة لم تعرف شيئا عن الطوطم [The Making of Religion, 95]، بينما اكتشف جيمس فريزر وأندرو لانغ أن الطوطمية كانت تمثل منظومة اقتصادية مدنية وقومية وليست ذات بعد ديني. [العودة إلى الإيمان، 183].
وبحسب الرواية الإسلامية (الوحي) فإن الدين الحق الذي يقوم على عبادة الله هو الأصل منذ بدء البشرية في نسل آدم، أما ظهور السحر والأديان الوثنية فكان بعد عدة أجيال، ويقول ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم إن ظهور الملَكين هاروت وماروت -اللذين نسب إليهما القرآن تعليم السحر للناس- كان في زمن النبي إدريس، وهو أول الأنبياء بعد آدم، أي أن السحر أقدم من الوثنية نفسها، وهذا الرأي يتشابه جزئيا مع الرواية اليهودية -التي نعتبرها محرفة عن الوحي الأصلي- فهي تتهم الملائكة بارتكاب الخطيئة ومعصية الرب والسقوط إلى الأرض في زمن إدريس (أخنوخ) أيضا. ومع أن هناك الكثير من الروايات الإسرائيلية التي تداولها المفسرون عن حقيقة هاروت وماروت، وهي قصص أسطورية لا يدعمها دليل، ومع أن القرطبي استبعد أن يكونا من الملائكة أصلا ورأى أنهما شيطانين، فإن ما يهمنا هنا هو أن تعلم بعض الناس للسحر كان متزامنا مع نشوء العبادات الوثنية والأديان المحرفة، أو متقدما عليها بفترة وجيزة، ولكنه لم يكن متقدما على الدين الأصلي وهو عبادة الله.
يقول ستيفن لانغدن في كتابه “الميثولوجيا الساميّة”: إن تاريخ الحضارة القديمة تزامن مع تدهور التوحيد إلى الوثنية والاعتقاد بالأرواح والأشباح، وهذا يشكل انحطاطًا للإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
[Semitic Mythology].
ونظرًا لسيطرة الفكر الغربي بمدارسه المتعددة على العلوم الاجتماعية في أنحاء العالم، بما فيها العالم الإسلامي، فقد تغلغلت في عقول الكثير من العرب فكرة تطور الأديان التوحيدية عن الوثنية والأرواحية، وليس العكس، بل حاول بعضهم إيجاد طريقة ما للجمع بين هذه الفكرة مع الإسلام بالرغم من التناقض الجلي، وسيتبين لنا في ثنايا المقال بطلان هذه الفكرة وتناقضها مع الكثير من الأبحاث التي صدرت في القرن العشرين، حيث نستعرض أهم المحطات التاريخية لظهور العبادات الوثنية (تعدد الآلهة) بعد الانتقال المفترض للمجتمع الإنساني من النظام البدوي والعشائري إلى نظام المدن وتشكل الدول والحضارات، وما رافق ذلك من ظهور المؤسسة الدينية الوثنية (الكهنوت) وتحالفها مع المؤسسة السياسية الملكية.
يقول الباحث آرثر كوستانس في كتابه “سلسلة أوراق المدخل”: مع اكتشافنا لألواح أثرية أقدم، ومع تقدم كفاءتنا في فك الرموز، تغيرت فكرتنا عن الوثنية القديمة، واستبدلنا بها تصورا آخر هو الترتيب الهرمي للأرواح التي يحتل قمتها كائن مطلق. كما يرى أن نظرية التطور مبنية على اعتقاد مُسبق بأن الإنسان يرقى بتفكيره مع مرور الزمن، بينما تثبت الآثار أن ما حدث كان تدهورا وليس تطورا. [The Doorway Papers Series, 3- 34].
يقول الباحث الألماني فيلهيلم شميدت في كتابه “أصل ونمو الدين” إن زعم هربرت سبنسر بأن البشر الأوائل قدسوا آباءهم وأجدادهم ثم عبدوهم وفق تراتب هرمي حتى ظهرت الآلهة والأديان هو تصور خاطئ، فالعالَم القديم كانت لديه صورة نقية عن الإله الواحد، ومع تقدم الحضارات زادت فكرة الإله تعقيدا حيث نُسبت له الزوجة، ثم تعددت الآلهة، حيث لم توجد عبادة الأسلاف في الكثير من قبائل وسط أفريقيا وجنوب شرق أستراليا وغرب أمريكا.
[The Origin And Growth of Religion, 61].
ستونهنج في بريطانيا من أشهر الأنصاب الميغاليثية
المعابد الأولى ذكرنا في مقال “الإنسان والدين” أن الآثار المتبقية في تركيا ومصر والشام وأوروبا الغربية والشمالية ترجح ظهور المعابد الأولى على هيئة كتل صخرية ضخمة أطلق عليها اسم “الأنصاب الميغاليثية”، وهي تعود إلى العصر الحجري الحديث (النيوليت)، أي ما بين 9000 و4500 قبل الميلاد، ويُعتقد أنها كانت مخصصة لعبادة أرواح الموتى.
وفي عام 1994، اكتُشف موقع “غوبكلي تيبي” بولاية أورفة جنوب تركيا، وهو يضم 20 معبدا، ويعد أقدم معبد مكتشف حتى اليوم، ويعود تاريخ بنائه إلى ما قبل 12 ألف سنة تقريبا، ومازالت حجارته تحتفظ بنقوش لأشخاص ونساء عاريات وحيوانات أسطورية وبرية. [gobeklitepe.info].
تعود كل تلك المعابد إلى العصر الحجري الذي لم يترك لنا نصوصا مكتوبة عن تاريخها وعقائدها، لكن النقوش تؤكد أن الوثنية بدأت بتقديس الآباء والأجداد، وهو ما يتوافق مع ما جاء في الوحي الإسلامي، حيث أشرنا في مقال “الإنسان والدين” إلى أن بداية الانحراف عن عبادة الله كانت مع إيحاء الشيطان إلى الناس بصناعة أنصاب تحمل أسماء آبائهم الصالحين دون أن تُعبد، ثم جاءت أجيال أخرى فعبدتها.
وإذا كانت بقايا المعابد الأولى لا تكشف لنا شيئاً عن مساجد يُعبد فيها الله وحده دون وثنية ولا شرك، فهذا لا يعني أن الوثنية سابقة على التوحيد والوحي بالضرورة، فليس هناك ما يمنع تاريخياً ولا عقلياً أن تكون آثار المساجد الأولى قد اندثرت أو دُمرت عمداً، وأن المعابد الوثنية التي اهتم بها الطغاة والكهنة هي التي كُتب لها البقاء.
ويرى مؤرخون مسلمون -مثل القرطبي وابن حجر وابن الجوزي- أن آدم (أول البشر) كان قد بنى بنفسه أول المعابد على الأرض، وهو المسجد الحرام في مكة، فكان بذلك سابقاً على كل المعابد الوثنية، واستندوا بذلك إلى الحديث الصحيح الذي قال فيه أبو ذر: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال صلى الله عليه وسلم “المسجد الحرام”، قال ثم أي؟ قال “المسجد الأقصى”، قال كم كان بينهما؟ قال “أربعون سنة” [البخاري: 3366، ومسلم: 520]. لكن أثر المسجد الحرام اندثر عدة أجيال، حتى أرشد الوحي إبراهيم إلى مكانه فأعاد بناءه.
قائمة ملوك سومر
بلاد الرافدين بالعودة إلى بلاد الرافدين (العراق) التي ينسب إليها التاريخ المدوَّن أول الحضارات البشرية، نجد لوحا طينيا يدعى “قائمة ملوك سومر” وهو يقول إن أول الملوك بعد الطوفان كان يسمى “جشور”، وهو الذي أنشأ مدينة كيش (تل الأحيمر حالياً) في منطقة بين دجلة والفرات، لكن الباحث العراقي خزعل الماجدي يقول في كتابه “أصول الناصورائية المندائية في آريدو وسومر” إن الناصورائيين (المندائيين) أسّسوا أول مدينة في التاريخ وهي إريدو (تل أبو شهرين حالياً)، وهناك ظهر أول معبد في التاريخ (أي بعد العصر الحجري)، وكان لعبادة الإله (إيا)، ونجد في كتاب المندائيين المقدس “الكتاب العظيم” أن صفاته لا تكاد تختلف عن صفات الله المذكور في القرآن، ومنها على سبيل المثال العظيم، القديم، ملك النور، رب العوالم قاطبة، ذو الحول الشامل، الرؤوف التواب، الغفور الرحيم، العزيز الحكيم، البصير، الذي على كل شيء قدير. لكن السومريين الذين ورثوا مدينة إريدو لاحقاً حوّلوا هذا الإله إلى “إنكي”، والذي يجسد إبليس نفسه كما سنرى.
لا نجد في “قائمة ملوك سومر” اسم النمرود، إلا أنه ورد في نصوص أخرى، وأهمها الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل المتبقيان اليوم) الذي يقول إنه ابن كوش بن حام بن نوح، ويضيف أنه أول من أسس مملكة في تاريخ البشرية بتأسيسه مملكة بابل، وأنه كان طاغية جبارا كافرا بالله، كما يربط التلمود (كتاب يتضمن شروح التوراة) بين النمرود والملك إمرافيل الذي كان حاكما في عصر النبي إبراهيم، وفي القصص الشعبية التي جمعها مؤرخون في العصر الإسلامي نجد توجها عاما للاعتقاد بأن النمرود هو أول جبار في الأرض وأول من ادعى الألوهية، ويقول بعضهم إنه رأى حلما أوّله الكهنة والمنجمون بأنه سيولد ولد في قومه ويكون هلاكك على يديه، فأمر بذبح كل من يولد في تلك السنة، لكن إبراهيم نجى عندما نجحت والدته في إخفائه حتى كبر وتحدى النمرود، وعندما فشل الملك في محاججته بالعقل أمر بحرق إبراهيم بالنار، لكن المعجزة اقتضت ألا تمسه النار بسوء، وهي معجزة أكدها القرآن الكريم.
بقايا بناء يقال إنه بيت إبراهيم في أور (Aziz1005)
لا يذكر القرآن أيضا اسم النمرود، إلا أنه يورد بإيجاز المحاججة بين إبراهيم وملك جبار يدعي الألوهية [سورة البقرة: 258]، كما يذكر أن إبراهيم حاجج قومه في ألوهية الشمس والقمر [سورة الأنعام: 74- 79]، وسنذكر لاحقا أن السومريين والبابليين عبدوهما تحت مسمى شمش ونانا، وقد ذكرنا في حديث نبوي سابق أن بين نوح وإبراهيم عشرة قرون (مع احتمال أن يكون معنى القرن هو الجيل وليس مئة سنة)، وهذا يوافق ما ورد في التوراة عن كون إبراهيم العاشر في شجرة النسب من جده نوح.
نستنتج مما سبق أن إبراهيم بُعث في وقت مبكر من عمر الحضارة ببلاد الرافدين التي بدأت بالتشكل بعد الطوفان، وأنه حاول إعادة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك والوثنية، وقام في سبيل ذلك برحلات طويلة انطلاقا من مدينة أور بجنوب العراق ومرورا بحرّان في جنوب تركيا ثم إلى مصر ومكة التي أعاد فيها بناء الكعبة التي بناها آدم (أول مسجد ومعبد على الإطلاق)، وانتهاء بفلسطين التي توفي فيها، حيث لم يجد سوى التحدي والصدّ من الملوك والجبابرة.
وقد تبع ظهور السومريين نشوء حضارات مماثلة في مناطق متفرقة من العراق، وهي الأكادية والبابلية والكلدانية والآشورية، وظهرت فيها جميعا أساطير وثنية على يد الكهنة المتواطئين مع الملوك وبطرق متشابهة.
بحسب القرآن الكريم، يخاطب الله المسلمين من أتباع آخر الأنبياء محمد بقوله {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج: 78]، ما يعني أن الإسلام كان ملة الأنبياء جميعا، وأن أتباع آخر الأنبياء سيشهدون على الناس يوم القيامة بأن ملة الإسلام كانت واحدة وأنها بقيت محفوظة حتى النهاية بالرغم من سعي الطغاة لتشويهها.
بالعودة إلى الأساطير التي نشأت في بلاد ما بين النهرين بعد الطوفان، نجد أن قصة الخلق وعقيدة الألوهية والإيمان بالغيبيات تختلف بحسب اختلاف المكان والزمان، وأيضا بحسب فهمنا المعاصر لما تركته تلك الحضارات من تاريخ مدون على الطين، فنجد تفسيرات وقراءات متعددة يصعب معها الجزم بما كانت عليه عقيدة العراقيين القدماء، إلا أننا نجد في تلك الأساطير نقاطا مشتركة وكأنها تقتبس من مصدر واحد، كما يبدو أن الحضارة المنتصرة كانت تضيف وتعدّل على أساطير الحضارة المندثرة، حتى وصلت إلينا أساطيرهم على هيئة تراكمية.
وبحسب الوحي الإسلامي، كان الإله الواحد موجودا وحده قبل وجود أي شيء آخر معه، ثم خلق الماء والعرش، ثم بدأ خلق الكون، ففي حديث رواه البخاري في صحيحه دخل ناس من أهل اليمن على النبي فقالوا “جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان”، فقال “كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض…”، كما تقول الآية في سورة هود {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7].
لكن المندائية أجرت كما يبدو تعديلاً طفيفاً على قصة الخلق، ففي نص التكوين من كتاب “الكنز العظيم” نجد أن الإله كان موجوداً في الأزل وكان الكون (الثمرة العظيمة) متداخلا بعضه مع بعض (الأثير بداخل الأثير)، وبأمر الإله تكونت المانات العظيمة وانتشر بريقها بما يشبه الانفجار العظيم للكون، فتكونت آلاف مؤلفة من الثمار بلا نهاية (المجرات) وملايين الملايين من المواطن بلا عدد (الكواكب)، وهذا يعني أن الكون كان موجوداً في بذرته الأولى مع الإله في الأزل وأنه تشكل لاحقاً بأمر الإله وتوسع إلى ما لا نهاية. [mandaeannetwork.com].
وإذا كان السومريون هم ورثة المندائيين -كما يقول خزعل الماجدي- فقد أجروا تعديلاً آخر، إذ يبدو أن الذي وضع أسطورة الخلق السومرية أراد تحريف رواية الوحي فدمج الإله الخالق بالماء وجعله بداية الوجود، ثم افترض أن المخلوقات انبثقت منه مباشرة عبر مراحل متتالية. وقد أثرت أسطورة الخلق هذه على معظم الأساطير اللاحقة حول العالم، لا سيما من حيث ابتكار مفهوم تعدد الآلهة، حيث لم تعد الوثنية هنا مقتصرة على تقديس أرواح الموتى كما كان في الأقوام السابقة، بل تغلغلت الوثنية إلى قصة الخلق نفسها وجعلت للإله شركاء في كل شيء.
وبإيجاز، زعم مخترع أسطورة الخلق السومرية أن الوجود كان يقتصر على حالة غير مفهومة من العماء المائي الذي يسمى “نمو”، فهناك ماء ولكنه غير متشكل وغير مادي، وفي لحظة ما انبثق عنه إله السماء المذكر “آن” وإلهة الأرض المؤنثة “كي”، ومن زواجهما نتج الإله إنليل الذي أصبح رئيس مجمع الآلهة. أما البابليون فزعموا أن البداية كانت مع الأب أبسو والأم تعامة والابن ممو، وأنهم أنجبوا سبعة من الآلهة الأقل شأنا أو أنصاف الآلهة (الأنوناكي)، الذين أنجبوا بدورهم جيلا آخر يدعى “الإيجيجي”، ثم تم خلق السماء والكواكب والأرض وبدأت حياة الحيوانات والنباتات.
تقول ملحمة أتراحاسيس، وهي نص بابلي يعود تاريخه تقريبا إلى عام 1700 ق.م، إن الأنوناكي الذين في السماء حمَّلوا عبء العمل على عاتق الإيجيجي الذين في الأرض، مثل حفر نهري دجلة والفرات وتفجير الينابيع، لكن الإيجيجي قرروا التمرد، ومنعا لاندلاع الحرب قررت الأنوناكي خلق الجنس البشري ليحمل عبء العمل عن الآلهة. [الرحمن والشيطان].
جلجامش
وتقول الأسطورة إن الإنسان خُلق من تربة الأرض الممزوجة بلحم ودم إله قتيل قُدم قرباناً لهذه الغاية، لكنه مع ذلك سيظل بحاجة إلى الآلهة، فهو يقدم لها شعائر العبادة والقرابين، كما تظل الآلهة بحاجة له في علاقة تبادلية، إلا أن الآلهة تبدو غير منصفة ولها مشيئة غير مفهومة، كما أن تصرفاتها تتسم أحيانا بالعدوانية والقسوة وغير ملتزمة بالقواعد الأخلاقية، حتى إن قصة الطوفان الذي دمر المدن الإنسانية الأولى وردت في ملحمة جلجامش وفي النص السومري المعروف باسم “هلاك مدينة أور” على أنها قرار اتخذه الإله إنليل (وهو نظير الإله البابلي أبسو) بعد أن أزعجه ضجيج البشر بسبب تكاثرهم، حيث قرر في البداية تجويعهم بالقحط والطاعون لكنهم لم يموتوا، فقرر لاحقا إغراقهم بالطوفان، وأمر إنليل الحكيم “أتراحاسيس” (وهو نوح عليه السلام) ببناء سفينة وإنقاذ أهله وما يقدر على حمله من الحيوانات، وقد توسلت إلهة أور بقوة إلى إنليل للتراجع عن قراره، ولكن دون جدوى.
ويبدو أن واضعي هذه الأسطورة أرادوا وضع البشر في مواجهة الآلهة، فزعموا أن أتراحاسيس تمكن بذكائه من إقناع الآلهة بالنجاة من الطوفان والإبادة.
وهكذا تم ابتكار الفصل بين الدين والأخلاق طالما كانت الآلهة نفسها غير أخلاقية، لا سيما وأن هناك العديد من الآلهة الشريرة التي تشبه الشياطين، كما زُرعت في نفوس الناس عقيدة تحدي الآلهة التي خلقتهم أصلا ليكونوا في خدمتها.
ومع انتفاء العدالة في هذه العقيدة لم تعد هناك حاجة للبعث والقيامة والحساب، فالأسطورة تقول إن الأفراد ينالون ثوابهم وعقابهم في الدنيا فقط، مع أنهم يرون بأعينهم أن العدالة غير متحققة في الدنيا، لذا لم يكن المرء يرى لنفسه قيمة أعلى من البهيمة سوى في درجة الوعي، كما أن انتفاء مفهوم الخلاص والمحاسبة والعدالة أدى إلى سقوط القيَم بالجملة، وإلى عدم جدوى التفكير في الغاية من الوجود وقيمة الحرية والاختيار وجوهر الإنسانية.
وبالرغم من التعددية الواضحة في هذه الأساطير، نجد في التراتيل السومرية والبابلية والأكادية أن الأصل ينبع من الإيمان بإله واحد أعظم، ففي مدينية أوروك (الوركاء حاليا) كان الإله “آن” هو الإله الأعلى، ثم انتصرت عليها مدينة نيبور فأصبح ابنه إنليل هو الإله الرئيسي الذي لا شريك له، أما بقية الأنوناكي الذين يشكلون آلهة المجمع السماوي فليسوا أكثر من مجمع ملائكة وقديسين.
إنكي
وفي مقابل استعلاء آن وإنليل، قرر السحرة أن يرفعوا من مكانة إله آخر نجد فيه شبها كبيرا بإبليس، وهو “إنكي” الذي كان من الأنوناكي وأصبح إله العالم السفلي، فجعلوا منه إلهًا أقرب إلى البشر، وقالوا إنه كان يعلم جميع الأسرار التي أخفتها الآلهة فقرر أن يكشفها للإنسان الأول، لا سيما بعد أن اكتشف خطط الآلهة التي أرادت حرمان البشر من المعرفة، لذا كان الناس يعودون إليه ليستوضحوه بعض الأسرار، وهي ليست سوى خليط من علوم الهندسة والطب والرياضيات مع فنون السحر والتنجيم والشعوذة، فمنذ ذلك العصر القديم اختلطت العلوم بالسحر واحتكرها السحرة والكهنة. وباتت مدينة إريدو بجنوب العراق المركز الرئيسي لعبادته، كما جعلوا ابنه مردوخ رئيس مجمع الآلهة في بابل التي سيطرت على معظم بلاد ما بين النهرين وصارت العاصمة الكبرى للمنطقة.
عشتار
في الوقت نفسه، رفعت شعوب عراقية أخرى آلهتها إلى مستوى إنليل، كما فعل كهنة ربة القمر إنانا التي كانت تُعبد في كل معابد المدن السومرية، وقدّس آخرون كوكب الزهرة وأعطوه اسما أنثويا هو عشتار (فينوس)، ومن بين التراتيل البابلية الموجهة إليها نقرأ هذا الاستهلال “إليك أرفع صلاتي يا ربّة الربّات ويا إلهة الإلهات.. يا عشتار، يا ربّة البشر أجمعين ومسدِّدة خطاهم..”.
هناك أيضا تراتيل أخرى تعود إلى الدولة الأكادية تسمي الإله الأعلى بإله القمر نانا، وهو الإله الواحد الذي يجمع بين يديه كل صلاحيات الآلهة الأخرى، وهو “الذي أنجب نفسه بنفسه”، أي لم يوجده أحد. وفي إحدى الصلوات الآشورية تُوجه العبادة إلى إله الشمس “شمش”، وهو يمتلك بدوره كل الصفات التي تُطلق على الإله الواحد في الحضارات العراقية المختلفة.
إذن فهناك من تمسك بعبادة إله أعظم مطلق الصفات ولديه آلهة تساعده أقل شأنا تشبه الملائكة، وهناك من رفع الشيطان (إله العالم السفلي) إلى مرتبة الإله الأعلى وجعل من حوله أيضا آلهة تساعده، لكن سلطة الكهنوت في كل حضارة كانت تعيد صياغة الدين وتربطه بإحدى المظاهر الكونية كالكواكب والنجوم لتشخيص وتجسيد العوالم الغيبية (الميتافيزيقية)، ثم تربط تلك الآلهة المشخصة بالقوم والوطن حتى تختلط مفاهيم الدين والقومية والوطنية وتنصهر في بوتقة واحدة، فيُنزع عن الإله جزء من عظمته ويُضاف إلى الملوك والكهنة جزء من القداسة، ويصبح الولاء للملك والكهنة والدولة جزءا من الإيمان بالإله.
وعليه، نجد أن مفهوم الوثنية ارتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة، حيث لم يظهر “مجمّع الآلهة” (البانثيون) pantheon في عالم الأديان والأساطير إلا بعد ترسيخ السلطة المدنية في دويلات المدن البشرية الأولى التي توسعت لتشمل القرى والأرياف ثم الدويلات المدنية الصغيرة الأضعف لتصبح كلها تحت سلطة مدينة (عاصمة) واحدة، إذ يبدو أن حلف السلطة الملكية مع الكهنوت ابتكر مفهوم مجمع الآلهة لتوحيد المجتمعات الصغيرة المتفرقة تحت لواء العاصمة، فيكون لكل إقليم إلهه الخاص الذي يمثله في مجمع الآلهة (الاتحادي) الذي يسوده الإله الواحد صاحب السلطة المطلقة. لكن مفهوم الإله الواحد (التوحيد) كان سابقا على تعددية الآلهة (الشرك)، وتجريد الإله وتنزيهه كان مقدما أيضا على تشخيصه وتجسيده في الأوثان والصور.
يقول الباحث ستيفن لانغدن في مقال بعنوان “الأسكتلندي” إن تتبع نقوش الحضارة السومرية يثبت وجود التوحيد أصلا عندهم، وإن أقدم النقوش والآثار التي بين أيدينا تشير بقوة إلى اعتناقهم توحيدا “بدائيا”، وإن ادعاء نشوء الدين اليهودي (الذي يعتبر لدى الغرب أصل الأديان التوحيدية) من أصل طوطمي (وثني) هو ادعاء كاذب. [The Scotsman, 18 November 1936].
الوثنية في الشام تبدو أساطير بلاد الهلال الخصيب مستنسخة بعضها من بعض، وكأنها انتقلت من بلاد سومر إلى الكلدانيين والبابليين وصولا إلى الكنعانيين والآراميين والفينيقيين في سورية ولبنان وفلسطين، إلا أن واضعي تلك الأساطير كانوا يعيدون صياغتها بمنظورهم الخاص ليصبح أكثر مواءمة مع البيئة المحلية.
تمثال بعل مكتشف في أوغاريت
يُعتقد أن الكنعانيين هم أول الشعوب التي سكنت سورية، وأن مملكة إيبلا تزامنت مع وجود حضارة سومر العراقية، وكانت عاصمة إيبلا في إدلب بينما امتد نفوذها على معظم أراضي سورية الحالية، ويُعتقد أن تاريخها المكتوب بدأ في العام 3100 قبل الميلاد. وبحسب لوح طيني اكتشفته البعثة الإيطالية في أوائل الثمانينات فقد كان الكنعانيون الأوائل يعبدون إلها واحدا هو خالق كل شيء، إذ يقول الابتهال في اللوح المكتشف “رب السماوات والأرض، أنت… من خلقتها، لم تكن بعد قد صيَّرتَ الضوء في الوجود، أنت لم تضع الشمس بل خلقتها”.
لا يكشف النص السابق متى ظهر الشرك (تعدد الآلهة) في تلك المنطقة، لكن الألواح المكتشفة في ممالك ماري وإيبلا وأوغاريت تشير إلى وجود مجمع للآلهة (بانثيون) على شاكلة المجمع الأسطوري الذي وُجد في بلاد الرافدين. وكان على رأس الآلهة “إيل”، ثم يليه بعل أو حَدد الذي نُسب إليه المطر والسحاب والصواعق فكانوا يتوسلون إليه للحصول على مواسم زراعة جيدة، أما الإله “موت” فكان في مقابل بعل لكونه إله الجفاف والعالم السفلي.
كما عبد الكنعانيون “عشيرة” أو “إيلات” زوجة إيل، وعناة (التي تقابل عشتار أو عشتارت في بابل) وهي زوجة بعل، وأما إلهة الشمس فتسمى شبش وهي تقابل شمش في بابل. ويمكن للباحث المتعمق أن يكتشف التشابه الكبير بين الأساطير الكنعانية والفينيقية وبين سابقتها السومرية والأكادية والبابلية، كما يظهر أيضا أثر الأساطير السورية على ما ظهر لاحقا في بلاد الإغريق.
الوثنيات المصرية بحسب كتاب نديم السيار “المصريون القدماء أول الحنفاء”، والذي يتضمن الكثير من الوثائق والصور، فقد تعلم المصريون الأوائل عبادة الإله الواحد من نبيهم هرمس (إدريس حسب أحد الأقوال)، وكانت الصلاة لديهم الركن الثاني بعد الشهادة، وكانوا يصلون خمس مرات في اليوم، ويُشترط لصحة صلاتهم التطهر وستر العورة واستقبال القبلة في الجنوب، كما تتضمن الطهارة لديهم غسل أعضاء الوضوء كما هو متبع اليوم في الإسلام بالضبط، بل إن نواقض الوضوء لديهم هي ذاتها المعروفة لدى المسلمين.
وبحسب تعاليم هرمس (إدريس) في مصر، كان هناك منادٍ ينادي للصلاة كما يفعل المؤذن، وقد أوردت الدكتورة هدى درويش في كتابها “نبي الله إدريس” تفاصيل التطابق بين صلاة أتباع إدريس وصلاة المسلمين اليوم، وذكرت أنهم عرفوا التسبيح وصلاة الجنازة وصلاة العيد وتقديم الأضاحي قبل الخروج للصلاة في العيد، كما أكد ابن العبري والقفطي أن إدريس أمر قومه بالزكاة، وأنه أمرهم أيضا بالصيام عن الطعام والشراب وإتيان النساء، ونقل السيوطي عن طائفة الصابئة المندائية (التي ما زالت تعيش في العراق) اعتقادهم بأن إدريس هو الذي بنى الكعبة في مكة وأنه كان يحج إليها هو ومن بعد من الأنبياء، إلى أن اندثرت فأعاد إبراهيم بناءها.
تؤكد د. هدى درويش أن ديانة النبي إدريس التوحيدية انحدرت لاحقا على أيدي الكهنة المصريين الذين جعلوا تعاليمه سرية حتى اندثرت وغابت عن عوام الناس، ثم نصبوا آمون إلها يُعبد بعد أن كان رمزا للشمس فقط، فأصبحت الوثنية المصرية بذلك أساسا للوثنيات الكلدانية والفارسية والإغريقية والرومانية، قبل ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام.
منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن
ومع تشوه رسالة إدريس، أعاد الوثنيون المصريون تقديمه في صورة إله أو حكيم يحمل صفات إلهية اسمه “تحوت” Thot (وقد يكتب أحيانا توت أو طوط)، وظهر في الرسوم الجدارية برأس طائر أبو منجل وهو يحمل لوح كتابة ويدوّن نتائج وزن أعمال الأموات في الحساب الأخروي داخل قاعة أوزيريس، وهذه الصورة انتقلت رمزيا إلى المحافل الماسونية لاحقا. ومن الملفت أن نجد لدى القبالاه اليهودية فكرة رفع إدريس إلى السماء ومنحه درجة الملائكة تحت اسم “مطاطرون” ليصبح مسؤولا عن محاسبة الناس في الآخرة، وقد ناقش المفسرون المسلمون احتمال أن يكون النبي إدريس قد رُفع فعلا إلى السماء (معراج) تكريما له حيث يقول عنه القرآن الكريم “ورفعناه مكانا عليا”، ومن المحتمل أن يكون قد رُفع بالفعل لكن الأساطير أعادت صياغة هذا الرفع لتمنحه درجات الآلهة والملائكة.
تُنسب إلى هرمس أيضا مجموعة مخطوطات تدعى “متون هرمس”، يُعتقد أنها كُتبت في مصر، أو في اليونان بعد الميلاد، ومع أنها تتضمن عقيدة التوحيد إلا أنها تضع أيضا أصول الفكر الباطني (الغنوصي)، وقد نُسبت إلى هرمس لاحقا آلاف الكتب المليئة بالفكر الباطني والسحر وشتى أنواع العلوم، لكن التشابه بين أجزاء من تلك الكتب وبين عقيدة التوحيد الواردة في الكتب السماوية يشير إلى أن هناك أصلا واحدا.
على سبيل المثال، يسمى المتن الثاني من متون هرمس باسم بويماندريس Poimandres، ويطلق عليه أيضا اسم “سفر الرؤيا” فهو يتحدث عن نشأة الكون وخبايا الروح الإنسانية من وجهة نظر فرعونية، ويشبّهه بعض الباحثين بسفر التكوين في التوراة الذي يتحدث عن خلق العالم، ومع أن الكتاب يتضمن رؤية فرعونية باطنية وثنية للكون والخلق والإله، لكن أثر الوحي واضح فيه، وكأنه يحكي قصة نزول الملاك على النبي إدريس عندما اختاره الله نبيا، ليبدأ بتعليمه أسرار الكون.
يقول الكتاب إن هرمس كان يتأمل منعزلا في مكان مقفر بين الصخور، فظهر له كائن رهيب يسميه بالتنين العظيم وهو باسط أجنحته في الأفق والنور يشع منه، فنادى التنين العظيم هرمس باسمه وسأله عن سبب عزلته، ومع أن هرمس فزع من منظر هذا المخلوق فقد توسل إليه أن يكشف له أسرار العالم، فعُرج به إلى عالم نوراني لا مادي، وتلقى من الإله بويماندريس قصة الخلق التي بدأت بكلمة مقدسة فاضت عن النور، وهبطت على الماء ليتشكل منها عمود عظيم، ثم انبثق منها النار والهواء, ثم تم فصل ماء النور عن ماء الظلمة, وتشكلت بذلك العوالم العلوية والعوالم السفلية. ومن الملفت أن هذه القصة تشبه تماما مطلع سفر التكوين الذي يقول “في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة”.
وبعد جلاء الأصل التوحيدي لهذه العقيدة في “سفر الرؤيا”، نجد أثر التدخل الفلسفي الذي يحرفها باتجاه الغنوصية بوضوح، وفي النهاية يطلب بويماندريس من هرمس أن يعود إلى الأرض ويكون رسوله إلى الناس فيقول “آمرك بأن تنطلق وتكون هادياً لأولئك الذين يهيمون في الظلمة, لكل البشر الذين تكمن في دواخلهم روح العقل الكوني لعلهم ينجون مهتدين بعقلي الكامن فيك”. وهنا يعود هرمس إلى العالم المادي ويبدأ بنشر “الحقيقة” فيسخر منه معظم الناس، ثم يستأمن تلاميذه وأنصاره على الأسرار في هذا الكتاب لتصل إلى كل الأجيال اللاحقة.
وهكذا نرى أن تعاليم هرمس وعباداته تتشابه كثيرا مع ما جاء به نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، كما تتقاطع في بعض جوانبها مع ما ينسب إلى النبيين موسى وعيسى، ما يدل على التأثر والاقتباس، وسيتضح لنا في مقالات أخرى أن الوحي السماوي واحد ومنبعه واحد، وأن التحريفات التي طرأت عليه كانت تقتبس وتتأثر بأساطير سابقة.
“يلد ولم يولد، ينجب ولم ينجبه أحد.
خالق ولم يخلقه أحد، صنع نفسه بنفسه.
هو الوجود بذاته، لا يزيد ولا ينقص.
خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون”. جزء من ترتيلة مصرية تصف الإله الواحد، أوردها واليس بدج في كتاب “أوزيريس والبعث المصري”.
منذ مطلع القرن العشرين، تخصص الباحث البريطاني واليس بَدْج في دراسة معتقدات قدماء المصريين، واستنتج أنهم كانوا يؤمنون بإله واحد موجود بذاته، وأنه خفيّ، أبدي وأزلي، مطلق القدرة والعلم، لا تدركه العقول، وهو خالق الكون والقائم عليه، وأنه خلق كائنات روحانية لإيصال رسالته إلى خلقه ومساعدته في تصريف شؤون الكون، ورأى “بدج” أن المصريين الأوائل لم يشخصوا إلههم ولم يجسدوه في التماثيل والصور، لكن الملائكة التي كانت تساعده اكتسبت بعض صفات الألوهية مع أنها مخلوقة.
عائلة الآلهة المصرية (JeffDahl)
ابتدأت الحضارة عموما في مصر قبل سبعة آلاف سنة تقريبا، لكن تاريخها الأول مجهول لعدم تدوينه، فلا نعرف الكثير عن عقائدها الأولى وما زال هناك خلاف كبير بين من يرى أنهم كانوا موحدين ومن يرى أنهم عبدوا الحيوانات أو أنهم تخيلوا الآلهة كالبشر من البداية، لكن المؤكد أن التاريخ المدون ابتدأ مع ما يسمى بعصر الأسرات (السلالات الحاكمة) عبر توحيد البلاد المصرية على يد الملك مينا (نارمر) قبل الميلاد بنحو 3100 سنة.
وإذا صحت نظرية “بدج” فقد نُزعت القدسية عن الإله الواحد بالتدريج، فبعد أن أشركوا معه ملائكته، وبعد أن نُسي الإله وعُبدت الآلهة التي تشبه البشر في أهوائها وتعرضها للمرض والموت، صار لكل مدينة وبلدة في مصر إلهها الخاص، ووضع الكهنة عقائدهم الخاصة بما يوائم الظروف ومصالح الطبقة الحاكمة، لكن بعض الآلهة الإقليمية خرج من دائرته الضيقة واكتسب صلاحيات آلهة أخرى حتى صار تجسيداً للألوهة المطلقة، مثل تيمو إله هليوبوليس، وبتاح إله ممفيس، وآمون إله طيبة. وبالرغم من كثرة الآلهة التي بلغ عددها الآلاف، فقد أكد العلامة الفرنسي جون فرانسوا شامبليون في القرن التاسع عشر أن “الدين المصري يقوم على معتقد توحيدي صافٍ، يعبر عن نفسه خارجياً بصيغ شِركية تعددية”.
يُعتقد أن الميثولوجيا الوثنية التي طرأت على المجتمع المصري كانت مستوردة في أصولها من العراق والشام، ويبدو أن هناك عدة روايات أسطورية لبداية الخلق في مصر، إلا أن أشهرها يفترض انبثاق الكون من كائن أولي غير محدد الملامح ويدعى “نون”، وهو ماء الأزل (يذكرنا بأساطير بلاد الرافدين)، تولدت عنه الشمس المتمثلة بالإله “رع” بطريقة مجهولة، وما إن أشرقت أشعة الشمس على الخواء حتى بدأ الكون بالتشكل، كما انبثق عن نون أبو الآلهة “آتوم” الذي نتجت عنه العائلة الأساسية كما في معظم الأساطير السابقة واللاحقة، وبما أن آتوم لم تكن له زوجة فقد استمنى لينتج عنه “شو” وأخته “تفنوت”، ثم تزوج الأخوان وأنجبا رب الأرض “جب” وربة السماء “نوت”، اللذين أنجبا بدورهما أربعة أبناء، ثم بدأ الصراع بين الإخوة الأربعة عندما غار الإله الشرير ست من أخيه أوزوريس وقتله، فعملت الأخت إيزيس على إعادة تجميع أشلاء حبيبها وأخيها القتيل بمساعدة أختهما نفتيس ورب الموتى أنوبيس، وأعاد رع الحياة لأوزوريس الذي أنجب من أخته إيزيس طفلا يسمى حورس، فخبأته الأم في مستنقعات الدلتا وتركته في عهدة الإلهة حتحور (على هيئة بقرة) حتى كبر، ثم عاد وانتقم من عمه ست، وهكذا أصبحت السيادة لحورس المتجسد في هيئة صقر، بينما هبط والده أوزوريس إلى عالم الموتى ليصبح إلهه السفلي.
شو في الوسط يرفع نوت (السماء) بينما يتمدد جب (الأرض)
لم تظهر أسطورة الصراع بين الآلهة إلا في عصر الأهرامات (حوالي 2600 قبل الميلاد) عندما احتاج الفراعنة لملحمة درامية على شاكلة ملاحم الإمبراطوريات المجاورة، وقد زعموا الاتحاد بالإله حورس الذي يحرس مصر كالصقر، واتخذوا من عينه شعارا مازال حاضرا في الوثنيات المعاصرة والحركات السرية، ثم زعم بعض الفراعنة أنهم أبناء “رع” المتمثل بالشمس.
أخناتون ونفرتيتي تباركهما الشمس
بعد نحو ألف سنة اندمج مع رع إله محلي كان يُعبد في مدينة طيبة واسمه “آمون”، ثم حاول الفرعون أمنحوتب الرابع (توفي عام 1334ق.م. تقريبا) نبذ الشرك وعبادة إله واحد، فغيّر اسم آمون إلى “أتون” واتخذ لنفسه اسم “أخناتون”، ومحى ملامح تعدد الآلهة الوثنية من المعابد، لكن كهنة آمون لم يسمحوا لهذه العقيدة بالبقاء، وأجبروا ابنه الصغير الذي خلفه “سمنخ كا رع” على العودة إلى عبادة الآلهة المتعددة، ثم توفي في ظروف غامضة بعد ثلاث سنين وخلفه أخوه “توت عنخ أتون” الذي كان عمره 9 سنوات، حيث أجبره الكهنة أيضا على الشرك وتغيير اسمه إلى “توت عنخ آمون”، ومُسح اسم أتون من كل المعابد، ثم توفي الفرعون الصغير في سن الثامنة عشرة في ظروف أكثر غموضا من وفاة أخيه، حيث يعتقد الكثيرون أنه قُتل وأن وزراءه الذين خلفوه في الحكم طمسوا الكثير من الأدلة.
بما أن الملوك اللاحقين طمسوا تاريخ أخناتون فلا ندري بالضبط ما إذا كان قد عبد الإله الواحد المنزه عن التمثيل والتجسيد الذي دعا إليه الأنبياء، أم أنه حاول فقط توحيد العبادة لرب واحد متمثل بالشمس، إلا أننا نعلم أن النبي موسى عليه السلام بُعث إلى أحد الفراعنة لدعوته إلى التخلي عن تأليه نفسه وعن استعباد قومه والسماح لبني إسرائيل بالخروج من مصر. وبحسب الكتاب المقدس فإن موسى نشأ في كنف أحد الفراعنة ثم عاد لدعوة ابنه الذي خلفه قبل أن يموت غرقا في خليج السويس أثناء المطاردة، ويُعتقد أن الأول هو رمسيس الثاني وأن ابنه هو مرنبتاح (توفي عام 1203 ق.م)، بينما لا يذكر القرآن الكريم سوى فرعون واحد، ومازال الخلاف قائما بشأن هويته، حيث يؤكد باحثون أن مومياءه تكشف عن وفاة طبيعية وأن آثاره تحكي عن غزوه لبلاد بني إسرائيل وانتصاره عليهم. ولم تترك المدونات المصرية أي ذكر لموسى ولخروج بني إسرائيل وهزيمة الفرعون بمقتله غرقا، إذ يبدو أن هذه النكبة التي حلت بمؤسسة السلطة والكهنوت قد طُمست كما طمست القصة الحقيقية لأخناتون، وأن الوثنية ظلت قائمة في مصر بعد خروج موسى وقومه إلى فلسطين دون أن تبقي على أثر يُذكر للوحي والتوحيد.
