مقالات

الإسلام وفقه إعمار الحياة

إن الهيكل التراتبي لفقه العمارة في الإسلام، يقدّم أساسَي الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، على عمارة المسجد الحرام، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19]؛ فمنزلة عمارة النفس بالله في سلّم الوحي، أفضل حتى من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، فما بالك بمن جعل من العمران أو تأسيس الحضارة، مقصدًا قرآنيًّا!.

لقد اعتنى القرآن عناية بالغة بقضية عمارة النفس بالله والاستسلام له، فلا تكاد تجد موضعًا، إلّا وفيه ذكرًا لقضايا متعددة من دلائل وحدانية الله واثبات اليوم الآخر وقصص الأنبياء، والأهم ربط التشريع والعبادات والمعاملات في القرآن برابط واحد يجمع كل هاته المواضيع ببعضها، وهو عمارة النفس بالله والخضوع له، أما الحضارة والعمران فهي أثر ثانوي يتحقق تباعًا، لا كما يحتج كثير اليوم، على وجوب تقديم العمارة قبل تحقيق التزكية والتربية، بناء على قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 61]، إذ الواقع أن العمارة هنا جاءت في سياق الامتنان الإلهي، ثم الأمر بالاستغفار والتوبة، نظير نِعم الله لا الكفر والجحود، وهي لم تأت في سياق الحثّ والطلب، أو كونها مقصدًا قرآنيا لتحقيق الاستخلاف، ولو كان تحقيق الاستخلاف بمحض العمارة والبناء المادّي، لما أنزل الله عقابه على أمم غابرة، كانت أشد قوة، وبرعت أيّما براعة في استخراج الأرض وعمارتها، إذ أمرنا بالسير فيها والنظر في عاقبتهم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 30].

الرسول بين هداية الحيارى وإقامة الحضارة

تسللت عديد المفاهيم الليبرالية الفجة إلى الداخل المسلم، ثم تلقفها العامة بحسن نية، رغم ما تحمله من تلوث فكري عميق، إذ يتم التصدير لنا، أن أهم وظيفة ومُنجز قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أنه باعث لحضارة إسلامية من عمق البدو والصحراء! وليس باعتباره رسول الله إلى الناس جميعًا، جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وفضلا على أنه ما لتأسيس دولة الإسلام، من الأهمية الشرعية والسياسية، وكذا تحصيل أسباب القوة، إلا أنّ ذلك لا يجب أن يتخطى سلّم أولويات الوحي، فتأسيس دولة الإسلام وحضارته، هو تَبَع للغاية الكبرى وهي التبليغ عن الله وهداية الخلق، وليس العكس.

تحت الاستخدام المهول للأدوات الناعمة لهذا العصر، الممزوج بشيء من الغرائز الإنسانوية، تمّ النفخ في قضية الحضارة والعمران وتحميل معاني القرآن ما لا تحتمل، وطبعًا تحت أثر تعظيم الحضارة المادية والمغالاة فيها، تسرب في اللاوعي الجمعي، الاعتداد بالحضارة الغربية والانبهار بها، حتى صارت قِبلة وهمّ شباب المسلمين اليوم، ولا يعلم كثير من الناس أن هذا الانقلاب الفكري والمفاهيمي، يعزز في الداخل المسلم قبل الخارج، ويبعث فيه رسالة سلبية، مفادها: طالما أن إقامة الحضارة المادية هي الغاية في نهاية المطاف! فما الذي يجعل الداخل المسلم لا يفِد للآخر الغربي؟ وما الذي يجعل الآخر لا يستغني عن الإسلام، طالما حقّق مراده وغايته المتركزة حصرا في الحضارة المادية؟

