لا يكاد المتابع لما يجرى على أرض الواقع أو الساحات الافتراضية يلتقط أنفاسه من توابع قضية أو جدل ما حتى تصدمه أخرى بما لم يتخيل، وكل قضية تلقي بظلالها على قناعات الناس وتتداخل تداخلا وثيقا مع ما يؤمنون به ويقيمون به أساس حياتهم، وأخص ما يحدث فيه التأثر سلبا وإيجابا هو رؤية الناس لأحكام دينهم وشعائره وما فيه من ضوابط وتزكية وأوامر.
ولقد رأينا من يهاجمون دينهم صراحة لا يصدّهم بقية خشية ولا مراعاة، ومن يتبعون الهوى في صورة دين لا يخالف ما اعتادوا عليه ولا يقف أمام تطلعاتهم، ثم رأينا ذلك الصنف المتردد المتابع الذي تشده كلمة من هنا ويجذبه رأي من هناك، وعلى حسب ما في القلب من إيمان أو مرض يكون اختياره وقبوله لما يرى ويسمع.
إن الاختلاف في مسائل الدين الفرعية مما جبل الله الناس عليه، لكن الذي عليه أغلب الناس اليوم وتدور عليه النقاشات هو ما يتعلق بركائز كانت أولى بالاتفاق مما يصدق فيها تحذير الله لنا: {ولَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وإن أحد أهم جوانب حماية الدين للمسلمين حفظه من أن تنفصم عراه ويتفرق في مسائل العلم كما اختلف الذين من قبلهم، هو الفقه في الدين، وفهم مسائله فهما دقيقا، ولذلك دعا الله طائفة من المؤمنين أن يتفقهوا في دينهم وأن يكونوا رسلاً إلى أقوامهم في الإنذار والتبليغ عن الله، فقال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وقد يبدو لنا في عصر انفتاح الفضاءات وسيل المعلومات المتدفق بلا توقف وكتب العلم المعروضة على الناس بلا ثمن أن الجميع قد أصاب من العلم شيئا، وأن كل أحد قرأ بعض السطور أو استمع لبعض الشروح يمكنه أن يقطع برأي أو ينفرد بفتوى أو بترجيح، لكن الأمر غير ذلك بل هو أعمق وأدق. إن سهولة تحصيل العلم في زمننا تتيح لكل من أراد أن يلتحق ببرنامج أو يقرأ كتابا أن يفعل وقد يحصل على أوراق تثبت براعته أو حصوله على مفاتيح علم ما، لكنك إذا جئت تستمع إليه أو تقرأ ما يدعو إليه وجدت اعوجاجا وميلا لا يشي بفهم فضلا عن براعة. وإن زماننا الذي بلغت به الغواية حدها الأكبر وعلا فيه الزبد حتى فتن به من فتن ليتوجب فيه على من يقرأ أن يفهم ومن يتعلم أن يفقه، حتى يكون ذا بصيرة تعينه على أن يتبين مهاوي الطريق أمامه فيتجنب مصائد الغواية ويحاذر المسالك المؤدية إليها.
ماهية الفقه في الدين
يعرف غالب الناس أن الفقه هو معرفة أحكام الشرع، وقد ضبط العلماء حقيقة الفِقْهِ بأنَّه العلم بالأحكام الشرعيَّة العمليَّة المُكتَسَبة من أدلَّتها التفصيلية بالاجتهاد، والفقه في أصل اللغة يعني الفهم أو دقيق الفهم إلا أنه صار علما على أحد علوم الدين وفرع من فروع الشريعة لأنه يحتاج نظرا واجتهادا في تنزيل النص على الواقعة وسياقاتها، ولا يكون ذلك إلا بفهم النصوص الشرعية واستخراج الأحكام من مجموعها بما يتوافق مع قواعد الدين وكلياته الكبرى.
ولا يقتصر الفهم على ما في الشريعة من أحكام عامة أو تفصيلات فقهية، بل إن أعظم من ذاك هو فهم الدين فهما كليا يتصور به مراد الخالق وما يرضى به وما لا يرضى به، ويتوصل به إلى فهم مقاصد الشريعة العامة ومراتبها وأنواعها، ويرافقه بصر بالواقع وإدراك بما يجري فيه بما يمكن من معرفة مآلات الأمور وتقدير تبعات الكلمة وخطرها، فلا يلبس حينها على المتعبد شيطان ولا يزري بالعالِم سلطان.
فالفقه في معناه اللغوي يوحي بالقدرة على استخدام ما هو ظاهر وحاضر من النصوص والوقائع الشرعية للتوصل إلى حكم كان غائبا عن الأذهان أو غير ظاهر بصورة صريحة لغير المتفقهين. لذلك كان الفقيه في علمه أيا كان هو من يعرف العلم بأدلته ولديه نظر متسع يأخذ من الأصول الكلية والمبادئ الكبرى ليوضح للناس ما خفي عنهم، ولذلك وجه الله المؤمنين إلى رد الأمر لأصحاب العلم والفقه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59]وقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
من هو الفقيه؟
ولا يكون صاحب العلم فقيها حتى تكون لديه مَلَكَة العمل مع النصوص والنظر فيها، واستخراج ما فيها من أحكام ومقاصد ودقائق، فهو يجمع النصوص ويستخرج منها الحكم ويعلم الاستثناءات وما يجرى عليه الحكم والقياس وما لا يقع عليه صورة الحكم ولا يصح وقوعه تحته.
وإن نظرة أولية لكتب الفقه بتفريعاته وأصوله ترسم للمطلع عليها صورة للفقيه المسلم والكيفية التي كان علمه فيها، فلا يقتصر على المسائل التفصيلية التي يسأل عنها الناس، بل إن علمه وفهمه لكتاب الله وسنة نبيه أدّيا به إلى استخلاص قواعد الاستدلال واستنباط الأحكام ومقاصدها وموضعها في أبواب العلم الشرعي، وكيف قاده هذا التخصص ليضع أصولا عامة وقواعد فقهية كلية أو غالبة صارت تعرف بعد ذلك بأصول الفقه.
لقد كان نظر الحسن البصري واسعًا حين عرّف الفقيه بأنه “الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه، الكاف عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم” [أخرجه نعيم بن حمّاد في مسنده] وقد تبعه الإمام الغزالي في ذلك فبين أن مفهوم الفقه شامل لكل ما يحصل به الإنذار والتذكير بالآخرة بحيث تكون الفتاوى والأحكام العملية المتعلقة بالعبادات والمعاملات جزءًا من الفقه في الدين لا تقتصر عليه ولا تختص وحدها به.
فقه العالم
لا يترك الشيطان وظيفته في إضلال الناس وإشباع غرائزهم، وكما يزين للغافلين عن ربهم وعن أنفسهم، يزين لمن أوتوا حظا من العلم، فيوحي إليهم بمكر خبيث ويلبس عليهم بحسب ما وصلوا إليه من علم، فله كيد خاص بهم، إذ يلّبس وحيه ثوب النصيحة للناس مرة، وثوب مراعاتهم والإحسان إليهم مرة أخرى، ويوقعه في الإثم وقبول الظلم حينًا بدافع المصلحة وفقه الواقع وفي فتح باب الشبهات والشهوات بدافع الضرورة والحرص على المصالح حينا آخر.
إن العالم أشد الناس حاجة إلى الفقه بمعناه الواسع الذي لا يختص بواقعه الآني فحسب، بل يجب أن تبصر عينه المستقبل القريب والبعيد، وتربط الأسباب بالنتائج ربطا مستمدا من كتاب ربه، فيبلغ الناس بلاغا يعيد إليهم رشدهم ويبصرهم بعاقبة كل أمر ولوازم كل اختبار.
وآية الفقه أن يزاوج العلم العمل وأن تصدق أعمال الإنسان في الأرض أقواله، فتحصل له المجاهدة والكبد الذي تستخرج به معادن الانسان القّيمة وتصفى به شوائبها، فإذا تحدث فعن واقع خبرة، وإذا نصح فمن حب وإشفاق، وإذا أفتى فعن خشية وإخلاص، ولا يكون ذلك لمن غاية علمه كلمات يقرأها ولا يستصحبها معه دينا تدور حياته عليه وتصطبغ به.
ولكي يكون العالم أو المتعلم على قدر حقيقي من الفقه، لابد له من أن يرد النبع بإخلاص وصدق، لا بتشكك وتغليب للهوى، فيقرر المسألة في نفسه ثم يقلب في النصوص ينتقى منها ما يوافق فهمه أو ميله، فذاك محروم من علم شريف خص الله به المقبلين عليه المعظمين لشرعه، الراغبين في نشر شريعته وبيان منهجه لعموم الناس.
فقه المتعلم
أما وقد فتحت للناس منصات للتأثير والتأثر لم تعد للعلماء فيها الكلمة الأخيرة وصارت بضائع الأفكار مزينة ومعروضة للصغير والكبير، للمتعلم والجاهل، فإن واجب الوقت ليس فقط لمن يرد تلك المنصات، بل لكل من آتاه الله عقلا يعقل به، أن يتعلم كيف يتلقى كل ما يرد عليه وما يمر إلى قلبه وعقله. فيقرأ بفهم ويرجع إلى من هم أفقه منهم فيسأل ويبحث، ويبني عقله بناء معرفيًّا صحيحًا بحيث يستطيع أن يضع التصور اللائق بكل مسألة، وأن يرتب ما يرده من أخبار ومصادر حسب ما ينبغي لا حسب ما يقرره صاحب تلك المقالة أو ذاك. لذلك فإن المتعلم على سبيل النجاة، والمقبل على ربه-وكلنا كذلك- واجبه الأول أن يعرف أصول دينه ومصادره، وأن يعرف كيف يرد الأمر إلى صاحب الأمر وكيف وعن من يتلقى قبل أن يتشرب عقله الشبهات ويخبط خبط عشواء يظن نفسه على هدى وهو أبعد ما يكون عنه ويرى أهل الدليل على هوى لأنهم يخافونه ويردون عن دينهم السهام..
نسأل الله أن يفقهنا في ديننا وأن يرزق هذه الأمة بالفقهاء العاملين الذين يدركون مواضع الخلل فيسدونها بعلمهم وفقههم.
