مقالات

الكَيِّس والعاجز

هل يمكن للحياة أن تستمر وتنمو في طريق التطور من دون أن يكون هناك تقويم مستمر لمساراتها؟

ندرك الجواب مسبَقًا، ومنه نعلم أننا بحاجة للتقويم المستمر، فإننا لن نجد تاجراً ناجحاً إلا ونراه مراقباً عمّاله فيما يصنعون، داعماً المصيب منهم في الاستمرار على النهج الذي انتهجه، مقوماً المخطئ آخذاً بيده إلى ما عليه فعله، وكذلك عمل العبد المسلم مع ربه، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة، وهو الذي نقدم له العمل الصالح فيضاعفه لنا بالأجر والثواب أضعافاً كثيرة.

الحياة في سبيل الله

إنّنا نتعامل في هذه الحياة الدنيا مع الله، فالغاية الكبرى من وجودنا هي عبادته وأن نتقيه ونخافه وألا يمنعنا ذلك من أن نرجوه وندعوه، وقد خلقنا الله فأنزل علينا شريعةً واضحةً، وبين لنا أوامره ونواهيه، وما ذلك إلا لأنه أراد صلاح مجتمعاتنا وسعادتها، إلا أن الإنسان كان قد جُبل على الخطيئة، إذ كل ابن آدم خطّاء، فالعبد في طريقه إلى الله قد تزل قدمه، فيجدر به حينها أن يتوب ويرجع ويواصل المسير، لا أن يغرق نفسه في الذنوب والشهوات ويحيد عن الطريق الذي أراده الله للبشر.

ليست المشكلة الكبرى في أن يذنب الإنسان وتزل قدمه، بل في ألّا يعرف العبد أنه يذنب! وكيف يعرف أنه يذنب وهو لا يراقب نفسه؟

مثل ذلك الشخص كمثل تاجرٍ افتتح مشروعاً ضخماً وموّله بمئات الملايين وقد مضت عليه السنون دون أن يحصي ماذا دفع لأجله وماذا جنى، ولا جرد بضائعه ولا أحصاها، ومن كان هكذا حاله فقد يكون رابحاً ولكنه قد يكون خاسراً أيضاً، وحين يكون خاسراً فإن لن يقوى على تحمل الخسائر التي مني بها إذ سيكون حينها قد فاته الأوان.

حاسب نفسك تسلَم

ومثل هذا كمثل العبد في تعامله مع الله إما أن يحاسب نفسه على كل كلمة نطق بها لسانه وكل نظرة أطلقتها عينه وكل مجلس قد حضره وكل فعل قد فعله، ويراجع نواياه فينظر أيها كانت خالصةً لوجه الله وأيها قد داخلها رياء أو عجب أو كبر، حيث يسلط بصره على قلبه فيفتش في أمراضه فيعالجها بالتزكية، من قرآن وأورادٍ ودعاء، أو يترك نفسه على هواها فلا يبالي بعرض من قد خاض ومن اغتاب وكم من المرات قد كذب وخدع، وأين أطلق بصره، وهل المجالس التي يحضرها ترضي الله أم أنها مبنية على اللهو المحرم.

أما أمراض القلوب فحدث ولا حرج، إذ هي أشد من الذنب الظاهر للعيان، فما القول إن كانت الذنوب الظاهرة للعيان غير مهمّة لكثير من الناس، فكيف بالذنوب التي لا يدركها إلا صاحبها؟ كأن يداخل قلبه عجب بعمله الذي يظن أنه صالحاً، أو أن يرى نفسه خير خلق الله، أو أن يتصدق عندما يحاط بأناسٍ بينما يكون إخراج روحه أهون عليه من إخراج الصدقة عندما يكون لوحده.

لكل مجتهد نصيب

إن الأولى للمحاسب نفسه أن يقف عند كل صغيرة وكبيرة، بهدف أن يخاف الله خوفاً صحياً لا مرضياً، وهذا الخوف هو الذي يتبعه أمناً يوم القيامة، فالطالب الذي يخاف من صعوبة الامتحان خوفاً يؤدي به إلى الاجتهاد في الدراسة يصل للنجاح في خاتمة المطاف، أما الذي يخاف خوفاً كبيراً لا مسوغ له فإنه قد ينتهي به الحال في المشافي أو المصحات العقلية أو الموت في بعض الأحيان!

هذا ما يحدث في كل عامٍ لعدد من الطلبة الذين يخافون من الامتحان أكثر من اللازم، وهذا ما لا يطلب من الطالب فعله ولا من العبد كذلك، إذ على الإنسان العمل وعلى الله الجزاء، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وفي المقابل فما دام الخوف في بعض الحالات النادرة قد يؤدي إلى فقدان العقل أو الموت، فهل نقول للطالب عليك ألا تخاف مطلقاً من الامتحان وأن تأمنه؟ بالطبع لا، بل نقول له: ادرس واجتهد وافعل ما بوسعك فعله ثم لا تلامُ بعد ذلك، إذ حينها تكون قد أديت ما عليك أداؤه.

هذا عينه ما نقوله لذاك الذي يدّعي أن الله محبة وأن الله غفور رحيم ودود، وأن علينا ألا نخاف الله، متجاهلاً أن الله لا يجمع على عبده أمْنَين، فإن أمنه العبد في الدنيا أخافه الله يوم القيامة، وإن خافه في الدنيا أمنه الله يوم القيامة.

إن من أمن الله في الدنيا –بمعنى الغرق بما حرمه الله عليه- ولا يبالي بالظلم الذي يوقعه بحق نفسه أو بحق العباد لترديده مقولة:  إن الله غفور رحيم! فإنه ولا ريب لن يكون كذلك الذي يخاف الله في الدنيا، حيث يقوده خوفه لئلا يظلم نفسه ولا يظلم خلق الله بل يسعى جهده إلى أن يكون عبداً صالحاً راجياً بعد ذلك أن يرحمه الله يوم القيامة.

الكيّس من دان نفسه

لقد لخّص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حال هذين الفريقين بجملتين قصار واصفاً حال كل منهما، ومرشداً إيانا إلى أي فريق ننحاز وعن أي فريق نبتعد، فقال: “الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني” [أخرجه الترمذي في السنن] وقد أعطانا الحسن البصري -الذي قيل إن كلامه أشبه بكلام الأنبياء- تطبيقاً عملياً لأفعال هذين الفريقين، فقال: “إن المؤمن -والله- ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمة كذا؟ ما أردت بأكلة كذا؟ ما أردت بكذا؟ ما أردت بكذا؟ وإن الفاجر يمضي قُدماً قدماً ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها” [مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية، ج2: 6]

التأصيل المعرفي لمصادر الشريعة الإسلامية

تعتمد مصادر التشريع الإسلامي في الأصل على مصداقية القرآن والسنة وتحكيمهما في كل تفاصيل الأحكام الدينية وترد إليها التعاملات الدنيوية، إلا أن المراد بيانه دور العقل المهم في هذه العملية، حيث يبرهن على مصداقية النقل وصحة ثبوته ثم مطابقة دلالته لمناط الاستدلال المستخرج منه.

الاستهداء بالقرآن

أما العقل فله في الاستدلال طريقان: الاستدلال المباشر وغير المباشر، وينقسم الاستدلال المباشر إلى ثلاثة طرق، الاستدلال بالقياس والتمثيل والاستقراء، كما أن الاستدلال غير المباشر له ثلاثة طرق أيضًا، حيث الاستدلال بـالنقيض وعكس النقيض والعكس المستوي.

