مقالات

انتكاس الفطرة ومتطلبات العصر

خلق الله هذا الكون وجعل له قوانين وسنن تحكمه، وكذلك خلق الإنسان واستخلفه في الأرض، وفطرَ فيه ضروريات عقلية وأصول أخلاقية ينطلق منها، ويتمحور حولها، ويتعامل على ضوئها، فتكون مُميِّزة له، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) [ رواه البخاري ومسلم]، فالمآل الطبيعي لهذه الفطرة -طالما لم تشُبْها ملوثات- هو التسليم والتوجه لله رب العالمين، قال الله عزّ وجل {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] أي فسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الذي شرعه اللّه لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك اللّه لها، وكملها لك غاية الكمال، ولازم فطرتك السليمة التي فطر اللّه الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره. وقوله تعالى: {لا تبديل لخلق اللّه} قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق اللّه، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم التي فطرهم اللّه عليها، فيكون خبراً بمعنى الطلب، كقوله تعالى: { ومن دخله كان آمناً} [آل عمران: 97] وهو معنى حسن صحيح، وقال آخرون هو خبر على بابه، ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة، ولا تفاوت بين الناس في ذلك، ولهذا قال ابن عباس { لا تبديل لخلق اللّه} أي لدين اللّه.[ تفسير ابن كثير]، قال قتادة قوله “صبغةَ الله ومن أحسن من الله صبغة ” إنّ اليهود تصبغ أبناءها يهودَ، والنصارى تَصبغ أبناءَها نصارَى، وأن صبغة الله الإسلامُ، فلا صبغة أحسنُ من الإسلام، ولا أطهر، وهو دين الله بعث به نُوحًا والأنبياء بعده.

الولادة على الفطرة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وإذا قيل: إنه وُلد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفًا ونحو ذلك. فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده. فإن الله تعالى يقول: {وَاللهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمهاتِكم لا تَعلَمُون شيئًا} [النحل: 78]. ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته. فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئًا بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض”.

وهذا المُعارِض هو ما يطرأ على الفطرة ويشوهها ويجعلها تنحرف عن سويتها وتنتكس، فعن عياض بن حمار المجاشعي -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ذات يوم في خطبته {ألَا إن ربي أمرني أن أُعَلِّمَكم ما جَهِلتم، ممَّا علَّمني يومي هذا، كلُّ مالٍ نَحَلتُه عبدًا حلال، وإني خلقتُ عبادي حُنَفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانا… }[ رواه مسلم].

تباين الانتكاس الفطري عبر الأزمنة

وصور هذا الانتكاس الفطري تتباين بتباين العصر والظروف البيئية المحيطة بالإنسان، فانتكاس الإنسان في عصر الجاهلية مثلًا كان انتكاسًا غير متشابك أو معقد، فبساطة البيئة والمدخلات التي تأثر بها أدت إلى انتكاس فطري مركزي مباشر، مثل الانتكاس في توحيد الله عز وجل، فالتوحيد ضرورة فطرية أصيلة في الإنسان، والشرك انتكاس مباشر لهذه الضرورة.