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2022/03/الفقه-في-الدين.jpg?fit=1200%2C456&ssl=14561200هادي صلاحاتhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngهادي صلاحات2022-03-31 20:10:222022-04-01 12:00:05حاجتنا إلى الفقه في الدين
بعد عرض الفرق بين حكم السماع والاستماع، وإثر عرض مقدمات فقهيّة مهمة في فهم النظرة الاستدلاليّة المتعلقة باستنباط الأحكام الشرعيّة، نتوقف في هذا المقال –دون استفاضة- عند مذهبين رئيسيَّين في حكم الموسيقى والغناء، بين الإباحة والتحريم.
أوَّلًا: أدلة مذهب حرمة الموسيقى:
تردّدت الأقوال في مذهب المحرّمين بين التحريم الشامل لسماع كل ما يصدر عن الآلات الموسيقية، وبين التحريم الجزئي الذي يبيح بعض الآلات ويحرّم أخرى، وبين من يفرّق في حكم الغناء مع الموسيقى، والغناء بلا موسيقى.
والذي يعنينا هنا تتبُّع المسألة في أصلها من حيث التحريم المطلق حيث إن إثباته إثباتٌ لحرمتها في سائر المواقف، كما أن إباحتها المطلقة إباحة لها في سائر المواقف إلا فيما قيّده الشارع.
من هنا فإن الأدلة التي حرّمت الموسيقى تعود إلى أربعة أنواع:
1- أدلة صريحة في التحريم وإفادته، إلا أنها غير صحيحة من جهة النقل.
2- أدلةٌ صحيحة من جهة النقل، إلا أنها غير صريحة في إفادة التحريم.
3- آراء تحرّم المعازف والغناء أو المعازف وحدها باعتمادها على دعوى الإجماع.
هذه الآيات الخمس ذكر فيها الفقهاء والمفسرون أدلة على تحريم الموسيقى، فالصوت في الآية الأولى هو صوت الشيطان التي هي آلات المعازف والغناء، وهناك أقوال كثيرة للمفسرين تؤيد هذا التأويل[1]، وقد فسروا “اللهو” في الآية الثانية بأنه الطبلُ، أو الغناء[2]، وهذا التخصيص لا يمكن أن يكون بأقوال الصحابة أو الفقهاء، بل لا بد للتخصيص من نصٍّ مثله، كما أن أصل اللهو في العربية يعني الانشغال، ولا يوجد فيه حرمة إلا ما كان لهوًا بباطل فيحرم الباطل،
وعليه فإن اللهو إن سبّب ترك الواجب فهو محرّم، وكلّ لهو يسبب الحرام فهو محرّم، هذا من حيث الأصول
أما اللهو في الآية فقد قيّدته بلهو الحديث، فيدخل فيه الغيبة والنميمة، والخرافات والأساطير وغير ذلك، وبذلك فإن الاستدلال بهذه الآية على حرمة الموسيقى استدلال في غير موضع المسألة فلا تصح أن تكون دليلاً في تحريمها.
أما الآية الثالثة فقد عاب الله فيها على المشركين صفيرهم وتصفيقهم في حضرة البيت الحرام، ومن باب أولى أن يكون آلات المعازف أشدّ في أصواتها فهي أولى بالعيب[3]
والصحيح أن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون إلى الله بهذه الأفعال، فكان فعلهم معيبا من جهة أنهم يتعبدون لله بما لا تعبُّد فيه بل بما يتّخذ لهوًا ولعبًا.
أما الآية الرابعة فقد فسروا عدم شهود الزور، بأنه البعد عن الغناء، فلا يسمعون الغناء لما فيه من الباطل[4]، والحق أن هذا التفسير بمختلف إسناداته ليس قويًّا، كما أن هناك تفسيرات أخرى تفسر الزور بالشرك، وهو أولى من الغناء وأشد حرمة، كما أن القرآن نفسه قال: {واجتنبوا قول الزور} وهذا تفسير للقرآن بالقرآن، حيث يقصد به هنا الكذب، وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: “القول بأنه الكذب هو الصحيح، لأن كل ذلك يرجع إلى الكذب” و”أما القول بأنه الغناء فليس ينتهي به إلى هذا الحد”[5].
أما الاستدلال في الآية الأخيرة على أن “السمد” هو الغناء بالحميرية[6] إلا أن مقصد الآية أكبر من مطلق الغناء، حيث كان مشركو قريش حين يسمعون القرآن يغنون ويلعبون، فكانت الآية ذمًّا للمشركين لا دليل فيها على تحريم القرآن. وعليه فإن الآية الأولى حرّمت كل ما يدعو إلى معصية الله، أما الثانية فحرّمت كل ما يضلُّ عن سبيل الله من لهو الحديث، أما الآيات الباقية فكلّ واحدة منها تدل على شيء بعينه، ولذا فإن اتخاذ هذه الآيات في تحريم الموسيقى والغناء بل هو تكلّف وخروج عن أصل الإباحة بلا دليل.
الأدلة من السنّة:
يعنينا في هذا القسم الأحاديث التي حرّمت المعازف والغناء باللفظ قطعًا، إضافة إلى الأحاديث التي حرمتها ظنًّا.
في النوع الأول نجد ثمانية أحاديث:
1- “لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتي أقْوامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ، والخَمْرَ والمَعازِفَ، ولَيَنْزِلَنَّ أقْوامٌ إلى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عليهم بسارِحَةٍ لهمْ، يَأْتِيهِمْ -يَعْنِي الفقِيرَ- لِحاجَةٍ فيَقولونَ: ارْجِعْ إلَيْنا غَدًا، فيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، ويَضَعُ العَلَمَ، ويَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وخَنازِيرَ إلى يَومِ القِيامَةِ.” [أخرجه البخاري]. هذا الحديث خبر، ولا ريب أنه قد يدل على حكم، إلا أنه لا يفيد الحكم بذاته، وإنما يثبت الحكم بدليل آخر، فالمستحَلُّ والمحرّم ههنا يعلَم بنصٍّ من الشرع. وغاية ما يمكن للمستدِل بهذا الحديث أن يثبته هو علامة وجود التحريم في هذه المذكورات، لا أنه الدليل عليها، فيكون الاستدلال به على التحريم خطأ.
ولفظة “يستحلّون” ترد في استباحة الحرام والمباح على حدٍّ سواء كما في حديث “فما وجدناه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرّمناه” واستحلال الخمر هنا والربا والزنا ولبس الحرير للرجال استحلال لما عُلِم حرمته قطعًا، ولكن بدليله القطعي المنفصل عن هذا الحديث لا به.
وذكر المعازف فيه، واقترانها بمحرمات لا يثبت تحريمه على سبيل القطعِ، فالحرير لا يشبه في حرمته الزنا، وكذلك لا تشبه الخمر الربا، وقد عُلِم حرمة كلّ شيءٍ منها بدليله القطعي، ولا دليل على حرمة الموسيقى قطعًا، والعقوبة الواردة ههنا فهي واردة على جميع المذكورات وليس على واحدة منها، لأن المجموع يكون شعارًا لقوم يستوجبون سخط الله فيغضب عليهم، وليس الحديثُ في أصله واردٌ في بيان حكم كلِّ واحدة منها، وإنما لبيان حال قومٍ ممّن استوجبوا غضب الله، بل إن خلاصة ما يمكن الاستدلال به من خلال هذا الحديث هو أن الأصوات الداعية إلى معصية الله، وتوافق حال الزناة وشاربي الخمر، أنها تحرّم معها لا بذاتها، وهذا يعني أن لكل حال حكمٌ بحسبه.
ولمّا كان في أصل الموسيقى الإباحة، إلا أنها اقترنت بالمعاصي الأخرى، فقد تحوّل الحكم إلى ما وُضِعت فيه فحرّمت فيه لاقترانها به، لا لحرمتها الذاتيّة، فلو امتنع ذلك الاقتران لبقيت على أصل إباحتها[7]، وليس المقصود تحريم ذات الأصوات الصادرة عن الموسيقى، وإنما عملُ العزفِ مع التشويق للمنكَر، إذ لا حديث يحرم أصوات الموسيقى بشكل مستقل البتة، حيث تثبت الأدلة وجود المعازف عموماً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إضافة على استعمالها في مناسبات مختلفة، إلا أن الإنكار الوارد في بعض منها كان لحالات خاصة كرفض النبي لقول وارد مع العزف، وليس ثمة حديث صحيح واحد صريح في التحريم بحيث لا يقبل التأويل في تحريم المعازف[8].
2- وثمة سبع أحاديث أخرى تدور حول ذات المنظور في الحديث السابق[9]، فهي متعلّقة عموما بمتعلّق لتحريم الموسيقى، وليست محرّمة للموسيقى بذاتها والغناء، بل إن النظر فيها والتمحيص يثبت انعدام وجود نصّ واحد ثابتٍ يدلّ على تحريمها، وعليه فإنه يجب الالتزام في حكم الأصل، وهو الإباحة[10].
يشير كثير من الفقهاء في تحريم الموسيقى والسماع لها إلى استنادها على الإجماع، إلا أنه معلوم أن الاحتجاج بالإجماع بحد ذاته يحتاج إلى إثباتات كثيرة لسنا في معرض ذكرها، إلا أنه يجب التنبه لها، إضافة إلى بحث مسألة وقوع الإجماع حقيقةً في تحريم الموسيقى، وإذا بطل أحد هاتين المسألتين فإن دعوى التحريم بالإجماع تسقط[11].
والمسألة الأولى يمكن نقدها بأنه لا يمكن التسليم بوقوع الإجماع على تحريم شيءٍ ما في عهد التشريع النبوي ولا يوجدُ نصٌّ صريح من النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن في التحريم، بل إن الأصل أن يكون النص، وعدمُ وجود النصّ دليل على عدم وجود التحريم.
