مقالات

خطورة غياب المعيارية .. تجميل البدانة مثالاً!

بحسب منظمة الصحة العالمية فإن أعداد المصابين بالبدانة تضاعفت ثلاث مرات بين عامي ١٩٧٥ و٢٠٢١.[i] ففي عام ٢٠١٦ بلغ عدد البالغين البدينين ٦٥٠ مليوناً، كما تفاقمت الأعداد بين الأطفال حيث بلغ عدد المصابين بزيادة الوزن أو البدانة ممن هم دون الخامسة ٣٩ مليوناً عام ٢٠٢٠.[ii] وبينما ردّ الفعل الملائم لتلك الأرقام المهولة يفترض أن يكون بتركيز الأنظار على الأسباب والحلول، فإننا نرى كثيراً من الجهود الاجتماعية والشعبية في السنوات الأخيرة منصبّةً على الحديث عن تقبّل جميع أشكال الجسد والافتخار بها لئلا يشعر أي فردٍ بالانزعاج أو الانحياز المجتمعي ضده بناءً على وزنه.

وإن كان الحراك في ظاهره ومقدماته لطيفاً ومقبولاً بما يعبّر به عن التراحم المجتمعي الذي لا يقصي أحداً بناءً على إشكالٍ صحي لديه، فإن تفاقمه في اليسار الليبرالي تحديداً قد وصل لأشكال متطرفة كثيرة من رفض التصنيفات الطبية والحلول التغذوية وكذلك فرض آراء معينة على الأفراد وتمجيد صورٍ من البدانة المرضية المرتبطة بالموت في سن صغيرة بوضوح.

فما قصّة هذا الحراك الإيجابي في ظاهره والمدمّر في باطنه؟ وكيف يعكس مشكلة تغييب المعيارية ومركزية الهوى المسيطرين في الغرب اليوم؟

تقبّل المرض أم تزيينه؟

إن ممّا لا شكّ فيه أنّ زيادة الوزن التي تشخّص بمؤشر كتلة جسد (BMI) أكبر أو يساوي ٢٥، والبدانة التي تشخص برقم (BMI) أكبر أو مساوٍ للـ٣٠ هي علاماتٌ طبية مرتبطة بالصحة العامة والتنبؤ بعدد من الأمراض المزمنة بما في ذلك السكّري وأمراض القلب والأوعية الدموية وأنواعٍ من السرطان، وبناءً على ذلك فإن البدانة كانت وما تزال تصنف في الكتب العلمية والأبحاث على أنها سمةٌ مرضية تحتاج للعلاج والحل بوسائل متنوعة تركز على الفرد والمجتمع والبيئة المحيطة.

هذا من الناحية العلمية المجردة، لكن النظرة للأمر لم تعد بتلك البساطة مع انطلاق حركة إيجابية الجسد body-positivity movement التي بدأت في الستينات ولاقت رواجها في آخر بضع سنوات كردٍّ على نمطية الجمال والحاجة لتنوع معاييره وقبول الأجساد ذات الأحجام المختلفة، فالحركة غيرت التوجه العام للاهتمام بالوزن من خلال تأثيرها في وسائل التواصل وعبر الرموز الشعبية ووسائل الإعلام والإعلانات التي وجدت في الأمر موضة تركبها لتروج منتجاتها.

تجميل البدانة

لقد كان مما نتج عنها كثيرٌ من النماذج التي بات يجب على المشاهد أن يجد الجمال فيها برغم بدانتها الظاهرة التي اعتاد ربط المرض بها، ففي أسبوع الموضة في نيويورك عام ٢٠١٩ رأى العالم ٦٨ عارضة من ذوات القياس الكبير (plus-size models)،[iii] ومن بينهن كانت العارضة والمؤثرة المشهورة Tess Holiday بفستان تغطيه كلمةsample size  (أي قياس النموذج( سخريةً من أن القياسات الكبيرة لا تكون النموذج المعروض عادة في المحلات، وقد ظهرت نماذج مشابهة في هوليوود، في ممثلات مثل كريسي ميتز وكاتي نيكسون في مسلسلات This Is Us و American Housewife.

كتبت ليزي كيرنيك في عمود في صحيفة الغارديان عام ٢٠١٨ معلقةً على الموضوع: إن مؤثري السوشيال ميديا وعارضات القياس الكبير يطبعون المجتمع مع البدانة، فيجعلون الوزن الزائد عادياً، ويشعرون الجميع بالتالي بأنه من الطبيعي أن يكونوا بدينين، بعضهم أيضاً يحول الاهتمامات الطبيعية والمنطقية للمختصين الصحيين إلى جرائم كراهية![iv]

وبذلك صارت إيجابية الجسد موضة ملائمة تماماً لتوجه ما بعد الحداثة وللفكر الليبرالي في الغرب، فباتت المجلات التي تبحث عن زيادة المبيعات والمتابعات على وسائل التواصل تضع صوراً مقصودة لبدينين مع عبارات مثل “هذا صحّي” و”هذا جميل” و”أحب نفسك” وغيرها من الشعارات، أما المختصون فقد وجدوا أنفسهم مضطرين للتعبير عن رفض الحركة -ولو بتحفظ- عبر التذكير بالأساسيات العلمية التي كان الناس يعرفونها منذ عقود، يقول الطبيب سبنسر نادولسكي المتخصص بالبدانة وعلم الدهون: إن البدانة وحدها تضع المرء في خطر إصابة بالأمراض المزمنة أعلى من غيره بغض النظر عن المؤشرات الصحية الأخرى، ويقول المدرب الشخصي جيمس سميث معلقاً على نشر صور بدينين مع عبارات جذابة: “بغض النظر عن مشاعر الشخص البدين، فلا يفترض بنا وضع عبارة “هذا صحّي” مع صورته، لأن البدانة بكل حيادية ليست أمراً صحياً، ولذا فإن تجميلها ليس سلوكاً صحيحاً ولا موجة أوافق على ركوبها”[v]

أما المختص النفسي بالكيت شارا فيقول: هناك حقائق تتم حالياً مناقشتها بالمشاعر والأحاسيس، هذا لا يعني أن على الشخص البدين أن يشعر بالخزي والعار، ولا يبرر ذلك لأحد أن يتعامل معه بطريقة مختلفة كذلك، لكن النقاش ينبغي أن يركز على الصحة لا على الشكل، ولا يمكن إنكار أنه من غير الصحي أبداً أن يكون المرء بديناً،[vi]

تجميل البدانة

فوبيا كل شيء!

تقول Stephanie Yeboah صاحبة كتاب Fattily Ever After (نهاية بدينة سعيدة) أن معظم الناس يخفون رهاب البدينين الذي عندهم بصورة الاهتمام بصحة الشخص البدين والقلق عليه،[vii] وهكذا بكل بساطة أنتجت حركة إيجابية الجسد تهمةً جديدة يمكن رمي أي مخالفٍ أو ناقد بها، فبعد أن أسست لحقّ كل البشر بامتلاك جسدٍ غير صحي وطبعت المجتمع مع صورة ذلك وفرضت أنه جميلٌ عبر وسائل التواصل والإعلام والمشاهير، كانت الخطوة التالية برمي أي رافضٍ بفوبيا جديدة يناسب أن تتبع رهاب المثليين (homophobia)  ورهاب المتحولين (transphobia) الذين يمثلان أول سلاح يُشهَر في وجه أي ناقد لمجتمع الميم، فهو بلا شك مريض بهذا الرهاب المزعوم، ولذا لا يملك رأيه ولا البيانات والأدلة التي يقدمها أي وزن أو قيمة.

فإيجابية الجسد لم تكتف برفض التنميط والدعوة لحب الذات والتقبل والاحترام، إنما تجاوزت الأمر لرفض المعيارية الصحية المتعلقة بالوزن وزيادته، فبات الحديث عن مشكلة الوزن الزائد أو ضرورة تحصيل وزن صحي أمراً معيباً ومرفوضا كـ”تابو” اجتماعي جديد بفعل هذه الفكرة، حتى إن الثناء على شخص فقد الوزن الزائد وبات بصحة أفضل نتيجة لذلك صار أمراً مرفوضاً وموصوما بالرهاب ذاك،[viii] وفي نقاش على التلفزيون البريطاني تحدثت عارضات القياس الكبير عن رفضهن لكلمة “بدين” حتى في السياق الطبي التشخيصي، وقلن بأنها كلمة مسيئة لا يوافقن على استخدامها معهن،[ix] وفي سياق آخر قال أحد مدوّني إيجابية الجسد أن التعامل الصحيح الذي ينبغ أن ينتجه قلقك على صحة الشخص البدين هو أن تحارب الانحياز الذي يتعرض له في عيادة الطبيب، لأن تركيز الأطباء على وزن البدين يجعله -بحسب المدون- أكثر عرضة للخطر الصحي من وزنه ذاته.[x]

فتغييب المعيارية الموجودة في الغرب لم ينحصر في التعامل مع قضايا الجندر والميول الجنسية، إنما تعداها ليشمل أي شيءٍ يتعلق برغبات الأفراد لتي باتت حاكمة وحدها، والأفراد لا يريدون الشعور بأي انزعاج ولا تضايق لأي سبب، لا يريدون أن يقال لهم أنهم في حال غير صحية، لا يريدون أن يقال لهم بأي شكل إن لسلوكهم علاقة بهذه الحال، ولا يريدون أن يشعرهم أحد بأن عليهم فعل أي شيء أو القيام بأي تغيير تجاه الأمر، ولذا فالحل الوحيد هو بتغيير نظرة المجتمع ذاته، وتبديل المصطلحات الطبية، وتأويل نتاج الأبحاث العلمية المحكمة نحو جعل الفرد ضحيةً يستحق التعاطف والدعم بدل أن يكون مسؤولاً عليه أن يتحرك ويحدث تغييراً، بينما الرأي العلمي هو ما يلخصه طبيب القلب محسن والي بقوله: باستثناء الحالات المرضية الخاصة فإن البدانة حالةٌ لا يصل المرء إليها إلا بعد فترات مستمرة طويلة من العيش بأسلوبٍ غير صحي.[xi]

في الإسلام

أما في ديننا الحنيف فالجسد الذي نتحدث عن الضلال المتعلق بالتعامل معه جزءٌ أساسي من النفس الإنسانية التي كرّم الله وخلقها منه ومن الروح معاً، ونبي الله عليه الصلاة والسلام أمرنا بإعطاء هذا الجسد حقه، ونهانا عن تكليفه ما لا يطيق حتى من الطاعات والنوافل، لأن هذا الجسد الذي بين أيدينا وإن كان فانياً نهايته التراب، فإنه الذي تسكنه الروح الخالدة، والذي لا تقوم إلا به ولا تقدر على حمل تكليفها ومسؤولياتها دونه، فنجده عليه الصلاة والسلام يقول: “مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ؛ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ؛ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ.” [أخرجه الترمذي وصحّحه الألباني] في ربط بين الطعام والصحة واهتمام بمفهوم الغذاء السليم الذي لا يثقل الجسد ولا يحرمه.

ذلك لأن لهذا الجسد حاجات، ولأنه أمانة استودعنا الله إياها، فلا هو مركز تفكيرنا واهتمامنا ولا هو خارج عن نطاق ما نعتني به، وفي ذات الوقت فإن العقلية الإسلامية تأبى الاحتكام لمعايير الجمال التي يختارها أرباب الموضة العالمية سواء كانت بالنحول المرضي أو البدانة المفرطة الذين يقعدان الجسد عن مهامه ويصيبانه بالأمراض المهلكة ويضعانه للأرض ليركن إليها ويتحول مستعبداً لشهواته وهواه إما من حب الجمال ورضا الناس أو من شهوة الطعام والكسل والراحة.