أما في عصرنا فالمدخلات كثيرة ومتشعبة، والمجتمعات مفتوحة على ثقافات وأفكار مختلفة، والإنسان واقع تحت تأثير حضارة العمران والتمدين، فتجد مردود ذلك على الفطرة متطابقًا له في تشابكه وتشعبه، ففي المجتمعات الغربية تجد تشوهًا صارخًا في الفطرة، أمّا في المجتمعات الإسلامية تجد مظاهر كثيرة تنم عن انتكاس وتشوه فطري لم تصل غالبها بشكل مباشر إلى الأصل، لكنها مركبة، وبرز حولها الكثير من السجالات، لذا نقول: إن انتكاس الفطرة -بالصورة الموجودة في هذا العصر- أدى إلى نشوء متطلبات جديدة لسد الفجوة الظاهرة بسبب هذا الانتكاس والموازنة أو بمعنى أدق محاولة الموازنة لسد هذه الفجوة والتظاهر بالسوية، وتتزايد هذه المطالبات يوميًا ويُبتدع ويُتفنن في تطويرها، وبسبب السياسات الرأسمالية لا تُقام محاولات جادة لإصلاح أصل المشكلة، وضرب د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي -في سلسلة الحياة على كوكب الوهم- مثالًا يصف تلك الحالة، فذكر أن هناك مدينة بها مصنع للوجبات السريعة، وهذا النوع من الطعام مليء بالدهون الضارة التي تؤدي إلى الكثير من أمراض القلب والأوعية الدموية، فبدلًا من إغلاق هذا المصنع وتخليص الناس من آثاره، تم بناء مصنع دواء ينتج أدوية لتوسيع الأوعية الدموية وتقليل نسبة الدهون في الجسم، ثم وجدوا أن لهذه الأدوية آثار جانبية، فأقاموا الأبحاث و دشنوا المزيد من المصانع لتصنيع أدوية جديدة تعالج الآثار الجانبية للأدوية الأولى، وهكذا دواليك، فالإنسان المقيم في هذه المدينة يدفع مرة أمواله لشراء وجبة سريعة، ومرات لأجل الدواء الذي يعالج نتيجتها، وعجلة الرأسمالية تدور بشكل جيد، والمصانع تفتح، والأبحاث تتجدد.

وعند النظر لكثير من قضايا المجتمع الراهنة تجدها تصب في ذات المسار، أي عند تفكيك هذه القضايا ستجدها في الأصل رد فعل نتج عن تشويه جزئي لجانب من جوانب الفطرة الإنسانية، سأذكر بعض صور هذا الانتكاس الفطري الراهن في المجتمعات الإسلامية.

العلاقة بين الرجل والمرأة

خلق الله الرجل والمرأة وجعل في كلٍ منهما اختلافات على المستوى النفسي والحيوي والوظيفي، وسنة الكون في انجذاب المختلفَين وتنافر المتشابهَين انطبقت أيضًا على الجنس البشري، فينجذب كلًا منهما للآخر حتى تكتمل دائرة الحياة، ولتحقيق غايات عظمى فيها متمخضة من رحم الغايات العظمى التي خُلِق الإنسان لأجلها.

هذا الرباط المقدس السامي تعرَّض لتشوهات على أصعدة كثيرة بسبب إرهاصات ما بعد الحداثة التي غزت مجتمعاتنا الإسلامية ووجدت بيئة خصبة من أمراض اجتماعية كانت فيه، فدعوات التيار النسوي بدأت تنخر في هذا الرباط، وتحاول جاهدة مسخ الأنثى وطمس الهوية بينها وبين الذكر، وتشويه فطرتها الأنثوية التي تنتعش في نسيج هذا الرباط المقدس، فبدأت المتأثرات بالنسوية يتمردن على حياتهن، ومن دورهن الأسمى في تنشئة أجيال صالحة وسوية، وبدأت تتعامل مع منظومة الزواج على أنها تقليل وتنقيص منها، يقول بيجوفيتش “سيظل غير واضح كيف استطاع أولئك الذين دعوا إلى تحرير المرأة بأي ثمن الحفاظ على تلك الأكذوبة الكبرى بأن عمل المرأة في المصانع أكثر إبداعًا وأقل مللًا من عملها في البيت، لذلك كان يصدق بعضهم بأن تربية أطفال أناس آخرين مجال إبداع المرأة مثل عمل المدرسات والمربيات، بينما تربيتها لأطفالها هي عمل دنيء وهامشي ضمن أعمال البيت المملة وغير المناسبة”[عوائق النهضة الإسلامية].