ثانيًا، إن الإجماع عند التحقيق لم يتحقق بين العلماء بشكل كامل إلا فيما عُلِم من الدين بالضرورة، مثل حرمة القتل وحرمة الزنا، فهذا إجماع صحيح يكفر منكره، أما إنكار الإجماع الذي لم يستند على نص يثبتُ معلوماً بالضرورة، فليس فيه خروج عن جماعة المسلمين، فكيف يمكن ادّعاء الإجماع في مسألة لم يرد فيها نصٌّ قطعيّ صريح في التحريم؟
أما الإجماع السكوتي الذي يعني اشتهار القول بالتحريم مع سكوت المخالف، فإن الأصل أنه لا يحتج به، ولا يصحّ في الفقه الطعن في دين المخالف للإجماع السكوتي[12].
وقد أنكر عدد من العلماء وجود الإجماع في هذه المسألة مثل ابن حزم، كما صنف القاضي محمد بن علي الشوكاني كتابًا سماه “إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع”، مما يثبت أن إثبات الإجماع في هذه المسألة متعذر دون الاستناد إلى دليل صريح وقطعيٍّ في التحريم.
كما أن كثيرًا من السلف كان يبيح الترنّم والغناء بلا آلة في ست آثارٍ صحيحة عن الصحابة[13]، إضافة إلى آثار أخرى صحيحة ومشهورة عن سماع بعض السلف للغناء مع المعازف، كما ورد عن عبد الله بن جعفر وهو من كبار فقهاء المدينة، حيث كان يسمع للغناء من بعض جواريه وهن يعزفن[14].
مذاهب الفقهاء في آلات العزف
يرى جمهور الفقهاء أن الأئمة الأربعة في حال أباحوا العزف فإنهم يقصدون “الدف” والطبل في أحوال خاصة، ولا ينسبون لأحد منهم إباحة المعازف بإطلاقها، بل ينقلون عنهم أقوالا توحي بحصر الخيار بين الحرمة والكراهة، إلا أنه بعد الاطلاع على مقولات الأئمة في هذه المسائل فإن حاصل ما يمكن فهمه منها هو:
1- أن قول أبي حنيفة لا يتجاوز كراهته التنزيهيّة للموسيقى ولا يؤثَر عنه قول صريح في حرمتها.
2- قول الإمام مالك: ليس فيه نص على التحريم وإنما تدل عباراته على الكراهة.
3- شدّد الشافعي على بعض الآلات الموسيقية مثل الطنبور والمزمار، ولم يصرّح بتحريم الموسيقى والغناء، وإنما كره الإغراق واللهو فيه، وأباح يسيرَ الدفّ دون كراهة.
4- مجموع أقوال الإمام أحمد تذهب إلى التحريم، ويذهب حتى إلى كراهة الغناء[15].
ثانيًا: أدلة مذهب إباحة الموسيقى والغناء
استدلّ أصحاب هذا الرأي بأدلة عامّة تعتمد الأصل المعترف به في الأشياء، وهو ما يعرف بالاستصحاب، فأصل الأصوات إباحتها، ولذا لا يمكن تحريمها إلا بدليل، وذلك استصحابًا لأساس الإباحة المرتبط بها، إضافة إلى ذلك فقد توقفوا عند عدة قضايا تدخل في مناط حكم الموسيقى، منها أنّ:
1- الأصوات الموزونة حسنةٌ لدى السمع سواء خرجت من آلة أو إنسان أو حيوان، وتحب النفوس سماعها، ولا حرمة في هذا بحد ذاته.
2- المعازف لاحقة بباب العادات لا العبادات، وقد قُرر في الأصول: أن “الأصل في العادات الإباحة ما لم يرد ناقلٌ ينقلها عن حكمها إلى حكم آخر”.
3- ما استدِلّ به من نصوص على تحريم المعازف والضرب عليها ضعيف إما نقلاً وإما في عدم دلالته القطعية والصريحة على التحريم.
4- التفريق بين المعازف كتحريمها كلها لا يصحّ دون ورود دليل قاطع يحرمه، وإباحة بعضها بدليل صريح لا يوجب حرمة الآخر، إلا التصريح شرطٌ في التحريم.
ومن ثمَّ فإنّه بناء على هذه القواعد فإن الأصل في حكم الموسيقى عند هذا الفريق إباحتها، ولو على وجه اللهو كأن يعزف ليدخل المرء على نفسه السرور والسكينة، إلا أن يرتبط بها ما يؤدي إلى معصية أو يفوّت المرء بها طاعة فحينها يتغير الحكم بتغير الحال.
وقد استدلّ هذا الفريق بأدلة نقليّة كثيرة تؤكد إباحة الموسيقى في الأصالة، من ذلك ما ورد أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، دَخَلَ على عائشة وعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ في أيَّامِ مِنَى تُدَفِّفَانِ، وتَضْرِبَانِ، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَغَشٍّ بثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُما أبو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن وجْهِهِ، فَقالَ: دَعْهُما يا أبَا بَكْرٍ، فإنَّهَا أيَّامُ عِيدٍ. [صحيح البخاري].
وفي رواية أخرى في البخاري: دَخَلَ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعِندِي جارِيَتانِ تُغَنِّيانِ بغِناءِ بُعاثَ، فاضْطَجَعَ علَى الفِراشِ، وحَوَّلَ وجْهَهُ، ودَخَلَ أبو بَكْرٍ، فانْتَهَرَنِي وقالَ: مِزْمارَةُ الشَّيْطانِ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأقْبَلَ عليه رَسولُ اللَّهِ عليه السَّلامُ فقالَ: دَعْهُما، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُما فَخَرَجَتا[16] إضافة إلى أحاديث وآثار أخرى، تفيد بإباحة الموسيقى بذاتها.
والترنّم بالصوت من غير كلام مباح في أصله ولا شيء يدلُّ على حرمته، وقد وردت آثار تأمر الإنسان بتحسين صوته في الأذان والقرآن فينتقل التلحين بالمقامات وأنماط التحسين الموزونة إلى الاستحباب في الطاعات
أما الشعر والغناء به فهو كلام منه حسن ومنه قبيح، وخذ الحسن ودع القبيح كما تقول السيدة عائشة، ويورد الحسين بن الحسن المعروف بـ أبي عبد الله الحَلِيمي في شرح شعب الإيمان، الآتي: “وجملة ما يتميز به الغناء المباح عن الغناء المحظور، أن كل غناء من الشعر المنظوم فمعتبر به لو كان كلاما نثرا غير منظوم، فإن كان مما يحل أن يتكلم به منثورا أحل أن يتكلم به منظوما. وإن كان مما لا يحل أن يستعمل منثورا لم يحل أن يستعمل منظوما”[17]. فما يقبح من الكلام يحرم التلفظ به في الغناء أو غيره، وما يحسن لا يحرم التلفظ به في الغناء أو غيره.
وقد وردت أحاديث تدل على ذلك كما في حديث السيدة عائشة المتقدم.
الخلاصة وفي الخلاصة فإنّ مدار الأمر في هذه القضيّة أنه ثمة خلاف كبيرٌ ومشتَهَرٌ بين العلماء في حكم الغناء بين تحريمه لذاته وبين تحريمه لعارضٍ آخر، كما أنّ كثيرًا من العلماء الذين حرّموا شتى أنواع السماع باتوا اليوم يشيرون إلى الخلاف في جواز السماع لما لا إساءة أو فُحشَ فيه، إذ إنه كلامٌ يحسن بمعناه أو يسوءُ به، إضافة إلى أن التساهل في الغناءِ والموسيقى لا تعني إباحة ما يُرى من أغانٍ هابطةٍ تتعرّى الأجسادُ فيها وتصمّ الآذان فيها صخب الموسيقى المرتبطةِ بكلماتها ورقصات الممثلين فيها، بل هي على النقيض من ذلك، تنطبق عليها فتاوى المتشددين في تحريم السماع إليها والتمايل معها. وبالمثل من ذلك فإن الموسيقى بحدّ ذاتها تتعرّض لأحكام مختلفة بحسب الموقع والزمان والعوارض المحيطة بها، فلا يمكن وصف الموسيقى بالإباحة التامّة حين تعزَف أنغامها في مسارح الملاهي الليليَّة وطاولات اللهو والخمر، كما أنه لا يمكن الجزم بحرمتها حين يقصَد بعزفها ترقيق القلب وإثارة كوامن الفكر والاسترخاء، وذلك لاعتبارات كثيرة أهمها، أنه:
1. لا يوجد دليل واحد صحيح وصريح في تحريم المعازف لكونها أصوات تصدر عن آلات، كما لا يحرم آلات العزف لكونها آلات بذاتها، كما لا يوجد دليل واحد صحيح وصريح في تحريم الغناء لذاته.
2. وأنّ كل ما ورد من النصوص حول الموسيقى فهي إما: • صحيحة لكن لا دلالة فيها على التحريم، بل قد تفيد الإباحة، ويعضد ذلك ما ورد من آثار تفيد بوجود السماع في بيت النبي صلى الله عليه وسلم. • أو أنها غير صحيحة وهذا مما لا يحتج به في بناء الأحكام القطعية.
3. إضافة إلى التوقّف عند كون حكم الإباحة عامًّا في السماع والإسماع، سواء في المناسبات أو التداوي أو إراحة النفس، والتنبّه إلى حرمة الاستماع والإسماع في مواطن اللهو وتداوُل الفحشاء.
4. قد ينتقل حكم الموسيقى والغناء عن الإباحة إلى حكم آخر كالاستحباب في إشهار النكاح، أو الكراهة في حال سبّب الاشتغال بالموسيقى ضياع السنن والمستحبات والمصالح الراجحة، والتحريم حين يشتمل الغناء على قول ممنوع بذاته كالكفر و رفض القدر، وغير ذلك مما يحرم تلفظه لذاته، أو استعمل في معصية الله والدعوة لها، كالغناء بالتشويق للخمر والترويج للزنا، وإشاعة مجالس الفسق، وكل ما من شانه إشاعة الشهوة الحرام .
[15] ينظر المصدر السابق: 197 – 214. وقد اعتمد المؤلف على بدائع الصنائع للكاساني/ و الهداية للمرغيناني- والسير الكبير للشيباني من فقهاء الحنفية، واعتمد على البيان والتحصيل لابن رشد، والمقدمات والممهدات، والتمهيد لابن عبد البر، في حكاية مذهب الإمام مالك، أما الشافعية فقد اعتمد على كتاب الأم للشافعي، ومختصر المزني، وروضة الطالبين للنووي، أما رأي الإمام أحمد فقد اعتمده من كتب الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلّال، والورَع لأبي بكر المروذي، والمغني لابن قدامة الحنبلي.
