الفلسفة الوجودية وطبيعة النفس البشرية
تعتبر الفلسفة الوجودية أن الطبيعة البشرية مرنة وقادرة على القيام بمجموعة هائلة من الخبرات، وأن الأشخاص في عملية مستمرة من التطور، وذلك استنادًا إلى الفكرة الأساسية التي تقف عليها وهي أن الوجود يسبق الماهية الحقيقية، إذ الإنسان هو من يصنع ماهيته، فالمعتقد الأساس في منظور هذه الفلسفة أنه: طالما أنني موجود فأنا أصنع نفسي باستمرار ويجب عليّ أن أعيد ابتكار نفسي يوميًا، أي أنّ الإنسان هو من يحدد شخصيته وقدراته ومستقبله.
يشير العديد من الفلاسفة والمفكرين إلى أن المعضلة الأولى في هذه الرؤية تبدأ من قضية القلق الوجودي، أي أن طول التفكير في هذه المسألة يؤدي إلى شعور عميق بالقلق، حيث إن الفرد واقع تحت ضغط الضرورة والمسؤولية لخلق شيء ما بدلاً من الفراغ الذي يعيشه في كثير من الأحيان، وإحساسه بأن كل شيء يمر سريعاً، وأنه لا يستطيع أبداً التمسك بالحاضر، فالحاضر يمضي سريعاً ويصبح من الماضي، وأنه لم يعد كما كان ولا كما يرغب في أن يكون، وبذلك يجد الفرد نفسه في مكان ما في المنتصف، يتصارع مع معطيات الماضي وإمكانيات المستقبل، دون أي معرفة مؤكدة بما يعنيه كل ذلك.
الفلسفة الوجودية: أبعادٌ وآثار
في الكتاب المشترك المعنوَن بـ Individual Therapy in Britain أي العلاج الفرديّ في بريطانيا، والذي أشرفت على تحريره الأكاديمية ويندي درايدن Windy Dryden خصصت الأكاديمية الهولّندية إيمي فان ديورزين سميث جزءًا من بحثها في الكتاب حول الأبعاد الأساسية للفلسفة الوجودية، فأشارت إلى أن تحديد الوجود البشري في هذه الفلسفة يتركّز في أربعة أبعاد أساسية: البعد المادي والبعد الاجتماعي والبعد النفسي والبعد الروحي. في كل بعد من هذه الأبعاد، يواجه الناس العالم ويشكلون مواقفهم منه كل حسب تجربته الخاصة. فهذه المواقف هي التي تحدد موقفنا من واقعنا، ومن الواضح أن هذه الأبعاد الأربعة متشابكة ومترابطة، وما حال الفرد إلا كالممتد ما بين قطب موجب يمثل ما يطمح إليه في كل بُعد، وقطب سالب يمثل ما يخافه ويتجنبه.
ففي البعد المادي يعتقد الوجوديون أن الفرد يتعلق ببيئته ومعطيات العالم من حوله بشكل طبيعي، وهذا يشمل موقف الفرد من جسده، واحتياجاته الجسدية، وموقفه تجاه محيطه الملموس، وممتلكاته المادية، كأحوال الناس وممتلكاتهم والمناخ، والصحة والمرض.
يعدّ الجهد في هذا البعد -بشكل عام- منصبًّا بين البحث عن الهيمنة -كما في التكنولوجيا، أو الرياضة- وبين الحاجة لتقبل القيود الطبيعية كما في علوم البيئة أو الشيخوخة)، ويهدف الناس عموماً في هذا البعد إلى ترسيخ الأمن من خلال الصحة الطبية وجمع الثروة، إلا أن الحياة لا تقدم لهم الكثير من الحقائق التي تدعم آمالهم مما يسبب لهم خيبات الأمل، وإدراك ذلك يمكن أن يؤدي إلى التوتر.