فالمؤمن عبدٌ لله وحده، مسؤولٌ أمامه عن سلوكياته وعن نطاق تأثيره ومن يرعاهم، ومن الله وحده يستمد معاييره الثابتة وقيمته وهدفه، فلا يخادع نفسه ومن حوله بتبديل المفاهيم، ولا يجتهد ليحول الخطأ صواباً ويسكن ضميره ويعيش عمره في غفلةٍ يوافقه عليها كل من حوله.


[i] Obesity and overweight, WHO, 2021.

https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/obesity-and-overweight

[ii] المصدر السابق

[iii] Jamie Feldman, More Plus-Size Models Walked At Fashion Week Than Ever, But There’s A Catch, Huffpost, 2019.

https://www.huffpost.com/entry/plus-size-models-fashion-week_l_5d938185e4b0e9e76053d5b3

[iv] Abhinav Verma, Fat acceptance and fat pride movement: Are we glorifying obesity in the name of body positivity? Hindustan Times, 2018.

https://www.hindustantimes.com/fitness/fat-acceptance-and-fat-pride-movement-are-we-glorifying-obesity-in-the-name-of-body-positivity/story-mf6KnAwIkhUOvjtnfHWWSJ.html

[v] [v] Rachel Hosie, Health professionals are divided over whether obese people should be encouraged to lose weight or not, Insider, 2021.

https://www.insider.com/body-positivity-obesity-weight-loss-taboo-can-overweight-be-healthy-2021-1

[vi] Abhinav Verma, Fat acceptance and fat pride movement: Are we glorifying obesity in the name of body positivity? Hindustan Times, 2018.

https://www.hindustantimes.com/fitness/fat-acceptance-and-fat-pride-movement-are-we-glorifying-obesity-in-the-name-of-body-positivity/story-mf6KnAwIkhUOvjtnfHWWSJ.html

[vii] Rachel Hosie, Health professionals are divided over whether obese people should be encouraged to lose weight or not, Insider, 2021.

https://www.insider.com/body-positivity-obesity-weight-loss-taboo-can-overweight-be-healthy-2021-1

[viii] Gabby Landsverk, Adele’s beach vacation photos have gone viral, but some say complimenting her smaller body is fat-phobic, Insider, 2020.

https://www.insider.com/adele-weight-loss-pictures-christmas-party-fat-phobic-controversy-2019-12

[ix] Is It OK to Be Fat? | Good Morning Britain

https://www.youtube.com/watch?v=qyjiveTjfy4

[x] Your Fat Friend, Weight Stigma Is a Dangerous Threat to Health, Elemental., 2019.

https://elemental.medium.com/weight-stigma-is-a-dangerous-threat-to-health-8b8f524873fa

[xi] Abhinav Verma, Fat acceptance and fat pride movement: Are we glorifying obesity in the name of body positivity? Hindustan Times, 2018.

https://www.hindustantimes.com/fitness/fat-acceptance-and-fat-pride-movement-are-we-glorifying-obesity-in-the-name-of-body-positivity/story-mf6KnAwIkhUOvjtnfHWWSJ.html

فلسفة التفرّد في الإسلام

أبتدئ مقالي هذا بالسؤال الآتي: هل هناك أسمى من رسالة الإسلام لكي تصل عموم البشر وتخرجهم من الضلال إلى الهداية والنور؟

بالنسبة لنا –نحن المسلمين- فإننا لا نظن بغير ذلك. لكن هل يبرر لهذه الغاية النبيلة أن تعمّم عبر إغواء الناس بمن يعظّمونهم ويقتدون بأفعالهم وقراراتهم؟ ومن يقرأ في حادثة ابن مكتوم الأعمى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد أن الجواب “لا”، حتى إن كان ذلك يعني الوصول لأعداد غفيرة في وقت قصير ودخولهم الإسلام جميعًا، فلم تشفع غاية الرسول في دعوة أشراف مكة ليتبعهم أهلها، في دفع العتاب الرباني على عبوسه وإعراضه عمن قصده في السؤال ليهتدي إلى دين الله بنية صادقة.

ولعلّ الحكم في هذا، أن دخول هذا الدين يبدأ بتزكية النفس أولاً من الاتباع، اتباع الشهوات والهوى وما ينطوي فيهما من رجاء وابتغاء في الآخرين، فذلك جوهر تسليم الأمر كله لله تعالى، في رد الشر وجلب الخير.

هي العبودية الأمثل والأجدر للاعتناق، لأنها تحترم مشيئة الإنسان فتدعوه بمخاطبة عقله وإجابة أسئلته ومن ثم تستميل الإيمان في قلبه حتى يبلغ اليقين. إنها ليست عبودية رِقٍّ تسلب الإنسان حريته، بل عبودية رُقِيٍّ تضبط النفس البشرية وتهذبها بما يتوافق مع تكليفها.

عِبَرٌ لا بدّ منها!

نمرّ على هذه الحادثة التي خلّدها الله تعالى في كتابه العزيز، ونغفل عن ماهية تفرد كل إنسان في اختياره المكفول له حتى يلقى حسابه.

إن كل طفل يولد، يتعلّم مفتاح الحرية في كلمة (لماذا؟)، ويستمر الأطفال بممارسة هذه الحرّيّة في السؤال حتى يتوقف بعضهم في مرحلة ما، أهمّ الأسئلة بدأت بهذه الكلمة، وأعظم الاكتشافات نتجت عنها.

لماذا سقطت التفاحة؟ وكأن التفاح لم يسقط قبل ذلك من شجرته! إنه استفهام السببيّة الذي يُظهِر حرية عقلك في التفكير، ويدل على أنك لست خاضعًا لفهم من حولك، والذي يمكن أن يكون قاصرًا أو منحرفًا أو متقاعسًا ومؤدٍّ لعللٍ عديدة أخطرها أنه ليس هناك قدرة على الالتزام بمتطلبات التغيير أو حتى الرغبة في ذلك.

يمكننا أن نرى انعكاس أبعاد هذا الهدي الرباني في قصة الأعمى على ما وصلنا إليه من ضعف في هويتنا الإسلامية. ولا أقول بسبب قوة التأثير، بل هو ضعف حقيقي بدرجات متفاوتة تصل للافتتان التام.

أتباع الثقافة الغالبة

هم فئة يدينون في تصرفاتهم لما يملى عليهم بشكل غير مباشر، فيتابعونهم عبر التقليد والإجابة عن سؤال المظهر لديهم، كيف يلبسون؟ ماذا يأكلون؟ كيف يتكلمون؟ من يصادقون وينصرون؟.

يظنون أنهم عبيد لله تعالى ويدينون بحقه وعلى صراطه المستقيم فيما يفعلون لكنهم تابعون للمؤثرين حاملي لواء الثقافة المشوهة من الغرب على أنها جزء من حضارته. وأدهى من ذلك اعتقادهم أنهم أحرار في خياراتهم ومتفردين في اتخاذها.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، يا معلّمنا وقدوتنا لو كنت بيننا اليوم، فكيف نقول ونوضحُ لجنابك –حتى- أصغر خيارات المسلمين في حياتهم؟

تضع بعض الفتيات الطلاء على أظافرهن، وتخالف لون البنصر عن بقية الأصابع. تسأل إحداهن لماذا اخترت ذلك؟ فتقول: لا أعلم، قد رأيت هذا الشكل على أظافر غيري فأعجبني، ففعلت! فإن أعلمتها أن هذا الفعل يعرف أساسًا بـ(Femme Flagging)  في الثقافة الغربية بأنه كان سائدًا كإشارة بين الشاذين والشاذات لرغبتهم في ملاقاة نفس الجنس، فحينها –قد- تشعر بالخجل.

بمثال آخر، فإنك قد تتكلّم مع أحد الفتيان، فيحدّثك بفخر عن عمل قام به ثم يتبعها بحركة (Dabbing)، فتسأله لماذا اخترت هذه الحركة تحديدا فيقول: لا أعلم، حركة رائعة يفعلها الجميع. فإن أعلمته أنها إشارة رمزية لتدخين الحشيش بين مغنّي الراب، لربما شعر بالخجل.

والشعور بالخجل -على الأقل- أمر محمود؛ إذ إنّه مرتبط بالهوية الدينية ويضعها فوق الاعتبار. أما أولئك الذين ينكرون المعلومة، ويستخفّون بضررها، ويحفظون القاعدة الفقهية القائلة: “الأصل في الأشياء الإباحة” دونما تحرٍّ في البحث، فإن مفتاح الحرية لديهم يتحوّل من (لماذا)؟ إلى (لِمَ لا)؟ في كل جديدٍ طارئٍ مستحدَث.

بكل تأكيد فإن هناك فرق بين السؤالين ولو بدا ظاهرا الحرية فيهما، إلا أنّ الأول متحفِّظٌ والثاني متحرر. وبينما يتحقق الأول من الموانع والضوابط، نجدُ الثاني دافعًا للترغيب بالمنفعة واللذة كيفما اتفق. وهؤلاء “المتحررون” من الضوابط أولُ من يسارع لاتهام المحافظين بالتشدّد، وشعارهم في الحياة لكل بدعة جديدة أن “الدين يسر” وأن مضمون الرسالة الإسلامية العقدية أهم من هذه الشكليات المرمّزة. ولو أنك اقترحت عليهم جدلًا تزيين الأظافر بشعار الحزب النازي، أو حيَّيْتَهم بتحية هتلر، لرأيت الزجر والتشدد في الهوية الإنسانويَّة المستحدَثة!

حين يتحوّل التهديد الناعم إلى وحشٍ شرس!

تهديد الهوية الإسلامية هنا تحديدًا ليس في اتباع المسلم للسمت العام المتحرر وتعرضه للزلل في السلوكيات الناجمة عنه، فكل امرئ –غير معصوم- ضعيف أمام المغريات وقد يقع في الأخطاء، وإنما التهديد هنا بارتضاء التبعية وما تبطنه من قناعات قد تتعارض مع الإسلام دون التثبّت منها، بحيث يتأثر تدريجيًّا بأفكار ما بعد الحداثة التي يهمين على محتوى قنوات التواصل الاجتماعي، والتأثر بالبيئة الخصبة لترويج الاستهلاكية واللحظات الآنية والسخرية.

فوق ذلك، نرى أولئك وجوه الإعلام الافتراضي المؤثرين -ممن يرسّخ هذا الفكر- يسعون لإضفاء طابعهم الشخصي المتفرّد في كل أمر عن علم ودون علم، وفي أحيان كثيرة يصبح رأيهم بمثابة التشريع لمتابعيهم.

إن المفارقة هنا أن القول السديد عند غالبية المؤثرين يفصّل على قياس سعة قبول المتابعين، فلا أحد يريد أن يخسر متابعيه. وفي غياب المرجعية الدينية وتحت وطأة اعتناق هذا الفكر اللقيط والمضطرب ذاتيًّا، سواء من المؤثر أو المتابع، لا مناص من انتقاد الإسلام بنفس كيفية التشكيك في جزئيّات العقيدة والعبادات والمعاملات، وتغليب أجزاء على بعضها؛ وهكذا يغدو من الطبيعي الإيمان بأن الله الرحيم سيدخل الملحد الخلوق الجنة! وأن في بعض مناسك الحج مظاهر وثنية يجب أن تلغى! وأن الاقتراض مع وجود أضرار الربا تَحِلُّ للمحتاج! وغير ذلك مما يقدّمه هؤلاء المؤثرون، وكل هذا على فرض أن المؤثر الجاهل يقدِّم فكره بحسن نية، فكيف لو كان مدفوعًا لتغيير فكر المتابعين؟!.