إن المسلم يعتنق الإسلام لاقتناعه بصحته عقلًا إذ لابد من مقدمة تسبق النتيجة –أي صحة الإسلام- حتى لا تكون النتيجة مجرد دعوى لا برهان عليها.

وطبعا فإنه من غير المعقول أن يكون البرهان على صحة الإسلام هو الجانب النقلي منه إذ أن ذلك يُعدّ استدلالًا بالدّور فيكون النقل استدلاًلا على صحة نفسه فلزم أن يكون النقل مقدمة ونتيجة في آن واحد وذلك ممتنع لعلة التناقض.

وبما أن العقل هو الذي يبرهن على صحة الإسلام فإنه يكون من حيث ترتيب المقدمات والنتائج سابقًا للنقل، ولكن بما أن العقل حكم على المنقول الإسلامي بالصحة بعد النظر إلى الحجج العقلية الواردة في هذا المنقول فإن هذا الخبر الذي حُكِمَ عليه بالصّدق المطلق يصبح حُجّة على العقل الذي حكم عليه بذلك.

وعندها لا يمكن للعقل أن يطعن في صحة أي جزئية فيه كأن يقول: (أخطأ الله في هذا الموضع) لأنه بذلك يناقض حكمه الأول إذ أن الجزئية السالبة تنقض الكلّية الموجبة، ولذلك صار لزاما على العقل الإيمان بكل ما قاله الله عز وجل.

السنة النبوية وضرورة الاعتراف

من جملة ما أنزل الله في قرآنه قوله: {فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا} [النساء: 59]

وبعد أن جعَل العقلُ القرآنَ حكمًا عليه ومصدرا أولا في التشريع صار لزاما عليه أن يُدخل في مصادر التشريع ما أُمِر به في القرآن، وهو ردّ النزاع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا مما يعني إدخال سنّته في مصادر التشريع، وبذلك تكون أهم مصادره هي “القرآن والسنة”.

إلا أننا نتساءل .. ما هي السنة؟

السنة هي كل ما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو وصفٍ أو تقرير، وقد حكم العقل على صحة ثبوت القرآن عن الله عز وجل من البداية، فبقي أن يعرف العقل طريقةً للوصول إلى السنة الصحيحة حتى يميز بينها وبين الضعيفة أو المكذوبة.

هنا توصّل العقل إلى شروطٍ لصحة الحديث من حيث الثبوت ثلاثة منها تدرُس الأسانيد وهي:

“اتصال السند، وعدالة الراوي: أي ترجيح صدقه ونزاهته وعدم كذبه، وضبطُه والضبط نوعان ضبطُ حفظٍ وضبطُ كتابةٍ وذلك لضمان عدم خطئه ولو بحسن قصد” واثنان منها تدرسُ المتون وهي “الخلو من الشذوذ أو العلل” وهذه الشروط كلها عقليّةٌ محضة إذ لا يوجد في القرآن ولا السنة اشتراطها لصحة المنقول كما لم يكن ممكنا أن تكون السنة حكما على ثبوت القواعد والقواعد حكما على ثبوت السنة في آن واحد فهذا دور سبقي ممتنع كما سبق بيانه.

وبناءً على ما سبق نعلم جيدا أن قواعد علم الحديث التي بها نميز بين الصحيح والضعيف والمكذوب قواعد عقلية، وليس الأمر مقتصرا على ذلك فحسب وإنما شرطان منهما يناقشان المتن مباشرة، أما شرط الشذوذ فعند مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ويمكن الاعتماد على السند فيه.

أما العلل فجلّها علل عقلية تمسّ المتن نفسه فيُحكم عليه بالنكارة إن كان ظنيا مخالفا للعقل للقطعي.

والعقل القطعي لا يحكم على القضية بالاستحالة إلا إن كانت مركبة من قضيتين متناقضتين قد توفرت فيهما وحدات التناقض الثمانية (الاتحاد في: الموضوع والمحمول والكل والجزء والمكان والزمان والقوة والفعل والشرط والإضافة، أو كان مناقضا لقضية واجبة الصحة، وليس كل حديث يستعصي فهمه على القارئ يرميه بحجة مخالفة العقل، فيجب التفريق بين العقل الذي يعمل وِفقَ قواعد وأصول متسلسلة في مقدماتها ونتائجها وبين العقل المعتمد على الهوى المحض، فقال الله {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71].

سبيل للإيضاح

نضرب هنا الآتي مثلاً، فإنه لا يقال: هذا الحديث ضعيف لأني لم أقتنع بالقصة التي وردت فيه.

وإنما على المعترض أن يبيّن وجه الاستحالة في القصة، فليست كل قصة مخالفة لما تعوّد الناس عليه تكون مستحيلة بالضرورة إذ أن باب الممكنات العقلية أوسع من باب المشاهدات الحسيّة، وليس عدم العلم بالشيء يعني العلم بعدمه.

فهناك من أنكر قصة الإسراء والمعراج لمجرد أنها تبدو غير مألوفة لديه ولم يتعود البشر على مشاهدة مثلها، ولكن لو عرضناها على العقل لوجدناها ممكنة لذاتها إذ إنها غير مركبة من نقيضين ولا هي مناقضة لقضية واجبة الصحة، بل هي مؤيدة لذلك إذ أن العقل أثبت وجود الخالق التام الذي يقدر على كل شيء وبما أنها من الممكنات لذاته فما المانع من أن يرجح الله وجودها على عدمه إن هو أراد ذلك؟ فيكون العقل هنا حجة على من ينكر الحادثة لأن المنكر يتهم الله من غير أن يشعر بالعجز عن نقل نبيه إليه وإعادته لمكانه في ليلة واحدة.

فهنا لا يصح أن يوصف المتن بأنه مخالف للعقل أصلا، ومن ثم إذا أردنا فهم دلالات النص وجدنا أنفسنا بحاجة إلى قواعدَ وأصولٍ توصل العقل إليها لغرض فهم المنقول ومعرفة دلالته، وهذا العلم يُصطلح عليه باسم “أصول الفقه”.

معظم قواعد هذا العلم عقلية ولغوية ومنها ما استُقرئ من مجموع النصوص النقلية بعد استعمال العقل آلةً لفهمها، لذلك اختلفت العقول في بعض قواعده فتأسست مذاهب فقهية كلٌّ منهم يريد الوصول إلى مراد الله ورسوله فمن اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد.

التوفيق بين الفلسفة والدين عند الكندي وابن مسرة

يرى بعض الباحثين أن الحركة الفكرية لمدارس علم الكلام الأولى هي الأب الشرعي للفلسفة الإسلامية، التي استقت فيما بعد من ينابيع أخرى على رأسها فلسفة اليونان، بينما يرفض آخرون هذا الرأي لأن علم الكلام –بحسب رأيهم- قد يشحذ الذهن، ويطور مهارة الجدل، غير أنه لا يقود للتفكير العقلي المنظم، ويستشهد هذا الفريق بالصراع بين الفلسفة وعلم الكلام، بالرغم من تبني علم الكلام للكثير من المصطلحات والمفاهيم الفلسفية، حيث كان ذلك كنوع من تبادل الأسلحة بين المتعارضين.

وثمة رأي آخر يرى أن الفلسفة الإسلامية ماهي إلا فلسفة يونانية بلسان عربي، زينت بأفكار أخلاقية أملاها الإسلام، لكن هذه الإضافات لا تبدل جوهرها، ولعل هذا أقرب الآراء للاعتدال، فالفلسفة اليونانية استمرت في المحيط العربي، مع ملامح جديدة للفكر الإسلامي، بيد أن هذه الملامح غارقة وسط الاقتباسات الكثير لأفكار اليونانيين، على أنه لا بد من القول إن الفكر لا يمكن أن يحتفظ بطابعه الأصلي عند انتقاله إلى بيئة أخرى.

