مقالات

الكتاب بين النبذ والاكتفاء

كنت أسمع وأقرأ لأصحاب الوعي ومن زكوا نفوسهم فترقّيت في فهم الوحي ودوره في الإصلاح والتربية، حين يقررون أن كتاب الله يغني عن كل ما سواه، فيؤمن القلب أنه هذه الرؤية حق، ثم ألتفت فأجد من حولي ينقضون تلك الرؤية عملا وقولا، ولست بمعزل عنهم، فقدماي مبتلتان من ذلك السيل العارم يبتغي إزاحة الحق ليظل وحيدا بعيدا مطرودا من الساحة..

كانوا يسألون وكنت معهم أدير فكري إذا ما قيل دعوا الباطل وما شابهه وإن تزين ببعض الحق وبعض الجميل؛ فأتساءل ما البديل؟

حاجتنا إلى القرآن في زمن الترفيه

جال ذهني في بداية الأمر، أن الرسوم الكرتونية بأشكالها، المسلسلات والأفلام وغيرها من مواد الترفيه وشغل الوقت، قد ابتدعها من يحتاجها.. لقد كانوا فعلا في حاجة إلى ما يملأ فراغ قلوبهم، ربما تحمل قِيَمًا ما، تعّرف بثقافة ماضية، تذّكر بآداب منسية، وربما لشغل الفراغ الذي لابد أن يُشغل ويُقضى..

وتذكرت حين كنا ندَرس تلك الآداب والقصص الذي كان بدايتها من هناك، وكنا نحاول أن نثبت كعادتنا أننا لم نتأخر عنهم، فقد كانت لدينا المقامات والرسائل الأدبية وأدب الرحلات والسير والتراجم وهي من جنس القصة. لكن ذلك يبدو الآن على خلاف ما كانت عليه حقيقة الأمر.

لقد كان لدينا نحن ما يملأ ذلك الفراغ، ما لو حملناه في قلوبنا لامتلأت حقا، ولانشغلت بالشغل النافع والفكرة المضيئة والمتعة الراقية، كان لدينا ما يكفينا لو عشناه كما عايشه ذاك الرعيل الأول.

إن الإنسان الذي اقتضت الحياة أن يمضي باذلا جهدا أيا كان نوعه ليقيم به عيشه، وليكون جزءًا من الحركة الدائرة في الحياة، ولا بد للإنسان أن يبحث في نهاية يومه أو أسبوعه عما يريح عقله ويجم فؤاده، فيصنع لنفسه ألوانًا من الفنون تبهج قلبه المتعب والراكض أبدًا إلى متعة وراء أخرى..

وفى محاولات الفهم، بدا لي الوحي حاضرًا في مقابل ما كان قائما في الشعوب والثقافات، في مقابل اللهو والأساطير والغناء وما إلى ذلك.

لاريب أن القرآن كتاب هداية، لكنه كتاب أُنْسٍ كذلك بما فيه من قصص، وعلم وإشراقات وقرب. القرآن يدعوك أن تعود إليه إذا فرغت من شغلك فتنصب قدميك بين يدي الملك وتتلوه بحب وإخبات فيرتاح قلبك ويهنأ..

وليس المعنى هنا نفي ما هو مباح من ألوان الفنون، لكن القصد أن تتشبّع جنبات روحك أولا من ذلك النبع الرقراق، وأن تتضلع من مائه العذب فلا يأتي غيره إلا وقد نلت غذائك ونمت أوردة فكرك وتغذت بما يليق بها.

فإذا اطلعت على ما سواه بزينته وبهرجه الخالب للأعين والعقول، كان اطلاعك عليه محددا بقدر ذلك الفراغ اليسير الذي توجده بشريتك وتجول فيه حواسك الظاهرة، فما يقدر أن يصيب منك كثيرا. كما أن ما تستروح به النفس مما سوى الكتاب أدبا أو فنا أو ما دون ذلك لن يكون بعيدا عنه، ستجد النفس تقبل على ما تشبهه وما يتوافق معه وما لا يهدم الأساس الذي تبينه من خلاله، فما تركض قليلا وتتذوق من تلك الثمار التي علمت طيبها إلا وجدت نفسك تقبل من جديد على الحق متلهِّفًا نشِطًا.

القرآن هدايةً في قضايا الوجود

لقد كان الناس قبل القرآن يضعون تصورات خاصة لهم، يؤلفون أشعارا ويخترعون مقاييسا، ويقررون قيما وعادات وسننا يتبعونها، فنزل الكتاب ليعيدهم إلى الحق وإلى الرشد وإلى التصور الصحيح. جاء القرآن ليقدم لهم ما هم في حاجة شديدة إليه من تعريف بخالقهم وبما يجب عليهم في هذه رحلة الحياة القصيرة، وما الذي ينتظرهم بعدها، جاء القرآن ليضع برسالته الخاتمة الملامح العامة لكل قضية في الوجود. لذلك كان الكتاب حينها يجب ما كان قبله، تلقفه من آمن به موقنا أن فيه الكفاية وأن به الرشد وأنه العاصم من كل زيغ. وفى المقابل كان فريق الجاحدين يتواصون باللغو فيه وبإشغال الناس بالزيف والباطل والأساطير الملهية كي لا ينفذ إلى القلوب أثره ولا يمتد إليهم نوره وهداياته.

ولم ينشغل النبي صلى الله عليه وسلم بباطلهم، بل كان منشغلا بتلقي الوحي وتبليغه، وكذلك من حملوا بعده الرسالة، لم يتحيروا كيف يعرضون أنوار الكتاب لمن هو في شغل عنه، ولم يخلطوا ما فيه من حق ببعض الزينة المتكلفة لكي يقبل من يعجبهم اللهو والباطل. فقد كان إيمانهم أن الحق ناصع وأن أنواره تجذب إليه أصحاب الصدق والفهم يحجزهم عن الوقوع في ذلك الشرك الواقع في زماننا.

وليس أدل من أثر اتباع المبطلين وتلمس وسائلهم ومحاولة السير في ركابها من أن الحق يخفت أثره في القلوب حتى تكاد أن تأكلها الريبة أو أنها تتفلت وتأخذ من الكتاب ما تشاء وتدع ما تشاء، فإن الخطوة الواحدة تتبعها خطوات ومنازل حتى تنزلق الأقدام وتخالف الطريق. وإن النفس تألف ما عوّدتها عليه، فإن عُودت على اللهو وعلى التماس النفع والحكمة والراحة فيما هو معروض بجميل الألوان والأقوال مما ألّفه البشر وأنتجوه شرقا وغربا، ألِفت ذلك وصار أنسها ومتعتها الغالبة فيه، وصار الكتاب ثقيلا، ترى بينه وبينها بعد المشرقين.

ولقد كان القرآن يومئ إلى ذلك كثيرا ليفهم خاصيته تلك من يعملون العقول ويقدحون الفكر في معانيه فيكتفون به في سد فاقة القلوب القلقة المتوثبة، قبل أن يتطلعوا إلى المعروض هنا وهناك. فتراه يذم من أعرضوا عن الكتاب ممن أوتوه قبلنا، ثم يعرض بصورة صريحة المقابل لذلك، ويوضح مؤدى هذا الترك عليهم، لقد انشغلوا بغيره من الباطل! فلا يترك أحد الحق إعراضا ورغبة عنه وتفلتا مما يحمل المرء عليه إلا كان له بديل من الباطل يستقي منه ويخوض فيه:

﴿وَلَمَّا جَاۤءَهُمۡ رَسُولࣱ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَهُمۡ نَبَذَ فَرِیقࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ كَأَنَّهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ. وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتۡلُوا۟ ٱلشَّیَـٰطِینُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَیۡمَـٰنَۖ… ﴾[البقرة : ١٠١، ١٠٢]

القرآن أساسًا وطريقًا لبناء الذات

ولقد فهم الجيل الأول هذه المعادلة جيدا، فامتثلوها أحسن امتثال، فلم يخلطوا مع القرآن غيره في بنائهم الذاتي، حتى إذا ما استوى العود وشب قويا وكان له غذائه الدائم، ربما نظر هنا أو هناك ترويحا بلا تعلُّق أو وجد دائم يسمح باختراق الأساس المتين.

 ولو تصفحنا أوراق تاريخنا وتتبعنا ما جاء بعد جيل البناء من انحرافات هنا وهناك، وما تداخل من ثقافات أنتجت فرقا ومذاهب عقدية شتي أوغلت في البعد عن الأصل، لوجدنا أنها اغتذت في الأصل غذاء مختلطا، وأن بعضها ما اكتفى وما تضلع بالكلام الأعلى الذي يمد النفس بحاجاتها صغرت أو كبرت، فكان ما كان من بحث مضن لا تظفر منه النفس ولا الآخرين بشيء.

ستبقى للنفوس رغباتها في اللهو قليلا أو كثيرا، لكنها إن رُوضت على ألا تلهو قبل أن تأخذ حظها من ماء الحياة ومن طيبات المعاني وجميل اللفظ والكلام، وألا يكون ما تتروح به مما يسقط النفس ويودى بها، فسيبقى أثر اللهو محدودا تغسله مرة بعد مرة تلك الغدوات التي لا تنقطع إلا بانقطاع الوريد، فهنيئا لمن رام خير النفس فروّضها لما فيه فلاحها وطمأنينتها الحقة.

التأصيل المعرفي لمصادر الشريعة الإسلامية

تعتمد مصادر التشريع الإسلامي في الأصل على مصداقية القرآن والسنة وتحكيمهما في كل تفاصيل الأحكام الدينية وترد إليها التعاملات الدنيوية، إلا أن المراد بيانه دور العقل المهم في هذه العملية، حيث يبرهن على مصداقية النقل وصحة ثبوته ثم مطابقة دلالته لمناط الاستدلال المستخرج منه.

الاستهداء بالقرآن

أما العقل فله في الاستدلال طريقان: الاستدلال المباشر وغير المباشر، وينقسم الاستدلال المباشر إلى ثلاثة طرق، الاستدلال بالقياس والتمثيل والاستقراء، كما أن الاستدلال غير المباشر له ثلاثة طرق أيضًا، حيث الاستدلال بـالنقيض وعكس النقيض والعكس المستوي.

إن المسلم يعتنق الإسلام لاقتناعه بصحته عقلًا إذ لابد من مقدمة تسبق النتيجة –أي صحة الإسلام- حتى لا تكون النتيجة مجرد دعوى لا برهان عليها.

وطبعا فإنه من غير المعقول أن يكون البرهان على صحة الإسلام هو الجانب النقلي منه إذ أن ذلك يُعدّ استدلالًا بالدّور فيكون النقل استدلاًلا على صحة نفسه فلزم أن يكون النقل مقدمة ونتيجة في آن واحد وذلك ممتنع لعلة التناقض.

وبما أن العقل هو الذي يبرهن على صحة الإسلام فإنه يكون من حيث ترتيب المقدمات والنتائج سابقًا للنقل، ولكن بما أن العقل حكم على المنقول الإسلامي بالصحة بعد النظر إلى الحجج العقلية الواردة في هذا المنقول فإن هذا الخبر الذي حُكِمَ عليه بالصّدق المطلق يصبح حُجّة على العقل الذي حكم عليه بذلك.

وعندها لا يمكن للعقل أن يطعن في صحة أي جزئية فيه كأن يقول: (أخطأ الله في هذا الموضع) لأنه بذلك يناقض حكمه الأول إذ أن الجزئية السالبة تنقض الكلّية الموجبة، ولذلك صار لزاما على العقل الإيمان بكل ما قاله الله عز وجل.

