خطورة غياب المعيارية .. تجميل البدانة مثالاً!
بحسب منظمة الصحة العالمية فإن أعداد المصابين بالبدانة تضاعفت ثلاث مرات بين عامي ١٩٧٥ و٢٠٢١.[i] ففي عام ٢٠١٦ بلغ عدد البالغين البدينين ٦٥٠ مليوناً، كما تفاقمت الأعداد بين الأطفال حيث بلغ عدد المصابين بزيادة الوزن أو البدانة ممن هم دون الخامسة ٣٩ مليوناً عام ٢٠٢٠.[ii] وبينما ردّ الفعل الملائم لتلك الأرقام المهولة يفترض أن يكون بتركيز الأنظار على الأسباب والحلول، فإننا نرى كثيراً من الجهود الاجتماعية والشعبية في السنوات الأخيرة منصبّةً على الحديث عن تقبّل جميع أشكال الجسد والافتخار بها لئلا يشعر أي فردٍ بالانزعاج أو الانحياز المجتمعي ضده بناءً على وزنه.
وإن كان الحراك في ظاهره ومقدماته لطيفاً ومقبولاً بما يعبّر به عن التراحم المجتمعي الذي لا يقصي أحداً بناءً على إشكالٍ صحي لديه، فإن تفاقمه في اليسار الليبرالي تحديداً قد وصل لأشكال متطرفة كثيرة من رفض التصنيفات الطبية والحلول التغذوية وكذلك فرض آراء معينة على الأفراد وتمجيد صورٍ من البدانة المرضية المرتبطة بالموت في سن صغيرة بوضوح.
فما قصّة هذا الحراك الإيجابي في ظاهره والمدمّر في باطنه؟ وكيف يعكس مشكلة تغييب المعيارية ومركزية الهوى المسيطرين في الغرب اليوم؟
تقبّل المرض أم تزيينه؟
إن ممّا لا شكّ فيه أنّ زيادة الوزن التي تشخّص بمؤشر كتلة جسد (BMI) أكبر أو يساوي ٢٥، والبدانة التي تشخص برقم (BMI) أكبر أو مساوٍ للـ٣٠ هي علاماتٌ طبية مرتبطة بالصحة العامة والتنبؤ بعدد من الأمراض المزمنة بما في ذلك السكّري وأمراض القلب والأوعية الدموية وأنواعٍ من السرطان، وبناءً على ذلك فإن البدانة كانت وما تزال تصنف في الكتب العلمية والأبحاث على أنها سمةٌ مرضية تحتاج للعلاج والحل بوسائل متنوعة تركز على الفرد والمجتمع والبيئة المحيطة.
هذا من الناحية العلمية المجردة، لكن النظرة للأمر لم تعد بتلك البساطة مع انطلاق حركة إيجابية الجسد body-positivity movement التي بدأت في الستينات ولاقت رواجها في آخر بضع سنوات كردٍّ على نمطية الجمال والحاجة لتنوع معاييره وقبول الأجساد ذات الأحجام المختلفة، فالحركة غيرت التوجه العام للاهتمام بالوزن من خلال تأثيرها في وسائل التواصل وعبر الرموز الشعبية ووسائل الإعلام والإعلانات التي وجدت في الأمر موضة تركبها لتروج منتجاتها.
لقد كان مما نتج عنها كثيرٌ من النماذج التي بات يجب على المشاهد أن يجد الجمال فيها برغم بدانتها الظاهرة التي اعتاد ربط المرض بها، ففي أسبوع الموضة في نيويورك عام ٢٠١٩ رأى العالم ٦٨ عارضة من ذوات القياس الكبير (plus-size models)،[iii] ومن بينهن كانت العارضة والمؤثرة المشهورة Tess Holiday بفستان تغطيه كلمةsample size (أي قياس النموذج( سخريةً من أن القياسات الكبيرة لا تكون النموذج المعروض عادة في المحلات، وقد ظهرت نماذج مشابهة في هوليوود، في ممثلات مثل كريسي ميتز وكاتي نيكسون في مسلسلات This Is Us و American Housewife.