“وإني أرجح أن كثيرًا من فلسفة الأقدمين في مصر والصين والهند هي بقايا نبوات نسيها التاريخ فحُشر أصحابها في عداد الفلاسفة، ولعلهم من الرسل أو أتباع الرسل”. [نديم الجسر، قصة الإيمان، ص35].
رسم تخيلي لزرادشت من القرن الثالث الميلادي
الزرادشتية والمجوسية في القرن السادس قبل الميلاد (على الأرجح)، ظهر في شمال إيران زرادشت الذي تتقاطع الكثير من تعاليمه مع عقائد الأنبياء كما نجدها اليوم في الإسلام. وتقول الروايات التاريخية التي دخلت فيها الكثير من الأساطير والتحريفات إن ولادته ترافقت بسلسلة من المعجزات، فاختبأ الشيطان خوفا من ظهوره المنتظر، وعندما أصبح شابا حاول الشيطان إغراءه بمنحه سلطة على الأرض مقابل تخليه عن الرسالة الدينية فلم يقبل، وتقول الروايات أيضا أن زرادشت كان كاهنا على دين قومه، ثم انشق عنهم ونزل عليه وحي النبوة في سن الثلاثين عن طريق أحد الملائكة، حيث عرج به إلى السماء للقاء الإله “أهورا مزدا”.
تنص هذه الديانة على أن الإله لم يكن سواه في الوجود، فاختار أن يخلق روحين توأمين هما سبينتا ماينيو وأنغرا ماينيو، ومنحهما حرية الاختيار، فاختار الأول الخير ودُعي بالروح القدس، واختار الثاني الشر ودُعي بالروح الخبيث، ثم بدأ الصراع بينهما، ومع أن الإله كان قادراً على سحق أنجرا ماينيو إلا أنه آثر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره، فخلق ستة كائنات روحانية قدسية تدعى “الأميشا سبينتا” أي الخالدون المقدسون ليدعموا الروح القدس، وذلك عن طريق “الفيض” من نوره، كما تقتبس الشمعة نورها من المشعل، وبالفيض أيضا أوجدت هذه الكائنات كائنات طيبة أخرى هي “الآهوريون”، بينما أخرج أنغرا ماينيو إلى الوجود كائنات روحانية متفوقة اسمها “ديفا” لمساعدته في التخريب، وهكذا تشكلت الملائكة والشياطين قبل خلق العالم المادي.
وكان أهورا مزدا يعلم أن القضاء على الشيطان أنغرا ماينيو وأتباعه لن يتيسر قبل خلق العالم المادي، فخلق هذا العالم ليكون ساحة الصراع، وذلك على ست مراحل زمنية، ثم أوجد آدم “ماشيا” وحواء “ماشو”، وبدأ الصراع بين بني آدم والشيطان، وسينتهي في آخر الزمان بدحر الشيطان وسيادة الخير على العالم بعد ظهور المخلّص المنتظر “ساوشيانط”.
ونصّت الزرادشتية على أن الإنسان يُحاسب بعد ثلاثة أيام من موته، فتوزن أعماله بالميزان، ويتم امتحانه بالعبور على صراط المصير، وهو جسر يتسع ويضيق بحسب أعمال الشخص فإما أن يتيح له الوصول إلى الجنة أو يلقي به في الجحيم.
وعلى صعيد العبادات، تتضمن النصوص القديمة الصلاة خمس مرات في اليوم، وتسبقها عملية تنظيف تشبه الوضوء، تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين، وهي تبدأ بالوقوف في حضرة الإله وتلاوة مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا القديمة المنسوبة إلى زرادشت. وتنقل تلك النصوص عن زرادشت أن الصلاة تقام في أي مكان طاهر دون اشتراط وجود المعبد، وقد شدد كثيرا على طهارة الجسد والملابس، كما منع زرادشت صنع الصور والتماثيل للإله والملائكة.
ويشاع عن هذه الديانة أنها تعبد النار لذاتها، لكن تقديسهم لها لا يزيد عن اتخاذها رمزًا للإله، وفي عصور لاحقة شُيدت المعابد المليئة بالصور والتماثيل، وزودت بمواقد للنار المقدسة.
ومع توالي هذه التغييرات على الديانة في ظل الإمبراطورية الأخمينية، نشأت طبقة الكهنة المتفرغين لطقوس النار الذين عُرفوا باسم “موغان” ومفردها “موغ”، وهو مصطلح كان يُطلق على الكهنة في الأديان الفارسية السابقة لدى القبائل الميديّة، لكن الكهنة الزرادشتيين أصبحوا أكثر سلطة وتنظيما في العصر الأخميني، ثم ازدادت سيطرتهم في عصر الدولة الساسانية اللاحقة.
ومن هنا جاء مصطلح “المجوس” الذي تداوله العرب للدلالة على الكهنة “الموغان”، حتى نُسبت الديانة إليهم فسُميت بالمجوسية. كما اشتق الأوروبيون من هذه الكلمة مصطلح “ماجيك” magic باللاتينية، والتي تعني السحر، نظرا للإرث السحري القديم للكهانة الفارسية.
معبد النار في باكو عاصمة أذربيجان (السبيل)
أدخلت طبقة الكهنة الجدد (المجوس) على النصوص الزرادشتية القديمة (أناشيد الغاثا) شروحهم الخاصة التي جُمعت تحت اسم الأفيستا؛ ثم ظهرت شروح إضافية جُمعت في كتاب “زند أفيستا”، وانتهى الحال بالزرادشتية التوحيدية إلى المجوسية المثنوية (الثنائية) التي جعلت الشيطان ندًا للإله.
وفي القرن الثاني بعد الميلاد، كان مذهب الزورفانية قد أصبح مسيطرا في ظل الدولة الساسانية، وبتأثير من عوامل يونانية وبابلية قديمة -كما يرى بعض المؤرخين- أعيد تشكيل العقيدة الزرادشتية ليصبح الزمن اللامتناهي “زورفان أكاناراك” هو الأصل، ويُعدَّل اسم أهورا مزدا إلى أوهرامَزد، ويُبتكر إلهٌ جديد للشر اسمه “أهريمان” بدلا من أنغرا ماينيو، وهكذا زعم المجوس الجدد أن أهريمان وأوهرامَزد توأمين أزليين، وذلك بعدما كان الشيطان أنغرا ماينيو إلهًا حادثًا لا أزليًّا وموازيًا لإله الخير سبينتا ماينيو، وأصبحت هذه العقيدة هي الدين الرسمي للدولة الساسانية، كما تم ربطها بالقومية الفارسية بعد أن كانت ديانة عالمية تسعى لهداية كل البشر.
وبما أن التراث الأصلي لزرادشت لم يُحفظ دون تشويه وتحريف، فلا يمكن الجزم بما كان يدعو إليه، بل إن بعض المؤرخين يشككون في وجوده ويعتبرونه مجرد شخصية أسطورية نُسبت إليها الكثير من التعاليم، لكننا لا نستبعد أن يكون نبيا حقيقيا أوحي إليه كما أوحي إلى الأنبياء على مر العصور، لا سيما أن الكثير من تعاليمه وعباداته وتفاصيل عقيدته في الخلق والموت والبعث تتشابه مع ما جاء به آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
منحوتة تصور الملك الساساني أردشير على حصانه وهو يطأ خصمه أردافان وينال البركة من أهورا مازدا الذي يطأ بحصانه خصمه أهريمان (MiladVandaee)
ومن المعروف أيضا أن الكثير من اليهود الذين أسرهم الملك البابلي نبوخذ نصر قد انتقلوا إلى بلاد فارس وحملوا معهم شيئا من آثار الوحي (التوراة)، فحدث بذلك نوع من التداخل بين الثقافتين.
كما نقلت كتب الحديث عن العديد من الصحابة بأسانيد صحيحة أنهم عندما فتحوا مدينة “تستر” الفارسية في عهد عمر بن الخطاب وجدوا جثة النبي دانيال الذي كان معاصرا لنبوخذ نصر عندما أسر بني إسرائيل مع نبيهم إلى بلاد العراق وفارس، حيث تُركت جثته محفوظة طوال تلك المدة ليتبرك بها الناس حتى دفنه الصحابة. [مصنف ابن أبي شيبة (7/ 4)].
وفي رواية للبيهقي في كتاب “دلائل النبوة” عن خالد بن دينار أنهم وجدوا عند رأس دانيال كتابا، فترجمه كعب بن مالك إلى العربية بأمر من عمر بن الخطاب، ووجدوا فيه وحيا سماويا يشبه القرآن الكريم، فكان يتضمن نبوءات عديدة مما جرى لاحقا بالفعل وخصوصا نبوة عيسى ومحمد. [دلائل النبوة: (1/ 381)].
أما ما يردّده المنصّرون في العصر الحديث عن اقتباس المسلمين من التراث الزرادشتي قصة صعود المخلّص الزرادشتي ويراذ إلى السماء، واعتبارها أصلا لقصة معراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فيُردّ على هذه المزاعم بأن القصة وردت في “نصوص أردا ويراذ ناماك” التي تعود إلى القرنين التاسع والعاشر الميلادي، أي بعد فتح بلاد فارس على يد المسلمين واندثار المملكة الساسانية، فالظاهر أن من بقي من الكهنة المجوس هم الذين اقتبسوا القصة من المسلمين وليس العكس، لذا نجد تطابقًا في بعض التفاصيل التي قيل إن ويراذ رآها في رحلته عند مقارنتها بما تحدث عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وبالرغم من التشويه الكبير الذي طرأ على الزرادشتية، فقد تركت آثارًا من الوحي السماوي في أديان ومعتقدات شعوب كثيرة في المنطقة وساهمت في تخليصها من عقائد تتناقض مع التوحيد، ونقتبس من كتاب “الرحمن والشيطان” لفراس سواح أهم هذه الآثار، كما يلي:
1- توحيد الإله وتنزيهه عن المخلوقات، وذلك وفق عقيدة أكثر وضوحا وتقديسا من الأديان الشرقية الأخرى.
2- كانت أديان العراق والشام تنظر للزمان على أنه مفتوح لانهائي، وكانت أديان الهند وشرق آسيا تقول إن الزمان يدور في حلقات، فالعالم يفنى في كل مرحلة من مراحل الزمن بكارثة كونية ثم يعود من جديد بدورة زمنية أخرى، لكن الزرادشتية أعادت للتاريخ معناه وغايته بحيث ينطلق من بداية الخلق ويتطور من خلال صراع الخير والشر قبل أن ينتهي وفقا لرؤية محددة مسبقا لآخر الزمان وقيام الساعة، وعندها تُبعث الأجساد من الموت ويبدأ زمن سرمدي جديد في عالم الآخرة.
3- التاريخ ينتهي بظهور المخلِّص، وهو إنسان طبيعي يولد من أبوين بشريين لكن ميلاده يحدث بمعجزة، وهو الذي سيقود الأشخاص الصالحين في آخر الزمان للانتصار على الشر.
4- لم تعد العبادات مجرد وسيلة للخضوع للإله، بل تهدف إلى تربية الإنسان وتنمية أخلاقه، ولم تعد الأخلاق مجرد سلوك نفعي “براغماتي” لتحقيق المصلحة بل هي قيمة ناجزة وطبيعة كامنة في الوجود لأن الإله نفسه إله أخلاقي كامل الأوصاف.
5- كان الإنسان في ديانات الشرق القديم يسعى إلى موافقة مشيئة الآلهة في حياة لا معنى لها، كما كان هدف الإنسان في شرق آسيا هو فهم العالم والتناغم معه فهو غير قادر على إصلاحه لأنه يسير وفق قوانين ثابتة في دورة حتمية، أما الزرادشتية فأعادت مفهوم الوحي السماوي القائل بأن العالم قابل للإصلاح، وأن الإنسان هو الذي يحمل هذه المسؤولية.
6- أعادت الزرادشتية للشيطان دوره وحجمه الطبيعي، فهو ليس إلهاً أزلياً ولا خالداً بالرغم من تحديه للإله، وسيكون مصيره خائبا في النهاية، وهو أصل كل الشرور في الوجود.
7- الإنسان يتمتع بالوعي ويتميز عن الكائنات الأخرى بحرية الاختيار دون جبر. وحريته هذه تستدعي المسؤولية والمحاسبة.
ومع أن بعض الأديان في مصر والمشرق آمنت بالحساب بعد الموت ثم بذهاب الأرواح إلى جنة أو جحيم، فهي لم تؤمن بيوم القيامة الذي ينتهي فيه الزمان الدنيوي ويبدأ زمان جديد مختلف جذريا، على خلاف الزرادشتية التي قالت إن الأرواح ستعود إلى الأجساد بعد البعث وستعيش في عالم أبدي ينقسم بين جنة وجحيم.
الوثنية اليونانية (الإغريقية) تعود أصول الأساطير الوثنية اليونانية إلى الشاعر هوميروس الذي وضع ملحمتي “الإلياذة” و”الأوديسا”، وهناك من يشكك في وجود هذا الرجل أصلا ويرى أن أساطيره وضعت على يد جهة مجهولة ونسبت إلى شخص خيالي، وحتى في حال وجوده فهناك تضارب كبير بشأن الزمن الذي عاصره، لكن الأرجح أنه عاش (إن كان حقيقيا) ما بين عامي 1100 و850 قبل الميلاد.
رأس تمثال يعتقد أنه لهزيود
أما البناء المتكامل للوثنية اليونانية فكان على يد الشاعر هزيود، حيث يقول روبن هارد في كتابه “الميثولوجيا الإغريقية” إن هزيود هو الذي وضع قوائم معظم الآلهة في ملحمته وقسمها إلى مجموعات محددا أنسابها وأسماءها. [ص 36].
ويرجح المؤرخون أن هزيود عاش ما بين عامي 750 و650 قبل الميلاد، وقد تحدث عن نفسه في ملحمة “الأعمال والأيام” قائلا إن والده كان فلاحا في إيوليا بآسيا الصغرى (تركيا حاليا) فهاجر تحت ضغط الفقر والحاجة إلى اليونان، ثم عمل هزيود في عمل أبيه مزارعا وراعيا للغنم، وظل مجهولا إلى أن وضع في شبابه كبرى الملاحم التي شكلت ديانة الإغريق والرومان من بعدهم، وأهمها “الأعمال والأيام” و”مولد الآلهة”، كما وضع كتابا في التنجيم، ويرى مؤرخون أنه من أوائل المفكرين الاقتصاديين أيضا، وقد وضع كل هذه الأعمال الكبرى دون أن يذكر شيئا عن انتقاله من عالم الزراعة والرعي إلى الفكر، بل اكتفى بالقول إن ربّات الفنون “الموسيات” ظهرن له وأوحين له بتلك الأشعار الرائعة!
وفي كتابه أساطير إغريقية، يقول عبد المعطي شعراوي “وهكذا قدم لنا القروي الإغريقي البسيط هزيود تساؤلات وملاحظات حول كيفية حدوث كل شيء وحاول أن يصل إلى تفسير لكل ظاهرة أو عادة أو شعيرة أو تقليد، ولعله أول إغريقي يفعل ذلك، إذ إن هوميروس لم يفعل في الإلياذة والأوديسا مثلما فعل هزيود في قصائده، ومن هنا جاءت أهمية هزيود كصانع للأساطير الإغريقية”. [ج 1، ص 18].
لكن مؤرخي الحركات السرية يؤكدون أن هذه الأساطير لم تكن من وحي “الموسيات” الخرافيات، إذ يقول زعيم حركة الصليب الوردي في القرن السادس عشر فرانسيس بيكون في مقدمة كتابه “حكمة القدماء” إن تلك الأساطير لم تكن من ابتكار هوميروس ولا هزيود، بل انتقلت إليهما من أزمنة أقدم ومصادر أعرق، ويضيف “في اعتقادي أصولها واحدة، وليس هناك ما هو أعظم ولا أشرف من هذه الأصول”. [ص 320]. وهذا يعني أن بيكون -الذي لا يُعرف اليوم سوى بأنه مؤسس العلم الحديث- ينسب جميع الوثنيات إلى مصدر شيطاني واحد، وأن الشعراء الذين صاغوها في هيئة أعمال أدبية ونصوص دينية ليتعبد بها العوام لم يلجأوا إلى التأمل في غوامض الكون وأسرار الطبيعة أملا في إيجاد أجوبة وجودية لتفسيرها، بل وضعوا تلك الخرافات لتضليل البشر عن طريق الوحي.
تزعم أسطورة الخلق التي بثها هزيود في عقول الإغريق أن الربة كاوس هي الحالة الأولية للوجود فهي اللاشيء الذي انبثقت منه الأشياء، وكأنها كانت تجمع بين الوجود والعدم بطريقة غير مفهومة منذ الأزل، وقد تولّدت عنها ربة الأرض غايا، وربة الليل نيكس، ورب الظلام في العالم السفلي إيريبوس، ورب جهنم (العالم السفلي) تارتاروس، ورب الشهوة والرغبة إيروس. ثم ولدت غايا إلهًا يمثل السماء وهو أورانوس, و أصبح زوجا لها، أي تزوج الابن أمه, وأنجبا 3 سلالات مختلفة، الأولى عمالقة جبابرة (تيتان) وعددهم 12 ابنا، والثانية تسمى “السيكلوب” وهي مخلوقات بشعة لها عين واحدة في وسط الجبين, أما الثالثة فأكثر بشاعة وتسمى “ذوو المئة ذراع”، وعندما خاف الأب أورانوس من كثرة أولاده من السلالتين الثانية والثالثة خبأهم في أعماق الأرض أي في جسد أمهم غايا، فغضبت غايا على أورانوس وحرضت ابنها كرونوس (أحد الجبابرة) على الانتقام من أبيه وضربه بالمنجل، فقتل الابن أباه وورثه بأن أصبح إله السماء، ثم تزوج كرونوس أخته ريا, ونتجت عنهما السلالة البشرية الأولى المصنوعة من الذهب.
يقول عبد المعطي شعراوي في كتابه “أساطير إغريقية” إن الآلهة ليست هي التي خلقت الكون بل الكون خُلق أولا، ففي البدء كان الخواء ثم الأرض والبحار والجبال ثم السماء، ثم مجموعة العمالقة، ثم الآلهة وعلى رأسهم كبيرهم زيوس. [ج 2، ص 38].
وهذا يشير إلى أن أسطورة الخلق اليونانية التي ابتكرها هزيود هي أولى الخطوات التي مهدت للإلحاد في التاريخ المعروف، فقد مرّ بنا أن الأساطير الشرقية في العراق ومصر والشام كانت تؤمن بوجود الآلهة أولا ثم ينبثق عنها الكون والإنسان، أما هزيود فجعل الآلهة والإنسان ينبثقان معا من الكون نفسه. واللافت أن فلاسفة وأدباء عصر النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر عملوا على بعث الأساطير الإغريقية من جديد تمهيدا لنشر العلمانية والإلحاد السائدتين اليوم في الغرب.
رأس زيوس في الفاتيكان
ظهرت لكرونوس نبوءة تقول إنه سيلقى مصير أبيه على يد أحد أبنائه فقرر أن يبتلعهم, إلا أن ريا أخفت ابنها زيوس في مغارة بجزيرة كريت, حيث اعتنت به الحوريات وحرسته العفاريت حتى كبر، وعندها سقى والده دواء دفعه للتقيؤ فخرج من جوفه أبناءه الذين ابتلعهم، وانضم الإخوة إلى جيوش من الجبابرة والسيكلوب لمحاربة أبيهم كرونوس، وانتهت المعركة بمقتل السلالة الذهبية كلها وبانتصار زيوس وإخوته، فصار هو الإله الأعظم واستقر في قصر على قمة أعلى جبل باليونان (الأوليمب).
تزوج زيوس أخته هيرا ونساء أخريات، وكان شهوانيا لدرجة مفرطة، حتى صارت لديه سلالة جديدة الأبناء المصنوعين من الفضة، إلا أنهم لم يقدسوا الآلهة كما ينبغي فغضب منهم زيوس ونفاهم إلى العالم السفلي. ثم وُلدت السلالة البشرية الثالثة المصنوعة من البرونز, وكانت عدوانية وفاسدة فنفاها زيوس أيضا إلى العالم السفلي. وتبع هؤلاء جيل من الأبطال الذين نشأوا في العالم السفلي, ثم خلفتهم أخيرا السلالة الحديدية (البشر الحقيقيين).
وبطريقة تشبه أساطير بلاد الرافدين، يشقى الناس على الأرض ويكابدون مشقة الحياة لكي تعيش الآلهة الخالدة على قمة الأوليمب، بينما تمدهم تلك الآلهة بالدعم والنصر في الحروب وتمدهم بالقوت والمطر وتشفيهم من الأمراض بشرط أن يقدسوها ويتقوا غضبها ويقدموا لها القرابين.
وقد يبدو التداخل عجيبا بين الواقع والخيال لدى عوام الإغريق، إذ كانوا يصدّقون وجود قصور فارهة للآلهة على قمة الجبل، مع أنهم يرونه بأعينهم وهو جبل أجرد لا حياة فيه، كما كانوا يزورون مغارة في كريت لتقديم القرابين ويطرقون على قطع معدنية (مازالت محفوظة في المتاحف اليوم) بهدف التغطية على صوت زيوس الذي يتصورونه طفلا يعيش هناك، كي لا يسمع أباه كرونوس صوته ويبتلعه، مع أنهم لا يرون طفلا ولا يسمعون صوتا بل تقول الأسطورة إنه كبر وانتهى من قتل أبيه!
حرص هوميروس وهزيود على منح جميع الآلهة صفات بشرية، فهم يتصارعون على السلطة والنفوذ، بل يتعرض بعضهم للموت والبعث، ولهم خطايا أشد فداحة من خطايا البشر، وكأنهم أقرب إلى الشياطين من الملائكة، مما يبرر نزعات السيطرة لدى السلطات السياسية والكهنوتية التي وظفت هذه الأساطير لاستعباد البشر، كما كرست تلك الأساطير الطبقية الحادة في المجتمع ووجود العبيد والعمال والفلاحين الذين فُرض عليهم العمل بالسخرة لصالح الطبقات الأعلى وكأنه قدر محتوم.
وكما هو حال الوثنيات السابقة، تقدس الميثولوجيا اليونانية إلها واحدا أعظم وتجعله على رأس مجمع الآلهة وهو زيوس، وكل إله أو إلهة يمثل وظيفة أو قوة من قوى الطبيعة أو صفة ما من صفات الإنسان حتى لو كانت رذيلة، كما لكل قبيلة أو عشيرة أو دولة من دول البلقان المدينية الصغيرة إلهها الخاص، فكانت مدينة أثينا تعبد الإلهة أثينا، وإيلوسيس تعبد ديمتر، وساموس تعبد هيرا، وإفسوس تعبد أرتميس، وبوسيدونيا تعبد بوسيدون. وعندما تحارب دولة إحدى الدول الأخرى فإن أتباع الملك والكهنوت يربطون الأمر بصراع أعلى يجري بين الآلهة، فالشعب الغالب هو الذي يغلب إلهه إله العدو، وإذا قصّر الشعب في نصرة إلهه فعليه أن يتحمل تبعات غضبه.
لوحة تخيلية لمعبد أكروبوليس في أثينا من القرن التاسع عشر
الفلسفة والأسطورة
بالرغم من شيوع النظر العقلي الفلسفي لدى اليونان، وهو الأمر الذي يفخر به الغرب اليوم على اعتبار أنه وريث للفلسفة اليونانية التجريدية و”المنزهة” عن الدين والأسطورة، إلا أن معظم الفلاسفة الإغريق لم يتحرروا من البعد الغيبي، فالفيلسوف طاليس الملطي الذي وضع أسس الفلسفة العلمية في بداية القرن السادس قبل الميلاد حاول أن يقدم تفسيرات مادية لنشأة الكون، إلا أنه ربط تشكل الحياة من الماء بنزول زيوس عن عرشه وإحلال الدوامة محله.
والظاهر أن النزعة العقلية لدى الفلاسفة كانت تميل إلى رفض الوثنية وليس الدين نفسه، فانتقد إكزينوفان تشبيه الآلهة بالبشر، وكانت المدرسة الإيلية التي أسهها تعلم الناس العودة إلى التوحيد بدلا من الوثنية المتعددة، كما أنكر أنكساغوراس ألوهية الشمس وقال إنها مجرد حجر أحمر ملتهب وأكبر حجما من جبل البليونيز، أما كريتياس فتجرأ على القول إن البعض اخترعوا الآلهة ليرهبوا بها الأعداء، بينما رأى أويهيمروس أن الآلهة ﻟﻴﺴﻮا ﺳﻮى أﺑﻄﺎل وﻃﻨﻴين أدوا ﺧﺪﻣﺎت ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻓﺮﻓﻌﻬﻢ الخيال اﻟﺸﻌﺒﻲ إﻟﻰ ﻣﺼﺎف اﻵلهة، وهذا يذكرنا برواية الوحي عن قصة قوم نوح الذين ابتدعوا بدعة الوثنية عندما جسدوا الأموات الصالحين على هيئة أصنام ثم عبدوها.
وعندما عجز الفلاسفة الأوائل عن تقديم أجوبة مقبولة على الأسئلة الوجودية الكبرى، نظرا لعجز العقل عن الخوض في الغيبيات، أو ربما للطمس المتعمد لآثار الوحي فلم يصلنا من بقاياه لدى الإغريق شيء، نشر السفسطائيون مذهبهم في الشك واعتقدوا أنه يستحيل على العقل أن يعرف شيئا، وأنه ينبغي على الفلاسفة الاهتمام بحياة الإنسان العملية فقط.
سقراط يتجرع السم راضيا بعد الحكم بإعدامه، لوحة للرسام جاك ديفيد
استعاد سقراط هيبة العقل بعد أن كاد السفسطائيون أن يغرقوا الإغريق في هوة الشك والعدمية [انظر مقال مصادر المعرفة]، إلا أنه لم يستطع أيضا أن يقدم أجوبة على الأسئلة الدينية التي لا يمكن التوصل إليها إلا بالوحي، وحُكم عليه بالإعدام بتهمة “عدم الإيمان بمعتقدات أثينا”. ثم تابع أفلاطون المهمة ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وكان يرى أن الدين ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول دين أسطوري اخترعه الشعراء والفنانون لتسلية العوام، والثاني صنعه كهنة السلاطين لضمان انقياد الشعب لهم بخوفهم من الآلهة وتقديسهم للملوك، والثالث هو دين الفلاسفة الذي يكشف الحقيقة. أما تلميذه أرسطو فهرب من أثينا قائلا إنه لا يريد للمدينة أن ترتكب حماقة أخرى عندما أعدمت سقراط.
لقد كان بإمكان الشعراء الكبار أن يعترفوا بأن الأساطير مجرد أعمال مجازية لا حقيقة لها، كما كان في وسع الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون أن يعدلوها لتتوافق مع العقل، إلا أن غياب الوحي (وربما طمسه وتحريفه في عصر هزيود) جعل المهمة مستحيلة، وهم مع ذلك لم يرضخوا للأساطير المفروضة بقوة السلطة، بل دعوا للتوحيد أو اقتربوا منه.
وحين طاف المؤرخ بوزنياس ببلاد اليونان بعد خمسة قرون من عصر أفلاطون وجد أن الأساطير ما زالت حية في قلوب الجماهير، حيث لم يجد الناس غيرها للإجابة على تساؤلاتهم الوجودية، وكما يقول ويل ديورانت في موسوعته “قصة الحضارة” فإن أساطير هزيود شكلت عقيدة اليونان وفلسفتهم وآدابهم وتاريخهم، واستمد منها الفانون (أي البشر غير الخالدين كالآلهة) زخارفهم التي زينوا بها الأواني، كما كانت هي المصدر الأساس لمواضيع النحاتين والرسامين في معظم أعمالهم التي عاشت آلاف السنين.
سيرابيس يتشكل من دمج أوزيريس وأبيس
ويرجح غلبرت موراي أن الديانة اليونانية مرت بعدة مراحل، وأن البداية كانت دينا سماويا موحى به من الله، ثم تحولت إلى ديانة بشرية أسطورية، ثم فلسفية. [فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط للأهواني، ص22].
اتفق المؤرخون على إطلاق تسمية الحقبة الهيلينية على الفترة الممتدة من أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى موت الإسكندر المقدوني عام 323 قبل الميلاد، وهي الفترة التي ازدهرت خلالها الحضارة الإغريقية وبلغت أوجها فكريا وعلميا.
وعندما احتل الإسكندر الأكبر مصر سارع إلى مزج معبود الإغريق “زيوس” الذي كان يُجسد على هيئة رجل كبير كث اللحية, مع معبود مصر “أمون” الذي يتخذ هيئة كبش ذي قرنين, فكانت النتيجة هي اختراع إله يوناني مصري اسمه “سيرابيس” مع تجسيده أحيانا على هيئة رجل له لحية وقرون كبش، بينما يرى مؤرخون أن “سيرابيس” مزيج من أوزوريس وأبيس وزيوس.
أما الحقبة الهيلينستية فتبدأ عند أغلب المؤرخين بموت الإسكندر، حيث تقاسم خلفاؤه مملكته المترامية الأطراف وظهرت بذلك آثار التلاقح بين فلسفة اليونان وغنوصية الشعوب الشرقية، وامتدت هذه الفترة إلى الغزو الروماني لقلب اليونان عام 146 قبل الميلاد أو حتى الهزيمة النهائية لآخر دولة لخلفاء الإسكندر في معركة أكتيوم عام 30 قبل الميلاد حيث سقطت فيها مصر البطلمية بيد الرومان.
الوثنية الرومانية يُعتقد أن بداية الحضارة في إيطاليا تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد عندما انتقلت شعوب الأتروسكيين من ليديا (غرب تركيا حاليا) إلى شمال نهر التيبر، وعلى الأرجح أنهم تأثروا بالوثنيات المجاورة من اليونان ووسط أوروبا، لكن السيادة كانت لآلهة العالم السفلي المقتبسة عن المستعمرات اليونانية في الجنوب، حيث يعتقد أنهم كانوا يعظمون الشياطين ويمارسون السحر.
جوبيتر
ربما يصعب تقصي الإله الأعظم من بين الآلهة المتعددة التي عبدها الرومان، لكن يبدو أن جوبيتر (كوكب المشتري) كان هو الإله الأعظم، وبجانبه كل من مارس (المريخ) و كويرينوس (أحد أقمار زحل)، ثم في مرحلة لاحقة أصبح بجانب جوبيتر زوجته جونو وابنته مينيرفا.
استمتع أباطرة روما برفع مكانتهم الدينية حتى قدستهم شعوبهم وذبحت لهم القرابين، كما قرر كل من دوميتيان وكاليغولا ونيرون أن يتألهوا بأنفسهم وينافسوا الآلهة الخيالية على مناصبها، بينما تواضع آخرون واعتبروا أن الألوهية لقب ينالونه بعد موتهم.
بدأ عصر الرومان الذهبي بعد عام 30 قبل الميلاد الذي شهد سقوط آخر ممالك اليونان في أيديهم، وهي مملكة البطالمة في مصر، وأخذ الإمبراطور أغسطس في تلك المرحلة بتشييد الكثير من المعابد المكرسة للآلهة التي جسدها الكهنة في الكواكب، ثم أعلن أغسطس نفسه الكاهن الأكبر.
ومن الواضح أن الرومان اقتبسوا ميثولوجيتهم (أساطيرهم) من اليونان، حيث يؤكد المؤلف بي كوملان في كتاب “الأساطير اليونانية والرومانية” أن الدولة الرومانية “جعلت أغلب آلهة الإغريق أربابا لها، إلا أنها عندما أدخلتها في طقوسها الدينية وآدابها أطلقت عليها أسماء لاتينية”. [ص 7].
انتشر السحر في بلاد الروم على يد البابليين، ووجد له تربة خصبة مع عبادة النجوم والكواكب واهتمام الكهنة بالتنجيم، فالتنجيم يفترض وجود قوة روحية في الكواكب تؤثر على الإنسان الذي يعيش على الأرض، ومن خلال دراسة الأبراج المعقدة يتم التنبؤ بالمستقبل، وغالبا ما يتداخل هذا الفعل بالسحر القائم على التعامل مع الشياطين. وفي عصر الإمبراطور تبريوس (ابن أغسطس) حظي المنجمون بنفوذ أكبر من ذي قبل، وصار شائعا استخدام السحر بديلا عن الطب.
وكما هو حال الوثنيات السابقة، اهتم الرومان بأرواح الموتى وقدسوها، وجسدوا أجدادهم في التماثيل، وزعم السحرة أنهم قادرون على استحضار أرواحهم. كما قدسوا الشمس إلى جانب الكواكب الأخرى، حتى أصبحت عبادتها مهيمنة في عهد أسرة سيفروس في القرن الميلادي الثالث، لذا عندما قرر الإمبراطور قسطنطين تحويل ديانة روما إلى المسيحية تم دمج ديانة أتباع بولس بعبادة الشمس، وما زال حضور الشمس واضحا في الرموز المسيحية حتى اليوم.
الإله ثور يصارع العمالقة في لوحة من القرن التاسع عشر
الوثنية الإسكندنافية يعود تاريخ الفايكنغ في المنطقة الإسكندنافية بشمال أوروبا إلى القرن التاسع الميلادي، ويُعتقد أن الأساطير الإسكندنافية (النوردية) هي أصل الوثنيات الجرمانية الأخرى في شمال ووسط أوروبا.
لا يُعرف أصل الميثولوجيا الإسكندنافية بالتحديد، فقد ظلت أشعارها متداولة شفهيا دون تدوين، ما يعني صعوبة تتبع مصدرها، ويبدو أن الذي صاغها قد استورد فكرتها الأساسية من الإغريق (هوميروس وهزيود)، ثم أعاد بناءها بما يناسب طبيعة حياة الفايكنغ القائمة على الإبحار والقرصنة، وبثها في وعي تلك الشعوب الأمية لتصبح مصدر ثقافتها وعقيدتها وفنونها.
تتعدد الآلهة في الأساطير الإسكندنافية كما هو حال الأساطير السابقة، ويتربع أيضا على رأسها إله عظيم يدعى أودِن Odin، وهو نفسه وودِن لدى الشعوب الأنغلوسكسونية، كما عرفه الجرمان باسم ووتان. وتتكرر في هذه الأساطير أيضا عادة تثليث الآلهة كمعظم الوثنيات حول العالم، فهناك الإلهة الزوجة فريغ (أو فرييا عند الجرمان)، والابن ثور Thor إله الرعد.
ونظرا لخطورة الأعاصير والعواصف على البحارة الفايكنغ، رأى مخترع الأسطورة أن يجعل “ثور” على هيئة شاب ضخم مفتول العضلات ويحمل بيده مطرقة ليهاجم بها العفاريت التي تسبب العواصف والأمواج العاتية، فكان البحارة يستبشرون بصوت الرعد الذي تصدره المطرقة معتقدين أنها تصرع الشياطين.
تتشابه الأساطير الإسكندنافية مع أصولها الإغريقية بافتراض وجود عوالم خفية تعيش فيها كائنات عدة، من آلهة وعمالقة وأنصاف آلهة وأقزام وبشر، لكن مبتكر هذه الأساطير كان فيما يبدو أوسع خيالا، كما يبدو أن العديد من الشعراء والأدباء أضافوا خلال قرون طويلة المزيد من الخرافات عن عوالم خفية تسكنها كائنات عجيبة، حتى أصبح العوام يعتقدون أن كل ما حولهم في هذا العالم من كائنات حية وجمادات مسكونة بأرواح، وأن لها نوعا ما من الحياة الخفية.
ثور كما قدمته هوليود في أحد أضخم أفلامها
آمن واضعو الأساطير بوجود جنة بعد الموت، وهي عالم الفالهالا، إلا أنها مجرد مرحلة مؤقتة، كما اشترط واضعو الأسطورة لدخولها التمتع بالشجاعة لتشجيع الناس على الانخراط في المعارك. وتشبه الفالهالا قصرا ضخما يحكمه الإله أودين، حيث يحتفل فيه مع ضيوفه كل يوم بذبح خنزير لأكل لحمه مع شرب الخمر.
وعندما يحين الوقت يخرج أودين مع جنوده هؤلاء لخوض المعركة النهائية “راغناروك” ضد العمالقة، وهي المصير المحتوم للآلهة والعمالقة والبشر، إلا أن هذه النهاية ليست سوى بداية عالم جديد تسوده الأراضي الخضراء ويعم فيه السلام، حيث يُبعث بعد المعركة الآلهة من الموت ويحكمون العالم، ويتوالد البشر مجددا من رجل وامرأة تمكنا من النجاة من المعركة باختبائهما في مكان ما.
وإذا كانت الأساطير اليونانية، وبعدها الرومانية والإسكندنافية، نسخة محرفة عن الوحي وتصورا مشوها لحقيقة الإله الواحد وأدوار مخلوقاته من الجن والملائكة، فإن هذه الأسطورة تبدو وكأنها تحريف للملاحم الكبرى التي تنبأ بوقوعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان.
مما يؤكد أن واضعي الأساطير جعلوا من الجن والملائكة آلهة، أن مؤسِّسة جمعية الثيوصوفية هيلينا بلافاتسكي صرحت في كتابها “العقيدة السرية” بأن سمائيل الذي يعتبره التلمود رئيسا للجن هو أحد الآلهة الذين تذكرهم التوراة (المحرفة) باسم إلوهيم، وتضيف أن سمائيل في القبالاه اليهودية هو شكل رمزي للعمالقة.
الوثنية في الجزيرة العربية تحدثنا سابقا عن ظهور تعدد الآلهة (عبادة الأوثان) في الجزيرة العربية منذ فجر الحضارة وقبل بدء التاريخ، وذلك على يد عاد وثمود، وما تلاهم من الأنباط الذين اتخذوا من سلع (البتراء في الأردن) عاصمة لهم، إلا أن التوحيد عاد إلى العرب على يد النبي إسماعيل بن إبراهيم الذين نشأ في مكة واختلط بالعماليق (قوم من العرب الأوائل)، ثم ارتدوا مجددا إلى الوثنية على يد رجل يدعى عمرو بن لُحَيّ.
منحوتة للإلهة اللات عثر عليها في الطائف
يقول المؤرخ ابن كثير إن عمرو بن لحي كان أحد رؤساء خزاعة الذين تولوا زعامة البيت (الكعبة في مكة)، وإنه كان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل بين العرب، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها.
واشتهرت في مكة عبادة أصنام كثيرة، وعلى رأسها “هُبل” الذي كان بمثابة كبير الآلهة، حيث نصبت قريش له صنما في جوف الكعبة، ثم تأتي من بعده ثلاثة آلهة مشهورة هن اللات والعزّى ومناة، حيث يشكلن ثالوثاً أنثوياً على اعتبار أنهن أبناء الله، كما خصصت كل قبيلة من القبائل الكبرى لنفسها واحدا من الأوثان لتشتهر بعبادته وتقديسه وجذب المتعبدين وقوافل التجارة إليه، فاختارت قبيلة ثقيف في الطائف عبادة اللات وجعلت لها بيتاً يضاهي كعبة مكة، وروي أن ابن لحي استغل وفاة رجل صالح من ثقيف كان يحمل اسم اللات فقال لهم إنه لم يمت بل حلّت روحه في صخرة، فنحتوا الصخرة وجعلوها وثنا يُعبد.
وبالطريقة نفسها، أرادت قبيلة غطفان منافسة قريش، فجعلت لنفسها معبدا يسعى فيه الناس بين حجرين كما يسعون بين الصفا والمروة بمكة، ونصبت صنم العزى في بيت مهيب يضاهي الكعبة.
أما مناة فكان لها صنم في موضع يقال له “المشلل”، وكانت مقدسة تحديداً عند قبيلتي الأوس والخزرج في يثرب (التي سميت لاحقاً المدينة المنورة بعد هجرة النبي محمد إليها)، ويقول المؤرخون إن العرب أصبحوا يقدسون هذه الأصنام الثلاثة ويحجون إليها ويذبحون عندها القرابين كلما حجوا إلى مكة في موسم الحج السنوي. وعندما نزل القرآن على النبي انتقد تلك الأصنام الثلاثة فقال {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19-23].
وكما طرأ التحريف لدى العرب على العقيدة، فقد غيروا أيضا في شرائعهم، فيقال إن ابن لحي فتح الباب أيضا لوضع تشريعات جديدة في الأنعام (ذبح الحيوانات) وغيرها، فأصبح العرب يحرّمون على أنفسهم أنواعا من الجمال والغنم دون أي مبرر أو اقتباس من مصدر آخر، والعجيب أن التشريع الجديد انتشر بين القبائل وكأنه دين موحى به من السماء. ويرى ابن كثير أن القرآن ذكر ابن لحي في سورة الأنعام بقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا…} [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات.
وقبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس برسالة التوحيد من داخل قبيلته قريش، كانت قريش قد نجحت في بسط سيادتها المعنوية على كافة القبائل في شبه الجزيرة العربية بحكم سيطرتها على البيت في مكة، فقد جمعت لنفسها الرئاسة الدينية والدنيوية وميّزت نفسها في شعائر الحج وتفاصيل شرعية أخرى مما كان قد بقي من شريعة جدهم إسماعيل، فبينما كانت قبائل العرب تقف في جبل عرفة تركت قريش الوقوف هناك والإفاضة، وكان سادتها يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس، حيث لقبوا أنفسهم بالحمس (جمع أحمس) لتحمسهم في دينهم.