السنة النبوية وضرورة الاعتراف

من جملة ما أنزل الله في قرآنه قوله: {فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا} [النساء: 59]

وبعد أن جعَل العقلُ القرآنَ حكمًا عليه ومصدرا أولا في التشريع صار لزاما عليه أن يُدخل في مصادر التشريع ما أُمِر به في القرآن، وهو ردّ النزاع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا مما يعني إدخال سنّته في مصادر التشريع، وبذلك تكون أهم مصادره هي “القرآن والسنة”.

إلا أننا نتساءل .. ما هي السنة؟

السنة هي كل ما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو وصفٍ أو تقرير، وقد حكم العقل على صحة ثبوت القرآن عن الله عز وجل من البداية، فبقي أن يعرف العقل طريقةً للوصول إلى السنة الصحيحة حتى يميز بينها وبين الضعيفة أو المكذوبة.

هنا توصّل العقل إلى شروطٍ لصحة الحديث من حيث الثبوت ثلاثة منها تدرُس الأسانيد وهي:

“اتصال السند، وعدالة الراوي: أي ترجيح صدقه ونزاهته وعدم كذبه، وضبطُه والضبط نوعان ضبطُ حفظٍ وضبطُ كتابةٍ وذلك لضمان عدم خطئه ولو بحسن قصد” واثنان منها تدرسُ المتون وهي “الخلو من الشذوذ أو العلل” وهذه الشروط كلها عقليّةٌ محضة إذ لا يوجد في القرآن ولا السنة اشتراطها لصحة المنقول كما لم يكن ممكنا أن تكون السنة حكما على ثبوت القواعد والقواعد حكما على ثبوت السنة في آن واحد فهذا دور سبقي ممتنع كما سبق بيانه.

وبناءً على ما سبق نعلم جيدا أن قواعد علم الحديث التي بها نميز بين الصحيح والضعيف والمكذوب قواعد عقلية، وليس الأمر مقتصرا على ذلك فحسب وإنما شرطان منهما يناقشان المتن مباشرة، أما شرط الشذوذ فعند مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ويمكن الاعتماد على السند فيه.

أما العلل فجلّها علل عقلية تمسّ المتن نفسه فيُحكم عليه بالنكارة إن كان ظنيا مخالفا للعقل للقطعي.

والعقل القطعي لا يحكم على القضية بالاستحالة إلا إن كانت مركبة من قضيتين متناقضتين قد توفرت فيهما وحدات التناقض الثمانية (الاتحاد في: الموضوع والمحمول والكل والجزء والمكان والزمان والقوة والفعل والشرط والإضافة، أو كان مناقضا لقضية واجبة الصحة، وليس كل حديث يستعصي فهمه على القارئ يرميه بحجة مخالفة العقل، فيجب التفريق بين العقل الذي يعمل وِفقَ قواعد وأصول متسلسلة في مقدماتها ونتائجها وبين العقل المعتمد على الهوى المحض، فقال الله {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71].

سبيل للإيضاح

نضرب هنا الآتي مثلاً، فإنه لا يقال: هذا الحديث ضعيف لأني لم أقتنع بالقصة التي وردت فيه.

وإنما على المعترض أن يبيّن وجه الاستحالة في القصة، فليست كل قصة مخالفة لما تعوّد الناس عليه تكون مستحيلة بالضرورة إذ أن باب الممكنات العقلية أوسع من باب المشاهدات الحسيّة، وليس عدم العلم بالشيء يعني العلم بعدمه.

فهناك من أنكر قصة الإسراء والمعراج لمجرد أنها تبدو غير مألوفة لديه ولم يتعود البشر على مشاهدة مثلها، ولكن لو عرضناها على العقل لوجدناها ممكنة لذاتها إذ إنها غير مركبة من نقيضين ولا هي مناقضة لقضية واجبة الصحة، بل هي مؤيدة لذلك إذ أن العقل أثبت وجود الخالق التام الذي يقدر على كل شيء وبما أنها من الممكنات لذاته فما المانع من أن يرجح الله وجودها على عدمه إن هو أراد ذلك؟ فيكون العقل هنا حجة على من ينكر الحادثة لأن المنكر يتهم الله من غير أن يشعر بالعجز عن نقل نبيه إليه وإعادته لمكانه في ليلة واحدة.

فهنا لا يصح أن يوصف المتن بأنه مخالف للعقل أصلا، ومن ثم إذا أردنا فهم دلالات النص وجدنا أنفسنا بحاجة إلى قواعدَ وأصولٍ توصل العقل إليها لغرض فهم المنقول ومعرفة دلالته، وهذا العلم يُصطلح عليه باسم “أصول الفقه”.

معظم قواعد هذا العلم عقلية ولغوية ومنها ما استُقرئ من مجموع النصوص النقلية بعد استعمال العقل آلةً لفهمها، لذلك اختلفت العقول في بعض قواعده فتأسست مذاهب فقهية كلٌّ منهم يريد الوصول إلى مراد الله ورسوله فمن اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد.

من مظاهر العبودية في حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام

لم يعتمد القرآن الكريم أسلوبًا واحدًا لإيصال رسالته إلى الناس، بل تعدّدت أساليبه وتنوعت، فهو حينًا يعتمد أسلوب الحوار، وحينًا آخر يعتمد أسلوب ضرب المثل، وتارة يعتمد أسلوب التربية النفسية والتوجيه الخلقي، إلى غير ذلك من الأساليب التي لا تخفى على من تأمل وتدبر كتاب الله العزيز.

لقد كان أسلوب القصة من الأساليب التي اعتنى القرآن الكريم بها عناية خاصة؛ لما فيها من عنصر التشويق، وجوانب الاتعاظ والاعتبار. وقد ألمح القرآن إلى هذا في أكثر من آية من ذلك قوله تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف:176]، إلى غير ذلك من الآيات التي تبين اعتماد القرآن أسلوب القصص، تحقيقاً لمقاصد وأغراض عديدة.

العيش تسليمًا لله

لقد كانت قصةُ نبي الله إبراهيم عليه السّلام أطول القصص القرآنية بعد قصة نبيه موسى عليه السّلام، وقد نزلت آياتها مبكرًا في المرحلة المكيّة واستمر نزولها حتى أواخر المرحلة المدنيّة، وهذا يعني أن قصة إبراهيم التي أخذت هذه المساحة الكبيرة في القرآن الكريم لها، وأخذت هذه المدة في نزول الوحي، وسميت سورة في القرآن باسمه هي سورة إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، كلّ ذلك يؤكد أن لها دورًا كبيرًا في تحقيق أهداف القرآن الكريم ومقاصده.

قف عند قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] –على سبيل المثال- متأمِّلاً- وتخيل أحدًا ما يأخذ طفله الرضيع وزوجته ليتركهما وحدهما في صحراء جرداء قاحلة، لا ماء فيها ولا زرع، ولا بشر يستأنس بهم، ولا وجود لشيء يعد مقومًا من مقومات الحياة بين أيديهم، ثم يغادرهم ويذهب دون شرح أو توضيح.

هذا ما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام، حيث ذهب بزوجته هاجر ورضيعها إسماعيل إلى صحراء مكة في الموضع الذي تفجرت فيه زمزم، فقد تركهما وحيدين دون راعٍ أو مؤنس، امتثالًا لأمر ربه تعالى، في صورة من صور التسليم المطلق، ثم مضى في طريقه تاركًا لهم قليلًا من الماء والزاد، فتسأله هاجر ثلاثًا: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس؟! فلم يلتفت إليها. فقالت هاجر: آلله أمرك بهذا؟ فيرد عليها عليه السلام: نعم. فتقول المؤمنة بربها في غير تردد ولا قلق: إذن لا يضيعنا. [أخرجه البخاري في صحيحه].

انصرف نبي الله إبراهيم عليه السلام وهو يدعو ويقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة إبراهيم:37-38].

هكذا فقط: آلله أمرك بهذا؟ فيرد: نعم. إذًا لا حاجة لنقاش أو تبرير. الله أمرك بهذا، فلا إجابة سوى السمع والطاعة. إبراهيم ينفذ ما أمره به ربه دون تردد، وزوجه معه لم تناقشه حتى في فعله. مهما بلغت المشقة، والحيرة من خفاء الحكمة في الأمر، ولكن التجرّد من حول المرء إلى حول الله وقوته أكبر وأمكن، ويقينهم في الله أعلى وأعظم.

الإقرار بالفداء

في موقف آخر يظهر عظمة التسليم نرى إبراهيم عليه السلام يبثّ لولده أمر الله بتقديمه قربانًا، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }، [الصافات: 102].

لقد قال له ولده: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه أمّي فتحزن، وأَسْرِعْ مرّ السكين على حَلْقي؛ ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت سارَة فاقرأ عليها مني السلام; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه، حتى استنقع الدموع تحت خدّه، ثم إنه جرّ السكين على حلقه، فلم تَحِكِ السكين، وكأنّ ضرب الله صفيحة من النحاس عليها، هنا نودي يا إبراهيم (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) بالحق فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخَلَّى عن ابنه، فأكبّ على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بُنَيّ وُهِبْتَ لي; فلذلك يقول الله: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [تفسير الطبري بتصرف].

إن إبراهيم هنا -بعد الاختبار الأول- يختبره اختبارًا ثانيًا ليكون في مآله خيرٌ للبشرية وإبطالٌ لعادة التقرّب بدماء البشر، ومرة أخرى يحقق إبراهيم العبودية الكاملة لله تعالى ومعه ابنه، فيمتثلان للأمر دون اعتراض أو مناقشة. (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أسلما أمرهما لله واتفقا على التفويض إليه، وبالفعل لما باشر إبراهيم الذبح، ناداه ربه: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا). وتلك قصة الفداء المعروفة.

ذلكم مثالين من أمثلة كثيرة في قصة إبراهيم عليه السلام، وهي وحدها غنية بالأمثلة، وقد وردت في عدة سور كالبقرة وآل عمران والأنعام وهود وإبراهيم والحجر والنحل ومريم والأنبياء والحج والشعراء والعنكبوت والصافات والزخرف والذاريات والنجم. وفي أكثر هذا المواضع أمثلة على ما ذكرنا. ولما رأينا من هذه الأمثلة فإن العبودية لله تكون بالانقياد والطاعة التامة لأوامره سبحانه، وما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام دون اعتراض أو مناقشة، حتى لو خفيت الحكمة من وراء الأمر، فسلم لله تسلم.

أن يترسّخ الإيمان في القلوب!

يقول الصحابي الجليل جندب بن عبد الله رضي الله عنه: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن)، وذلك في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا). [صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه] -ومعنى حزاورة: جمع الحزور، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم- أي أنهم كانوا يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوة والمشاهدة والإرشاد والتطبيق العملي أصول دينهم وعقائده، فيأخذون منه الأصول التي ينبني عليها بعد ذلك، وينقادون لأمره صلى الله عليه وسلم انقيادا تاما وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ثم يحفظون ما تيسر من آيات القرآن الكريم  ما يقوى ويزداد به إيمانهم.