موقف المسلمين من الفلسفة اليونانية
لم يكن الفكر اليوناني الذي بدأ بالدخول في المجال الإسلامي في بدايته صريح التعارض مع الإسلام، فقد ترجمت في البداية العلوم الفلسفية الطبيعية، والمنطقية، والأخلاق، واستقبلت البيئة الإسلامية ذلك بالترحاب، ولم يشتد الصراع بين الفكر الإسلامي والفلسفة اليونانية إلا عند ترجمة الكتب التي تتعرض للمشاكل الميتافيزيقية كالألوهية، ولم يتقبل علماء الكلام أن يكون النبي في كفة، مقارنة مع الفيلسوف في الكفة الأخرى، وأكثر ما أثار ثائرة علماء الدين المحافظين، ما فهموه من إمكان الاستغناء عن الوحي للحصول على معرفة مؤسسة من العقل وحده، والحقيقة أن التدليل على أحقية ما جاء به الرسول، بالقول إنه يمكن الوصول إلى مثله من طريق العقل، يعد في ذاته عملاً محموداً في نظر عالم الدين المتفتح الذي يسره أن يجد مبادئ دينه لا تعارض العقل، ولا تقف في سبيل الفكر، لكن هذا العالم المتفتح يؤكد على خصوصية النبوة فهي منحة إلهية لمصطفًى مختار، أطلعه مباشرة على الحقيقية، بصورة لا تحتمل شكاً ولا ارتياباً، والرسول ناقل أمين للحقائق الإلهية، ولو أمكن الفيلسوف فعل ذلك، فما من حاجة لمبلغ عن الله، وهنا جوهر المشكلة، حيث تبرز الحاجة لمعرفة مصدر أساس المعرفة أهو الدين أم العقل، وهذا الإشكال يوهم أن الدين لا يساير العقل، بل يخالفه، وهذا قول باطل بشهادة الدين نفسه، إن المشكلة تكمن في:

1- مدى وثاقة ما يوحى إلى النبي.

2- مدى أحقية العقل في مناقشة التعاليم والأفكار الدينية، بعد فرض صحتها.

3- أيهما أولى بأن يكون له اليد الطولى؟ الدين؟ أم الفلسفة والفكر الحر؟

للبحث في النقطة الأولى يتطلب التعرض لحقيقة النبوة ووظيفتها وضرورتها، وطبيعة الوحي، وأدلة إمكانياته، وبراهين صدقه…

والبحث في النقطة الثانية يستوجب عرض الأفكار والمبادئ والتعاليم ومدى قدرة العقل على تعليلها أو نقدها أو شرحها شرحاً يرضي الفكر، ويريح النظر، وينتج عن ذلك مشكلة التأويل التي قد تنتج فرقاً كثيرة، ومشكلة التأويل هي التي مكنت الفلاسفة المسلمين من التفكير في التوفيق بين الدين والفلسفة.

وقد يبدو غريباً أن يعمل الفكر ضمن تعاليم أصبحت عقيدة، ويوصف مع ذلك فكرها بالحر، وهنا نقول إن الحرية الفكرية المطلقة وهم وخيال، فالفكر لا يأتي من لا شيء، وثورة الفكر على مذهب معين تنتهي بالوقوع ضحية لمذهب آخر، وأشد الملاحدة ثورة على مبدأ الألوهية يقع فريسة لإلهه هو الذي اتخذه من الطبيعة أو الإنسان أو الحيوان ويشمل ذلك ذاته نفسها، ولنا أن نتأمل أن شك ديكارت بكل ما سبقه من أفكار وعقائد جعلته حبيساً لفكر مذهبه، الذي هو خليط من مذاهب أخرى، وليس مبتكراً سبقه العدم.

حتى الموقف اللاأدري بالرغم من عدم تحيزه لفكرة معينة، لا يمكن وصفه بأنه ينم عن حركة فكرية طليقة، لأنه أحجم عن ممارسة إيجابية فعالة، وبالتالي فحرية الفكر نسبية، تكثر أو تقل، تبعاً لاستعداد الفكر لرؤية الحلول الممكنة لمشكلة ما، ووجود الحلول لا يمنع الفكر من مناقشتها وقبولها.

لوحة تخيلية لمعبد أكروبوليس في أثينا من القرن التاسع عشر

استيعاب ومقاومة الفكر اليوناني
وجدت الفلسفة اليونانية مقاومة في المحيط الإسلامي، لا باعتبارها تمثل فكراً حراً منزها، بل لأنها تباين الروح الإسلامية، ونجد هناك من تابعها وجعل لها اليد الطولى، ومن أعجب بها وسعى إلى التنسيق بينها وبين الدين، ولقد كتب أحدهم كتاباً جمع فيه أحاديث في مكانة العقل، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن الأحاديث التي تتحدث عن العقل ليست دعوة للفلسفة اليونانية، فهذا من الخلط.

وفي القرآن آيات تدعو إلى التفكير والتبصر والتأمل في صنع الله، وهذه من مواضع اعتزاز المسلمين بتبني الإسلام وتشجيعه للفكر البناء الهادف غير المتحيز، وللأسف فقد أصيب الإسلام من بعض أنصاره المتزمتين، وليتهم أدركوا أن محاربة الفكر المنحرف لا تكون بإخفائه بقدر ما تكون بإظهار عواره وكشف تهافته.

لقد كانت قضية العلاقة بين العقل والوحي، وبالتالي بين الحكمة والنبوة، أو الدين والفلسفة، أو العقل والنقل، قضية حاضرة في المحيط الإسلامي، وقد حاول المفكرون أن يظهروا التوافق بين المصدرين، لكن معظمهم أخطأ حينما ظن التوفيق بين الدين والعقل، يعني التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية.

وبالرغم من اتفاق فلاسفة الإسلام على وحدة الحقيقة الدينية والفلسفية إلا أنهم تباينوا من حيث تقديمهم لأحد الجانبين على الآخر، فقد قدم الكندي الوحي على الفلسفة، بينما سوّى الفارابي وابن سينا بينهما تقريباً، وكان لابن رشد رأي باستقلالهما من دون تعارض.

صور التوفيق بين الدين والفلسفة في الفكر الإسلامي
اتخذت محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة صوراً شتى، فمنها ما أولى العناية للتركيز على الغاية، كبيان غاية الأخلاق في الفلسفة والدين من حيث سعادة الإنسان، ومنها ما تناول بالمقارنة العامة الخطوط الأساسية لكل من الدين والفلسفة –رغم اختلاف منهجيهما- ومنها ما صدر على هيئة رسائل تشرح سبل وصول الفكر الحر النزيه للحقائق الكبرى التي نادى بها الدين الحق، ومنها ما تبنى إلباس بعض المصطلحات والمبادئ الفلسفية ثوباً دينياً كما يظهر في نظرية الفيض عند الفارابي وابن سينا، ومنها ما اتخذ صورة الرمز والقصص المفضي إلى نفس الغاية من إثبات لقدرة العقل على الوصول إلى الحقائق التي دعا لها الدين، كقصة ابن طفيل “حي بني يقظان” وغيرها كما سيأتي معنا.