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2019/12/حكم-الموسيقى-2.jpg?fit=1200%2C628&ssl=16281200أحمد دعدوشhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngأحمد دعدوش2019-12-31 17:36:202021-03-04 10:48:01الخلاف في حكم الموسيقى والغناء (الجزء الثاني)
بعد أن تبين لنا في المقالين السابقين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق نسبة القرآن الذي جاء به إلى الله تعالى، نواصل بحثنا في هذا المقال للتحقق من إرث هذا النبي القولي والعملي، والذي يشكل بدوره جزءا مهما من الوحي نفسه، ومصدرا أساسيا من مصادر التشريع.
مفهوم السنة السنة النبوية تشكل مصلطحا من أهم المصطلحات التي يدور عليها الدين ويبنى عليها الفقه والأحكام الشرعية، وبنظرة بسيطة إلى أي كتاب من الكتب الدينية نرى أنه مليء بتعابير “سنة الرسول” و”سنة النبي”، أو أن هذا الأمر” مسنون”، وما شاكل ذلك من العبارات والمصطلحات.
ولو بدأنا بتعريف السنة لغويا لرأينا أنها تعني “الطريقة والمنهج”، سواء أكان ممدوحا أو مذموما، وقد ورد تعبير السنة في القرآن الكريم قريبا من هذا المعنى: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} [الفتح: 23] وسياق الآية يدل على الشيء المتَّبع والمطبق، أي أن السنة هي الشيء الذي استمر العمل على منواله.
أما تعريف السنة اصطلاحا، أي المُعتمد في كتب الفقه والأصول والحديث، فهناك خلاف حوله، لكن هذا الاختلاف راجع إلى زاوية النظر، حيث نظر علماء كل فرع من فروع العلم إلى جانب معين في السنة وعرّفوها بناء عليه.
فأهل الحديث يعرفون السنة بأنها كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، والمقصود بالتقرير أن يُفعل أمام النبي أمر أو أن يبلغه شيء فيسكت ولايعلق، فسكوته دليل على رضاه وموافقته إذ لو كان حراما لوجب عليه التنبيه. فالمحدِّثون نظروا إلى كون السنة صادرة عن النبي عليه الصلاة والسلام وهي تمثل كل تصرفاته القولية والفعلية والتقريرية، التي لها علاقة بالتشريع.
أما الفقهاء فقد عرفوا السنة بأنها ما يجب فعله من غير وجوب، أي ما يثاب الإنسان على فعله ولا يعاقب على تركه، فالسنة هي مقابل الفرض والواجب، وأما علماء أصول الفقه فعرفوا السنة على أنها مصدر من مصادر التشريع، ومصادر التشريع الأساسية هي القرآن والسنة والإجماع والقياس.
ولو أردنا أن نقدم تعريفا شاملا للسنة لأمكننا القول إن السنة هي الطريقة المتبعة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام في جميع عباداته وسلوكياته وتصرفاته، وبطبيعة الحال فإن من هذه الأمور ما يمكن أن نصفه بواجب أو غير واجب.
وبناء على مفهوم السنة هذا، يظهر لنا خطأ من يقول بترك السنة إلى القرآن، لأن السنة ليست مجرد شيء يندب فعله أو يثاب عليه، وليست مجرد قول صادر عن النبي بل هي طريقة في السلوك الديني، والغاية منها بيان التطبيق العملي للدين كما سأل رجل السيدة عائشة عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام فقالت له: “كان خلقه القرآن”.
ويظهر لنا مما سبق أن العلاقة بين التعريفين اللغوي والاصطلاحي هي أن السنة تتضمن المواظبة على فعل أمر ما، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما يواظب على فعل ما مبينا أنه فعل تشريعي للأمة، فعلى المسلمين الاقتداء به.
وجوب الاقتداء بالسنة إنه لا يُتصور فهم القرآن دون اللجوء إلى حديث الرسول الذي جاء به، فحديثه هو الشارح للقرآن، وعلى ذلك كثير من الأدلة، فبواسطة السنة أخذ الصحابة أفعال الصلاة ومواقيتها، إذ لا يوجد في القرآن تفصيل لمواقيت الصلاة أو أحكامها، إنما اكتفى القرآن بإيجاب الصلاة على المؤمنين فقال {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}، بينما نجد تفصيل أحكامها في السنة وفقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي” [أخرجه البخاري].
كما اكتفى القرآن بالإخبار عن فرضية الحج، أما أحكامه التفصيلية فتولت السنة النبوية شرحها، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “خذوا عني مناسككم”، وكذلك الحال في الصيام وبقية العبادات، وعلى ذلك نقول إننا لا نستطيع أن نفهم القرآن بدون السنة، وما يقال من أن القرآن اشتمل على كل شيء فالمقصود بهذا الاشتمال هو القواعد والمبادئ الأساسية، أي أن القرآن يعرض القواعد العامة التي ينبني عليها الدين، أما التفصيلات والتطبيقات فهي متروكة للسنة بدليل قوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]، فالآية واضحة الدلالة على مهمة الرسول في شرح القرآن وتفصيله.
وقد اتفق علماء الأمة على أن السنة بمجموعها حجة ومصدر من مصادر الأحكام واستدلوا على ذلك من القرآن، وإجماع الصحابة الذين عاشوا في عصر النبي وتلقوا عنه مبادئ الدين.
أما أدلة القرآن التي توجب اتباع النبي فنذكر منها الأمثلة الآتية:
قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]، فالآية دليل على أن أقوال النبي صادرة عن وحي إلهي.
وقال أيضا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الحشر: 7]، ودلالة الآية واضحة على وجوب الأخذ بكل ما أمر به النبي وما نهى عنه دون تفريق بين كونه قرآنا أو سنة.
وقال أيضا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فالآية جعلت علامة محبة الله في اتباع النبي والتأسي به، ومثلها قوله تعالى {من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقوله {فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقد دلّ كثير من الأحاديث ومواقف الصحابة على مثل ما دلت عليه آيات القرآن الكريم، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم “فعليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّين” [أخرجه أبو دادود وغيره]، كما حذر النبي من ترك سنته فروي عنه أنه قال: “يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله” [أخرجه ابن ماجه والدارمي]. فالتحذير في هذا الحديث واضح من ترك سنته والعدول عنها والقول بأن القرآن وحجه يكفي.
وأما دليل إجماع الصحابة فيتضح في مواقف عديدة تثبت أنهم كانوا يبحثون عن أحكام للمسائل التي تواجههم في القرآن، فإن لم يجدوها بحثوا في سنة النبي بعد وفاته، ومنها قصة أبي بكر في ميراث الجدّة، حيث جاءت جدّة إليه في خلافته وسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة ، فأنفذه لها أبو بكر”.
علاقة السنة بالقرآن تكتسب السنة أهميتها من صدورها عن الرسول بصفته الرسولية، أي بصفته مبلغا عن الله، فإذا كان المشرع هو الله بصفته الإله الخالق فما يصدر عن الرسول بصفته الرسولية هو في الحقيقة صادر عن الله تعالى، أما التصرفات التي تصدر عن الرسول بحكم طبيعته البشرية فليست داخلة في تعريف السنة، والاقتداء بها ليس واجبا، فعلى سبيل المثال كان الرسول يحب أكل الدبّاء (أي القرع)، وهذا لا يجعل من أكل الدباء سنة مُتبعة.
أما علاقة السنة بالقرآن من جهة التشريع فتتنوع على ثلاثة أنواع، هي:
1- تأكيد السنة للقرآن الكريم: بمعنى أن يأتي ذكر أمر في القرآن ثم تؤكده السنة، من ذلك أيضا قول الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فهذا المعنى جاء تأكيده في أحاديث كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم “المسلم أخو المسلم” [أخرجه البخاري]، وقوله: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الأعضاء بالحمى والسهر” [أخرجه مسلم].
2- بيان السنة لما جاء في القرآن الكريم: أي أن تفصّل السنة أمراً جاء في القرآن مجملا أو عاما، كتفصيل السنة لأحكام الصلاة، فالله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، ويقول {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النور: 56]، كما يمتدح تعالى المؤمنين من حيث محافظتهم على الصلاة فيقول {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، أما بيان أوقات الصلاة وعدد ركعاتها وأركانها وواجباتها وشروطها فلا نجد له تفصيلا إلا في السنة الشريفة، فلولا بيان السنة ما عرفنا كيف نصلي.
3- تشريع أحكام جديدة ليست في القرآن: مثال ذلك صدقة الفطر، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة [أخرجه البخاري]، فهذا الحكم ليس موجودا في القرآن، ومع ذلك فحكمه واجب بإجماع المسلمين بناءً على هذا الحديث الصحيح.
مناقشة آراء الرافضين لحجية السنة يطرح بعض المفكرين العرب والمستشرقين حججاً للتشكيك في السنة من حيث كونها مصدراً للتشريع، وسنناقش بإيجاز فيما يلي أهم هذه الحجج:
القرآنيون يطلق مصطلح القرآنيين على تيار ديني يدّعي أن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع الإسلامي، وأن السنة كانت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون أتباعه، ويطلقون على أنفسهم اسم “أهل القرآن”. ويُعتقد أن بداية ظهور هذا الرأي كانت على يد الخوارج، ثم تبلور في الهند خلال القرن التاسع عشر عندما أنكر السنة بعضُ المفكرين الذين حظوا برعاية الاحتلال البريطاني، وتوسعت فلسفة هذا التيار في باكستان ومصر خلال مرحلة الاحتلال أيضا.
1- يدعي منكرو السنة أن القرآن اشتمل على كل الأحكام ولم يترك شيئا للسنة، ويستدلون على ذلك ببعض الآيات مثل قوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] وقوله {وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} [النحل: 89]، والواقع العملي يرد هذه الدعوى، فهناك عدد لا يحصى من النوازل والأمور التي تحدث كل يوم وليس لها ذكر في القرآن، ما يعني أن كلمة “شيء” في الآيتين لا تدل على الشمول، وبيان ذلك أن القرآن الكريم يشتمل على القواعد والأسس العامة التي نحتاج إليها في حياتنا، أما التفصيلات فمتروكة للسنة أو للاجتهاد، وشمولية القرآن كاشتمال الدستور على المبادئ العامة وتركه التفصيل للوائح القانونية والتفصيلية، فالسنة هي التي تفصل قواعد القرآن العامة، وسبق أن استشهدنا بمثال تفصيل السنة لأحكام الصلاة واكتفاء القرآن بالأمر بها، وكذلك الحال مع بقية العبادات.