وبالتأكيد فإنه ليس المقصد هنا التقليل من أهمية حفظ القرآن الكريم وتعلمه، وإنما التنبيه إلى ضرورة وجود خطوة مهمة تسبقه، وهي ترسيخ الإيمان واليقين بالله في القلب، فذلك جوهر العقيدة، ومن هنا تنبعث العبودية الكاملة لله تعالى والانقياد المطلق لأوامره فكرًا وممارسةً، وتعلّم ذلك أدعى إلى التمسك بما يجيء في كتابه سبحانه وتعالى وعدم رفضه أو النأي عنه، أو الصد عن ما قد يشكل على أفهامنا منه، ولنا في تطبيق العبودية لله خير مثل، أزكى الناس وأعلاهم منزلة، الأنبياء المختارون من قبل الله عز وجل، ففي سِيَرهم جميعًا كل الهدي للعبودية الصحيحة الكاملة كما يريد الله تعالى منا، والمطالع لسيرهم لن يعدم أن يتنبه للأمثلة والعبر، حيث يقول الله تعالى: {لقدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ]سورة يوسف: 111] وهذا ما تظهره لنا حقيقةً مواقف نبي الله إبراهيم –التي عرضناها-، فاللهم انفعنا بذلك يا أكرم الأكرمين.

ويهدي الله من يشاء!

أشعرت نفسك ذات يوم غارقًا فيما يشبه الأجواء الصاخبة، ضائعًا في ظلمة حالكة السواد، تقف على طرق متفرقة، تحاول مرة تلو مرة العبور، فتفشل، ويذهب استنفار الطاقة هباءً، تعاني الأرق المستمر، وتشعر بأن شيئًا ما يكاد يقضّ عليك! إنها خصال ضلالة الطريق، حين تختار انجرافًا مع الهوى، واتباع الهوى من معوّقات الهدى، وهذا ما أفادنا به قول النبي صلى الله عليه وسلم (فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوًى متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه) [أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط وهو حسنٌ بشواهد أخرى].

لقد ساق الله لنا الهدى -التي هي الرسالة-، بالبيان البليغ عبر الرسل والأنبياء، طالبًا منا التسليم والانقياد، فمن أخذ بالتسليم لله أضفِيَ عليه صفة المتقين، كما في قوله تعالى: {ذٰلك الكتاب لا ريب ۛ فيه ۛ هدًى للمتقين} [البقرة: 2]، وهناك من أعرض عن دليل الهدى فأخلد إلى الهلاك؛ كما قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124].

إن الهداية التي تتحدث عنها هذه الآيات تشير إلى أنها سببٌ وشرطٌ مؤدٍّ لا موجبٌ للهداية الكاملة، بل قد ينتفي الهدى مع وجودها، فالله تبارك وتعالى أرسل الأنبياء هدىً للناس ولإرشاد الأمم السابقة إلى طريق الحق، أي أنهم كانوا أسبابًا للوصول إلى الهدى، لكنهم استحبوا الضلالة عليها.

إن وجود الدليل الإرشادي (القرآن) لا يعني بالضرورة وجود الاهتداء أو العمل بهذا الدليل، مما يؤكد على أنه هناك موانع أو استعدادات قلبية نفسية ذهنية يمكن أن تسهم في طبيعة التفاعل مع دليل الهدى، ولذلك تجد في دعوة الرسل؛ ما ذكره الله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون} [فصلت: 17]، أي أنهم فضّلوا اختيار الضلال والعناد عليه، وبالتالي فإن هناك عوامل لها الأثر الذي يقتضي رفض الرشاد.

ما سبب عدم اتعاظ البعض بالقرآن؟

يعود الأمر -بدايةً- إلى النفس البشرية؛ إذ لها الدور في اتعاظ البعض وعدم اتعاظ آخرين، صحيحٌ أن الإنسان يُخلَقُ سويَّ الفطرة لكن لا شيء يدوم على ما هو عليه دون المتابعة اليومية أو العناية المستمرة، حيث إن النفس تتأثر بالعوامل من حولها سريعًا، سواء كانت عوامل إيجابية أو سلبية.

والنفس البشرية تصل إلى مرحلة من الضلال بحيث لا يأتي لخاطرها الإنابة والتوبة، وذلك مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أذنب العبد نُكِتَ في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل منها، فإن عاد عادت حتى تعظم في قلبه، فذلك الران الذي قال الله:  {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14])، فإذا خُتِم على قلب العبد انتهى أمره، ومن ثمّ لا تستغرب إن صادفتَ أشخاصًا لا يعنيهم الدين من الأساس بل ينفرون منه نفورًا شديدًا.

إن القرآن لم يختص بأحد دون آخر، ولم ينزل على مؤمن دون كافر، بل أنزِل للناس كافَّةً، وهناك من اختار أن يكون من منزلة {أولئك على هدًى من ربهم} وهم الذين خصهم الله بالمنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة، وهناك من اختار منزلة {إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] وهؤلاء كفروا بالدليل الإرشادي وكان مصيرهم الضلال في الدنيا، وأعدت لهم جهنم في الآخرة.

إن الله سبحانه وتعالى جعل أمامنا طريقان بيّنان، الهداية أو الضلالة، ولكن السبب يعود إلى مباشرة العبد في الحكم علة نفسه، فالضال إنما هو ثمرة ضلاله وما ترتب على ذلك من الطبع والختم والران، والمتّقي إنما وصل لذلك بإرادته الحرة وسلوكه السبل التي تعين على الطاعة.

الزم طريق الهدى

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: “الزم طريق الهدى، ولا يضرّك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين” [الصواعق المرسلة، ابن القيم] فإن أصابك الضمور، والإحباط في تفردك، فلا تجعل نظرك إلا إلى السابقين من الأتقياء، واحرص على اللحاق بهم، وغضّ الطرف عمن سواهم من أهل الضلالة، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا، ولا تفكّر في الالتفات إليهم، فإنك متى التفت إليهم سقطت في فخ الانقياد لهم.

قال تعالى: {أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى أمن يمشي سويًّا على صراط مستقيم} [الملك: 22] فأيهما أولى بأن يتبّع؟ من يمشي في الضلالة، أم من يمشي مهتديًا؟ لا بد أن التائه في الضلال، الغارق في الكفر والمعاصي، يعيش وقد طمس على قلبه، لا يعرف للحق قرارًا، أما من يمشي على الصراط المستقيم فقد تخلل قلبه الإيمان والعمل بالحق.

تروي لنا السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يدعو: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، قلت: (يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب} [آل عمران: 8]) [أخرجه الإمام أحمد في المُسند والترمذي في السنن بسند حسن]

من الطبيعي أن يبقى الإنسان في دوامة التقلب، فهو بشر يعافس الأخطاء والخطّائين بشكل مستمر، لكن أكثر ما يعينه على الثبات على الصراط المستقيم هو العزم على اجتناب المحرمات واتباع الهوى، وأن يبادر في فعل الخيرات، وأن يبادر لتنمية معرفته أكثر بخالقه والعظمة التي يتصف بها، ويتعلم كل علم يقربه من الله، كما قال تعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} [الزمر: 9].

إن طريق الوصول إلى الله يسير وسهل، لكنه يحتاج منك إلى الإرادة والمثابرة، والعزم على الثبات، وعدم التهاون، ومتى أردت المقابل لا تتهاون في أن تعمل أضعاف مضاعفة لأخذ ما تستحق.

القدوة والقرآن .. وأثرهما في نهضة المجتمع

اتصف المجتمع العربي قبل الإسلام بالجمود والبعد عن التقدم الحضاري المحيط به، ولم يسعَ أفراده للتغيير وتطويره، فأصبح مُجتمعًا بعيدًا عن روح الحضارة، لا يمتلك هدفًا واضحًا لوجوده، إلا أن النقلة العملية والروحية والفكرية لهذا المجتمع كانت عن طريق رسالة الإسلام التي أنتجت ميلادًا جديدًا له، فعلَّمَ العالم المعنى الحقيقي للحضارة، وأنار العقل الإنساني بمفاهيم ومبادئ جديدة أخرجته من ظلمات الجهل والظلم.

لنا أن نتساءل هنا: لماذا حقق المسلمون الأوائل هذه النقلة الناجحة داخل مُجتمعهم بينما يعايش المسلمون منذ قرون عدة التقهقر والتراجع الحضاري بالرغم من أننا نملك -مثل السابقين- الرسالة ذاتها ومفرداتها من القرآن والسنة النبوية، فما سر هذا التغيير الذي جرى على أيديهم ونرجو أن نراه واقعًا في حياتنا نُعايشه ونكون جزءًا منه؟!

حين يُشعِل الإيمان الشرارة!

إن طبيعة رسالة الإسلام هي التي تُقدم لنا الإجابة الواضحة عن هذا التساؤل، ومبدأ الرسالة الإسلاميّة هو الإيمان الذي يحيي الضمير الإنساني ويقذف فيه البصيرة لمعرفة الحق واتباعه والالتزام به، وقد كان هذا دور رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، حيث نجح في إزالة غشاوة الجاهلية عن ضمائر العرب الذين آمنوا به وحرر نفوسهم من النزعات الضالة التي سيطرت عليهم، وعندما سرى نور الإيمان في كيانهم تغيّرت نظرتهم للحياة، وأصبحوا يعون دورهم والأمانة التي كلفوا بها لتحقيق الاستخلاف الإلهي في الأرض وحمل الرسالة للناس جميعًا، وهذا هو سر النقلة التي حدثت في حياة العرب ما بعد الإسلام.

حينما يفقد الإنسان يقظة الضمير والقوى النفسية التي تجعله يرتقي بنفسه وبمجتمعه، فإنه سيلجأ لإرضاء الباطل، وسيتقبله نظامًا لحياته وتتغلب عليه شهواته، وبذلك يرى نفسه ضعيفًا أمام مختلف تحديات الحياة، وبالتالي لن يقدر على حمل أعباء الرسالة، ولن يقدر من تغيير سلوكياته أو يكون مؤهّلًا لتغيير واقعه والنهوض به، ولنصل لهذه اليقظة في ضمائرنا فإن علينا تفعيل أدوات بناء المجتمع والنهوض الجديد.

القدوة الصالحة وغرسُ القيم في النفوس

عاش رسول الله صلى الله عليه سلم بالقرآن ومن أجل تحقيق مبادئه في واقع الحياة، وقد كان صلى الله عليه وسلم قدوة للصحابة في كل شيء، فكانت أخلاقه القرآن، يمشي بين الناس يلتزم بأحكامه ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه مُلتزمًا بتعاليمه، ثابتًا على الحق راسخًا به، ولا أدلّ على ذلك شيء أكثر مما قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما حاولت قريش مُداهنته وإيقافه عن دعوته والضغط عليه عن طريق طلب ذلك من عمه الذي يَكفله: (يَا عَم ، وَاَللهِ لَوْ وَضَعُوا الشمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتى يُظْهِرَهُ اللهُ ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ ، مَا تَرَكْتُهُ) [السيرة النبوية (ابن هشام)، (ج1/  266). ] إنها قوة الثبات على الحق والتضحية من أجله مهما حاولت الأطراف الأخرى تهوينه عن طريق تهديد أصحابه الداعين له ومُحاولة قمعهم وإغرائهم وتشويههم والكيد لهم ومُداهنتهم.

لقد كان صلى الله عليه وسلم وما زال وسيبقى إلى نهاية الحياة النموذج الذي يُقتدى به في فهم القرآن ومُختلف شؤون الحياة، وهذا عين ما نحتاجه اليوم في مُجتمعاتنا، أي أن يكون الدعاة والعلماء والمُصلحون عاملين ومُجتهدين قُدوة حقيقية للمجتمع المسلم، فيؤثرون في حياة الناس ويُظهرون لهم أخلاق الإسلام ومبادئه في سلوكياتهم وأقوالهم وقراراتهم، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولا يُداهنون الظالمين والمُستبدين والمُفسدين من حكام ومسؤولين في مُختلف المجالات، بل يكون هدفهم نصرة الحق والالتزام به ودعوة الناس له وتبيينه لهم مع مُعادات الفساد والباطل ومُقاومته.