1- محاولة الكندي (185 – 256هـ / 801-870م)
كان الكندي فيلسوف العرب الأول الذي واجه لأول مرة الفلسفة اليونانية في المحيط الإسلامي، حيث خالف أرسطو في نقطة الخلق والرعاية واتصال الله بالعالم وإحاطته علماً بذلك، فقد كان أرسطو يرى أن لا علاقة بين الله والعالم إلا في جانب العلة الأولى التي بدأ بها الحركة والحياة في العالم، وبعد ذلك لا يليق بالمحرك أن يتصل بالعالم، وكأنه لم يبق للإله إلا التأمل في ذاته.

فحيث قال أرسطو بقدم العالم، قال الكندي بحدوثه، وحيث يقطع أرسطو الصلة بالله والعالم بعد ذلك، يحتفظ الكندي بتأكيد دوام الصلة والرعاية، ويستند الكندي في كثير من آرائه للقرآن للترجيح.

مؤلفاته
يلاحظ أن أغلب مؤلفات الكندي متصلة بالعالم الطبيعي وظواهره، ولم تظفر المسائل الميتافيزيقية برسائل كثيرة من إنتاجه، ولعل ذلك راجع لعدم قناعة الكندي بمعالجات الفلسفة اليونانية لهذه القضايا، لا سيما وأن الإسلام قد حسم هذه المشكلات الميتافيزيقية كأصل الكون، وحقيقة الخلق المباشر، والعناية الإلهية، وغيرها.

كما كان الكندي عالم كلام على مذهب المعتزلة، وهو بذلك مقتنع بالأدلة العقلية بشقيها المأثور الموجود في الوحي، وما أنتجته قرائح المتكلمين اهتداء بإرشاد القرآن، لذلك فكان للدين وللوحي والنبوة مكانة ترجح ما يأتي عبرها، على ما يأتي من سواها من فلسفات.

مهد الكندي للفلسفة في المحيط الإسلامي، وجعل الاشتغال بها ضرورة، لكنه لم يرجح آراء الفيلسوف على ما يأتي به النبي، ولم يفضل ما يأتي عن طريق الفلسفة على ما يأتي به الدين.

موقف الكندي من النبوة
لم يقصر الكندي وسائل المعرفة على الحس والعقل، بل أضاف إليهما الإشراق الذي تمثل قمته النبوة، ويؤكد أن هذا العلم خاص بهؤلاء الذين اصطفاهم الله، وهذا الاصطفاء ينأى أن يكون ما يأتي به هؤلاء مكتسباً بالبحث والدراسة، فلو أراد الفيلسوف الإجابة عن ذات الأسئلة التي طرحت على الرسل؛ فلن يتمكن من الإجابة عليها بمثل الوضوح الذي أجاب به الأنبياء، ويمثل لذلك برد الوحي على سؤال (من يحيي العظام وهي رميم؟) فكانت خلاصة الآيات تبين أن العظام قد وجدت بالفعل، بعد أن لم تكن، وعليه فمن الممكن إذا صارت رميماً أن توجد من جديد، فجمع المتفرق أسهل من صنعه من العدم، وإن تساوى الأمران بالنسبة لله تعالى، فالقوة التي ابتدعت، يمكن أن تعيد ما أبادت، إن هذا من أعظم الأجوبة برأي الكندي، وهو ما حجبت عنه العقول الجزئية، ويوضح الكندي لرواد الفلسفة أن النبوة ليست إلا مظهراً من مظاهر العناية الإلهية بهذا الكون.

ويظهر لنا أن الكندي أعلى من صوت الدين، وعليه فلم يفكر بالتوفيق بين الطرفين إلا بعد أن تيقن أن الفلسفة الحقة كما عرفها: “علم الأشياء بحقائقها” (علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة…) لذلك فصلتها قوية بالدين، فعلم الأشياء بحقائقها هي خلاصة المهمة التي جاء بها الرسل، وبالتالي فقد جمع الكندي بين الدين والفلسفة الحقة على أهداف وحقائق واحدة، ويرفض الكندي من وسم اقتناء الفلسفة بمعنى علم الأشياء بحقائقها بالكفر، ويرى أن دراستها واجبة على أن تسير في ركاب الدين، وأن تخدمه بإخلاص، عبر إثباتها بالأدلة العقلية ما جاء به الرسل، لتنتهي بعد كفاحها إلى ما انتهى إليه الدين، في الحقائق الكبرى المتصلة بالإله والعالم، وبقية الغيبيات.

 

قصر الحمراء في غرناطة بالأندلس

محاولة ابن مسرة (268-319هـ)
عاش ابن مسرة في القرن الثالث الهجري، وبينه وبين الكندي نصف قرن تقريباً، عاش في الأندلس، وتر��د إلى الشرق، واشتغل بالجدل والمناقشات الكلامية، وتجمع المصادر أن له لساناً يتوصل به إلى مراده مهما بعد، وتذكر أنه اتهم بالزندقة، ويعزى لابن مسرة نقل الفلسفة الممزوجة بالغنوص إلى الأندلس، ويعزى له تأسيس نظام باطني أدبي تحمل كلماته معاني غامضة لا يعيها إلا أعضاء مدرسته، وأنه كان مبعوثاً لتأسيس حزب فاطمي في الأندلس، وتذكر المصادر أنه زار البصرة ومكة والمدينة.

رسالة الاعتبار
أرسل تلميذ لابن مسرة رسالة لأستاذه يقول فيها إنه قرأ في بعض الكتب أنه “لا يجد المستدل بالاعتبار من أسفل العالم إلى الأعلى إلا مثل ما دلت عليه الأنبياء من الأعلى إلى الأسفل”، طالباً من أستاذه ابن مسرة شرح ذلك، فكتب رسالته المسماة رسالة الاعتبار، فبين في مطلعها أن العقول نور من نور الله، في فهم أوامره، تتفق مع الصفات التي أوحى الله بها لأنبيائه، ففي كل أرض وسماء ما يدل على الله، فالعالم كتاب يقرأه المستبصرون، ويستشهد بآيات التفكر في السموات والأرض الواردة في القرآن، لينتهي إلى أن كل ما خلق الله موضوع للفكرة، ومطلب للدلالة، وما يزال المعتبرون يتصعدون في العالم وخلائقه من الأسفل إلى الأعلى لينتهوا إلى ما وصف الأنبياء من الآيات العلا، فإذا فكروا أبصروا، وإذا أبصروا وجدوا الحق واحداً كما حكى الرسل، وكما وصفوا الحق سبحانه، فالاعتبار يشهد للنبأ ويصدقه (أي أن التفكير يصدق الوحي)، والنبأ يوافق الاعتبار ولا يخالفه، وبذلك تفضي القلوب إلى حقائق الإيمان، ويمثِّل ابن مسرة لكلامه بالنظر إلى النبات، فهو عود لا حياة فيه، لكن الغذاء يندفع من أسفل إلى أعلى، ويتوزع على الأجزاء المختلفة من عود وقشر وورق وثمر وغيره، هذا مع أن طبيعة الماء التحرك إلى أسفل، غير أنه يرى الغذاء يصعد، مما يدل على أن الصعود لم يصدر عن طبيعة الماء، فالنار وحدها من بين العناصر تتحرك إلى الأعلى، لكن الماء والنار ليس من طبيعتهما التقسيم والتفصيل على النحو الذي نراه في النبات من حيث الشكل والطعم والرائحة، ولا يكفي أيضاً لتفسير ذلك ضم سائر العناصر من هواء وتراب، لاتحاد ذلك في كل النبات، مع تباين الأخير وتعدد صنوفه، وجميع هذه العناصر تعد أضداداً لا تأتلف من نفسها، فلا بد لها من مؤلف يردها بقوته إلى ما هو خلاف طبيعتها، أي من التنافر إلى التآلف، يجب أن يكون المؤلف قوة أكبر من الطبيعة، وترتقى همة الباحث إلى أعلى فيطوف الكواكب والسموات ليتبين له أن كل ذلك مسخر منقاد، فالمفكر هنا يجوب أسفل العالم باحثاً عن مصدر التأثير والتسخير، وما يزال يحلق صعوداً إلى قمة الوجود، مسجلاً ملاحظاته في ضعف النفس الإنسانية وما يعتريها من شيخوخة وتحطم ومفارقة للبدن، ليبين أن عالم النفس لا يصلح لتفسير مظاهر التدبير والانسجام، ثم يترقى للوصول إلى الجانب العقلي الذي يمتاز بالشمول والإحاطة والصفاء والبساطة، لكنه خاضع لمؤثرات خارجية تعلو عليه ولا يعلو عليها، ويكمل ابن مسرة مشواره لينتهي إلى مبدأ متعال، لا مثال له، ولا نهاية له، ولا بدء له، ولا جزء له، ولا غاية له، فتعالى الملك الأعلى.