2- يرى منكرو السنة أن القرآن محفوظ بحفظ الله فلا تداخله شبهة ولا شك ولا تحريف بخلاف السنة التي يوجد فيها الموضوع والضعيف، وعليه فالاحتجاج بالمحفوظ أولى في رأيهم من الاحتجاج بما دخلته الشبهة. إلا أن هذا الرأي يتجاهل منهج النقد الذي وضعه علماء الحديث لتمييز الصحيح من الضعيف كما سيأتي، فوجود الضعف في بعض روايات التاريخ مثلاً لا يبرر نسف علم التاريخ وما تقوم عليه من علوم إنسانية شتى.
3- يدّعون أن السنة ليست إلا اجتهادا من الرسول، وبما أن الاجتهاد ليس وحيا فليس بلازم الاتباع، ويستدلون على ذلك ببعض الحوادث كمسألة تأبير النخل ونزول الجيش في بدر. لكن هذا الادعاء مردود بآيات القرآن التي تأمر باتباع النبي في كل ما جاء به، مثل قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، والوقائع التي استشهدوا بها جاءت في غير محلها، فتصرفات الرسول وحي عندما تكون في مجال التشريع وليست من الأمور الدنيوية، وقد ذكر علماء الأصول كثيرا من الضوابط للتفريق بين أعماله الرسولية والبشرية، ولا يسمح هذا المقام بذكرها.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “نضّر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلّغه، فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبّ حامل فقه ليس بفقيه” [رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني].
4- يستدلون بوجود تناقض بين بعض الأحاديث، فيجعلون من ذلك مبرراً لإنكار السنة بالجملة، لكن وجود أحاديث متناقضة في الظاهر ليس دليلا كافيا لرد العمل بالسنة، فالخطأ ليس من الرسول وإنما من الرواة الذي قد يخطئون في النقل أو الحفظ، أو قد يكون الخطأ في فهم القارئ للحديث، وبما أن علماء الحديث قد بذلوا جهودا جبارة في تمحيص الروايات وبيان التناقضات وأسبابها والراجح منها فما زال بالإمكان العمل بما وصلنا من سنة النبي، ولم تسقط بذلك حجيتها عنا.
5- يقولون إن السنة لو كانت لازمة الاتباع لأمر الرسول بكتابتها كما أمر بكتابة القرآن، ويرد هذه الحجة عمل الصحابة أنفسهم ومن جاء بعدهم من حيث مركزية السنة في فتاواهم وقضائهم وسائر أحكام عباداتهم، أما عدم أمر النبي بكتابة السنة عنه فليس دليلا بذاته على كون سنتة غير ملزمة، فقد كان يخشى اختلاط سنته بالوحي القرآني، إلا أنه كان يدرك أن العرب أمة أميّة وأنها ستنقل عنه سنته شفوياً، ومع أنه لم يأمر بكتابة هذه السنة فإنه لم ينهَ عنها، بل سمح لمن طلب منه ذلك من الصحابة كعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما، وسنتابع تفصيل هذا الأمر بعد قليل.
روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “تسمعون، ويُسمع منكم، ويُسمع ممن يَسمع منكم” [رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح].
6- يرون أن ضخامة عدد الأحاديث الموجودة في الكتب الحديثية مبرر للاعتقاد بأن غالبيتها غير صحيحة، استناداً إلى كون الرسول صلى الله عليه وسلم قليل الكلام بحيث لو أراد العاد عدَ كلامه لاستطاع. لكن الاستدلال بضخامة العدد ليس دقيقاً، فالمحدثون يعدون كل طريق (سند) حديثا بذاته ولو كان المتن واحدا، ومثال ذلك لو فرضنا أن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام “بني الإسلام على خمس” روي من خمسة وجوه فهذا يعني أن لدينا خمسة أحاديث وليس حديثا واحدا، فعندما نقول إن عدد الأحاديث المدونة يتجاوز المئة ألف فالمقصود هو عدد الأسانيد وليس متون الأحاديث.
تاريخ السنة سنوجز فيما يلي تطور انتقال السنة من مصدرها عبر رواتها من الصحابة والتابعين، وصولاً إلى تدوينها وتوثيقها، وذلك عبر ثلاث مراحل:
المسجد النبوي في المدينة المنورة بمنتصف القرن التاسع عشر
1- الحديث في عهد النبوة: نزل القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام في ظرف 23 سنة منجّما (مفرقاً) على حسب الحاجة، وكان للنبي كتّاب من الصحابة يكتبون ما نزل عليه من الوحي بأدوات بسيطة مما يتوفر لهم من الورق والحبر، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يشجع صحابته على حفظ القرآن في الصدور، فالعرب كانوا أمة شفوية تحفظ أشعارها وأنسابها وتاريخها دون تدوين.
لم يُظهر النبي عليه الصلاة والسلام حرصاً على كتابة سنته كحرصه على تدوين القرآن الكريم، فالوحي كان ينزل بشكل متقطع ببضع آيات تسهل كتابتها على الفور، أما السنة فتتضمن ما كان يتحدث به النبي مع أصحابه أو يفعله في حضورهم يوميا، حيث كانوا يوجهون له الأسئلة عن شتى الأمور، كما كان يخطب فيهم عند حدوث بعض المناسبات، أو يقدم لهم النصائح والمواعظ والأخبار والنبوءات أثناء استقباله الوفود أو خلال تجوله في السوق أو في أي حالة يكون عليها خلال حياته اليومية، ما يجعل من كتابة هذه التفاصيل في وقتها أمراً متعذراً.
علاوة على ما سبق، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى اختلاط القرآن بالحديث، ولا يعني ذلك بالضرورة اختلاطا لا يُستطاع معه التمييز، فالصحابة كانوا قادرين على التمييز لغويا وبيانيا، لكن المقصود على الأرجح هو الاختلاط من الناحية التشريعية وعدم إدراك البعض مكانة كل منهما فيظن أن الحديث في مرتبة مساوية للقرآن.
لذا يمكن القول إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه كان إجراءً احترازياً معللاً وليس نهياً تعبدياً من غير علة، والحكم المعلق على علة يدور مع علته وجودا وعدما فإذا انتفت العلة في مكان ما فإن الحكم ينتفي هو الآخر، وعلى ذلك نستطيع فهم بعض الأحاديث المتعارضة في هذا الصدد، فنجد أن بعض الأحاديث تنهى عن كتابة ما يقوله النبي وبعضها يبيح ذلك، ففي حالات الأمن من وقوع الالتباس والاختلاط عند بعض الصحابة كان يأذن لهم بالكتابة، ومن ذلك قول عبد الله بن عمرو بن العاص: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؛ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه (أي أشار بإصبعه إلى فمه) فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق” [أخرجه أحمد]، وفي حجَّة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة فقال له أبو شاه (رجل من اليمن): اكتب لي يا رسول الله، فقال لصحابته: “اكتبوا لأبي شاه” [أخرجه أحمد والبخاري].
2- الحديث في عهد الصحابة: كان الصحابة يحرصون على حفظ كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيق كل ما يأمر به، بل كانوا من شدة حرصهم يتناوبون في ملازمة الرسول عندما لا يكون في مقدور أحدهم ترك أعماله، ثم يخبر بعضهم بعضا بما جرى مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان بعضهم يتخذ لنفسه صحيفة يدون فيها بعضا من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كتب لنفسه بعض أحكام الإسلام في صحيفة، ووردت الإشارة إلى صحيفته في حديث رواه البخاري. كما أن عددا ليس بالقليل من الصحابة كانوا يكتبون الحديث، فقال أبو هريرة: “ما كان أحد أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب” [أخرجه البخاري].
وكان الصحابة يتخذون مجالس في عهد رسول الله وبعد وفاته يتدارسون فيها ما حفظوا من أحاديث ويروونها لبعضهم، وكانت قلة حديث الرسول وتمهله في الحديث أثناء كلامه عاملان مهمهان في حفظ الصحابة للحديث ورسوخه في أذهانهم، وقد تبين لنا قبل قليل من قضية ميراث الجدة أنهم الصحابة لم يتركوا الاحتجاج بالسنة في كل ما يعرض لهم من شؤون دينهم.
وقد يحتج بعض منكري السنة أو منكري خبر الآحاد (أي ما نقله شخض واحد عن آخر كما سيأتي لاحقاً) ببعض تصرفات الصحابة، كطلب عمر بن الخطاب من أحد الصحابة شاهدا على حديثه الذي رواه وكذلك فعل أبي بكر، وكطلب علي بن أبي طالب من رواي أحد الأحاديث أن يُقسِم يمينا على روايته، وكطلب عمر من بعض الصحابة أن يقللوا من الرواية، لكن إنعام النظر في سياقات هذه الحوادث تكشف أنها كانت تنبع من الاحتياط للسنة وليس تقليلا من الاعتماد عليها، وبيان ذلك أن أبا بكر وعمر كانا يطلبان شاهدا من الراوي في حال الشك في حفظ الراوي، وهذا مطلب منهجي، أما طلب عمر بالإقلال من الراوية فجاء في سياق معين، وهو أنه أرسل بعض الدعاة إلى قوم أسلموا جديدا، وكانت الحكمة تقتضي أن يعلموهم القرآن وقواعده الأساسية أولاً ثم يروون لهم أحاديث النبي وسنته.