من الواضح أن من أشدّ ما نعانيه في زماننا هذا هو غياب القدوة الحقّة من ناحية، وارتكاس كثير ممن تصدر للدعوة والتعليم الشرعي من ناحية أخرى، بل ربما يحق لنا القول: إن ما نعيشه اليوم هو فرع عن أزمة القُدوة، حيث أصبح عامة المُسلمين لا يثقون في مُفكريهم وعلمائهم ودُعاتهم، بل كيف يكون ذلك وأغلبهم يقف مع مصالح الطغاة، يفتون بما يوافق أهواءهم ويُنسي الناس جرائمهم، ويسكتون عن ظُلمهم وغيهم ويُحلون ما حرم الله ويُحرمون ما أحله الله، حتى أصبحنا نرى منهم من يُبارك للتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين المسلمة، ويراه تحقيقًا للمصالح الاقتصادية وسبيلاً إلى السلام والتسامح الذي يأمر به الإسلام!!

ومن هنا ابتعد عامة المُسلمين عنهم، لا يسمعون لهم ولا يتبعون أوامرهم ولا يثقون فيهم، حتى أصبح الفرد منا يشعر بأن الدين أصبح تجارة دنيوية يتخذها البعض من أجل الشهرة وكسب المال زنيل الترف وتحقيق المصالح الدنيوية، ومع غياب الإخلاص والصدق في العمل وإصلاح مُجتمعاتنا، ترك ذلك كله أثرًا سلبيّا في حياة الأفراد الذين فقدوا الأمل في التغيير واستسلموا لواقعهم ورضوا به ولم يجدوا من يُوقظ ضمائرهم من جديد ويُعيد إشعال نور الإيمان المُنطفئ داخلهم.

إننا نحتاج اليوم إلى أفراد يأخذون بزمام المُبادرة ويقتحمون مُعترك الحياة وهم واثقون بدينهم ومُلتزمين به ويُقدمون الحلول البديلة لمشاكل مُجتمعاتهم على أن يكونوا هم البادئين بالعمل وبالالتزام بما يقترحونه من أفكار وبدائل وأن يكون هدفهم إيقاظ الهمم وإحياء الضمائر وإزالة غبار الجهل والجمود والتخلف عن نفوس باقي أفراد المُجتمع وليُحافظوا في ذلك على صدقهم وإخلاصهم لربهم ولدينهم، وإذا لم تنهض فئة منا من أجل إحداث تجديد داخل المُجتمع بالعودة لنبع الإسلام الصافي وإيجاد القدوة الصالحة فسنبقى في سُباتنا ونومنا ولن يتغير واقعنا.

من هو القدوة؟

من مشاكلنا اليوم أننا نعيش انفصالاً بين ما نؤمن به من مبادئ وقيم وبين ممارساتنا اليومية، فتجد الواحد منا ملتزمًا بصلاته داخل المسجد مُحافظًا على أوراده من الأذكار والقرآن وقد تراه خاشعًا لربه ولكن ما إن يغادر المسجد حتى يبدأ بأذية الناس بكلامه وبأفعاله، ويُبيح لنفسه المال الحرام، ويمتنع عن بذل المال في أوجه الخير رغم قدرته على ذلك، فمثل هؤلاء الأشخاص سيتركون أثرًا سلبيا داخل المجتمع، ويجعلون الآخرين يظنون أن المشكل في الإسلام لا في المسلمين الذين لا يطبقونه، فلا بد لنا من العمل على تصحيح أعمالنا وأن نُقيم حياتنا كما يُحبها الله أن تكون عن طريق مراجعة النفس وتزكيتها وتربيتها على الالتزام بدينها أينما كانت.

ليس بالضرورة أن تكون القدوة المُؤثرة من العلماء والدعاة بل يُمكن أن يُمثلها كل فرد مؤمن صادق يجعل نفسه قدوة لغيره ولمن حوله من أهله ومن أصدقائه ومن يتعامل معه عن طريق إظهار أخلاق الإسلام في حياته اليومية، فيكون صادقًا في كلامه، مُخلصًا في عمله، مُوفيًا بوعوده، مُلتزمًا بآداب دينه، فلا يسرق ولا يغش، ولا يخدع ولا يخون أحدًا، وبالتالي يستطيع كل واحد منا أن يُصبح مُؤثرًا في بيئته التي يعيش فيها كل حسب قُدرته واجتهاده.

إن السياسي الصادق والمُتمسك بدينه والمخلص له مع حرصه المُتواصل في تحقيق مصالح مُجتمعه ومُحاربة الفساد داخله سيكون قدوة لغيره من الساسة ومن أبناء مُجتمعه، وكذلك المُوظف النزيه المُجتهد والمُتقن لعمله الرافض لكل مظاهر الفساد في مؤسسته سيكون قدوة لزُملائه في العمل، والمُعلم الذي يبذل أقصى جهده والمُستشعر لقيمة الأمانة في تربية الناشئة وصقل مواهبهم وتطوير معارفهم العلمية سيكون قُدوة لمن حوله ولتلاميذه، والأب والأم المتمسكين بتطبيق تعاليم دينهم والباذلين لأقصى جهدهم في تعلم فنون التربية من أجل إنشاء جيل صالح سيكونون قُدوة لأبنائهم ولمن حولهم من الآباء والأمهات، وهكذا، فكل مسؤول أو راعٍ يجب أن يكون قدوة لمن يليه من الناس.

دور القرآن الكريم في حياتنا

بالقرآن نهتدي ونبدأ بناء طريقنا في النهضة، هذا ما يمكن البدء به في التعرّف لدور القرآن في حياتنا، إذ إننا لا يُمكن لنا إيجاد القدوات وبناء الإنسان المُصلح والمُؤثر داخل مُجتمعاتنا إلا عن طريق العامل الذي ينشئه والمُتمثل في القرآن الكريم، ومن ثمّ فإنه بجب علينا الانشغال به وفهم آياته وتدبرها والعمل بها، وهنا يظهر سر التغيير الذي أحدثه القرآن في المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين، فقد تأثروا به وغيّروا به من أنفسهم ونهضوا به وغيروا مجرى التاريخ به وبنوا حضارتهم به، فلماذا لم ننجح نحن مع أن القرآن هو هو ذاته، محفوظ من التحريف والتبديل؟

السر هنا يكمن في كيفية التعامل مع كتاب ربنا، ومن ثم فإن علينا أن نتعرف إلى حقيقة علاقتنا بالقرآن، لنرى إن كنا نُعطي أولوية له في أوقاتنا وساعات يومنا، فنخصص له وقتًا يوميا لمراجعته وتدبر آياته وفهمها؟ وهل نَحْتَكم إلى قوانينه ومبادئه وقيمه في تعاملاتنا اليومية؟

إن الإجابة واضحة للغاية، فقد أهملنا فقه العمل بكتاب الله، وضعفت علاقتنا به، فكانت النتيجة عموم الفوضى وتصاعد التخلف والضياع، وقد ذكرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بضرورة التمسك بالكتاب والعمل به وجعله منهاج حياتنا حتى نُحافظ على كيان مُجتمعاتنا وبقائها في الريادة، فَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِي قَالَ : (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ فَقَالَ : أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلا اللهُ وَأَني رَسُولُ اللهِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِن هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسكُوا بِهِ ، فَإِنكُمْ لَنْ تَضِلوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا) [صحيح ابن حبان]

إن أول ما نحتاجه في منهج التعامل مع القرآن أن نستشعر به كأنه نزل علينا لتوّه، فهو كلام الله الموجه لنا، وأن نوقن بأن رب العالمين يُخاطبنا به ويُوجهنا به في مُعترك الحياة ويرسم لنا من خلاله طريق النجاح والتفوق، فيجب علينا إذًا أن نقبل على آياته آية آية مُحاولين تدبرها وفهم المُراد منها ومُجاهدة النفس بالإلتزام بتعاليمه ومُحاولة تربيتها على قيمه.

بالقرآن يُمكننا اكتشاف بواطن نفوسنا عن طريق عرضها على آياته وإصلاح عيوبها والانشغال بتزكيتها وتطهيرها من مختلف أسقام التخلف والكسل والجمود التي أصابتنا، وبالقرآن نتعرف على دورنا في الحياة وما علينا فعله من أجل تحقيق الخلافة في الأرض وإقامة العدل والمساواة فيها، وبالقرآن نتعرف على طبيعة علاقاتنا بمن حولنا وكيفية التعامل معهم من مسلمين وغير مسلمين ومن مُسالمين ومن مُحاربين لنا، وبالقرآن نتعرف عل ربنا ونتعلم مبدأ الطاعة المطلقة له وكيفية إقامة حياتنا كما يُحبها سُبحانه وتعالى أن تكون، وبالقرآن نتعرف على حقوقنا وواجباتنا في الحياة وكيفية الموازنة بينها ونتعرف أيضًا على حرياتنا وحدودها، فالقرآن منهج حياة كامل تنهض به الأمة جميعها إذا أقبلت عليه بصدق وأخلصت لربها في تعاملها معه.

إن الواجب علينا هو البدء بتدبر القرآن وألّا نُبرر سوء علاقتنا به بسبب قلة زادنا العلمي، فلنا الاستعانة بكتب التفسير المُتاحة للجميع، وأن نبحث في صفحاتها لفهم آيات كتاب ربنا وتعلّمها، ومن ثم يُصبح كل واحد فينا –رويدًا رويدًا- على علم ودراية بكلام الله وآياته، وبذلك تتطبّع النفس على فهمه والالتزام بقيمه، ومن ثم سنرى أثر التغيير في حياتنا اليومية، فالقرآن الكريم ليس لغزًا.. وما علينا إلا أن نقبل عليه وننهل من علومه وحِكمه ونستجيب لمبادئه.

 

 

حديث خالَف القرآن ظاهرُه، هيا لنردّه!

ليس من الغريب أن تنتشر في زمن السوشيال ميديا مقولات ردّ الأحاديث التي يخالف ظاهرها القرآن، وبالرغم من أن عرض المرويات الحديثيّة على كتاب الله الكريم للفحص والتمحيص له جذورٌ قديمةٌ نسبيًّا إلا أن أسباب جدّته وانبعاثه في هذا الزمن مرة أخرى لا يعود لأهل التخصّص، بل هو مما تعالت به أصوات الحداثيين وجمهرة المناهضين لمنهج المحدّثين، فصار ردّ الحديثِ المخالف لظاهر القرآن عمومًا منهجًا من مناهج الحكم على الحديث صحة وضعفًا متّبعًا لدى طيف واسعٍ من المفكرين المعاصرين، ووصل بانتشار تأثير السوشيال الميديا إلى أعداد كبيرة من الشباب الذين وقعوا في هذه القضية بلا وعي سديد أو استدلال قويم.

إنه زمن السرعة، هذا ما يوصف به عصرنا، طبعًا إلى جانب صفات أخرى كسرعة الوصول إلى المعلومة بضغطة زر، وإمكان تداول الآراء ونشرها، وكسب التعليقات وفتح النقاشات للجميع، ومن ثمّ فإنه يمكن لشخص في هذا العالم الافتراضي المفتوح أن يناقش حديثًا ما أمام جماهير افتراضيّة غفيرةٍ، فيقنعها بضرورة ردّه لأن ظاهره يوهم بمخالفة القرآن.