إن المصيبة الحقيقية تكمن في أن عمل المؤثر على المنصات الافتراضية معرّضٌ دائمًا للاستغلال من قبل أجندات كثيرة تخدم مصالح الساعين لإفشال أي محاولة نهضويّة أو إصلاحية في مجتمعاتنا، وتلك المصالح التي تقتضي تغيير فكر العامة في إنشاء انطباعات بديلة، واستحسان بِدَعٍ جديدة، وتبنّي آراء غريبة …إلخ، بما يمتلكون من أساليب إعادة التوجيه وإحكام السيطرة.

وهذا الأمر مارسته الشركات الرأسمالية في الإعلانات بصفاقة قبل أن تعتمده الحكومات. إذ ما معنى أن يدعو لاعب رياضي محبيه لأكل الدجاج المقلي، ورقائق البطاطس المهدرج زيتها، وأن يشربوا المياه الغازية المحلّاة في الوقت الذي يمتنع هو عن ذلك لدواعي الصحة واللياقة؟

وفيكَ انطوى العالَم الأكبر

هناك شيء ما في فطرة الإنسان يدفعه في قرارة نفسه للاعتقاد بأنه مميز ومتفرد كبصماته. أليس عجيبًا أن نتشابه في الأسس التشريحية للأجساد ونتمايز في تفاصيل البصمات البيولوجية؟ وكأن الله تعالى يقول لك إنك متفرد لديه، فلا تظننّ نفسك نكرة بين الناس.

إنّ تَفرّد الإنسان في فلسفة الوجودية يكمن في حريته التامة في التفكير والاختيار والإرادة، دون قيود مادية أو معنوية، ولعل ذلك ما يلتبس على البعض فينزع صفة التفرّد عن العبودية لله في الإسلام، مستندين على تلقين الله الدين لعبده. لكن في ذات الوقت هذه الحرية التامة (الخيالية) تقتضي عدم التأثر بحوافز وأحكام ومنافع… إلخ مما يجعل وجودها في الإنسان يعدُّ ضربًا من الخيال، لأنه مجبول على حب الشهوات، ويُسأل عما يفعل، ويحتاج لوجود الآخرين.

إن ذلك يقودنا إلى أن حرية الإنسان تحتاج لأن تكون مقيدة بشكل أو بآخر كي تكون واقعية؛ أي أن تكون متأثرة بضوابط معيّنة سواء بتعاليم الدين أو القانون أو العرف الاجتماعي أو غير ذلك. وهنا نستطيع أن نقول: إن تفرد المرء لا يتعارض مع الحرية المقيدة إن كان من يفرض القيود ذو حرية تامة مطلقة.

يتمثل هذا التفرّد –في الإسلام- بحرية المرء في مقاومة هوى النفس. بمعنى آخر، حتى لو وحّدنا الدين على الناس جميعًا لبقي كل إنسان متفردًا في عمله الصالح وتقربه لله تعالى؛ لا يطغى عمل عبد على آخر، ولا يجزى عبد دون الآخر، ولا يؤاخذ عبد بعمل الآخر.

وهذا هو التفرّد الحقيقي القيّم بمعزل عن التفرّد الظاهري في خيارات الناس وتصرفاتها المتأثرة ببعضها البعض. وهو ما يحقِّقُه الله تعالى لكل عبد وضع دينه نصب عينيه في تفكيره وخياراته، وابتغى مرضاة ربه في عمله.

البراءة الساذجة بين الدعاية وانتكاس الفطرة

قد تكون العيون ظاهريًّا بريئة متحلّية بملامح الطيبة كما صوّرتها أفلام هوليوود وشبكات الإنتاج الفني، وجعلت من بعض العيون أيقونة في العديد من الأفلام والقصص، مثل عيون البطلة في مسلسل سوبرمان الأشهر “سمولفيل”؛ إلا أنه من الواجب علينا التوقف عند هذا، فقد يكون خلف ذلك كله شر عظيم جرّ ويلات على الآلاف من النساء.

مضت أربعة أعوام منذ الفضيحة المدوّية للمنظّمة السرية في NXIVM ووضع الممثلة الأمريكية الشهيرة (أليسون ماك) رهن الإقامة والحجز في منزلها بكفالة 5 ملايين دولار إلى حين البت في قضية انتمائها للمنظمة التي كانت تدّعي تطوير ذات النساء ومساعدتهن على تنمية قدراتهن في التغلب على مشاكلهن.

لقد كان من الملفت أن شعار المنظمة هو (العمل من أجل عالم أفضل) إلى جانب تعريفها نفسها بأنها (جماعة تسترشد بالمبادئ الإنسانية التي تسعى إلى تمكين الناس والإجابة على أسئلة مهمة عن معنى أن تكون إنسانًا)، لكن حقيقة الأمر أظهرت أن المنظمة داخليًّا كانت أشبه بطائفة لها طقوس يحكمها القائد أو السيد على مجموعة المشتركات مع استعبادهن جنسيًّا.

ما هي منظّمة NXIVM ؟

بدأت هذه المنظمة على يد قائدها كيث رانيير في 1998 وانضمت له أليسون ماك في وقت لاحق فأصبحت أعلى نائبة له، ورأس حربة في التآمر على النساء وتصيُّدهنّ للتجارة بهن ودفعهن لممارسة أفعال مشينة ومنافية للأخلاق والإنسانية.

كيث رانيير مؤسس NXIVM

كيث رانيير

قبل أيام فقط صدر قرار بسجن أليسون لثلاث سنوات فقط، وذلك بعد أن اعترفت بذنبها وقدمت أدلة على تورط رانيير –حكِم عليه أيضًا بقضاء 120 عامًا في السجن- الذي فرت معه للمكسيك عندما افتضح أمرهما في 2018 من قبل إحدى الجرائد التي نشرت اعترافات ضحية من ضحايا المنظمة.

لا ينتهي الأمر ههنا فحسب، بل اعترفت ماك بمحاولتها تصيد الناشطات في الحركة النسوية وتوظيفهن من خلال التغريدات على موقع تويتر من داخل وسطها الفني وخارجه، وأبرز هؤلاء كانت بطلة هاري بوتر إيما واتسون. إن الرسائل التي شاركتها كانت تشير فيها إلى المنظمة بأنها حركة نسوية تهدف لتقديم نسخة أفضل منهن. إلا أن الأمر في واقع الحال لم يكن إلا محاولة من إليسون لتجريد النساء من إنسانيتهن، ودفعهم لارتكاب أشنع الأعمال الجنسية كالبهائم مع رانيير القائد وأشخاص آخرين لا يعلمون من هم بسبب إغلاق أعينهن أحيانًا، وفي أحيان أخرى مع رجال يتم إدخالهم على أساس أنهم زملاء في الدورة التدريبية.

الفكرة هنا أنه كان على المشتركات تقديم الكثير من التضحيات من أجل نيل ثقة القائد والتقرب له، بما في ذلك مشاركة معلومات عن أقاربهن وأصدقائهن، ولو من خلال صورهم العارية ومشاركتهم أرصدة حساباتهم. وقد كان الأسوأ من ذلك كله، الدعم الكبير لهذه المنظمة من قبل مشاهير وأثرياء كثر، مثل المليارديرة كلير برونفمان التي موّلت رانيير على مدى عدة سنين في تجارة تهريب البشر والجنس القسري مع السادية الفظيعة.

الوقوع في حبائل المنظمة

المؤسف في الموضوع كله، أن غالبية الضحايا من النساء كنّ على قناعة تامة ببرامج المنظمة التدريبية التي يمتد بعضها إلى 16 يومًا بمعدل اثنتي عشرة ساعة يوميًّا، مع كلفة اشتراك شهري قدرها 5000$، بهدف تحريرهن من الخوف والكآبة العاطفية، وتقويتهن على التعامل مع مشاكل الحياة بشكل أفضل.

لقد كان الوصول إلى العدد الكبير من النساء معتمدًا على تسويق فصول تدريبية (كورسات) في النظريات الأخلاقية والبرمجة العصبية والتنمية البشرية وغيرها من البرامج السيكولوجية في التعامل مع الألم والشفاء الذاتي وفهم الحب.

بالطبع فإن هذا ما كانت تظهره تلك الإعلانات، إلا أن الواقع خلف الكواليس كان مختلفًا، فقد كانت نساء الجماعة تابعات لأسياد متعددين يحكمهن جميعًا القائد، كما كن يموّلن بشكل خاص حفلة عيد ميلاد القائد السنوية في أفخم الأماكن ويتنافسن على ممارسة الطقوس في حضوره، وتوشم أجسادهن حرقًا بالأحرف الأولى من اسم القائد، علاوة على أنه يُفرَض عليهن تناول طعامٍ شحيح السعرات الحرارية؛ فالقائد يفضّل النحيفات!.

كل هذا -وما خفي كان أعظم- لم يفتضح أمر هذه المنظمة السرية بالرغم من كثرة الضحايا، والسبب أن الكثيرات منهم تمّ ابتزازهن فيما بعد بكثير مما أقدمن عليه، فدُمّرت حياتهن ولم يستطعن الخروج عن صمتهن، ومن ثمّ فضّلن المعاناة من دون البوح بشيء، إلى أن نشرت إحداهنّ تفاصيل تجربتها مع جريدة نيويورك تايمز، فانقلبت حياة طغاة المنظمة وسارعوا للفرار قبل أن يقبض عليهم.

اعتذرت أليسون ماك لضحايا المنظمة في رسائل خاصة عما فعلته، كما اعتذرت كلير برونفمان عن تمويلها قائلة إنها لم تقصد إيذاء أحد وطالبت بتخفيف عقوبتها كونها بعيدة عما كان يدار داخل NXIVM ، لكن أي من ذلك لن يشفع لفكرة تآمر النساء على النساء، فهو أسوأ ألف مرة من تآمر الرجال على النساء.

دعوى تمكين المرأة.. على هامش الفضيحة!

العجيب في هذه الفضيحة التي تضرب الحركة النسوية ومنظري الإنسانوية، طريقة تناول الخبر في تعميم الضحايا من المشاركين على الرجال والنساء، مع أن الغالبية كن من النساء. وأيضًا الإشارة لهذه المنظمة السرية مرارًا بأنها كمنازل طوائف العبادة الدينية المتشددة، من حيث تشابه الابتزاز والاستغلال للنساء ومعاملتهن كعبيد، إلا أنّ رانيير وماك لم ينظّرا لأيّ دين أو تقديس أي رموز دينية، بل كان الأمر على العكس من ذلك، فقد طالبا المشاركات التحرر من كل شيء يحفظ حياء المرأة وخجلها، ويأمران بالتركيز على إنفاذ الشهوات لتحريرهن من سيطرة عواطفهن المكبوتة في الوقت الذي يستعبدن لأجل نزوات الآخرين دون أن يدركن ذلك.

إن كانت هناك وسيلة واضحة بين ثنايا أوراق القضية لإقناع المشاركات بذلك فلم تكن عبر الأديان، بل كانت عبر خطاب تمكين المرأة واعتناق الإنسانوية طريقة عيش بديلة لا تحكمها التشريعات الدينية؛ وهذه نقطة خطيرة لأنها تضع الخطاب النسوي المتشدّد في نفس الميزان مع التشدد الديني، أي أن العلة لم تكن يومًا في الدين بل في التشدّد وتحريفه والتجارة به لأجل مصالح شخصية. وهو الحال ذاته في النسوية المتشدّدة من حيث الانقياد الأعمى وراء المنظرين لها. وهو ذات الأمر في التسامح الإنسانوي المبالغ من حيث مساواة الجلاد مع الضحية، وتقنين الكثير من الممارسات على أنّها حرّيّات شخصية بدعوى عدم الإضرار الظاهر بالآخرين.