رسم لمكة يعود إلى عام 1790
وابتدعوا أمورا أخرى مثل قولهم لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط (أي يتخذوا الأقط وهو لبن مجفف)، ولا يسلئوا السمن (أي يطبخوه) وهم حرُم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيود الأدم ما كانوا حرماً، وغير ذلك من الأحكام المُخترعة التي شددوا فيها على أنفسهم من باب الحماسة، ويبدو أنهم فعلوا ذلك ليثبتوا للعرب أنهم أولى بالزعامة كما يفعل الرهبان في أديان أخرى بانقطاعهم عن الزواج وملذات الحياة مقابل تقديس الناس لهم، وقد دانت العرب لقريش بالفعل وجعلتهم أشرف القبائل، فتركت قريش الغزو واشتغلت بالتجارة ووضعت شروطا لكل من يريد الزواج بإحدى بناتهن.
وعندما نزل الوحي على أحد أبناء قريش، وأمرهم بالتساوي مع بقية شعوب الأرض رفضوا دعوته بشدة، مع اعترافهم بأنه كان معروفا بينهم بالصدق والأمانة ولم يجربوا عليه الكذب، إلا أن معظم قادتهم وجدوا في دعوته انتزاعا للسلطة التي منحوها لأنفسهم.
وبعد سنوات طويلة من الصراع الشاق، تمكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوة التوحيد وإنهاء وجود الوثنية في أرض العرب وفي مناطق أخرى واسعة من العالم، وتؤكد الموسوعات التاريخية الحديثة أن انتشار الإسلام كان أسرع انتشار لأي حضارة عرفها التاريخ حتى اليوم.
فيديو يوضح كيفية انتشار الأديان ويثبت أن الإسلام كان الأسرع انتشارا في التاريخ
ويؤكد القرآن أنه جاء ليجدد الرسالة نفسها التي بُعث بها كل الأنبياء لمقاومة الوثنية والانحراف عن التوحيد، وأن دين الإسلام نفسه هو دين واحد منذ بدء البشرية وليس دينا خاصا بمحمد وأمته، حيث قال نوح لقومه {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، كما وصف القرآن إبراهيم بقوله {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، وكان الإسلام هو الدين الذي أقر به أبناء يعقوب الذين يُعتبرون أجداد بني إسرائيل، حيث تقول الآية {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، وهذا ما أقره موسى أيضا في خطابه لبني إسرائيل: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس:84]، كما قال سليمان في رسالته لملكة سبأ {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30-31]، وقد أقر بذلك أيضا أتباع عيسى قبل تحريف رسالته عندما سألهم من أنصاري من الله؟ فقال الحواريون {نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].
الكعبة في المسجد الحرام بمكة المكرمة
خلاصة بعد هذه الجولة الموجزة في تاريخ تطور الأديان الوثنية، سنوجز في النقاط الآتية أهم الخلاصات التي يمكن استنتاجها والانطلاق منها إلى دراسة الأديان اللاحقة:
1- تنطلق الأبحاث الإنثروبولوجية اللادينية -كما أسلفنا في بداية المقال- من منطلق إلحادي/لاديني مسبق، وهذا يعني بطبيعة الحال افتراض أن أي تشابه بين النصوص الدينية وبين الأساطير والسحر يعني أن الأولى مقتبسة من الثانية، وذلك لاعتقاد الباحثين مسبقا بأنه لا وجود لمصدر إلهي للوحي أصلا.
لذا يجتهد الباحثون في محاولة إثبات اقتباس التوراة والإنجيل (بالنسخ المتبقية اليوم) والقرآن من الأساطير السابقة، ويفترض بعضهم أن وجود أي شبه بين شعائر الصيام والصلاة والحج الإسلامية اليوم وبين مثيلتها في بلاد الرافدين ومصر الفرعونية هو دليل على “وثنية” الإسلام.
وهذا الافتراض يتضمن مغالطة منطقية، فتلازم أمرين لا يعني بالضرورة نشوء أحدهما عن الآخر. وفي حال ثبوت تأثر أي منهما بالآخر فإن الافتراض اللاديني يتخذ مسبقا قراره بالانطلاق باتجاه واحد ويشترط عدم صحة الاتجاه الآخر، فما الذي يمنع أصلا أن يكون الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، بدءًا من آدم أول البشر، وأن الوثنية العراقية والمصرية وغيرهما هي التي اقتبست وحرّفت وليس العكس؟
برستد
2- يضاف إلى الخلل في وضع الفرضيات أن بعض الأدلة التي يطرحها اللادينيون تفتقر إلى الصحة أصلا، حيث يزعم البعض -مثل المؤرخ جيمس هنري برستد في كتابه “فجر الضمير”- أن “الظاهرة الدينية” بدأت بأساطير قائمة على تعدد الآلهة، وأن أخناتون المصري هو أول من ابتكر مفهوم الإله الواحد ثم ترك أثره على الأديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، لكن هذه المقولة التي راجت طويلا في القرن العشرين ثبت تهافتها أخيراً كما يقول جون ولسن في كتابه “الحضارة المصرية”، فالتوحيد كان معروفاً وقديماً في العراق ومصر والشام قبل ظهور مفهوم “مجمع الآلهة” لدى السومريين ومن جاء بعدهم.
وفي حين يزعم البعض أن “الكتاب المقدس” اقتبس من الميثولوجيا اليونانية والمصرية قصتي إخفاء المسيح من الإمبراطور الروماني وإخفاء موسى من فرعون في تابوت وإلقائه بالنيل، يتبين لنا أن هزيود الذي ابتكر هذه الأسطورة في اليونان عاش بعد قصة موسى وأنه هو الذي اقتبس منها، وكذلك الحال في قصة أوزيريس وإيزيس التي ظهرت بعد ذلك، وسنستعرض المزيد من هذه الاقتباسات في مقالي اليهودية والمسيحية.
ملاحظة السميط في أفريقيا للتحقق من آلية هذا التحريف للوحي، نجد مثالا معاصرا ما زال حاضرا أمام أعيننا في جزيرة مدغشقر المنعزلة بالمحيط الهندي، حيث قال الداعية الكويتي والعامل في مجال الإغاثة د. عبد الرحمن السميط إنه سمع أثناء وجوده هناك عن قرية نائية تدعى مكة وتقيم فيها قبيلة تسمى الأنتيمور، وإن الوصول إليها يتطلب الخوض في مستنقعات من الماء الراكد والروث لأربع ساعات، وعندما بلغها وتحاور مع أهلها أخبروه أنهم جاؤوا من مدينة في الشمال تدعى “جدا” وهي جدة في السعودية، وأنها قريبة من بلدة طيبة تدعى “مكا” أي مكة، كما قالوا إنه كان فيها جار طيب اسمه محمد، ومع أنهم لا يعرفون أنه نبي إلا أنهم يقرون بمحبته، وهم يوقرون أيضا أسماء رجال صالحين يعتقدون أنهم كانوا من أجدادهم، ومنهم “راماكاري” أي المبجل أبو بكر، و”راماأهي” أي المبجل عمر، و”راأوسماني” أي المبجل عثمان، أما أمهم فاسمها “رامونا” أي المبجلة آمنة، وهي والدة النبي محمد.
السميط
وعندما سألهم السميط عن دينهم قالوا إنهم “مسلمون بروتستانت”، وأضافوا أن أجدادهم أخبروهم قبل مئات السنين أنهم مسلمون إلا أنهم فقدوا طريقة التعبد لأن معظمهم لا يعرفون القراءة والكتابة، فجاءتهم بعثة تبشيرية من البروتستانت وأقنعتهم بأنها ستعلمهم الإسلام، وهكذا شيدت لهم كنيسة وأعطتهم نسخا من الإنجيل زاعمة أن هذا هو دين أجدادهم المندثر، فاختلطت لديهم تعاليم الأجداد بما جاءهم به المبشرون، ومع أنهم مازالوا يعظمون يوم الجمعة ويصرون على الذبح الحلال ويحرّمون على أنفسهم لحم الخنزير إلا أنهم باتوا يقدسون الكنيسة والإنجيل.
ومن المفارقات أن السميط وجد لديهم كتابا مقدسا يطلقون عليه اسم السورابي، أي الكتاب الكبير، وفيه بعض سور القرآن بالخط العربي، إلا أنها مشوبة بكثير من الأخطاء والتحريف، وإلى جانبها طلاسم سحرية وتوسلات بالموتى.
وحسب دراسة السميط، فقد بدأت هجرة هذه القبيلة من سواحل جدة قبل 1200 سنة، أي بعد نحو مئتي سنة فقط من بعثة النبي محمد، واستمرت دفعات المهاجرين بالوصول ستمئة سنة، ثم انعزلوا عن العالم ستة قرون، مُكتفين بما لديهم من خيرات الأرض والبحر، وليس لديهم سوى رجال الدين والسحرة الذين يحتكرون لأنفسهم القراءة والكتابة وأسرار الدين، وقد تمكن هؤلاء الكهنة من تحريف دينهم ودمج النصوص الأصلية للوحي القرآني بالأساطير والطلاسم، وبما أن عامة الناس كانوا أميين فقد نجح التحريف وضاعت الحقيقة خلال بضع قرون، ونتج دين وثني جديد يخلط بين الوحي والخرافة والسحر.
[المصدر: حوار مع الشيخ عبد الرحمن السميط في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة: http://goo.gl/cbIIaL]
3- علاوة على مغالطة الانطلاق من منطلق لاديني مسبق، ووضع الافتراضات الممنهجة والمؤدلجة، فإن المنهج اللاديني نفسه قائم منذ نشوئه في القرن الثامن عشر على الفلسفة المادية التي تفترض أن الوجود محصور في عالم الشهود (المادة والطاقة) أصلا، وأن عالم الغيب ليس موجوداً. فالمشكلة لا تقتصر على أن أدوات “العلم الحديث” لا تستطيع التحقق من وجود الغيب بل يفترض العقل المادي مسبقاً أن هذا العالم لا وجود له من البداية، لذا فإن أكثر العلماء انفتاحاً وتقبلاً للرأي الآخر يكتفون بالقول إن وجود الإله والملائكة والجن والوحي هي مقولات “غير علمية” وإن كونهم علماء يدفعهم إلى عدم الخوض في هذه المقولات الخارجة عن تخصصه، ولو أنهم وقفوا عند هذا الحد لكان موقفهم سليماً، لكن معظمهم يتجاوزون هذا الحد ويقدمون تفسيراً “علمياً” للكون والتاريخ والدين من داخل فلسفتهم المادية، ويعتبرون أن أي مقولة تعارض هذه التفسيرات المليئة بالتفاصيل الخيالية (الافتراضية) هي مقولة غير علمية، وبما أنها “غير علمية” فهي تعني في العرف العام والمقررات التعليمية ووسائل الإعلام أنها “غير صحيحة”.
لذا يصرح العلماء بأنهم مضطرون لاعتماد نظرية تطور الإنسان عن كائن شبيه بالقرد، بالرغم من افتقارها لأي دليل علمي [كما يوثق الفيلم الوثائقي مطرودون Expelled]، لأنها التفسير “العلمي” الوحيد الذي يتناسب مع فلسفتهم المادية، ولا بديل عنها سوى الإيمان بوجود عالم الغيب، مع أن وجود هذا العالم لا يتعارض مع وجود المادة ولا مع جدوى العلم المادي ونزاهته. ويتبع اعتمادهم لنظرية التطور وضع افتراضات لا نهاية لها عن نشأة الدين وتطوره، وهي جميعا سيناريوهات متخيلة لا يدعمها دليل.
على سبيل المثال، لا يملك العلماء المعاصرون أدلة علمية تكشف لهم حقيقة نشوء الدين فيما قبل التاريخ سوى آثار التماثيل الصغيرة وبقايا المعابد، وبما أن الإنسان في ذلك العصر لم يترك تاريخاً مدوناً، يلجأ علماء التاريخ والإنثروبولوجيا إلى الخيال لوضع نظريات “علمية”، تتحول لاحقاً إلى ما يشبه الحقائق والمسلّمات، حول دوافع إنشاء المعابد وتشكيل التماثيل وما قامت عليه من أسس تتعلق بدورات الخصب الزراعي وما دار حولها من طقوس، ثم يدعمون هذه الفرضيات بما تركه اللاحقون من أساطير مدونة بعد ظهور الكتابة، وقد لا يترك لنا مؤرخو تلك المراحل سوى مدونة واحدة، مثل ملحمة جلجامش، فيعتمدها العلماء بمثابة الدليل العلمي الوحيد لأديان وعقائد ذلك العصر، مع أننا نشاهد في عصرنا الحديث روايات متعددة للأفكار والمعتقدات والأحداث بالرغم من الانفتاح العالمي وسهولة الاتصال، فلا يمكن الجزم بأن رواية واحدة يكتبها مؤرخ أو كاهن مؤدلج هي الممثل الوحيد لما آمن به الناس في عصر ما.
واللافت أن العلماء الماديين يعتمدون أي نص منقوش على الطين والحجر أو مخطوطة مدونة على الجلد، ليكون بمثابة دليل علمي يؤرخ لتاريخ الأحداث وتطور الفكر والدين، إلا أنهم يعتبرون أن الكتاب المقدس (التوراة والزبور والإنجيل) لا يحظى بالمصداقية الكافية ليعتبر مصدرا تاريخيا موثوقا، ولا مشكلة في الشق الثاني من هذه المقولة لأن التحقيق العلمي يكشف عن أخطاء وتناقضات فادحة في الكتاب المقدس، لكن هذا يؤدي إلى التشكيك أيضاً في مصداقية النصوص الأخرى الأكثر قدماً، فإذا كان واضعو الكتاب المقدس قد حرفوا التاريخ لمصالحهم الدينية فيجدر أيضاً بمؤرخي العراق والشام ومصر القدماء أن يفعلوا ذلك. لكن المذهب المادي الذي انبثق عنه المنهج العلمي يدفع العلماء إلى السير في اتجاه واحد والحكم على الكتاب المقدس من خلال النصوص الطينية وليس العكس، وكأن تلك النصوص التي يؤسس عليها علم الآثار هي المرجعية “العلمية” الوحيدة التي يجب الرجوع إليها في كل الحقائق!
في عام 2014 تناقلت وسائل إعلام عدة نبأ اكتشاف نسخة قديمة لقصة آدم وحواء على يد عالمين هولنديين، وقيل إنهما فككا رموزا باللغة الأوغاريتية للوحين طينين عُثر عليهما في سوريا ويعودان إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حيث يذكران أن الإله الأعلى في الميثولوجيا الكنعانية إيل كان في صراع مع الإله الشرير حورون (إبليس)، وعندما عُوقب حورون بالطرد من الجبل سمَّم “شجرة الحياة”، فأرسل إيل إلى الأرض إلهاً آخر يدعى آدم ليضع حداً لتمرد حورون، فحوَّل حورون نفسه إلى ثعبان ولدغ آدم، فخسر الأخير طبيعته الخالدة. ولكي يسليه إيل أمر إلهة الشمس (حواء) بالنزول إليه والتزاوج معه.
احتفت المواقع الإلحادية بهذه القصة كثيراً، واعتبرت أنها كشف “علمي” يؤكد أسبقية هذه الأسطورة على القصة الواردة في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، وأجمعت تلك المواقع أن القرآن ينقل القصة نفسها عن التوراة، وهي مغالطة شائعة، فالقرآن لا يتهم حواء بإغواء آدم ليأكل تفاحة، ولا يجعل نزول آدم وحواء من الجنة عقاباً على خطيئة، بل أكل كلاهما من الشجرة المحرمة (دون تحديد نوعها) بعد أن أغواهما إبليس معاً، وتاب الله على آدم عندما ندم، وأنزله إلى الأرض بعد ندمه وليس عقاباً له.
وإذا كانت هذه القصة قد وردت في نص طيني أسطوري قبل التوراة بثمانمئة عام فهذا لا يعني منطقياً أن التوراة والإنجيل والقرآن قد أخذا عنها، إلا إذا انطلقنا مسبقاً من مسلّمات الفلسفة المادية التي تنكر وجود إله غيبي يوحي إلى الأنبياء كلهم وحياً واحداً ويتم تحريفه بالأساطير مراراً قبل أن يعاود الأنبياء تصحيحه جيلاً بعد جيل. وهذا موقف فلسفي لاديني ولا علاقة له بالعلم المجرد.
4- إذا كان العلماء قد اتخذوا موقفا مسبقا واعتمدوا النقوش الطينية مصدرا للتاريخ بدلا من الكتاب المقدس بعد ثبوت تهافته، فإنهم لم يلتفتوا أصلا إلى القرآن الكريم، ولم يعتبروه مصدراً للتاريخ والمقارنة ولا حتى الأساطير، فالأوساط العلمية الغربية تتجاهل هذا الكتاب وتترك أمر دراسته للدراسات الاستشراقية التي نشأت أصلا في رعاية الإدارات السياسية الاستعمارية ولتحقيق مصالحها، والباحثون اللاحقون والمعاصرون ما زالوا ينهلون من المناهج والأفكار المسبقة التي وضعها رواد الاستشراق المؤدلجون [للمزيد: ينصح بالاطلاع على كتاب “الاستشراق: قراءة نقدية” للمؤلف صلاح الجابري]، ويتابعهم في ذلك الباحثون والمؤرخون العرب أنفسهم بحكم التبعية الحضارية للغرب، وهذه المواقف تضع مصداقية مناهج علوم الآثار والإنثروبولوجيا ومقارنة الأديان والتاريخ كلها على المحك.
5- في مقابل الرواية اللادينية التي يعتبر العلماء أنها الوحيدة المتوافقة مع “العلم”، ومن ثم تُقدم للطلاب في المدارس والجامعات على أنها الوحيدة الصحيحة، ثمة رواية أخرى يقدمها الوحي، ويتوقف الحكم بصحتها أولاً على التجرد من مسلمات الفلسفة المادية، والتسليم مبدئياً بأن الرواية التي يبنيها العلماء على افتراضات هي مجرد احتمال يقبل التكذيب (كما تؤكد فلسفة العلم الحديثة التي وضعها كارل بوبر).
وبناء على القصة المذكورة أعلاه للدكتور السميط في أفريقيا، يمكن القول إن التحقق من الرواية الأخرى يتوافق مع المنهج العلمي المجرد، لكن البدء بهذا التحقق يشترط أولاً الاعتراف بوجود الإله الذي أثبتنا وجوده يقيناً في مقال “وجود الله“، ومن ثم الاعتراف بإمكانية اتصاله بالبشر منذ بدء خلقهم عن طريق الأنبياء، وبإمكانية إنزاله وحياً يوضح لهم قصة الخلق الحقيقية، ويبيّن لهم طريق العبادة الصحيحة للتقرب إليه وكسب رضاه والنجاح في الابتلاء الذي خلقوا لأجله.
وإذا كان علماء الغرب اليوم يقرون بعدم مصداقية النسخ المتوفرة اليوم للكتاب المقدس، فمن المقبول علميا إذن أن نصدق بأن كل الكتب السماوية السابقة قد تعرضت للتحريف الذي كان الدكتور السميط شاهداً عليه، فالوحي كان يتنزل ويتلى على ألسنة الأنبياء ويُقدم في سلوكهم العملي، إلا أنه كان يُحارب دائما من قبل السلطات والمتنفذين وكهنة المعابد، كي يحتفظوا بسلطتهم وبالنظام الاجتماعي الطبقي الاستغلالي الذي أقاموه على أديانهم المحرفة، والذي مزجوا فيه النعرات القبلية وتبجيل الأوطان بقداسة الملوك والكهنوت، فصارت أي محاولة لإعادة تصحيح المسار بمثابة التمرد وإعلان العصيان لتخريب المجتمع وزعزعة الاستقرار، وسيتبين لنا في مقالات أخرى أنه من السذاجة الاعتقاد بأن واضعي القصص الأسطورية كانوا مجرد باحثين أبرياء عن تفسيرات غيبية لظواهر طبيعية غامضة، وهو الافتراض الذي تبتدئ به كل نظريات علوم الآثار والإنثروبولوجيا الحديثة.
وعندما نتابع مسيرنا مرورا بمحطتي اليهودية والمسيحية، ويتبين لنا أن الكتب المقدسة لدى هاتين الديانتين قد تعرضت للفقد والتحريف والتبديل، فلن يتبقى للرواية الأخرى (المفترضة حتى الآن) سوى التحقق من صحة القرآن نفسه، وهو ما سندرسه بالتفصيل في النهاية إن شاء الله.
أهم المراجع ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.
فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.
فراس سواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق، 1998.
فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.
فراس سواح، مقال “معتقدات الشرق القديم: وثنية أم توحيد؟”، موقع معابر.
جون كيرتشر، كيف وُجدت الآلهة، ترجمة إبراهيم جركس، 1929، نسخة إلكترونية.
عبد المعطي شعراوي، أساطير إغريقية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982.
خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.
هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.
بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق عمر تدمري، دار الكتاب العربي، 1997.
كتب تفسير القرآن الكريم الكبرى، مثل تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي.
تتفاوت آراء المنظّرين بشأن تعريف العلمانية تفاوتا كبيرا، ويرجع ذلك في الغالب لزاوية النظر والمعالجة، وفيما يلي ثلاثة تعريفات للعلمانية في أهم الموسوعات الغربية:
معجم أكسفورد: كلمة secular تعني دنيوي أو مادي، أي ليس دينياً ولا روحياً، مثل التربية اللادينية والفن والتربية الموسيقى اللادينية والسلطة اللادينية، والحكومة المناهضة للكنيسة.
دائرة المعارف الأمريكية: العلمانية نظام أخلاقي مستقل مؤسس على مبادئ من الخلق الطبيعي، مستقل عن المظهر الديني أو الفوق طبيعي.
دائرة معارف الدين والأخلاق: العلمانية توصف بأنها حركة ذات قصد أخلاقي منكر للدين، مع المقدمات السياسية والفلسفية، فهي مؤسسة بقصد إعطاء نظرية معينة للسلوك والحياة، وهي تتبع في ذلك المذهب الوضعي الأخلاقي، منذ أن تكفلت بأن تعمل هذه دون الرجوع إلى الألوهية أو الحياة الآخرة، ولهذا فقد كان مطلبها هو تتميم وظيفة الدين خالية من الاتحاد الديني، ولذلك فإنه يجدر بها أن تكون ديناً إنكارياً سلبياً.
إذن فالعلمانية في المنظور الغربي تعني التحرر من الأديان بحكم التطور عبر “السيرورة” التاريخية، واعتبار الأديان مرحلة بدائية لأنها تشتمل على عناصر “خرافية” كالماورائيات والغيبيات، ولا يتم الخلاص من هذه الأعباء إلا عن طريق تحقيق النضج العقلي الذي تحققه العلمنة عبر آلياتها الثقافية والفكرية والإعلامية.
كثيرا ما يحصل اللبس عند القراء العرب، فيلفظون العلمانية بكسر العين بدلا من فتحها، ويعتقدون أنها مشتقة من العِلم، والصحيح أنها مشتقة من العالَم أي الدنيا في مقابل الغيب وكل ما يتعلق بالملكوت. لذا فالكلمة ليست إلا اشتقاقا خاطئا درج على ألسن العرب وصار مصطلحا لازما، وكان يجب أن يقال بدلا منها العالَمانية أو الدنيوية.
تعليقات ابن رشد على كتاب “في الروح” لأرسطو مترجمة للفرنسية
إرهاصات الظهور في أوربا
درج بعض الباحثين على ربط تبلور العلمانية بصفته تيارا فكريا بعصر النهضة الذي يؤرخ لبدايته عادة مع فتح القسطنطينية في عهد السلطان محمد الفاتح سنة 1453م، كما درجوا عادة على القول بأن مساوئ الكنيسة واضطهادها وتاريخها الأسود هي التي أنتجت العلمانية. لكن بدايات الصراع بين الفكر والكنيسة يمكن أن تُعد من آثار ترجمة فلسفة ابن رشد إلى اللغة اللاتينية منذ بدء احتكاك الأوربيين بالمسلمين عقب الحروب الصليبية، كما كان لليهود الذين تغلغلوا في الحركات السرية دور كبير في تأصيل العلمانية.
كان ميشيل سكوت أول من أدخل فكر ابن رشد إلى أوربا في القرن الثالث عشر. ومن المعروف أن ابن رشد تبنى مذهب أرسطو وانبهر به حتى كاد أن يفضّل أرسطو على الأنبياء حين قال “نحمد حمداً لا حد له ذاك الذي اختار هذا الرجل (أرسطو) للكمال فوضعه في أعلى درجات الفضل البشري التي لم يستطع أن يبلغها أي رجل في أي عصر كان”.
تزامن انتقال الفكر الرشدي إلى الغرب مع عاملين: الأول هو الفتح الثقافي الإسلامي والعربي للبلاد الأوروبية، ولم يكن ابن رشد وحده هو الذي يحتل الساحة الثقافية الأوربية بل أعلام كثر. أما الثاني فهو حالة العداء الشديدة التي تزعمتها الكنيسة لكل ما هو عربي وإسلامي إبان الحروب الصليـبية، لذا حاربت الكنيسة الفكر الرشدي وترجمت كتاب “تهافت التهافت” ترجمة محشوة بالتحريف والتناقض والافتراء، ومع أن ابن رشد كان يتبع أرسطو مثل الكنيسة، إلا أن الكنيسة حاربته لكونه مسلما في الأصل.
شعار جامعة بادوفا
وهكذا نشأت حركة تعاطف مع الحضارة الغازية من جانب الراغبين في التحرر من الاحتكار الكنسي للعلم والثقافة، فالكنيسة اضطهدت الفكر الرشدي واعتبرته إلحاديا، بينما رحب المتمردون بهذه الصورة التي رُسمت لابن رشد وفكره واستُخدمت كسلاح مضاد للكنيسة.
احتلت “الرشدية” مقام السيادة في الجامعات الغربية الكبرى مثل جامعة بادوفا في إيطاليا التي أصبحت معقل الرشديين، ثم وجدت لها صدى في الجامعة الباريسية، وصارت الرشدية معياراً للثقافة والتحضر والرقي.
الحقيقة المزدوجة
في أوائل القرن السادس عشر أصبحت الرشدية تسيطر على جميع إيطاليا تقريباً، وأدى ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر إلى انتشار الأفكار المناهضة للكنيسة والعقائد الشائعة، كما استطاع الأفراد أن يمتلكوا نسخاً من الكتاب المقدس ويقرؤوه بأنفسهم. وبدأت الكنيسة تفقد سلطانها على العقول والأفكار.
وهنا نشأت الحقيقة المـزدوجة أو الحقيقة ذات الوجهين، وهي تعني أنه يمكن للشيء أن يكون صادقاً فلسفياً وخاطئاً لاهوتياً أو العكس، وبذلك يصبح الفيلسوف حراً في المجاهرة بآرائه ونتائجه في مجال الفلسفة بحجة أنه فيلسوف حتى لو كانت مخالفة للدين.
فرنسيس بيكون
ثم ظهر في بريطانيا فرنسيس بيكون 1561– 1626م كمدافع عن نظرية الحقيقة المزدوجة، وهي تعني عنده أن ما يثبت بالعقل لا علاقة للإيمان به، وبالنتيجة ساد الاعتقاد بأن الكتاب المقدس شيء، وكتاب الطبيعة شيء آخر.
ولم يكن الفلكي الإيطالي غاليليو 1564– 1642م بعيداً عن هذه النظرية، كما استمات الفيلسوف باروخ سبينوزا 1632- 1677م في الدفاع عنها متدثرا بغطاء دينه اليهودي.
وبالرغم من التناقض الظاهر في هذه النظرية، فقد أصبحت وسيلة للتمويه لدى الكثيرين حتى في العصر الحديث، وكان طه حسين من أوائل العرب الذين تبنوها عندما نشر كتابه “في الشعر الجاهلي”، حيث شكك في وجود بعض الأنبياء مع اعترافه في الوقت نفسه بأنه مقر بكل ما جاء في القرآن الكريم.
ثورة العقل الأوربي
بدأت ثقة الناس تتزعزع في الكنيسة عندما وجه الفيلسوف الإيطالي مكيافلي 1469– 1527م انتقادات فاضحة إلى رجالها الذين يحيون حياة الرذيلة في حين يدعون الناس إلى الزهد والتقشف، ثم تفاقمت نزعة التمرد على يد فريدريك نيتشه 1844– 1900م الفيلسوف الألماني اليهودي الذي نادى بالقضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء لأنه يؤمن بالبطل وبالإنسان الأعلى الذي يجب أن يستعيض بالقوة عن الأخلاق، مستبطنا عقيدة الشعب اليهودي المختار.
مارتن لوثر
تزامنت المبادئ المكيافلية مع ثورة القس مارتن لوثر 1483– 1546م في ألمانيا عام 1518م داخل الكنيسة للإصلاح الديني، فقد جعل لوثر الفرد حراً في قراءة الكتاب المقدس وحراً في تفسيره، وألغى وساطة الكهنـة والأسرار المقدسة التي تحتفظ بها الكنيسة، وجعل الصلة مباشرة بين الله والإنسان الفرد، فتأسس على يديه مذهب البروتستانتية.
ورحبت الطبقة المتوسطة بالبروتستانتية لأنها رأت فيها منفذاً يتيح لها ممارسة الحياة بحرية، وأصبح الكثيرون لا يذكرون الدين إلا يوم الأحد وينهمكون بقية الأسبوع في الحياة الدنيوية.
في هذه المرحلة كان الفلكي كوبرنيكوس 1473– 1543م متردداً في طرح نظريته الجديدة لأنها تهدم نظام الفلك الأرسطي الذي تتبناه الكنيسة، فبدلاً من النظرة التي كانت تعتبر الأرض مهد المسيح وقلب الكون جعلت النظرة الجديدة الشمس مركزاً والأرض مجرد كوكب يدور حولها، فرفض زعيما البروتستانتية مارتن لوثر وكالفن 1509– 1564م هذه النظرية.
جيوردانو برونو
تبنى الإيطالي جيوردانو برونو 1548– 1600م نظرية الفلك الكوبرنيكي ووضع نظريته في “الكون اللامتناهي”، وقال إن الإله هو روح الكون، وإن الإله والطبيعة الجوهرية شيء واحد، وهذه فلسفة قديمة تسمى “وحدة الوجود” تؤمن بأن الإله يتحد مع الكون، فحكمت عليه الكنيسة بالإعدام حرقا، ويعتبره أتباع الجمعيات السرية اليوم (المتنورون أو الإلوميناتي) من رموزهم و”شهدائهم”.
ثم خرج جوليو سيزار فانيني 1585– 1619م بهرطقاته الإلحادية ونفى وجود الإله لكي لا ينسب إليه الشر، فقُبض عليه وأعدم حرقاً في مدينة تولوز بفرنسا. وفي أسكتلندا أنكر جون الأسكتلندي التثليث وألوهية المسيح، وقيل له ذات يوم ألا تذهب إلى الكنيسة؟ فقال ليذهب الإله إلى حبل المشنقة، فذهب هو إلى حبل المشنقة.
وقد قدّر سكرتير التفتيش في إسبانيا لورنتي عدد الضحايا الذين تم إحراقهم بحكم الكنيسة ما بين عامي 1790 و1792م بنحو ثلاثين ألف شخص، مما زاد من كراهية الناس للكنيسة وللأديان جميعا.
تمثال كوبرنيكوس
الحتمية الفلكية الميكانيكية
في النصف الثاني من القرن السادس عشر، بدأت نظرة الإنسان الغربي إلى الكون بالتغير مع شيوع نظرية كوبرنيكوس، فاعتنقها كبلر وغاليليو، ثم أيد الأخير الانفصال التام بين العلم والإيمان، وأنجز الإنجليزي إسحاق نيوتن انتصارات علمية كبيرة بتقديم قانون الجاذبية وقوانين الحركة.
وترافقت هذه النظريات مع اكتشافات علمية كبرى، فاكتشف ليفنهوك 1632– 1723م الكائنات العضوية أحادية الخلية والبكتيريا والحيوانات المنوية، واخُترع الميكروسكوب المركب والتلسكوب، كما اخترع غاليليو الترمومتر، وقدّم تلميذه تورشيلي البارومتر، ثم ظهرت مضخة الهواء والقوة المغنطيسية، وأعلن هارفي اكتشاف الدورة الدموية مع أن ابن النفيس كان قد سبقه إليها.
أدى كل ذلك إلى تغير نظرة الإنسان للكون، وسيطرت النظرة الآلية الميكانيكية على العلماء والفلاسفة حتى أصبح الكون يُشبّه بالساعة، وهكذا تحول الإله في نظر الفلاسفة والعلماء إلى ساعاتي رفيع المقام، بل تخيلوه إلها ساكنا غائبا عن العمل، لأن قوانين الطبيعة والكون أصبحت حتمية فلم يعد للإله دور حسب فهمهم، لكنهم أبقوا مع ذلك على دور الإله الخالق في تكوين الكون بالبداية.
وسيطرت هذه النظرة الآلية لمدة قرنين من الزمن على الفكر الأوربي وسميت بمبدأ الحتمية، وظل النزاع بين الحتمية واللاحتمية قائما حتى ظهرت فيزياء الكم ونظرية هايزنبرغ (اللايقين) في القرن العشرين، حيث سقط مبدأ الحتمية واستعاد الإنسان تواضعه، وأعيد الاعتبار للإيمان بالخالق المُسيّر والمدبر للكون [انظر مقال مصادر المعرفة].
التدرج نحو الإلحاد
يُعتبر فرنسيس بيكون من أبرز الفلاسفة الذين نادوا باعتماد المنهج التجريبي بدلا من المنهج النظري الفلسفي، علما بأنه أخذ معظم مبادئ المنهج من المسلمين في الأندلس ومن كتابات الحسن بن الهيثم. وكان يرى أن الحركة الطبيعية للذرة هي حقاً أقدم قوة في الوجود، وأنه لا يمكن أن تكون لهذه المادة الأولية وقوتها وفعلها أي علة طبيعية فما من شيء يسبق المادة نفسها وكأنها غير محتاجة للإله.
توماس هوبز
أما توماس هوبز 1588– 1679م فرأى أن جوهر الدين لا يقوم على الحقائق، وإنما على خوف الفرد من القوة المجهولة أو خوفه من الموت.
ثم جاء الإنجليزي جون لوك 1632– 1704م وقال إنه لم تبق حاجة للوحي طالما أن الإله أعطـانا وسائـل حسية أكثر يقينـاً لنتـوصل بهـا إلى المعرفة، أما ديفيد هيوم 1711– 1776م فتبنى نزعة الشك على طريقة بعض قدماء الإغريق، وكاد أن يوقع العقل الأوربي في دوامة رهيبة من الشك في كل شيء.
وإلى جانب التجريبيين كان هناك عدد من الفلاسفة العقلانيين، وعلى رأسهم الفرنسي رينيه ديكارت الذي استخدم الشك ليصل به إلى اليقين، ومع ذلك كان إيمانه قاصرا ويشبه إيمان أتباع النظرة الآلية كما يقول بعض الباحثين.
ثم جاء بعده ليبنتز 1646– 1716م وقال إن الوجود مكون من شيء خيالي اسمه “المونادات” وهي خالدة، ما يعني أن العالـم لانهـائي، لكنه كان يؤمن بوجود الخالق.
وتولد من الصراع بين الفلكيين والتجريبيين والعقلانيين ظهور “الدين الربوبي” أو “الدين الطبيعي”، ويسمى أتباعه بالربوبيين، وهم يؤمنون بالله عز وجل، ويرفضون النبوة والوحي والكنيسة. وازدهرت في القرن الثامن عشر بلندن “جمعية البحث الحر المخلص” التي كان معظم أعضائها من المؤمنين بالدين الطبيعي.
فولتير
وفي فرنسا كان دنيس ديدرو وفولتير وجان جاك روسو من أنصار هذه النزعة، مع إيمانهم بوجود إله. وظهر بعدهم الإنجليزي جون ستيوارت مل 1806– 1873م الذي شكك في وجود الإله، ثم انضم إليه الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس 1842– 1910م الذي اعترف مبدئياً بأن مصدر مذهبه في الألوهية ليس النظام في الكون والاتساق فيه، وإنما إحساس شخصي بالحاجة إلى إله.
وسار بهذه الأفكار فلاسفة آخرون مثل صمويل ألكسندر وماكس شيلر وبرايتمان وتشارلز هاتشورن وهنري برغسون وألفرد نورث هوايتهد، وكانت لدى بعضهم أفكار تنتقص من قدسية الإله.
وفي هذه الأجواء تمكن الألماني نيتشه من إعلان إلحاده والقول بأن الإله قد مات، حيث أراد بذلك إفساح الطريق أمام الإنسان ليصبح إلهاً، ثم لحق به فيورباخ 1804– 1872م، وأصبح الطريق سالكا لليهودي الألماني كارل ماركس 1818– 1883م ليرفض الألوهية من أساسها ولا يعترف إلا بالمادة.
حاول الألماني إمانويل كانط 1724– 1804م أن يتصدى للتيار المادي الإلحادي فواجه صعوبات جمة، إذ كان مذهبه نفسه محملا ببذور الشك واللاأدرية، لكنه قال إن الإيمان بالإله ضروري لأسباب أخلاقية بحتة، مُرجعا الدين إلى العاطفة المجردة.
العلمانية السياسية
كنتيجة لشيوع العلمانية (الدنيوية) في الحياة والفكر والعلم، وبدء التحول الاقتصادي نحو الرأسمالية، وتزايد أتباع المذهب البروتستانتي الجديد، أصبح الطريق ممهدا أمام فصل الدين عن السياسة أيضا، وساعد على ذلك تبني بعض الملوك والنبلاء للعقيدة البروتستانتية الجديدة التي سمحت لهم بالتمرد على الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، حيث ظل بابا الفاتيكان لقرون الجهة الوحيدة التي تمنح الشرعية لملوك أوربا.
توقيع معاهدة وستفاليا
استُخدم مصطلح العلمانية “سكيولاريزم” secularism بالإنجليزية لأول مرة سنة 1648م عند توقيع صلح وستفاليا الذي يعد موعد ظهور الدولة القومية الحديثة، وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة، مثل الإشارة إلى علمنة ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطة الدولة التي لا تخضع لسلطة الكنيسة.
تضمن صلح وستفاليا معاهدتي سلام لإنهاء حرب الثلاثين عاماً داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة (ألمانيا وجوارها اليوم) وحرب الثمانين عاماً بين إسبانيا ومملكة هولندا. ورفض ممثل البابا أن يوقع على الصلح لكن أوروبا تجاهلت هذا الاحتجاج ونجحت للمرة الأولى في الحد من سلطة الفاتيكان.
تخلت الكنيسة الكاثوليكية بموجب هذا الصلح عن قرار إعادة أملاك الكنيسة، وصار من حق الأمراء تقرير عقيدة رعاياهم، وتم الاعتراف رسمياً بكنيسة الإصلاح أو الكنيسة الكالفنية (بروتستانتية)، وتم الفصل تدريجيا بين الدين والدولة، حيث أصبحت السلطة قائمة على المصالح الدنيوية وليس على الشرعية الممنوحة من رجال الكهنوت، كما أصبحت الشعوب مرتبطة فيما بينها برابط الهوية القومية (العنصرية) وليس على الأخوة بين أتباع الدين الواحد.
تدريجيا أصبحت العلمانية هي المنهج الوحيد المتبع في أنظمة الحكم بالدول الغربية مع اختلافات طفيفة في التطبيق، ثم انتشرت العلمانية في معظم دول العالم، وترتبط العلمانية سياسيا بالديمقراطية من حيث المبدأ، مع أن الكثير من الأنظمة العلمانية تمارس أقصى درجات الاستبداد، وتعتبر الثورة الفرنسية (1789م) نقطة بدء التطبيق العملي للعلمانية السياسية.
أصبحت المقصلة رمزا للثورة الفرنسية لكثرة استخدامها في عمليات الإعدام لكل من كان يُعتبر عدوا للثورة والعلمانية
يعتمد نظام الحكم العلماني على إقصاء الدين عن السلطة، ويقابله النظام الثيوقراطي الذي تتربع على قمته طبقة الكهنوت، ويرى المفكرون الإسلاميون أن الحكم الإسلامي ليس ثيوقراطيا لعدم وجود مؤسسة دينية كهنوتية في الإسلام، فعلماء الشريعة يتلقون العلم ويقدمون اجتهاداتهم دون طبقية، والحاكم المسلم ينفذ قوانين الشريعة ويحمي “بيضة الإسلام” دون امتلاك حق (تفويض) إلهي ولا شرعية مطلقة، بل هو مطالب بالالتزام بالشرع كما يُلزم به بقية الشعب دون امتياز.
وتمثل مرحلة الخلافة الراشدة النموذج التطبيقي لهذه المبادئ، ومع أن المراحل التالية شهدت تراجعا كبيرا في التطبيق، لا سيما مع ظهور طوائف وفرق أخرى مثل الإسماعيلية التي أنشئت على أسسها الدولة الفاطمية وإمارات القرامطة والحشاشين، إلا أن الإسلام ظل عصيا على التحول إلى أيديولوجيا كهنوتية مؤسسية، لأن القرآن ظل محفوظا عن التحريف والتشويه، ولأن سنة النبي وخلفائه في الحكم الراشد لا يمكن طمسها، فكل مخالفة لمبدأ توحيد الله وحده ولتحرير البشر من تقديس الملوك والكهنة هي تجاوزات سياسي سلطوية تتعارض جوهريا مع عقيدة الإسلام وشريعته وليست محسوبة على الإسلام نفسه. [انظر كتاب الإسلام ليس أيديولوجيا، د.هاني نصري، دار الفكر].