مخالفة الحديث للقرآن، مثال نظري وتطبيقي

فكرة نقد متن من الأصول النظرية والتطبيقية المهمة في علم الحديث، ومن المؤكد أنّ فقهاء الحنفية كان لهم نظرٌ خاصٌّ في ردّ الأحاديث التي خالفت القرآن والأصول الإسلامية الكبرى، وكانت تطبيقاتهم في هذا المجال مندرجة تحت مسمى “الانقطاع المعنوي”، كما أُلِّفت كتب عديدة لمحاولة فهم الأحاديث النبوية ونقدها ضمن الصور الكلية للدين مثل كتاب: “شرح معاني الآثار” للإمام الطحاوي، إلى جانب الكتب العديدة الأخرى التي أُلِّفت لإظهار التوافق بين الحديث وبين القرآن وعدم إمكان التعارض الجوهري بينهما..

هذا كلّه مما يدل على وجود إحساس عند علماء المسلمين بأن الحديث لا يمكن أن يخالف القرآن؛ وذلك لأن القرآن وحي من الله، إلى جانب الاعتقاد بأن الحديث صادر عن الرسول عليه الصلاة والسلام الخاضع لأمر الله ومراقبته في كل ما يتعلّق بتبليغ الوحي والرسالة، فإن حدث أن يكون ثمّة حديثٌ لا يمكن التوفيق بينه وبين القرآن، فقد نصّ العلماء على أن العقل يحكم برد الحديث المروي.

لكن مهلًا من يحكم، وكيف يحكم، وما المقصود بالمخالفة هنا؟ وهل ما نراه اليوم في البرامج الدينية، أو منشورات المجتمعات الافتراضية -كالفيسبوك وما شاكله- من ادعاءات بأن حديثًا ما مخالفٌ للقرآن وبالتالي يجب رده، هو الوسيلة لتطبيق القاعدة؟

ثمّة أثرٌ مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن القيم في كتابه “المنار المنيف” يصحّ أن يكون تمثيلاً لما نحن بصدده، يقول الأثر: (الدنيا سبعة آلاف سنة ونحن في الألف السابعة).

عقّب ابن القيّم على هذا الأثر المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم بالآتي: “وَهَذَا مِنْ أَبْيَنَ الْكِذْبِ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ عَالِمًا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ لِلْقِيَامَةِ مِنْ وَقْتِنَا هذا مئتان وأحد وخمسون سنة والله تعالى يقول: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 187] وقال الله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ)”.

من المهمّ لفت الانتباه إلى أن ابن القيّم أوردَ هذه الرواية في الأحاديث الموضوعة في كتابه المشهور “المنار المنيف” ضمن الروايات التي حكم بوضعها “صريح القرآن”، علمًا أن كتابه هذا وُضِع في الأساس ليحويَ تطبيقات نظريّة وعمليّة لما اصطلِح عليه لدى علماء الحديث بـ (نقد المتن)، وهنا نلاحظ أن ابن القيّم نقد الحديث المذكور بعرض آيات كثيرة وأحاديث أخرى تخالفه معنىً وواقعًا، ورأى أنه لا وجه البتّة للتوفيق بين هذا الحديث وبين المرويات الأخرى من القرآن والأحاديث الصحيحة والواقع.

منهجيّة الردّ عند علماء الحديث

يجدر بنا الوقوف قليلًا عند هذه المسألة، فردّ الحديث ورفض العمل به خاضع لمنهجيّة دقيقة من دراسة الأسانيد والروايات والمتن، والقول بأن الحديث مخالفٌ للقرآن أمر ليس محكومٌ بالهوى، وكذلك فإن الحكم على الحديث خاضع لمنهجية أصولية وعلمية وليست ضربًا من التخمين أو إبداء الرأي الذي لا يستند إلى منهجية..

ردّ الحديثِ ليس أمرًا سهلاً شأنه كشأن منشورٍ تشاركه أو خطبة عصماء يوردها مقدّم تلفزيوني أو يوتيوبر شهير وهو يتباكى على تسرّب هذا الحديث إلى كليات الحديث الكبرى ولم يُنتَبَه إليه متناسيًا أن العلماء قاموا بتأليف كتب كثيرةٍ لغربلة ما نسبِ إلى ميراث السنّة النبوية من الأحاديث الموضوعة والمعلولة، وبالتأكيد فإنه هذا لا يعني أن العمل في هذا الحقل قد انتهى، إلا أنه في نفس الوقت لا يعني إتاحة المجال لغير المتخصصين ممن أراد أن يصدر أحكامه لمجرد أنه لأمر ما لم يفهم الصلة بينه وبين القرآن.

استفاض الإمام الشاطبي في أثره المشهور الباقي “الموافقات” في الحديث عن ارتباط السنة بالقرآن، أي أنها عائدة إلى الكتاب الإلهي، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يسنّ سننه فإن هذه السنن لها أصل في الكتاب.

إنّ الإشكالية الأساسية هي في كشف هذه الرابطة التي قد تكون خفية في بعض الأحيان، وعدم إدراك شخص ما للعلاقة بينهما لا يعني انعدامها، وهذا ما تقرره القاعدة المشهورة (عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود).

خلطٌ كثير، وأخطاء منهجية

من يحاول أن يردّ حديثًا بناء على ادعاء أن الحديث يخالف القرآن قد يقع في الخلط بين نوعين من الأحاديث، أولهما: حديث مخالف للقرآن، أما النوع الثاني: فعدم ورود موضوع الحديث في القرآن مع وجود أصل له.

لنضرب على ذلك مثالا يتقنه الجميع، حيث لا يمكن لأحد رد أحاديث مواقيت الصلاة أو الأحاديث التي تتكلم عن تفصيلات الحج بدعوى أنها مخالفة للقرآن أو غير موجودة فيه، لأن الموضوع ببساطة أن الحديث فصل الأمر المُجمَل في القرآن.

ولزيادة في التفصيل، يجب التنبّه إلى أن من يحاول رد الحديث بناء على ادعاءات المخالفة يقعون في أخطاء عدة، يمكن إيضاحها في الآتي:

  1. الخطأ في فهم وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول ليس بساعي بريد يوصل رسالة ثم يذهب، بل إنه مكلَّف بمهمة التبيين وذلك من خلال قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فالرسول عليه الصلاة والسلام مكلّف بالبيان، والبيان هنا نقل الجانب النظري إلى الجانب التطبيقي، ويؤيد هذا قول السيدة عائشة لمَن سألها عن أخلاق الرسول، (كان خُلُقه القرآن) [أخرجه أحمد في المسند].
  2. الخطأ في الخلط بين الحديث والسنة، وهذا مما يقع فيه كثير من الناس، فالحديث هو الرواية لما قاله الرسول أو فَعَلَه أو قَرَّرَه، غير أن السنة ما رسمه النبي عليه الصلاة والسلام من الهدي والتصرّف ليحتذى ويقتدى به، فالسنة تشير إلى الأمر المطلوب فعله من قِبَل المؤمنين، وبتعبير آخر فإنّ في الحديث ما لا يكون سنّة، إلا أن كل ما في السنّة من الحديث، وهذا مما يعرف بالعموم والخصوص الوجهي لدى علماء الأصول، وعليه فإن الحديث أشمل من السنة لأن الحديث مصدر من مصادر السنة، كما أن هناك مصادر أخرى للسنة كعمل الصحابة.
  3. عدم إدراك طبيعة اللغة العربية، إضافة إلى عدم فهم خصوصية الأساليب اللغوية التي يستعملها النبي عليه الصلاة والسلام، فاللغة العربية بطبيعتها تعتمد على المجاز والأساليب البلاغية التي يجب ألّا تفهَم فهمًا ظاهريًّا محضًا، وهذا الأمر موجود في كثير من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، فكما أننا لا نفهم قوله عليه الصلاة والسلام: (رفقًا بالقوارير) [أخرجه البخاري] على ظاهره من دونِ الغوص في سياقه والمجاز الذي بُنيَ عليه، فكذلك يجب ألا نفهم: قوله (خُلِقَت المرأة مِن ضِلَعٍ) [متّفق عليه] على ظاهره؛ إذ إن أخذ كلا الحديثين ظاهريًّا دون فهم السياق والمرام سيوقعنا في إشكال واضح.

يضاف إلى ما تقدّم أن دعوى رد الحديث ليست دعوى قائمة على ملاحظة ظاهرية بمعنى أنها ليست قائمة على رد الحديث بمجرد أن العقل رأى اختلافًا ما، بل لا بد من فهم الحديث والآية ضمن كلية الموضوع الذي يوضحانه ويتكلمان عنه، ومن بعد ذلك يمكن فهم الحديث والآية في ضوء الصورة الكلية التي تنتج عن الدراسة، ومن ثم يكون إصدار الحكم، وعند ذلك يُقبَل الحكم على أنه حكم اجتهادي قد يصيب المرءُ فيه أو يخطئ.

نقدُ المتن أم نقدُ السند، ما المطلوب؟

ثمة خطأ شائع بين الذين يبادرون لرد الحديث لمخالفة ظاهره القرآن، وهو أن المحدثين لم يهتموا بنقد المتن كما اهتموا بنقد السند، ولذلك ينادون بأنه لا بد من عملية نقد جديدة لنقد المتن!.

إن قائل هذه العبارة –على الأغلب- لا يدرك ذهنية النقد أو الفكر النقدي الذي اتبعه المحدثون في دراسة الأحاديث والحكم عليها، ومع اعترافنا بأن الباب ما زال مفتوحًا لنقد الأسانيد والمتون ذاتها وفق الضوابط العلمية وأصول منهج علم الحديث، إلا أن نقد السند مُنبَنٍ في جزء منه على نقد المتن، فلكي يُعرَف أن شخصًا ما ثقة وضابطٌ -وفق تعريف المحدثين- لا بد أن تكون أحاديثه صحيحة، وهذا يقتضي أولًا غربلة ما رواه وفحصه، إلى جانب متابعة ما يصدُر عنه من مقولات وتصرفات على حدٍّ سواء.

من ناحية أخرى فإن النقد الحديثي ذاته بدأ مع عصر الصحابة، ومن الطبيعي أنه لم يكن في ذلك الوقت إسناد طويلٌ، وبذلك فقد انصبّت الجهود كلّها على نقد جوهر الكلام المرويّ، وقد قدمت السيدة عائشة رضي الله عنها أمثلة عديدة على نقد المرويات التي سمعتها، وقد جمع الإمام الزركشي كتابًا لطيفًا في هذا الموضوع سمّاه “الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة”.

ختامًا، إن مبدأ ردّ الحديث المخالف للقرآن ينتسبُ لمنهج أصيل وقاعدة مهمة في فهم الدين والسنة وفق الأصول العامة والصورة الكلية للدين، إلا أنه لا بد من تحقّق شروط معيّنة ومهمة حتى نحكم بهذه المخالفة، أهمها: تحقّق مفهوم المخالفة حقيقةً، ويظهر ذلك من خلال عدم إمكانية الجمع بين الحديث المذكور وبين الآية أو بين الصورة الكلية المستنبطة من الأدلة المختلفة، إضافة إلى وجود خلل حقيقيٍّ في السندِ الراوي لذلك الحديث، وهذا كله لا يتحقق إلا وفق جهد علمي رصين مع تدقيق وحذر شديدين، إضافة إلى التأكيد على خطورة رد الأحاديث تنفيذًا لأيدولوجيات معينة، والأجدر والحال هكذا أن يترَك هذا الأمر لأهله، فأهل مكة أدرى بشعابها..!