إن هذه القضية تطرح تساؤلات كثيرة على الشطح الذي اتخذته الحركة النسوية سبيلًا في خطابها قبل أن تصل نتائجها لمثل هذه الفضائح الجليّة في ظاهرها دون الحاجة للخوض في مضمونها. أي أن الخطاب النسوي لو كان معتدلًا اليوم، لم يكن استدراج النساء لمثل هذه المنظمة ونزع حيائهن كاملًا بالأمر السهل. ولو صحّت هذه الفرضية، فذلك يعني أن الخطاب الديني للمرأة والمتهم في بعض تشريعاته وتفسيراته من قبل النسويات لهو خطاب معتدل منصف يراعي الحقوق ويحفظ النفس بما يتوافق مع فطرتها؛ الأمر الذي يغني عن الحاجة للحركة النسوية من الأساس.

أهمية المرجعية الثابتة

إن تبسيط جميع الأفعال على أنها حريات شخصية لا تضر الغير، يجعل المرء عرضة للتغييب العقلي في فهم طبيعة حريته أمام الجميع وكيف تصبح حريته سلسلة حول رقبته يقاد بها إلى حيث يرغب الآخرون.

وفي هذا السياق يجب القول إن كان في الدين تقييدًا لبعض الحريات الشخصية من باب دفع الضرر عمومًا، فذلك في الحقيقة يهدف لتحرير الشخص من مكامن تقييد الآخرين والإضرار به أولًا، وهو ما حدث فعليا مع الضحايا من نساء المنظمة كما اتضح في هذه الفضيحة، حيث إنه لا يمكننا إغفال مثل هذه القضايا وتناولها بمعزل عن الأسباب المؤدية لها.

وبالمثل فإنه هذه الجرائم لو كانت مرتبطة بجماعات دينية، فبالتأكيد ستنهال     الاتهامات والتعليقات المستنكرة للنصوص الدينية قبل النيل من المجرمين أنفسهم. وحريٌّ بنا أن نفهم التوجهات الخفية في جميع الدعاوي الضالة، خاصة عندما تتعارض مع الدين السماوي.

إن الإنسان لن يفهم نفسه والمغزى من وجوده دون عون، وهذا العون -قطعًا- لن يأتي من إنسان آخر جل همه تلبية رغباته وأهوائه.

 

 

 

الليبرالية وتأليه الإنسان

أدّت مركزية الحرية في الدولة الحديثة إلى جعل هوى الإنسان ورغباته المتقلّبة مصدراً للتشريع إذا ما وجد عدد كافٍ ممن يوافق على تلك الرغبات وينادي بها ثم يدفع ممثليه البرلمانيين لتأييدها. ورغم جاذبية هذه الفكرة التي تُشعِر الإنسان بأنه بلغ غاية سموّه البشري حتى صار قادراً على صياغة قانونه واختيار نمط حياته وتغيير واقعه ضمن العمليّات الديمقراطية، إلا أنها تؤدّي نهايةً إلى ميوعة شديدة في الأخلاق والقيم، وتمنع مع الوقت وجود أيّ ثوابت حقيقية مرجعية يتحاكم المجتمع إليها على مختلف الأصعدة الحياتية.

فقداسة الحرية وسيادة الديمقراطية الشعبية تنتِج تبديلًا في الصواب والخطأ والخير والشرّ على مرّ السنوات بحسب أهواء الأغلبية المصوّتة، تلك الأهواء التي تحددها قوى التأثير من إعلام وإعلاناتٍ ومتصدرين ومشاهير، ولننظر مثالاً على ذلك التبدلات الاجتماعية وانعكاساتها الدستورية التي جرت في الولايات المتحدة الأمريكية عبر القرن ونصف الماضيين ليتبين الإشكال المقصود.

بين الماضي والحاضر

يقول الكاتب والواعظ ستيفن كوفي أن المشاكل السلوكية السبعة الأكثر انتشاراً بين طلاب المدارس الأمريكية عام 1940 كانت: “الكلام دون إذن، مضغ العلكة، إصدار الضجيج، الركض في الممرات، قطع الدور، عدم الالتزام باللباس النظامي، وإلقاء الأوساخ في الأرض”، أما في عام 1990 فقد تغيرت أبرز المشكلات لتكون: “إدمان المخدرات والكحول، الحمل، الانتحار، الاغتصاب، السرقة، والاعتداء.”[i] وهذا ما يختصر صورةً كبيرة من التّبدّل الاجتماعي الذي جرى في البلاد في فترةٍ قصيرة نسبياً.

أما أثر التبدل الاجتماعي على صعيد اللباس فهو واضح ويحكي قصة تغيّر الناس إلى حدٍّ كبير، فقد كانت النساء تلتزم الثياب الطويلة الفضفاضة بصورة شبه تامة حتى بدايات القرن الماضي[ii]، وكان الستر دليلاً على الرقيّ الاجتماعي والثراء الاقتصادي، والتكشّف علامةً على الاستعباد أو الفقر الشديدين، بينما نرى النساء الثريات اليوم لا يمانعن الظهور بثياب لا تغطي سوى نسبة صغيرة من أجسادهنّ، ولا يستغرب أحدٌ ذلك أو ينكره، بل إن النساء يفتخرن باتباع الموضة التي باتت في كثيرٍ من الأحيان متمثّلة ببناطيل ممزقة أو ألوان يبدو عليها البلاء.

لقد كان فكر المجتمع يعكس المحافظة والالتزام ببعض أخلاقيات الدين المسيحي الذي حمله الآباء الفاتحون معهم، إلا أن الحال تبدل إلى حدّ كبيرٍ اليوم، فبينما كان الشعب محافظاً مفتخراً بتدينه بصرةٍ عامّة سابقاً، باتت نسبةٌ عالية منه تتبرأ من أي دينٍ اليوم، وتظهر التقارير أن نسبةً تزيد على 70% من الأمريكيين وصفوا الدين بأنه جزءٌ مهم من حياتهم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بينما انحدرت النسبة إلى 56% عام 2007، وفي عام 2016 اعتبر حوالي ثلث الشباب دون الخامسة والثلاثين نفسهم غير منتمين لأي ديانة على الإطلاق.[iii] أما آثار ذلك على تمييع الالتزام بمحتوى الأديان فهي مما لا يخفى على أي متابعٍ للأخبار، ففي عام 1987 لم يوافق إلا 32% من الأمريكيين على زواج المثليين في البلاد، بينما ارتفعت النسبة إلى 72% عام 2020.

المرغوب يحدد القانون

إن الحديث عن تغيّر رغبات الشعب وميوله لا يتوقّف في الدولة الليبرالية الحديثة عند وصف سلوكيات أفرادٍ أو جماعاتٍ محددة، ولا يعني وصف الفكر الرائج أو نمط حياة البعض فحسب، إنما يتعدّاها ضرورةً نحو ما هو قانوني ومسموحٌ، وكذلك ما يجب على الشعب بصورةٍ عامةٍ أن يقبله وما ينبغي أن تكرّس أموال ضرائبه له، وبالتالي فإن القيم والأخلاق والمعايير التي تتوارثها الأجيال في تقييم الخير والشر تغدو سائلة تابعةً لرغبات الناس وما يريده كلّ واحدٍ منهم في عالمٍ منقطع تماماً عن الثوابت الغيبية المتجاوزة للزمان والمكان.

لقد آل تقديس الحريّات لأن يختار أصحاب الصوت المرتفع والقادرون على التأثير في الرأي العام القيم التي يريدون لها الظهور والقبول في المجتمع، فصار التعري حرية شخصيّة، والرذيلة المقننة دليل قوة واستقلالية، والإجهاض علامة حرية، وكل ذلك مع انتشار الفساد الأخلاقي والديني بالصورة التي يحبها الناس ويريدونها حتى بات احترامه وقبوله واجباً على الجميع باعتباره جزءاً من القانون الجديد، وبينما كانت الشرطة تقتحم نوادي الشواذ في ستينات القرن الماضي،[iv] فإن أي تعاملٍ مميّزٍ بأي شكلٍ مع مجتمعهم الآن يعتبر جريمةً قانونية يعاقب فاعلها، وبينما كانت عيادات تنظيم الأسرة (التي تقدم وسائل منع الحمل والإجهاض) ممنوعة عام 1915، فإن أدوية منع الحمل باتت متاحةً للفتيات منذ سن الخامسة عشرة اليوم، وتقوم  شركات التأمين الصحي بتغطيتها كذلك.[v]

ولعلّ هذا نتاج فصل المجتمعات عن أي شرعٍ متجاوز ثابت، واتخاذ القرار منذ نشوء تلك الحكومات بأنها موجودة لتؤمن حريات الأفراد وحقوقهم وتضمن العملية الديمقراطية التي ترضيهم، مع وجود تعريفاتٍ شائكة ومبهمة للحريات والحقوق وحدودها وما ينبغي لها أن تكفله وتتوقف عنده، بات الناس يرون من حقهم الحصول على أي شيءٍ يريدونه، ومخالفة أي شيءٍ يريدونه إن كان هناك من يكفي لدعمهم وجعل الأمر قانونياً عندهم.

وهذا ما يبدو واضحاً وصعب التبرير في الفروق القانونية الموجودة بين الولايات الأمريكية اليوم، والتي تعكس في كثيرٍ منها أخلاقياتٍ مجتمعيةٍ باتت سائلةً تماماً ولا يمكن للفرد الأمريكيّ ذاته الدفاع عنها إن خرج من ولايةٍ لأخرى. فعلى سبيل المثال، يعتبر تناول الماريغوانا لأي سببٍ ممنوعاً قانونياً تماماً في ولاية South Carolina، لكن بمجرد الخروج منها إلى جارتها District of Columbia فإن الأمر يصير متاحاً للاستخدام الطبي والترفيهي أيضاً.[vi]

تمثال الحرية

إلى أين؟

ولعل القارئ يتساءل هنا عن سبب الاعتراض طالما أن الفرد الغربيّ ينال حقوقه اليوم بكرامةٍ وحريّة، ويتمتّع بالقدرة التصويت على ما يريد وضد ما يريد، بعكس الفرد في البلاد العربية الذي لا يملك في الحقيقة أن يعمل أي تغيير في واقعه الذي تحكمه الديكتاتوريات ويسود فيه الاستبداد والفساد..

والحق أن هذه مقارنةٌ مخالفةٌ للمقصود، فإننا لا نزعم حين ننقد الوضع في البلاد الغربية أن نظيرها في البلاد العربية اليوم هو الهدف المنشود، إذ كلاهما تمثّلاتٌ علمانيّةٌ حقيقةً، لكنّ أحدها يسوده بعض الفاسدين والآخر تظهر فيه أهواء الجماهير، إنما المقصود هنا هو الإشارة للانحدار والإفساد الكبيرين اللذَين يؤدي إليهما تحييد الوحي والاستغناء عنه بمركزية البشر التي تؤدي ضرورة إلى مركزية الشيطان الذي يغدو بدوره الحاكم على حياة الشعوب علمت ذلك أم جهلته.