وعلى الجانب الآخر كردّ فعلٍ للنسوية بدأت تعلو دعوات الذكورية، وامتهان الأنثى، ونزع حقوقها الشرعية والإنسانية، مما أدى إلى نشوء صراع وتصادم حقيقي بين الجنسين في المجتمع على تفاوته، وأصبح هناك حالة عامة من التشاحن والتوجس بين الذكر والأنثى، ومع الانحدار الأخلاقي والديني في المجتمع، ازداد الوضع سوءًا بسبب الممارسات الندية اللاأخلاقية التي يمارسها الطرفان، والتي يسلط الإعلام الضوء عليها كثيرًا ليروج لفكرة عدم “التقيد” بإطار الزواج، ويمكن أن يعيش الذكر والأنثى معًا حياة غير مسؤولة وسط شعارات معسولة، مشددًا على خوفه من وقوع مآلات الزواج!

يقول بيجوفيتش: “المرأة ليست أعلى ولا أدنى، لأنها -بكل بساطة مختلفة عن الرجل، لذلك تسقط المقارنة، ومن ثم يسقط تحديد الأعلى أو الأدنى. لا معنى لسؤال: أيهما أهم: القلب أم الرئة؟ لأن كلا من العضوين لا يمكن أن يقوم بوظيفة الآخر، بل إن الاختلاف بينهما يعطي قيمة خاصة لأحدهما بالنسبة للآخر”[عوائق النهضة الإسلامية]، والحق أن هذا تشبيه بديع حتى في مآلاته، فالأنثى كالقلب، لو حاولت التشبه بالذكر (الرئة)، وتضخمت في حجمها لتتساوى معه وتأخذ حيز كحيزه، لحصل مرض فشل القلب الاحتشائي، وضعف نبض القلب وضخ الدم، وفقد وظيفته شيئًا فشيئًا مما يؤدي إلى الوفاة، ولو أرادت الرئة أخذ دور القلب، فصغرت ونبضت كنبضه، لأصيبت بضمور وانعدمت وظيفة حويصلاتها الهوائية، مما يؤدي إلى فقدان الوظيفة والوفاة أيضًا.

لذا كلًا من الذكر والأنثى مكملين ومؤنسين لبعضهما البعض، ويجب أن يؤدي كلٌ منهما وظيفته تامة لا من باب الحقوق والواجبات المجردة وحدّ العدل، وإنما بالمودة والرحمة والفضل، والتطلع لتحقيق الغاية العظمى من خلق الحياة وخلقهما وهي تحقيق العبودية لله عزّ وجل، فيعملان جاهدَين لإنجاح هذا البيت المسلم لتتحقق هذه الغاية، ويخرج أجيال قادرة على تحقيق العبودية لرب العالمين.

دورات تأهيل الزواج

بسبب المؤثرات المُفسدة التي طرأت على المجتمع الإسلامي _كما ذكرنا آنفًا_ اتجه الكثير من المصلحين لتدشين دورات تعيد التوازن الصحيح في منظومة الزواج، وهذا أمرٌ حسن بل مهم جدًا لو حُمِل على محمله دون إفراط أو تفريط، ولكن بعض هذه الدورات أخذت مسار ذا مرجعية علمانية، بعيدة عن المظلة الشرعية ورؤيتها للزواج، فبعضها تناول الموضوع كأن الذكر والأنثى كائنان فضائيان من كوكبين مختلفين، ولغتهما مختلفة، وبالغوا في سبر أغوار هذه الفكرة، فنتيجته كانت عكسية، فهذه الدورات تُقام في الأصل للترغيب في الزواج مع تحصيل الوعي الكافي لإنجاحه، أما نتيجة هذا الخطاب هو شعور بالمزيد من القلق والتوجس لدى الطرفين، حيث أنه يشعر أنه مُقدِم على أمر شديد الغموض والتعامل معه يكون على شفا جرف هار، وشبح الانهيار قائم، والحق أن بالفعل هناك اختلافات بينهما كما ذُكِر من قبل، ولكن اختلافات يمكن فهمها واحتوائها بل والإحسان فيها، والتعامل بين الذكر والأنثى ليس منعدمًا قبل الزواج، فكلٌ منهما كان يعيش في مجتمع احتك فيه بالطرف الآخر حتى لو في محيط أسرته، فالأخ يتعامل مع أخته وكذلك الأخت مع أخيها، والأم مع ابنها، والبنت مع أبيها، نعم هناك اختلاف في نسق الحياة والمسؤوليات في منظومة الزواج، ولكن الطبيعة البشرية هي صِبغة الطرفين مع اختلافات مُستَدرَكة ببعض المعرفة عنه، فلا داعي لكل هذه التنظيرات التي تُفسد من حيث أرادت الإصلاح.