سر فرض الصيام في شهر مدارسة القرآن

 مثل كل طفل يعيش في مجتمعات المسلمين شدَّتْني منذ الصغر بعض المظاهر الرمضانية التي لا تراها إلا في هذا الشهر المبارك لاسيما إقبال المسلمين على تلاوة القرآن، في حلقات المساجد أو في البيوت أو في المواصلات العامة، حتى الباعةُ في محلاتهم تجد البائع مع كثرة أشغاله يقتنص الدقائق الفارغة ليمسك بمصحفه ويجلس ساكنًا يتلو كتاب ربه. وكنت أتساءل مستفهمًا أو مستنكرًا لماذا فقط في رمضان؟ وكانت الإجابة الحاضرة دائمًا أن رمضان شهر ابتداء نزول القرآن لهذا من الطبيعي أن تجد هذا الاحتفال بالقرآن في شهر القرآن، زد إلى ذلك الثواب الذي ينتظره كل مسلم ومسلمة من تلاوة كل حرف في كتاب الله، أليس ذلك كافيًا أن يتسابق الناس إلى تلاوة القرآن والاستزادة منه في هذا الشهر الكريم؟!

 لكن إذا علمنا أن الله فرض الصيام على أمة الإسلام في العام الثاني من الهجرة، في حين أن نزول القرآن كان قبل ذلك بزمان طويل يقترب من أربعة عشر عامًا، فإن ذلك يؤكد لنا أن الله اختار الشهر الذي أنزل فيه القرآن ليفرض فيه الصيام! ففي سورة البقرة يقول الله تعالى: }شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ{ [البقرة: 185].

هنا ينبغي لنا أن نتساءل ما سر هذا الاختيار الإلهي؟ وما فائدة الجمع بين الصيام والقرآن في شهر واحد؟ هل يمكننا تلمّس حكمةٍ مَّا وراء ذلك؟

 من أهم فوائد ذلك -في تقديري- جمعُ أهم أدوات التغيير وأشدها تأثيرًا في النفس، حيث تتعاقب وتتجاور في مدة زمنية محدودة، حتى تكون أشد أثرًا في تهذيب النفس الإنسانية وصقلها وتغييرها إلى الأحسن عامًا بعد عام، تغييرًا يطول أمدُه ويقوى في النفس والمجتمع أثرُه.

القرآن وشهر الصيام

 وتفسير ذلك أن الإنسان إذا ارتكب ما يضره في دينه أو في دنياه من أمر حقير أو خطير فإنما يفعله لواحد من سببين: إما أنه يجهل طبيعة ما فعل وعاقبته، أو أنه خائر العزم أمامه مسلوب الإرادة في مواجهته.

فالإثم الديني أو الخطأ الدنيوي ينشأ إذن عن نوعين من الضعف: ضعف معرفة أو ضعف إرادة، وانفراد أحدهما كافٍ للوقوع في الخطأ، وقد يجتمع السببان فيكون الأمر أخطر والعلاج أصعب!

 وقد جمع الله في رمضان ما يعالج الأمرين معًا، فتلاوة القرآن تعالج الضعف المعرفي، والصيام يعالج ضعف العزم والإرادة والنكوص عن الاستمرار حتى التمام.

 لذلك كان من سنته صلى الله عليه وسلم مدارسة القرآن كل ليلة من ليالي الشهر الكريم مع جبريل -عليه السلام- ففي صحيح البخاري تقول السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أباها أسرَّ إليها (أنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي). [صحيح البخاري، رقم: 3624]

 هذه المعارضة هي التي سماها ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ مُدَارَسَة. ‏قَالَ عنها: (‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ ‏جِبْرِيلُ،‏ ‏وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ؛ فَلَرَسُولُ اللَّهِ ‏صلى الله عليه وسلم ‏أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ ‏ ‏الْمُرْسَلَةِ). [صحيح البخاري، رقم: 6]

 والمدارسة لا تعني مجرد التلاوة بل تعني كذلك التفهّم والتدبّر والمراجعة للحفظ والتثبّت من التأويل. وهذا للبديهة يثبت خطأ ما يفعله كثير من المسلمين اليوم إذا جاء رمضان، فيكون همُّ أحدهم أن يجيب عن سؤال: كم ختمة تلوت؟ وليس كم آية فهمت؟! فهي تلاوة حروف وكلمات وليست مدارسة معان وعظات.

إن المدارَسة لكتاب الله ولو كانت مرة واحدة في الشهر كله تورث المعرفة الحقة والعلم النافع، فما بالك إذا كانت مع عالم متخصص أو فقيهٍ متبحر! بهذه المدارسة المتعمقة يخطو الإنسان خطوة واسعة في سبيل التغيير نحو الأفضل، إذ المعرفة هي أول خطوة في تاريخ التغيير الطويل الشاق، وإلا فالجاهل متخبط لا يعرف أين يقف ولا يدري أين ينبغي أن يكون!

إرادة التغيير

 ثم تأتي الخطوة الثانية وهي تقوية الإرادة وشحذ العزيمة، فالتغيير الواعي الهادف ليس شيئًا سهلًا فهو يتطلب تغييرَ قناعات استقرت في الذهن، وهجرَ عادات تطبّعت بها النفس، ويتطلّب مفارقة أصدقاء الضلالة، والقطيعة بينك وبين أخلّاء الغواية، بل قد يتطلّب ما هو أخطر من ذلك من هجر البلدان ومفارقة الأوطان.

 إنك في رحلة تغيير كهذه تصعد ضدّ الجاذبية لا تهبط موافقًا لها؛ ولذلك كان الصيام.

إنه الوسيلة الأوثق التي ستصحبك في الجزء الثاني من الرحلة يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، إنه الدواء الناجع لضعف الإرادة وخوَر العزيمة وتذبذب النية.

  إنه ليس امتناعًا عن الطعام والشراب والشهوة فقط، بل إنه حفظ الأوقات ومخالفة العادات ومراقبة الخلوات. إنه رقابة ذاتية على كل خلجة من خلجات النفس وخطرة من خطرات الفكر وعلى كل حركة من حركات الجوارح.

 هذه الرقابة وهذا الانضباط يستمر يوميًّا ساعات طوال تصل في بعض البلدان إلى ثمان عشرة ساعة أو تزيد، ثم تتكررهذه الرقابة الصارمة طيلة ثلاثين يومًا هي أيام الشهر المبارك، إذا أحسن المسلم استغلالها وفهم المعنى الحقيقي للصوم فيها، فبأي إرادة ماضية يخرج بها من شهر كهذا!

في مقال بعنوان: كم تحتاج من الوقت لتغيير عادةٍ مَّا ـ العلم يخبرك ـ (How Long Does It Take to Break a Habit? Science Will Tell You)، وهو منشور بالإنجليزية على موقع Lifehack يقول الكاتب ما ملخصه:

تنشأ العادة من عملية تتألف من التحفيز والفعل والمكافأة. والزمن اللازم لتكوين العادة الجديدة يستغرق واحدًا أو ثمانية وعشرين يومًا أو شهرًا أو اثني عشر أسبوعًا. ثم يخلص إلى قول مستخلص من إحدى الدراسات يؤكد أن العادات تتفاوت في المدة اللازمة لتغييرها واستبدال أخرى بها، وأن المدة تتراوح بين 18 إلى 254 يومًا، على حسَب تأصل العادة في الإنسان ومدى صلابة إرادته وعزيمته ثم قوة العوامل المحفزة له على تغييرها. ( 1)

فرصة لا تعوّض

في رمضان نجد العوامل الثلاثة ـ بل وأكثر منها ـ مجتمعة: التحفيز والفعل والمكافأة. وزيادة على ذلك الوعي والمعرفة التي ينبغي أن تسبق كل فعل وذلك بمدارسة القرآن. وفيه المحفّز الدنيوي والأخروي، فهذه جموع المسلمين تصوم معًا وتفطِر معًا، إذا دعاه أحدهم إلى معصية أو عامله بسوء خلق قال له بسهولة ويسر شديدين: إني صائم. 

ثم فيه من الإحسان ما يسد حاجة المحتاج فهو خير انطلاقة لشحيح الموارد وقليل ذات اليد للارتقاء في الدين والدنيا معًا! وفي رمضان يوجد الفعل والعمل أيضًا وهما هنا التعبّد لله بالصيام بما تشتمل عليه من جميل الآداب وكريم الخصال. وفي رمضان أيضًا توجد المكافأة وأَعْظِمْ بها من مكافأة! فهي فرحة عند الفطر وفرحة عند لقاء الرب، وهو باب الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، وهو ثواب هائل لا يعلم عظمه إلا الله فالصيام له سبحانه وهو يجزي به.

 فانظر من عاداتك أشدَّها إرهاقًا لكاهلك وتأثيرًا على حاضرك ومستقبلك واعزم على تغييرها لأفضل منها الآن، نعم الآن، فهذا أوان ذلك!

 أعدَّ برنامجك الرمضاني واجعل فيه مدارسة القرآن ليلًا عادة لك فهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع عالم مُجيد إن استطعت، أو مع صديقك، أو أهل بيتك، أو وحدَك ليكون أنيسُك فقط كتاب الله ففيه كل الخير.

وحاول أن تستخلص درسًا عمليًّا تطبقه نهارًا حتى تكون ممن إذا علموا عملوا، واعزم على ذلك حتى ختام الشهر الكريم لتتكون لديك –كذلك- عادات عديدة عميقة الأثر في النفس والحياة، منها حسن التعامل مع كتاب الله والحرص على فهمه لا مجرد تلاوته، ثم عادة الانتفاع بالمعرفة وتحويلها إلى عمل نافع، ثم أمورًا لا تحصيها يصلِحُها القرآن في نفسك وقلبك وحياتك وواقعك، ويشد الصيام في سبيل ذلك من أزرك، فتقوى على مواصلة الطريق إلى هدفك المنشود مهما كثرت في سبيل ذلك المعوقات وتكاثرت العقبات. 


الهوامش:

انظر المقال كاملًا على الرابط التالي:

http://www.lifehack.org/667495/how-long-does-it-take-to-break-a-habit

حساسية الشعور عن كثب

في حياتنا اليومية نصادف أنماطًا متنوّعة من الناس، بينهم شديد التأثُّر سريعُه بالمواقف المختلفة، وبينهم من لا يلقي بالاً لكثيرٍ من المؤثرات، فيمضي دون أن يتأثر بها، وهذا من تنوّع خلق الله، إلا أننا هنا نتساءل عن تلك النظرة السلبيّة التي تثار حول الشخص الحسّاس، فهل حقًّا أن الشخص الذي نطلق عليه وصف “حسّاس” مبالِغٌ كما قد يصفه البعض؟ ولماذا نتفاوت في ردود الفعل، وما هي الأبواب التي قد تكون على ارتباط وثيق بمفهوم حساسيّة الشعور؟

حساسية المستقبلات من المنظور المادي
جرت العادة في علم الصيدلة قبل أن تُدرَس كيميائية الدواء أن يُدرَس مستقبله في الجسم (Drug receptor)، حيث إن كل نوع من الدواء له نوع مستقبل يرتبط به ليعطي التأثير المفروض.