فالفرد الغربيّ حين يدّعي التحرر من الدين والأعراف والارتقاء إلى نموذجٍ خيرٍ مما كان عليه آباؤه وأسلافه إنما يصير في حقيقته مستعبداً للشيطان وما يمليه عليه على أنه رغبته الذاتية وصورة انعتاقه ورقيه وتقدّمه، ولعل المتأمل في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام لأبيه يظهر له هذا المعنى، إذ قال: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖإِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، رغم أن آزر كان عابداً للأصنام لا للشيطان ذاته بصورة مباشرة، وهذا ما قال فيه المفسرون أن طاعة الشيطان في عبادة الأصنام هي عبادةٌ له، لأن من أطاع شيئاً في معصيةٍ فقد عبده،[vii] كما يظهر في قوله تعالى أيضاً: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، لأنه هو من يأمر بالشرك والمعاصي ويزيّن المبدعات من المنكرات للبشر في كلّ جيل.

وهذا تحديداً هو ما نرى انعكاسه في المجتمعات الغربية التي حوّلت تدريجياً الرذيلة إلى فضيلة، وغيرت معاييرها ومنظوماتها الأخلاقية لتكون متمركزة حول حماية الأهواء والرغبات ومجرّمة لكل من يرفضها أو يحاول تقييمها وفق أي معيارٍ ديني لم تغيّره السنين ولا أثرت به جماعات الضغط وضوضاؤها. فبات الرافض للشذوذ منمَّطاً بصفته “هوموفوب” كما يوصف الذي يستاء من العري والتكشف بأنه “رجعيّ” أو “كاره للنساء” وعلى هذا تقاس أمورٌ كثيرةٌ نرى التعصّب فيها ضد المتمسّكين بأديانهم والمخرجين لها إلى حياتهم العملية بكلّ وضوح.

فهل من الطبيعي أن يكون هوى الإنسان مؤلّهاً مطاعاً كما نرى هناك؟ وأيّ ضررٍ ذاك الذي تجرّه تلك الخدع والأوهام على أهلها المستعبدين للشيطان وهي يجرون وراء أي رغبةٍ أو مطلبٍ يعرض لهم دون اعتبارٍ إلا لتحقيق ما يريدون ونيل أكبر قدرٍ ممكن من الرفاهية في السنوات القصيرة التي سيقضون هنا قبل الموت والفناء؟


[i] Stephen R. Covey. The Seven habits of highly effective families. 1997.

[ii]1890-1899 | Fashion History Timeline (fitnyc.edu)

https://fashionhistory.fitnyc.edu/1890-1899/

[iii]American Religion Has Never Looked Quite Like It Does Today | HuffPost

https://www.huffpost.com/entry/american-religion-trends_n_570c21cee4b0836057a235ad

[iv] Stonewall riots anniversary: How the New York media covered the gay bar raid 50 years ago – The Washington Post

https://www.washingtonpost.com/history/2019/06/08/how-homophobic-media-covered-stonewall-uprising/

[v] Clayton, E. W., & Butler, A. S. (Eds.). (2009). A review of the HHS family planning program: mission, management, and measurement of results.

[vi] How marijuana laws are different between states (usafacts.org)

https://usafacts.org/articles/how-marijuana-laws-are-different-between-states/?gclid=Cj0KCQjw5auGBhDEARIsAFyNm9F6m1SENioR8L1lYM6yR7VzKKM9RREUobwzD5U_4jFuXHlRzohqdQAaAn_zEALw_wcB

[vii] تفسير القرطبي وابن كثير.

التعددية الزوجية في الغرب

ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة بالحديث والتعليق على ما يسمى بــ”قضية الاغتصاب الزوجي” حيث يقضي الرجل حاجته الجنسية مع زوجته وهي غير راغبة لهذا الفعل، أو مكرَهة عليه.

بالعودة إلى الفقه الإسلامي فقد أوضح العلماء أن المرأة لها أن تمتنع عن زوجها إذا امتلكت العذر الشرعي، سواءً كان العادة الشهرية أو التعب أو المرض أو الحزن القاهر، وإذا ما تحقّق ذلك، فإنها لا تكون آثمة، أما إن لم يكن شيء من هذه الأعذار فإنها آثمة.

أما مصطلح الاغتصاب الزوجي، فقد وضعته النسويات ليبقى الأمر مناطاً برغبة الأنثى وإرضائها وسعادتها ومزاجها، فإن حصل وأن مارس الزوج علاقته معها وهي كارهة أو لم تكن في تمام الرغبة، فإن هذا “اغتصاب” بحسب ادّعاء النسوية!

نشر أحد المشايخ ردّاً حاسماً سرعان ما حذفه بأن الامتناع هو من النشوز وتُضرب عليه المرأة ضرباً غير مبرح، لتعود لجادة الصواب!

وعلى كل حال، فإن هذا التعامل -وإن حُذف هذا الكلام وتراجع عنه- مع الأسف واقع تعيشه الكثير من النساء في مجتمعات مختلفة من بلادنا الإسلامية، وهنا نتساءل: أي رغبة تلك التي ستعود للمرأة بالضرب -إلا في الحالات المرضية التي تتلذذ به- وأي بيتٍ سليمٍ هذا الذي تُعاش اللحظات السابقة للعلاقة الحميمية بالضرب، ومن سيقرر كونه مبرحاً أم لا؟

اقترح باحثون وكتّابٌ آخرون أن يعمد الرجال إلى “التعدد”، إلا أن الأمر لم يسلم من النقاش العقيم للنسويات اللاتي يَعُدن في كل حوار إلى مسلّمةِ تأليه المرأة، وجعل الكون يدور حول مزاجها ورضاها.

وهنا تركت عالمنا التواصل الاجتماعي الافتراضي العربي الذي لا يكاد ينتهي الجدل فيه، -عسى أن يكون هذا الصخب فيه نفعٌ للناس ولو بعد حين- وذهبت أختلس النظر وأتصفّح آراء الغرب في التعدد.

الزواج الأُحاديّ

في مقال لمايكل كاسلمان Michael Castleman على موقع Psychology Today   عنون له بـ: Why is infidelity so common لماذا تنتشر الخيانة بكثرة؟ أشار إلى أن ممارسة الزنا بعد الزواج –وهو ما يسمّى بـ الخيانة الزوجية- ظاهرة متفشّية بشكل كبير في الولايات المتحدة، بالرغم من أن معظم الأمريكيين يطالبون بالاكتفاء بشريك واحد ويدّعون المحافظة على الوفاء والإخلاص في علاقة الزواج الأحادية Monogamy، ويعتبر مخالفة هذا الشرط أشبه بالكارثة الأخلاقية والاجتماعية، وترسخ هذه الصورة النمطية لفداحة التعدّد، كلٌّ من وسائل الإعلام والأفلام والقصص والروايات…إلخ، كما أنه يؤدي غالباً إلى الانفصال والطلاق أو الاستمرار -على الأقل- في علاقةٍ أصيبت بشرخ كبير.

يتساءل الكاتب إن كان الإنسان بطبيعته وفطرته يميل إلى الزواج الأحادي “المنوغومي” طيلة حياته؟ هنا يجيب الكاتب في المقال بأنه: في الوقت الذي يصر فيه العديد على أنّ زواج “المونوغومي” هو الطبيعي، يُلاحظ أن ٩% من عموم الثدييات تميل إلى هذا النمط من الحياة الزوجية، كما يؤكد أن انتشار ما يسمى بـ”الخيانة الزوجية” بين البشر يطمس كل الادعاءات بأن التفرد الجنسي أمرٌ فطري.

في هذا الإطار يستدلّ ببضع براهين من نصوص الإنجيل والتاريخ، حيث يذكر الإنجيل وجود تعدّد لزوجات الأنبياء مثل يعقوب الذي كان له زوجتان: ليا وراشيل، وجاريتان: بيلها وزيلفا، كما أن الوصايا العشرة تدرج الزنا في ثناياها، وتؤكد على أنها من الخطايا الكبرى، بل تنص عليها ضمن أنحاء متعددة فيجب البعد عن جريمة الزنا عمومًا، وألا يشتهي الإنسان زوجة جاره، وألّا يفعل ذلك أو يفكر فيه حتى، وعلى الفور ينتقل الكاتب للخطوة المنطقية التالية، -ولنتساءل معًا- لو كان القدماء مكتفين بزوجة واحدة، أكان من الممكن والطبيعي مراعاة هذه الوصايا؟.

يشير الكاتب إلى أن المسيحيين المورمون كانوا من معدّدي الزوجات بشكل علني حتى عام ١٨٩٠، وما زال بعضهم كذلك، أما اليوم وفي نفس البقعة الجغرافية التي تقدّس المونوغومية أو الزواج الأحادي، فإنه ليس من الغريب أن توجد الكثير من المدن والأرياف التي تتفاخر بعدد نوادي الجنس المحرّم بأشكاله المختلفة –الطبيعية والشاذة والجماعيّة- المتاحة للمتزوجين وغيرهم.

يستفيض الكاتب في شرح آثار تطبيق هذه المثالية على المجتمع، وأنه قد حاور الآلاف من الناس على مدار ٤٦ عامًا حول آرائهم عن الحياة الجنسية، وأصدر العديد من الكتب، وكتب أكثر من ٢٠٠٠ مقال لعشرات المجلات والصحف والمواقع الالكترونية بما فيهم Psychology Today و مجلة New York Times وغيرها، ليخلُص إلى أنه من حقّ الجميع المطالبة بأحاديّة الزواج، ورفع شعار الشريك الواحد الوفي المخلص، مع التأكيد على أن تطبيق الأمر في واقع الحال ليس بنفس التصور الوردي والرومنسي الحالم للناس.

لكن، أليس هناك العديد من الأزواج غير المعدّدين وهم سعداء بحياتهم مع شريكهم؟

يجيبنا الكاتب بأنه عرف العديد من الأزواج السعداء الذين اكتفوا بشريك واحد رسميٍّ على مر العقود، إلا أنهم كانوا يمارسون رذيلة الزنا أو ما يسمى بـ “الخيانة الزوجية”، والعجيب أن كثيرًا من هذه الحالات كانت بقبول وموافقة من الطرف الآخر، الزوج أو الزوجة، وذلك بشكل دوري خلال المناسبات المتكررة، مثل أعياد الميلاد السنوية، أو في فترة سفر العمل، أو حتى في عطلات نهاية الأسبوع، ويستكمل عرض إحصاءات عن نسبة الخيانات بين الأزواج، إلى جانب سردِ حجج تصب كلها في حقيقة استحالة الاكتفاء بشريك واحد في معظم الحالات.

يذكر في مثال صادمٍ أن إحدى الزوجات تعلن مرارًا أنها تحب زوجها منذ أزيَدَ من ٣٠ سنة، إلا أنها مقتنعةٌ بأنه من “الصحي” لكليهما أن ينفّسا عن رغباتهما الجنسية “باللعب” في الخارج بين الفينة والأخرى، بدعوى أن ذلك يحافظ على حياتهم الزوجية ويُديم فيها روح المتعة والمرح.

من الملفت –بحسب الكاتب- أن الإنسان المليء بالعيوب والنقائص التي لا يؤاخذه عليها المجتمع، إلا أنه عندما يتحول الحديث عن الزواج، فإنه يُفرَض عليه –وهو الخطّاء المليء بالعيوب- أن يحيا على مبدأ “المونوغومية” التي تشبه حالة قصوى من الكمال الذي يعجز عنها الإنسان، ولو افترضنا أنه يصبر عليها فإنها لا تدوم.