3- الحديث في عهد التابعين: عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الأموية ازدادت حاجة الناس للاطلاع على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وازدادت أيضا ظاهرة وضع الحديث (أي نسبة أحاديث مكذوبة إلى النبي)، لا سيما مع دخول أتباع ديانات أخرى في ظل الدولة وميل البعض إلى التحريف في الدين، فضلا عن الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمذهبية لطوائف من البشر تسعى كلٌ منها لإيجاد نص ديني يدعم رأيها ويحقق مصالحها، ما حمل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في نهاية القرن الهجري الأول على الأمر بتدوين السنة النبوية رسمياً وبإشراف الدولة وتوجيهها، فكتب إلى أمراء الأقاليم ليكلفوا حفاظ الحديث بجمع السنة من أهل العلم الموثوقين مثل ابن شهاب الزهري وتدوينها، وتابع ابن جريج وسفيان الثوري ومالك بن أنس هذه المهمة الصعبة.
كانت طريقتهم في التدوين تتضمن جمع كل ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن وبيان شرائع الإسلام من العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والأقضية دون تفريق أو تصنيف، ثم بحثهم عن أحوال الرواة وإسقاط ما يتبين لهم أنه موضوع, ويقول أبو داود إنهم في تلك المرحلة المبكرة كانوا يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث، ومن أهم كتب هذه المرحلة كتاب “الموطأ” للإمام مالك.
قال الأوزاعي (وهو من أئمة تابعي التابعين): “كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا (أي التابعين) كما يُعرض الدرهم الزائف على الصيارفة, فما عرفوا منه أخذنا، وما تركوا تركنا” [الموضوعات لابن الجوزي: 1/103].
وبعد هذه المرحلة العامة في الجمع بدأت مرحلة التصنيف، حيث تم تصنيف الأحاديث تحت الأبواب الفقهية وغيرها كما سنذكر لاحقاً، ومن أهم أعلام هذه المرحلة بقيّ بن مخلد وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، وقد بذل هؤلاء أيضاً جهوداً جبارة في تمحيص الروايات ونبذ الموضوع، إلا أنهم كانوا كسابقيهم يمزجون الصحيح بغيره من حسن وضعيف، حيث لم تكن قد ظهرت بعد تصنيفات الحديث من حيث الصحة والضعف، فجاء من بعدهم من قام بهذا العبء ووضع أصول علوم النقد، وتمكن بذلك الإمامان البخاري ومسلم من تأليف أول كتابين مخصصين للأحاديث الصحيحة، وتابع بقية العلماء من بعدهم مهمة النقد والتصنيف وفقاً لتلك القواعد المعتمدة.
نقد الحديث والتأكد من صحته طوّر العلماء ونقاد الحديث منهجا دقيقا لنقد الحديث والتأكد من صحته، فعلْمُ رواية الحديث النبوي قائم على عنصر مهم وهو راويه، والرواي هو الشخص الذي يسمع الحديث ممن فوقه وينقله لمن بعده، وللتأكد من أن الراوي لم يدخل في روايته أي خطأ ولم يقع فيه سهو اشترط علماء الحديث شروطا خمسة، وقالوا إنها إذا اجتمعت كان الحديث صحيحا، ويتعلق اثنان منهما بالراوي وثلاثة بالمروي (الحديث).
أما الشرطان المتعلقان براوي الحديث، فأولهما أن يتصف بـ”العدالة”، أي يكون ملتزما بالدين غير كاذب ولا فاسق، والثاني أن يتصف بـ”الضبط”، أي يكون حافظا للحديث الذي سمعه وأن يرويه كما سمعه دون خطأ ولا تغيير، أو يكون قد دوّنه بدقة، ويعبر عن اجتماع هذين الشرطين في الرواي بمصطلح “الثقة”.
يتكون كل حديث من عنصرين:
1- السند أو الطريق: وهو سلسلة الرجال الذين رووا الحديث.
2- المتن: هو ما ينتهي إليه السند من الكلام، أي نص الحديث.
ومع تطور علوم الحديث في عصور التدوين الأولى نشأ تحت مظلته علم “الجرح والتعديل”، وهو يُعنى بالبحث في حال الراوي من حيث عدالته وضبطه، فكان مؤلفو كتب هذا العلم يبينون بدقة حالة كل راوٍ من حيث التزامه بالدين والآداب العامة والمروءة ومقدار ضبطه وحفظه وقدراته العقلية، وذلك للحكم عليه في النهاية بكون أهلاً للثقة والاحتجاج بروايته أم لا.
وطوّر علماء الحديث كثيرا من المصطلحات التي تدل على مستوى الراوي من حيث العدالة والضبط، فطبقة الصحابة كلهم عدول بتعديل النبي لهم، وقد يخطئون في الضبط من حيث النسيان أو الغلط في الرواية الحديث، حيث كان بعضهم يصحح لبعض، ثم يتدرج التابعون وتابعوهم في طبقات عدة، فعلى سبيل المثال وضع ابن حجر اثنتي عشرة طبقة للرواة في كتابه “تقريب التهذيب”، تبدأ بالثقة الثقة، أو أوثق الناس، وتتدرج إلى الثقة أو المتقن أو الثبت، ثم الصدوق، ثم الصدوق سيئ الحفظ، وهكذا حتى يصل إلى المتروك فالمتهم بالكذب فالكذاب.
وألّف العلماء في الجرح والتعديل كتبا متنوعة لسرد سير الرواة وما قيل فيهم، مثل “تهذيب التهذيب” لابن حجر، و”الثقات” لابن حبان، كما خصصوا كتبا للضعفاء والمتروكين والوضّاعين (الكذابين) من الرواة، مثل كتب “الضعفاء” التي ألفها كل من البخاري والنسائي وابن حبان، وكتاب “الكامل” للجرجاني الذي ذكر فيه كل من تُكلم فيه، بينما وضع آخرون موسوعات أكثر شمولا مثل “ميزان الاعتدال في نقد الرجال” للحافظ الذهبي الذي قال فيه “قد احتوى كتابي هذا على ذكر الكذابين والوضاعين، ثم على المحدثين الصادقين أو الشيوخ المستورين الذين فيهم لين ولم يبلغوا رتبة الأثبات المتقنين، ثم على خلق كثير من المجهولين”.
أما الشروط المتعلقة بالمروي (المتن) فهي ثلاثة، ولا يُنظر فيها إلا بعد ثبوت قدر كاف من عدالة وضبط الراوي، والشرط الأول في المروي ألا يكون شاذا، أي لا يكون مخالفا للقرآن أو لحديث آخر أو لرواية رجل أقوى حفظا. والشرط الثاني ألا يكون الحديث معلولا، فلا يكون فيه خطأ خفي، وتفصيل ذلك أن بعض الرواة نالوا درجات عليا في الضبط والإتقان، لكنهم مع ذلك بشر يخطئون ويصيبون، لذا فليس كل ما يروى عنهم صحيح بالمطلق، حيث لم يكتف علماء الحديث بكونهم متقنين ضابطين بل اشترطوا ألا يكون في أحاديثهم خطأ خفي من العلل التي لا يكتشفها إلا المتمرس في الحديث ورواياته، وعلى هذا نشأ علم مستقل يسمى بعلل الحديث.
وأما الشرط الثالث فهو “اتصال السند”، حيث اشترط العلماء أن يكون كل راو قد سمع الحديث ممن فوقه (شيخه)، حتى يتسنى للعلماء والنقاد التأكد من حال الرواة، وإذا حدث انقطاع لشخص واحد في السند فقدَ الحديث درجة الصحة، وقد برع العلماء في تسجيل تاريخ الرواة وشيوخهم وسيرهم، حتى أصبح بالإمكان التحقق مما إذا كان أحدهم قد التقى راوياً آخر فروى عنه أم لا، وذلك بالتحقق من رحلات كل منهما وتاريخ حياته ومماته.
من أهم ملامح الدقة العلمية لدى علماء الحديث ابتكارهم لمفهوم الرحلات، حيث كانوا يشترطون على كل طالب علم في بداية نشأته أن يُنهي الاستماع والرواية لكل ما يرويه شيوخ بلدته من أحاديث ثم يخرج في رحلات علمية قد يبلغ بها كل أقطار العالم الإسلامي مترامي الأطراف، فيسمع ويدوّن ما يرويه شيوخ البلدان الأخرى، حتى كان بعضهم يقطع آلاف الكيلومترات من الصحاري والجبال للتأكد من حديث سمعه في بلده نقلا عن شيخ في بلد آخر، فيقول الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه إنه سار شهراً إلى الشام ليسأل الصحابي الآخر عبد الله بن أنيس رضي الله عنه حديثاً سمعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم [علوم الحديث لابن الصلاح، ص8]، كما كان التابعي سعيد بن المسيب يقول: “إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد” [الرحلة في طلب الحديث، ص127]، أما في المراحل التالية على الصحابة والتابعين فقد أصبحت الرحلات شرطا أساسيا من شروط طلب العلم.
لم تُبدع أي حضارة أخرى علماً مماثلاً لتمحيص النصوص والروايات التاريخية كالذي أبدعه العلماء المسلمون في تمحيصهم لأحاديث نبيهم، ويقول الدكتور مصطفى السباعي إن عالماً معاصراً من علماء التاريخ -وهو أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت أسد رستم- كان قد ألف كتاباً في أصول الرواية التاريخية, اعتمد فيها على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات، وأطلق على كتابه اسم “مصطلح التاريخ” [السنة ومكانتها للسباعي، ص 126].
أنواع الحديث سنوجز فيما يلي أنواع الحديث من حيث عدة عوامل:
من ناحية تعدد الطرق: 1- متواتر: وهو ما نقله جمع عظيم عن جمع عظيم لا يُتصور أن يتفقوا على الكذب، وكان ما نقلوه متعلقا بأمور خبرية (فيقول أحدهم عن الآخر أخبرني)، أو حسية (فيقول رأيت أو سمعت)، وليست أمورا عقلية.
2- آحاد: وهو ما عدا المتواتر، أي أن كل طبقة من طبقات الرواة يكون عدد الناقلين فيها أقل من أن يبلغ جمْعا عظيما.
من حيث القائل: 1- الحديث المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً عنه, سواء كان متصلاً أو منقطعاً أو مرسلاً (كما سيأتي).
2- الحديث الموقوف: هو ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم وأفعالهم.
3- الحديث المقطوع: هو ما يروى عن التابعين من أقوالهم وأفعالهم، والتابعون هم الذين شهدوا الصحابة ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ومثاله قول التابعي الحسن البصري في الصلاة خلف المبتدع: “صلّ وعليه بدعته”.