كتبت ليزي كيرنيك في عمود في صحيفة الغارديان عام ٢٠١٨ معلقةً على الموضوع: إن مؤثري السوشيال ميديا وعارضات القياس الكبير يطبعون المجتمع مع البدانة، فيجعلون الوزن الزائد عادياً، ويشعرون الجميع بالتالي بأنه من الطبيعي أن يكونوا بدينين، بعضهم أيضاً يحول الاهتمامات الطبيعية والمنطقية للمختصين الصحيين إلى جرائم كراهية![iv]
وبذلك صارت إيجابية الجسد موضة ملائمة تماماً لتوجه ما بعد الحداثة وللفكر الليبرالي في الغرب، فباتت المجلات التي تبحث عن زيادة المبيعات والمتابعات على وسائل التواصل تضع صوراً مقصودة لبدينين مع عبارات مثل “هذا صحّي” و”هذا جميل” و”أحب نفسك” وغيرها من الشعارات، أما المختصون فقد وجدوا أنفسهم مضطرين للتعبير عن رفض الحركة -ولو بتحفظ- عبر التذكير بالأساسيات العلمية التي كان الناس يعرفونها منذ عقود، يقول الطبيب سبنسر نادولسكي المتخصص بالبدانة وعلم الدهون: إن البدانة وحدها تضع المرء في خطر إصابة بالأمراض المزمنة أعلى من غيره بغض النظر عن المؤشرات الصحية الأخرى، ويقول المدرب الشخصي جيمس سميث معلقاً على نشر صور بدينين مع عبارات جذابة: “بغض النظر عن مشاعر الشخص البدين، فلا يفترض بنا وضع عبارة “هذا صحّي” مع صورته، لأن البدانة بكل حيادية ليست أمراً صحياً، ولذا فإن تجميلها ليس سلوكاً صحيحاً ولا موجة أوافق على ركوبها”[v]
أما المختص النفسي بالكيت شارا فيقول: هناك حقائق تتم حالياً مناقشتها بالمشاعر والأحاسيس، هذا لا يعني أن على الشخص البدين أن يشعر بالخزي والعار، ولا يبرر ذلك لأحد أن يتعامل معه بطريقة مختلفة كذلك، لكن النقاش ينبغي أن يركز على الصحة لا على الشكل، ولا يمكن إنكار أنه من غير الصحي أبداً أن يكون المرء بديناً،[vi]
فوبيا كل شيء!
تقول Stephanie Yeboah صاحبة كتاب Fattily Ever After (نهاية بدينة سعيدة) أن معظم الناس يخفون رهاب البدينين الذي عندهم بصورة الاهتمام بصحة الشخص البدين والقلق عليه،[vii] وهكذا بكل بساطة أنتجت حركة إيجابية الجسد تهمةً جديدة يمكن رمي أي مخالفٍ أو ناقد بها، فبعد أن أسست لحقّ كل البشر بامتلاك جسدٍ غير صحي وطبعت المجتمع مع صورة ذلك وفرضت أنه جميلٌ عبر وسائل التواصل والإعلام والمشاهير، كانت الخطوة التالية برمي أي رافضٍ بفوبيا جديدة يناسب أن تتبع رهاب المثليين (homophobia) ورهاب المتحولين (transphobia) الذين يمثلان أول سلاح يُشهَر في وجه أي ناقد لمجتمع الميم، فهو بلا شك مريض بهذا الرهاب المزعوم، ولذا لا يملك رأيه ولا البيانات والأدلة التي يقدمها أي وزن أو قيمة.
فإيجابية الجسد لم تكتف برفض التنميط والدعوة لحب الذات والتقبل والاحترام، إنما تجاوزت الأمر لرفض المعيارية الصحية المتعلقة بالوزن وزيادته، فبات الحديث عن مشكلة الوزن الزائد أو ضرورة تحصيل وزن صحي أمراً معيباً ومرفوضا كـ”تابو” اجتماعي جديد بفعل هذه الفكرة، حتى إن الثناء على شخص فقد الوزن الزائد وبات بصحة أفضل نتيجة لذلك صار أمراً مرفوضاً وموصوما بالرهاب ذاك،[viii] وفي نقاش على التلفزيون البريطاني تحدثت عارضات القياس الكبير عن رفضهن لكلمة “بدين” حتى في السياق الطبي التشخيصي، وقلن بأنها كلمة مسيئة لا يوافقن على استخدامها معهن،[ix] وفي سياق آخر قال أحد مدوّني إيجابية الجسد أن التعامل الصحيح الذي ينبغ أن ينتجه قلقك على صحة الشخص البدين هو أن تحارب الانحياز الذي يتعرض له في عيادة الطبيب، لأن تركيز الأطباء على وزن البدين يجعله -بحسب المدون- أكثر عرضة للخطر الصحي من وزنه ذاته.[x]
فتغييب المعيارية الموجودة في الغرب لم ينحصر في التعامل مع قضايا الجندر والميول الجنسية، إنما تعداها ليشمل أي شيءٍ يتعلق برغبات الأفراد لتي باتت حاكمة وحدها، والأفراد لا يريدون الشعور بأي انزعاج ولا تضايق لأي سبب، لا يريدون أن يقال لهم أنهم في حال غير صحية، لا يريدون أن يقال لهم بأي شكل إن لسلوكهم علاقة بهذه الحال، ولا يريدون أن يشعرهم أحد بأن عليهم فعل أي شيء أو القيام بأي تغيير تجاه الأمر، ولذا فالحل الوحيد هو بتغيير نظرة المجتمع ذاته، وتبديل المصطلحات الطبية، وتأويل نتاج الأبحاث العلمية المحكمة نحو جعل الفرد ضحيةً يستحق التعاطف والدعم بدل أن يكون مسؤولاً عليه أن يتحرك ويحدث تغييراً، بينما الرأي العلمي هو ما يلخصه طبيب القلب محسن والي بقوله: باستثناء الحالات المرضية الخاصة فإن البدانة حالةٌ لا يصل المرء إليها إلا بعد فترات مستمرة طويلة من العيش بأسلوبٍ غير صحي.[xi]