قولٌ على قول

من نافل القول التأكيد على أن مقال مايكل مليءٌ بالأفكار التي لا نقبلها، ففيه تلميح واضح لحق النساء أيضًا بالتعدد، وهذا مما يناقض شرعنا وشرع من سبقنا من الأنبياء، ويخالف نموذج الحياة البشرية الفطرية المستقرة، إلا أنه –بقراءة ثانية- حجةٌ على نمط الحياة الغربي المنفصم التابع بامتياز لأهواء البشر وفردانيتهم الذاتية والرافع لشعارات وهمية براقة يبيعونها للقاصي والداني ولكل من هو راغبٌ بالعيش على نمط الحياة الغربية أو “التأمرك”، وها هم أنفسهم يعلنون أنها لا تُطبّق عندهم.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الخيانة في الغرب تثار بشكل خاص في سياق الحديث عن ممارسة الجنس، أما مشاهدة الأفلام الإباحية والجلسات والسهرات واتخاذ الصديقات والمحادثات الخاصة، فإن هذا كله ضمن دائرة الحرية الشخصية التي تتغاضى عنها الزوجة، وتعتبره من طيش الرجال.

إن مفهوم الزنا في ديننا واسع، وقد حرم الإسلام مقدماته حرصًا على روح الإنسان من الكدر، وتأكيدًا على شموليّة مقاصده الروحية والحياتية، فأمر بغض البصر وسمّى نقيضه بـ “زنا البصر” وكذا “زنا السمع” وحتى “زنا الأنف” كما في حديث الخارجة (بعطرها على الملأ) [أخرجه الإمام أحمد في المسنَد] وأشار الوحي في عدة مواضع إلى الأمر باجتناب كل ما قد يؤدي أو يوفّر أجواء الخلوة التي لا يسلم من السقوط بعدها حتى أشدّ الرجال ورعًا، في المقابل نجد منظومة الزواج مفصّلةً منضبطة تحفظ لكلّ حقه والأهم من ذلك أنها تراعي حاجات الإنسان وغرائزه بشكل آدمي يرفعه عن البهيمية التي بات الغرب يروّج لها جهاراً.

إنّ نظام الأسرة في الإسلام، بقواعده الشرعية والأخلاقية، هو العمدة في بناء المجتمع الفاضل والمواطن الصالح، بل إن الأسرة المسلمة الناشئة على مقاصد الدين وأحكام الشريعة هي الآن خط الدفاع الأول في وجه الاستهداف، ويتزيى بالشعارات البراقة، فما أحرانا أن نزيد روابط الأسر توثيقاً، وأن نشد بنيانها، ونعلي أركانها على المنهاج القويم الذي يبلغنا سعادة الحياة الدنيا وصلاح العقبى، والله المستعان.

المصادر:

https://www.psychologytoday.com/us/blog/all-about-sex/202102/why-is-infidelity-so-common?fbclid=IwAR1V6jj6nUiwcxVvAoR2UFkqGvu1cei5d8SJj8VN8ZGF9VhjXqo5gRFvPlc

كيف يرى الغرب مساكينهم؟ النظرة والأبعاد

في أحد صفوفي الجامعية دخلت المدرّسة مرةً حزينة ومهمومة، حكت لنا قصة كلبها المريض الذي وجد البيطري فيه كتلةً تحتاج استئصالاً بعملية جراحية مكلفة لا تستطيع تحمل تكاليفها مع ثمن التخدير، ولذا قالت: إنها مجبرة على ترك الكلب يخوض العملية بآلامها، وأن هذا يؤرقها ويمنعها أي راحة بال.

تأثّر الطلاب بالقصة، وبدأ بعضهم يعبّر عن حزنه وتعاطفه مع الكلب المسكين، وهناك قالت المعلمة: “إن سألتكم الآن أن تدعموني مالياً لدفع تكاليف تخدير الكلب؛ فمن منكم سيساعد؟” لم تكد تكمل جملتها إلا ورفع معظم الطلاب أيديهم.

قالت: “أعلم أن الأمر محزن وأنكم متأثرون بالقصة، وأنا أقدر شعوركم، لكن لو كانت القصّة عن مشرّد يعيش قرب الجامعة فمن منكم كان ليرفع يده؟” تجاهل معظمهم نظراتها، بينما تظاهر البقية بالشرود، أمّا هي فأبدت نظرة حزن وأسف ثم دخلت في موضوع الدرس.

لنتساءل قليلاً: ما سبب غياب التعاطف الواضح من الطلاب تجاه المشرّد الافتراضي؟ وهل هذه حادثةٌ منعزلة؟ أم أنها تحكي خلفيّاتٍ عميقة عن شعوب تقدس الإنتاج وتؤمن إلى حدٍّ كبيرٍ بقدرة الفرد على تحديد مستقبله ومصيره في الحياة؟

دراساتٌ وأرقام

عام 2016 أُجريَت في بولندا دراسةٌ على 420 شخصًا من طلاب المدارس المتوسطة والثانوية والطلاب الجامعيين والبالغين في سوق العمل بهدف معرفة رأي الفئات العمرية المختلفة بالمشردين، وكانت النتيجة أنّ حوالي نصف المشاركين وصفوا شعورًا بالخوف من المشرد، بينما وصفه معظم المشاركين بأنه شخص يجمع الأوساخ والخردة ويتسوّل في الطرقات، وحين سئل المشاركون عن أول الكلمات التي تخطر في بالهم حين يفكرون بشخصٍ مشرّد كانت الإجابات: “وسخ، فقير، تعيس، وحيد، وذو رائحة كريهة”[1].

هذه الدراسة ليست غريبة، فكثيرٌ من الأبحاث تُظهِر غياب التعاطف العام مع المشردين، بل وازدراءهم في فئاتٍ متنوعة من الشعوب الغربية. فقد أظهر بحثٌ سكانيّ في الولايات المتحدة وبريطانيا أنّ غالب الذين لم يمرّوا بتجربة التشرّد يصفون المشرّد بأنه مجرمٌ ومدمن كحولٍ أو مخدرات[2]، كما أظهرت دراسةٌ أمريكية أن كلمة “مشرّد” وحدها تجعل الفقير أكثر عرضة للتنميط والازدراء من غيره من الفقراء في البلاد[3].

وبينما اقترح باحثون أن يكون التعليم العالي حلاً للمشكلة، وجدت عدة دراساتٌ في الولايات المتحدة أن ارتفاع مستوى التعليم يزيد المرء تحمّلاً للمشردين، لكنه يزيد من رفض دعمهم ماليًّا أو تخصيص جزء من الميزانية الوطنية للبرامج المعنيّة بمساعدتهم[4]، ووجدت دراسةٌ على طلاب الطب في كندا أنّ هناك فرقاً واضحاً في التعاطف مع المشردين بين الطلاب وبين الأطباء المشرفين، فالطلّاب يفقدون تعاطفهم كلّما تقدموا في دراستهم، ويشابهون الأطباء المشرفين عليهم في سلبيتهم ناحية المشرّدين[5].

لا قضاء ولا قدر

تظهر التقارير التي تدرس ظاهرة التشرّد أنها تؤثر على عدد كبير من الأشخاص في أوروبا وأمريكا الشمالية، وفي مقدمة البلاد في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا حيث وصلت أعداد المشردين فيهما إلى 567 ألف، و280 ألف على الترتيب عام 2019.[6]

أما عن الدراسات المعنية بأسباب ذلك فهي تظهر أن الأمر معقدٌ وخارجٌ عن قدرة الفرد في كثير الأحيان، فقد تحدّث باحثون عن غياب التهديد ضد الرأسمالية وظلمها في الغرب، وهي تستمرّ بزيادة الفجوة بين الأثرياء والفقراء وتسمح بارتفاع الأسعار تبعاً لتحكم طبقةً معينةٍ بالسوق، مما يعسّر حصول الفقير على بيتٍ، ويزيد ثراء الغنيّ وعدم اكتراثه بحال ذاك الفقير، بل ولومه على ما وصل إليه،[7] إضافة إلى ذلك فهناك ضعف البرامج الاجتماعية التي تدعم العاطلين عن العمل،[8] وانخفاض سقف الأجور الأدنى، وقلة فرص العمل والتمييز العنصري الذي مازال يؤثر في التعليم المدرسي الحكومي المتاح بأساليب غير مباشرة،[9] وهناك سهولة انحدار المرء في الديون وتراكم فوائدها عليه في النظام الاقتصادي الربوي المعتمد على الاستدانة في تعاملات الحياة اليومية والكبرى، وغيرها من الأسباب التي  تجعل من غير المنصف أن يلام الفرد وحده على انحداره في هذه الدوامة التي يصعب الخروج منها.

لكن رغم ذلك فإن رأي عامّة الناس غالباً ما يصبّ في تحميل الفرد مسؤولية ما أصابه وحده، ولومه على ظروفه السيئة التي آل إليها حاله بغضّ النظر عن تعقيد العوامل التي تؤثر فيه، فقد أظهرت دراسةٌ أجريت على مر 8 سنواتٍ على حوالي 700 أمريكي وجود ميلٍ للاعتقاد بأن المشرّد شخصٌ معيبٌ بشكلٍ ما، وبأنه ذو جاهزية ذهنية خاصّة للفقر وسوء الحظ الاقتصادي، وقد أشارت دراستان سابقتان لذات النتيجة لمّا سَأَلتا عن سبب وجود فقراء في الولايات المتحدة، فكانت غالبية الإجابات مركزةً على نقص الاجتهاد الفردي والموهبة والمهارات الاقتصادية.[10] وهذا ما يبدو مرتبطاً بزيادة المستوى التعليمي الذي يرفع الاعتقاد بمسؤولية الفرد عن تشرده، وينقص قيمة العوامل المجتمعية والبنيوية في ذلك.[11]

ولعل هذا نتاج سنين طويلة من تربية الأجيال على فكر “أنت تتحكم بمستقبلك”، و”أنت من يقرر مصيرك”، وغير ذلك من مكونات الثقافة الغربية التي تلغي أي أثر للقضاء والقدر، ولا تكترث بوجود حوادث خارجةٍ عن سيطرة الانسان، فتجعل هذا الكائن الضعيف الصغير مسؤولاً عما لم يختره ولم يكن له يدُ فيه. وقد لفتني تعليق باحثين لما وجدوا علاقةً بين التعليم وبين نقص الرغبة بمساعدة المشردين، فقالوا في ختام ورقتهم: “نحن نستنتج أن التعليم ينشئ الجيل على الثقافة الرسمية في البلاد، وفي الولايات المتحدة هذا يتضمن الإيمان بمساواة الفرص وحق الاحترام، لكن ليس مساواة النتائج التي يحصّلها الجميع.”[12]

المشردون في محطة مترو الأنفاق في مدينة نيويورك، The New York Times

وإن كان لهذا الفكر نفعٌ من حيث تحميل المرء المسؤولية وتشجيعه على التخطيط وتحديد أهدافه؛ إلا أنه مدمرٌ ومجحفٌ بحق من لم تَسِر الحياة كما يشتهي، فيصير المشرّد ملاماً على فشله في دفع فاتورة بيت وماء وكهرباء وقمامة وضرائب مع خمس تأمينات وطعام وشراب مثقلين لكاهله، وهو ملامٌ لأنّ قانون بلاده يضع العراقيل أمام خروجه من التشرد والقيام من تحت خط الفقر الذي يقبع تحته ملايين آخرون.[13]

وفي النتيجة فإن هذا المشرّد في المنظومة الغربية لا يعتبر إلا فاشلاً وفق معايير النجاح التي تستعبده، فلا تناله شفقة أو رحمة من أحدٍ، ولا يستحق أن يفكر عامة الشعب به أو يخصصوا من ضرائبهم جزءاً له، لأن المقيمين تحت سقف وبين عدة جدران، يجدون نفسهم أذكى وأفضل من أن يصيروا يوماً مثله، رغم أن الجميع في الحقيقة معرضون لأن تسحب الرأسمالية منهم كلّ شيء كما فعلت به، في بيئة غابت فيها المودة والتراحم المجتمعي، وبات الإيمان بالغيب وقضاء المولى وقدره جزءاً من التاريخ.