البعد الاجتماعي في الفلسفة الوجودية
ترى الكاتبة أن الإنسان في البعد الاجتماعي يتواصل مع الآخرين من خلال التفاعل مع العالم من حوله، ويشمل هذا البعد استجابة الفرد للثقافة التي يعيش فيها، وموقفه تجاه الطبقة والعرق الذي ينتمي إليه، والآخر الذي لا ينتمي إليه كذلك؛ ومن ثم فإن المواقف تتراوح هنا ما بين الحب والكراهية، وما بين التعاون والمنافسة.
يمكن فهم التناقضات بين القبول والرفض، أو الانتماء والعزلة، فبعض الناس يفضلون الابتعاد عمن حولهم قدر الإمكان، بينما يحرص آخرون على بناء العلاقات وترسيخ قبوله بشكل عام بين الناس من خلال الالتزام بالقواعد والعادات والآداب العامة، ومن ثم فإنه يمكن بحسب هذه الرؤية أن يحقق الفرد الهيمنة على الآخرين بشكل مؤقت من خلال اكتساب الشهرة أو غيرها من أشكال القوة، إلا أن أتباع هذه الفلسفة يؤمنون أننا جميعاً سنواجه الفشل والوحدة عاجلاً أم آجلاً.
البعد النفسي الوجودي
في البعد النفسي الوجودي يتعلق الفرد بنفسه، وبهذه الطريقة تشير الكاتبة إلى أنه يصنع عالمه الشخصي بشكل خاص.
يتضمن هذا البعد وجهات نظر حول شخصياتنا وخبراتنا السابقة واحتمالات خياراتنا الوجودية المستقبلية، ولذا فإنه غالبًا ما يتمّ اختبار التناقضات هنا بالنظر إلى نقاط القوة ومقارنتها بنقاط الضعف.
في البعد النفسي ترى الناس يبحثون عن الإحساس بالهوية والانتماء والشعور بالجوهر وقدرات الذات غير المحدودة؛ إلا أن هذا الحال يوصل الإنسان حتماً إلى العديد من الأحداث التي تظهر له عكس ذلك، وتغرقه في حالة من التوتر والارتباك والتفكك.
على سبيل المثال فإن النشاط والسلبية مركزان مهمان هنا، حيث إن تأكيد الذات شكل من أشكال النشاط بحسب الكاتبة، كما أن الاستسلام شكل من أشكال السلبية، كما أن إعادة التفكير في الموت قد يجلب القلق والارتباك للكثير لمن يؤمن بأهمية ذاته.
الوجودية والبعد الروحي
تشير الكاتبة إلى أن الإنسان في البعد الروحي الوجودي يتعلّق بالغيب، وبالتالي فإنه يصنع إحساسًا بالعالم المثالي ويمتّن النظرات الأيديولوجية والفلسفية، وقد يجد بعض الناس راحتهم المثالية في الطرق العلمانية، وذلك في تناقض واضح بين ارتباط الروح المعنوي والمادية العلمانية، وفي هذا البعد غالباً ما يكون فكر الناس متذبذبًا بين الهدف والعبثية، والأمل واليأس، إلخ.
الاضطراب والصحة النفسية
تشير الكاتبة إلى أن الاضطراب والصحة النفسيين وجهان لعملة واحدة، والعيش بشكل سليم يعني التوافق في العيش مع كليهما، فالصحة النفسية تعني القدرة على أن تكون شفافاً ومنفتحاً على ما يمكن أن تجلبه الحياة بشقيها السلبيّ والإيجابي. وحين نحاول التهرّب من الجانب السلبي من الوجود نتعثّر بالتأكيد، تماماً كما نتعثر حينما لا نرى الجانب الإيجابي منه.
في مواجهة الإيجابية والسلبية في الإحساس الوجودي تنشأ القوة اللازمة للاستمرار قدماً وبالتالي فإن الصحة النفسية –في منظور الفلسفة الوجودية المعاصر- لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال التصالح مع الحياة والعالم والنفس وفهم ما يدور حولنا، وكأن الصحة النفسية تصبح مرادفًا للحكمة في هذه الرؤية.