في الإسلام
أما في ديننا الحنيف فالجسد الذي نتحدث عن الضلال المتعلق بالتعامل معه جزءٌ أساسي من النفس الإنسانية التي كرّم الله وخلقها منه ومن الروح معاً، ونبي الله عليه الصلاة والسلام أمرنا بإعطاء هذا الجسد حقه، ونهانا عن تكليفه ما لا يطيق حتى من الطاعات والنوافل، لأن هذا الجسد الذي بين أيدينا وإن كان فانياً نهايته التراب، فإنه الذي تسكنه الروح الخالدة، والذي لا تقوم إلا به ولا تقدر على حمل تكليفها ومسؤولياتها دونه، فنجده عليه الصلاة والسلام يقول: “مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ؛ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ؛ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ.” [أخرجه الترمذي وصحّحه الألباني] في ربط بين الطعام والصحة واهتمام بمفهوم الغذاء السليم الذي لا يثقل الجسد ولا يحرمه.
ذلك لأن لهذا الجسد حاجات، ولأنه أمانة استودعنا الله إياها، فلا هو مركز تفكيرنا واهتمامنا ولا هو خارج عن نطاق ما نعتني به، وفي ذات الوقت فإن العقلية الإسلامية تأبى الاحتكام لمعايير الجمال التي يختارها أرباب الموضة العالمية سواء كانت بالنحول المرضي أو البدانة المفرطة الذين يقعدان الجسد عن مهامه ويصيبانه بالأمراض المهلكة ويضعانه للأرض ليركن إليها ويتحول مستعبداً لشهواته وهواه إما من حب الجمال ورضا الناس أو من شهوة الطعام والكسل والراحة.
فالمؤمن عبدٌ لله وحده، مسؤولٌ أمامه عن سلوكياته وعن نطاق تأثيره ومن يرعاهم، ومن الله وحده يستمد معاييره الثابتة وقيمته وهدفه، فلا يخادع نفسه ومن حوله بتبديل المفاهيم، ولا يجتهد ليحول الخطأ صواباً ويسكن ضميره ويعيش عمره في غفلةٍ يوافقه عليها كل من حوله.
[i] Obesity and overweight, WHO, 2021.
https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/obesity-and-overweight
[ii] المصدر السابق
[iii] Jamie Feldman, More Plus-Size Models Walked At Fashion Week Than Ever, But There’s A Catch, Huffpost, 2019.
https://www.huffpost.com/entry/plus-size-models-fashion-week_l_5d938185e4b0e9e76053d5b3
[iv] Abhinav Verma, Fat acceptance and fat pride movement: Are we glorifying obesity in the name of body positivity? Hindustan Times, 2018.
[v] [v] Rachel Hosie, Health professionals are divided over whether obese people should be encouraged to lose weight or not, Insider, 2021.
https://www.insider.com/body-positivity-obesity-weight-loss-taboo-can-overweight-be-healthy-2021-1
[vi] Abhinav Verma, Fat acceptance and fat pride movement: Are we glorifying obesity in the name of body positivity? Hindustan Times, 2018.
[vii] Rachel Hosie, Health professionals are divided over whether obese people should be encouraged to lose weight or not, Insider, 2021.
https://www.insider.com/body-positivity-obesity-weight-loss-taboo-can-overweight-be-healthy-2021-1
[viii] Gabby Landsverk, Adele’s beach vacation photos have gone viral, but some say complimenting her smaller body is fat-phobic, Insider, 2020.
https://www.insider.com/adele-weight-loss-pictures-christmas-party-fat-phobic-controversy-2019-12
[ix] Is It OK to Be Fat? | Good Morning Britain
https://www.youtube.com/watch?v=qyjiveTjfy4
[x] Your Fat Friend, Weight Stigma Is a Dangerous Threat to Health, Elemental., 2019.
https://elemental.medium.com/weight-stigma-is-a-dangerous-threat-to-health-8b8f524873fa
[xi] Abhinav Verma, Fat acceptance and fat pride movement: Are we glorifying obesity in the name of body positivity? Hindustan Times, 2018.