من حيث الصحة: 1- الحديث الصحيح: هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه, ولا يكون شاذاً ولا معللاً.
2- الحديث الحسن: هو الذي يحقق شروط الصحيح إلا أن في رجاله من هو خفيف الضبط, ويُحتج به.
3- الحديث الضعيف: هو ما لم تتوافر فيه شروط الصحة أو الحُسن.
وهناك أنواع كثيرة للحديث الضعيف بحسب السبب الذي أدى إلى تضعيف كل منها، وأهمها:
1- المجهول: ما كان في رواته راوٍ غير معروف الهوية أو غير معروف الحال.
2- المنقطع: ما سقط من وسط إسناده رجل، وقد يكون الانقطاع في موضع واحد, وقد يكون في أكثر من موضع.
3- المرسل: هو حديث التابعي إذا قال: قال رسول الله أو كلمة نحوها دون أن يذكر الصحابي الذي رواه له, وأطلق بعض أهل العلم المرسل على ما سقط من إسناده رجل من أي موضع كان.
4- المتروك: هو الذي يرويه من يُتهم بالكذب, ولا يعرف ذلك الحديث إلا من جهته, ويكون مخالفاً للقواعد العامة.
5- المعلق: ما حُذف من مبتدأ إسناده راو واحد فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد.
6- المعضل: ما سقط من وسط إسناده اثنان فأكثر على التوالي.
7- المعلول: هو الحديث الذي اطُلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر سلامته منها.
8- الموضوع: هو المكذوب على رسول الله صلى الله عليه و سلم، وتحرُم روايته مع العلم بحاله إلا للبيان والتحذير.
مخطوطة لكتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام من القرن الرابع الهجري
وهناك أنواع مشتركة بين الصحيح والحسن والضعيف، وهي: 1- المسند: هو ما اتصل إسناده إلى رسول الله.
2- المتصل: هو الخالي من الإرسال والانقطاع, ويشمل المرفوع إلى النبي والموقوف على الصحابي، فعليه يكون المتصل هو الذي سمعه كل راوٍ من الذي قبله, ويشمل المرفوعَ إلى رسول الله والموقوفَ على الصحابي.
3- الغريب: هو الذي تفرد به راويه، سواء تفرد به عن إمام يُجمع حديثه أو عن راو غير إمام.
ويجدر بالذكر أن نقد أي حديث لا يعني بالضرورة ترك العمل به والاستفادة منه، فالحكم على حديث بأنه ضعيف لا يعني بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، ومخالفة حديث ما لآية قرآنية في الظاهر لا يوجب الحكم بضعفه أو كذبه، كما أن الحكم بصحة حديث ما لا يوجب العمل بظاهره كما هو، فاستخراج الحكم من الحديث مهمة الفقيه لا المحدث، فقد يترك الفقيه الأخذ بحديث لترجيحه حديثا آخر أو لتخصيصه أو تقييده بحديث أو آية من القرآن، ولا يلزم من ذلك أن يُحكم على الحديث بالضعف أو يُتهم الراوي بالكذب، وقد ذكر ابن حزم في كتابه “مراتب الديانة” أنه أحصى الأحاديث التي رواها الإمام مالك بن أنس في كتابه “الموطأ” ويقول “فيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسُه العمل بها”. وسنفصل في مقال “الشريعة الإسلامية” بعض أصول الفقه وقواعد التشريع التي يستخدمها الفقيه في استنباط الأحكام وترجيحها من نصوص القرآن والسنة.
كتب الحديث وأنواعها كان لكل إمام من أئمة الحديث منهج في كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من اشترط أن تكون الأحاديث التي سيدونها صحيحة، كالإمام البخاري والإمام مسلم والإمام ابن خزيمة.
ومنهم من جمع الصحيح والقريب منه (نسميه الحسن)، ولكنه لم يتشدد كثيراً في قضية الضبط، فاشتمل كتابه على الأحاديث الصحيحة والحسنة وقليل من الضعيف المقبول، وفيما يلي تعريف بأهم أنواع هذه الكتب:
1- كتب الجوامع: هي الكتب التي رتبت فيها الأحاديث في ثمانية أبواب أساسية، وهي العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والتفسير والفضائل والأطعمة والأشربة، سواء التزم أصحابها بالصحة أم لم يلتزموا، فهي إذن تشتمل على كل ما يتعلق بالدين من العقيدة والفقه والتفسير، وتقتصر على الأحاديث النبوية دون آثار الصحابة والتابعين: ومن أمثلة هذه الكتب:
الجامع الصحيح للإمام البخاري (ت 256هـ): التزم فيه الصحة، وهو أصح كتاب بعد القرآن الكريم، وسيأتي الحديث عنه مفصلا إن شاء الله.
الجامع الصحيح للإمام مسلم (ت261هـ): التزم فيه الصحة، ولكن شروط التصحيح عنده أخف من شروط البخاري، فهو في المرتبة الثانية بعد كتاب البخاري.
الجامع الصحيح للإمام الترمذي (ت 279هـ): لم يلتزم فيه بالصحة.
الجامع الصحيح للإمام ابن خزيمة (ت 311هـ): التزم فيه الصحة، ولكن شروطه في التصحيح غير شروط الشيخين البخاري ومسلم.
2- كتب السنن: هي الكتب التي رتبت الأحاديث على أبواب الفقه، فتبدأ الأحاديث فيها بكتاب الطهارة، ثم كتب الصلاة والصوم والزكاة والحج والنكاح، وهكذا. ومن أشهرها:
سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ): جمع في كتابه الصحيح والحسن، ولم يورد الضعيف إلا قليلا.
سنن النسائي للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ): فيه الصحيح والحسن والضعيف المقبول.
سنن ابن ماجة للإمام محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (ت273هـ): فيه الصحيح والحسن والضعيف وبعض الضعيف المردود.
ويطلق على صحيحي البخاري ومسلم مع السنن الأربعة تعبير “الكتب الستة”، وهذه الكتب لها مكانة خاصة في الاحتجاج الفقهي والتشريعي.
3- كتب المسانيد: هي الكتب الحديثية التي جمع أصحابها أحاديث كل صحابي على حدة، ومن أشهرها:
مسند الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ، ويعد من أضخم كتب الحديث.
مسند الحميدي (أبي بكر عبدالله بن الزبير الحميدي) المتوفى سنة 219هـ.
مسند الطيالسي (أبي داود بن سليمان بن داود الطيالسي) المتوفى سنة 204هـ.
مسند أبي يعلي المصولي (أحمد بن علي المثنى الموصلي) المتوفى سنة 307هـ.
مسند عبد بن حميد المتوفى سنة 249هـ.
4- المصنفات: هي الكتب التي رتبها أصحابها على أبواب الفقه، واشتملت على الأحاديث المرفوعة (الأحاديث المضافة إلى النبي) والموقوفة (الأحاديث المضافة إلى الصحابة) والمقطوعة (الأحاديث المضافة إلى التابعين)، فهي لم تقتصر على الأحاديث النبوية بل ذكرت أقوال الصحابة وفتاوى التابعين وتابعي التابعين، ومن أشهر المصنفات:
المصنف لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى 211هـ.
المصنف لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى 235هـ.
المصنف لبقي بن مخلد القرطبي المتوفى 276هـ.
المصنف لأبي سفيان وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى 196هـ.
المصنف لأبي سلمة حماد بن سلمة البصري المتوفى 167هـ.
5- إلى جانب الكتب السابقة، اعتنى العلماء أيضا بجمع الكتب الضعيفة والموضوعة وتصنيفها في كتب مستقلة، مثل كتاب “الأباطيل” للجورقاني، و”الموضوعات” لابن الجوزي، و”اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة” للسيوطي.
نماذج لأهم علماء الحديث ومؤلفاتهم
الإمام أحمد ومسنده ولد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على الأرجح سنة 164هـ، ونشأ في بغداد، بدأ بطلب الحديث في سن مبكرة فرحل إلى البصرة والكوفة واليمن، كما رحل إلى الحجاز خمس مرات، أولاها سنة 187هـ حيث التقى بالشافعي واستفاد منه كثيرا، واستمر جِدُّه في طلب الحديث وروايته حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة، فيقال إن رجلا رآه وهو يحمل المحبرة لكتابة الحديث فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين! فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.
تعرض ابن حنبل لمحنة عظيمة عندما أكره الخليفة العباسي المأمون الفقهاء والمحدثين على القول برأي المعتزلة في قضية خلق القرآن، فحُبس وضُرب وأوشك على الموت. وتوالى على تعذيبه من بعد المأمون كل من المعتصم والواثق، ثم أفرج عنه المتوكل وأكرمه، وبلغت شهرته في الصمود والتضحية الآفاق، حتى يقال إن نحو من مائة من بيت الخلافة حضروا غسله يوم وفاته، أما عدد الذين شيعوه فاختلف في تقديره المؤرخون، حيث روى البيهقي أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف (مليون وثلاثمئة ألف)، بينما قال ابن أبي حاتم أن المتوكل أمر بمسح الموضع الذي وقف الناس فيه عندما صلوا على ابن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف (مليونين ونصف)، حتى قال الوركاني إن عشرين ألفا من غير المسلمين أسلموا في ذاك المشهد الرهيب.
ويعد مسند أحمد من أشهر كتب الحديث وأوسعها، ففيه الكثير من الأحاديث الصحيحة التي لا توجد في الصحيحين، وقد جعله مرتباً على أسماء الصحابة من الرواة، وبلغ عدد أحاديثه أربعين ألفاً تقريباً، تكرر منها عشرة آلاف حديث، ومن أحاديثه ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد (أي بين راويها وبين النبي ثلاثة رواة فقط).
الإمام مسلم وصحيحه هو الإمام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم، وُلِد بنيسابور سنة 206هـ، ونشأ في بيت تقوى وصلاح وعلم، فقد كان والده من محبي العلم، وقد بدأ الإمام مسلم رحلته في طلب العلم مبكرًا.