الموضة

كانت غالب النساء تكتفي بما عندها من ثياب لأنها بحالة جيدة، والمعروض في الأسواق لا يختلف عما تمتلك، فالشراء لن يُحدِث فرقًا في خزانة ملابسها إلا من تحب التباهي بالكثرة وهذا ليس الأصل، وبعد ظهور الرأسمالية اتجهت مصانع الملابس إلى تطوير الأزياء والألوان بشكل مستمر، لإشعار السيدات أن ما عندهن لا يصلح أكثر من ذلك، وبدأوا بصناعة ملابس لا تحتوي على جيوب لتضطر المرأة إلى شراء حقيبة، ثم تُقحَم الحقيبة في عجلة الرأسمالية المُغلفة بغلاف الموضة والتحضر، ومع ورود هذه الأفكار من ثقافة غالبة تتسارع الكثيرات لتلبيتها، مما يجعلهن في حالة مستمرة من الطلب والشراء، ثم من جهة أخرى يعمل الإعلام على تشويه صورة المرأة المحجبة بحجاب شرعي ولا تضع مستحضرات التجميل خارج بيتها، فيشحذ النساء تجاه المزيد من الشراء لئلا يوصمن بهذا الوصم، ثم يتفننوا في عرض هذا السفور في كل مكان ليفسدوا الرجال، ويقنعوا نساءهم أنهن في صراع مع كل هؤلاء النسوة _ اللواتي دُفِع عليهن الآلاف ليظهرن بهذا المظهر الذي لا يوجد في الواقع أصلًا_ فتهرول المسكينة لصرف المزيد والمزيد، حتى لا يزيغ زوجها، وربما تضر بصحتها وتقوم بعمل عمليات تجميل في محاولة لتحقيق هذا “النموذج المثالي الأنثوي” وهي لا تعلم أنها تحقق “النموذج المثالي الرأسمالي”.

 فرفقًا بأنفسكن، يكفيكِ للخروج الثياب التي ترضي ربك، يكفي أن تكون نظيفة ومهندمة، نعم ضروري أن تعرفي كيف تتزينين في بيتك، ولكن هذا لا يعني صرف مبالغ طائلة على هذا الأمر، اخرجن من هذه الدوامة حتى تذقن لذة الحياة.

الإعلام والحرب على الفطرة!

هي الفطرة، نور يشترك فيه كل من خصّه الله بأن يكون خليفة على هذه الأرض، فمنهم مصلح ومنهم ظالم لنفسه مبين، تلك الفطرة التي صبغت طباع الناس وتصرفاتهم، وحملت المؤمن على إيثار كل ما يُحمد فعله من صدق وأمانة وحب الفضائل، وجعلته يمقت كل قبيح مذموم الاتصاف به من كذب وخيانة وجور وغش.

أنوار شعَّت

هي أنوار متجذرة في كل نفس، بل في كل مولود يجيء إلى دنيا البشر كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء) [أخرجه الشيخان في صحيحيهما]، والفطرة هنا كما أشار جملة من المحدثين والمفسرين يقصَد بها الدين.

وبالرجوع إلى أصل كلمة الدين عند العرب، فإننا نجدها تشير إلى العلاقة بين طرفين يعظم أحدهما على الآخر؛ فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعًا وانقيادًا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرًا وسلطانًا! [الدين، نشأته، والحاجة إليه، أحمد عبد الرحيم السايح] وبالتالي يكون الرباط الجامع بينهما هو: الدستور المنظم لتلك العلاقة.