حساسية هذه المستقبلات تعني أنّ نفس الجرعة من الدواء قد تعطي تأثيراً أقل أو أعلى تبعاً لحساسية هذا المستقبل ويدخل في هذا عوامل كثيرة ومعقدة. [1]، وقد تكون العوامل جينية أو بيئية (polymorphisms) في بعض الأحيان، فيكون مستقبل هذا الدواء في جسمٍ ما حسّاساً أكثر منه في جسم غيره والعكس صحيح، وهذا ما تتجه كثير من الدراسات الدوائية لأخذه بعين الاعتبار عن طريق دراسة الخرائط الجينية لكل فرد على حدة في بعض الحالات. [2]

إضافة إلى ذلك فإنّ هناك أدوية تستخدم مثلاً لزيادة حساسية أو تحفيز مستقبل معيّن لمادة في الجسم، تدعى (receptor agonists) وأدوية أخرى لتثبيط تفاعله مع بعض المواد تدعى بـ (antagonists)، ليصبح ارتباط المستقبل بتلك المادة أقل أو معدومًا، عندما يُراد تقليل أو إزالة تأثير مادة معيّنة.

ومثل ذلك في علوم أخرى، كعلم الهندسة والحساسات بالذات (sensors)، تعرف حساسيّة الحساس (sensor sensitivity) بأنّها أقل كمية من مُدخَل مادي يكون الحسّاس قادرًا على رصده ليتفاعل بناءً عليه، ومنطقياً فإنه كلّما كان الحساس أقدرَ على التفاعل مع كمية أقل، فإن حساسيته تعَدّ أعلى وأقدر على الاستجابة [3].

الإسقاط النفسي للمستقبلات
قد تتساءل: ما علاقة ما تقدّم بالحساسيّة النفسية؟

إلى الآن لا علاقة للحساسية النفسية بالأمر أعلم ذلك.

لقد كان الغرض من هذا العرض جذب الانتباه لمفهوم المستقِبل من حيث إنه تصوير مادّي، وكذلك الحال بالنسبة للمستقبلات النفسية أيضاً التي قد يغيب عن بالنا وجودها، فإن استقبال أحدنا لمدخلٍ شعوريٍّ ما وتفاعله معه، يختلف عن تفاعل شخصٍ آخر بدرجته من ناحية، وحتى بشكله في بعض الأحيان.

إن الأمر شبيهٌ بالمثال الماديّ المضروب سالفاً إلى حدٍّ كبير، حيث إنّ كمية قليلة من مدخل معين قد يستقبلها شخص بحساسية عالية فيتفاعل معها قدر تفاعل شخص آخر مع كمية أكبر بكثير! وهذا ليس مبالغةً ما دام خارج حيّز الاضطرابات النفسية، بل إن حديثنا عن المواقف وطبيعة المشاعر في التعامل مع المواقف اليومية، التي قد نعايشها نحن أو من نعرف.

قد يكون مستقبِل الحزن لدى بعض الناس حساسًا مثلاً أكثر من غيرهم، فتجده قد ضاقَ وعانى من كلمةٍ أو مشهدٍ عابر، فحزن لدرجةٍ يصلها شخص آخر عند تعرضه لأمرٍ أشدَّ مأساةً بعشرة أضعاف مثلاً.. فلا الأول مبالِغ، ولا الثاني بليد، لأنّ الشعور يقبع ضمن منظومةٍ كاملة تعبر عن ردة فعل الشخص وطبيعة شخصيته، ولا يمكن الحكم إلا إذا فُهمت هذه المنظومة كاملةً.

وقد يتجه مثلاً الشخص الثاني للفعل، أو للمحاولات، أو للتغيير مباشرةً دون إعطاء مساحة الشعور حيزاً كبيراً. وقد يكون سبب قلّة تأثره وجود قسوة في طبعه مثلاً، أو سوء خلق، أو ظروفٍ عوّدته على ذلك.

على الجانب الآخر، قد تكون دوافع ذاك الذي تحسّس من المُدخل الحزين بشدّةٍ لرقّة قلبه، أو تذكّر مأساةٍ معينة مرت به، وقد يكون السبب أنّ موقفاً ما انتهك مبدأ مهماً في حياته -لا يدري عنه أحد- كان يلتزم به منذ حينٍ بعيد. كلّ هذه الاحتمالات لشعورٍ واحدٍ ضُرِب كمثال، والمشاعر كثيرة لا نهائية، ولذلك فإن احتمالاتها لا تنتهي أيضاً.

كلُّ ذلك يصبّ في بحيرةٍ واحدةٍ مشوبةٍ بالضباب، هي النفس الإنسانية المعقدة، ولم تكن مدخلات أحدنا كمدخلات الآخر يوماً ما، بل يستحيل ذلك! إذ لكلٍّ منّا شعورٌ وموقف، حافز ومثبّط، صفعةٌ ورفعة عاشها وحده، وشعر بها وحده، وترتّبت في نفسه بهيئةٍ معيّنة، تظهر في سلوكه بأشكال مختلفة خاصة به وحده أيضاً.

لذلك فإنَّ الحكم بالمبالغة أو البلادة ينافي المنطق قبل أن ينافي حسن الخلق، ويطعن في منظومةِ حياةٍ كاملة شكّلت هذه الكينونة، لا موقفٍ عابرٍ فحسب.

عناية الإسلام بحيثيّات الشعور
ربّما هذا التحليلُ والتفكير، يضعنا على مسافةٍ أقرب من فهمِ اعتناء الإسلام بأغوار النفس والشعور، وخصائص القلوب. {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89]، وذلك يقرّبنا أكثر من قوله صلى الله عليه وسلم لأحاديثَ كثيرةٍ تتعلق بالعناية بشعورنا وشعور الآخرين، تعاملنا معها كدرسٍ في مرحلةِ الابتدائية عشناه فيها وهجرناه! قال ﷺ: (..وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ! ..” [صحيح مسلم: 2564].

وكلّما اقترب المرء من نفسه وحاول تزكيتَها وجد الشعورَ عنده يزدادُ حساسيةً ولمعاناً حتى إنّ أصغر حادثٍ يستثيره للاتّقاد ولا ينجمُ الاتّقادُ إلا من فهمٍ وإدراك. تتبادر في هذا السياق الكثير من الآيات التي تتحدّث عن المؤمن ذي القلبِ الشفيف الرقراق، الذي تستدعي الآياتُ والمواقف أفكاره وإدراكه وخشيته، فتجده قد تفاعل معها بهيئاتٍ تصف أعلى ما في النفس الإنسانية من شعور. {.. إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩} [مريم:58]. كما وصف تعالى حالَ أولئك الذين لم يستطيعوا المشاركة في الغزوة لأن الرسول ﷺ لم يجد ما يحملهم عليه أدقّ الوصفِ وأبلغه {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92].

وأكثر ما يؤكد على ارتباط حساسية الشعور بالإدراك، الآية التي أنزلت في فئة من النصارى حين أدركوا أن ما يسمعونه هو الحق {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83]، فقد ربط الله جلَّ وتبارك الدمع الذي لا يصدر إلا عن شعورٍ صادق، مع المعرفة والإدراك، وأتبع ذلك بما بدر عنهم من فعلٍ بأن يكتبهم الله في زمرة الموحدين. لتمثّل هذه الآية الكريمة منظومةً كاملةً تحوي القلب والعقل وعمل الجوارح استجابةً لذلك في أبدع صورة.

جهاد المشاعر
كما أنّ هناكَ تفصيلاً لطيفاً يصعب إغفال التطرق إليه، وهو عناية هذا الدين بانتقاء المشاعر ودرجات الحساسيّة التي ينبغي علينا الجهاد لبلوغ كلٍّ منها. فتجده يحث على زيادة الشعور بالرحمة والرأفة والرضا والصبر والعطف واللطف. ويحثّ من جهةٍ أخرى على إخماد الإحساس بالغضب العشوائي كحديثه ﷺ بأن ليس الشديد بالصرعة وإنما من يملك نفسه عند الغضب. وإخماد كل شعورٍ سيء من حسدٍ أو غيره وفي هذا نعمةٌ من اللهِ ورفعة.

كل ذلك يؤكد لنا أنّ الشعورَ عطاءٌ مميّزٌ غامض، حبا به الله هذه البشريّةَ ليكونَ عنصرَها المختلف عن باقي المخلوقات، ولا حكمَ لأحد أفرادها على شعور الآخر من استهانةٍ أو تقليل، إذ إن لكلّ منا تجربته الخاصة التي يعيشها.

إن من أطيب ما يهلُّ على القلبِ إدراك هذا -أي- جمالُ الآيات والوحي الإلهي الذي ينتشلنا كَيَدٍ حانيةٍ كلما سَحَبَتْنا الدنيا، ليرشدنا إلى ما فيه صلاحُ شعورنا، وصلاحُ عنايتنا بشعور الآخرين، فالحمدُ للرحمٰن الرحيم مدداً.


[1] https://www.sciencedirect.com/topics/medicine-and-dentistry/receptor-sensitivity

 [2] https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/12972951/

[3] https://www.ni.com/en-lb/innovations/white-papers/13/sensor-terminology.html

هديُ الإسلام في التخلّص من الحسد

لو أراد أحدنا استقصاء جميع جرائم القتل والسرقة عبر التاريخ ثم نظر في أسبابها لأدرك أن المحرّك الرئيسيّ لمعظمها كان “الحسد”، ولو أننا راقبنا المعاصي الأولى التي ارتُكِبَت بعد خلق آدم لعرفنا أن محرّكها كان الحسَد من مقامِه لدى الله والتكبّر المتجذّرِ في النفس، فمعصية الشيطان بعدم السجود لآدم جاءت من هنا، وكذلك جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل تحرّكت بفعل الحسد، ثم إذا وضعنا التاريخ أمام أعيننا لنبحث في صفحاته عن رسالة الأنبياء إلى أقوامهم، وعن سبب كفرهم بها ونكرانهم لها رغم كل المعجزات الحسية والمعنوية التي رافقتها لعلمنا أن الحسد كان في مقدمتها، وآخر تلك الرسائل كانت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي نزلت على رجل قد عاش أربعين سنة في قومه، ولم يرَ أحدٌ منه سوى الصدق والأمانة والإخلاص، ثم لما جاءهم بدعوة النبوّة ورسالة الإسلام وكتاب الله البليغ متحديًا إياهُم بالإتيان بمثله، وهو الذي لم يعرِف طريق الدراسة والعلم بل لم يعرف طريق القراءة والكتابة وإنما العمل والتجارة، فما كان منهم إلا أن كذبوه.

لقد أعلنها طلحة النميري صراحة حين قال لمسيلمة الكذّاب: “أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر” أي أنه يفضّل أن يقوده كذاب منافق من قومه على أن يترأّسهم نبي صادق في الوحي إليه من غير قومهم.

لقد عرض القرآن الكريم اعتراضات الحاسدين وكلماتهم، وفنّدها بأنه لا وجه منطقي فيها وأن حججهم ومنبع اعتراضاتهم تدور على الحسد فلا هو فاسدٌ أو كاذب أو ساحر، وإنما يقولون: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 3] وهذا الموقف يشبه موقف اليهود عندما أعطى الله الملك لطالوت فخرجوا معترضين قائلين أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه!

علاج الحسد

أنواع الحسد ودرجاته
وإذا جئنا إلى الحسد الذي هو مراتبٌ أعلاها الإضرار باليد ثم العين فاللسان، فإن منبع الحسد الأساسي هو ألّا يكون لهذا الحاسد عملاً في هذه الحياة إلا النظر في ِنعَم غيره وإحصائها وتعظيمها وتجميلها ثم إدخالها إلى قلبه، والشعور بحبّه لها والخوف من فقدانها وحرمانه منها، إذ يجري مقارنات بين ما يملك غيره وما يملك هو متحسّراً على ما فاته مغتمّاً بما معه، والأسوأ من ذلك أنه لا ينظر إلى ما آتاه الله من فضله وما حرم به غيره، فذلك ليس من منهجه في الحياة.