فجاء خبر النبوة من جهة العرش نازلاً إلى الأرض، فوافق الاعتبار الصاعد من جهة الأرض إلى العرش سواء بسواء، ويختم ابن مسرة بالتأكيد على ضرورة البحث العقلي الهادف، ويذم من يرفض أن يكون للعقل مجال في هذا الميدان مستشهداً بقوله تعالى: {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا}.

بين محاولتي ابن مسرة وابن طفيل
كتب ابن طفيل قصة “حي بن يقظان” وجعلها وسيلة فنية ضمنها آرائه ومذهبه الفلسفي، وهي قصة تتحدث عن رضيع وضعته أمه في صندوق في البحر، فاستقر على شاطئ جزيرة خالية من البشر، فتبنته غزالة وأرضعته، ونما حي وراح يلاحظ ويتأمل فعرف كيف يقوم بحاجات نفسه، حتى وصل –بطريق الفلسفة- إلى إدراك أرفع الحقائق في الطبيعة وما وراءها، وحاول الوصول إلى بالله، فاعتزل في مغارة وصام أربعين يوماً متوالية، محاولاً التأمل ليتصل بالله، حتى أدرك ما أراد، وحينها لقي رجلاً تقياً اسمه أبسال جاء من جزيرة مجاورة، فعلمه الكلام، واكتشف أبسال أن طريق حي الفلسفي فيه تفسير للدين الذي يعتقده، إلى نهاية القصة، ويمكننا أن نستخرج منها بعض الأفكار التي أراد ابن طفيل تضمينها:

1- تدرج العقل في سلم المعرفة ابتداء من المحسوسات الجزئية المفرقة، إلى الأفكار الكلية العامة.

2- قدرة العقل على إدراك وجود الله، بدون أي مساعدة تعليمية أو تربوية، لأن تأمل مظاهر الوجود، تدل على الموجد.

3- مع التسليم بقدرة العقل، لكنه لو تجاوز حده يصيبه الكلل والعجز، كمحاولة تصور العدم المطلق أو الأزلية المطلقة وما يشبهها.

4- العقل مصدر إلزام خلقي، ندرك عبره أسس الفضائل، ونخضع له شهوات الجسد.

5- الناس متفاوتون في الإدراك، فهناك خاصة يكاشفوا بدقائق الحِكم، وعامة يخاطبون على قدر عقولهم.

عاش ابن طفيل في القرن السادس الهجري، وحياته لا تشبه حياة ابن مسرة بكثرة التنقلات، فقد كانت حياته مستقرة، ولعل ما يجمع الرجلين حب التأمل، لكن هدوء حياة ابن طفيل منحته قدرة أكبر على التأمل الهادئ، فرسالة الاعتبار كانت إجابة صريحة على سؤال محدد من تلميذ لم يستطع الاجتماع بأستاذه، وأما قصة ابن طفيل فتدرجت بالاستدلال من المحسوس إلى ما وراءه، فحي يبحث عن حقيقة النفس مع موت مرضعته، وبدأ يصعد حتى أدرك الفاعل المنزه عن الحس وأثره في كل شيء، والقصة لا تقتصر على الحس، بل كأنها تشير إلى العقل والإلهام والفيض، وتبين القصة اختلاف الأسلوب الموجه للعامة والوارد على لسان الأنبياء، عن أسلوب الفلاسفة والصوفية، فالأنبياء بينوا الحقائق، بينما كاشف الآخرون، لذلك أدرك أحد شخصيات القصة خطأه حين أراد تعليم الناس الحقيقة عارية عن التمثيل، فالحكماء والمصلحون بعد الرسل لم يعطوا للناس إلا ما ينفعهم ويحصل لهم السعادة.

مسكويه بتبع نفس السبيل
كان أحمد بن يعقوب -الملقب بمسكويه- يرى أن كل نوع يبدأ بالبساطة ثم لا يزال يتعقد ويترقى حتى يبلغ أفق النوع الذي يليه، قبل صورة الحيوان، وكذلك الحيوان يبدأ بسيطاً يترقى حتى يصل مرتبة قريبة من مرتبة الإنسان، والإنسان نفسه لا يزال يترقى ويزداد ذكاء وصحة في التفكير حتى يتعرض به لأحد المنزلتين، إما أن يديم النظر في الحقائق لتلوح له الأمور الإلهية، وإما أن تأتيه تلك الأمور من الله من غير سعي منه، وصاحب المنزلة الأولى هو الفيلسوف، والثانية هو النبي، ويصدق أحدهما الآخر، لاتفاقهما في تلك الحقائق.

بين النبي والفيلسوف
تجب الإشارة إلى أن اتفاق الفيلسوف والنبي على ما لديهما من حقائق قد فهم عند البعض تسوية مطلقة بينهما، بل عد بعضهم الفيلسوف أرقى لأنه جاهد وكافح وتأمل وتفكر، بينما وصلت الحقائق للنبي وهو في دعة وراحة، والحقيقة أن تلاقي الفيلسوف والنبي في عرض الحقائق، لا يعني تساويهما، فشؤون النبوة وأحكام الشريعة فهذا مما لا يدركه الفيلسوف وحده، لكنه أسرع إلى تفهمه إذا عرضت عليه.

والفكرة التي أراد الفلاسفة التركيز عليها هي إمكان الوصول إلى الإيمان بوجود الله عن طريق التأمل الصحيح، والحقيقة أن هذا الإيمان العقلي يؤيده الشرع، لكن الوصول لهذه الحقيقة لا يقتضي الاستغناء عن النبوة، لأن الفئة القادرة على التأمل الصحيح بمثابرة وإخلاص نادرة، والنبوة رسالة لكافة الناس، هذا عدا عن أمور التشريع التي أسلفنا ذكرها، وهي مما يأتي به النبي.

وفي الخلاصة نجد أن أغلب الفلاسفة المسلمون كانوا أوفياء لعقيدتهم، ويمكننا تفهم أقوالهم، وما من داعٍ لإساءة تأويلها.

السنة النبوية


بعد أن تبين لنا في المقالين السابقين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق نسبة القرآن الذي جاء به إلى الله تعالى، نواصل بحثنا في هذا المقال للتحقق من إرث هذا النبي القولي والعملي، والذي يشكل بدوره جزءا مهما من الوحي نفسه، ومصدرا أساسيا من مصادر التشريع.

مفهوم السنة
السنة النبوية تشكل مصلطحا من أهم المصطلحات التي يدور عليها الدين ويبنى عليها الفقه والأحكام الشرعية، وبنظرة بسيطة إلى أي كتاب من الكتب الدينية نرى أنه مليء بتعابير “سنة الرسول” و”سنة النبي”، أو أن هذا الأمر” مسنون”، وما شاكل ذلك من العبارات والمصطلحات.