يعد صحيح مسلم من أهم كتب الحديث الجامعة للصحيح فقط، حيث اقتصر مؤلّفه على ما صحّ من الحديث وترك كلّ ما كان في إسناده ضعف أو وهن، وافتتح صحيحه بمقدمة ذكر فيها سبب تأليفه الكتاب، ومنهجه العلمي الذي سار عليه، ثم بيّن بعض الأمور المتعلقة بالحديث.
جمع مسلم في صحيحه روايات الحديث الواحد في مكان واحد وفق الموضوعات الفقهية، وذلك لإبراز الفوائد الإسنادية في كتابه؛ فكان يروي الحديث في أنسب المواضع له، ويجمع طرقه وأسانيده في ذلك الموضع، بخلاف البخاري الذي كان يفرق الروايات في مواضع مختلفة، وتلك ميزة لصحيح مسلم، ما يجعل كتابه أسهل تناولا بحيث يجد القارئ طرق الحديث ومتونه جميعها في موضع واحد.
الإمام البخاري وصحيحه هو محمد بن إسماعيل البخاري، ولد في مدينة بخارى 194هـ، ونشأ يتيما فربّته أمه على الأخلاق وطلب العلم، فبعد أن أتم حفظ القرآن التحق بحلقات المحدثين، وظهرت بوادر نبوغه المبكر فكان يصحِّح للشيخ خطأه في الإسناد وهو ابن إحدى عشرة سنة.
سئل البخاري: كيف كان بدء أمرك؟ فقال: أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقيل: كم كان سِنك؟ قال: عشر سنين أو أقل، فلما طعنتُ في ست عشرة سنة كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها، وتخلَّفتُ (أي بقيت) في طلب الحديث.
وقال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يوما بعد ستة عشر يوما: إنكما قد أكثرتما عليَّ وألححتما فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نُحْكِم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرا وأضيِّع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.
وفي سن الثامنة عشرة، بلغ البخاري درجة العلماء وبدأ بتصنيف الكتب التي يقوم بدراستها اليوم الباحثون لنيل درجات الدكتوراه.
ذكر المؤرخون أنه دخل بغداد وكان أئمة الحديث فيها يسمعون عن قوة حفظه، فأرادوا امتحانه، فجاء إليه عشرة من حفَّاظهم مع كل واحد منهم عشرة أحاديث خلطوا أسانيدها، فقرأوها على البخاري حديثًا حديثًا، وهو يقول: لا أعرف هذا الحديث؛ حتى أنهوا المائة حديث، ثم أعاد عليهم المائة حديث بخطئهم (أي حفظها بالخطأ لمجرد سماعها مرة واحدة) وأعادها مرة أخرى مصحَّحة؛ فأقرّوا له بالحفظ والفضل [وفيات الأعيان: 4/190].
ومما قيل أيضا عن سرعة حفظه وقوة ذاكرته أنه كان يطّلع على الكتاب فيحفظه من نظرة واحدة [سير أعلام النبلاء: 12/416]، كما كان عجيبا في حرصه على العلم حتى قال محمد بن يوسف “كنتُ مع البخاري بمنزله ذات ليلة، فأحصيتُ عليه أنه قام وأسرج (أي أضاء السراج ليكتب)؛ يستذكر أشياء يعلِّقها في ليلة ثماني عشرة مرة” [تهذيب الكمال: 3/1170].
وعندما اجتمعت الذاكرة العجيبة مع الانضباط الشديد بالمنهج العلمي والجلَد في الارتحال لطلب الحديث، كانت الثمرة بظهور أهم كتب الحديث وأصحها المعنون بـ”الجامع الصحيح المختصر من سنن رسول الله وأيامه”، فلم يقتصر جهد البخاري في صحيحه على جمع الأحاديث الصحيحة وتمحيصها، بل برع أيضاً في إبراز فقه الحديث واستنباط الفوائد منه.
ويبلغ عدد أحاديثه مع المكررات 7275 حديثًا، وبحذْف المكررات ينخفض العدد إلى أربعة آلاف حديث صحيح. وقد قال الإمام النّووي “اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز الصّحيحان: البخاري ومسلم، وتلقَّتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صحَّ أن مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث”.
ولم يبلغ كتاب البخاري هذه المنزلة عند العلماء والنقاد إلا لحرص مؤلفه الشديد، حيث اشترط البخاري شروطا دقيقة أثناء اختياره الأحاديث، فعلى الرغم من حفظه لعشرات الآلاف من الأحاديث لم يصحح منها إلا أربعة آلاف كما ذكرنا.
وإذا أردنا تبسيط شروطه قلنا إنه اشترط أن يكون الراوي الذي يروي الحديث قد حاز أعلى درجات الحفظ والإتقان وسمع الحديث من شيخه مباشرة، فكان شديدا في التحقق من اتصال السند وسماع الرواي من شيخه.
قال إمام الحرمين الجويني: “لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولا حنثته، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما” [صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح، ص 86].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن” [مجموع الفتاوى: 18/74].
ومن شدة حرصه، قال البخاري إنه بعد انتهائه من دراسة كل حديث على حدة للتحقق من موافقته للشروط، كان يغتسل ويستخير الله ويصلي ركعتين قبل إضافته للكتاب، وعندما أنهى هذه المهمة الجبارة قال “صنَّفت الجامع من ستمائة ألف حديث، في ست عشرة سنة، وجعلته حُجَّة فيما بيني وبين الله” [مقدمة فتح الباري، ص513].
ونظرا للأهمية الاستثنائية التي يتمتع بها كتاب البخاري في المكتبة الإسلامية، فقد تعرض أكثر من غيره للنقد من قبل الإسلاميين وخصومهم على حد سواء، فأجمع الفريق الأول على منحه المرتبة التي يستحقها لما يتمتع به من المصداقية والالتزام بشروط الصحة والضبط، بينما تتردد منذ القرن الماضي شبهات كثيرة على يد المستشرقين وغيرهم بشأن صحة أحاديث هذا الكتاب، وفيما يلي إيجاز لأهم هذه الشبهات ومناقشة سريعة لها:
الطفل جهاد المالكي لم يمنعه فقد البصر من حفظ القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن الأربعة وكتبا أخرى كاملة.
1- يقال إن البخاري عندما جمع أحاديث كتابه لم تكن أصوله (مراجعه) متوفرة بين يديه، ما يشكك في صحة ألفاظه، لكن المؤرخين الذين وثقوا سيرة البخاري أجمعوا -كما ذكرنا- على نبوغ وعبقرية هذا الرجل وقدرته الاستثنائية في الحفظ وقوة الذاكرة، وهذه الموهبة على ندرتها ليست مستحيلة، فقد كان أئمة آخرون مثل الشافعي وابن تيمية يتمتعون بمثل هذه الموهبة، بل نجد مثيلا لها في عباقرة معاصرين يمتلكون قدرة عجيبة على الحفظ والتذكر بالرغم من حداثة السن، وربما أيضا كانوا من فاقدي البصر، كما يتمتع البعض بما يسمى بالذاكرة الفوتوغرافية التي تمكنهم من تذكر أدق التفاصيل بنظرة واحدة.
يعد الشاب البريطاني ستيفن ويلتشير من أشهر العباقرة المعاصرين الذين يتمتعون بالذاكرة الفوتوغرافية، حيث يمكنه أن يحفظ تفاصيل أي شيء ينظر إليه من مرة واحدة، فعلى سبيل المثال تمكن من رسم لوحة مفصلة لأربعة أميال مربعة من مدينة لندن، بكل ما فيها من تفاصيل المباني وحتى عدد نوافذها وطوابقها، وذلك بعد رحلة بطائرة مروحية واحدة فوق تلك المدينة.
2- يستشهد بعض النقاد اليوم بالنقد الذي سبق أن طرحه بعض أئمة الحديث لصحيح البخاري، مثل الدارقطني في كتابه “الإلزام والتتبع”، كما ضعّف الشيخ الألباني في عصرنا الحديث بعض أحاديث البخاري، لكن اتفاق معظم الأئمة في مختلف العصور على صحة الكتاب لم يكن نابعاً من تقديس لشخص البخاري، بل نتيجة لتمحيص كتابه وإعادة التدقيق في كل ما جمعه ورواه، وقد أجاب الإمام ابن حجر في مقدمة “فتح الباري” عن الأحاديث التي تعرضت للنقد وبيّن صوابية تصحيح الإمام البخاري لها.
وجميع الانتقادات الموجهة لصحيح البخاري تتعلق بالأسانيد ورسومها أو ببلوغ درجة أصح الصحيح، أو تتعلق بكلمة أو كلمتين من الحديث، وهي لا تتجاوز العشرات من بين أكثر من سبعة آلاف حديث، أما الانتقادات المتعلقة بأمور تؤثر في صحة المتن فلا تتجاوز الثلاثة أحاديث.
3- ينتقد البعض اعتماد البخاري على رواة لم يحققوا شروط الصحة المطلوبة، لكن ضعف راوٍ ما لا يعني بالضرورة أن كل أحاديثه ضعيفة بالمطلق، بل قد يكون فيها ما يصح إذا حقق شروط الصحة، فقد كان البخاري ينتقي من أحاديث الرواة الضعفاء ما كان قويا ويورد له شواهد من رواة آخرين ليرتفع إلى درجة الصحيح.
4- يروّج مستشرقون وباحثون معاصرون فكرة وجود بعض الأحاديث التي تخالف العقل في صحيح البخاري، لكن فهم سياق تلك الأحاديث أو حملها على محمل المجاز قد يرفع عنها صفة التعارض مع العقل، لا سيما وأن العرب اشتهروا بالمجاز وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أفصح العرب.
أهم المراجع جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق عزت علي عطية وموسى محمد علي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1980م.
عبد العظيم المطعني، الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية، مكتبة وهبة، القاهرة، 1999م.
أحمد عمر هاشم، دفاع عن الحديث النبوي، مكتبة وهبة، القاهرة، 2000م، ط1.
محمد محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة، مكتبة السنة، القاهرة، 2007م، ط2.
جمال الدين القاسمي، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، دار العقيدة، القاهرة، 2008م.
مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، دار السلام، مصر، 2006م، ط3.
نور الدين عتر، السنة المطهرة والتحديات، دار المكتبي، سوريا، 1999م.