طغيان المادة على القيم
من المؤسف أننا نعيش اليوم زمن المادة وأن المعيار الطاغي على سائر المعايير في هذا العصر هو “المادة” وبالتالي فقد بات من النادر الاحتكام إلى القيم الروحية والمعنوية في سياق التعامل، بل إن القليل من الناس يعرفونه، إلا أن حياتهم تكون أجدى وأسمى، فحياة القيمة أرقى بكثير من حياة المادة، وهي الأساس لجميع الرسالات والحضارات وهي الضامن الوحيد لبقاء الإنسان الفطري الذي يعرف معنى الإنسانية.
من المؤكد أنه بوسعنا الحصول على تعريفات مختلفة للقيم والمادة، إلا أن محاولة شرح هذه المعاني لإنسان اليوم أصبح أمرًا معقدًا، حيث إن كل شيء حولنا اليوم يلمع ويبرق بألوانه الزاهية، إلا أن إدراك القيمة العالية أو المتدنية المرتبطة بهذا الشيء صار أمرًا عسيرًا فقد سلبت ثقافة التشييء من الأشياء قدسيتها.
بين القيمة والمادة
لو أننا أردنا تعريف القيمة، فإن الأقرب وصفها بأنه الشيء الجوهري الذي يمنح الفرد أو المجموعة أو الفكر مكانة خاصة لدى العموم، وتكون المعايير ههنا معنوية ذات آثار ملموسة كالتربية والأخلاق والأسرة والمجتمع والدين والفكر، فالقيمة في جوهرها هي أساس الإنسان والأمة، وهي التي تُشعِره بإنسانيّته، كما أنها الأساس الذي ينتج الأخلاق والأفكار أي أنها أساس الفكر الحضاري والديني في المجتمعات على مر التاريخ.
أما المادة فهي في جوهرها الشيء المؤقت والمستهلك، أو ما يمكن تبديله وتغييره بسهولة، وبذلك فإنه ما إن تنتهي إنتاجيته المادية والحسية يزول بريقها وتستبدَل بما سواها، فلا يكون لها قيمة جوهرية على المدى البعيد وإنما قيمتها بالوظيفة أو الحاجة التي تسدها، وبذلك فإن خطورة هذا المعيار في أنها لا تختص بالجماد أو الآلة بل إنه من الممكن أن تنسحب على الإنسان والمجتمع والفكر فيتبدل ويتغير حسب الاحتياج إلى ذلك، ويستغنى عنه متى ما زالت منافعه وبريقه وإنتاجيته.
القيمة والمادة بين الماضي والحاضر
لم تعرف الإنسانية معنى القيمة الحقيقية إلا مع نزول الرسالات السماوية التي أثبتت للإنسان بشكل قاطع أن حياته لا معنى لها دون الخضوع للإله الواحد الذي كلفه بنقل رسالة التوحيد، وأن للإنسان غاية قدسية فيجب عليه ألا يتشبث بمعايير الحياة المتبدلة والمتغيرة، ولكن في نفس الوقت يجب أن نعيشها وننتبه لأعمالنا فيها، حيث إن الآخرة بانتظارنا لنحاسَب على ما عملنا فيها، إلا أن ذلك لا يعني ألا نستمتع بها فهي مرحلة عبور فيها العبادة والمتغيرات اليومية، وعليه لا بد من الموازنة بين الطرفين على ألا يطغى جانب على آخر.
إن الإسلام الذي بلغنا عن نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الوحيد الذي لم يتبدّل ولم يحرّف، ولا عجب في ذلك فقد حفظه الله الواحد الأحد المطلق الذي ليس مثله شيء، ومن هنا جاءت قيمته الثابتة، فالله هو المعيار المطلق لكل ما في الوجود، وبه ترتبط أعمال الخير بشكل عام، ومن هنا ندرك عظمة التشريعات التي فرضها في تنظيم المجتمع والتخلّق بالأخلاق والتربية، إلخ، فهي ذات قيمة اعتباريّة مستمدة من إرادته وحكمته.