جواب ذلك، أنّ أوّل ما يجب أن تعلّق به القلوب وتوطّن عليه، إحياء النفس الجمعية للمسلمين والاعتزاز بها، والتأكيد على أن الحضارة الغربية، مجرد حياة بهيمية منحطة ومادية بائسة، تجهل أعظم مطلوب وهو العلم بالله، ينطبق عليها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12]، كما أن أبلغ ما ترسّخ به العقول، هو أن معيار خيرية الأمم عند الله عز وجل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}]آل عمران: 110[، أما أصحاب الحضارات، المنبَهَر بهم، فقد قال الله فيهم: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} [آل عمران: 110]، وأنّ ما ننشده من حضارة كمسلمين، هي الحضارة التي تعلي ما أعلاه الإسلام وتخفض ما أخفضه، قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

الطريف في الأمر، أنه ورغم ما حفِلت به الأطروحات المغرضة، من تطويع للنصوص وخطابات حداثية سيّالة، لم يتحقق منها شيء!، وأنى لهم أن يحققوا شيء؟ إذ كيف لمن يشعر بهزيمة من الداخل أن ينهض؟

في هذا يقول بن نبي في كتابه دور المسلم: “لماذا استطاع ذلك أولئك الأعراب الفقراء في عهد محمد صلى الله عليه وسلم؟ لماذا قام أولئك الأعراب الفقراء الأميون بإنقاذ الأمة الإنسانية وشعروا أنهم جاؤوا من أجل إنقاذها؟ فقد كانوا يعلنون هذا في أقوالهم ومخاطباتهم للآخرين، سواء من أهل الفرس أو من أهل روما، كانوا يقولون لهم: لقد أتينا لننقذكم، إنهم لم يشعروا بمركب النقص، فلماذا لم يشعروا بمركب النقص؟، لأن الإمكانيات الحضارية المتكدسة أمامهم في فارس أو في بيزنطة أو في روما لم تفرض عليهم النقص، وبعبارة أخرى لم تبهرهم”[1].

مالك بن نبي

علاوة على ذلك فإن المتأمل لما يقدمه القرآن من هدايات وتصورات من جهة، وما تقدمه كثير من الأطروحات المحايدة بزعم أصحابها، من جهة أخرى، يرى تباينًا صارخًا، فالأطروحات المغرضة لا تنفك تصدّر لنا أنّ غاية المدنية هي تحقيق الرفاه للبشرية، بينما نقرأ في القرآن: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، فالغاية مما حبانا الله إياه من نعم، إنما هو الابتلاء، فهل نغير مقتضى الوحي وفحواه ليتوافق مع مزاجنا الليبرالي، أم نفتش في دوافعنا عمّا يرجعنا إلى حاضرة القرآن ومآرب الوحي؟

الاستهداء بالقرآن

الدعوة لاستنطاق مقاصد القرآن وفق مراد الله، وما يتطلب مبدأ عبوديته، ليست سذاجة في التصور، ولا سطحية في الطرح، ولا باقي الإطلاقات الصحفية غير المسؤولة، والحث على عمارة النفس بالله أولا والاستسلام له، قبل تأسيس الحضارة والعمران، ليست دعوة إلى التقوقع والانكفاء على الذات، فالإسلام لا يدعو إلى السلبية والانسحاب من الحياة العامة، بل على العكس فقد ضاعف الأجر على العمل، وحثّ على الضرب في الأرض والمشي في مناكبها، قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، لكن الانتفاع الحسي من متاع وماديات، هو ما شغل الإنسان عن مراد الله ووحيه، فأصبح يفتّش في القرآن عمّا يوافق انتفاعه وهواه، مغلبا جزأه المادي عن الروحي، رغم أنّ داخل ذات هذا الإنسان شعث، يورثه كل حين شعورا بالتيه والوحدة وفقدان معنى الحياة، ولا يجبر هذا الشعث ويسده، إلا الإقبال على الله والقرآن.

إن هذا الدواء ثابت بنص الكتاب، قال تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71]، فالقرآن لا يعطينا بيانا شافيا في التصور الصحيح لقضايا جوهرية كهاته فحسب، بل يلهمنا كيفية التصرف معها، وبيان حالنا ومآلنا إزاءها، فسبحان القائل في كتابه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 39].