أما الحكم الثيوقراطي المسيحي، الذي قامت على أنقاضه العلمانية، فكان يستند إلى فكرة مفادها أن البابا هو الممثل المعصوم للمسيح وأنه مؤيَّد بالروح القدس، لذا فهو يمثل سلطة الإله على الأرض ويحق له وحده منح الشرعية للملوك والأمراء كي يحكموا الشعوب.
إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أعلنته السلطة الثورية في فرنسا عام 1789 ويظهر في قمته شعار المتنورين الماسون
دور الحركات السرية
تميل الرواية السائدة في المراجع التاريخية والدراسات الأكاديمية إلى أن الفكر العلماني بدأ بالتشكل في القرن الخامس عشر في أوروبا على يد المفكرين “المتنورين” الذين تمردوا على تحالف سلطة الكنيسة والحكم الوراثي الإقطاعي، وأنهم تجاوزوا الأفكار “المدرسية” الكهنوتية للعودة إلى الميراث الإنساني الذي تراكمت فيه خبرات حضارات سابقة والاقتباس منه، فاستلهموا بعض أفكارهم من شريعة حمورابي وتجربة أثينا الديمقراطية وخبرة فلاسفة روما، وبذلك تصبح العلمانية -حسب هذه الرؤية- نتيجة طبيعية للتطور الإنساني من مراحل الاستبداد والعبودية والاعتقاد بالأساطير إلى مرحلة الإقرار بحقوق الإنسان البديهية وحرية التعبير ورفع يد الحكومة والكهنوت عن معتقدات الناس، واعتماد المنهج التجريبي للسيطرة على الطبيعة بدلا من الركون للخرافة، أو بحسب تعبير ماكس فيبر “نزع السحر عن العالم”، وتكون العلمانية بذلك أيضا حصيلة نضال طويل مفعم بالبطولات والتضحيات في سبيل خير البشرية وتحررها.
لكن الباحثين في تاريخ الحركات السرية، وكذلك بعض المختصين في مقارنة الأديان، ويتبعهم عدد من المفكرين والمؤرخين المسيحيين والمسلمين، يؤكدون أن الفكر العلماني لم يتشكل بهذه الطريقة الطبيعية البريئة وعبر الاحتكاك والصدام بين الحضارات ووجهات النظر، بل يؤكدون أنها نتاج تدخل واع وخطة مدبرة من قبل تحالفات عديدة تشمل عبدة الشيطان وبعض سلالات بني إسرائيل، وأنه تم تدبيرها في محافل ومعابد الجمعيات السرية، وعلى رأسها الماسونية وجمعية النور البافارية (إلوميناتي) وجمعية الصليب الوردي (روزكروشين). [Nesta Webster, Secret Societies and Subversive Movements].
ويرى هؤلاء الباحثين أن العوامل الظاهرة، كالصراع الطبقي والتقلبات السياسية والاقتصادية، كانت أدوات موضوعية وظروفا مؤاتية استفاد منها أقطاب الجمعيات السرية لبث أفكارهم في المجتمعات، بهدف إقصاء الأديان عن التأثير في الأخلاق والرؤى العامة للحياة، ولإعادة بناء المناهج الفكرية والأنظمة السياسية في “النظام العالمي الجديد” على مبادئ دنيوية مجردة. فالباحثون لا ينكرون وجود تلك العوامل المؤكدة تاريخيا ويرون أنها الجزء الظاهري فقط من الحدث التاريخي.
ويقدم أصحاب هذه الرؤية عددا من الأدلة، ونذكر منها بإيجاز ما يلي:
1- كان الكثير من مؤسسي الفكر العلماني في مراحل تشكله الأولى أعضاء في جمعيات سرية أو مقربين منها، بل كان بعضهم قادة كبارا فيها، مثل فرنسيس بيكون وإسحاق نيوتن وفولتير، وتكشف بعض المراسلات والوثائق عن دورهم في إقصاء الأديان ونشر العلمنة كأحد أهم مشاريع جمعياتهم السرية [انظر: كتاب الوحي ونقيضه للمؤلف بهاء الأمير]. وفي العالم الإسلامي تولت المحافل الماسونية داخل الدولة العثمانية وخارجها هذا الدور حتى تم الإجهاز على نظام الخلافة، وكان الكثير من مروجي العلمانية في الأوساط الفكرية والأدبية من أعضاء المحافل الماسونية التي تشكلت في دمشق وبيروت والقاهرة [انظر مقال الماسونية].
2- لعبت طائفة من اليهود الأشكناز والسلالات الإسرائيلية دورا جوهريا في ترويج المذهب البروتستنانتي لمواجهة الكاثوليكية وتسلط البابا على أوروبا، كما كان لهم دور في معاهدة وستفاليا التي قوضت سلطة الفاتيكان [انظر كتاب: اليهود والماسون في الثورات والدساتير للمؤلف بهاء الأمير]. ويقول الباحثون إن اليهود وجدوا في العلمانية الحل الوحيد للقضاء على سلطة الكنيسة التي اضطهدتهم. [انظر مقال المسيحية المتصهينة].
3- تعتبر الثورة الفرنسية من أهم المفاصل التاريخية التي جعلت العلمانية أساسا للنظم الدستورية والمناهج الفكرية في العصر الحديث، ولا يخفى على الباحثين من كل التيارات دور المحافل الماسونية في نشر أفكار الثورة قبل اندلاعها، كما لعبت الماسونية أيضا الدور الأهم في وضع الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان بعد تأسيسها على النظم الحديثة، وفي فرضها على العالم أجمع عبر الأمم المتحدة ومنظماتها، وذلك وفقا للمبادئ العلمانية. [انظر مقال الماسونية].
انتقال العلمانية للعالم الإسلامي
بعد إقامة النظم السياسية الأوروبية على المبادئ العلمانية، سعت تلك الدول إلى نقل العلمانية للعالم الإسلامي، ويمكن القول إن بداية تسلل العلمانية إلى العالم الإسلامي كانت بالتلفيق من داخل الفكر الديني. فكما بدأت العلمانية في أوروبا بالتمرد على الكنيسة عبر حركة الإصلاح الديني ثم انتهت إلى العلمنة الشاملة؛ نشأت في المقابل حركة إصلاح وتجديد ديني في بعض الأقطار الإسلامية بأواخر القرن التاسع عشر، وكان روادها من الفقهاء المحسوبين على العلم الشرعي، والذين استفاد من أفكارهم العلمانيون العرب لاحقا.
محمد عبده
يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري إن إدخال الأفكار الوافدة بعد تشذيبها ضمن المركب التوفيقي لا يضمن أنها ستبقى دون تأثير خطير، وأنها ستظل منضبطة بالحدود الاعتقادية الدينية. فنظراً لكونها وافدة من حضارة أخرى فإنها تحتفظ في باطنها بطبيعتها الأصلية والمباينة للطبيعة الإسلامية، وتتحرك –بوعي أو دون وعي من التوفيقيين الذين قبلوها بشروطهم- حسب قوانينها الوافدة معها، إلى أن تؤثر على الفكر التوفيقي كله وتوجهه وجهة جديدة لم تكن في حسبان التوفيقيين في البداية. وهذا ما حدث بالضبط عندما صرّح كبار العلمانيين العرب بوفائهم لمدرسة الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده [الفكر العربي وصراع الأضداد للأنصاري، ص 262].
وفيما يلي أمثلة للدول التي تسللت إليها العلمانية عبر بعض المفكرين وبدعم غربي دبلوماسي أو عسكري (بالاحتلال المباشر لاحقا)، وصولا إلى قلب أنظمة الحكم الإسلامية وتمكين العلمانيين من السيطرة على سدة الحكم والجيوش والجهات الأمنية والإعلام ومناهج التعليم.
الجامعة الأمريكية في بيروت
لبنان: يعد هذا البلد الصغير البوابة التي تسلل منها الغرب إلى الشرق الإسلامي منذ بدأت بوادر الضعف تدب في جسد الدولة العثمانية، فتذرع الأوروبيون بحماية الأقليات المسيحية في لبنان وسورية للتدخل بهذه المنطقة سياسيا وتعليميا، كما احتضنت الجامعات والمدارس في إيطاليا وفرنسا طلبة مشرقيين مسيحيين لتلقينهم المبادئ العلمانية بهدف نشرها في المشرق.
وقد شرح الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر هذه السياسة بصراحة مدهشة في منتصف القرن العشرين، فقال “كنا نُحضر أبناء رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في لندن وباريس وأمستردام، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويرتدون السترات والسراويل، ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا نزوج بعضهم من أوربا، ونلقنهم أسلوب
سارتر
الحياة على أثاث جديد، وطرز جديد من الزينة، واستهلاك أوربي وغذاء أوربي، كما نضع في أعماق قلوبهم أوربا، والرغبة في تحويل بلادهم إلى أوربا، ثم نرسلهم إلى بلادهم حيث يرددون ما نقوله بالحرف تماماً مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض، هذه أصواتنا تخرج من أفواههم، وحينما كنا نصمت كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت أيضاً، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاساً صادقاً وأميناً لأصواتنا من الحناجر التي صنعناها، ونحن واثقون أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم، وليس هذا فحسب، بل إنهم سَلبوا حق الكلام من مواطنيهم” [يحيى هاشم فرغل، العلمانية بين الخرافة والتخريب، ص 270].
وبالتزامن مع تعليم بعض الطلاب النابغين في الجامعات الأوروبية، افتتح الغربيون جامعات ومدارس كثيرة في لبنان لتنشئة الجيل على التغريب، وكانت الجامعة الأمريكية البروتستانتية التي أُسست في بيروت سنة 1866م أحد المراكز الرئيسة للتبشير ولإشاعة الثقافة العلمانية في الوقت نفسه. فتخرج منها الرهط الأول من العلمانيين وعلى رأسهم شبلي شميّل ويعقوب صرّوف وفارس نمر وجرجي زيدان.
“قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميِّل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وسلامة موسى، وولي الدين يكن، ولويس عوض، وغيرهم.. يدْعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي: فصْل الدين عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع. والملاحَظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام، الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ولا ينتسبون إلى الإسلام ديناً أو حضارة، وتربَّوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير. فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخْذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوْا إليه، ورأوه ماثلاً في تقدم الغرب الفعلي”.
[حسن حنفي، كتاب حوار المشرق والمغرب، 35-366].
نابليون أمام تمثال أبو الهول بريشة جان ليون جيروم
مصر: كانت حملة إمبراطور فرنسا بونابرت التي بدأت سنة 1798م بداية الغزو الحديث، فرافقتها ملابسات وأعراض مرضية أخذت تتفشى وتنتشر في المجتمع المصري من أزياء وعادات وأخلاق، كما حرص نابليون على زرع بذور الفكر العلماني في عقول النخبة لتنمو لاحقا وتؤتي ثمارها على يد سلامة موسى وأمثاله.
وبعد أن خرج الفرنسيون من مصر استولى الألباني محمد علي على حكم مصر ما بين عامي 1805 و1848م، وكان من أبرز مشاريعه إرسال بعثات الطلاب إلى فرنسا، فانبهر بعض الطلاب بالحضارة الغربية هناك إلى درجة كبيرة، حتى إن الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي رافق طلاب البعثة الأولى إلى فرنسا ليؤمهم في الصلاة ويحافظ على تدينهم كان من أكثر المنبهرين بالغرب، ونجد ذلك واضحا في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.
وفي ظل الاحتلال البريطاني (1882-1952م) بدأت العلمانية رسميا بالظهور، وساهم في الترويج لها مثقفون ينتمي معظمهم لأقليات غير مسلمة، مثل يعقوب صروف وفارس نمر ونقولا حداد، ثم ركب الموجة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق عندما نشر كتابه “الإسلام وأصول الحكم” محاولا فيه تبرير فصل الدين عن الدولة.
وفي عام 1919 تأسس أول كيان سياسي علماني تحت اسم الحزب العلماني الذي غير اسمه لاحقا إلى حزب الوفد، ونال شعبيته من مناهضته للحكم الملكي والاحتلال البريطاني، وعندما قام الجيش بانقلاب عسكري في الخمسينات تم اعتماد العلمانية بالقوة وقُمع الإسلاميون وعلى رأسهم جماعة “الإخوان المسلمون”.
تركيا: كان ضياء كوك ألب 1875- 1942م يردد في تركيا نفس أفكار سلامة موسى وطه حسين، فدعا إلى سلخ تركيا عن ماضيها، وتكوينها تكويناً قومياً خالصاً، كما اعتبر تركيا صانعة للحضارة الغربية باعتبارها امتدادا لحضارة المتوسط.
وبعد مؤامرات طويلة ساهم فيها الماسون ويهود الدونمة، نجح الضابط مصطفى كمال أتاتورك 1881- 1934م في تطبيق أفكار ضياء كوك ألب بانقلابه على الدولة العثمانية عام 1924، وكان جريئا في محاربة الإسلام عندما قال إنه “يخنق الطموح في نفوس أصحابه”، ثم اتخذ خطوات بعيدة في اتجاه التغريب وإعلان العلمانية منهجا قسريا للدولة، فألغى استخدام الحرف العربي وأحل مكانه الحرف اللاتيني حتى لا يتمكن الأتراك من قراءة الكتب الإسلامية، كما ألغى وزارة الشؤون الدينية وحلّ المنشآت الدينية والمحاكم الشرعية، ووضع قانونا جزائيا جديدا بناء على القانون السويسري، وفي عام 1928 ألغى اعتماد الإسلام كدين رسمي للدولة.
في كتابه “العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين”، يقارن الباحث التركي أحمد كورو بين التجربتين العلمانيتين المتطرفتين في فرنسا وتركيا، ويقول إن المتدينين الكاثوليك الفرنسيين تحالفوا مع النظام الملكي واستخدموا أدوات القهر والعنف للإبقاء على النظام الاستبدادي، وحاربوا القوى الثورية الفرنسية المدعومة شعبيا، أما في تركيا العثمانية فكان المتديِنون في صف الإصلاحيين السلميين في مقابل انخراط العلمانيين في الجيش، وعندما أسقطوا حكم السلطان حاولوا الحدَّ من صلاحيات البرلمان المنتخَب بالهيمنة التامة على الرئاسة والجيش والقضاء. ويضيف أن المجتمع الفرنسي تقبل العلمانية الديمقراطي الحرّة بعد انتصار الثورة وما زال ينبذ العودة إلى الكنيسة حتى الآن، في حين قهرت العلمانية التركية بالقوة كل محاولات الشعب التركي للعودة إلى الحكم الإسلامي. [أحمد كورو، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين: الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا، ص 369 وما بعدها].
سيد أحمد خان
الهند: كان سيد أحمد خان 1817– 1898م من أوائل الداعين إلى العلمانية والتغريب، وكان متعاوناً مع الإنجليز حيث سعى لإخماد ثورة عام 1857م، فكافأه الإنجليز براتب شهري، ومن أقواله “لا بد أن يرغب المسلمون في قبول هذه الحضارة الغربية بكمالها حتى لا تعود الأمم المتحضرة تزدريهم أعينها، ويعتبروا من الشعوب المتحضرة المثقفة”.
إيران: كرر تقي زادة نفس مقولات العلمانيين، ومن أقواله “فلنلق بقنبلة الاستسلام للأوروبي في هذه البيئة ولنفجرها. والخلاصة: لنصبح أوروبيين من قمة الرأس إلى أخمص القدم”. وعندما عُين رضا بهلوي ملكا على البلاد عام 1925 أصبحت إيران دولة علمانية.
تونس: طالب عبد العزيز الثعالبي -قبل اعتداله- بالاستسلام للحضارة الغربية، ودعا إلى تأويل القرآن تأويلاً “صحيحاً” أي بما يناسب مبادئ الثورة الفرنسية كي يتحضر الإنسان المسلم، حسب رأيه. وقد تبعه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بعد خروج المحتل الفرنسي وتأسيس الجمهورية التونسية العلمانية، وتُنسب إلى بورقيبة العديد من التصريحات المعادية للإسلام ومقدساته، ومنها قوله إن القرآن الكريم متناقض ولا يقبله العقل.
عبد الوهاب المسيري (موقع المسيري)
العلمانية والإسلام
يرى المفكر اليساري المصري عبد الوهاب المسيري أن العلمانية تتفرع إلى تيارين رئيسين، هما:
1- تيار العلمانية الكلية الشاملة، وهو مادي يطمح إلى تحرير الحياة بجميع ميادينها وتحرير الإنسان في كل عوالمه من الدين بكل أبعاده القيمية والقانونية والشعائرية، وتُعد الماركسية من نماذج هذه العلمنة الكلية والشاملة.
2- تيار العلمانية الجزئية الذي لا ينكر الإيمان بالله والدين، ولكنه يقف بالدين عند العلاقة الفردية بين الإنسان والله، وعند الشعائر العبادية، وبعض القيم الأخلاقية لمن يريد، بينما يرفض كل تدخل للدين في تدبير الدولة والاجتماع الإنساني، فهو يكتفي بفصل الدين عن الدولة.
وكان المسيري رحمه الله يتبنى العلمانية الجزئية ويرى أنها لا تتعارض مع الإسلام، وهو أمر يوافقه عليه المفكر التونسي راشد الغنوشي، الذي يرى أن “العلمانية ظهرت وتبلورت في الغرب كحلول إجرائيّة لا كفلسفة أونظرية في الوجود”، ما يعني أنها لا تتناقض مع الإسلام. لكن الكثير من الباحثين يخالفون هذا المفهوم، فحتى المسيري كان يقر من البداية بأن العلمانيتين الشاملة والجزئية من حيث الجوهر شيء واحد، لذا فحتى لو اقتصرت الجزئية على بعض الإجراءات دون أن تتصادم مع الدين فإنها تعود في النهاية إلى مرجعية دنيوية “إنسانوية” في مقابل المرجعية الإلهية التي لا تقبل التجزئة في الإسلام.
أما الكاتب المصري فهمي هويدي فيميز بين تيارين علمانيين، يسميهما المتطرفين والمعتدلين، ويرى المسيري أنهما يقابلان إلى حد ما العلمانيين الشامليين والجزئيين عنده، حيث يُعرف هويدي المتطرفين بأنهم ضد الشريعة والعقيدة معا، وأنهم يعتبرون الإسلام مشكلة يجب استئصالها، أما المعتدلون فيعتبرون أنه يمكن التعايش مع الإسلاميين إذا أقيم حاجز بين الدين والسياسة، ويرى هويدي أن من حق المعتدلين المشاركة في الحياة السياسية للمجتمع الإسلامي.
وهذا الرأي لا يلقى موافقة لدى كثير من المفكرين الإسلاميين كما ذكرنا، فهناك خلاف في الوسط الإسلامي بين رأيين، الأول يتقبل وجود العلمانية “المعتدلة” في المشهد السياسي للدولة الإسلامية (وهي دولة غير موجودة بالواقع حاليا)، سواء بحكم ضرورة التدرج ومقتضيات العصر أو لأن ذلك لا يتعارض مع جوهر الدين، والرأي الثاني يرفض وجود أي تيار سياسي علماني حتى لو كان “معتدلا” [انظر كتاب العلمنة من الداخل للمؤلف البشير المراكشي].
كما يرفض بعض المفكرين مصطلح “العلمانية المعتدلة” بغض النظر عن القبول بوجودها في الوسط السياسي، لاعتقادهم بأن دين الإسلام جاء لهداية الناس إلى ما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة، فالشريعة تشتمل على شعائر الدين ومبادئ السياسة وأحكام المعاملات، وتحديد الإطار العام للنظام السياسي يستند إلى الوحي، فيرى هذا التيار أن مساندة السياسة العلمانية -حتى لو كانت معتدلة- تؤدي إلى الكفر.
بيغوفيتش
وقد أصدرت المديرية العامة للإفتاء في المملكة العربية السعودية بيانا تقول فيه «إن كل من يؤمن بأن هناك توجيها أكثر كمالا من تعاليم الرسول أو أن حكم أي شخص كان أفضل من حكم الرسول فهو كافر»، وفصّلت الرأي الشرعي في ذلك بالقول إن هناك “انحرافا خطيرا” عن مبادئ الإسلام لدى كل من يعتقد بأن القوانين التي تصدر عن الإنسان تسمو على أحكام الشريعة أو يرى أن الإسلام يقتصر على علاقة الفرد مع الله وليس له أي علاقة مع الشؤون اليومية للحياة.
ويقول المفكر المصري طارق البشري “لا يمكن أن تتوافق العلمانية والإسلام إلا عن طريق التلفيق أو ابتعاد كل منهما عن معناه الحقيقي”.
أما المفكر والرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش فيقول في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” إن الدين هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، وإنه هو الأصل الذي زرع الضمير الأخلاقي في البشرية المستمر حتى اليوم بالرغم من خفوت أثره بسبب انتشار العلمانية، ويضيف أن “المجتمع العاجز عن التدين، هو أيضا عاجز عن الثورة”.
وبدوره، يقول الدكتور محمد البهي في كتابه “العلمانية وتطبيقها في الإسلام: إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الأخر” بعد أن عرض لشمولية الإسلام في جميع جوانب الحياة وعدم قابليته للتجزؤ: “وبما عرضناه هنا من مبادئ الإسلام كما تذكرها آيات القرآن الكريم، نجد أن الإسلام نظام شامل لحياة الإنسان ومترابط في مبادئه وفي تطبيقه لا يقبل التجزئة بحال وقصر التطبيق على جانب مثلاً في حياة الإنسان أو على جانبين فأكثر من جوانب هذه الحياة دون باقي الجوانب الأخرى، معناه إفساح مكان لهوى الإنسان بجانب ما يطبق من مبادئ القرآن”.
“العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة” [مقدمة ابن خلدون، ص 1899].
أهم المراجع عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، 2002.
عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، 1998.
روجيه غاروي، النظرية المادية في المعرفة، ترجمة إبراهيم قريط، دار دمشق.
محمد عمارة، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، دار الرشاد، 1997.
يوسف القرضاوي، التطرف العلماني في مواجهة الإسلام، دار الشروق، 2008.
أحمد إدريس الطعان، العلمانيون والقرآن الكريم: تاريخية النص، دار ابن حزم، الرياض، 2007.
محمد قطب، العلمانيون والإسلام، دار الشروق، 1994.
يحيى هاشم فرغل، العلمانية بين الخرافة والتخريب، دار الصابوني.
بهاء الأمير، الوحي ونقيضه: بروتوكولات حكماء صهيون في القرآن، مكتبة مدبولي، 2006.
أحمد كورو، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2007.
اليهودية مصطلحٌ يُطلق على الديانة التي تُنسب إلى العبرانيين المنحدرين من إبراهيم عليه السلام، والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل وهم اثنا عشر سبطاً، وقد أُرسلت إليهم مجموعة من الأنبياء بدءاً بموسى عليه السلام مؤيداً بالتوراة. ويُعرف أتباعها بأسماء عدة ولكل منها مدلول خاص به، ومنها:
1- اليهود: واختلفت الأقوال في سبب التسمية وأشهر الأقوال فيها عند المسلمين: من التهوّد، وهي التوبة لأنهم تابوا عن عبادة العجل فنقل القرآن الكريم حكايةً عن موسى عليه السلام قوله: {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ}، أما عند اليهود: فالتسمية جاءت نسبةً إلى يهوذا أحد أبناء إسرائيل (يعقوب)، وقلبت الذال دالاً على لغة العرب، وسبب اختياره من بين إخوته لأن من نسله ظهر داود، ومن داود سيظهر المسيح المنتظر كما يعتقدون فهو المفضَّل عندهم.
2- الإسرائيليون: نسبةً إلى بني إسرائيل (أبناء يعقوب) مع أن معظم أتباع هذه الديانة اليوم لا يجمعهم نسب بإسرائيل، والموسويون أي: أتباع موسى عليه السلام.
3- العبرانيون ومفردها عبري وهم: البدو الرُّحل، وقيل نسبةً إلى النبي إبراهيم وهو إبرام أو عبرام في العبرية وهو التفسير المفضل عند اليهود لتوثيق ارتباطهم به.
أما في الغرب فيطلق عليهم Jewish أو Juif وهي من جوشوا أو يوشوا أي يوشع بن نون، وهو فتى موسى (مرافقه) والنبي الذي تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاته وهو ذو شأن عظيم عندهم.
تاريخ بني إسرائيل لعل أهم مراحل تاريخ اليهودية هي تلك الحقبة الزمنية الممتدة لألفي عام منذ عهد إبراهيم إلى ما قبل ظهور المسيح، ومع أن تاريخ اليهودية كدين يبدأ مع بعثة موسى في قومه الذين لم يسموا باليهود إلا بعد بعثته، إلا أنهم حريصون على ربط تاريخهم بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
وأهم مصادر تلك الحقبة الطويلة من الزمن: ما ورد في التوراة وبقية أسفار العهد القديم على ما فيها من تناقضات وأساطير يقرُّ بها علماء اللاهوت من اليهود والنصارى فضلاً عن علماء التاريخ والآثار، وما وجده علماء الآثار من مدونات تاريخية مكتشفة حديثاً في مصر والعراق وبلاد الشام، وما اتضح من الحفريات، ونقله الإخباريون من مسلمين وغيرهم مع أن معظم رواياتهم لا يمكن الوثوق بها لمناقضتها لبعض وقائع التاريخ المسجلة وامتلائها بالأساطير والخرافات، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة عن بني إسرائيل وأنبيائهم.
وإبراهيم عليه السلام هو الجد الأعلى للعدنانيين (أولاد إسماعيل) كما أنه الجد الأعلى لبني إسرائيل، وله ولدان، الأول إسماعيل الذي خرجت من سلالته القبائل العربية وخاصة قريش التي ظهر منها النبي محمد، والثاني إسحاق الذي ولد له ولدان، هما عيسو ويعقوب.
أما يعقوب فهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل، وقد وُلد له اثنا عشر ولداً من زوجتيه ليئة وراحيل وجاريتيهما، منهم يوسف النبي ويهوذا الذي ظهر داود من نسله، وكل واحد من هؤلاء أعقب سبطاً من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.
عاش يعقوب مع أبنائه في أرض فلسطين ثم فُقد يوسف بمكيدة من إخوته، وقصته ذُكرت في القرآن الكريم والكتاب المقدس، حيث وصل به المطاف إلى مصر التي تعرض فيها لسلسلة من المحن، فنجّاه الله منها ليتولى بحكمته وسياسته عملية إنقاذ مصر وما حولها من القحط الشديد الذي أصابها، ما دفع إخوته إلى المجيء إليه ثم استقرارهم مع أبيهم في مصر، وكان ذلك في عهد الهكسوس في القرن السابع عشر قبل الميلاد.
وبعد طرد الهكسوس من مصر وتولي الفراعنة المصريين الحكم بدأت مرحلة اضطهاد شديدة لبني إسرائيل لعلاقتهم السابقة مع الهكسوس الغرباء، وازداد العنت والظلم في عصر رمسيس الثاني الذي ترجح بعض المصادر أنه فرعون الذي أمر بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم واستعبادهم حتى هلك منهم الكثير.
وفي زمانه الذي امتد بين سنتي 1304 ق.م و1237 ق.م يُعتقد أن موسى وُلد من سبط لاوي بن يعقوب، وقبله بثلاث سنوات وُلد أخوه هارون. وقصته مع فرعون وقومه وخروجه بهم ومواجهته لانحرافاتهم العقدية المتجددة ذُكرت أيضا في القرآن الكريم والكتاب المقدس، وقد أدت إلى بقائهم في مرحلة التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء وحرمانهم من دخول الأرض المقدسة (فلسطين) لأنهم رفضوا أمر نبيهم موسى بمقاتلة الكنعانيين وفتح فلسطين.
لوحة تخيلية ليوشع بن نون وهو يأمر الشمس بالتوقف عن الحركة حتى لا تغرب قبل أن يتم له النصر
وبعد وفاة موسى خلفه تلميذه يوشع بن نون، وهو أول نبي بعده، وهو الذي قاد بني إسرائيل وتمكن من فتح بعض المدن الكنعانية، وبوفاته انقطعت القيادة الاجتماعية لبني إسرائيل وتفرقت الأسباط إلى مجموعات يقود كلا منها قاضٍ أو كاهن، وهو بمثابة الحاكم العسكري، وبدأ بذلك ما يعرف بعصر القضاة، وهو عهد يتصف بالتوتر والضعف والانحراف عقدياً، حيث ارتد فيه بنو إسرائيل عن عبادة الله إلى عبادة بعل وعشتاروت وغيرها من الأوثان وشيدوا لها المعابد وقدموا القرابين وانتشرت فيهم الفاحشة انتشاراً كبيراً، وتسلط عليهم الكنعانيون والفلسطينيون الوثنيون، وفي آخر عصر القضاة ظهر فيهم نبي ترجح المصادر أنه صموئيل، وقد ورد ذكره مبهماً في القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا، قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246].
وقد طلب بنو إسرائيل من نبيهم أن يختار لهم ملكاً عليهم ليوحدهم في مواجهة أعدائهم، فأوحى الله إليه أنه سيولي عليهم طالوت (أو شاؤل كما ورد في أسفارهم)، فجمعهم للقتال وانتصروا على الفلسطينيين الوثنيين، وذلك بعد أن قام داود -والذي كان ضمن الجيش شاباً صغيراً- بقتل جالوت (جليات).
وبعد موت طالوت تولى داود قيادة بني إسرائيل، وفيه اجتمعت النبوة والملك، ثم خلفه من بعده ابنه النبي سليمان، والذي كان عصره أزهى العصور لبني إسرائيل، فنعمت مملكته برخاء وسلام لم تعرف له مثيلاً من قبل ومن بعد. وبعد وفاته انقسمت مملكته بين ابنه رحبعام وأحد عبيده يربعام، وانقسم معها الأسباط إلى مملكتين:
مملكة إسرائيل: بقيادة يربعام في الشمال وعاصمتها السامرة (نابلس)، ومعبدها على جبل جرزيم وكانت تضم عشرة من أسباط بني إسرائيل، واستمرت إلى أن قضى عليها الآشوريون سنة 722 ق.م.
مملكة يهوذا: بقيادة رحبعام بن سليمان في الجنوب وعاصمتها أورشليم (القدس)، وتضم سبطي يهوذا وبنيامين، واستمرت إلى أن حطمها نبوخذ نصر ملك بابل سنة 586 ق.م.
رسم تخيلي لتدمير القدس على يد البابليين
انتشرت المفاسد وعبادة الأوثان في المملكتين وظهر فيهم الكثير من الأنبياء، وذكر القرآن اثنين منهم هما إلياس واليسع، بينما تعدد المصادر اليهودية والمسيحية أسماء أنبياء آخرين مثل إشعيا وعاموس وغيرهم، وقد حاولوا تصحيح انحرافات قومهم ولقوا منهم عنتاً واضطهاداً، حتى يقال إن الإسرائيليين قتلوا مئات الأنبياء ونشروا بعضهم بالمناشير كما حدث للنبي إشعيا. وقد أدى فسادهم هذا إلى تسلط أعدائهم عليهم حتى قضي على الدولتين تماماً ودمَّر نبوخذ نصر أورشليم وهدم أسوارها وما فيها وسبى ثلث شعبها وساقهم عبيداً إلى بابل في العراق، كما يقال إنه قتل الثلث منهم.
وفي المنفى بالعراق، عاش اليهود مرحلة جديدة اتسمت بالانعزال والذل، مع الشعور بأنهم شعب الله المختار، وظهر في مرحلة السبي هذه أنبياء آخرون، ونقرأ في مصادرهم أسماء بعضهم ومنهم عزير (عزرا) ودانيال وحزقيال.
استفاد اليهود من تسلط الفرس على الدولة البابلية، واستغلوا نساءهم الجميلات (وأشهرهم إستير) للتقرب من حكَّام الفرس حتى استطاعوا إقناع الملك الفارسي قورش بعودتهم من السبي إلى فلسطين وإعادة بناء أورشليم و”هيكل الرب” كما يسمونه سنة 538 ق.م، وتزعَّم النبيان عزرا ونحميا -حسب مصادرهم- حركة العودة من المنفى.
رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)
ورغم الدعم والتعاطف الشديد الذي قدمه الفرس لليهود، إلا أن اليهود سرعان ما تحوّل ولاؤهم للقوة الجديدة الصاعدة في المنطقة والمتمثلة في الإمبراطور اليوناني الإسكندر المقدوني الذي تمكن سنة 330 ق.م من القضاء على الحكم الفارسي لبلاد الشام، وخضع اليهود لحكمه وقدموا له المساعدات فعاملهم معاملةً حسنة.
بعد وفاة الإسكندر اقتسم قوّاده إمبراطوريته الواسعة وظهر البطالسة في مصر مع تولى بطليموس الأول حكم مصر وفلسطين، وفي عهده بدأ اليهود تمردهم الأول على اليونان والذي كان نتيجته اقتياد أكثر من 100 ألف منهم أسرى إلى مصر، ثم عاد قسم كبير منهم إلى فلسطين في عهد خليفته بطليموس الثاني الذي أسس مكتبة الإسكندرية الشهيرة، وقد أبدى تعاطفاً كبيراً معهم، كما تمت في عهده ترجمة النسخ المعتمدة آنذاك من التوراة إلى اللغة اللاتينية بواسطة 72 حبراً من أحبار اليهود وخلال 72 يوماً كما يزعمون، مع أن الكثير من الباحثين -ومن بينهم الرهبانية اليسوعية- يشككون في هذه القصة.
ومع انتصار السلوقيين على البطالسة وسيطرتهم على فلسطين بدأ عصر الاضطهاد والإذلال لليهود حوالي سنة 200 ق.م، وجرت محاولات لإجبارهم على ترك دينهم واعتناق الوثنيات اليونانية مما أدى إلى انفجار ثورة المكابيين سنة 166 ق.م على يد يهوذا ابن الكاهن ميتاس ولُقِّب بالمكابي أي: المعيَّن من الرب يهوه.
الحصار الروماني على يد تيطوس وتدمير القدس بريشة ديفيد روبرتس عام 1850
وبحو نحو قرن، خضع اليهود لحكم الرومان الذين سيطروا على القدس سنة 63 ق.م، وبدأت سلسلة من الثورات على حكمهم من قبل اليهود، انتهت بإقدام الحاكم الروماني تيطوس على تدمير أورشليم تدميراً كاملاً سنة 70 م، ففرَّ من اليهود من بقي حياً إلى الجزيرة العربية (تيماء وخيبر والمدينة) ومصر وليبيا وغيرها، وذهب قسم منهم إلى روما وبيعوا عبيدا، ومن هنا بدأت قصة وجودهم في أوربا.
أما في الشرق فاعتنقت إحدى القبائل التركية الوثنية المعروفة بالخزر دين اليهودية في القرن التاسع الميلادي، أي بعد ظهور الإسلام، وكانت قد استوطنت المعبر الحيوي بين بحر قزوين والبحر الأسود ومنها انحدر يهود شرق أوربا (الإشكناز) الذين يشكلون نحو 90 بالمئة من يهود العالم اليوم، وهم الذين يقوم عليهم الكيان الصهيوني في فلسطين.
ومن الملاحظ أن السرد التاريخي لمسيرة اليهود المدوَّن في العهد القديم يتوقف قبيل بعثة المسيح عيسى عليه السلام.
العـقائـد: أولاً- الإله: تعد قضية الألوهية في اليهودية من القضايا المشكلة للباحثين، فقد كانت اليهودية في أصلها ديانة توحيدية تدعو إلى عبادة إله واحد لا شبيه له، لا تدركه الأبصار وتعتمد عليه المخلوقات كافة ولا يعتمد على أيٍّ منها بل يسمو عليها. وكثرة الأنبياء فيهم كان هدفها تنقية عقيدتهم باستمرار مما أصابها من شوائب الوثنية المتكررة والتي أدت- إضافةً إلى عوامل أخرى- إلى تطور مفهوم الألوهية عندهم إلى الحلول والمشابهة، فالإله في اليهودية وكما تصفه أسفار العهد القديم كائن يتصف بصفات البشر فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء متقلب الأطوار، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل ويحس بالندم ووخز الضمير، وهو ليس عالماً بكل شيء لذلك نجده مثلاً يطلب من أبناء إسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم المصريين عن طريق الخطأ.
وباستعراض نماذج مما ذكرته التوراة والتلمود من صفات الرب يمكن استنتاج الملامح التالية لعقيدتهم فيه:
1- يعتقد اليهود أن آدم هو ابن الله لأن الله خلقه من روحه فبثّ فيه جزءاً من ذاته، فهم عندما يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه لا يقصدون البنوة المعنوية كما يتبادر للذهن للوهلة الأولى لكنهم يقصدون أن أرواحهم جزء من ذات الله لأنهم وحدهم يمثلون نسل آدم وحواء في نقائه وهم أبناؤه حساً ومعنىً على الحقيقة، فآدم وحواء -عندهم- زنى كلٌّ منهما مع عشاق لهما من الجن وأنجبا ذرية ينحدر منها باقي البشر أما اليهود فهم من أبناء آدم وحواء وحدهم.
2- الرب عندهم هو رب الأرباب الأخرى التي يدخل في صراع معها ويدمرها، وهو لا يهتم بأن تعبد الشعوب الأخرى غيره لكنه يهتم اهتماماً شديداً بأن يعبده أبناؤه وشعبه إسرائيل ويغار غيرة شديدة عندما يتجهون لغيره لأنه اصطفاهم وجعلهم أحباءه وأبناءه، لذلك نجده يحجب الهداية عن فرعون ويقسِّي قلبه مع أنه قال لموسى وهارون “صلّيا لأجلي”، أي أنه أراد الهداية ولكن الرب لا يهمه ذلك. وقد استخدم كاتب التوراة أسلوباً بذيئاً حين صوّر الرب وكأنه قد تزوج إسرائيل التي ذهبت تزني مع أوثان وهو يغار عليها ويرجوها أن ترجع إليه كعهدها السابق، فيقول: “حاكموا أمكم -أي إسرائيل- لأنها ليست امرأتي وأنا لست رجلها، لكي تعزل زناها عن وجهها.. ولا أرحم أولادها لأنهم أولاد زنى، لأن أمهم زنت، التي حبلت بهم صنعت خزياً لأنها قالت: أذهبُ وراء محبيَّ الذي يعطون خبزي ومائي وصوفي.. لكن هأنذا أتملقها وأذهب إلى البرية وألاطفها وأعطيها كروماً هناك وهي تغني هناك كأيام صباها.. يكون في ذلك اليوم يقول الرب: إنك تدعينني رجلي ولا تدعينني بعلي” [سفر يوشع 2/ 2- 21]، فالرب -حسب زعمهم- ينفر من كلمة بعل لأن إسرائيل عبدت بعل فأصبح يكره هذه الكلمة، وقد اضطررنا للاجتزاء من النص السابق لأنه يتضمن أوصافا غير لائقة.
3- الله حسب زعمهم لا يريد للإنسان أن يكتسب المعرفة بل أن يبقى جاهلاً حتى لا ينافسه لذلك منعه من أكل الشجرة، بل كان أيضا جاهلاً ولم يعرف أن آدم أكل منها إلا عندما أخبره هو بذلك، ثم طرده من الجنة ومنعه من دخولها خوفاً من يأكل من شجرة الخلد فيشاركه الخلود.
4- الرب في التوراة متجسد على هيئة البشر ويمكن رؤيته في الدنيا وقد رآه كل الأنبياء، ومنهم إبراهيم الذي زاره الإله على هيئة رجل مع اثنين من الملائكة وجلسوا ليستريحوا تحت شجرة وغسلوا أرجلهم وأكلوا وشربوا. كما ظهر لبني إسرائيل على شكل عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل ومشى أمام شعبه ليهديهم الطريق، ويتكرر نزوله إلى الأرض مرات ومرات ويمكن أن يتكلم مع غير المؤمنين أيضاً ليهددهم إن أرادوا إيذاء شعبه المفضل.
5- تنسب التوراة له الندم والبكاء واللطم على وجهه، وقد ظهر ذلك منه بعد أن شرد أبناءه اليهود وخرب بيت المقدس، فخصص ساعات من النهار ليبكي على تشريدهم وصرخ قائلاً “تباً لي لأني صرّحت بخراب بيتي وإحراق هيكلي ونهب أولادي”، وعندما سمع أبناءه يمجدونه بالرغم مما فعله بهم بكي ولطم وجهه وقال “طوبى لمن يمجده الناس.. وويلٌ للأب الذي يمجده أبناؤه مع عدم استحقاقه لذلك لأنه قضى عليهم بالتشريد”.
تابوت العهد كما جاء وصفه في الأسفار والذي يعتقدون أنه يحتوي على الألواح التي أنزلت على موسى وهو مفقود اليوم
6- يعتقدون أنه أمر موسى وهارون ببناء خيمة الاجتماع ليسكن فيها ثم جعل التابوت مقراً له ليكون على مقربة من أبنائه يرعاهم ويدبر أمورهم، ويسمونه “رب الجنود الجالس في التابوت”، وبما أن التابوت وقع في أيدي أعدائهم مراراً فقد سُجن الرب فيه، فقرر أن يسكن في جبل صهيون في أورشليم، وأخيراً بنى له سليمان الهيكل العظيم ليستقر فيه ويرتاح من التجوال، لكن الهيكل نفسه هُدم فانتقل الرب إلى السماء، ومن هنا يتبين حرص اليهود على بناء الهيكل ليعود الرب إليه بزعمهم فهم لا يستطيعون التخلي عن نزعتهم المادية المحسوسة التي تصوروا الإله من خلالها والتي لازمتهم طوال تاريخهم رغم الجهود المضنية التي بذلها الأنبياء لتخليصهم منها.