ولو بدأنا بتعريف السنة لغويا لرأينا أنها تعني “الطريقة والمنهج”، سواء أكان ممدوحا أو مذموما، وقد ورد تعبير السنة في القرآن الكريم قريبا من هذا المعنى: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} [الفتح: 23] وسياق الآية يدل على الشيء المتَّبع والمطبق، أي أن السنة هي الشيء الذي استمر العمل على منواله.

أما تعريف السنة اصطلاحا، أي المُعتمد في كتب الفقه والأصول والحديث، فهناك خلاف حوله، لكن هذا الاختلاف راجع إلى زاوية النظر، حيث نظر علماء كل فرع من فروع العلم إلى جانب معين في السنة وعرّفوها بناء عليه.

فأهل الحديث يعرفون السنة بأنها كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، والمقصود بالتقرير أن يُفعل أمام النبي أمر أو أن يبلغه شيء فيسكت ولايعلق، فسكوته دليل على رضاه وموافقته إذ لو كان حراما لوجب عليه التنبيه. فالمحدِّثون نظروا إلى كون السنة صادرة عن النبي عليه الصلاة والسلام وهي تمثل كل تصرفاته القولية والفعلية والتقريرية، التي لها علاقة بالتشريع.

أما الفقهاء فقد عرفوا السنة بأنها ما يجب فعله من غير وجوب، أي ما يثاب الإنسان على فعله ولا يعاقب على تركه، فالسنة هي مقابل الفرض والواجب، وأما علماء أصول الفقه فعرفوا السنة على أنها مصدر من مصادر التشريع، ومصادر التشريع الأساسية هي القرآن والسنة والإجماع والقياس.

ولو أردنا أن نقدم تعريفا شاملا للسنة لأمكننا القول إن السنة هي الطريقة المتبعة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام في جميع عباداته وسلوكياته وتصرفاته، وبطبيعة الحال فإن من هذه الأمور ما يمكن أن نصفه بواجب أو غير واجب.

وبناء على مفهوم السنة هذا، يظهر لنا خطأ من يقول بترك السنة إلى القرآن، لأن السنة ليست مجرد شيء يندب فعله أو يثاب عليه، وليست مجرد قول صادر عن النبي بل هي طريقة في السلوك الديني، والغاية منها بيان التطبيق العملي للدين كما سأل رجل السيدة عائشة عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام فقالت له: “كان خلقه القرآن”.

ويظهر لنا مما سبق أن العلاقة بين التعريفين اللغوي والاصطلاحي هي أن السنة تتضمن المواظبة على فعل أمر ما، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما يواظب على فعل ما مبينا أنه فعل تشريعي للأمة، فعلى المسلمين الاقتداء به.

وجوب الاقتداء بالسنة
إنه لا يُتصور فهم القرآن دون اللجوء إلى حديث الرسول الذي جاء به، فحديثه هو الشارح للقرآن، وعلى ذلك كثير من الأدلة، فبواسطة السنة أخذ الصحابة أفعال الصلاة ومواقيتها، إذ لا يوجد في القرآن تفصيل لمواقيت الصلاة أو أحكامها، إنما اكتفى القرآن بإيجاب الصلاة على المؤمنين فقال {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}، بينما نجد تفصيل أحكامها في السنة وفقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي” [أخرجه البخاري].

كما اكتفى القرآن بالإخبار عن فرضية الحج، أما أحكامه التفصيلية فتولت السنة النبوية شرحها، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “خذوا عني مناسككم”، وكذلك الحال في الصيام وبقية العبادات، وعلى ذلك نقول إننا لا نستطيع أن نفهم القرآن بدون السنة، وما يقال من أن القرآن اشتمل على كل شيء فالمقصود بهذا الاشتمال هو القواعد والمبادئ الأساسية، أي أن القرآن يعرض القواعد العامة التي ينبني عليها الدين، أما التفصيلات والتطبيقات فهي متروكة للسنة بدليل قوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]، فالآية واضحة الدلالة على مهمة الرسول في شرح القرآن وتفصيله.

وقد اتفق علماء الأمة على أن السنة بمجموعها حجة ومصدر من مصادر الأحكام واستدلوا على ذلك من القرآن، وإجماع الصحابة الذين عاشوا في عصر النبي وتلقوا عنه مبادئ الدين.

أما أدلة القرآن التي توجب اتباع النبي فنذكر منها الأمثلة الآتية:

قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]، فالآية دليل على أن أقوال النبي صادرة عن وحي إلهي.

وقال أيضا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الحشر: 7]، ودلالة الآية واضحة على وجوب الأخذ بكل ما أمر به النبي وما نهى عنه دون تفريق بين كونه قرآنا أو سنة.

وقال أيضا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فالآية جعلت علامة محبة الله في اتباع النبي والتأسي به، ومثلها قوله تعالى {من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقوله {فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وقد دلّ كثير من الأحاديث ومواقف الصحابة على مثل ما دلت عليه آيات القرآن الكريم، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم “فعليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّين” [أخرجه أبو دادود وغيره]، كما حذر النبي من ترك سنته فروي عنه أنه قال: “يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله” [أخرجه ابن ماجه والدارمي]. فالتحذير في هذا الحديث واضح من ترك سنته والعدول عنها والقول بأن القرآن وحجه يكفي.

وأما دليل إجماع الصحابة فيتضح في مواقف عديدة تثبت أنهم كانوا يبحثون عن أحكام للمسائل التي تواجههم في القرآن، فإن لم يجدوها بحثوا في سنة النبي بعد وفاته، ومنها قصة أبي بكر في ميراث الجدّة، حيث جاءت جدّة إليه في خلافته وسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة ، فأنفذه لها أبو بكر”.

علاقة السنة بالقرآن
تكتسب السنة أهميتها من صدورها عن الرسول بصفته الرسولية، أي بصفته مبلغا عن الله، فإذا كان المشرع هو الله بصفته الإله الخالق فما يصدر عن الرسول بصفته الرسولية هو في الحقيقة صادر عن الله تعالى، أما التصرفات التي تصدر عن الرسول بحكم طبيعته البشرية فليست داخلة في تعريف السنة، والاقتداء بها ليس واجبا، فعلى سبيل المثال كان الرسول يحب أكل الدبّاء (أي القرع)، وهذا لا يجعل من أكل الدباء سنة مُتبعة.

أما علاقة السنة بالقرآن من جهة التشريع فتتنوع على ثلاثة أنواع، هي:

1- تأكيد السنة للقرآن الكريم: بمعنى أن يأتي ذكر أمر في القرآن ثم تؤكده السنة، من ذلك أيضا قول الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فهذا المعنى جاء تأكيده في أحاديث كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم “المسلم أخو المسلم” [أخرجه البخاري]، وقوله: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الأعضاء بالحمى والسهر” [أخرجه مسلم].

2- بيان السنة لما جاء في القرآن الكريم: أي أن تفصّل السنة أمراً جاء في القرآن مجملا أو عاما، كتفصيل السنة لأحكام الصلاة، فالله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، ويقول {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النور: 56]، كما يمتدح تعالى المؤمنين من حيث محافظتهم على الصلاة فيقول {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، أما بيان أوقات الصلاة وعدد ركعاتها وأركانها وواجباتها وشروطها فلا نجد له تفصيلا إلا في السنة الشريفة، فلولا بيان السنة ما عرفنا كيف نصلي.