لقد عاشت الأمم بمختلف دياناتها فترات طويلة تحاول إنشاء توازن بين القيم والمادة، فالقيمة نابعة من الروح والمادة نابعة من الميل للشهوات –بمعناها العام-، فالقيمة عقل وموازنة وإدراك وإشباع ورضى وكل هذه الأمور تصب في حكمة الإنسان وعمق إدراكه للحياة، فلا يمكن للإنسان الذي يعيش حياة قيمة بشعور النقص والفقر والحرمان، لأن أساس الفكر والمشاعر متعارضة.
أما بالنسبة للمادة فإنه لا يمكن القول: إن شهوات الإنسان شر محض، إلا أن طغيانها في حياة الإنسان شر محض، ولذا نرى الإسلام يضعها ضمن إطارات متعددة ليضمن إشباعها واستقرارها، حيث إن إنكار الشهوات إنكار لطبيعة الإنسان، وفي بعض الأوقات تكون الشهوات الدافع الأول للإنسان والقوة المحركة تجاه الحياة، وهذا من الأشياء المتأصلة في الإنسان.
أهمية المعيار في حياة الإنسان
لقد شعر الانسان من اللحظة الأولى في الحياة بأهمية وجود معايير متجاوزة للحياة المادية للقيمة التي تعطي للحياة المعنى، وإذا بحثنا في جميع المجتمعات على مر العصور نجد أن الإنسان دائما كان له دافع في اتخاذ الأشياء الكبيرة والتي يراها عظيمة آلهة ويعطي للأشياء رمزية، مثل الشمس والقمر والنجوم والكواكب والاصنام. وكانت تتعدد المعابد في داخل المجتمع نفسه، وكان دافع الانسان البسيط هو حاجته لقوة القوى التي تتجاوز قدراته، وقد استغل الكهنة هذه المعاني لتسيير الناس وضبطهم والسيطرة عليهم وسلب أموالهم بحجة إرضاء الآلهة، واليوم فإننا نرى هذه السيطرة بشكل مختلف، إلا أن الجوهر والقاعدة واحدة، مع التنبه إلى أن الغلاف الخارجي للأشياء يتغير حسب الواقع والعصر.
إن الإنسان عبارة عن مركبات كثيرة من الفرح والحزن، والخير والشر، والذكاء والمكر، والأحلام والتخيلات والأهداف، والعادات والتقاليد، كما أنه يعيش حائرًا بين أن يكون هذا أو ذاك، ويتساءل هل يجب أن أكون الخيّر أم الشرير؟ وهنا يأتي دور العقيدة التي تعطي الإنسان القيمة والمعيار الذي يحضه على البحث والتأمل واختيار الطريق الصحيح؟
لكل إنسان إطار من العادات والتقاليد التي يولد ويعيش فيها، وكلما تقدم في السن اتضحت له أمور كانت تخفى له، وكلما عبر مرحلة زمنية محددة قلّ اعتماده على الدعم الخارجي المعنوي والمادي، وعلى سبيل المثال فإن وجود الوالدين في مرحلة الطفولة يعطينا الاحتياجات العاطفية والمادية، وعندما ندخل عالم العمل والحياة الخاصة يشعر الإنسان في بعض الأوقات أنه يفتقد الأمان فيبدأ في البحث عن هذه الاحتياجات التي تعطي لحياته معنى، فيبني حبّه أو ينضم لحزب أو حركة جماهيرية أو ينغمس في فكر جديد له طابع خاص، ومن الممكن الدافع لذلك شعوره بالنقص وعدم الأمان أو الحرص على التجربة والبحث والتفكر.