 

[1] Krajewska-Kulak E, Wejda U, Kulak-Bejda A, et al. Differing attitudes for various population groups towards homeless people. Progress in Health Sciences. 2016;6(1):57. Accessed April 9, 2021. https://search-ebscohost-

[2] Toro, P. A., Tompsett, C. J., Lombardo, S., Philippot, P., Nachtergael, H., Galand, B., … & Harvey, K. (2007). Homelessness in Europe and the United States: A comparison of prevalence and public opinion. Journal of Social Issues, 63(3), 505-524

[3] Jo Phelan, Bruce G. Link, Robert E. Moore, & Ann Stueve. (1997). The Stigma of Homelessness: The Impact of the Label “Homeless” on Attitudes Toward Poor Persons. Social Psychology Quarterly, 60(4), 323–337. https://doi-org.ezp.slu.edu/10.2307/2787093

[4] Phelan, J., Link, B. G., Stueve, A., Moore, R. E. (1995). Education, social liberalism, and economic conservativsm: Attitudes toward homeless people. American Sociological Review, 60(1), 126–140

[5] Fine AG, Zhang T, Hwang SW. Attitudes towards homeless people among emergency department teachers and learners: a cross-sectional study of medical students and emergency physicians. BMC MEDICAL EDUCATION. 2013;13. doi:10.1186/1472-6920-13-112

[6]https://england.shelter.org.uk/media/press_release/280,000_people_in_england_are_homeless,_with_thousands_more_at_risk

State of Homelessness: 2020 Edition – National Alliance to End Homelessness

Toro, P. A., Tompsett, C. J., Lombardo, S., Philippot, P., Nachtergael, H., Galand, B., … & Harvey, K. (2007). Homelessness in Europe and the United States: A comparison of prevalence and public opinion. Journal of Social Issues, 63(3), 505-524.

[7]Toro, P. A., Tompsett, C. J., Lombardo, S., Philippot, P., Nachtergael, H., Galand, B., … & Harvey, K. (2007). Homelessness in Europe and the United States: A comparison of prevalence and public opinion. Journal of Social Issues, 63(3), 505-524

[8] Zlotnick, C., Robertson, M. J., & Lahiff, M. (1999). Getting off the streets: Economic resources and residential exits from homelessness. Journal of Community Psychology, 27(2), 209-224.

Shinn, M. (1992). Homelessness: What is a psychologist to do?. American Journal of Community Psychology, 20(1), 1-24.

[9] Jo Phelan, Bruce G. Link, Robert E. Moore, & Ann Stueve. (1997). The Stigma of Homelessness: The Impact of the Label “Homeless” on Attitudes Toward Poor Persons. Social Psychology Quarterly, 60(4), 323–337. https://doi-org.ezp.slu.edu/10.2307/2787093

[10] Feagin, J. R. (1975). Subordinating the poor. Prentice-Hall.

Kluegel, J. R., & Smith, E. R. (1981). Beliefs about stratification. Annual review of Sociology, 7(1), 29-56.

[11] Tompsett, C. J., Toro, P. A., Guzicki, M., Manrique, M., & Zatakia, J. (2006). Homelessness in the United States: Assessing changes in prevalence and public opinion, 1993–2001. American Journal of Community Psychology, 37(1-2), 47-61.

[12] Phelan, J., Link, B. G., Stueve, A., & Moore, R. E. (1995). Education, social liberalism, and economic conservatism: Attitudes toward homeless people. American Sociological Review, 126-140.

[13]  في الولايات المتحدة يعيش 34 مليون شخص تحت خط الفقر

https://www.debt.org/faqs/americans-in-debt/poverty-united-states/#:~:text=According%20to%20the%20U.S.%20Census%20Bureau%E2%80%99s%202019%20Current,out%20of%20poverty%2C%20was%20at%2011.7%25%20in%202019.%29

 

الحضارة الإسلامية وعقدة الخواجة

لا يمكن أن نعتبر الحديث عن المركزية الغربية تَرَفًا فكريًّا قد يروق لمفكر ما ويرفضه غيره، إذ إن هذه المركزية النظرية قد غدت منذ أمد بعيدٍ أمرًا مسلّمًا به في الفكر الغربي ومفروضًا في وسائل الإعلام العالمية وغدت ظاهرة في الطابع اليومي لوسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم فإن الحديث عنها مسؤولية نقديّة ينبغي تحمّلها وتبيانها وأداؤها.

أثناء قراءتي للكتاب “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، لفت انتباهي ما مهّد به الكاتب كتابه حين قال: “باستثناء الغرب، فإنه ما من حضارة تمتلك كيمياء عقلانية، وكذلك الأمر بالنسبة للفن، فربما كانت شعوب أخرى تتمتع بحس موسيقي، غير أن الموسيقى المتكاملة عقلانيًّا وائتلاف الأصوات، كل ذلك لا يوجد إلا في الغرب” [الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: ص 5-6]، بل إن كثيرًا من المثقفين الغربيين يرون أن الحضارات إنما جاءت ممهّدةً لقدوم الحضارة الغربية.

كيف تسللت هذه الفكرة؟

نجد هذه النظرة الأحادية والفكرة الإقصائية عند كثير من المستشرقين الذين درسوا الحضارات الأخرى، بمنهج عقلاني من جانب أو بعقدة النقص من جانب آخر، إلا أن هذه النظرة ليست حكرًا على الغرب وأهله، بل هي إرث يشترك فيه الكثيرون، فثمة أناس كثيرون –من بني جلدتنا وأفكارنا ومدننا- ينفون عن المسلمين الحضارة، بل ويصفونهم بأنهم أمة الجهل والتخلّف.

لنعد قليلاً إلى كتاب “وعود الإسلام” للمفكر الفرنس روجيه غارودي، حيث يقول فيه: “الغرب عارض، وثقافته مسخ فقد بترت من أبعاد جوهرية، ومنذ قرون ادعت هذه الثقافة بأنها تنحدر من إرث مزدوج: يوناني-روماني، ويهوديمسيحي، في الحقيقة لقد انبثقت أسطورة “المعجزة الإغريقية” لأن هذه الحضارة بُترت عمدًا من جذورها الشرقية. [وعود الإسلام، ص: 15].

بهذا القدر من التعمّد أيضًا، يحاول كثيرون قطع التاريخ الإنساني من سياقه ومحو التراكم الذي جرى فيه واقتلاعه من جذوره، في محاولة لتعزيز وتدعيم النظريات التي تحوم حول تفوق العرق الأبيض على باقي الأجناس الأخرى، والتأكيد على أن الإنسان الغربي هو الأكثر تطورًا من الناحية العقلية والنفسية.

أين الإنصاف؟

يلقى هذا الخطاب صدى متكررًا لدى المستلبين ذهنيًّا، كما أنه يلقى الرفض لدى الباحثين المنهمكين بالبحث في التاريخ الإنساني والمستشرقين المنصفين الذين يجدون في كشف الحقائق متعتهم، ومن هؤلاء نذكر المؤرخ الفرنسي “غوستاف لوبون” والألماني “شبنجلر” والبريطاني “كارين” وغيرهم.

غوستاف لوبون ممن أنصفوا الحضارة الإسلامية

غوستاف لوبون

قبل مدة من الزمن انتشر مقطع مصوّر لأحد المدونين الذين يبسّطون العلوم المعاصرة، تحدث فيه عن موضوع معين، وفي معرض حديثه قال: “لقد أسس فرنسيس بيكون المنهج التجريبي”، وفي هذا مصيبة لا تخفى!

قد يسلّم شخص لم يدرس التاريخ بهذا الأمر، إلا أنه بالنسبة لمن درس التاريخ وخاصة تاريخ العلوم -ليس بتاريخها الذي يراد له أي التاريخ الإغريقي وحسب-، بل التاريخ الإنساني، فإنه أمر عسير التقبّل؛ حيث يدرك أن فرنسيس بيكون لم يسبق أبداً العالم المسلم ابن الهيثم، بل العكس؛ إذ للعالم المسلم فضل السبق في المنهج التجريبي، ولا يحتاج ذلك منا سوى الرجوع إلى كتب القوم واستحضار الشهود، بل إن الأمر أبين من ذلك، فقد احتفلت اليونسكو بالعالم المسلم ابن الهيثم باعتباره مؤسس المنهج التجريبي.

يشير الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه “من تاريخ الإلحاد في الإسلام” إلى موضوعنا هذا، فيبدي رأيه لأولئك الذين يعتبرون أن المسلمون لم يخرجوا من عباءة الحضارة اليونانية وأنهم مجرد مقلدين، قائلاً – غفر الله له-: “يجب ألّا نُخدَع إذاً -بعد فشل الادعاءات- بتأثير الحضارة في الحضارات، بل يجب أن نقوّمه التقويم الصحيح على أساس أن لكل حضارة روحها الخاصة، وأن الاشتراك في التراث لا يدل على شيء بالنسبة إلى روح من يشتركون هذا التراث. لكن ليس معنى هذا أن الحضارة الإسلامية حضارة قائمة بذاتها تكون دائرة حضارة مغلقة، وإنما هي جزء من حضارة كبيرة، الحضارة العربية هي أهم جزء في هذه الحضارة الكبرى” [من تاريخ الإلحاد في الإسلام، ص 24].

ضياع الهوية الثقافية!

أعتقد أن فكرة الدكتور عبد الرحمن تغلق كل المنافذ على المتهافتين من مختلف الجهات –حيث يناقش هنا  آراء مؤرخين أوربيين لا آراء المتعلمين الجدد -كما يقول مالك بن نبي رحمه الله- سواء كانوا من الجانب الذي يقول: إن الحضارة الإسلامية نسخة من الحضارة اليونانية، أو الجانب الذي يرى أنها حضارة خرجت من اللا شيء.

مالك بن نبي

على كل حال، فإن ما يهمنا هنا هم أصحاب القول الأول الذي ينتشر في فضاءات الميديا ويقول به كثير من مبسطي العلوم في العالم العربي، وقد يتضاعف أثر هذا الأمر حين نرى بعض شباب المسلمين والعرب ينافحون عن هذه العقيدة وكأنهم أحد أبناء الأوربيين المتعصبين لأوطانهم وما حيك حولها من نظريات التمجيد للغرب، وربما احتقر هؤلاء ذواتهم وتاريخهم، حتى بات الواحد منهم يعلنها صراحة ويجاهر بعداءه لمجتمعه وأبناء بلده، فيحتقر كل شيء يذكره بنفسه فهو لا يريد اسم “مجيد” راغبًا عنه في أن يسمى بـ “جورج”، ولعله كان يرغب في أن يصبح ذات يوم صاحب شعر أشقر وعيون خضراء ووجه جميل، وحين لا يحدث ذلك يلعن صباحه ومساءه، ويفرغ حقده على نفسه وأبناء قومه.