3- تشريع أحكام جديدة ليست في القرآن: مثال ذلك صدقة الفطر، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة [أخرجه البخاري]، فهذا الحكم ليس موجودا في القرآن، ومع ذلك فحكمه واجب بإجماع المسلمين بناءً على هذا الحديث الصحيح.

مناقشة آراء الرافضين لحجية السنة
يطرح بعض المفكرين العرب والمستشرقين حججاً للتشكيك في السنة من حيث كونها مصدراً للتشريع، وسنناقش بإيجاز فيما يلي أهم هذه الحجج:

القرآنيون
يطلق مصطلح القرآنيين على تيار ديني يدّعي أن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع الإسلامي، وأن السنة كانت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون أتباعه، ويطلقون على أنفسهم اسم “أهل القرآن”. ويُعتقد أن بداية ظهور هذا الرأي كانت على يد الخوارج، ثم تبلور في الهند خلال القرن التاسع عشر عندما أنكر السنة بعضُ المفكرين الذين حظوا برعاية الاحتلال البريطاني، وتوسعت فلسفة هذا التيار في باكستان ومصر خلال مرحلة الاحتلال أيضا.

1- يدعي منكرو السنة أن القرآن اشتمل على كل الأحكام ولم يترك شيئا للسنة، ويستدلون على ذلك ببعض الآيات مثل قوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] وقوله {وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} [النحل: 89]، والواقع العملي يرد هذه الدعوى، فهناك عدد لا يحصى من النوازل والأمور التي تحدث كل يوم وليس لها ذكر في القرآن، ما يعني أن كلمة “شيء” في الآيتين لا تدل على الشمول، وبيان ذلك أن القرآن الكريم يشتمل على القواعد والأسس العامة التي نحتاج إليها في حياتنا، أما التفصيلات فمتروكة للسنة أو للاجتهاد، وشمولية القرآن كاشتمال الدستور على المبادئ العامة وتركه التفصيل للوائح القانونية والتفصيلية، فالسنة هي التي تفصل قواعد القرآن العامة، وسبق أن استشهدنا بمثال تفصيل السنة لأحكام الصلاة واكتفاء القرآن بالأمر بها، وكذلك الحال مع بقية العبادات.

2- يرى منكرو السنة أن القرآن محفوظ بحفظ الله فلا تداخله شبهة ولا شك ولا تحريف بخلاف السنة التي يوجد فيها الموضوع والضعيف، وعليه فالاحتجاج بالمحفوظ أولى في رأيهم من الاحتجاج بما دخلته الشبهة. إلا أن هذا الرأي يتجاهل منهج النقد الذي وضعه علماء الحديث لتمييز الصحيح من الضعيف كما سيأتي، فوجود الضعف في بعض روايات التاريخ مثلاً لا يبرر نسف علم التاريخ وما تقوم عليه من علوم إنسانية شتى.

3- يدّعون أن السنة ليست إلا اجتهادا من الرسول، وبما أن الاجتهاد ليس وحيا فليس بلازم الاتباع، ويستدلون على ذلك ببعض الحوادث كمسألة تأبير النخل ونزول الجيش في بدر. لكن هذا الادعاء مردود بآيات القرآن التي تأمر باتباع النبي في كل ما جاء به، مثل قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، والوقائع التي استشهدوا بها جاءت في غير محلها، فتصرفات الرسول وحي عندما تكون في مجال التشريع وليست من الأمور الدنيوية، وقد ذكر علماء الأصول كثيرا من الضوابط للتفريق بين أعماله الرسولية والبشرية، ولا يسمح هذا المقام بذكرها.

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “نضّر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلّغه، فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبّ حامل فقه ليس بفقيه” [رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني].

4- يستدلون بوجود تناقض بين بعض الأحاديث، فيجعلون من ذلك مبرراً لإنكار السنة بالجملة، لكن وجود أحاديث متناقضة في الظاهر ليس دليلا كافيا لرد العمل بالسنة، فالخطأ ليس من الرسول وإنما من الرواة الذي قد يخطئون في النقل أو الحفظ، أو قد يكون الخطأ في فهم القارئ للحديث، وبما أن علماء الحديث قد بذلوا جهودا جبارة في تمحيص الروايات وبيان التناقضات وأسبابها والراجح منها فما زال بالإمكان العمل بما وصلنا من سنة النبي، ولم تسقط بذلك حجيتها عنا.

5- يقولون إن السنة لو كانت لازمة الاتباع لأمر الرسول بكتابتها كما أمر بكتابة القرآن، ويرد هذه الحجة عمل الصحابة أنفسهم ومن جاء بعدهم من حيث مركزية السنة في فتاواهم وقضائهم وسائر أحكام عباداتهم، أما عدم أمر النبي بكتابة السنة عنه فليس دليلا بذاته على كون سنتة غير ملزمة، فقد كان يخشى اختلاط سنته بالوحي القرآني، إلا أنه كان يدرك أن العرب أمة أميّة وأنها ستنقل عنه سنته شفوياً، ومع أنه لم يأمر بكتابة هذه السنة فإنه لم ينهَ عنها، بل سمح لمن طلب منه ذلك من الصحابة كعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما، وسنتابع تفصيل هذا الأمر بعد قليل.

روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “تسمعون، ويُسمع منكم، ويُسمع ممن يَسمع منكم” [رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح].

6- يرون أن ضخامة عدد الأحاديث الموجودة في الكتب الحديثية مبرر للاعتقاد بأن غالبيتها غير صحيحة، استناداً إلى كون الرسول صلى الله عليه وسلم قليل الكلام بحيث لو أراد العاد عدَ كلامه لاستطاع. لكن الاستدلال بضخامة العدد ليس دقيقاً، فالمحدثون يعدون كل طريق (سند) حديثا بذاته ولو كان المتن واحدا، ومثال ذلك لو فرضنا أن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام “بني الإسلام على خمس” روي من خمسة وجوه فهذا يعني أن لدينا خمسة أحاديث وليس حديثا واحدا، فعندما نقول إن عدد الأحاديث المدونة يتجاوز المئة ألف فالمقصود هو عدد الأسانيد وليس متون الأحاديث.

تاريخ السنة
سنوجز فيما يلي تطور انتقال السنة من مصدرها عبر رواتها من الصحابة والتابعين، وصولاً إلى تدوينها وتوثيقها، وذلك عبر ثلاث مراحل:

المسجد النبوي في المدينة المنورة بمنتصف القرن التاسع عشر

1- الحديث في عهد النبوة: نزل القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام في ظرف 23 سنة منجّما (مفرقاً) على حسب الحاجة، وكان للنبي كتّاب من الصحابة يكتبون ما نزل عليه من الوحي بأدوات بسيطة مما يتوفر لهم من الورق والحبر، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يشجع صحابته على حفظ القرآن في الصدور، فالعرب كانوا أمة شفوية تحفظ أشعارها وأنسابها وتاريخها دون تدوين.

لم يُظهر النبي عليه الصلاة والسلام حرصاً على كتابة سنته كحرصه على تدوين القرآن الكريم، فالوحي كان ينزل بشكل متقطع ببضع آيات تسهل كتابتها على الفور، أما السنة فتتضمن ما كان يتحدث به النبي مع أصحابه أو يفعله في حضورهم يوميا، حيث كانوا يوجهون له الأسئلة عن شتى الأمور، كما كان يخطب فيهم عند حدوث بعض المناسبات، أو يقدم لهم النصائح والمواعظ والأخبار والنبوءات أثناء استقباله الوفود أو خلال تجوله في السوق أو في أي حالة يكون عليها خلال حياته اليومية، ما يجعل من كتابة هذه التفاصيل في وقتها أمراً متعذراً.