الدين كما يرى الأستاذ عبد الكريم خطيب هو: صلة شخصية روحية بين الإنسان والإله، وبين السيد وربه، بل إن كثيرًا من العلماء غير الإسلاميين -مثل سيسرون- يرون أن الدين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله، ويعرف شلاير ماخر الدين بأن “قوام حقيقته، شعورنا بالحاجة والتبعيّة المطلقة”، وهذا مهمٌّ للغاية، فطبيعة الإنسان فيها استعداد فطري لمعرفة الله، وهذه الفطرة مستأصلة في الإنسان و موجودة منذ الأزل في أعماق روحه.[د.سامي عفيفي، العلاقة بين العقيدة والأخلاق في الإسلام].

الوحي والفطرة

مهما نأى الإنسان عن منهج الله، فلن يتمكّن من تبديل فطرته -دون تدخّل خارجي- فالله جل وعلا أودع فيها الالتجاء إليه، فهي فطرة تجعله عاجزًا عن الوقوف وحيدًا في هذا العالم دون الاعتقاد بوجود قوة أو ذات أكبر منه، قائمة على أمره، مدبرة لتفاصيل حياته وشؤونه دقيقها وجليلها، حتى إن تظاهر بالقدرة على الصمود فالخلوة فاضحة كاشفة لأمره!

إنّ الفطرة السليمة –إذًا- هي التي  تقر بأن للإنسان والوجود كلّه خالقًا، وأنّ خالق هذه الفطرة جلّ وعلا هو مُنزِل الشريعة، فكلاهما من صنع الله، وكلاهما متناسق مع ناموس الوجود، موافق للآخر في طبيعته واتجاهه. بحيث تلقى النصوص القرآنية والتشريعات المتضمنة فيها صداها في وجدان البني آدم؛ إذ إنّ الشرع يخاطب فطرة الفرد.

لم يكِل الله تعالى الإنسان إلى فطرته وحدها للتعرف عليه وأداء واجبه تجاهه، لما قد يعتريها من ضعف وتقلّبات، ولما فيها من ميل لمتطلبات تلح على الإنسان لإشباعها بأي وسيلة كانت، ومن ثمّ فقد أرسل رسله تترا إلى البشرية مبشرين ومنذرين ليبلغوهم أوامر ربهم ونواهيه. فكان الوحي هو الحبل الموصول المتين من الباري جل وعلا الذي يوطن النفس على ما جاءت به الفطرة.

إذًا؛ فإن منظومة استجابة العبد لتعاليم ونظم الدين تتشكّل من عنصرين يؤدي الخلل في أحدهما إلى خلل بالضرورة في المنظومة برمتها؛ أولها: الفطرة، فالفطرة هنا يمكن تمثيلها بالمستقبل الحسي أو الوعاء المهيأ لاستقبال ما يملأه، أما الثانية، فالوحي الذي هو بمثابة السائل أو الزيت المناسب لحصول الاستجابة أو التفاعل –أي الإضاءة-.

وفي هذا السياق يقول د. أحمد عبد المنعم –في تصوير مرئي له– أن هذا من معاني قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]؛ فالمشكاة هنا هي الفطرة والزيت هو الوحي، فالنور الأول هو نور الفطرة، والنور الثاني هو الوحي.

وهذا يقودنا بالضرورة إلى القول بأن استنكار الشرع وعدم القدرة على استيعابه هو خلل طارئ في الفطرة وبالتالي خلل في منظومة الاستجابة ككل؛ وبالتالي فإن أي خلل في الفطرة يؤدي إلى خللٍ في القدرة على استيعاب الشريعة.

[هل تحسون فيها من جدعاء!]