إن العبودية الخالصة – إذًا- هي أم المقاصد وغايتها، وقصد القراّن إلي تحصيل العلم وحصول الإيمان والعمل الصّالح هي أسس هذا المقصد، وقصده إلى إيجاد الوازع، والتذكير، والوعظ، والإحسان، والصبر، هي أعظم ما يُتوصّل به إلا إقامة تلك الأسس، وذلك المقصد، وتلك هي عناصر المنظومة المقصدية في القراّن.


[1]مالك بن نبي، دور المسلم، دار الفكر، دمشق-سورية، الطبعة الأولى (1991) ص49

من مظاهر العبودية في حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام

لم يعتمد القرآن الكريم أسلوبًا واحدًا لإيصال رسالته إلى الناس، بل تعدّدت أساليبه وتنوعت، فهو حينًا يعتمد أسلوب الحوار، وحينًا آخر يعتمد أسلوب ضرب المثل، وتارة يعتمد أسلوب التربية النفسية والتوجيه الخلقي، إلى غير ذلك من الأساليب التي لا تخفى على من تأمل وتدبر كتاب الله العزيز.

لقد كان أسلوب القصة من الأساليب التي اعتنى القرآن الكريم بها عناية خاصة؛ لما فيها من عنصر التشويق، وجوانب الاتعاظ والاعتبار. وقد ألمح القرآن إلى هذا في أكثر من آية من ذلك قوله تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف:176]، إلى غير ذلك من الآيات التي تبين اعتماد القرآن أسلوب القصص، تحقيقاً لمقاصد وأغراض عديدة.

العيش تسليمًا لله

لقد كانت قصةُ نبي الله إبراهيم عليه السّلام أطول القصص القرآنية بعد قصة نبيه موسى عليه السّلام، وقد نزلت آياتها مبكرًا في المرحلة المكيّة واستمر نزولها حتى أواخر المرحلة المدنيّة، وهذا يعني أن قصة إبراهيم التي أخذت هذه المساحة الكبيرة في القرآن الكريم لها، وأخذت هذه المدة في نزول الوحي، وسميت سورة في القرآن باسمه هي سورة إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، كلّ ذلك يؤكد أن لها دورًا كبيرًا في تحقيق أهداف القرآن الكريم ومقاصده.

قف عند قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] –على سبيل المثال- متأمِّلاً- وتخيل أحدًا ما يأخذ طفله الرضيع وزوجته ليتركهما وحدهما في صحراء جرداء قاحلة، لا ماء فيها ولا زرع، ولا بشر يستأنس بهم، ولا وجود لشيء يعد مقومًا من مقومات الحياة بين أيديهم، ثم يغادرهم ويذهب دون شرح أو توضيح.

هذا ما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام، حيث ذهب بزوجته هاجر ورضيعها إسماعيل إلى صحراء مكة في الموضع الذي تفجرت فيه زمزم، فقد تركهما وحيدين دون راعٍ أو مؤنس، امتثالًا لأمر ربه تعالى، في صورة من صور التسليم المطلق، ثم مضى في طريقه تاركًا لهم قليلًا من الماء والزاد، فتسأله هاجر ثلاثًا: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس؟! فلم يلتفت إليها. فقالت هاجر: آلله أمرك بهذا؟ فيرد عليها عليه السلام: نعم. فتقول المؤمنة بربها في غير تردد ولا قلق: إذن لا يضيعنا. [أخرجه البخاري في صحيحه].

انصرف نبي الله إبراهيم عليه السلام وهو يدعو ويقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة إبراهيم:37-38].

هكذا فقط: آلله أمرك بهذا؟ فيرد: نعم. إذًا لا حاجة لنقاش أو تبرير. الله أمرك بهذا، فلا إجابة سوى السمع والطاعة. إبراهيم ينفذ ما أمره به ربه دون تردد، وزوجه معه لم تناقشه حتى في فعله. مهما بلغت المشقة، والحيرة من خفاء الحكمة في الأمر، ولكن التجرّد من حول المرء إلى حول الله وقوته أكبر وأمكن، ويقينهم في الله أعلى وأعظم.