مادية العصر الحديث
إن الحياة المادية التي نعيشها اليوم لا تقتصر على سلوك الفرد وحده، فنحن هنا لا نخاطب الإنسان فقط بل نحاول وصف المجتمع والاقتصاد والسياسة والعلوم التي نتعلمها لأنها كلها داخلة في الفكر الاجتماعي المعاصر، ولأن الإنسان جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة وأفكار الفرد نتيجة مباشرة لهذه المنظومة الفكرية.
وإذا كانت قيمة القيمة تنبع من الفكر السليم والجوهر المطلق، فإننا اليوم نعيش في عالم المنظومة الرأسمالية التي تحفز على زيادة الإنتاج والدخل دون النظر للظروف المعنوية والروحية، ولذلك فإن من أساسيات زيادة الدخل وجود الإنسان المستهلك الذي تحاول الشركات تحفيزه بكل الطرق لشراء المنتجات سواء كانت ذات قيمة أو بلا قيمة.
بطبيعة الحال فإن هذه الشركات تستخدم الإعلام وسيلة فعالة لعرض منتجاتها، وسواء كان الإعلام صادقًا أو مسيّسًا لجهة أو فكرة ما، فإننا نتأثر به لا شعوريًّا، بل إننا نرى كيف أن المنتجات الإعلانية في الإعلام تتزين بأشكال مختلفة عنه في الواقع لتأخذ طابع المصداقية، وها قد وصلنا لمرحلة أصبح فيها عرض الشذوذ والإباحية أمرًا طبيعيًّا، بل بات يوصف بأنه فكرٌ إنساني لا يهاجم الفطرة الإنسانية، ولذا يجب تقبّله!.
هذه المتاهة الماديّة تدفع الإنسان لإشباع رغباته وشهواته بطرق تنافي العقل والأخلاق والمنطق والقيمة الجوهرية للإنسان، وجميع هذه المحفّزات، تضعف الفرد والمجتمع، مما يؤدي إلى انهيارهما من الداخل، حيث تنتشر فيها الرذيلة والجريمة التي هي مبررة في نظر ناشريها.
ومن هنا يعيش الإنسان ضمن إطار اللذة التي تركز على الاستهلاك، ويكون استهلاك البشر مبدأً في تكوين العلاقات الاجتماعية القائمة على علاقات المنفعة الاستهلاكية، وليس بسبب الاحتياج العاطفي، بل يصبح الوالدان بالنسبة لأولادهما –في هذا المجتمع- مجرد محطة عبور للفرد، فيعيش الإنسان متحررًا في وجهة نظرهم من كل شيء إلى أن يصل لمرحلة الوحدة والاكتئاب، وإذا أراد الانتحار فيمكن له أن يذهب إلى أحد المراكز المتخصصة في تقديم خدمة الموت الرحيم.
إن المنظومة الفكرية التي تبحث عن الشهوة، تبرر في نفس الوقت الموت الرحيم لأنه جزء من منظومة الاستهلاك، فالإنسان ليس أكثر من مستهلك يبحث عن الحرية والتحرر في كل مكان بدافع التطور والحضارة وما دام الإنسان يبحث عن شيء باستمرار فهو فاقده، وهكذا يعيش الإنسان لشهواته المؤقتة وفق مبدأ اللذة التي يستفيد منها المنتج والمروج فقط، وكما ذكرنا سابقًا فإن الشهوات دافع للإنسان وهي جزء من تكوينه البشري، إلا أن العيش على مبدأ اللذة ينهك الفكر والجسد والروح والمجتمع.
إن العقيدة الصحيحة هي أساس فهم الإنسان للحياة، وكلما ارتبط الفكر بقيمة أكبر من المادة زادت قوته ومناعته تجاه الحياة ومصاعبها، فأساس الحياة التبدل والتغير، أما الإيمان القوي بالله فإنه يرتبط بالأهداف الكبيرة التي تتعدى المصاعب، لأنها مرتبطة برضى الله لا البشر، وبالإيمان بالله لا باعتبار مقدار المال أو الجاه الذي يحدد قيمتنا.