7- الرب عندهم يحب القرابين واللحم المشوي، وبمجرد أن يتنسم رائحته تنبسط أساريره ويفعل لهم ما يشاؤون من تعذيب الأمم الأخرى وقتلها وحرقها ولا يهم بعد ذلك إن عبدوا الأوثان أو سرقوا الأموال، كما لا يهمه ما إذا كانت اللحم المشوي نفسه من أغنام مسروقة أم لا، فقد زعموا أن يعقوب سرق أغنام خاله وقدّم اللحم المشوي للرب فرضي وقبله بعد أن تنسم رائحته وأعطى يعقوب العهد له ولأولاده، ويقال إن هذه الفكرة تطورت حتى أصبحت طقساً راسخاً يقتلون لأجله في كل سنة طفلاً غير يهودي ويستخدمون دمه لصناعة الفطير المقدس الذي يعتقدون أن الرب يحبه كثيراً ويأكل منه كبار الأحبار والكهنة، بينما يردّ اليهود بالنفي ويعتبرون أن “فرية الدم” افتراء أُلصق بهم بلا دليل.
وعلى أي حال، يظهر التاريخ غلبة الطبيعة المادية على الكثير من بني إسرائيل، فحتى مع وجود موسى بينهم وما جاءهم به من الآيات كانوا يطلبون منه أن يجعل لهم رباً مادياً كغيرهم من الوثنيين، ثم امتد أثر هذه العقيدة ليخالط تصورهم للإله، ويقول عباس محمود العقاد: “إن الوحدانية التي يدركها اليهود لم تكن وحدانية تفكير لكنها وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب.. لليهود إله يعلو على آلهة غيرهم من البشر” [إبراهيم أبو الأنبياء، ص 112].
وللإله في اليهودية أسماء متعددة وهي:
1- يهوه: وهو أكثر الأسماء قداسة ولا يُعرف اشتقاقه بشكل مؤكد، وأكثر ما قيل فيه إنه مشتق من مادة الحياة أو من مصدر الكينونة في العبرية (أهييه آشر أهييه) أي أكون الذي أكون، أو هي نداء لضمير الغائب أي “يا هو”، وقيل إن معناه سيد ورب في العبرية واستخدمه اليهود في الإطلاق على الخالق سبحانه. ولم يعرف هذا الاسم تاريخياً كما نصت التوراة قبل موسى كما جاء في سفر الخروج [6/2- 3] عندما كلم الرب موسى قائلاً “أنا الرب ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء وأما باسمي يهوه فلم أُعرف عندهم”.
ولقداسة الاسم كان اليهود لا يتفوهون به بل يستخدمون كلمة “أدوناي” العبرية بمعنى سيدي أو مولاي للإشارة إلى الإله. وبما أنه مكون من أربعة أحرف فقد استعاضوا عن التلفظ به بكلمة “تتراجراماتون” أي الرباعي، ولا ينطق اسم يهوه إلا الكاهن الأعظم فقط داخل قدس الأقداس بهيكل سليمان في يوم الغفران. [المجتمع اليهودي، ص 293]
وقد نسب العهد القديم إلى يهوه صوراً عديدة للقسوة، فكان يأمر شعبه بالغدر والقتل كما أنه محدود المعرفة وتنسب إليه صفات النقص في البشر.
2- إلوهيم: اسم من أصل كنعاني وهو بصيغة الجمع لكلمة “إيلوَّه” أي إله، وعدّها بعض الباحثين دليلاً على إيمان اليهود في مرحلة من مراحلهم بتعدد الآلهة، إلا أن المدقق في أوصاف إلوهيم عندما يأتي الاسم في العهد القديم يلاحظ أن صفات إلوهيم تختلف عن صفات يهوه، فإلوهيم إله رحيم خلق السماوات والأرض ولا يشبه مخلوقاته، لذا رجح البعض أن الاسم يدل على الإله مع إضافة لاحقة الجمع (يم) العبرية التي تدل على التفخيم، وظهور هذا الاسم فيهم يشير إلى مرحلة شهدت تنقية عقائدهم من كثير من الشوائب، وهو الاسم الذي شاع استخدامه علماً على الإله في مملكة إسرائيل الشمالية.
3- إيل: لا يعرف أصل هذا الاسم أيضاً، فقيل هي كلمة أكادية وتعني الإله على وجه العموم، وكثيراً ما تستخدم مع لقب من ألقاب الإله مثل “إيل عليون” أي الإله العلي، كما تستعمل كجزء من أسماء عديدة مثل “إيلعازر” أي الإله قد أعان، وهو أسلوب مستخدم حتى يومنا هذا.
وتُذكر للإله في العهد القديم أسماء أخرى كثيرة، منها رب الجنود، ومقدِّس يسرائيل، وإله إسرائيل الذي يتكرر مئات المرات ويترتب عليه أن أبناء إسرائيل وحدهم هم البشر ولهم إله خاص بهم أما باقي الخلائق فليسوا كذلك.
ثانياً- الأنبياء: من يقرأ الكتب المقدسة عند اليهود يجد أنهم يثبتون بعثة عدد كبير من الأنبياء المتفق على نبوتهم في الإسلام كنوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن جاء من بنيه من رسل، ومنهم موسى وهارون ويوشع بن نون وداود وسليمان وإلياس واليسع وغيرهم.
ويلاحظ الباحث اختلاف مصطلح النبوة عند اليهود عما هو عليه لدى المسلمين، فهو لا يقتصر عند اليهود على من اصطفاهم الله لهذه المهمة العظيمة بل يتسع ليشمل أصنافا متعددة، ومن قراءة أسفار التوراة والكتب الملحقة بها يمكن رسم ملامح مفهوم النبوة كما يفهمه اليهود ويدينون به من خلال النقاط التالية:
1- جاء التصريح في العهد القديم بنبوة بعض النساء مثل مريم أخت موسى وهارون (وهي ليست مريم أم عيسى)، ودبورة التي جمعت بين القضاء والنبوة، وخلدة التي جمعت بين الكهانة والنبوة أيضاً، كما أنها ممكنة للكبار والصغار والعبيد والإماء.
سفر إشعيا
2- النبوة ممتدة في بني يعقوب (إسرائيل) إلى الآن، ففي التوراة نقرأ “قال الرب (لأشعيا): روحي الذي عليك وكلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك ولا من نسلك قال الرب من الآن وإلى الأبد”. [أشعيا 59/21].
3- قد يجتمع فيهم مئة نبي في مكان واحد مما يدلُّ على كثرتهم فيهم.
4- دلت الأسفار على أن النبوة تُكتسب اكتساباً وليس اصطفاءً من الله، فزعموا بذلك أن بعض الأنبياء سلكوا طرقاً ملتوية للحصول عليها، كما فعل يعقوب حين خدع أباه إسحاق وانتزع حق خلافته في النبوة من أخيه البكر عيسو بخطة دبرها مع أمه، وعندما علم إسحاق بذلك سُقط في يده ولم يستطع تغيير الأمر الواقع، بل حتى الرب نفسه بزعمهم رضي بالخديعة وقبل نبوة يعقوب الذي سيصبح أباً لشعبه المفضل.
5- قد يرسل الرب أنبياء لإرشاد الأنبياء أنفسهم، “وكان إلى كلام الرب قائلاً يا ابن آدم تنبأ على أنبياء إسرائيل” [حزقيال: 13/2-3]، ما يعني أن الأنبياء قد ضلوا فتطلب الأمر إرسال أنبياء آخرين ليردوهم إلى جادة الصواب، وهذه الفكرة تؤدي بالضرورة إلى رفع العصمة عن الأنبياء، ومن ثم فلا يلزم الناس اتباع أي منهم لاحتمال كذبهم وضلالهم في أي شيء.
6- الباحث في العهد القديم يجد أن الأنبياء المذكورين في أسفاره لا يختلفون عن بقية البشر في شيء، فيجوز عليهم الكذب والغش والخداع والمعاصي كبيرها وصغيرها في حال نبوتهم، كما يجوز عليهم الإشراك بالله ودعوة الناس إلى الشرك أيضاً، كما تذكر الأسفار أنبياء للأوثان كأنبياء بعل وعشتاروت مما يصعب على الباحث مهمة التمييز بين النبي الصادق والكاذب في نظر التوراة، وقد ذهب الحَبر اليهودي موسى بن ميمون إلى أن النبي هو كل مُخبَر بغيب من جهة التكهن والشعور أو من جهة الرؤيا الصادقة ولعل هذا هو سبب تسمية أنبياء البعل وعشتاروت بذلك.
7- ذهب الحبر سعديا الفيومي إلى تعريف النبوة بأنها اصطفاء من الله، وتعريف الرسول بأنه مؤيد بالمعجزات، فيقول: “فأي رسول اختاره الله الخالق لرسالته جعل سبيله أن يعطيه علامة من هذه الأعلام: إما قهر طبائع كمنع النار أن تحرق أو حبس الماء أن يجري أو قلب عين كما يقلب الحيوان جماداً والجماد حيواناً… فإذا دفع إليه علامة من هذه وجب على من رآها من الناس أن يفضلوه ويصدقوه فيما يقول”، وهذا التعريف يخالف ما نجده في التوراة من إثبات نبوة كثير من أنبيائهم.
وعد بلفور
8- استفادت الصهيونية من سعة مصطلح النبوة في العهد القديم وجعلته أكثر سعةً وامتداداً حتى جعلتها في متناول كل من يقوم بدورٍ مهم لخدمة الشعب اليهودي في كل زمان، حتى أصبح كل يهودي مخلص في مصافِّ الأنبياء، فقالوا عن ديفيد بن غوريون إنه النبي المسلح وعن جابوتنسكي نبي محارب، بل يزعم البعض أن رئيس وزراء بريطانيا آرثر بلفور (صاحب وعد بلفور) هو الآخر نبي.
ومضامين الوحي تشمل أوامر الله ونواهيه وتعاليمه لبني إسرائيل، كما تشتمل في رأيهم أيضاً على أمور لا تتناسب مع تنزيه الإله وكرامة أنبيائه، ومنها:
1- الرب يأمر أنبياءه بالفواحش، فيقول “اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى” [يوشع: 1/2]، كما يطلب من نبيه أشعيا أن يتعرى تماماً ويدعو بني إسرائيل لثلاث سنوات ويمدحه على ذلك [أشعيا: 20/2]، وفي المقابل يقول القرآن الكريم {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28].
2- يطلب الرب من أنبيائه أن يقضوا له حاجاته، فيطلب من داود مثلا أن يبني بيتاً له لأنه كان يسكن في خيمة: “في تلك الليلة كان كلام الله إلى ناثان قائلاً اذهب وقل لداود عبدي هكذا قال الرب أنت لا تبني لي بيتاً للسكنى لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت إسرائيل إلى هذا اليوم بل سرت من خيمة إلى خيمة ومن مسكن إلى مسكن” [صموئيل الثاني: 7/ 6].
3- تتضمن التوراة التي يعتقدون أنها من الوحي سرداً تاريخياً لحياة بني إسرائيل، فأغلب الأسفار هي حكاية تاريخية وبيانٌ لحروبهم وصراعاتهم وتنقلاتهم وأسماء أماكنهم ورجالهم.
4- تحتوي الأسفار على صفات قبيحة للأنبياء يتنزه عنها الرجل العادي فضلاً عن الصالح، فتزعم أن سليمان مال إلى عبادة الأصنام بسبب حبه لنسائه الوثنيات وأنه ختم عمره بعبادتها وبالسحر، وتتهم هارون بأنه هو الذي صنع العجل الذهبي وأمر بني إسرائيل بعبادته في غياب موسى، وتورد قصصا عن محاججة الأنبياء للرب واعتراضهم على أحكامه كما فعل إبراهيم وموسى وإلياهو (إلياس)، أما يعقوب فقالوا إنه علم بزنى ابنه راؤبين بزوجته ومع ذلك سكت عن فعله، ونسبوا إلى لوط الزنا بابنتيه بعد سكره معهما، أما داود فقد شاهد -حسب زعمهم- امرأة عارية تستحم فأعجب بها وزنا بها وتخلص من زوجها (أحد قادة جيشه) بإرساله في معركة وجعله في مقدم الجيش ليضمن قتله، ثم ضم هذه الزوجة إلى نسائه فكانت نتيجة هذا الفعل ولادة ابنه سليمان.
ثالثاُ- الكتب المقدسة: الكتاب الأول- العهد القديم أو التوراة: هو كتاب اليهود المقدس وشريعتهم المكتوبة، وسمي بالعهد القديم للتمييز بينه وبين العهد الجديد الذي يؤمن به المسيحيون، فقد كُتبت أسفاره قبل عهد المسيح، وهو “عهد الرب” الذي تكرر لإبراهيم ثم إسحاق ثم يعقوب ثم تكرر على لسان موسى والأنبياء من بعده.
ويضم حسب رأي اليهود الأسفار التي جاء بها موسى وأنبياء بني إسرائيل من بعده، ويطلق اسم التوراة على الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، كما يطلق على الكتاب بكامله لأن أسفارها هي الأقدس عندهم ومن باب إطلاق اسم الجزء على الكل، والأسفار جمع سِفر وهو الكتاب، أما الأسفار الخمسة فهي:
1- سفر التكوين: يبدأ من خلق الكون مروراً بقصة آدم وتعرضه للإغواء وخروجه من الجنة، وقصة نوح والطوفان وما كان من أمر أبنائه بعد الطوفان سام وحام ويافث، ثم قصة إبراهيم وسلالته والعهد الذي قطعه الرب معه، ويذكر بالتفصيل قصة أبناء يعقوب الإثني عشر وقصة يوسف وينتهي بوفاة يوسف.
2- سفر الخروج: يتضمن قصة موسى منذ ولادته أثناء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل، ونشأته في قصر فرعون وتحركاته وخروجه إلى مدين وصحراء سيناء وكلام الله له فيها ونبوته، وترد في هذا السفر الوصايا العشر وقانون العهد وهي مجموعة من الشرائع والقوانين، كما ترد في السفر قصة ارتداد بني إسرائيل وعبادتهم العجل وتفاصيل رحلتهم شرقاً.
3- سفر اللاويين (أو الأحبار عند المسيحيين): لاوي هو أحد أبناء يعقوب، ومن نسله تحدر السبط الذي ولد فيه موسى وهارون، وفي نسله تنحصر الكهانة حسب ما جاء في السفر، إلا أن أحبار اليهود تعاونوا فيما بعد على إلغاء هذه القاعدة. وفي هذا السفر يتوقف السرد التاريخي ويبدأ التركيز على التعاليم الخاصة بالحياة الدينية حتى سماه علماء الشريعة الإسرائيلية “القانون الكهنوتي”.
4- سفر العدد: سمي بذلك لبروز ظاهرة التعداد الدقيق فيه، حيث ترد فيه إحصاءات تفصيلية لتعداد بني إسرائيل الراحلين مع موسى في التيه وعدد المدن والذبائح، ويُذكر فيه أن مدة التيه أربعين سنة، ويعود فيه السرد التاريخي لقصة موسى وقومه ويكثر فيه تذمرهم منه والاحتجاج عليه وعلى ربه حتى يصل إلى التآمر عليه من إخوته هارون ومريم أنفسهم.
5-سفر التثنية: هو آخر الأسفار الخمسة، ومعناه تثنية الشريعة أي إعادتها وتكرارها على بني إسرائيل مرة ثانية عند خروجهم من صحراء سيناء ووصولهم إلى سهول النقب وجنوب الأردن، وتضمن نسخاً لبعض تعاليم الشريعة الأولى أو إضافة أشياء لم ترد من قبل، ويتحدث عن وفاة هارون واستخلاف يوشع بن نون تلميذ موسى وخادمه، ثم وفاة موسى في جبل مؤاب وعدم معرفة قبره إلى الآن. فيقول في الفقرتين 5 و6 “فمات هناك موسى.. وتم دفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فاعور ولم يعرف أحدٌ قبره إلى يومنا هذا”.
أما القسم الثاني من العهد القديم فهو كتاب “الأنبياء”، ويضم بدوره قسم الأنبياء الأول وقسم الأنبياء الآخر، ويتضمن الأول أربعة أسفار يتتابع فيها السرد التاريخي لمسيرة الاسرائليين وهي: يوشع بن نون، والقضاة، وصموئيل، والملوك. ويتضمن الثاني أسفار خمسة عشر نبياً عندهم تولوا قيادتهم الروحية في ظروف سياسية واجتماعية حالكة، ومنهم عاموس وإشعيا وإرميا وحزقيال.
والقسم الثالث من العهد القديم هو “الكتب” أو “أسفار الحكمة”، وهي أسفار يغلب عليها الطابع الأدبي شعراً ونثراً وتتضمن قصصاً وحكماً تواترت لديهم وتحتوي تمجيداً لبطولاتهم في الاستقرار في فلسطين أو الرجوع إليها بعد السبي البابلي، وعددها اثنا عشر سفراً وأهمها: مزامير داود (وهو الزبور)، وأمثال سليمان، وأيوب، ونشيد الأناشيد، ودانيال، وإستير، وعزرا.
كان علماء اليهود واللاهوت المسيحي يعتقدون أن موسى هو الذي كتب الأسفار الخمسة، وأن الذي نزل من السماء مكتوباً هو لوحان فقط، وأن موسى كسرهما عندما رأى بني إسرائيل يعبدون العجل. كما اعتقدوا أن بقية أنبياء بني إسرائيل كتبوا الأسفار المنسوبة إليهم، وأن معظمها كُتب باللغة العبرية وبعضها بالآرامية، ثم تُرجمت في عهد بطليموس الثاني (246ق.م) إلى اليونانية، وذلك على يد 72 حبراً من أحبار الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، فسميت بالترجمة السبعينية، وهي الترجمة المعتمدة لدى معظم الطوائف اليهودية والمسيحية.
الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ إسبينوزا كان من أوائل الباحثين الأوروبيين الذين اجترأوا على نقد العهد القديم وكشف تناقضاته في القرن السابع عشر
لكن هذه الاعتقادات بدأت بالتلاشي في القرن الثامن عشر، حيث أكدت أبحاث كثيرة أن الأسفار الخمسة كتبها مئات الأحبار على مدى القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، أي بعد وفاة موسى بقرابة ألف عام، وأنها جُمعت بشكلها الحالي بعد ذلك بكثير، كما وجدوا أنها عبارة عن كتب تجمع أساطير وأشعار وتراث شعوب وحضارات الشرق الأدنى المتنوعة، وأن قيمتها تقتصر على الجانب الأدبي فقط
كما أثبتت الدراسات أن الأسفار المنسوبة للأنبياء لم يكتبها الأنبياء بل اشترك في كتابتها عدد كبير من المؤلفين والأحبار الذين لم تُعرف أسماؤهم، وكذلك بقية أسفار العهد القديم.
وبالنتيجة اضطر الكثير من علماء اللاهوت والأحبار لتغيير موقفهم، فقالوا إن الأسفار لم يكتبها موسى والأنبياء إلا أن روح الرب كانت تظلل الكتَّاب المجهولين على مدى ألف عام، وبهذا فقد أسقطوا المعنى الحقيقي للوحي، كما رأوا أن وجود الأخطاء التاريخية في الأسفار لا ينفي عنها صفة الإلهام لأن الوحي من الله لا يمنع الوقوع في أخطاء وتناقضات -حسب تصورهم- ورتبوا على ذلك ضرورة فهمها بالمعنى الإجمالي، وتأويل ما يناقض العلم والتاريخ وإن كان تأويلاً متعسفاً
وأرجع الباحثون في العهد القديم أسفار موسى الخمسة إلى أربعة مصادر رئيسية هي:
1- المصدر أو النص اليهَوي: حيث يُذكر الله باسم (يهوه) الذي كان شائعا في مملكة الجنوب يهوذا في القرن التاسع قبل الميلاد، ويتحدث هذا النص عن بدء الخليقة وينتهي بموت يعقوب، ويتميز بأنه تصويري وساذج ومليء بالأساطير، حتى أنه يجسد يهوه بصورة بشرية.
2- المصدر الإلوهيمي: حيث يذكر اسم الله باسم (إلوهيم) الذي كان شائعا في مملكة الشمال إسرائيل وعاصمتها السامرة، وزمان كتابته متقدم على النص اليهوي في القرن الثامن قبل الميلاد. وموضوعه الأحداث الخاصة بإبراهيم وذريته، وأسلوبه أكثر اعتدالاً لا سيما في تصويره للرب الذي يتحدث عنه بتنزيه أكبر، وأنه رب العالمين وليس خاصاً بإسرائيل وحدها. ويمتاز هذان المصدران بكثرة الروايات والقصص وندرة التشريعات، وقد أدمجا في مجموعة واحدة في القرن السابع قبل الميلاد.
3- مصدر سفر التثنية (تثنية الاشتراع): وهو سفر تتكرر فيه الشرائع والقوانين، وقد أعلن العثور عليه في زمن الملك يوشياهو ملك يهوذا سنة 620 ق.م، وأسلوبه مختلف عما سبق ويتميز بالإنشاء الخطابي.
4- النص الكهنوتي: وهو يتألف من فصول كتبها الكهنة في عصر النفي إلى بابل وما بعد النفي، أي في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد في زمن عزرا (عزير في القرآن الكريم)، ويتميز هذا النص بالتكرار والتشدد والميل إلى كل ما يتعلق بالذبائح والطقوس والكهانة.
وبعد كتابة الأنواع الأربعة السابقة، جمعها الأحبار في كتاب واحد أسموه “التوراة” أو أسفار موسى الخمسة، وذلك في عصور متأخرة جداً تصل إلى ما بعد ظهور المسيح عيسى. وهذا يفسر التناقض الكبير بين الأسفار نفسها.
ويقول الباحث اليهودي إدمون جاكوب في كتابه “العهد القديم” إنه لا يوجد نص واحد للعهد القديم بل نصوص كثيرة، ففي القرن الثالث قبل الميلاد كان هناك -على الأقل- ثلاث مدونات للنص العبري للأسفار الخمسة وهي: النص الماسوري أي المحقق الذي تم اعتماده بعد عصر موسى بحوالي 2300 سنة، والنص السامري الذي تؤمن به طائفة يهود السامرة، والترجمة السبعينية إلى اليونانية [موريس بوكاي، ص39]
وثمة شكوك أيضا حول الترجمة السبعينية، حيث ترى المسكونية الفرنسية أنها تمت خلال فترة زمنية طويلة بواسطة كتَّاب لم يلتزموا بدقة الترجمة، بل كان لهم حق الإضافة والحذف. كما صرحت دائرة المعارف البريطانية (الطبعة 15: 2/879) بأن النص اليوناني يختلف عن النص العبري اختلافاً بيناً، وفيه زيادات كثيرة في مختلف الأسفار.
ويقول جاكوب إن ما يرويه العهد القديم عن موسى والأنبياء لا يتفق إلا بشكل تقريبي مع المجرى التاريخي للأحداث، لكن الرواة كانوا يعرفون كيف يضفون الأناقة والخيال على مروياتهم بحيث يربطون بين أحداث شديدة التنوع، وقد نجحوا في تقديم هذه الأحداث في شكل حكاية لما حدث في أصل العالم والإنسان، أي أن كتَبة التوراة أضافوا بخيالهم إلى النص أشياء كثيرة لم تحدث.
وهذا يؤكد ما جاء في القرآن الكريم عن تحريف اليهود للتوراة الأصلية تحريفاً كبيراً، حيث يتفق علماء الإسلام على وقوع هذا التحريف بيد أنهم يختلفون في معناه على قولين، هما:
القول الأول: التحريف والتبديل وقع في التأويل والنص ولكن في أجزاء محدودة من التوراة، مثل زعم الأحبار أن الله صارع يعقوب طوال الليل ولم يستطع أن يتغلب عليه، وأنه سبحانه تعب بعد خلق السماوات والأرض فاستراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، وأن النبي لوط زنى بابنتيه بعد أن شرب الخمر، وغيرها مما رأى النقاد الأوروبيون أنفسهم -في عصر النهضة وبعده- أنه لا يمكن أن يكون من الوحي الإلهي.
القول الثاني:التوراة التي أنزلت على موسى بُدِّلت كلها أو أكثرها، ولا يوجد تطابق بين توراة موسى والتوراة الموجودة اليوم في شيء، والشذرات الصحيحة المنبثَّة في الأسفار الحالية نادرة جداً. وهذا القول هو الأرجح الذي ذهب إليه المتبحرون في دراسة الأسفار ومقارنة الأديان، مثل ابن حزم الأندلسي، وأبي حامد الغزالي، وإمام الحرمين الجويني، وابن تيمية، وابن القيم، والقرطبي صاحب التفسير، ورحمة الله الهندي وغيرهم.
أما أنواع تحريف التوراة التي نبَّه إليها القرآن فهي: تحريف بالتبديل ويكون بوضع كلمة مكان كلمة أو جملة مكان جملة، وتحريف بالزيادة والنقصان ويكون بزيادة أو حذف كلمة أو جملة، وتحريف بتغيير المعنى دون تغيير اللفظ. وهناك قسمٌ من أصل التوراة نسيه اليهود وفُقد منهم بسبب بذنوبهم، كما بيّن ذلك القرآن بقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13].
ويرجع الباحثون أسباب ضياع التوراة إلى عوامل عدة منها: الحروب التي خاضها بنو إسرائيل مع أعدائهم، وما تعرضوا له من سبي وشتات، وانحرافاتهم العقدية وارتدادهم المتكرر عن دينهم حتى عبدوا البعل وعشتروت ومولوخ وغيرها من الأوثان كما تذكر أسفار العهد القديم، فضلا عن اضطهادهم لأنبيائهم إلى درجة قتل بعضهم.
ويرى باحثون مسلمون معاصرون أن أحبار اليهود كتموا ما بقي لديهم من التوراة وأخرجوا للناس نقيضها لإفسادهم وحجبهم عن معرفة الحق، لأن انتشار الإلحاد والفساد بأنواعه يضمن لهم السيطرة على العالم، ويرجح الباحث بهاء الأمير في كتابه “الوحي ونقيضه” أن العائلات اليهودية الكبرى التي تسيطر على إمبراطوريات المال والإعلام في العالم تحتفظ بالتوراة وتبث نقيضها عبر أذرعها في الجمعيات السرية المسيطرة على مفاصل القوة في الدول العظمى. ويقول إن أحد أبرز مظاهر إفسادهم هو تحريفهم لقصة خلق الإنسان في التوراة، وما ترتب على هذا التحريف من فساد عقدي وتمكينٍ لسطوة الشيطان على الإنسان الذي يضمن سيطرتهم ونفوذهم.
تناقضات وتساؤلات في أسفار العهد القديم يذكر سفر التكوين قصتين للخلق، ففي الأولى [1: 20- 27] خلق الله النباتات والحيوانات أولاً ثم خلق الإنسان، وفي الثانية [2: 7، 19] خلق الإنسان أولاً ثم خلق النباتات والحيوانات.
المدة الفاصلة بين خلق آدم وطوفان نوح تبلغ في النسخة العبرية 1656 سنة، وفي النسخة اليونانية 2262 سنة، أما في النسخة السامرية فتبلغ 1307 سنة.
في سفر الخروج [6: 2] يخبر الله نبيه إبراهيم بأن اسمه ليس “يهوه”، إلا أنه يؤكد له في سفر التكوين [22: 14] أن اسمه “يهوه”.
يقول سفر العدد إن النبي هارون توفي في جبل هور [20: 28]، بينما يقول سفر التثنية إنه توفي في موسير (موسره) [10: 6].
في سفر صمويل الأول [18: 19]: ابنة شاؤول اسمها ميراب، أما في سفر صموئيل الثاني [21: 8] فاسمها ميكال، ويقول السفر إن داود أخذ بني ميكال الخمسة وأسلمهم للصلب مع إثنين آخرين حتى يرضى الرب ويمنع استمرار المجاعة، لكن نسخا أوروبية حديثة للسفر عدّلت النص وجعلتهم أولاد ميراب.
يقول سفر التثنية “فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مواب… ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم” [34: 5- 6]، فلو كان موسى هو كاتب العهد القديم فكيف يكتب عن وفاته واختفاء قبره؟
جاء في سفر حزقيال [18: 20] أن الأبناء لا يحملون ذنوب الآباء، وفي سفر التثنية [24/ 16]: “لا تقتل الآباء بالبنين ولا تقتل البنون بالآباء، بل كل امرئ بذنبه يُقتل”، بينما ينص سفر الخروج [20: 5] على أن الرب ينتقم من الأبناء حتى الجيل الثالث والرابع بسبب ذنوب الآباء.
الكتاب الثاني- التلمود: يأتي في المقام الثاني بعد التوراة، وهو الشريعة الشفوية، ويتألف من قسمين هما المشناة والجمارا.
أحبار يتدارسون التلمود بريشة كارل تشيلشر
أما المِشناة فهي مجموعة من الشرائع اليهودية المروية على الألسنة، حيث يعدها اليهود مصدراً رئيسياً من مصادر التشريع، ويظنون أنها تعود إلى موسى نفسه، فيسمونها “التوراة الشفوية”. ولم يبدؤوا بتدوينها إلا بعد السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد واستقرت كتابتها على الوضع الذي نعرفه في نهاية القرن الثاني بعد الميلاد.
تقسم المشناة إلى ستة أقسام تتضمن التعاليم الدينية الخاصة بكل من: الأرض والزراعة، الأيام والأعياد المقدسة، النساء وأحكامهن، القصاص والعقوبات، القرابين وخدمة الهيكل، أحكام الطهارة والحلال والحرام. وقد كتبت بلغة عبرية حديثة قياساً إلى عبرية التوراة.
وبعد الانتهاء من تدوينها انكب أحبار اليهود على شرح المشناة، وأودعوا في شرحهم كل ما أرادوا إشاعته بين عوام اليهود من شرائع وحكايات في كل مجال، فسمي هذا الشرح “جمارا” أي التكملة، وكتب بالآرامية، ومن اجتماع المِشناة والجمارا تكون “التلمود”.
تركزت مدارس الشرح في العراق خلال السبي البابلي كما ظهر لها شرّاح في فلسطين من فلول اليهود التي بقيت هناك بعد السبي، وأدى ذلك إلى ظهور تلمودين: تلمود بابلي شرح المشنة كاملةً، وتلمود أورشليمي ناقص شرح فصولاً منها، وعندما يُطلق التلمود يقصد به التلمود البابلي.
رابعاً- عقيدة يوم الرب وعقيدة الماشيَّح المنتظر: يعتقد اليهود أن الرب اختار إسرائيل شعباً له ووعدهم بإخضاع شعوب الأرض لهم. ومع أن ذلك لم يحدث دائماً، ومع أنهم يقرّون بإصرارهم على التفريط في عهدهم معه وأن الدنيا تبدو بعيدة عن الكمال المطلوب وفق تصورهم لها، فإن ذلك يقتضي أن يُنزل الرب عقابه الصارم وينتقم لشعبه المختار ويكون له مع الدنيا يومٌ عظيم.
وقد ذُكر “يوم الرب” على لسان النبي عاموس في السفر المنسوب له محذراً من الانتقام الإلهي من المخالفين، وخلط اليهود بدهاء قضيتهم بقضية الإله، فهم ينتظرون يوم الرب ليحمل لهم انتصار شعب الرب المختار على الأمم الأخرى التي ستدين لهم بالخضوع فيه، أما كلمات عاموس نفسه فتشير إلى أنه يومٌ تنتصر فيه العدالة الإلهية التي سيرتعد منها الشعب اليهودي رعباً مما اقترفه من آثام. [عاموس 5/18-20].
أما “يوم الرب” بالمعنى الذي قصده الأنبياء من وعيد وانتقام من العصاة، سواء من اليهود أو غيرهم، فهو موضع تهكم وسخرية لديهم حيث أطلقوا عليه اسم “أحَريت هَيَّاميم” أي آخرة الأيام أو اليوم الآخر، ويقصدون به معنىً مختلفاً تماماً عن المعنى المتعارف عليه عند المسيحيين والمسلمين الذين يؤمنون بالآخرة، فهو عندهم اليوم البعيد جداً الذي لن يأتي مما اضطر نبيهم حزقيال إلى تقريعهم وتحذيرهم كما جاء في سفره [12/21 وما بعدها].
أرض الموتى كما تخيلها الرسام جون مارتن في القرن الثامن عشر
كانت النصوص الإسرائيلية القديمة تتحدث عن أرض الموتى (شيول)، وهي مكان أسطوري محايد يذهب إليه الموتى وغير مرتبط بالثواب والعقاب أو البعث والحساب. ثم اختلف مفسرو التوراة وأحبار التلمود في تفسير معنى “جهنم”، فقال البعض إنه “الوادي الملعون” الذي يُعاقب فيه المذنبون داخل الزمان، ودون تحديد لمدى العقوبة، حيث قيل إن الآثمين من بني إسرائيل سيُعاقَبون عاما واحدا ثم تباد أرواحهم، وقيل إنهم سيذهبون إلى الجنة بعد قضاء فترة العقوبة، ورأى آخرون أن كل بني إسرائيل سيبعثون بعد الموت وينقذهم إبراهيم من دخول جهنم، كما أنكر بعض الحاخامات وجود جهنم وقالوا إن أرواح الأشرار ستباد ولن تخلد في العذاب، وفي العصر الحديث أسقط كثير من اليهود فكرة جهنم نهائيا، وما تزال مفاهيم البعث والآخرة غامضة في فكرهم الديني. [موسوعة المسيري: 14/289].
وأما قضية المسيح المنتظر فهي من أهم قضايا اليهود على الإطلاق، والمسيح أو الماشيَّح أو المسيّا هو الممسوح بالزيت، وهو رجل من نسل داود سيأتي حسب زعمهم ليعيد دولة اليهود في فلسطين ويقيم بناء الهيكل المهدم، وبواسطته سيحكم اليهود العالم.
وقد زاد الحديث عنه بكثرة في مرحلة النفي، وفي كل مرحلة ضعف تعرضوا لها ازداد تعلقهم بالمسيا الذي سيأتي ليخلصهم وينتقم لهم من العالم، وتكررت نبوءات الأنبياء بقدومه حتى ملأت معظم أسفار العهد القديم والتلمود البابلي خاصة.
ولا بد من علامات تسبق ظهور الماشيح، فيقولون إنه لن يظهر إلا بعد تجمع اليهود من الشتات في الأرض المقدسة، وتجمع الثروة في أيدي اليهود وسيطرتهم على العالم اقتصادياً بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة، كما أنه لا يظهر إلا بعد قيام حرب عالمية رهيبة يهلك فيها ثلثا سكان العالم ويؤمن به الثلث الباقي، وتسمى هذه الحرب عندهم “حرب التنين” وهي التي يطلق عليها المسيحيون المتصهينون معركة “هرمجدون” [انظر مقال المسيحية المتصهينة]، فيظهر الماشيح عقبها وتدين له شعوب الأرض كافة بالخضوع.
كما لا بد أن يسبق ظهوره هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه، ويزعم التلمود أنه بظهوره ستعم البركة والخير والعدل الأرض ويصبح اليهود سادة البشر. واختلف الحاخامات في مدة بقائه فمنهم من جعلها أربعين سنة، وقال بعضهم إنها سبعون سنة، وزعم آخرون أنها آلاف السنين.
ومن أشهر الشخصيات المترتبة على تعلقهم بفكرة المسيح المنتظر وأشدها ارتباطاً به هي شخصية النبي إلياس الذي يسميه اليهود (إلياهو)، وأخباره كثيرة مشهورة في سفر الملوك الأول وكان معاصراً للملك آخاب في مملكة إسرائيل -عاصمتها السامرة- الذي عبد بعل إرضاء لزوجته الصيدونية الوثنية، وكانت له مواقف عديدة في مواجهة الملك وقومه الذين انحرفوا عن عبادة الله وشاع فيهم الفساد حتى رُفع إلى السماء في مركبة نارية كما يذكر العهد القديم.
ودوره الأهم عندهم يتمثل في عودته قبل ظهور الماشيح مبشراً به، كما يقولون إنه ينزل من حين إلى حين إلى هذه الدنيا ليطمئن على اليهود وإقامتهم لشعائرهم، لذلك اقتضت تقاليد عيد الفصح عندهم تخصيص كأس نبيذ ومكان فارغ على مائدة الفصح في كل بيت للنبي إلياهو لعله يحضر الاحتفال كما تصوره قصصهم الشعبية للأطفال كشخصية مماثلة لشخصية “بابا نويل” أو “سانتا كروز” عن المسيحيين.
ويسجل التاريخ ظهور كثير من اليهود الذين ادعى كل منهم أنه المسيح المنتظر، ومنهم داود الرائي (حوالي سنة 1163م) في العراق زمن الخلافة العباسية، الذي استفاد من علوم المسلمين المزدهرة في عصره وأتقن التنجيم والسحر ودعا للذهاب إلى القدس وانتزاعها من يد المسلمين وإعلان حكم يهودي فيها وأنه المسيح المخلص لليهود، ومن أشهرهم في العصر الحديث شبتاي صِبي (زيفي) الذي عاش في الدولة العثمانية حوالي عام 1647م، وقام بدور أساسي في نشوء ما عرف بعد ذلك بيهود الدونمة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية، وكانوا العامل الأبرز في إسقاط الخلافة الإسلامية فيما بعد سنة 1908م.
بالرغم من إنكار الكثير من اليهود المعاصرين، فإن هناك أدلة تاريخية كثيرة على أن الإسرائيليين القدامى تقربوا إلى الإله الكنعاني “مولوخ”، والذي يُرجح أنه تجسيد للشيطان، عن طريق التضحية بالأطفال، وما زال البعض يمارسون هذه الطقوس السرية في العصر الحديث.
نصوص تأمر بالعنف في العهد القديم: “فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة” [سفر التثنية 18: 28].
“حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك” [سفر التثنية 20: 10- 15].
“فالآن أقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها” [سفر العدد 31: 17].
“فالآن اذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا” [سفر صموئيل الأول 15: 3].
“كما أثكل سيفك النساء كذلك تُثكل أمك بين النساء” [سفر صموئيل الأول 15: 33].
“طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة” [سفر المزامير 137: 9].
“تجازى السامرة لأنها قد تمردت على إلهها، بالسيف يسقطون، تحطم أطفالهم والحوامل تشقّ” [سفر يوشع 13: 16].
“وأطعمهم لحم بنيهم ولحم بناتهم فيأكلون كل واحد لحم صاحبه في الحصار والضيق الذي يضايقهم به أعداؤهم” [سفر إرميا 19: 9].
الشريعة اليهودية تعد الوصايا العشر التي وردت في سفر الخروج عصب الشريعة الموسوية، وقد تكررت في سفر التثنية للتأكيد على أهميتها وجاء فيها: ثم تكلم الله بجميع هذا الكلام قائلاً:
أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمام وجهي.
لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة،… لا تسجد لها ولا تعبدها لأني أنا الرب إلهك إله غيور أتعقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع من أعدائي، وأصنع إحساناً إلى أولف من أحبائي وحافظي وصاياي.
لا تحلف باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يبرئ من ينطق باسمه باطلاً.
اذكر يوم السبت لتقدسه في ستة أيام تعمل وتنجز كل أعمالك واليوم السابع سبت للرب إلهك… لأن الرب خلق السماوات والأرض والبحر وكل ما فيها في ستة أيام، وفي اليوم السابع استراح ولذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه.
أكرم أباك وأمك كيي يطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك.
لا تقتل.
لا تزن.
لا تسرق.
لا تشهد على قريبك شهادة زور.
لا تشتهِ بيت قريبك، لا تشتهِ امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك.
عرس يهودي في أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر
كما تتصف الشريعة اليهودية بأحكام تميزها عن غيرها من الشرائع، ففي الزواج مثلاً يعد بقاء اليهودي في العزوبة أمراً منافياً للدين، لأنه يتسبب في أن يتخلى الرب عن شعبه إسرائيل، ويحرم الزواج بين اليهود وغيرهم الذين يسمون في كتب الشريعة عندهم كفاراً أو (الغوييم) أي الأمم الأخرى أو الأغيار، ويستوي في ذلك المسلمون والمسيحيون والوثنيون، ومنهم من تشدد فأكد على ضرورة وحدة المذهب أيضاً، والأولاد الناتجون عن زواج مخالف هم أولاد زنا، ويصح عندهم أن يعقد بين اثنين كان أحدهما أجنبياً ثم اعتنق الدين لكن أولادهما لا يصح أن يكون منهم كهنة في إسرائيل تأكيداً للنزعة العنصرية التي تصبغ أكثر شرائعهم الفقهية. ويجوز للإسرائيلي الزواج من ابنة أخته أو ابنة أخيه ولكن العكس محرم فلا يحل للمرأة الزواج من ابن أختها أو ابن أخيها، ثم حرم كثير من أحبارهم الزواج ببنت الأخ. كما أن تعدد الزوجات كان جائزاً شرعاً ولم يرد نص بتحريمه أو تحديد حدٍّ أقصى له، وكانت عادة اليهود باتخاذ أكثر من زوجة إلى أن أفتى الحاخام جرشوم بن يهودا الفرنسي (توفي عام 1040م) بتحريم تعدد الزوجات، وذلك نتيجة ما لاقاه يهود أوروبا في العصور الوسطى من اضطهاد واحتقار لأسباب منها تعدد الزوجات المحرم عند المسيحيين، لكن فتواه لم تطبق واستمر التعدد سراً وعلناً لاسيما في بلدان آسيا وأفريقيا.