الإقرار بالفداء

في موقف آخر يظهر عظمة التسليم نرى إبراهيم عليه السلام يبثّ لولده أمر الله بتقديمه قربانًا، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }، [الصافات: 102].

لقد قال له ولده: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه أمّي فتحزن، وأَسْرِعْ مرّ السكين على حَلْقي؛ ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت سارَة فاقرأ عليها مني السلام; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه، حتى استنقع الدموع تحت خدّه، ثم إنه جرّ السكين على حلقه، فلم تَحِكِ السكين، وكأنّ ضرب الله صفيحة من النحاس عليها، هنا نودي يا إبراهيم (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) بالحق فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخَلَّى عن ابنه، فأكبّ على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بُنَيّ وُهِبْتَ لي; فلذلك يقول الله: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [تفسير الطبري بتصرف].

إن إبراهيم هنا -بعد الاختبار الأول- يختبره اختبارًا ثانيًا ليكون في مآله خيرٌ للبشرية وإبطالٌ لعادة التقرّب بدماء البشر، ومرة أخرى يحقق إبراهيم العبودية الكاملة لله تعالى ومعه ابنه، فيمتثلان للأمر دون اعتراض أو مناقشة. (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أسلما أمرهما لله واتفقا على التفويض إليه، وبالفعل لما باشر إبراهيم الذبح، ناداه ربه: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا). وتلك قصة الفداء المعروفة.

ذلكم مثالين من أمثلة كثيرة في قصة إبراهيم عليه السلام، وهي وحدها غنية بالأمثلة، وقد وردت في عدة سور كالبقرة وآل عمران والأنعام وهود وإبراهيم والحجر والنحل ومريم والأنبياء والحج والشعراء والعنكبوت والصافات والزخرف والذاريات والنجم. وفي أكثر هذا المواضع أمثلة على ما ذكرنا. ولما رأينا من هذه الأمثلة فإن العبودية لله تكون بالانقياد والطاعة التامة لأوامره سبحانه، وما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام دون اعتراض أو مناقشة، حتى لو خفيت الحكمة من وراء الأمر، فسلم لله تسلم.

أن يترسّخ الإيمان في القلوب!

يقول الصحابي الجليل جندب بن عبد الله رضي الله عنه: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن)، وذلك في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا). [صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه] -ومعنى حزاورة: جمع الحزور، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم- أي أنهم كانوا يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوة والمشاهدة والإرشاد والتطبيق العملي أصول دينهم وعقائده، فيأخذون منه الأصول التي ينبني عليها بعد ذلك، وينقادون لأمره صلى الله عليه وسلم انقيادا تاما وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ثم يحفظون ما تيسر من آيات القرآن الكريم  ما يقوى ويزداد به إيمانهم.

وبالتأكيد فإنه ليس المقصد هنا التقليل من أهمية حفظ القرآن الكريم وتعلمه، وإنما التنبيه إلى ضرورة وجود خطوة مهمة تسبقه، وهي ترسيخ الإيمان واليقين بالله في القلب، فذلك جوهر العقيدة، ومن هنا تنبعث العبودية الكاملة لله تعالى والانقياد المطلق لأوامره فكرًا وممارسةً، وتعلّم ذلك أدعى إلى التمسك بما يجيء في كتابه سبحانه وتعالى وعدم رفضه أو النأي عنه، أو الصد عن ما قد يشكل على أفهامنا منه، ولنا في تطبيق العبودية لله خير مثل، أزكى الناس وأعلاهم منزلة، الأنبياء المختارون من قبل الله عز وجل، ففي سِيَرهم جميعًا كل الهدي للعبودية الصحيحة الكاملة كما يريد الله تعالى منا، والمطالع لسيرهم لن يعدم أن يتنبه للأمثلة والعبر، حيث يقول الله تعالى: {لقدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ]سورة يوسف: 111] وهذا ما تظهره لنا حقيقةً مواقف نبي الله إبراهيم –التي عرضناها-، فاللهم انفعنا بذلك يا أكرم الأكرمين.