إذن فالنظر في نعم الآخرين هو منطلَق الحسد، وقد تشعّب وتفرّع في وقتنا هذا مثله مثل جميع الطباع والأخلاق السيئة التي وجدت تربةً خصبةً لها فنبتت، ثم ماءً متدفّقاً فنمت، ثم سماداً كثيراً فقويت، وهنا فإني أقصد به وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات الفيديوهات التي لا يترك روادها نعمةً آتاهم الله إياها إلا أعلنوها، بل ويدّعون وجود نعمٍ لم يحصلوا عليها للتكبّر على غيرهم وإغاظتهم، وفي الإطار ذاته انتشرت بكثرة حسابات لأشخاص هدفهم الأساسي هو تصوير أنفسهم وهم يسافرون حول بلدان العالم ويأكلون ألذ الطعام ويزورون أجمل الأمكنة والعجيب أن متابعيهم يقدّرون بعشرات الملايين ولا تجدهم إلا متحسّرين على أنفسهم أن قد كتب الله لهؤلاء السعادة والسفر والتجوال ولم يكتبها لنا!

أين الخلل، وما العلاج؟
المشكلة الحقيقية أن المحصي لنعم غيره تجده معمياً عن مصائب أو نقائص غيره كما هو معمي عن النعم التي أسدلها الله عليه، جاهلاً أن الحياة لم تكمل لأحد وأنها ما زادت لأحد في جانب إلا نقصت له في جانبٍ آخر، وأنها طبعت على الأكدار والهموم فهي توزع منها بالتساوي على بني البشر، ولا يكون الاختلاف إلا بالأشكال التي تأتي بها، فذلك تأتيه على شكل فقر، وذاك على شكل مرض، وهذا على شكل جهل، وتلك على شكل عقم، إذ كما قال مصطفى محمود: “لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه ولَرَأَى عدل الموازين الباطنيّة برغم اختلال الموازين الظاهريّة ولما شعر بحسد ولا بحقد ولا بزهو ولا بغرور”.

مظاهر الفروقات الطبقية والمؤدية أحيانًا إلى الحسد

مرض اليوم الذي يبحث معظم الناس عن علاجه هو الشعور بالنقص والدونيّة وعدم الرضى عن النفس والذي يولَد بدوره اضطراباً وحزناً وغماً، ولا يتطلّب علاجه أكثر من أن يكون الإنسان راضياً بما آتاه الله من فضله شاكراً لهذه النعم مقدّراً لها عالماً بأنّ الكثير من خلق الله قد حرم منها، واضعاً كلام نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام نصب عينيه الذي كان بمثابة علاج لهذه الاضطرابات ألا وهو الحديث الشريف:

“انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم” [رواه مسلم]، كلمات قلائل أعلمنا بها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام تمثل علاجاً لواحد من أعظم أمراض هذا العصر الذي أدى إلى الانتحار في بعض الحالات وإلى نوبات من الاكتئاب في حالات أخرى.

وفي الوقت الذي وضع لنا ديننا علاجاً لهذا المرض، حثنا في الوقت نفسه على أن نتخذ من الرضى والقناعة والصبر منهجاً لنا في حياتنا، إذ لا بد للإنسان من منغصاتٍ تعترضه بين حين وآخر فإن لم يقابلها العبد بالرضى أو الصبر فقد شق طريقه نحو الضيق والضجر، والرضى هو أن ينظر العبد في المصيبة فلا يبحث إلا عن جوانب الخير فيها، أما الصبر فهو النظر بالمصيبة مع عدم الانتباه إلى ما تشتمل عليه من خير فيصبر الإنسان عليها منتظراً فرجاً من الله، وقد وضعها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه دستوراً لنا، فقال موصياً أبي موسى الأشعري: “أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر”

الإعجاز التشريعي للقرآن الكريم

إذا شئت أن تصل إلى يقينٍ تامٍّ بأن التشريع الذي يحمله القرآن الكريم بين دفتيه يصل إلى حد الإعجاز، فانظر إلى المجتمعات النائية واقترب من أهلها، فإنك ستجدُ أن قوانيناً بسيطةً تحكمها، إذ لن تجد حياتهم تعقيدات تستلزمُ تشريعاً كاملاً مفصِّلاً لا يدعُ مسألةً صغيرةً أو كبيرةً قائمةً أو لم تولد بعد إلا ويشرِّعها، وهذا ينبئك بأن القرآن الكريم معجزٌ في تشريعه قادمٌ من السماء.

تبدأ المجتمعات بطلب العلم والحث عليه ونشره بين أفرادها، فتشكّل به ثقافةً، وتحقق بها ازدهارا، فتكثرُ مسائلها وتتشعبُ أمورها، وهذا من ثمرة التقدم والتطور، فتجدُ حينها بأنها محتاجةٌ إلى تشريعٍ كاملٍ لا يترك مسألةً إلا ويجد لها حلاً عادلاً يرضي صاحب الحق ويقنع المطالَبُ بأداء الحق.

وهذا ما لم يحدث في الجزيرة العربية إذ كانت البداوة والبساطة يحكمانها، فلا علم ولا ازدهار ولا تقدم، بل جهلٌ وتخلفٌ وقبليةٌ، حتى وصف حالها كسرى يزدجرد مخاطباً النعمان بن مقرن قائلاً: “إني لا أعلمُ أمةً في الأرض كانت أشقى منكم ولا أقلَّ عدداً، ولا أشدَّ فُرقَةً، ولا أسوأ حالاً. وقد كُنَّا نكلُ أمركم إلى ولاة الضواحي فيأخذون لنا الطاعةَ منكم”.

وفجأةً ظهر فيهم تشريعٌ كاملٌ يضعُ حلولاً لمسائلَ واجهتهم ولمسائل أخرى لم يخطر ببالهم أن تواجههم، من الحقوق المدنية إلى الأحوال الشخصية مروراً برسم العلاقات الدولية وليس انتهاءً بوضع نظام السلم والحرب، وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ سعيد البوطي في كتابه من روائع القرآن.

أفيعقل أن يأتي بهذا التشريع أحدٌ من هذه القبائل المتناحرة؟ أم يُظن أن يكون مستمدا من الشرائع اليهودية، وأحبارها كانوا حريصين على ألا يتسرب شيءٌ منها؟ ألا فلينحي الجميع أهواءه جانباً وليقر بهذه الحقيقة التي لا تحتاج إلى إطالة فكر ونظر، ألا وهي أن هذا التشريع وحيٌ من السماء نزل به الروح الأمين على قلب من جاء رحمةً للعالمين.

وإذا كنتَ متعطشاً إلى مزيدٍ من اليقين فاعلم أنه ما من حكيمٍ أو فيلسوفٍ أو مصلحٍ اجتماعي قد أسس منظومةً محدودةً غرضها أن يحتكم الناس إليها إلا وأثبتت الأيام أنها تنطوي على شيءٍ من النقص والقصور أو الظلم والجور، ثم قارن هذا الواقع بالواقع الذي يخبرك بأن رجلاً أمياً لم يسافر في طلب العلم، بل ولم يشتهر قومه بالالتفات إلى علمٍ أو معرفةٍ قد جاءَ بمنظومةٍ تشريعيةٍ كاملةٍ قلبت المجتمع الذي حكَّمها رأساً على عقب وإليكم صورة ذلك على لسان النعمان بن مقرن في خطابه ليزدجرد: “إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه. ووعدنا -إن أجبناه إلى ما دعانا إليه- أن يعطينا الله خيري الدنيا والآخرة. فما هو إلا قليل حتى بدَّل الله ضيقنا سعةً، وذلتنا عزة، وعداواتنا إخاءً ومرحمةً. وقد أمرنا أن ندعو الناس إلى ما فيه خيرهم وأن نبدأ بمن يجاورنا.

فنحن ندعوكم إلى الدخول في ديننا، وهو دينٌ حسَّن الحسن كلَّه وحضَّ عليه، وقبَّح القبيح كله وحذَّر منه. وهو ينقل معتنقيه من ظلام الكفر وجوره إلى نور الإيمان وعدله”.

ومن صور هذا التشريع والفوائد المرافقة له ما ذكره د. مصطفى مسلم في كتابه مباحث في إعجاز القرآن: “ففي الصلاة تربية الفرد على النظام وتلقي الأوامر من الرئيس المباشر (الإمام)، ولعل هذا المعنى أثر في نفس عدو الله رستم في القادسية عندما كان يراقب الجيش الإسلامي وهو يؤدي صلاة الجماعة صفوفاً خلف الإمام حيث قال: (لقد مزق عمر كبدي، يُعلِّم الأعراب النظام!).

وفي الزكاة قضاء على الحقد والبغضاء بين الطبقات وإشعار بتكافل المسلمين وتضامنهم.

وفي الصوم إشعار بوحدة الأمة وتعويد لها على الصبر وقوة الإرادة وتنمية مراقبة الله تعالى في السر والعلن.

وفي الحج إبراز المساواة بين الناس وتذكيرهم بالموقف الأكبر وإظهار للمساواة بين المسلمين، ووحدة أمتهم الإسلامية على اختلاف ألوانها وأجناسها وتحقيق لقوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92].

إلى جانب تقوية صلة الفرد بالله سبحانه وتعالى وتزكية روحه والتسامي على الأهواء والنزوات المنحطة”. [مباحث في إعجاز القرآن: ص258].

ولقد تكلمنا بدايةً عن وجه الإعجاز الأول من كون التشريع سابقاً لكل تقدمٍ يأتي به، ومرافقاً لبداوةٍ وبساطةٍ وحياةٍ قبليةٍ لا تستلزمه، وعن الوجه الآخر له بأن جاء به فردٌ واحدٌ أميٌّ لم يشتهر بطلب علمٍ ولا بدراسة كتبٍ، أما عن كون هذا التشريع أهلاً للأخذ به أم ليس بأهل فذلك تحدده إجابةُ سؤال: من أتى به؟ أما وقد كان الجواب اليقين الحق الذي لا يقبلُ شكاً الله، واتبع هذا الجواب شيءٌ من فكرٍ قليل، فحينها سمعاً وطاعةً.

ومحور هذا الفكر أن الله الذي أتى به هو خالقنا من العدم، العالمُ بما يصلحنا وما يشقينا، فهو أدرى بالشكل الأمثل الذي ينبغي للأسر أن تسير عليه، ومن ثم النظام الأكمل الذي يجدر بالمجتمع أن يخضع له. وإذا أردت أن تنظر إلى صدق ما أقول، فاقرأ في كتب التاريخ الواصفة لمجتمع الصحابة والتابعين، وإن نظرت إلى كلامي بازدراءٍ، فإني أحيلك إلى ما كتبه المستشرقون المنصفون الذين لم يدينوا بالإسلام ولكن لم يجدوا من قول الحق مهرباً. وإن كنت من الذين لا يصدّقون إلا ما يرونه بأعينهم ناسفين علم التاريخ، فانظر في الأسر التي تطبق الإسلام بحذافيره، بما جاء فيه من أحكامٍ صغيرها وكبيرها، فإنك ستجدُ أسرةً تعيش حياةً هانئةً مطمئنةً، ثم قارنها بالأسر التي لا تعلم من الإسلام إلا اسمه أو تلك التي لا تعلم من الإسلامِ شيئاً، وفي هذا تذكرةٌ وبلاغٌ لمن أراد.

Portfolio Items