عرس تقليدي لابن أحد الحاخامات
ومن خصائص الشريعة اليهودية مسألة اليِبُّوم، وهي أرملة اليهودي الذي مات ولم ينجب فيجب عندئذ تزويجها لأخيه الأعزب، فإذا أنجب منها فإن المولود لا يحمل اسمه بل اسم أخيه الميت وينسب إليه، وإذا امتنع أخو المتوفى عن هذا الزواج فإنه يشهر به ويخلع من المجتمع الإسرائيلي.
كذلك تهتم الشريعة اليهودية بالابن البكر فهو خليفة أبيه في السلطة والثروة، وكثيراً ما كانت تشتعل المنافسات بين الإخوة الصغار وأخيهم الأكبر بسبب هذا وتنسج المؤامرات، وأوضح الأمثلة قصة يعقوب وتآمره مع أمه على انتزاع حق البكورية من أخيه عيسو المذكورة في سفر التكوين. والعبارة التالية توضح الغاية من هذا التشريع، فقد نص بن شمعون في قانونه على أن: “البكر من الجارية أو الأجنبية لا يمنع البكورة من الإسرائيلية” والمقصود نزع حق النسبة وميراث النبوة من إسماعيل جد العرب من أبيه إبراهيم وإثباتها لإسحاق ونسله فقط، فمع أن إسماعيل وُلد قبل أخيه إسحاق إلا أنه ابن هاجر الجارية المصرية، أما إسحاق المتأخر في الولادة فكان سليل الزوجة سارة التي توصف بأنها عبرية، وكان لا بد من هذا التشريع لتستقيم نظريتهم في شعب الله المختار.
أما بالنسبة للأموال والممتلكات فنجد أن الرِّبا محرم بين اليهود فقط، وعقوبة المخالف لذلك التكفير والخلع، بينما يباح الرِّبا إذا أقرض اليهودي لغير اليهودي. لكن الأحبار تحايلوا على هذا التشريع فيما بينهم أيضاً.
وباستعراض تقاليد اليهود في الطعام والشراب، نجد أنه يحلُّون من الحيوانات كل ما له ظلف مشقوق وليست له أنياب ويأكل العشب ويجتر، وبذلك يحرم عليهم الخيل والبغال والحمير وكذلك الجمل، والخنزير لأنه ذو ناب والسباع بأنواعها كما يحرم عليهم الأرنب وما يتصل به من قوارض آكلة للعشب لأنها ذات أظافر لا أظلاف مشقوقة، كما يحرم من الطيور كل ما له منقار معقوف أو مخلب أو كان ممن يأكل الرمم، وتذبح الحيوانات الصالحة للأكل من منحرها بالطريقة الشرعية وبعد تلاوة بركة تتضمن اسم الرب. أما صيد البحر فكله حرام عليهم باستثناء السمك الذي له زعانف وعليه قشور فقط، كما أن الدم محرم عليهم كتحريمه على المسلمين، ويحرم عليهم الجمع بين اللحم واللبن الحليب أو أي شيء يمت له بصلة في طعام واحد، لذلك يحرم طبخ اللحوم في السمن والزبد بل تطبخ بزيوت نباتية. كما يحرم أن يوضع اللحم في إناء كان قد وضع فيه لبن أو جبن من قبل.
ويولي اليهود اهتماماً شديداً بأعيادهم الدينية لارتباطها بتعاليم التوراة من جهة وبتاريخهم من جهة أخرى، وأكثر أعيادهم أهمية في توضيح عقيدتهم:
طقوس يوم السبت في لوحة من القرن الرابع عشر
1- السبت: هو العيد الأسبوعي لدى اليهود، ويبدأ من غروب يوم الجمعة إلى غروب السبت، وأهم شعائره الكفُّ عن أي عمل في ذلك اليوم لأن الرب -كما زعم كتبة سفر التكوين- استراح فيه بعد أن تعب من خلق السماوات والأرض، حيث يقول “وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع وبارك الله اليوم السابع وقدسه” [التكوين: 2/ 3]. وتقدم ذبيحة في هذا اليوم لأن الرب “يحب اللحم المشوي”، وتتشدد الشريعة اليهودية في أحكام السبت فمن يعمل عملاً فيه يحكم بالإعدام، حيث زعم كتبة التوراة أن موسى قتل رجلاً لأنه احتطب يوم السبت [الخروج: 31/ 14- 15]، وتطبيق شعائره من أهم بنود الوصايا العشر التي جاء بها موسى كما يقولون.
ومن الأمور المحرمة في السبت استدعاء طبيب لمعاينة مريض مهما كانت حالته حرجة، وعدم صنع طعام أو إيقاد نار، لذلك يصنع اليهود المتدينون طعامهم قبل غروب الجمعة، والامتناع عن الكتابة والتعاقد والبيع والشراء والخروج من البيوت والقتال وإبرام عقود الزواج. لكن الأحبار أبدعوا طرقاً للتحايل على هذه القيود، حيث ذكر القرآن نموذجاً منها في قصة أصحاب السبت [البقرة: 65]، وللتحايل على مسألة الحروب والقتال أباحوا للكاهن الأعلى أن يعلن الحرب على أساس أنها حرب دفاعية، ولهذا يسمى جيشهم اليوم بجيش الدفاع الإسرائيلي.
2- عيد الفصح أو عيد العبور أو الفطير: هو أهم الأعياد اليهودية على الإطلاق، فيحتفلون فيه بإخراجهم من مصر ونجاتهم من فرعون، والفصح كلمة عبرية تعني العبور أي عبور البحر، وسمي عيد الفطير لأنهم لا يأكلون فيه إلا فطيراً قبل أن يختمر كما فعل آباؤهم عند خروجهم من مصر حيث أخذوا معهم عجينهم قبل أن يختمر، وتستمر الاحتفالات بهذا العيد سبعة أيام ويقع في شهر أبيب العبري الموافق لشهر أبريل/نيسان، وعلى كل عائلة أن تذبح استعداداً له خروفاً وأن تلطخ بدمه باب بيتها وعتبته وقائمتيه، وذلك إحياءً لما نص عليه سفر الخروج الذي جاء فيه أن الرب عندما قرر إهلاك كل المصريين -وليس فرعون وجيشه فحسب- نزل وتمشى في أرض مصر ليقتل كل المصريين وأبناءهم وبهائمهم، وحتى لا يخطئ الرب ويقتل أحداً من شعبه المختار فقد جعل لهم علامة تيميز بيوتهم عن بيوت المصريين، فأمرهم بأن يذبح كل منهم شاة ويغمس عتبة بيته بدمها كي يتعرف الرب على بيوتهم فلا يمسها بسوء، وفي هذا التصور للإله يبدو واضحا أنه لا يعلم كل شيء.
شوارع تل أبيب فارغة في يوم الغفران (Roy Boshi)
3- يوم الغفران (يوم كِبُّور): هو يوم من كل سنة حددته الشريعة اليهودية للتكفير عن الخطايا ويسمى يوم الكفارة، ويوافق اليوم العاشر من الشهر السابع من السنة العبرية، وينبغي فيه الامتناع عن العمل، مع الصوم والاعتراف بالخطايا وإقامة الطقوس المستمدة من التوراة، حيث ينص سفر اللاويين على أن الرب أمر موسى وهارون بأن يحضرا تيسين، الأول يقدمانه للرب بعد أن يتلو هارون على رأسه كل خطايا بني إسرائيل ويذبحانه ليحملها عنهم، ويلطخان بدمه قدس الأقداس في خيمة الاجتماع وغطاء التابوت الذي فيه الرب، أما الثاني فيحمل خطاياهم ويرسلونه في البرية، وهو مقدم لعزازيل (إبليس نفسه) في طقوس أقرب ما تكون من عبادة الشيطان وتقديم القرابين له، ما يؤكد تسلل عقيدة ثنوية (ثنائية) الآلهة لدى اليهود، انطلاقا من مفهوم ازدواجية الخير والشر في العالم. وبما أن ذنوب الشعب المختار كلها تُكفّر في هذا اليوم فقد أصبح لدى البعض يوماً لارتكاب جميع الموبقات ونكث العهود، بل وإنكار الحقوق والديون والتحلل من الالتزامات، وبعد انتهاء الطقوس تذهب كل الذبائح والقرابين إلى بيت الكاهن.
4- عيد الفوريم أو البوريم أو عيد المساخر: له ارتباط وثيق بسفر أستير الذي يحكي قصة غانية فاتنة من بي إسرائيل اسمها أستير نجحت في الوصول إلى قلب الملك الفارسي أحشويروش أو قورش الأول (الذي حكم بلاد فارس من 485 إلى 465 ق. م) بعد أن علمت أن وزيره هامان يزمع استصدار أمر من الملك بإعدام طائفة من اليهود في مملكته لجرائمهم، فدبرت مكيدة بمساعدة عمها مردخاي بن يائير، وبعد أن أغوت الملك وأسكرته اتهمت هامان بأنه يتآمر عليه، فصدقها وأعدم هامان وأولاده وجنوده، وجعل عمها أحد وزرائه وقرب اليهود، وعندما تولى ابنه (ربيب أستير) العرش وحطم الدولة البابلية استصدرت أمراً بإعادتهم إلى فلسطين. وكلمة “بوريم” الفارسية تعني القرعة، حيث كان هامان قد أجرى قرعة لتحديد اليوم الذي سينفذ فيه الإعدام، فوقعت القرعة على يوم 13 آذار قبل أن تنقلب الأمور عليه ويقتل. وكتب أحبار اليهود سفرا كاملا باسمها في العهد القديم، وما زالوا يتعبدون بتلاوة هذا السفر مع أنه يتضمن قصة إغوائها للملك، ويعتبرونها من أبطال إسرائيل التي أنقذت شعبها. وفي الثالث عشر من آذار من كل سنة يحتفلون بهذه المناسبة بالإكثار من شرب الخمور والفجور، ويلبسون الأقنعة والملابس التنكرية في أجواء احتفالية (كرنفالية)، فاشتهر هذا العيد -وخاصة لدى المؤرخين المسلمين الذين عاش اليهود بينهم- باسم “عيد المسخرة أو المساخر”.
أشهر الفرق اليهودية: ينقسم جمهور اليهود عرقيا إلى طائفتين كبيرتين هما:
أولاً- الإشكناز: هم من سلالات شعوب “الخزر” التي استوطنت حوض نهر قزوين وشمال أوربا وشرقها، حيث تخلوا عن الوثنية واعتنقوا اليهودية في القرن التاسع الميلادي، أي بعد ظهور الإسلام أيضا، فهم ليسوا من بني إسرائيل ولا يمتون إليهم بصلة، ومع ذلك فهم يشكلون اليوم غالبية يهود العالم الذين يطالبون بعودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة.
كانت كلمة “إشكناز” تدل في العصور الوسطى على الأراضي الأوربية التي يسكنها الجنس الجرماني ثم أصبحت تدل على ألمانيا، وكذلك شمال فرنسا وشرقها والنمسا وبولونيا وسائر أوربا الشرقية ودول الاتحاد السوفييتي السابق. ونتيجة البعد الجغرافي عن فلسطين لم يستخدم الإشكناز اللغة العبرية، فحلّت محلها رطانة خاصة بحارات اليهود (غيتوهات) أساسها لهجة ألمانية قديمة ممزوجة بألفاظ عبرية، ومستقاة من المصطلح الديني عند اليهود، فلما عادوا للاهتمام بالعبرية في العصر الحديث ظهرت بينهم لهجة خاصة محرفة، ولهم طقوس خاصة في الأعياد وبعض التقاليد المختلفة في المأكل والمشرب والملبس، وذلك بتأثير الأمم التي عاشوا في كنفها والمناخ البارد الذي اعتادوا عليه قروناً، ومن الإشكناز خرج أقطاب الصهيونية المعاصرة في بدايات القرن العشرين الميلادي.
ثانياً- السفارد (سفارديم): هم اليهود الذين استقروا في حوض البحر الأبيض المتوسط المتحدرون من يهود شبه جزيرة إيبيريا (إسبانيا والبرتغال)، فبعد دخول المسلمين إلى الأندلس تمتع اليهود هناك بحرّية دينية وثقافية واجتماعية كبيرة مما سمح لهم بالمحافظة على استعادة عبريتهم التي فقدوها لقرون، وعندما تعرض اليهود مع المسلمين للاضطهاد في محاكم التفتيش الكاثوليكية بعد سقوط الأندلس عام 1492م، هاجر عدد كبير منهم إلى فرنسا وإنجلترا وإيطاليا واليونان وتركيا وأطلق عليهم اسم سفارديم. ومع تأسيس الكيان الصهيوني نزح معظمهم إلى هناك وشكلوا أغلبية السكان، لا سيما وأنهم كانوا يحافظون على اللغة العبرية التي أصبحت اللغة الرسمية للدولة الناشئة، لكن قادة الصهيونية من الإشكناز سارعوا إلى الضغط على الاتحاد السوفييتي لترحيل ملايين اليهود الإشكناز كي يشكلوا غالبية سكان إسرائيل ويطبعوا الدولة بطابعها الغربي العنصري.
تشير دراسات مختلفة إلى أن اليهود الإشكناز يمثلون 83.33% من مجموع اليهود في العالم، أما السفارديم فنسبتهم حوالي 5.3%، بينما تصل نسبة يهود العالم الإسلامي والشرق إلى 11.39% من مجموع اليهود في العالم والبالغ 13.2 مليوناً.
ويعتبر الكثيرون اليوم أن الإشكناز هم اليهود الغربيون وأن السفارديم هم الشرقيون، وهذا ليس صحيحا، فهناك الكثير من السفارديم اليوم في دول أوربا الغربية، كما ينبغي التمييز بين السفارديم واليهود الشرقيين (المزراحيين)، فمصطلح “اليهود الشرقيين” كان يُطلَق على بني إسرائيل الذين غادروا أورشليم بعد هدمها إلى العراق وإيران وأفغانستان والجزيرة العربية وشمال أفريقيا وجورجيا.
مجموعة من نساء الفلاشا عند حائط البرقاق بالقدس (سبوتنيك)
ومن الصعب أيضا الإقرار بأن كل المزراحيين ينحدرون من سلالة بني إسرائيل، فبالرغم من حرص اليهود على نقاء عرقهم إلا أن الكثير منهم تزوج وصاهر أعراقا أخرى في المشرق العربي والإسلامي، وهناك سلالات يهودية اليوم في الهند، وكذلك سلالة أخرى في الحبشة (الفلاشا).
ويجدر بالذكر أن يهود المشرق يختلفون عن السفارديم بخلفياتهم الثقافية والتاريخية مع أنهم يتبعون النهج السفاردي في العبادة.
وتتسم العلاقة بين الإشكناز الغربيين والسفرديم الشرقيين بتوتر شديد وصراع دائم في الكيان الصهيوني بسبب التمييز العنصري، إذ يعتبر الإشكناز أنفسهم أعلى رتبة من الآخرين، ويحتكرون لأنفسهم أهم مناصب السياسة والامتيازات الاقتصادية، مما يولد أحقاداً بين الطرفين.
وإلى جانب التصنيفات العرقية السابقة، والتي تتبعها فوارق مذهبية وثقافية أيضا، فهناك فرق أخرى انبثقت عن التطور المستمر في الفكر الديني اليهودي، وقد عاشت بعضها لمدة قد تطول أو تقصر بحسب الأحوال والملابسات، بينما اندثر أكثرها، ونذكر من هذه الفرق ما يلي:
السامريون
1- السامريون: هي فرقة صغيرة لا يزيد عدد أبنائها عن المئات، تعيش بجوار مدينة نابلس الفلسطينية التي قامت على أنقاض مدينة السامرة التي ينتسبون إليها، ويزعمون أنهم البقية الباقية على الدين الصحيح، ولا يؤمنون بنبوة الأنبياء الذين جاءت أسفارهم بعد توراة موسى في العهد القديم ويعدونها من صنع البشر باستثناء سفر يوشع بن نون، فيرفضون التلمود وغيره من كتابات الأحبار. ولهم نسختهم الخاصة من التوراة التي تختلف اختلافاً محسوساً عن التوراة الشائعة، ويقدسون جبل جرزيم قرب نابلس ويسمونه جبل الطور تيمناً بالطور الذي كلم الله عليه موسى، ويعيشون في عزلة عن بقية اليهود، وينفون عن عامة اليهود الانتساب إلى إسرائيل أو الإيمان بإله إسرائيل.
2- الفريسيون: هم طائفة علماء الشريعة (الأحبار) قديماً الذين كانت لهم الكلمة العليا في توجيه المجتمع اليهودي على عهد المسيح، كما كانوا من ألدّ خصومه وأكثرهم تعصباً، وامتازوا آنذاك بمنزلتهم عند الولاة الرومان. واسمهم مشتقٌ من كلمة “فروشيم” التي تعني “المفروزون” أي الذين امتازوا على الجمهور وعزلوا أنفسهم عنهم وأصبحوا لعلمهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة الصفوة المختارة، ويعتبرون بقية اليهود من “عوام الأرض”. وإذا كان اليهود عامة يرون أنفسهم شعب الله المختار فإن الفريسيين عدّوا أنفسهم “خاصة الخاصة”.
رسم تخيلي لبولس
والفريسيون هم الذين وضعوا التلمود وتعاليمه التي تقرر “أن مخافة الحاخامات هي مخافة الله، وأن أقوالهم أفضل من أقوال الأنبياء، وتعاليمهم لا يمكن نقضها ولا تغييرها ولو بأمر الله تعالى نفسه”. واشتهروا بوضع الحيل للتخلص من قوانين الشريعة التي كانوا يتظاهرون بالتقيد بها، لذا ناصبهم المسيح عيسى بن مريم وابن خالته يحيى بن زكريا عليهما السلام العداء، وامتلأ الإنجيل -الذي أنزل على عيسى- بذمِّهم وفضح نفاقهم حتى أصبحت كلمة “فريسي” تدل على العار.
وكان بولس -وهو أول من بدَّل دين المسيح كما سنرى في مقال المسيحية– يهودياً فريسياً، إلا أن تغلغل اليهود التدريجي في الثقافة الغربية المعاصرة بلغ من القوة أن يقنع المسيحيين البروتستانت -ولاحقا الكاثوليك- بتبرئة اليهود مما ذمهم به المسيح نفسه والنبي يحيى (يوحنا المعمدان)، مع أن اليهود هم الذين اتهموا السيدة مريم بالبهتان وقالوا في المسيح إنه ابن زنا [انظر مقال المسيحية المتصهينة].
3- القنّاؤون: كلمة قنّاء العبرية تعني الغيور أو صاحب الحميّة، والمقصود هو الحميّة الدينية، وتشبه هذه الفرقة بعقائدها وطقوسها الفريسيين إلا أنها أشد تعصباً منهم، فأتباعها يتهمون الفريسيين بالجبن والخيانة لأنهم رضوا بحكم الرومان وتعاونوا معهم فلا يُقبل أن يحكم وثني يهودياً. وقد ظهروا بعد هزيمة المكابيين على يد الرومان وكانوا يقومون بعمليات اغتيال للرومان واليهود المتعاملين معهم، ما دفع السلطات الرومانية الحاكمة إلى قمعهم بقوة، الأمر الذي رد عليه القناؤون بمزيد من التشدد وتشكيل الجماعات السرية.
وكان القناؤون يقتلون كل من يخالف الشريعة اليهودية حتى أطلق عليهم الفريسيون اسم “سيقارين” أي السفاح، وكانوا شديدي العداء للمسيح عليه السلام.
هرتزل
4- الصهيونية: إذا كانت كثير من الفرق اليهودية قد اندثرت وانتهى وجودها فإن آثارها الفكرية امتدت في الحركات اليهودية المعاصرة التي تتشكل منها مجتمعات اليهود اليوم، وأشهرها الحركة الصهيونية التي جمعت بين فكر الفريسيين وتعصب القنائين وأساليبهم.
فالصهيونية حركة سياسية عنصرية متطرفة ترمي إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين تحكم من خلالها العالم كله، وقد اشتقت اسمها من جبل صهيون في القدس الذي تطمع إلى أن تشيد فيه “هيكل سليمان” ليكون مركز مملكتها.
وإذا عدّ معظم الباحثين في الصهيونية النمساوي اليهودي تيودور هرتزل (توفي 1904م) الداعية الأول للفكر الصهيوني فإن جذورها الفكرية والتاريخية تعود إلى ثورة المكابيين ومعظم الحركات اليهودية التي أُججت فيها الروح الدينية والقومية، فهي تنظيم وتجديد للصهيونية القديمة.
تقوم الصهيونية على تعاليم التوراة والتلمود، ومع ذلك يوجد من زعمائها من يوصف بالملحد، وهي التي تقود ما يسمى بدولة إسرائيل وتخطط لها، كما أن الماسونية تتحرك بتعاليمها وتوجيهاتها، ويخضع لها الكثير من زعماء العالم ومفكريه، ولها مئات الجمعيات في أوروبا وأمريكا في مختلف المجالات، والتي تبدو متناقضة في الظاهر لكنها في الواقع تعمل كلها لمصلحة اليهودية العالمية.
واليهود اليوم ينقسمون إلى فرق على أساس انتمائهم الديني: فمنهم المحافظون والإصلاحيون والأرذثوكس، إضافة إلى معتنقي فكر القبالاه والحسيدية.
وهناك من يبالغ في قوة اليهود مبالغة كبيرة جداً، كما نجد آخرين يقللون من شأنهم ودورهم في صنع المؤامرات، والرأيان يحتاجان إلى تقويم وتوجيه لتحديد مواطن قوة اليهود ومدى تأثيرهم في العالم وكشف خفايا مؤامراتهم، على أن استقراء الواقع يدل على أن اليهود الآن يحيون فترة علوٍ استثنائية تحتاج من المهتمين إلى الدراسة والبحث [انظر خاتمة مقال الماسونية].
يهود أرثوذكس يتجمعون للصلاة عند حائط البراق (المبكى) وهو جزء من الجدران الخارجية للمسجد الأقصى
أهم المراجع بولس الفغالي وأنطوان عوكر، العهد القديم العبري: ترجمة بين السطور، الجامعة الأنطونية والمكتبة البولسية، 2007م.
زالمان شازار، نقد العهد القديم، ترجمة أحمد محمود هويدي، رؤية للنشر والتوزيع، 2014م.
د.م. دنلوب، تاريخ يهود الخزر، ترجمة سهيل زكار، دار قتيبة للنشر: دمشق، 2005م.
حسن ظاظا، الفكر الديني اليهودي: أطواره ومذاهبه، دار القلم: دمشق، 1999م، ط4.
محمد علي البار، المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم، دار القلم: دمشق، 2011م، ط2.
زكي شنوده، المجتمع اليهودي، مكتبة الخانجي، القاهرة، بدون تاريخ.
عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق: القاهرة، 1999م، ط1.
عبد المنعم فؤاد، قضية الألوهية في الأسفار اليهودية، مكتبة الثقافة الدينية: القاهرة، 2004م.
سليمان بن قاسم العيد، النبوة والأنبياء في العهد القديم، جامعة الملك سعود: الرياض، 2003م.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي: الرياض، 1989م، ط1.
طارق سويدان، اليهود الموسوعة المصورة، شركة الإبداع الفكري: الكويت، 2009م، ط1.
Jean Schorer, Das Christentum in der Welt und für die Welt, Wien 1949.
يقال إن النصرانية صفة لأتباع عيسى بن مريم عليه السلام الذين آمنوا به من بني إسرائيل، لمناصرتهم له وتناصرهم فيما بينهم، حيث ذكرهم القرآن الكريم بقوله: {قال الحواريون نحن أنصار الله} [الصف: 14]، أو هي صفة مقتبسة من بلدة الناصرة في فلسطين التي ولد فيها عيسى. وفي مرحلة لاحقة أُطلق على هذه الديانة اسم المسيحية نسبة إلى المسيح عيسى بن مريم، وقد اختُلف في سبب تسميته بالمسيح، فقيل لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ وشُفي، أو لأنه مسح الأرض بالسياحة والسفر، أو هي كناية عن تعظيمه في العُرف الإسرائيلي الذي يقتضي مسح رأس الملك بالزيت المقدس وتسميته “ماشيَّح” أي الممسوح بالزيت، فيكون عيسى بذلك ممسوحا بالزيت من قبل الرب.
ويعتقد المسيحيون أو النصارى اليوم أن ديانتهم هي التي جاء بها المسيح (يسوع) بصفته أحد أقانيم الإله الثلاثة، بينما يكذبها اليهود، في حين يؤمن المسلمون بأن الأصل الذي جاء به عيسى هو الرسالة الإلهية المكملة لرسالة موسى عليهما السلام، والمُتمِّمة لما جاء في التوراة من تعاليم، وأنها موجهة إلى بني إسرائيل لدعوتهم إلى التهذيب الوجداني والنفسي وإلى أصول العقائد التي جاء بها الأنبياء والرسل جميعاً، لكنها خضعت لسلسة من التغيرات والتطورات التي حرفتها عن مسارها الأصلي وجعلتها ديناً مستقلاً ومختلفاً.
تاريخ بني إسرائيل قبل المسيح فصّلنا في مقال “اليهودية” تاريخ بني إسرائيل الذي بدأ بخروج والدهم الأول يعقوب عليه السلام إلى مصر، وما تلا ذلك من أحداث تاريخية وتبعات عقائدية مروراً بعودتهم مع النبي موسى إلى فلسطين، ثم انقسام إرث داوود وسليمان إلى مملكتين متناحرتين، وظهور سلسلة من الأنبياء والقضاة والمصلحين والمحرّفين.
ولعل أكثر الأحداث تأثيرا في عقيدة بني إسرائيل خلال تاريخهم هو الهجوم الذي شنه الملك البابلي نبوخذ نصّر (بختنصر) على بيت المقدس (أورشليم) عام 586 ق.م، حيث دمرها وأخذ من بقي فيها من اليهود عبيداً إلى بابل، فخلال هذا السبي تبلورت لدى اليهود المفاهيم الاستعلائية والنظرة العنصرية تجاه شعوب الأرض، وبدأ خلالها ظهور الكتب اليهودية المقدسة على النحو المعروف اليوم.
رسم تخيلي لتدمير القدس على يد البابليين
خضعت أرض فلسطين لاحقا لحكم الفرس الذين أنهوا السبي البابلي وسمحوا لليهود بالعودة إليها سنة 538 ق.م، ثم انتهت سيطرتهم عليها سنة 332 ق.م عندما استولى عليها الإسكندر المقدوني، وبعد وفاته حكمها البطالسة ثم السلوقيون حتى سنة 63 ق.م عندما تدخلت روما نتيجة نزاعات داخلية وخارجية فيها فسيطرت عليها وأصبحت ولاية رومانية.
اختلفت حال اليهود السياسية باختلاف الحاكم، ففي بداية حكم السلوقيين حازوا الكثير من الامتيازات والحرية الدينية لممارسة شعائرهم وتحملت السلطة الحاكمة جميع نفقات معابدهم وألغت الضرائب، لكن ذلك لم يدم طويلاً، فعندما تولى أنتيوخس الرابع الحكم اتخذ ضدهم نهجاً قاسياً وألغى الامتيازات وباع الرئاسة الدينية لمن يدفع منهم أكثر، وعمد إلى نشر الثقافة اليونانية وإحلال قوانينها محل التشريعات اليهودية، فقامت ضده “ثورة المكابيين” بقيادةعائلة متاتيا اليهودية، التي حمل أفرادها المطارق أثناء ثورتهم، فكلمة مكابي تعني المطرقة. وقد انتصروا في البداية وفرضوا سيطرتهم واستعادوا المعبد وأعادوا افتتاحه، وسموا ذلك اليوم عيد حَنوكا.
وسرعان ما دخل الإسرائيليون في حروب خارجية مع جيرانهم، وفي نزاعات داخلية مع خصومهم الفريسيين الذين اعتبروا أحد أفراد العائلة غير صالح للحكم لكون أمه غير يهودية، واستمرت القلائل إلى أن تدخلت روما وفرضت سيطرتها، وتركت حكم فلسطين لعائلة المكابيين اسمياً، بينما كان الحكم الفعلي لمن تنصبه نائباً عليهم من طرفها. ومن أشهر هؤلاء النواب: هيرودس الكبير، وابنه هيرودس أنتيباس، وقد قضى الاثنان على ما بقي من أسرة المكابيين. وفي أواخر عهد هيرودس الكبير ولد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
رسم تخيلي للمسيح وهو يجادل الفريسيين بريشة غوستاف دوريه
تنوعت الفرق اليهودية التي عاصرت مولد المسيح، وأبرزها: السامريون والأسينيون والحسيديم، إلا أن الأثر الأبرز في المجتمع اليهودي كان للفريسيين والصدوقيين، فقد ظهرت طائفة الفريسيين في أواخر عهد المكابيين ووصلت أوج قوتها في زمن المسيح، وعانى منها المسيح ووصفها بأقبح الأوصاف، وكان سبب ظهورها في بداية الأمر هو المحافظة على العقائد اليهودية من التأثير اليوناني الجارف، واشتهر أفرادها بالتمسك بحرفية النصوص والاهتمام بالمظهر الديني على حساب فساد باطنهم الشديد، فاشتهروا بوضع الحيل للتملص من قوانين الشريعة التي كانوا يتظاهرون بالتقيد بها، وكانوا يقدمون أيضاً فتاوى التخلص من قوانينها لمن يرشيهم، كما كانوا على عداء شديد مع الصدوقيين الذين ظهروا أوائل القرن الثاني قبل الميلاد وشكلوا طبقة أرستقراطية واسعة الثراء وشديدة التأثر بالثقافة اليونانية، وكانوا ينكرون البعث والجزاء والملائكة والجن ويرون أن جزاء الإنسان يتمُّ في الدنيا، ويسعون إلى استمالة السلطات الحاكمة مهما كانت ويقيمون معها علاقات ودية، وقد تأثروا بفلسفة أبيقور صاحب مذهب اللذة الذي يقول: إن اللذة هي أسمى أهداف الحياة، لكنهم لم يقصروا اللذة على الجانب الحسي منها بل هي تشمل عندهم الحياة الاجتماعية والعقلية، وأدى ذلك إلى شن الحملات عليهم من الفريسيين، وعندما جاء المسيح كان الصدوقيون طائفة محدودة ولم يهاجمهم المسيح كما هاجم الفريسيين لشدة فسادهم، ومع ذلك اتفقت الفرقتان على كرهه وعداوته والتآمر لقتله.
وسنعرض فيما يلي طائفة من أشكال الفساد والتحايل على الشريعة التي انتشرت بين اليهود -لاسيما الفريسيين منهم- قبيل عصر المسيح وزمن بعثته:
1- كانت الشريعة تحرم على اليهود حمل أي شيء خارج البيت يوم السبت، فكانوا يحتالون على ذلك بوضع أبواب ونوافذ في شوارع المدينة فتصير المدينة بزعمهم بيتاً واحداً، وكان يحرم عليهم السير في ذلك اليوم أكثر من ألف ياردة، فكان اليهودي يمشي إلى شجرة معينة ويصل إليها ثم يبدأ من هذه الشجرة المسير إلى شجرة أخرى وفي كل مرة يقول سأبدأ رحلتي من هذه الشجرة وبذلك قد تصل رحلته إلى آلاف الياردات أو أكثر.
2- كانت الشريعة تفرض على الابن أن يعول والديه في حالة الشيخوخة أو الفقر فكان الابن يتحايل على ذلك بأن يقدم ممتلكاته إلى إدارة المعبد لمدة ما شريطة أن يستردها عند طلبه مقابل جزء من المال يذهب إلى جيوب الكهنة، ويصبح الابن حينئذ فقيراً لا يمكنه إعطاء والديه شيئاً، فإذا أقام الوالدان دعوى أمام القاضي يثبت الابن أنه قدّم أمواله قرباناً للمعبد وتسقط القضية ثم يسترد أمواله من الكهنة.
3- مع أن الزنا محرم في الشريعة اليهودية ضمن الوصايا العشر إلا أن اليهود أحلّوه إذا حدث في الخفاء ولم يعلم به أحد، وبذلك انتشر بينهم انتشاراً كبيراً، فمن السهل ارتكاب هذا الفعل بعيداً عن الأعين.
4- فرض الأحبار على اليهود تقديم القرابين والنذور رجاء الحصول على الغفران، ومنها أمرهم للناس بذبح الحمام يوميا وتقديمه للمعبد، فتحول المعبد إلى سوق لبيع الحمام نفسه كي تذهب الأرباح إلى جيوبهم واللحوم إلى بيوتهم، كما ربط الأحبار والكهنة حصول الناس على الغفران برضاهم ودعائهم لهم.
5- ساءت الأحوال الاقتصادية بشكل كبير بسبب الضرائب الكثيرة التي كان الأحبار يفرضونها على الناس، كما أدى تعاملهم بالرِّبا إلى إرهاق الناس وزيادة معاناتهم وضيقهم.
وهكذا فسدت العقيدة والأخلاق، وفسدت معهما الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث غلبت على بني إسرائيل في تلك الفترة النزعة المادية على حساب الروح، وذلك بالرغم من ادعائهم أنهم شعب الله المختار وأحباؤه وأنهم وحدهم يمثلون الصلة بينه وبين الناس، أما غيرهم من البشر فهم دونهم في المنزلة حتى إن اعتنقوا اليهودية. ولذلك ركزت دعوة المسيح على محاربة المادية والعنصرية عند اليهود، ولقي في سبيل ذلك العنت والمشقة إلى درجة التحريض على قتله والشروع بذلك.
أصل المسيح ومولده كان عمران جد المسيح أحد عظماء بني إسرائيل، وكانت زوجته عاقراً لا تلد فنذرت لله تعالى إن حملت لتجعلن ولدها محرراً، أي خالصاً لخدمة بيت الله والقيام بشؤونه، وكان نذرها على فرض الذكورة، فلما وضعتها أنثى جددت العزم على الوفاء بنذرها ولو كانت أنثى، وأودعتها مسجد الأنبياء في القدس (المسجد الأقصى) وسمتها مريم أي خادمة الرب، وكان أبوها عمران قد توفي وهي في بطن أمها فكفلها زكريا عليه السلام نبي ذلك الزمان، وكان زوج خالتها وقيل زوج أختها. فنشأت تحت رعايته مطهَّرة بعيدة عن المعاصي والآثام، وكان الله يدرُّ عليها الرزق من غير جهد ولا عنت، حتى أثار ذلك تعجب كافلها، وقد ذكر القرآن الكريم هذا الأمر بقوله: {كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} [آل عمران: 37].
وعندما علم زكريا بحالها رغب في الولد الصالح بالرغم من تقدم سنّه وكون امرأته عاقراً أيضاً، فاستجاب الله دعاءه ووهبه يحيى عليه السلام.
وكان لنشأة مريم الصالحة حكمة بالغة، فاصطفاها الله وجعلها أماً لمن يولد من غير نطفةٍ آدمية، ليكون آية على قدرة الله وتعاليه عن الالتزام بالأسباب، فهو خالقها والقادر على خرقها متى يشاء. وقد خصص القرآن الكريم سورة باسمها (سورة مريم) وسورة باسم عائلتها (سورة آل عمران) كرامةً لهم ورفعاً لشأنهم، وذبَّ فيهما عما يمكن أن يتقوَّله البشر عليها في شأن حملها بعيسى عليه السلام من غير زواج.
وقد فوجئت السيدة مريم بأمر الحمل عندما جاءها جبريل عليه السلام في معتكفها بعيدة عن أهلها بهيئة البشر، وبشرها بمولودها ونفخ فيها من روح الله فشعرت بالحمل، ولم يرد نص صحيح يبين مدة الحمل لكن كثيرا من علماء المسلمين رجحوا أنها المدة الشائعة بين الناس (تسعة أشهر). ولما ولدته خرجت به على قومها ففوجئوا به، حتى اتهمها البعض بالزنا، لكن الله جعل دليل براءتها من دليل الاتهام نفسه، فأنطق الغلام في المهد معلناً براءة أمه وأنه عبد لله ولد من غير أب.
رسم تخيلي لولادة المسيح بريشة جيرارد فان هونتورست عام 1622
سمي الغلام عيسى، وهو معرب من الاسم العبري يشوع المركب من كلمتين “يهوه شوع” أي “الله يخلص” أو اختصارا “المخلص”، وأما صفة المسيح (بالعبرية ماشيَّح أو مسيّا) فتطلق في العهد القديم على كل من الكاهن والملك والنبي لأنهم كانوا يُمسحون بالزيت المخلوط بالعطر كدلالة على تكريسهم لخدمة الرب وشعبه.
وقصة ولادته في الأناجيل المتداولة اليوم تأتي مختصرة، فمريم ولدت الغلام بعد أن زارها ملاك الرب ونفخ فيها، وكانت آنذاك مخطوبة ليوسف النجار، ثم تزوجها دون أن يمسها إلى أن تلد، ولذلك لم يتهمها أحد بالزنا لأنها متزوجة ظاهرياً، ولم تدوّن الأناجيل معجزة كلام عيسى في المهد.
ولم يذكر في المصادر الإسلامية شيء يتعلق بنشأة عيسى عليه السلام وما يتعلق بإرهاصات نبوته، وأغلب الظن أنه قد ظهر منه ما يدل على روحانيته وسط قومٍ سيطرت عليهم النزعة المادية، وتربى على ما كان يتربى عليه أمثاله الذين ينشؤون على التقى والمعرفة في بني إسرائيل، لا سيما وأنه من أسرة جمعت بين الصلاح والنبوة.
وقد ركزت الآيات القرآنية على الحكمة في ولادته المعجزة من غير أب، فجاء فيها: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 21]، حيث دلت هذه الآية على أمرين مهمين، الأول أن ولادته من غير أب تعلن عدم تقيد قدرة الله بقانون الأسباب والمسببات، وذلك في وسط قوم غلبت عليهم النزعة المادية. والثاني: أن ولادته إعلاء لعالم الروح بين قوم أنكروها، حيث جعل كتبة التوراة الإنسان جسماً عضوياً لا روح فيه، وفسروا النفس بأنها الدم عندما قالوا “لا تأكلوا دم جسمٍ ما لأن نفس كل جسد هي دمه”.
حاول مفكرون ومؤرخون علمانيون في القرن الثامن عشر الخروج بأدلة تنفي وجود المسيح وتعتبره مجرد أسطورة، وذلك في ذروة الثورة الثقافية ضد الكنيسة في أوروبا [انظر مقال العلمانية]، وربما كانت أولى هذه المحاولات قد ظهرت على يد فليني عام 1791 في كتابه “خرائب الإمبراطورية”، ثم سار على نهجه عشرات المفكرين ولا سيما في هولندا وألمانيا. وخلال الحكم الشيوعي لروسيا وشرق أوروبا كانت المدارس تزرع في عقول الأطفال فكرة أسطورية المسيح، استنادًا إلى اعتقاد كارل ماركس بأن المسيح لم يكن سوى تجسيد لحلم البشر بتقديس أنفسهم في هيئة إنسان يُعبد. لكن هذه الأفكار لم تصمد أمام عشرات المكتشفات الأثرية والمخطوطات التي تعود إلى عصر المسيحيين الأوائل، ولا يكاد يشكك في وجود المسيح أحد من الباحثين الجادين اليوم.
لوحة تخيلية لتعميد المسيح على يد يوحنا (النبي يحيى) بريشة أندريا مانتغنا
دعوة المسيح وموقف اليهود منها يرجح المؤرخون أن بعثة عيسى عليه السلام بدأت في سن الثلاثين، وهو السن المذكور في الأناجيل، وتقول المصادر المسيحية إن البداية كانت بالتعميد على يد يوحنا المعمدان (النبي يحيى بن زكريا لدى المسلمين)، حيث خرج يسوع من الجليل إلى يوحنا عند نهر الأردن، فعمّده بالغطس في ماء النهر، وعندئذ حلّ عليه الروح القدس على هيئة طائر الحمام، وسمع صوت من السماء يعلن “هذا ابني الحبيب الذي به سُررت تأييدًا لرسالته”.
يتطلب التعميد الغطس في المياه الجارية بعد التوبة، وهو يرمز لولادة ثانية يكون فيها الإنسان أقرب إلى الله، وقد كانت هذه العادة منتشرة في بعض المجتمعات اليهودية مثل الأسينيين.
ووفقا للمصادر المسيحية، انتقل يسوع بعد تعميده إلى البريّة للاعتكاف والصوم أربعين يومًا وليلة كما فعل موسى، وفي ختام تلك الأيام جاءه إبليس ليختبره ثلاث مرات ويثنيه عن دعوته، لكن المسيح كان يبكّته ويرد عليه بثلاث آيات من سفر التثنية. وبذلك انتصر الإنسان (المتمثل بالمسيح) على الشيطان بعد أن انتصر الشيطان على الإنسان المتمثل بآدم وحواء، وانطلق بذلك المسيح ليعلن الدعوة ويجمع الأتباع من حوله.
وأنزل الله على عيسى كتاباً اسمه الإنجيل مصدقاً للتوراة التي جاء بها موسى، فدعا إلى إصلاح العقيدة التي انحرفت وهجر الملاذ الدنيوية التي استغرقت نفوسهم في ذلك الزمان، وبشَّر بعالم الآخرة والثواب والعقاب التي أنكرها فريق منهم.
وأيده الله بمعجزات عدة، وقد ذكرت الأناجيل المعتمدة اليوم الكثير منها دون أن تحصيها لكثرتها، ومنها إحياء الموتى وشفاء المرضى والمشي على الماء والتنبؤ بالأحداث المستقبلية وتكثير الطعام القليل بحيث يكفي الألوف من الناس (إنجيل متّى)، ويرى الأساقفة أن المسيح فعل ذلك بقدرته من حيث كونه إلهاً، أما غيره من الأنبياء والرسل فيفعلونها بقدرة الله لا بقدرتهم.