لا نشير هنا إلى أن هذه الرؤية الوجودية حول الصحة النفسية صائبة أو خاطئة إلا أننا نحاول أن نقارب بين هذه الرؤية ومفردة الحكمة التي تتشكل نتيجة التخلّق بصفات الصبر والصدق.
التغيير نحو الأفضل
تشير الكاتبة إلى أن التغيير في الحياة نحو الأفضل إنما هو جزء من عملية طويلة من التحول، وعلى الرغم من أن الناس يعتقدون في كثير من الأحيان أنهم يسعون لذلك التغيير، إلا أنه في كثير من الأحيان تعكس حياتهم محاولاتهم للحفاظ على الوضع الراهن. قد يصبح الفرد مقتنعاً بحتمية التغيير، وقد يصبح أيضاً مدركاً للكثير من الطرق التي حافظ بها على هذا التغيير. في كل دقيقة من اليوم يصنع الناس الخيارات التي تحدد اتجاه حياتهم. في كثير من الأحيان يتم الشروع في هذا الاتجاه بشكل سلبي: أي يتوافق فقط مع توقعات الأشخاص السلبية أو المتواضعة للمستقبل. لكن يتم اكتساب البصيرة في إمكانية إعادة تفسير الموقف واختيار المزيد من القرارات البناءة للتغيير نحو الأفضل. هذا يتطلب من الفرد أن يتعلم كيف يعيش بشكل متعمد وواع، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال إدراكه لكيفية توظيف الموقف اليومي والإطار الذهني بشكل يحفظه من التلقائية التي تكرر نفس الاخطاء. ليس من السهل كسر قوة العادة، ولكن هناك دائماً أوقات يتم فيها كسر العادات بالقوة. الأزمات هي الأوقات المناسبة لمراجعة أنماط التفكير والسلوك القديمة. هذا هو السبب في أن أطباء النفس الوجوديين يتحدثون عن الانهيار باعتباره اختراقاً محتملاً، وأنه في كثير من الأحيان يلاحظ الناس بدهشة أن الكارثة أو النقمة التي حاولوا جاهداً تجنبها كانت في الحقيقة نعمة بالنسبة لهم. في أوقات الأزمات، يتم إعادة تركيز الانتباه على الأولويات بحيث يمكن أن تكون الخيارات واضحة أكثر من ذي قبل.
سواء كان هذا الحدث مفروغاً منه (كما في الهجرة أو الزواج) أم لا (كما في الكوارث الطبيعية أو فاجعة الموت) فإن له تأثيراً كبيراً. عندما يكون من الصعب علينا إخفاء جوانب الوجود التي نفضلها نكون مضطرين لإعادة تقييم مواقفنا وقيمنا. في أعقاب تلك الفوضى يجب أن نتخذ القرارات حول كيفية المضي قدماً وكيفية إقامة نظام جديد في حياتنا. اذ يمكننا أن نتسامح مع عدم اليقين في مثل هذه المواقف بدلاً من الهروب نحو روتين جديد، فمثل هذه الأوقات يمكن أن تكون فرصة لتصحيح اتجاه الحياة.
ترى الكاتبة أنه بمجرد مواجهة الأزمة بهذه الطريقة، يصبح من السهل الانفتاح على التغيير مرات أخرى كذلك. يمكن للناس أن يتعلموا إعادة تقييم قيمهم وإعادة تقييم أولوياتهم باستمرار، وبالتالي تحقيق المرونة التي تسمح لهم بالاستفادة القصوى من الحياة.
*هذا المقال عبارة عن ترجمةٍ لتلخيص مقال الكاتبة إيمي فان ديو ريزين سميث في كتاب Individual Therapy in Britain
المصدر:
Deurzen-Smith, E. van (1984) ‘Existential therapy’, in W. Dryden (ed.), Individual Therapy in Britain. London: Harper & Row.