إن الرجوع إلى حديث الفطرة في قوله عليه الصلاة والسلام (هل تحسون فيها من جدعاء)، يحيلنا إلى الإقرار بأن تمام سوية الفطرة مرتبطٌ بصلاح توجيهها واختيار الأرض المناسبة لتنمو شجرتها وتؤتي ثمرها الطيب؛ فالبهيمة الجمعاء هي نفسها بعد شق أذنها غَدَت جدعاء لما طرأ عليها من تغيير شوّه خِلْقتها.

والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم هنا ربط بين عقيدة الطفل الذي يولد على الفطرة، وتغير خلقة البهيمة بتشويه أذنها، والأذن كما هو معلوم هي العضو المسؤول عن السمع الذي يشكِّل بابًا لمدخلات كثيرة تحدث في النفس البشرية من التبديلات بحسب ما فيها من صلاح أو غثاء، وأولى هذه المدخلات يبزغ بين أحضان اللبنة الأولى التي يعيش فيها الطفل ويترعرع داخلها ألا وهي الأسرة، أي منشأه –بصورة عامّة- بين أبويه، فإما أن يتمّ تثبيت ما جاءت به الفطرة السليمة، وإما أن يعاد تشكيل الخطأ والصواب، والحق والباطل عنده. إذ قد تصبح جملة من الرذائل أمرًا هيِّنًا مقبولًا ومحبوبًا، كالكذب والغش والبغي وغيرها من الصفات التي كانت قبل وقت قصير مذمومة! فنجد في المحصلة أنّ الفطرة منتكسة بعدما عاثت فيها أيادٍ بغير علم ولا هدى.

توجيهُ الإعلام: ترفيهٌ أم سمّ؟

جاء في الصحيح: عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لمّا صوّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خُلِقَ خَلْقًا لا يتمالك) [أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، الرقم: 2611].

إنه إبليس، عدوّنا الأول على هذه الأرض، عدوٌّ قَطَع على نفسه وعدًا منذ بدء الخليقة بأن يجعلنا حطبًا لنار جهنم، بل إنه منذ إنشاء آدم وقبل نفخ الروح فيهكان مهمومًا بهذا المخلوق، وأشد فزعًا مِن الملائكة منه، فيمر عليه ويطوف به –كما في الحديث الصحيح آنف الذكر- فيختبر كينونته ويكتشف خصائصه، وكان يضربهُ فيصوِّتُ الجسد كما يصوت الفخَّار، يكون له صلصلة، -بحسب ما ورد في قصص الأنبياء لابن كثير-  فلما رآه أجوفَ، قال للملائكة: (لا ترهَبوا من هذا؛ فإن ربَّكم صَمَدٌ، وهذا أجوفُ، لئن سُلِّطتُ عليه لأهلكنَّه)، أي أن إبليس أضمر -منذ البداية- عدم القبول بأي أمر يكون فيه رفعة لمنزلة هذا المخلوق الجديد، وهو ما حصل بعد أن أبى السجود لآدم استكبارًا وعلوًّا في نفسه.

فأخذ يطيف به

إنها إشارة لنفي العشوائية في طُرق إبليس للتضليل، فهو يقوم بدراسة عدوه دراسةً تمكّنه من الإحاطة بمواطن الضعف، ليسهل عليه اختراقها أو منع وحجب موارد ومصادر قوته المتمثل في الوحي، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} [البقرة: 123].

لقد اختلفت طرق إبليس وتعددت وسائله في إضلال بني آدم، إلا أن همّه الأوحد هو سَلْب هذا الوحي منهم، وهو الأمر الذي وعد الله بعدم تحققه، كما في قوله عز وجلّ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}. [البروج: 21-22].

فكيف السبيل إذن لبلوغ الهدف؟

لنعد قليلًا إلى منظومة الاستجابة -الفطرة والوحي- التي أتينا على ذكرها، لنحاول ربطها بما تقدم ذكره من شق آذان البهيمة!

وأحسب أن الصورة باتت واضحة الآن، فالشيطان وجنده إذا ما عبثوا بأحد عنصري هذه المنظومة تمكّنوا من بلوغ ما يصبون إليه، فيكون الإعلام الفاسد على هذا النحو هو أنجع سبيل، بل هو أقصر السبل للإضلال ومسخ الفِطرة وتنفيذ خطة إبليس!