وفي القرآن الكريم جاء ذكر تلك المعجزات مع معجزات أخرى، وهي تصويره من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وإحياؤه الموتى بإذن الله، وإبراؤه الأكمه (الذي ولد فاقداً للبصر) والأبرص، وإنباؤه بأمور غائبة عن حسِّه لم يعاينها، كما أنزل الله عليه مائدة من السماء بطلب من الحواريين (تلاميذه المقربين) لتطمئن قلوبهم. وذلك فضلا عن معجزة مولده وتكلمه في المهد، بينما لم يرد في الأناجيل المعتمدة معجزة الكلام في المهد ولا المائدة ولا خلق الطير من الطين ولا إنباء التلاميذ.
ويرى باحثون أن إتيانه بهذا النوع من المعجزات ينطوي على حكمة مفادها أنه أرسل في زمن الفلاسفة الطبيعيين وشيوع المادية، حيث ذكر الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي رينان أن اليهود آنذاك لم يكونوا على علم بالطب الطبيعي، فالتعليل الأنسب لكون معجزات المسيح على هذا النحو هو مناسبتها لأهل زمانه، لا لكونهم أطباء بل لنزعتهم الطبيعية المادية.
مقام النبي يحيى في الجامع الأموي بدمشق (James Gordon)
وقبيل بدء المسيح بدعوته تجرأ اليهود على قتل النبي يحيى الذي تصدى لفسادهم دون خوف من سطوة الحاكم، فنُقل إليه أن الملك هيرودس وقع في حب هيروديا ابنة أخيه وأنه ينوي الزواج بها وهي متزوجة، وفي رواية أنه تزوجها فعلاً وزوجها حي، فأعلن يحيى أن هذا مخالف للتوراة وأنه زواج باطل، وعندما وجدوا أنه سيكون عقبةً في سبيل هذا الزواج تآمرت أم الفتاة مع ابنتها على إغواء الملك حتى يسهل عليها أن تطلب منه رأس يحيى، فما كان منه إلا أن حقق لها ما أرادت وأحضر رأس النبي يحيى عليه السلام أمامها، ويقال إنهم قتلوا النبي زكريا أيضاً، فندد بهم المسيح وبجرأتهم على أنبياء الله وتماديهم في غيهم وبدأ دعوته.
تلقى اليهود دعوة المسيح بالرفض الشديد وكانوا أول المحاربين له ولم يؤمن به إلا القليل منهم، وهم الفقراء والمستضعفون، خاصة وأن أحبار اليهود كانوا قد جعلوا من المسيح الذي بشّر به موسى مسيحاً سياسياً يبسط سلطان بني إسرائيل على العالم أجمع، إلا أن دعوة عيسى لم تكن تتعرض للسياسة بل كانت إصلاحاً دينياً وخُلقياً، ومواجهةً لقلوب قاسية شاردة، فضلا عن مساواته بينهم وبين الناس جميعاً، فحاولوا منع الناس عن قبول دعوته واتهموه ووالدته مريم بأقذع الصفات، فلما أعيتهم الحيلة حرضوا الرومان عليه، لكن الرومان لم يلتفتوا بدايةً لتحريضهم لعدم اكتراثهم للخلافات الدينية بين اليهود، فزعم أعداؤه من اليهود أنه يحرض على الحاكم الروماني لحمله على إصدار الأمر بالقبض عليه والحكم بإعدامه صلباً.
ويوضح القرآن الكريم أن الله لم يمكّنهم من القبض عليه وقتله، بل رفعه إلى السماء وألقى شبهه على غيره فصلبوا ذلك الشبيه ظناً منهم أنه المسيح، دون أن يحدد القرآن شخصية الشبيه، فتقول الآية: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ، مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157-158].
بينما يعتقد المسيحيون أن المسيح صُلب وأن الواشي به هو يهوذا الأسخريوطي أحد تلاميذه (الحواريين) الاثني عشر، وأنه دُفن بعد صلبه في قبر وبعد ثلاثة أيام قام في يوم الفصح ومكث أربعين يوماً ثم ارتفع بعدها إلى السماء أمام تلاميذه الذين عيّنهم لنشر ديانته، وقال لهم: “اذهبوا إلى العالم واكرِزوا بالإنجيل للخليقة كلها” [إنجيل مرقس 16: 15]، وعمّدهم باسم الآب والابن والروح القدس، وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً.
المسيحية بعد المسيح عندما رحل المسيح اجتمع التلاميذ الأحد عشر (بعد مفارقتهم ليهوذا الذي وشى بالمسيح والذي تختلف الروايات بين كونه هو من وقع عليه شبهه وبين من يقول إنه انتحر)، وأكملوا العمل على نشر الدعوة، وكان معهم تلاميذهم السبعون الذين اختاروهم، وكانوا يعيشون حياة بسيطة ملؤها الحب والتآخي والتعبد.
سميت هذه المجموعة بكنيسة القدس (أورشليم)، والكنيسة يقصد بها التجمع أو جماعة المدعوين، فلم تكن مبنى للعبادة كما يفهم من المصطلح اليوم بل هي تعبير مجازي عن اجتماع مجموعة من المؤمنين برئاسة يعقوب وبطرس حواريَي المسيح عليه السلام. وقد آمن بدعوتهم آلاف الناس وظهروا على أعدائهم من اليهود وغيرهم.
رسم تخيلي لبولس
وسرعان ما ظهرت شخصية كان لها الأثر الأبرز في ما وصلت إليه العقيدة المسيحية من بعده إلى يومنا هذا، وهي شخصية “بولس الرسول”، فقد اعتُمدت مقولاته في تصوير العقيدة على النحو الذي تشكلت به في المجامع المسكونية فيما بعد، ومن أجل ذلك يمتدحه المسيحيون الذين يعدونه رسولاً، وينتقده القادحون فيرونه المسؤول الأول عن تبديل دين عيسى عليه السلام وتحريفه وحشوه بالوثنية الخرافية.
والمصادر التي تُستقى منها معلومات عن بولس هي “سفر أعمال الرسل” الذي كتبه لوقا تلميذ بولس، ورسائل بولس نفسه ضمن العهد الجديد، وما كتبه الأبيونيون (الفقراء إلى الله)، وهم يهود متنصرون، وأيضاً ما كتبه بعض المؤرخين الذين جاؤوا في القرن الثاني الميلادي.
وُلد بولس في مدينة طَرَسوس جنوب تركيا، في عائلة يهودية وكان اسمه قبل أن يعتنق المسيحية شاؤول. وتاريخ ولادته غير متفق عليه وهو يتفاوت بين السنة الميلادية الخامسة والسنة الخامسة عشرة، غير أنه من المؤكد أنه وُلد بعد ولادة المسيح بوقت قصير، ولم يره على الإطلاق.
أمضى شاؤول طفولته وبداية شبابه في طَرَسوس التي انتشرت فيها المعابد والمدارس اليونانية وظهر فيها أتباع المدرسة الرواقية، كما أنها كانت تموج بالثقافات والأديان المختلفة، وكانت عبادة الآلهة أتيس وأدونيس وميثرا منتشرة فيها، والمشترك بينها أن أتباعها كانوا يعتقدون أن هذه الآلهة تموت في موعد معين من السنة ثم تبعث في موسم آخر، وهي تشبه البشر في سلوكها، فلا بد للإله أن يتعذب أولاً قبل أن يموت كما يموت الإنسان لكنه يتغلب على الموت ويُبعث من جديد ليظهر مجده وقوته، ويصوّر أتباعه قصة موته ويأكلون لحم الضحية التي تقدم ويشربون معها الخمر، فيتحول بذلك إلى لحم الإله ودمه ليتحدوا به ويطهرهم من الخطيئة، وستظهر أهمية هذه العبادة عند دراسة العقيدة المسيحية التي وضعها بولس واستفاد منها في فهمه لقصة المسيح.
تعلم بولس (شاؤول) العبرية واليونانية، وادعى أنه ذهب إلى أورشليم لدراسة اليهودية على يد أهم أحبار الفريسيين جمالئيل. لكن المتابع لسيرته يلحظ فيها تناقضات كثيرة، فقد زعم أنه فريسي وابن فريسي وفي الوقت نفسه كان أثيراً لدى الكاهن الأكبر الصدوقي وعمل في خدمته في ملاحقة المسيحيين وتعذيبهم، مع أن الصدوقيين والفريسيين كانوا على عداء شديد ومن المستبعد أن يجتمعا. ولعل أهم ما يميز شخصيته هو المراوغة والتلون حسب الحاجة، فيقول عن نفسه بعد البدء بدعوته: “فصرت لليهودي كيهودي لأربح اليهود وللذين تحت الناموس (يقصد الفريسيين)، وللذين بلا ناموس (أي الصدوقيين والسامريين) كأنني بلا ناموس.. وصرت للكل كل شيء لأخلّص على كل حال قوماً” [الرسالة الأولى 9/20- 22]، فمفتاح شخصيته يتجلى في قوله: “صرت للكل كلَّ شيء”، حيث كان على سبيل المثال يستخدم تبعيته للسلطة الرومانية في مواجهة اليهود للتخلص من العقوبات والسجن وليكسب الهلنستيين والرومان إلى صالح عقيدته الجديدة.
لوحة تخيلية من القرن التاسع عشر لما حدث مع بولس على طريق دمشق بريشة دومينيكو روميلي
ويذكر سفر أعمال الرسل قصة تحوله إلى المسيحية حوالي سنة 37م بتفاصيل متناقضة، وخلاصة ذلك أنه انطلق من أورشليم إلى دمشق من أجل اضطهاد المسيحيين وسوقهم إلى التعذيب، وفي الطريق “أبرق حوله ثقبة نور من السماء فسقط على الأرض وسمع صوتاً يقول له: شاؤول شاؤول لمَ تضطهدني؟ فقال من أنت يا رب؟ قال: أنا يسوع الذي أنت تضطهده.. الآن قُم وادخل المدينة وهناك يقال لك ماذا ينبغي أن تصنع” [أعمال 9/3- 7].
وتتفاوت تفسيرات الباحثين الغربيين لتحول بولس المفاجئ إلى المسيحية بعد أن كان من ألد أعدائها، حيث يسجل الباحث هيم ماكبي في كتابه “بولس وتحريف المسيحية” ثلاثة مواقف، إذ يرى المؤمنون بالمسيحية أنها معجزة إلهية، بينما يرى آخرون أن بولس كان يعاني من أمراض نفسية وعضوية أدت به إلى هذا التحول المفاجئ، ويرجح البعض أن بولس عجز عن محاربة المسيحية من خارجها بالعنف والاضطهاد فلجأ إلى محاربتها من الداخل واخترع هذه القصة لكي ينتسب إلى المسيحية من غير أن يثير الشكوك حوله.
ورغم أن بولس لم ير المسيح في حياته إلا أن المسيحيين عدوه في مصافِّ الرسل الإثني عشر، ويصر هو على رتبته الرسولية مؤكداً أنه لم يتلقاها من تلاميذ المسيح بل عن طريق المسيح نفسه، ما يجعله رسولا ملهما وكل ما يصدر عنه من أقوال هو إلهام ووحي. ولم يقدم بولس أي دليل على ادعائه هذا، كما تتضح في رسائله العديد من التناقضات وملامح التطور الفكري عبر مراحل دعوته (كما سيأتي لاحقاً)، ما دفع الكثير من الباحثين الغربيين إلى التشكيك في صدقه، ومنهم البروفيسور جون هيك في كتابه “أسطورة تجسد الإله في السيد المسيح”، وشارل جينيبر في كتابه “المسيحية نشأتها وتطورها”، وموريس بوكاي في كتابه “دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة”، وهيم ماكبي المذكور أعلاه.
أما أهم الأفكار العقدية التي أدخلها بولس في المسيحية فنوجزها فيما يلي:
1- تعميم الدعوة المسيحية وإخراجها من إطارها الذي يخص بني إسرائيل في عصر المسيح إلى العالمية، بدءاً من الإمبراطورية الرومانية، وهذا يناقض تعاليم المسيح الواردة في الإنجيل التي تفيد حصر رسالته في بني إسرائيل [متّى 10/ 5- 6].
2- إلغاء الشريعة الموسوية: فلكي يسهل على بولس التبشير بالمسيحية بين الوثنيين ألغى الكثير من تعاليم المسيح الذي يقول “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس (الشريعة) والأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل” [متى 5/17]. إلا أن بولس ألغى بعض تشريعات موسى عليه السلام كالختان مع أن الإنجيل يروي أن المسيح نفسه خُتن في اليوم الثامن من ولادته، وأحلَّ لحم الخنزير، كما ألغى تقديس السبت وجعل عوضاً عنه الأحد وهو يوم الشمس عند الوثنيين، واعتبر أن الخلاص يتم عن طريق الإيمان لا الأعمال، وظل موقفه من الشريعة من أكثر المواضيع التي توقع المؤمنين برسوليته في حرج.
3- عقيدة الخطيئة الموروثة وتجسد الابن وصلبه فداءً للبشرية: وهي أفكار تتشابه كثيرا مع العقائد الدينية الوثنية السائدة آنذاك، حيث أسس بولس لاهوتاً خاصاً قائماً على فكرة أن كل إنسان يرث خطيئة آدم الأصلية (عندما أكل من الشجرة) ولا شيء ينجيه من العذاب الأبدي إلا موت ابن الإله ليكفّر بموته عن خطيئته. وهو أول من فسر عملية الصلب على أنها للفداء وتكفير الخطايا مع أنها لم تكن واردة عند كتبة الأناجيل الأربعة المعتمدة، ونسب إلى المسيح ألقاباً جديدة من بينها: ابن الله وصورة الله والمخلص والفادي. كما أطلق عليه لقب “الله” مرتين [رومية 9/5، أعمال 20/28]. وكل ما كان يُستخدم من ألقاب للمسيح بالمعنى المجازي أطلقها بولس بالمعنى الحقيقي، كلقب الرب الذي أطلقه أتباع المسيح عليه بمعنى السيد والمعلم فأصبح له معنىً حقيقياً عند بولس.
4- التثليث وألوهية الروح القدس: بالرغم من اعتراف المسيحيين بأن بولس لم يعط تعليماً واضحاً عن التثليث إلا أنه تعرض لذكر الآب وذكر الابن تارة على أنه إله وتارة في منزلة دون ذلك، أما الروح القدس فلم يوضح ما يتعلق به سوى أنه روح، أي أنه تيار قوي غير طبيعي يؤثر في الناس، ولم يذكر ألوهيته وانبثاقه من الآب، لكن عقيدة التثليث وتفاصيلها نضجت لاحقاً كما سيأتي.
5- الأسرار الكنسية: جعل بولس من التقاليد الشائعة لدى الحواريين كالتعميد وتناول الخبز الجماعي شعائر مقدسة، مقتبسا تفاصيلها من بيئته الوثنية المليئة بأساطير الشفاعة والخلاص، حتى وصف المؤرخ ول ديورانت ما آلت إليه المسيحية على يد بولس بالقول “إن المسيحية لم تقض على الوثنية بل تبنتها، ذلك أن العقل اليوناني المحتضر عاد إلى الحياة في صورة جديدة في لاهوت الكنيسة وطقوسها” [قصة الحضارة: مجلد 11 باب 27 ف 2].
وقد أكد بولس على استقلاله التام عن تلاميذ المسيح مع أنه عدّ نفسه رسولاً مكملاً لهم، وبدأ التبشير بدعوته دون أن يلتقي بأحد منهم لمدة ثلاث سنوات، ليسافر بعدها إلى أورشليم ويلتقي أفراداً منهم في تفاصيل يرويها في رسائله التي تتعارض مع ما ورد في سفر أعمال الرسل. ويلحظ الباحث تناقضات أيضاً في تفاصيل علاقته بهم وموافقتهم له، فبعض الروايات تشير إلى إقرارهم له، والبعض يؤكد على وقوع الخلاف بينه وبينهم ومفارقتهم له، حتى إن بولس كان يستخف بهم في رسائله [غلاطية 2/2- 14].
ويرى العالم الفرنسي موريس بوكاي أن التلاميذ اعتبروا بولس خائناً لفكر المسيح، حيث كوّن المسيحية على حساب هؤلاء الذين جمعهم المسيح لنشر تعاليمه [دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ص 101]، وبذلك أصبحت هناك مسيحيتان: المسيحية اليهودية وهي ما عليه تلاميذ المسيح، والمسيحية البولسية التي انتصرت في النهاية بسبب تبني الإمبراطورية الرومانية لها.
المسيحية والإمبراطور قسطنطين
كان المسيحيون الأوائل يتعرضون للاضطهاد من قبل الرومان مما دفعهم لنحت كنائسهم في الكهوف كما يظهر في الصورة الملتقطة في كابادوكيا وسط تركيا
اتفقت معظم المصادر الإسلامية والمسيحية على أن المسيحيين نزل بهم بعد رفع أو صلب المسيح بلايا وكوارث جعلتهم يستخْفون بدينهم ويُقتل منهم الكثيرون، وكان أشد الناس إلحاقاً للأذى بهم اليهود ثم القياصرة الرومان الذين نكلوا بهم في المدة ما بين سنتي 64م و313م تنكيلاً شديداً، ووسط هذه الاضطهادات دونت أناجيلهم الأربعة المعتمدة ودونت رسائلهم.
كانت حدة الاضطهادات تتفاوت حسب أحوال الأباطرة الرومان الذين يتناوبون على الحكم، وأولى مراحل الاضطهاد كانت في عهد نيرون (54- 68م) الذي أمر بألا يسمح لأحد بالانتساب إلى المسيحية، فاستشهد في عهده الكثيرون بمن فيهم بعض الحواريين، واحتمل المسيحيون ألواناً من العذاب كالصلب وتهييج الكلاب عليهم لتنهشهم حتى الموت، وصُبَّت على بعضهم المواد الملتهبة ثم أشعلت أجسادهم في الليالي بدلاً من المشاعل لإنارة حدائق نيرون. وتتابعت الاضطهادات وأدت إلى ارتداد الكثير منهم عن دينهم واعتناق العقائد الوثنية.
قسطنطين ووالدته هيلانة تحولا إلى قديسين في نظر المسيحيين (Brosen)
وفي القرن الرابع الميلادي تغيرت الأحوال باعتلاء الإمبراطور قسطنطين الكبير العرش، فسمح لهم بحرية المعتقد سنة 313م ليكسب ودهم في معركته السياسية ضد منافسيه على العرش. وكان قسطنطين وثنياً يعبد الشمس حتى سمّى مملكته إمبراطورية الشمس، وعندما احتاج لدعم النصارى في حروبه أعلن أنه رأى في المنام صليباً كبيراً من نور فتحقق له النصر بذلك، وبالفعل اتخذ الصليب شعاراً له، فاندفع النصارى للمقاتلة في صفه وتصفية أعدائه ومناوئيه.
لذا يرى الكثير من المؤرخين أن إيمانه كان سياسيا، فبينما كان يحمل الصليب ويبني الكنائس في بعض المواضع كان يبني أوثانا في مواضعٍ أخرى. وفي المقابل رفع كهنة الكنائس من مقام قسطنطين وزعموا أنه المسيح المنتظر والمخلص في آخر الزمان، بل زعم أسقف روما أيسوبيوس أن الخالق قد تجسد في الإمبراطور، وقد ردَّ قسطنطين له الجميل بمنحه سلطات واسعة وأقطعه أراضٍ شاسعة، فنشأ بذلك النظام البابوي الذي منح للبابا نفوذاً على كل المسيحيين في أرجاء الدولة.
وإرضاءً للإمبراطور، اتخذت الكنيسة من يوم ولادة الشمس أو ما يعرف بالانقلاب الشمسي الذي يوافق (25 كانون الأول/ديسمبر) عيداً للاحتفال بمولد المسيح رغم أنه لم يولد في ذلك اليوم. واستمر الإمبراطور في حضور احتفالات عيد الشمس حتى وفاته مع أنه أشاع اعتناقه للمسيحية، ولم يتعمَّد إلا عند احتضاره سنة 337م، أي بعد 12 عاماً على مجمع نيقية 325م الذي قرر العقيدة النصرانية لكل الأجيال القادمة.
المجامع الكنسية كل ما نراه اليوم من عقائد التثليث وألوهية المسيح لم يكن ظاهراً في عصر المسيحية الأول، فبعد أن وضع بولس بذور هذه العقائد أخذت تنمو تدريجيا حتى حُدّدت برعاية قسطنطين من خلال المجامع المسكونية التي بدأ عقدها في القرن الرابع، وثبت ذلك برسائل واعترافات إيمانية صدرت عن بعض الأساقفة إفرادياً.
والمجمع في الاصطلاح الكنسي هو مجلس يعقده الرسل (تلاميذ المسيح) أو خلفاؤهم الأساقفة للمداولة في قضايا دينية وتقريرها، وتعتبر قراراته أحكاماً صادرةً من الله وملهَمة عبر الروح القدس، فلا يحق للمؤمنين رفضها لأنها معصومة، ومن يخالفها يُحرم من الإيمان ويفصل من الكنيسة.
والمجامع نوعان: الأول مجامع عامة (مسكونية): أي تشمل كل الأرض المسكونة وتجمع رؤساء الكنائس من جميع أنحاء المعمورة، ولم يحدث أن تمكنت من جمعهم بأكملهم فعلياً، والثاني مجامع محلية (إقليمية): وهي تخصُّ إقليماً أو طائفة بعينها.
وفيما يلي إيجاز لأهم تلك المجامع:
لوحة تخيلية لمجمع نيقية تعود إلى القرن السادس عشر
1- مجمع نيقية (325م): هو أهمها وأكثرها تأثيراً في تطور العقيدة النصرانية، فبعد ارتفاع الاضطهاد عن المسيحيين بدأت الخلافات الحادة بينهم تظهر على السطح، حيث كان الاضطهاد يمنع ظهورها، ومن أهمها ذلك الخلاف بين دعوة كنيسة الإسكندرية التي رفعت مقام يسوع إلى “ابن الله القديم” وتبنت عقيدة التثليث تأثراً بعقائد المصريين القدماء وفلسفة أفلوطين الإسكندراني، وبين دعوة الموحدين من أتباع الأسقف الليبي- الإسكندري آريوس القائل بأن يسوع بشر مخلوق اصطفاه الله وليس له من الألوهية شيء، كما ظهرت أقوال متدرجة في النظرة إلى المسيح بين هذين القولين، وانتشرت أفكار آريوس ولم تفلح محاولات إقصائها رغم الحكم عليه بالطرد والحرمان من الكنيسة، فخشي قسطنطين على مملكته من الانقسام ودعا إلى عقد مؤتمر يجمع الأساقفة ليخرجوا برأي واحد يسد باب الخلاف، وعُقد بذلك مجمع نيقية في مدينة إغريقية تحمل نفس الاسم، وانحاز الإمبراطور إلى رأي كنيسة الإسكندرية وناصر عقيدة ألوهية الأب والابن لأنها الأقرب إلى نفسه وإلى الأمم الوثنية التي كان يحكمها، ومع أنه رأي الأقلية من الأساقفة إلا أنه اعتُمد بدعم الإمبراطور الذي لجأ إلى سياسة الترهيب والترغيب، وحُكم على آريوس بالهرطقة والنفي وإحراق كتبه، لكن أفكاره استمرت وانتشرت في مدن كبرى كالقسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية. أما فكرة ألوهية الروح القدس فلم يتعرض هذا المجمع لها، فكان لا بد من عقد مجمع آخر لإقرارها.
2- مجمع القسطنطينية (381م): عقد هذا المؤتمر لحل الخلاف بين أسقف القسطنطينية وأتباعه القائلين بأن الروح القدس مخلوق وليس إلهاً وبين أسقف الإسكندرية القائل بألوهيته، فحسم الخلاف بدعم من الإمبراطور ثيودسيوس لصالح القائلين بألوهيته، واكتمل بذلك القانون النيقاوي، وطُرد المخالفون ولُعنوا.
ولم يُنهِ هذا المجمع الخلافات بل أدى إلى ظهور خلافات جديدة، فقال أسقف القسطنطينية نسطور إن للرب يسوع أقنوماً وطبيعة فأقنوم الألوهية من الآب، أما الطبيعة فهي الإنسان الذي ولدته مريم، لذا فمريم أم الإنسان وليست أم الإله، وبهذا يكون المسيح مباركاً بما وهبه الله وليس إلهاً، بل هو “ابن الله” بالمعنى الرمزي لا الحقيقي، وقد استدعى ظهور هذا الرأي عقد مجمع آخر.
3- مجمع أفسس (431م): عقد هذا المجمع بطلب من بطاركة الإسكندرية وأنطاكية وروما ولم يحضر نسطور وأنصاره، فأصدر المجتمعون قرارهم بلعنه وطرده، وقرروا أن مريم هي “والدة الرب”، وأن المسيح إله حق وإنسان ذو طبيعتين متوحد في الأقنوم.
رسم تخيلي لمجمع خلقيدونية
4- مجمع خلقيدونية (451م): عقد هذا المجمع ليقرر أن للمسيح طبيعتان لا طبيعة واحدة رداً على مجمع أفسس الثاني، وأدى ذلك إلى انفصال مصر والكنائس الأرثوذكسية الشرقية لأنهم يقولون بالطبيعة الواحدة بينما يقول الغربيون بالطبيعتين.
وخلاصة القول إن كل مجمع أدى إلى انشقاق جديد بدلا من الاتفاق والتوحد، فتتالت المجامع والانشقاقات حتى أصبح من الصعب حصرها، وكل المجامع التي عقدت بعد خلقيدونية لم تحضرها الكنائس الشرقية الأرثوذكسية ولا المصرية، فلا يمكن اعتبارها مجامع مسكونية عامة.
ويجدر بالذكر أن مجمع القسطنطينية الرابع (754م) قد عُقد لتحريم الصور والتماثيل نتيجة تأثر النصارى بالإسلام في هذا الأمر، حيث قرر المجتمعون تحريم اتخاذ الصور والتماثيل وحرموا طلب الشفاعة من مريم، ونتيجة غياب الكثير من الأساقفة لم يعد هذا المجمع مسكونياً.
وقد أثارت قرارات هذا المجمع امتعاض كثير من الكنائس فدعوا لعقد مجمع نيقية الثاني (787م)، وقرروا فيه إباحة الصور والتماثيل، على اعتبار أن النظر إلى صور الرب وأمه والرسل وسائر القديسين أدعى إلى التأثر الشديد وإدامة التفكير بهم، وأدى ذلك إلى إحياء الفن المسيحي ودفع هذه الديانة إلى تبني المزيد من الصور الوثنية في عقائدها وشعائرها وتنظيمها.
كان يوحنا الدمشقي (توفي عام ٧٤٩م) من أشد المناصرين لاستخدام الأيقونات، ويُنقل عنه أنه قال لخصومه الرافضين للأيقونات: “إنكم لن تجدوا التثليث أو وحدة جوهر الأب والابن.. لن تجدوا أياً من ذلك في الكتب المقدسة، ولكننا نعلم أن هذه المعتقدات صحيحة… وهي كلها بدع مستحدثة جاء بها الآباء، وإذا ضاعت هذه التقاليد يصبح الإنجيل كله مهدداً”.
أسس العقيدة في المسيحية استعرضنا فيما سبق التطور التاريخي لظهور أهم الأفكار العقائدية المسيحية، وفيما يلي نناقش الأسس الأربعة الأساسية لهذه العقائد، والتي بدأ ظهورها على يد بولس، واكتملت في عهد الإمبراطور قسطنطين:
لوحة من القرن السابع عشر للثالوث المسيحي، يظهر فيها الأب على هيئة شيخ كبير، والابن في صورة شاب، والروح القدس بينهما في صورة طير، وتحفهم الملائكة على هيئة أطفال، وهي صور مقتبسة من الميثولوجيات الوثنية
أولاً: التوحيد مع الإيمان بثلاثة أقانيم محور هذه العقيدة أن الله واحد في ثلاثة، فهو واحد من جهة الجوهر أي الألوهية، ثلاثة من جهة الأقانيم وهي: الآب والابن والروح القدس. فالمسيحيون يحرصون على التأكيد على أنها عقيدة توحيدية نافين عن أنفسهم تهمة الشرك، اعتقادا بأن التثليث مختلف عن عقيدة تعدد الآلهة.
استعار المسيحيون مصطلحي الجوهر والأقنوم من الفلسفة اليونانية، فالجوهر فيها هو ما قام بنفسه وبه تقوم الأعراض والكيفيات، وهناك جوهر كلي، وهو الكليات التي يُحمل عليها غيرها، كالنوع والجنس، مثل: إنسان وحيوان، وهناك جوهر جزئي، وهو الكائن الفرد المتعين من الجواهر الكلية، كهذا الإنسان: أحمد، سعيد، زيد.
أما الأقنوم في الفلسفة اليونانية فهو مصطلح مرادف للجوهر لا يختلف عنه، ويمكن أن يحلَّ أحدهما محل الآخر دون تمييز بينهما، وعلى هذا سار آباء الكنيسة الأوائل. إلا أنه بعد انعقاد مجمع نيقية حدث تحول في استخدام المصطلحين، فعقيدة التوحيد والتثليث لم تكن قد ترسخت في أذهان المسيحيين آنذاك، ما دفع الأساقفة إلى التمييز بينهما جاعلين معنى الجوهر يشير إلى النوع المشترك في الأقانيم المتساوية في النوعية، وهي الألوهية الواحدة، وجعلوا للأقنوم دلالة على الأفراد المتعددين في الجوهر الواحد وهم الآب والابن والروح القدس. وبذلك بات الفرق بين الجوهر والأقنوم كالفرق بين الجوهر الكلي والجوهر الجزئي. لكن الرافضين لهذا التفسير قالوا إنه يؤدي إلى تعدد الجواهر بتعدد الأقانيم، كما هو الحال في الجواهر والأقانيم البشرية، فيصبح لدينا ثلاثة آلهة لا إله واحد.
يطلق فلاسفة اللاهوت على ظاهرة الإيمان المجرد من الاستدلال مصطلح الفيدية fideism، حيث يُطلب من الإنسان أن يؤمن بما يطلبه منه رجل الدين مباشرة دون سؤال عن الدليل.
وللخروج من هذا الإشكال، اضطر الأساقفة للاعتراف بعدم إمكانية شرح الجوهر والأقنوم حسب المعنى البشري المتعارف عليه، وقالوا إن اللغة عاجزة عن التعبير عن سر الثالوث، وخرجوا بنتيجة أن على الإنسان أن يُسلِّم بأن الله (جوهر واحد وثلاثة أقانيم) دون أن يُعمل عقله في فهم الفرق بينهما، وظهرت بذلك المقولة الشهيرة: “سرٌّ لا يسعه إلا الإيمان”. [لينة الحمصي نقلا عن عدد من الكهنة، الإسلام والمسيحية].
ووفقا لما ذكرناه في مقال “مصادر المعرفة” فإن هذا القول يعد مغالطة وتضليلاً، فلا ينبغي لأي عقيدة أن تعجز عن التوافق مع العقل بحجة كونها “سراً إلهياً”، لأن العقل قادر من حيث الأصل على فهم حقائق العقيدة الأصلية التي ينبني عليها أي دين، لكنه يعجز عندما يخوض في محاولة تعقل الكيفيات التي تكون عليها الحقائق الغيبية لأنها غائبة عنه وعن الحواس، ومنها صفات الإله المنزه عن تبعات الزمان والمكان، أما ما يسمى بسر الثالوث والأقانيم فهو ليس من الصفات اللازمة للإله الذي يعقله العقل، بل هي إضافة فلسفية غير ضرورية عقلياً -فضلا عن كونها غير معقولة أصلاً- لذا فلا يحق لأصحابها أن يحتجوا بمحدودية العقل إزاءها.
أما إذا احتج أصحاب مقولة الثالوث بأنها من الوحي الإلهي الذي ينبغي للعقل أن يسلّم به، فالجواب أن الكهنة أنفسهم لا يملكون دليلاً على أن العهد الجديد من الكتاب المقدس قد نُقل إلينا بالتواتر عن مصدر إلهي، بل إن الإيمان بصحة هذا الكتاب هو أيضا إضافة فلسفية قائمة على التسليم دون حجة (كما سيأتي لاحقاً)، وما بني على باطل فهو باطل.
أما العلاقة بين الأقانيم الثلاثة وصفاتها فقد كثرت الخلافات حولها، فالآب هو مصدر الألوهية الوحيد غير مولود ولا منبثق عن أحد، وهو علّة وجود الابن والروح القدس ومصدرهما. والابن صادر عن الآب بالولادة، مع اختلاف في صفته ما بين كونها حكمة أم كلمة. أما روح القدس فصدر عن الآب بالانبثاق عند الأرثوذكس، وعن الآب والابن عند الكاثوليك، وهو يمثل صفة الحياة.
ومن الإشكالات المطروحة هنا: كيف يكون الآب علة وجود الابن والروح القدس وهما صادران عنه مع أنهما مساويان له؟ وهل كان هناك زمن لم يكن فيه الابن والروح القدس موجودين فيه؟ وما الفرق بين الولادة والانبثاق؟
ويجيب الأساقفة بالقول: إن صدور الابن والروح القدس عن الآب هو سر من أسرار اللاهوت التي لا يستطيع العقل إدراك كنهها ولا يسعه إلا الإيمان به. وقد اضطر بعض الآباء (القديسين) مثل يوحنا الدمشقي ويوسبتين إلى الإقرار بعظمة الأب وتفوقه على الابن والروح القدس لأنه علة لهما.
وجاء في إنجيل يوحنا على لسان المسيح (20/7): “إني صاعدٌ إلى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم”، ما يعني أن المسيح -الذي يفترض أن يكون أقنوم الابن الإله- أقر لتلامذته أنهم جميعا أبناء الله، وذلك بالمعنى المجازي للبنوة التي تخصص من نسبت إليهم بفيوضات من الرعاية والمحبة والعناية ما يميزهم عن غيرهم، وقد استخدم مصطلح “أبناء الله” في العهد القديم الذي يؤمن به المسيحيون كجزء من كتابهم المقدس، فأُطلق على بني إسرائيل (المزامير 3/6)، وعلى أبناء شيث (التكوين 6/2)، ما يدل على أن المسيح لم تكن له خاصية البنوة المجازية دوناً عن باقي المؤمنين.
يقول الأب بيار نجم رئيس جامعة سيدة اللويزة في إحدى عظاته: “مهما حاولنا لن نستطيع أن ندرك سرّ الثالوث الأقدس بواسطة قوانا العقلية وحدها أو بواسطة المنطق، فالإنسان الذي يحاول معرفة الله على ضوء العقل وحده سوف يصطدم بصعوبات جمّة. إذ لا يمكنه أن يدخل في حميمية السر الإلهي”. [المصدر: http://www.lexamoris.com/pages/sermon_view/117]
وبما أن التوراة تصرح بالتوحيد وتنهى عن الشرك، فالعهد القديم يعد من أهم مصادر العقيدة لدى الأساقفة الذين يحرصون على اعتبار دينهم ديناً توحيدياً، لكنهم مع ذلك يستنبطون من نصوصها ما يُحملو على الإشارة إلى التثليث كعبارات “كلمة الله” أو “روح القدس”، لكن هذا التأويل التجاوزي لا يخفي دور الوثنية الشرقية واليونانية في المسيحية، فعقيدة التثليث لدى المصريين والفرس والإغريق أوضح أثراً، فضلا عن آثار فلسفة أفلوطين (270م) الهلنستية التي مزجت بين الفلسفة الفيثاغورية والأفلاطونية وتعاليم بوذا والهندوكية، وخرجت بمقولة أن العالم لا يمكن أن يصدر عن الله إلا بوسيط أزلي هو العقل الكلي الذي فاض عن الذات الإلهية، ومن هذا العقل تولدت الروح الخلاّقة التي بواسطتها خُلقت كل الأشياء [انظر مقال الباطنية].
عقيدة المسلمين في عيسى تؤكد المصادر الإسلامية على أن عيسى بن مريم عليه السلام كان نبياً من بني إسرائيل، وينصُّ القرآن الكريم على أنه ما دعا إلا إلى التوحيد الكامل، ويوضح أنه سيكون هناك حوار بين عيسى وبين الله تعالى يوم القيامة ليقيم الحجة على من اتخذوه إلهاً، فيقول: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ، قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. [المائدة: 116- 117].
ويؤكد القرآن أيضا نزول الإنجيل على عيسى مصدقاً لما جاء في التوراة، ومحيياً لشريعتها ومؤيداً للصحيح من أحكامها ومبشراً برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فيقول {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 46]، ويقول أيضا: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
ثانياً: عقيدة تجسد الابن الإله تقوم العقيدة المسيحية على فكرة أن الابن الإله نزل من السماء وحلَّ في جسد بشري اتحد معه مؤلفاً شخصاً واحداً هو خلاصة اتحاد الإله بالبشر، وبمعنى آخر اتحاد اللاهوت بالناسوت. ويصرّ الأساقفة على أن نزول الابن وحلوله هو سرٌّ إلهي لا يسع العقل استيعابه، فما على الإنسان إلا أن يؤمن بهذه العقيدة بقلبه دون أن يعمل فيها عقله.
يقول الأب بيار نجم: “هذا هو سرّ الإيمان: كيف يمكن أن نفهم حقيقة أن الله هو إله واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة أقانيم؟ كيف نفهم حقيقة الاتحاد الجوهري واختلاف الأشخاص؟ كيف نفهم أن الآب قد ولد الابن دون أن يكون سابقاً له في الزمن أو أكبر منه من ناحية الألوهة؟ هو سر يتخطى قدرة عقلنا على احتوائه، نؤمن به، ونسعى الى فهمه بالقدر الذي أُعطي لعقلنا أن يفهمه”. [المصدر سبق ذكره].
ويبدو أن الثقافة الإغريقية تركت أثرها في الاعتقاد بتحول يسوع إلى اللوغوس (Logos) أي “كلمة الله” في اليونانية، فهو يشارك الله في خلوده، وجاء في إنجيل يوحنا [1/1-5]: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله”، وكأن يوحنا قد سار على خطا فيلون الإسكندري فحوّل اللوغوس إلى يسوع حيث تجسدت الكلمة الأبدية الخالدة في بشر يهبط إلى الأرض ليخلص الناس من خطيئة آدم.
لكن هذه الفكرة واجهت إشكالات منطقية، فكيف يحل الله الذي لا يحدّه مكان في جسد بشري متحيز في مكان وزمان؟ وكيف يكون منحصراً في جسد بشري وجالساً في حضن العذراء وهو في الوقت ذاته جالس على عرشه في السماء؟ وكيف يتم التوفيق بين غنى الرب وتنزهه وبين حاجته إلى جسد يحلّ فيه، وكذلك بين قدمه وأزليته وبين حدوث الجسد؟ فالتجسد يؤدي بطبيعة الحال إلى تغيير في اللاهوت والناسوت عما كانا عليه قبل الاتحاد لينشأ عنه جوهر ثالث ليس إنساناً محضاً ولا إلهاً محضاً، بل كائن اجتمعت فيه الإنسانية والألوهية معاً، وهذا محال.
ومن اللافت أن الأناجيل الثلاثة الأولى متّى ومرقص ولوقا كانت خالية من أي إشارة للتجسد والحلول، بل تؤكد على بشرية المسيح وما تستلزمه من ضعف وعجز، بينما ينفرد الإنجيل المنسوب إلى يوحنا بهذه العقيدة، علماً بأن أغلب المحققين ينفون صحة نسبته إلى يوحنا (أحد التلاميذ الاثني عشر) ويرجعون تأريخ تأليفه إلى وقت متأخر (حوالي 100م). وحتى هذا الإنجيل لم يفصل في مسألة الحلول بشكل واضح، ولم يبينها إلا بولس في رسائله، ما يؤكد أن هذه الفكرة الجوهرية في العقيدة المسيحية قد أدخلها بولس بنفسه في صلب الدين المسيحي.
لوحة تخيلية للصلب من القرن السادس عشر
ثالثاً: عقيدة الصلب والفداء يؤمن المسيحيون بقصة الخلق بتفاصيلها التي جاءت في العهد القديم، وقد ذكرت قصة خلق آدم ومعصيته مع زوجه بأكلهما من الشجرة وما ترتب على ذلك بطريقة مغايرة تماماً لما جاء في القرآن الكريم. وترتب على معصية آدم عندهم إثم عظيم ونتائج وخيمة، منها الطرد من الجنة، وتشوه الصورة الإلهية التي خلق عليها هذا الإنسان.
والمسألة الأهم في هذه المعصية اعتقاد المسيحية بأنها لم تقتصر على آدم بل انتقلت إلى ذريته كلها بحكم الوراثة، فأصبحت كلها مخطئة، وانتقلت إليها جميع العقوبات بدءاً بالطرد من الجنة، وانتهاء بضرورة نزولها جميعاً إلى مملكة الشيطان (الجحيم).