الغزو الفكري

تظهر السذاجة –أو الجهل- التي يمارسها مبسطو العلوم سواءً عن إدراك واستثمار مربح، أو عن غفلة لا مقصودة، حين نقف عند تعريف الغزو الفكري: فهو –بحسب الشيخ عبد الرحمن حبنّكة الميداني- “كل فكرة أو معلومة أو منهج يستهدف صراحة أو ضمنًا تحطيم مقومات الأمة الإسلامية: العقَديّة والفكرية والثقافية والحضارية، أو يتحرى التشكيك فيه، والحط من قيمتها، وتفضيل غيرها عليها، وإحلال سواها محله، في برامج الإعلام والتثقيف، أو النظرة الكلية للدين والإنسان والحياة” [الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، مؤتمر الفقه الإسلامي في الرياض عام 1396ه، ص 507]

إذا ما تمعّنّا جيدا في المحتوى الذي ينشره بعض مبسطي العلوم الذين لا يؤمنون بالقيمة التي قدّمتها حضارتهم الإسلامية للبشريّة، فإننا نرى السير نحو تعزيز الغزو الفكري والسير لدعمه سيراً جاداً، ولهذا نقول: إن مبسّط العلوم يجني على نفسه -حين يمسي بمثابة العميل الفكري عن علم أو جهل- وعلى مجتمعه ودينه بتشكيك الناس في نظم المجتمع وتعاليم الدين، والأدهى من ذلك أنه يزيّف التاريخ فيعلي تاريخ الغرب المستحدَث، ويتغافل عن تاريخ الإسلام المبهر والعظيم، والذي لولاه لما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه، فلولا جهود الخوارزمي الرياضية –مثلاً- ما كتبتُ هذه الأسطر ولا قرأتَها أنت.

شواهد وأمثلةٌ

نستشهد بسبق المسلمين على العالم الغربي ببضع أسطر هي عندنا تعادل كتابًا، يقول روجيه غارودي في كتابه وعود الإسلام:  “وقد مارس العرب التلقيح ضد الجدري بإدخال قليل من قيح دمل متجرثم بمرض الجدري قليلًا، من شرطه في الجلد وذلك قبل ” جيينر  “Jennerبعشرة قرون، ودرس الطبيب الجراح الأندلسي أبو القاسم (المتوفي 1013) مرض السل في الفقرات ” مرض بوت “، قبل بيرسيفال بوت (1713-1788) بسبعة قرون ونصف ومارس ربط الشرايين في حالة البتر قبل امبرواز باريه Ambroise Paré (1517-1590)  بتسعة قرون.. لقد استند علماء الطبيعية الكبار في العصور الوسطى على أعمال العرب” [ص: 107]

إن كثيرًا من الناس لا يحب أن يسمع حقيقة كون الإسلام بانيًا لحضارة عظيمة، فهم لا يعرفون عنه سوى وجود بعض التنظيمات العنيفة التي يصوّرها الإعلام وكأنه المسيطرة على العالم الإسلامي، أما فلسفته وشريعته ونظمه السياسية والاقتصادية التي لا ينكر فضلها المنصفون من الغربيين، فإنهم يكادون لا يعلمون عنها شيئًا.

لقد بنى الإسلام مجتمعات متماسكة وقوية ودولًا تحكُم ولا تسيطر، وذلك مقابل الدولة العلمانية التي خنقت الإنسان وأمسكت بزمام الأمور وانتهت بمجتمعات هي أوهن من بيت العنكبوت، هذا ما لا يعرفونه أو يتجاهلونه.

إننا بحاجة لإعادة تشكيل العقل المسلم، وبرمجته بما يتناسب وتراثه العريق وتاريخه التليد، رغم أن الحال كما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع بتقليد الغالب”.

الصورة الرئيسية لمقال الصدمة الحضارية

رويدا رويدا.. لا تنصدم حضاريا!

لا شك أن الإنسان أياً كان جنسه أو بيئته أو انتماؤه يَنشُد العيش في مجتمع تكون القيم الحضارية فيه من عدالة وحرية وكرامة للإنسان محميةً مرعيةً لها مركزيتها وأولويتها في الدائرة التي يعيشها، إضافة إلى تطلّعه الدائم لحياة أفضل وظروف معيشة مريحة ونمط منظّم.

ولعل جميعنا من المعجبين أشد الإعجاب بكل قيمة حضارية مطبقة أو تقدم تقني حاصل وصل إليه من كان، أينما كان، وليس هدف الكلام -في هذا المقال- إنكار أو تبخيس النموذج الحضاري الذي يتصدر المشهد في العصر الحديث، إنما يستعرض سريعاً ما قد يجنّبنا التسرع في الحكم على الحالة الحضارية التي يقدمها منسوبوها على أنها النموذج الأمثل للعيش.

لا شك بالإطار العام أن الدول التي يطلق عليها وصف (العالم المتحضر) في هذا العصر يقدمون القِيم -كالعدالة والحرية والكرامة الإنسانية والسعي المستمر للحياة الأفضل- على أنّها أهم أولوياتهم، لكن مع غض النظر عن تفنيد المعنى المتصور عندهم للقيمة الحضارية أو حدود تطبيقها التي قد تنفلت أحيانا من ضوابط عقلية وأخلاقية محددة، أو أولويات تطبيقها التي قد تَضعُف في العديد من القضايا، خاصة عندما تتعلق بأفراد من المناطق البعيدة عن مراكز التحضر! -وأقصد المعنى العملي للكلمة وليس المعنى القاموسي المدون في تنظيراتهم وفلسفاتهم-.

بغض النظر عن ذلك كله، فإن علينا التحري أكثر عن هذه الحضارة التي تصدم زوّارها حتى لا يكاد إنسان يخلو من لوثة “الانصدام” إلا القليل ممن نظروا ملياً وتمهّلوا قبل أن يعاجلهم الانبهار فيصوغ نظرتهم ونظريتهم حول الحضارة والتحضر!

مرض الصدمة الحضارية

بدايةً إن أهم ما ينبغي التركيز عليه حول الحاصل عند مصدومي الحضارة أن تقييم الحالة الحضارية عندهم ينطلق من تحسس الحلقة الزمانية الأقرب إلينا في تجربة الحضارة الغربية، ثم يضربون صفحاً عن سياقها التاريخي وحلقاتها السابقة التي ضحى فيها الإنسان “المتحضر” بقدر متزايد من القيم، يتناسب طرداً مع حجم المكاسب والمغانم التي سيحصل عيها في تلك البلاد التي قصدها احتلالاً واستغلالاً ونهباً لثرواتها ومقدراتها، فكانت الحملات والحروب العسكرية المباشرة، ثم تبعتها حروب الوكالة ودعم الديكتاتوريات والأنظمة القمعية مع تأمين الغطاء العسكري والاقتصادي والسياسي لمستلزمات هذه الحروب حسب متطلباتها، والأمثلة أكثر من أن تذكر في هذا السياق وهي لا تبدأ بإبادة السكان الأصليين في طرفي العالم المعاصر.

مروراً بأفعال وسياسات الأنظمة الغربية المعاصرة في القرن المنصرم، مما أفاض به على سبيل المثال الكاتب البريطاني المعروف روبرت فيسك لما عاصره بنفسه من أحداث في مجلداته الثلاثة التي جمعها في كتابه (الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة) والتي يعبر عنوانه عن مضمونه بشكل جليّ، وليس انتهاءً بما شهدناه بأعيننا في السنوات العشر الأخيرة من ازدواجية فظَّة مارستها الدول المتحضرة في ملفات منطقتنا الساخنة.

يظن مرضى الصدمة الحضارية أن المنتَج الحضاري حكرٌ على الدول الموسومة بالتحضر وكأن خامة عقول أبناء المجتمعات الحضارية تفوق نظيراتها في المجتمعات الخارجة عن هذا التصنيف!

ماهية المنتَج الحضاري

إن المنتج الحضاري في كل حضارة سائدة أو بائدة هو منتَج العقل الإنساني بعمومه عبر الحضارات المتناوبة، وهو تراكم لما أنتجته الحضارة الإنسانية على مر العصور، فهو لا يحمل ختم البقعة الجغرافية المنتجة له وإنما يحمل ختم الإنسان المعمَر آلاف السنين على اختلاف هويته ولونه وتنقلاته!.

ألا نرى أن مراكز البحث حول العالم تمثل نماذج لافتة لاجتماع العقول والأعراق والانتماءات والثقافات تحت سقف واحد؟ فمراكز البحث الكبرى ومصانع المادة الحضارية من علوم إنسانية أو تقنية أو ثقافية …إلخ المتمركزة في الدول المتقدمة ليست إلا حاضنةً لهذه العقول ومراكز استقطاب لها من شتى بلدان العالم المتحضر والنامي على حد سواء، ويُبذل في سبيل ذلك الاستقطاب ما تجاوز في حالات شتى السعي لاستقدامهم أو الاحتفاظ بهم بل تعداه لتصفيتهم عند إصرارهم على عودتهم إلى بلدانهم التي تقع خارج دائرة العالم المتحضر!

لعل غياب البديل الحضاري أو السعي لتغييبه وتشويهه في عصر العولمة والقطب الواحد قطع الطريق على عقد المقارنة بين نموذجين مختلفين لإدارة المجتمع البشري بحيث تُظهر لنا هذه المقارنة عَوَرَ أو تميز أي من النموذجين على حساب الآخر، بل أخذ بعض مرضى الصدمة الحضارية بسذاجة استحضار قوالبٍ من الماضي ثم إسقاطها على معطيات حياتية محدثة فوجد أن هذه القوالب لا تستطيع التعامل مع المستجدات! فخَلَصَ إلى أنه لا شيء يصلح لإدارة العالم سوى الطرح الحالي! وهذا قصور في النظر من عدة زوايا نحتاج شرحه في غير هذا السياق.

لا شك أن مسحة الإعجاب التي تمس زوار الدول المتحضرة لها ما يبررها، وحقٌ هو إبداء الإعجاب بكل ما هو حضاري، لكن الذي لا نجد له مبرراً عند البعض استفحال الحالة المَرضية حتى تتجاوزَ به الإعجابَ بمظاهر التحضر التي يعيشها إلى نسف التجارب الحضارية السالفة وقد تجلّت فيها القيم الحضارية بأبهى معانيها وأعظم تطبيقاتها وشهد بذلك أعلامٌ من رواد الحضارة التي أخذت بلبِّ الرجل، وذلك فقط لأن صاحبنا انتقى -مع اطلاعه الضحل على التاريخ- مشاهد مسيئة وأحداث مشينة مرت بها تلك الحقب، وهي التي تكاد لا تخلو منها تجربة إنسانية.

ولو أنه كال التجربتين بنفس المكيال لعادت عافيته إليه ووضع الأمور في نصابها الحقيقي. ولكنه انتقى من مشاهداته السطحية لصور التحضر أفضلها وجعلها معبرة عن التجربة الحضارية الحالية ناطقة باسمها! ثم انتقى من اطلاعاته التاريخية المحدودة أسوأ الصور وجعلها معبرة عن تلك المرحلة ناطقة باسمها!

ختام القول

ليس الكلام السابق تبخيسًا لتطور حاصل وتقدم ملموس في مجالات شتى فيما يسمى بـ (العالم المتحضر) ولكنه دعوة للتحرر من هذه النظرة الأنانية والتي تتبلور من منطلق أن الحضارة الحالية جعلت حياتنا أكثر سهولة وأكثر رفاهاً، كالمأخوذ بجمال قَصرٍ يقطنه؛ إذ فيه من الرفاهيات والـمُشتهيات ما يُنسيه النظر في مقدمات إشادته: كيف؟ وأين؟ ومن أين؟

إنه اجتزاءٌ للمربع الجميل من الصورة المركبة ثم إطلاق الحكم على كامل الصورة!