وبالرغم من موجات التطاول على النصوص القرآنية التي نشهدها حاليًّا، ومحاولات ليّ عنق الآيات بما يتناسب مع الأفكار الوافدة والدخيلة، إلا أنها تبقى طريق شاقة لا يسلكها إلا كل ذي عزم وهمة عالية في تطويع الوحي الصريح. والأيسر على هذا النحو إذًا يكون بتخريب المستقبلات الفطرية وتشويهها، بحيث يغدو المآل هو رفض هذا الإنسان-المشوّه الفطرة- نفسه للشرع وما جاء به!

وهو الدور الذي لم يألُ الإعلام جهدًا للوصول إليه، فتفريغ النفس من الفضيلة يجعلها تبحث عن الإشباع بشتى الطرق لسد حاجتها وجوعها، فتغدو الأنفس كأيادٍ ممدودة تنتظر من يشدُّ عليها ويملأها برغائبها. وهنا يأتي لها الإعلام بالغذاء الفاسد من كل حدب وصوب فيعيد تشكيل قيمها ومبادئها، وما هي إلا شيئًا فشيئًا حتى يحصل التطبيع مع شاذ الأعمال والصفات التي لا تقبلها الفطر السليمة، مقابل استنكار تعاليم الشرع الذي جاء به الوحي!

هي حرب بدت بوادرها حتى في أول لحظة من بعثة النبي، إذا سلك كفار قريش ومشركوها-الإعلام- ذات السبل، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].

نتفليكس نموذجًا للانحلال الفطري والعقدي

شبكة نتفليكس، التي تسوق لمنتجاتها في قالب “المحتوى الترفيهي!” في مسلسل لها لقي حظوة وشهرة كبيرة في أوساط الشباب خاصة، أي  Dark، حيث عملت على استغلاله لطمس فطرة المشاهد  وجعله ينسلخ شيئًا فشيئًا عن قيمه ومعتقداته، وبالتالي الانسلاخ عن هويته، حيث” استغلت فكرة السفر عبر الزمن لتظهر أن شذوذ النساء –أي السحاق- منتشر في المجتمع منذ خمسينات القرن الماضي، وتظهر على سبيل المثال بطلي المسلسل يبكيان لأنها لن يستطيعا الاستمرار سوية، بعد اكتشاف البطل أن حبيبته هي عمته، وأن حبهما سيتحطم بلا حول منهما ولا قوة، فلن تملك إلا التعاطف معهما ومَقتِ ما أدى لانهيار حبهما.” [من مقال: مسلسل DARK.. “هكذا خُلق العالم”!، هادي صلاحات].

أرأيتَ شدة هذه العبارة، “ومقت ما أدى لانهيار حبهما”! فههنا مربط الفرس، فأنت أيها المشاهد تحت سطوة العاطفة، والفراغ العقدي، وبالتالي فإنك ستمقت أي تشريع يفضي لنهاية تعيسة حزينة من هذا القبيل، وبالتالي مقت التشريعات الإلهية، ورفضها عن طيب خاطر منك!

فلو جئت اليوم بذات الشاب-بعد مسخ فطرته- الذي استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالزنا، وخاطبت فطرته كما فعل عليه الصلاة والسلام بأن تقول له: (أترضاه لأمك)؛ لردّ قائلًا: وأين العيب والعلة في ذلك، فالكلُّ حر فيما يفعل!.

وأنصح بمشاهدة هذا الفيديو الذي يوضح بشكل تفصيلي مدى خبث شبكة نتفليكس وإظهارها بمظهر البراءة، وهو من إعداد وتقديم الأستاذ أحمد دعدوش:

هذا وأختم قولي بما قاله ابن القيم رحمه الله: “أرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرَس فيها، فإن غرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبد، وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر مرّ”! [الفوائد، ابن القيم، ص:50]