علاوة على ذلك، لا يمكن لتوبة آدم أن تنقذه من تبعات الخطيئة والنزول إلى الجحيم لأنها لا تفي بمطلب الله العادل الذي هدد به آدم: “يوم تأكل منها (أي الشجرة) تموت موتاً”، ولا يمكن أيضاً للإله التراجع عن مطلبه وإلا كان غير صادق، وكأن الإنسان والإله أصبحا معاً أمام مأزق معقد، فبات من الضروري البحث عن حل لقبول التوبة بحيث يخلّص الإنسان دون المس بالعدالة والصدق الإلهيين ويتفق في الوقت نفسه مع رحمة الله، وجاء الحل بتجسد الابن الإلهي وصلبه ليدفع بذلك ثمن خطايا البشر جميعاً عبر فدائهم بنفسه، ثم نزوله إلى الجحيم بجسده البشري في الوقت الذي كان فيه مدفوناً تحت التراب (بعد الصلب) ليخلص أبرار العهد القديم من مملكة الشيطان، وأخيراً قيامته من القبر في اليوم الثالث وصعوده بعد أربعين يوماً من صلبه إلى السماء ليجلس على يمين الآب، وبذلك استحق لدى المسيحيين أن يسمى المخلِّص والفادي لأنه خلّص البشرية من الشيطان وعبوديته، كما خلصها من خطيئة آدم ونتائجها ومن الموت الأبدي وسلطانه.
وبحسب هذه العقيدة، فكل من يموت بعد مجيء المسيح (الأول) يموت على أمل الرجاء والقيامة اللذين سيحصلان يوم القيامة، وذلك حين يأتي المسيح في مجيئه الثاني فيقوم الناس جميعاً من القبور، ويتولى المسيح محاسبتهم على أعمالهم، وينتهي الأمر بتوجه المؤمنين إلى السماوات ونعيمها، والأشرار إلى جهنم. ولذلك يحتفل المسيحيون كل عام في عيد الفصح (13- 15 نيسان) بصلب المسيح وقيامته.
وتثير هذه العقيدة عدة إشكالات منطقية، ومنها: ما الذي يمنع الله من قبول توبة آدم وإزالة آثارها طالما كان هو الذي خلق كل شيء بكلمة واحدة وهو القادر على أن يقول للشيء كن فيكون؟ فالإله الكامل ومطلق الإرادة لا يحتاج للتضحية بـ”ابنه الوحيد” كي يخلص عباده. كما أن العدالة الإلهية تقتضي أن يكون حكمه على آدم بالطرد من الرحمة جارياً في حال إصرار الأخير على الذنب وعدم التوبة، لكن آدم قد تاب، ومن المفترض أن رحمة الله قادرة على أن تشمله مهما كان ذنبه.
علاوة على ذلك، فإن العدالة الإلهية تقتضي ألا يُجرم إنسان بذنب لم يرتكبه، فلا يُعقل أن ترث ذرية آدم جميعها خطيئة أبيها، وقد جاء في العهد القديم: “لا تقتل الآباء بالبنين ولا تقتل البنون بالآباء، بل كل امرئ بذنبه يُقتل” [التثنية 24/ 16]، كما جاء في القرآن الكريم أن هذه القاعدة المنطقية وردت في صحف موسى وإبراهيم أيضا، فقال {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى، وإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 36- 39].
كما أن القول بضرورة التجسد والفداء يستلزم عجز الله (تعالى) طالما أنه لم يستطع إنقاذ عباده من الخطيئة وسلطان الشيطان إلا بالتضحية بابنه بهذه الطريقة المهينة، إذ يمكن للإله القادر على كل شيء أن يبيد الخطيئة ومملكة الشيطان دون أن يميت ابنه ويتركه لتحمل الآلام الشديدة والمهانة ودخول الجحيم.
أما الاعتقاد بأن للشيطان مملكةً تناصب الله العداء وتعمل جاهدة للتغلب عليه، بل وتستطيع ذلك حين تضم آدم وذريته إليها؟ فهذا يمنح الشيطان سلطة كبرى تعارض سلطة الإله وتتجاوزها.
ولعل من أهم الإشكالات التي طرحها مفكرو عصر النهضة أمام الكنيسة أن عقيدة الفداء لا تشرح لماذا عاشت البشرية قروناً طويلة في ظل الخطيئة قبل نزول الابن إلى الأرض؟ ولا تبيّن أيضا على أي أساس تم تحديد موعد نزوله في تلك المرحلة من عمر البشرية الطويل. وإذا كان إغواء الشيطان لبني آدم نتيجة لتلك الخطيئة التي كفّر عنها المسيح، فلماذا يستمر هذا الإغواء إلى اليوم بين المسيحيين وغيرهم؟
يعد فيلم آلام المسيح (الذي أنتجه ميل غيبسون عام 2004) تجسيدا هوليوديا ممتازا للتصور المسيحي لقصة الصلب، فمع أن الفيلم أُنتج بدوافع تبشيرية للتعاطف مع ابن الإله الذي فدى البشرية بنفسه، إلا أنه قد يطرح في الوقت نفسه على المشاهد لاشعورياً الإشكالات الفلسفية التي تنقض هذه العقيدة، فما يلقاه المسيح من التعذيب والإهانة الشديدين لا يُقبل بسهولة في حق نبي فضلا عن إله تجسد في هيئة إنسان ضعيف.
رابعاً: دور الروح القدس في عملية الخلاص والفداء يعتقد المسيحيون أن للأقنوم الثالث (الروح القدس) في الثالوث الإلهي دوراً أساسياً في عملية الفداء، فهو مكمِّل لعمل المسيح ويمثل صفة الحياة لله، فإذا كان الابن قد صلب فداء للبشرية ككل فإن الروح القدس هو الذي يورّث المؤمنين هذا الخلاص، ويجعله حقاً لهم عن طريق حلوله بمواهبه ونعمه في كل إنسان على حده. ويكون حلوله في المؤمنين بالمسيح عن طريق الأسرار الكنسية السبعة، وهي طقوس تمارس على يد كاهن وبها تسقط الخطيئة وعن طريقها يتحدّ المؤمنون بطبيعة الله، وسترد تفصيلاً.
وإطلاق كلمة “روح” على الله بمعنى صفة الحياة غير صحيح، لأن حياة الله ليست بروح كما هي حياة البشر، فإذا كان للإله روح فهذا يعني أنه مركب من هذه الروح ومن غيرها (الجسد مثلاً)، كما يدل على أن الروح جوهر غريب عن الله واتحد به، وهذا يتنافى مع كمال الألوهية.
الروح القدس على هيئة حمامة في كنيسة القديس بطرس بالفاتيكان (Dnalor 01)
وقد ورد ذكر الروح في العهد القديم عند الحديث عن الملائكة فهم “روح الله” [التكوين 1/2، المزمور 51/11، أشعياء 63/10]، كما ورد بمعنى مصدر الشر، وهي كلمة لا تذكر على إطلاقها بل تكون مضافةً أو موصوفة (أرواح الشياطين)، كما أن نعم الله يطلق عليها اسم الروح أيضاً [الخروج 28/3]. مما يدل على أن اسم الروح والروح القدس لم يطلقا في العهد القديم إلا على مخلوقات من قبل الله تعالى، وهي ليست آلهة أبداً.
وكذلك الحال في العهد الجديد، حيث ورد ذكر الروح القدس مرات عديدة دون أن تشير إلى أنه إله وأقنوم في الثالوث الإلهي ومتحدٌّ مع الآب والابن، وقد اعترف بهذا القس سليم بسترس قائلاً: “أما انبثاق الروح القدس منذ الأزل ضمن الثالوث الأقدس فلا نجد له أي توضيح في نصوص العهد الجديد”. [لينة الحمصي، نقلا عن كتاب اللاهوت المسيحي لسليم بسترس، ص144].
ويؤكد بعض رجال الكنيسة أن كل ما ذكر عن الروح القدس في العهد الجديد إنما يرجع إلى عمله، أما كيان الروح الذاتي فلا يُعرف عنه شيء، ولم يرد له ذكر في الكتاب المقدس. وإذا كان الحال كذلك فكيف أمكن لهم إذاً أن يثبتوا وجود أقنوم ثالث في الجوهر الإلهي له صفة الانبثاق، وغير منفصل عن الآب والابن ما داموا لا يعرفون شيئاً عن كيان الروح الذاتي؟
وعليه، فيمكن القول إن حلوله على المؤمنين بمواهبه (نعمه) لا يدل على ألوهيته أبداً، فمن الممكن تفسير الروح القدس على أنه نعم الله (هباته) المخلوقة من قبله والتي يهبها للمؤمنين به وتحلّ فيهم، أو أنه الملاك جبريل الذي يدعمهم بالتأييد ويهبهم نعم الله بأمر منه.
من جهة أخرى، يقول الأساقفة إن الروح القدس حلَّ على مريم ليطهرها من الخطيئة الأصلية لتكون مستعدةً للحمل بالمسيح، وذلك قبل صلب المسيح وافتدائه للبشرية، لكن هذا القول يضع عقيدة الفداء في حرج، فإذا كان قادراً على تطهير مريم فيمكنه أيضاً تطهير بقية البشر دون الحاجة إلى تجسد الابن وصلبه وفدائه.
وحتى بالنسبة للمعتقدين بأن الروح القدس يحلُّ على المؤمنين بأقنومه الشخصي، فهذا يثير إشكالاً ويطرح تساؤلاً منطقياً: فما هو الفرق بين ناسوت المسيح وناسوت جميع البشر؟ ولماذا لم يصبح جميع البشر آلهة ومؤلَّفين من لاهوت وناسوت كما هو الحال في المسيح الذي حلَّ فيه الابن بجوهره مادام كل من الابن والروح القدس إلهاً كاملاً؟
مصادر العقيدة المسيحية يعتمد المسيحيون الأرثوذكس والكاثوليك في إثبات عقائدهم على مصدرين، هما التقليد الرسولي والكتاب المقدس، بينما يعتبر البروتستانت والطوائف التي تفرعت عنها أن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للعقيدة، وفيما يلي موجز عن كل منهما:
أولاً- التقليد الرسولي: هو التعليم الذي سُلّم من المسيح والرسل شفوياً، وتلقاه آباء الكنيسة الأوائل بإرشاد من الروح القدس، ويُحفظ في الكنيسة ولا يمارس إلا من خلالها. وبما أنه بإرشاد الروح القدس فهو بمنزلة كلام الله، وبذلك تصبح أقوال الآباء القديسين الأوائل والكنيسة معصومة مما يعطي الكنيسة صبغةً إلهامية دون أي مستند شرعي، فيكفي أن تدَّعي الكنيسة أن ما تقوله هو التعليم الرسولي ليتم إثبات ذلك دون مطالبتها بالدليل، مما يمنحها الحق في إبداع عقائد جديدة بحجة الإلهام. ولو كانت الكنيسة معصومة من الخطأ فعلاً لوجب انعدام الاختلاف بين الكنائس، بينما نجد أنها في الواقع شديدة الاختلاف والتفرق إلى طوائف عدة، حيث تنتقد كل منها الأخرى مع ادعاء الجميع بأنهم يستندون إلى إرشاد الروح القدس.
ومن حيث التحقيق، لا يمكن عدّ التقليد الرسولي مصدراً صحيحاً إلا إذا ثبت أن المسيح قد قاله وأن رسله تسلموه منه ثبوتاً صحيحاً متواتراً، إلا أن هذه الدقة في النقل لم يشترطها الأساقفة، بل يعتمدون على التقليد اعتماداً تاماً في أمورهم العقدية ويضيفون إليها ما يشاؤون، ولا يشترطون في إثبات العقائد أن توجد في الكتاب المقدس بل يكفي أن يقال إنها من التقليد الرسولي لتثبت، وهكذا تسنى لهم تاريخياً إضافة عقيدة التثليث والأقانيم وما يتعلق بها من عقائد مستحدثة. وقد صرح موريس تاوضروس في كتابه علم اللاهوت العقيدي في معرض حديثه عن التقليد قائلاً: “على أن الكنيسة الكاثوليكية قد أضافت بعض العقائد التي لا تردُّ إلى التقليد الرسولي أو إلى تعاليم المسيح مثل القول بعصمة البابا”. [لينة الحمصي، ص259].
أما الكنيسة البروتستانتية فترفض الاعتراف بعصمة آباء الكنيسة وصحة التقليد الرسولي، إلا أنها مع ذلك لم تلتزم بما يترتب عليه هذا الرفض من رفض العقائد التي تستند إلى التقليد دون وجود مستند كتابي من الإنجيل، كعقيدة التثليث وألوهية الروح القدس.
الفاتيكان
ثانياً- الكتاب المقدس: يشمل أسفار العهد القديم التي يؤمن بها اليهود (باستثناء بعضها) [انظر مقال اليهودية]، وأسفار العهد الجديد التي لا يعترف بها اليهود، ويعتقد المسيحيون أن هذه الأسفار جميعاً دُونت بإلهام من الروح القدس. والإلهام عندهم هو نفحة حيوية من روح الله (الروح القدس) تدفع أنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد (ومنهم بولس) إلى الكلام والتدوين، فهي إذاً حسب رأيهم أسفار كتبها الله بواسطة مؤلفين من البشر الذين عبَّروا عن هذه الرسالة الإلهية بطرقهم الخاصة وأسلوبهم الشخصي.
ويقرّ المسيحيون بأن أسفار العهد الجديد لم يُملها المسيح ولكنها كُتبت بعده، إذ تم تناقلها لفترة طويلة من الزمن استناداً إلى التقليد الرسولي الشفوي. وتحوي أسفار العهد الجديد أخبار المسيح وعظاته ومعجزاته، وكان عدد هذه الأناجيل كبيراً جداً لكنهم اتفقوا على الاعتراف بأربعة منها هي: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، ثم أضافوا لها سفر أعمال الرسل، وأربعة عشر رسالة لبولس، وثلاث رسائل من كتابة يوحنا، ورسالتان لبطرس، ورسالة ليعقوب، ورسالة ليهوذا، ثم رؤيا يوحنا اللاهوتي، فأصبح العهد الجديد يضم (27) سفراً.
وتعتبر الأناجيل الأربعة من أطول أسفار العهد الجديد، ولفظ الإنجيل مختصٌ بها إلا أنه يطلق مجازاً على بقية الأسفار أيضاً، وهي وحدها التي تعترف بها الكنائس وتقرها الفرق المسيحية، مع أنه من الثابت تاريخياً وجود أناجيل أخرى راجت رواجاً عظيماً وأخذت بها فرق مسيحية قديمة ولم تعتنق غيرها كإنجيل السبعين والتذكرة وغيرهما، لكن الكنيسة الحالية اختارت منذ القرن الرابع الميلادي الأناجيل الأربعة وألغت كل ما عداها، وأجبرت أتباعها على الأخذ بها فقط، مع أن بعض المؤرخين أشاروا إلى أن هذه الأناجيل المعتمدة لم يُعثر على أي ذكر لها قبل القرن الثالث الميلادي، وفيما يلي موجز عن كل منها وفقا لترتيب ظهورها الزمني:
1- إنجيل متَّى: ينسب إلى متَّى أحد الرسل الاثني عشر، الذي كان يهودياً من الجليل وجابياً للضرائب (عشاراً) للدولة الرومانية، نشر الدعوة في فلسطين ثم خارجها، ويقال إنه بشّر في بلاد فارس، وفي رواية أخرى الحبشة، ومات فيها شهيداً. ونسبة هذا الإنجيل إليه غير مستيقنة لدى المحققين، حيث يقرون بأن كاتبه لم يكن معروفاً قبل القرن الثاني الميلادي، وأن التقليد الكنسي هو الذي ربط اسم متَّى به، ما دفع طائفة من المحققين -مثل موريس بوكاي والأب أسطفان شربتييه- إلى نفي نسبة هذا الإنجيل إليه، ويدل على ذلك أن كاتب هذا الإنجيل يتحدث عن أحداث المسيح بصفة الغائب وكأنه لم يكن حاضراً، كما أن أسلوبه التعبيري يدل على كونه متبحراً في التراث اليهودي والكتب المقدسة وفن الإفهام والتدريس، وهي صفات لا تناسب أسلوب جابي الضرائب. وقد كتب باللغة العبرية أو الآرامية، لكن أقدم نسخة عرفت منه كانت باليونانية، أما الأصل فمفقود ومختلَف في تاريخ تدوينه، كما أن مترجمه إلى اليونانية وتاريخ الترجمة مجهولين.
2- إنجيل مُرقس: ينسب إلى يوحنا الملقب بمرقس اليهودي، وهو لم يكن من الرسل الاثني عشر بل اهتدى إلى الإيمان بواسطة بطرس الرسول وتتلمذ على يديه، وقيل إنه أحد الرسل السبعين الذين أرسلهم المسيح للتبشير، كما قيل إنه هو رجل روماني الأصل آمن بالمسيح ولم يره ومات في مصر سنة 62 أو 68م. ويقرُّ المسيحيون بأن أخبار مرقس غير ثابتة، لكن التقليد الرسولي ربط اسمه بهذا الإنجيل في القرن الثاني الميلادي مع أنه لا توجد إشارة فيه إلى اسم كاتبه، وبحسب التقليد فقد كتب مرقس إنجيله بإرشاد من بطرس. والمشككون يقولون إن كاتبه هو أكثر المبشرين ابتذالاً وأقلهم خبرة في حبك الحكايات وأبعدهم عن المعقولية، وقد اختُلف أيضاً في تاريخ تدوينه ما بين سنة 40 إلى 75م، ويُعتقد أنه كتب باللغة اليونانية.
3- إنجيل لوقا: ينسب إلى لوقا الذي ترجح المصادر أنه كان طبيباً وثنياً من أنطاكية، اعتنق اليهودية ثم المسيحية وتتلمذ على يد بولس وصحبه في أسفاره. ولم يرتبط اسم لوقا بهذا الإنجيل إلا في القرن الثاني، وليس فيه ما يدل على أن كاتبه هو لوقا، كما تظهر مقدمته أن لوقا لم يكن معايناً للحوادث التي كتبها بل ألفه بناءً على شهادة من عرفوا المسيح أو لازموه، وهو يتضمن أشياء لم تذكر في الأناجيل الأخرى وتتعلق بالحوادث التي جرت قبل ولادة المسيح وما بعدها. ومع زعم الأساقفة بصحة نسبته له إلا أننا نجد مشككين من علمائهم في ذلك بسبب وجود تناقضات كثيرة بينه وبين سفر أعمال الرسل الذي ينسب إلى لوقا أيضاً، كما أن أفكار بولس لا تجد لها مكاناً في سفر لوقا الذي يفترض أنه تلميذه، أما تاريخ تدوينه باللغة اليونانية فيقال إنه يعود إلى ما بين سنتي 80 و90م.
4- إنجيل يوحنا: ينسب إلى يوحنا أحد التلاميذ الاثني عشر، والذي كان صياداً يهودياً من تلاميذ النبي يحيى (يوحنا المعمدان)، كما كان أثيراً لدى المسيح، وقد نفي في أيام الاضطهاد الأولى، ثم عاد إلى أفسس وبقي فيها حتى وفاته. ويعد إنجيله أكثر الأناجيل تشكيكاً في صحة نسبته إلى كاتبه، وذلك باعتراف علماء الكهنوت أنفسهم، فاسم يوحنا لا يظهر أبداً فيه بل ألصق به بعد فترة من الزمن، كما أن الكاتب يتحدث بصيغة الغائب وكأنه لم يشهد الأحداث التي يرويها، وجاء في نهاية الكتاب ما يشير إلى وجود تلميذ يحبه يسوع وكان حاضراً في العشاء الأخير، ثم يقول: “هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا..” [يوحنا 21/24]. وهذه الخاتمة تشير إلى أن المؤلف هو التلميذ الحبيب لكنها لم تذكر اسمه، لذا ربط بعضهم هذا الإنجيل بيوحنا على أنه التلميذ المحبوب، بينما ذهب بعضهم إلى أنه لعازر، وقال آخرون إنه الشاب النبيل الثري الذي جاء إلى المسيح فنظر إليه يسوع وأحبه [مرقس 10/21]. ويشكل تاريخ تدوينه مثار اختلاف أيضا بحيث يتفاوت تقديره ما بين سنتي 80 و115م، والمتفق عليه أنه كتب من أجل إثبات ألوهية المسيح التي أغفلتها الأناجيل الثلاثة السابقة ولم تتحدث عن المسيح إلا بصفته البشرية فقط. وقد قال القس يوسف الدبسي الخوري في مقدمة تفسيره المعروف باسم تحفة الجيل: “إن يوحنا صنَّف إنجيله في آخر حياته بطلب من أساقفة آسيا وغيرها، والسبب أنه كانت هناك طوائف تنكر لاهوت المسيح، فطلبوا منه إثباته وذكر ما أهمله متَّى ومرقس ولوقا” [أبو زهرة، ص 64]، وهذا الإقرار يطرح تساؤلاً عن سبب إغفال الأناجيل الثلاثة -التي يُفترض أنها كُتبت بإلهام من الروح القدس- تلك المسألة الخطيرة التي تقوم عليها المسيحية وترك الأتباع غافلين عنها نحو قرن من الزمن قبل تدوين هذا الإنجيل، وقد يُستنتج من ذلك أيضا أن الأساقفة اعتنقوا ألوهية المسيح وحاولوا نشرها قبل وجود مستند كتابي لها، فلما أرادوا أن يحتجوا على خصومهم طلبوا من يوحنا أن يكتب لهم إنجيلاً يدعم دعواهم.
“أول من تحدث عن الأناجيل الأربعة في التاريخ المسيحي المعروف هو أرينيوس سنة 209م، ثم كليمنس أسكندريانوس سنة 216م”. [محمد أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، ص 49].
ولعل أهم الانتقادات الموجهة إلى الأناجيل الأربعة أن نسخها الأصلية ما زالت مفقودة، فهناك فاصل زمني لا يقل عن مئتين أو ثلاثمائة سنة بين أحداث العهد الجديد وتاريخ كتابة مخطوطاته، وهي مدة كافية للتشكيك بمدى موثوقيتها، إضافة إلى الاختلافات الكثيرة بين هذه المخطوطات، فهي مليئة بالتناقضات فيما بينها من جهة، وبالتناقضات في أحداث وروايات الإنجيل الواحد من جهة أخرى، ونجد ذلك في المسألة الواحدة التي لا تحتمل إلا حقيقة واحدة.
موريس بوكاي
ومن أمثلة هذا الاختلاف نذكر اختلاف إنجيل متى عن لوقا في نسَب المسيح، واختلاف إنجيل يوحنا عن باقي الأناجيل في من حمل صليب المسيح لدى اقتياده من قبل الرومان، فبينما يذكر يوحنا أن المسيح هو الذي حمل صليبه، تؤكد الأناجيل الأخرى أن الذي حمله هو سمعان القيرواني. كما يختلف متى عن يوحنا في ذكر حادثة القبض على المسيح لمحاكمته، ويتناقض إنجيل لوقا في روايته لسرِّ القربان المقدس مع ما يرويه متى ومرقس.
وقد بين الشيخ رحمة الله الكيرانوي الهندي في كتابه “إظهار الحق” أوجهاً كثيرة للاختلافات والأخطاء التي حفلت بها هذه الأناجيل، كما أجرى الفرنسي موريس بوكاي في كتابه “دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة” مقارنات واسعة بين الأناجيل الأربعة ودوّن عشرات الاختلافات والتناقضات، ولا سيما تلك التي تقع في داخل الإنجيل الواحد، بينما أوضح الأستاذ بجامعة زيورِخ روبرت كيل تسلر في مقدمة كتابيه “المخدوع الأكبر على مر الزمان” و”حقيقة الكتاب المقدس” أنه يتقبل مبدئياً كون بولس حسن النية ولم يسعَ لتدمير المسيحية من الداخل، إلا أنه مع ذلك أحصى في الكتابين مئات الأمثلة على الاختلافات والتناقضات العلمية والعقلية في الأناجيل الأربعة.
يقول القس السويسري جان شورر إن مخطوطات الأناجيل الأربعة تحتوي على أكثر من خمسين ألف اختلاف. [Das Christentum in der Welt und für die Welt، ص 104].
ويقول الألماني فيلهلم شميث إنه لا توجد صفحة واحدة من صفحات الأناجيل المختلفة لا يحتوي نصها الأصلي على العديد من الإختلافات [Bibel im Kreuzverhör، ص 39].
أمثلة أخرى على اختلافات الأناجيل: ذكر متى [1: 20] أن ملاك الرب نزل إلى يوسف النجار في الحلم وكان نائماً ليخبره بولادة الطفل عيسى، بينما ذكر لوقا أنه نزل إلى مريم العذراء ولم تكن نائمة وأقرأها السلام [1: 28].
ذكر لوقا أن يوسف ومريم رحلا من الناصرة إلى بيت لحم قبل ولادة عيسى [2: 22]، بينما قال متى [2: 13] إن الرحيل كان بعد الولادة.
جاء في متى [1: 13] أن شلتائيل هو ابن يكنيا، بينما ذكر لوقا [3: 27] أن اسمه هو شلتائيل بن نيري.
صاح الديك عند محاكمة يسـوع مرة واحدة عند كل من متى [26: 75] ولوقا [22: 61] ويوحنا [18: 27]، بينما صاح مرتين عند مرقس [14: 72].
جاء في متى [15: 22]: “وإذ إمرأة كنعانية. . . صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود”، أما مرقس فيقول إنها امرأة فينيقية [7: 26].
وإزاء هذه الاختلافات التي تطعن في مصداقية الأناجيل، وإذا كانت تلك الأناجيل قد كُتبت على أيدي أشخاص يُختلف في هوياتهم، يبرز سؤال عن مصير الإنجيل الأصلي الذي بشر به المسيح، والذي صرَّح بولس بوجوده وأشارت إليه الأناجيل الأخرى، لا سيما وأن هناك أناجيل عدة قد رُفضت من قبل مجمع نيقية كما أسلفنا، وهناك أناجيل أخرى رُفضت في قرارات كنسية لاحقة.
ومن أهم هذه الأناجيل المرفوضة من قبل الكنيسة، إنجيل برنابا الذي يشبه الأناجيل الأربعة المعتمدة من حيث سرده لقصة المسيح منذ ولادته وحتى اتهامه، ويذكر خطبه وحواراته، وقد جاء ذكره في رسالة أعمال الرسل، وقد كان برنابا إسرائيليا من سبط لاوي وأحد الرسل المعتمدين، ويقول في كتابه إنه شهد لبولس بالإيمان ورافقه في سفره ثم اختلف معه وافترق عنه، وكان برنابا يسافر للوعظ والهداية بتكليف من الكنيسة، ويُقر الأساقفة اليوم بكونه من الرسل الحواريين وبأنه من المُلهمين حسب اعتقادهم، إلا أنهم يصرون على عدم نسبة الإنجيل إليه.
عُثر على أقدم نسخة لهذا الإنجيل سنة 1709م باللغة الإيطالية، واحتفظ بها في البلاط الملكي بفيينا، ثم رجحت المصادر أن راهباً لاتينياً يدعى فريمو عثر على نسخة منه في مكتبة البابا سكتس الخامس، فقرأه وترجمه إلى الإسبانية واعتنق الإسلام، ويُذكر أن البابا غلاسيوس الأول (492م) أصدر قائمة بأسماء الكتب المنهي عن مطالعتها ومنها إنجيل برنابا، وصدور أوامر كهذه تكرر كثيراً خلال التاريخ المسيحي.
يمتاز هذا الإنجيل بقوة التصوير والعبارة المحكمة والمعاني المترابطة والحكمة الواسعة، ويدل على اطلاع كاتبه الواسع، ومع ذلك فقد أنكرته الكنيسة وعدته غير قانوني لأنه خالف الأناجيل الأربعة في مسائل جوهرية، هي:
1- عدم القول بألوهية المسيح وبنوته لله تعالى، والتصريح بنبوته وذم من يرفعونه عن ذلك المقام، والتنديد ببولس الذي أضل الناس بما ادعاه من مسائل تخالف ما جاء به المسيح، وقد قال مؤلفه في بدايته إنه سطر كلماته للرد على بولس.
2- التصريح بأن الذبيح الذي تقدَّم به إبراهيم عليه السلام هو إسماعيل وليس إسحاق كما هو مذكور في التوراة.
3- ذكر اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم صريحاً، وبيان أنه هو المسيح المنتظر وأنه رسول الله، والنقل عن المسيح كلاماً وافياً في التبشير به لأن الحواريين طلبوا منه أن يصرِّح لهم بما يعلن حقيقته ففعل.
4- بيان أن المسيح لم يُصلب ولكن شبِّه لهم، وأن شبهه ألقي على يهوذا الأسخريوطي، وأنه طلب من الله أن ينزله إلى الأرض بعد رفعه ليرى أمه وتلاميذه فنزل ثلاثة أيام ووبَّخ كثيرين ممن اعتقدوا أنه مات.
وبهذا يكون إنجيل برنابا قد خالف بقية الأناجيل في أهم المسائل العقدية التي بنيت عليها العقيدة المسيحية، لذا تقرر رفضه والحكم عليه بأنه مختلق من قبل كاتب مسلم، مع أنه لم يُعثر عليه إلا في المكتبات الكنسية.
شعائر المسيحية لا تسمو الشعائر المسيحية إلى منزلة العقائد، وإن كانت لازمة لكن عدم ممارستها لا يخرج المسيحي من دائرة الإيمان، ونذكر من أهم هذه الشعائر ما يلي:
1- التعميد: هو شعيرة متفق عليها بين كل الفرق المسيحية وكانت شائعة لدى اليهود قبل المسيحية، فكان النبي يحيى يعمّد الناس في نهر الأردن -كما يروون- ومن هنا سمي “يوحنا المعمدان” كما قام بتعميد المسيح نفسه كما أسلفنا. ويختلف علماء الكهنوت في تحديد وقت التعميد، فبعضهم يرى صحة التعميد في أي وقت من حياة الفرد، وبعضهم يقول إنه يجب أن يتم على فراش الموت على اعتبار أنه تكفير للسيئات فيفضل أن يتم في نهاية العمر، والغالب أن يتم التعميد في الطفولة حتى ينشأ الإنسان-كما يعتقدون- طاهراً من الذنوب. وهي في اعتقادهم تمحو الخطيئة الأصلية في النفس وتلدها ثانية. وقد يحدث التعميد برش الماء على الجبهة أو بغمس الجسم كله أو جزء منه في الماء، ولا بد أن يقوم بذلك الكاهن إلا في حال الضرورة، ويكون الرش أو الغمس ثلاث مرات، الأولى باسم الأب والثانية باسم الابن والثالثة باسم الروح القدس.
2- العشاء الرباني: يطلق عليه أيضاً اسم “التناول”، ويقصد به عشاء المسيح الأخير مع تلاميذه عندما اقتسم معهم -حسب الرواية- الخبز والنبيذ، حيث يرمز الخبز إلى جسده الذي كُسر لنجاة البشرية، ويرمز الخمر إلى دمه الذي سفك للغرض نفسه. لذا يُستعمل الخبز والنبيذ في هذا الطقس لاستدعاء ذكرى المسيح ليلة صلبه، ويعتقد المسيحيون أن الخبز والنبيذ يتحولان إعجازياً إلى لحم المسيح ودمه فيحصل الامتزاج بين المسيح وتعاليمه أثناء الأكل.
3- تقديس الصليب: يستند هذا التقديس إلى ما نُسب للمسيح في إنجيل لوقا (9/23) بقوله: “إن أراد أحدٌ أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني”، والمقصود بحمل الصليب هو الاستهانة بالحياة والاستعداد للموت والسير خلف المسيح المخلص واقتفاء أثره. ويعد الصليب أداةً للتذكير بالتضحية الضخمة التي قام بها المسيح من أجل البشرية، فكان القانون الروماني يجعل من حمله والطواف به بين الناس إشارة على صدور الحكم بالإعدام صلباً في حق من يحمله.
وفيما يتعلق بالتشريعات، تتصف المسيحية عموماً بفقرها التشريعي وتركيزها على الجانب الروحي وعدم الاهتمام بشؤون الدنيا، مع أن وصايا المحبة التي ركز عليها الآباء الأوائل لم تمنع وقوع الكثير من المجازر والحملات الدموية باسم المسيحية بدءاً بالحروب الصليبية ومروراً بمرحلة الكشوفات الجغرافية في عصر النهضة، ووصولاً إلى العصر الحديث وما شهده من حملات التبشير المرافقة للاستعمار.
وبما أن المسيحية تعتبر التوراة وأسفار الأنبياء السابقين كتباً مقدسة فقد اتبع أتباعها بدايةً الشريعة اليهودية والوصايا العشر، ويروى عن المسيح قوله: “إني لم أجئ لأغير الناموس ولكن لأقرر” [متى 5: 18]، ثم قرر الكهنة أن المسيح نقل التشريع إلى مرحلة متقدمة من خلال عظاته فاتفقوا على حصر المحرم في أربعة أمور فقط، وهي الزنا وأكل المخنوق والدم وما ذبح للأوثان، وخالفوا كثيراً مما جاء في التوراة فأحلوا مثلاً الخمر ولحم الخنزير، ومنعوا الختان المقرر في التوراة لأنه يشقُّ على بعض من يدعونهم إلى النصرانية فيفرُّون منها بسببه.
والعبادتان الرئيستان عندهم هما الصلاة والصوم، ومع ذلك يرى كثير منهم أن الالتزام بهما اختياري لا إجباري، ويقتضي الصوم عندهم الامتناع عن الطعام من الصباح حتى منتصف النهار ثم تناول طعامٍ خالٍ من الدسم. ويصومون في العام مرتان، الأولى صوم الميلاد وهو 43 يوماً تنتهي بعيد الميلاد، والثاني هو الصوم المقدس وعدد أيامه 55 يوماً وينتهي بأحد القيامة، ويمتنع في تلك الأيام أكل لحم الحيوان أو ما يتولد عنه ويستخرج من أصله. ويقتصر الصائمون على أكل البقول، ولا يُعقد في أثنائه سر الزواج. وهناك أيام أخرى للصوم يزيد عدد أيامها وينقص بحسب الطوائف.
أما الصلاة عندهم فيشترط لصحتها أن تقدم باسم المسيح، فالإنسان -بزعمهم- أبعد عن رضا الله بسبب خطاياه ولا يزول هذا البعد إلا بدم المسيح. وليس للصلاة هيئة محددة أو عبارات خاصة معلومة، بل يترك للمصلين أن يقولوا ما يشاؤون شرط أن تكون على نسق الصلاة الربانية التي قدمها لهم المسيح كما جاء في إنجيل يوحنا، وفيها: “أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم، واغفر لنا خطايانا، لأننا نحن أيضاً نغفر لكل من يذنب إلينا، ولا تُدخلنا في تجربة ولكن نجّنا من الشر”.
وأشهر الأسفار المشتملة على نماذج للأدعية والصلوات لديهم هو سفر المزامير من العهد القديم. ولا يجب عليهم عدد معين من الصلوات كل يوم كما أنه ليس لها أوقات محددة، فالأمر متعلق بنشاط المصلي ورغبته، ويرون أنه من الأفضل الإكثار من الصلاة على النقيض من اليهود الذين يرون أن الإكثار من الصلاة يدفع الإله إلى الملل.
وفيما يتعلق بشؤون الأسرة، تنص تشريعات المسيحية على أن الأصل في الإنسان هو الرهبنة، ولما كان ذلك مستحيلاً فقد أجيز الزواج، وكان تعدد الزوجات معمولاً به في البداية تبعاً للتعدد الذي قالت به اليهودية، ثم قيّد بزوجة واحدة على ألا يفترق الزوجان إلا بالموت، وبذلك لا يجوز الطلاق إلا في حال ثبوت الزنا على أحد الزوجين، أو إذا كان أحدهما غير مسيحي، إلا أن بعض الطوائف أجازت الطلاق في حال التنافر وانعدام الألفة. كما تهتم الكنائس المسيحية عموماً بتكثير النسل وتحارب تحديده وتحرم الإجهاض.
على سبيل المثال، تحرّم الكنيسة القبطية المصرية على أتباعها تحريماً باتاً تحديد النسل أو تنظيمه وتعد كل من يفعل ذلك مطروداً من رحمة الرب وقاتلاً لشعب الكنيسة، وكانت الكنيسة القبطية في بداية السبعينيات من القرن العشرين قد وضعت نصب عينيها هدف إكثار نسل المسيحيين حتى يبلغ عددهم نصف تعداد الشعب المصري خلال 15 عاماً.
طقوس الكنيسة وأسرارها الطقوس في اصطلاح الكنيسة هي الصلوات والابتهالات التي تتم في الاحتفالات الكنسية، ويقوم بها الكاهن مع مجموعة من الأعوان، وتتضمن السجود أمام الهيكل فور دخول الكنيسة، وإطلاق البخور وذبح القرابين وتلاوة نصوص من الكتاب المقدس.
أما السر الكنسي فهو عمل مقدس تنال به نفس المؤمن نعمة الله غير المنظورة من خلال ممارسة طقس على يد كاهن شرعي، ويتضمن سبعة أسرار، وهي: سر المعمودية (أي التعميد بالماء)، وسر مسحة الميرون (أي الطيب باليونانية) وتطلق على السائل المركب من نحو 30 صنفاً من العطور والطيوب وهو متحدٌّ بسر المعمودية ويأتي بعده مباشرة، حيث يتناول الكاهن الميرون ويمسح به أماكن مختلفة من جسم المعمَّد 36 مسحةً، وبذلك يحل عليه الروح القدس بنعمه. وسر الشكر (الأفخارستيا) المتعلق بالعشاء الرباني والاتحاد مع المسيح، وسر التوبة والاعتراف ويلزم أن يكون أمام كاهن وأن يكون الاعتراف كاملاً وواضحاً، وثمرته الحصول على الغفران الذي يمنحه الكاهن نيابة عن الرب، وسر الكهنوت الذي يُختار به رجال الدين، وسر المسح على المريض ليُشفى روحياً وجسدياً، وسر الزواج للربط بين الزوجين برباطٍ مقدس دائم. وتسمى هذه الطقوس أسراراً لتسدل هالةً من التقديس على القسس الذين يمارسونها.
يُحظر على الراهبات الزواج مدى الحياة
ومن أهم الطقوس التي ظهرت في الكنائس المسيحية ظاهرة الرهبنة، فقد نشأت كمظهر من مظاهر الهروب من الناس والبعد عن الأدناس وهجر المدن والالتجاء إلى البراري والصحراء بغية محاربة شهوات الجسد والإكثار من العبادة والتأمل مع المحافظة على الانعزال والتفرد، ثم كثر الراغبون في الترهُّب فبنوا لهم صوامع متجاورة ثم أحاطوها بأسوار عالية فنشأت بذلك الأديرة (الكاتدرائيات).
وينسب المسيحيون أسس الرهبنة إلى المسيح الذي احتقر الدنيا وملذاتها، ويبررونها بالالتحاق بركب التضحية الذي عانى منه المسيحيون الأوائل زمن الاضطهادات الشديدة.
ومن أسس الرهبنة التبتُّل وعدم الزواج، فينسبون ذلك إلى المسيح بقوله: “يوجد خِصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات فمن استطاع أن يحتمل فليحتمل” [متى 19/13]، أما التقشف وتعذيب الأبدان بالجوع وخشن الثياب فمردُّه عندهم إلى ما جاء في أعمال الرسل [14: 22]: “وأنه بضيقات كثيرة ينبغي أن تدخل ملكوت الله”، وينبغي أن يترافق ذلك مع طاعة تامة يدين بها الرهبان لرؤسائهم.
غير أن تجربة التبتل في الأديرة والصوامع لم تحقق نجاحاً تاريخياً يعتد به، فتطرق لها الفساد بشكل يشكك بقدرة الإنسان على حرمان نفسه من إحدى حاجاته الأساسية دون إخلال بواجباته، وهو ما دفع الكنيسة البروتستانتية (الإصلاحية) إلى التخلي عن الرهبنة والسماح للكهنة بالزواج قبل خمسة قرون، بينما تتمسك الكنائس الكاثوليكية بتقاليد الرهبنة لتصبح فضائح الكهنة الجنسية في كنائسها وأديرتها من أهم المواد الصحفية في الغرب خلال السنوات الماضية.
“الأديرة تحتوي على فساد عميق وهيهات أن يوجد فيها من يصلح للبقاء، إذ أنها تضم بين جدرانها أفّاقين أولى بهم غياهب السجون” [مجلة “رسالة الحياة” المسيحية، السنة الأولى، العدد 6، ص74].
أهم المراجع مجموعة من اللاهوتيين برئاسة فرنس دافدس، تفسير الكتاب المقدس، منشورات النفير: بيروت، 1989م، ط2.
موريس بوكاي، دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، دار الأفكار: بيروت، 1991م، ط1.
هيم ماكبي، بولس وتحريف المسيحية، ترجمة سميرة عزمي الزين، المعهد الدولي للدراسات الإنسانية، 1986.
جون هيك، أسطورة تجسد الإله في السيد المسيح، ترجمة نبيل صبحي.
محمد أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، الرئاسة العامة للإدارات البحوث العلمية والإفتاء: الرياض 1404هـ، ط4.
محمد علي البار، دراسات معاصرة في العهد الجديد والعقائد النصرانية، دار القلم: دمشق 2006م، ط1.
أحمد شلبي، المسيحية، مكتبة النهضة المصرية: القاهرة 1993، ط10.
لينة الحمصي، المسيحية والإسلام، دار العصماء: دمشق 2010، ط1.
محمد الغزالي، قذائف الحق، دار القلم: دمشق 2002م، ط3.
سيد عاشور، اليهود في عصر المسيح عليه السلام، دار القلم: دمشق 1992م.
Jean Schorer, Das Christentum in der Welt und für die Welt, Wien 1949.
Jean Schorer, Pourquoi je suis devenu un chrétien libéral, 2. A., Genf 1971.
Willhelm Schmidt, Bibel im Kreuzverhör, Gütersloh 1963.