علاوة على ما سبق، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى اختلاط القرآن بالحديث، ولا يعني ذلك بالضرورة اختلاطا لا يُستطاع معه التمييز، فالصحابة كانوا قادرين على التمييز لغويا وبيانيا، لكن المقصود على الأرجح هو الاختلاط من الناحية التشريعية وعدم إدراك البعض مكانة كل منهما فيظن أن الحديث في مرتبة مساوية للقرآن.

لذا يمكن القول إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه كان إجراءً احترازياً معللاً وليس نهياً تعبدياً من غير علة، والحكم المعلق على علة يدور مع علته وجودا وعدما فإذا انتفت العلة في مكان ما فإن الحكم ينتفي هو الآخر، وعلى ذلك نستطيع فهم بعض الأحاديث المتعارضة في هذا الصدد، فنجد أن بعض الأحاديث تنهى عن كتابة ما يقوله النبي وبعضها يبيح ذلك، ففي حالات الأمن من وقوع الالتباس والاختلاط عند بعض الصحابة كان يأذن لهم بالكتابة، ومن ذلك قول عبد الله بن عمرو بن العاص: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؛ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه (أي أشار بإصبعه إلى فمه) فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق” [أخرجه أحمد]، وفي حجَّة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة فقال له أبو شاه (رجل من اليمن): اكتب لي يا رسول الله، فقال لصحابته: “اكتبوا لأبي شاه” [أخرجه أحمد والبخاري].

2- الحديث في عهد الصحابة: كان الصحابة يحرصون على حفظ  كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيق كل ما يأمر به، بل كانوا من شدة حرصهم يتناوبون في ملازمة الرسول عندما لا يكون في مقدور أحدهم ترك أعماله، ثم يخبر بعضهم بعضا بما جرى مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكان بعضهم يتخذ لنفسه صحيفة يدون فيها بعضا من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كتب لنفسه بعض أحكام الإسلام في صحيفة، ووردت الإشارة إلى صحيفته في حديث رواه البخاري. كما أن عددا ليس بالقليل من الصحابة كانوا يكتبون الحديث، فقال أبو هريرة: “ما كان أحد أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب” [أخرجه البخاري].

وكان الصحابة يتخذون مجالس في عهد رسول الله وبعد وفاته يتدارسون فيها ما حفظوا من أحاديث ويروونها لبعضهم، وكانت قلة حديث الرسول وتمهله في الحديث أثناء كلامه عاملان مهمهان في حفظ الصحابة للحديث ورسوخه في أذهانهم، وقد تبين لنا قبل قليل من قضية ميراث الجدة أنهم الصحابة لم يتركوا الاحتجاج بالسنة في كل ما يعرض لهم من شؤون دينهم.

وقد يحتج بعض منكري السنة أو منكري خبر الآحاد (أي ما نقله شخض واحد عن آخر كما سيأتي لاحقاً) ببعض تصرفات الصحابة، كطلب عمر بن الخطاب من أحد الصحابة شاهدا على حديثه الذي رواه وكذلك فعل أبي بكر، وكطلب علي بن أبي طالب من رواي أحد الأحاديث أن يُقسِم يمينا على روايته، وكطلب عمر من بعض الصحابة أن يقللوا من الرواية، لكن إنعام النظر في سياقات هذه الحوادث تكشف أنها كانت تنبع من الاحتياط للسنة وليس تقليلا من الاعتماد عليها، وبيان ذلك أن أبا بكر وعمر كانا يطلبان شاهدا من الراوي في حال الشك في حفظ الراوي، وهذا مطلب منهجي، أما طلب عمر بالإقلال من الراوية فجاء في سياق معين، وهو أنه أرسل بعض الدعاة إلى قوم أسلموا جديدا، وكانت الحكمة تقتضي أن يعلموهم القرآن وقواعده الأساسية أولاً ثم يروون لهم أحاديث النبي وسنته.

3- الحديث في عهد التابعين: عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الأموية ازدادت حاجة الناس للاطلاع على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وازدادت أيضا ظاهرة وضع الحديث (أي نسبة أحاديث مكذوبة إلى النبي)، لا سيما مع دخول أتباع ديانات أخرى في ظل الدولة وميل البعض إلى التحريف في الدين، فضلا عن الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمذهبية لطوائف من البشر تسعى كلٌ منها لإيجاد نص ديني يدعم رأيها ويحقق مصالحها، ما حمل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في نهاية القرن الهجري الأول على الأمر بتدوين السنة النبوية رسمياً وبإشراف الدولة وتوجيهها، فكتب إلى أمراء الأقاليم ليكلفوا حفاظ الحديث بجمع السنة من أهل العلم الموثوقين مثل ابن شهاب الزهري وتدوينها، وتابع ابن جريج وسفيان الثوري ومالك بن أنس هذه المهمة الصعبة.

كانت طريقتهم في التدوين تتضمن جمع كل ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن وبيان شرائع الإسلام من العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والأقضية دون تفريق أو تصنيف، ثم بحثهم عن أحوال الرواة وإسقاط ما يتبين لهم أنه موضوع, ويقول أبو داود إنهم في تلك المرحلة المبكرة كانوا يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث، ومن أهم كتب هذه المرحلة كتاب “الموطأ” للإمام مالك.

قال الأوزاعي (وهو من أئمة تابعي التابعين): “كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا (أي التابعين) كما يُعرض الدرهم الزائف على الصيارفة, فما عرفوا منه أخذنا، وما تركوا تركنا” [الموضوعات لابن الجوزي: 1/103].

وبعد هذه المرحلة العامة في الجمع بدأت مرحلة التصنيف، حيث تم تصنيف الأحاديث تحت الأبواب الفقهية وغيرها كما سنذكر لاحقاً، ومن أهم أعلام هذه المرحلة بقيّ بن مخلد وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، وقد بذل هؤلاء أيضاً جهوداً جبارة في تمحيص الروايات ونبذ الموضوع، إلا أنهم كانوا كسابقيهم يمزجون الصحيح بغيره من حسن وضعيف، حيث لم تكن قد ظهرت بعد تصنيفات الحديث من حيث الصحة والضعف، فجاء من بعدهم من قام بهذا العبء ووضع أصول علوم النقد، وتمكن بذلك الإمامان البخاري ومسلم من تأليف أول كتابين مخصصين للأحاديث الصحيحة، وتابع بقية العلماء من بعدهم مهمة النقد والتصنيف وفقاً لتلك القواعد المعتمدة.

نقد الحديث والتأكد من صحته
طوّر العلماء ونقاد الحديث منهجا دقيقا لنقد الحديث والتأكد من صحته، فعلْمُ رواية الحديث النبوي قائم على عنصر مهم وهو راويه، والرواي هو الشخص الذي يسمع الحديث ممن فوقه وينقله لمن بعده، وللتأكد من أن الراوي لم يدخل في روايته أي خطأ ولم يقع فيه سهو اشترط علماء الحديث شروطا خمسة، وقالوا إنها إذا اجتمعت كان الحديث صحيحا، ويتعلق اثنان منهما بالراوي وثلاثة بالمروي (الحديث).

أما الشرطان المتعلقان براوي الحديث، فأولهما أن يتصف بـ”العدالة”، أي يكون ملتزما بالدين غير كاذب ولا فاسق، والثاني أن يتصف بـ”الضبط”، أي يكون حافظا للحديث الذي سمعه وأن يرويه كما سمعه دون خطأ ولا تغيير، أو يكون قد دوّنه بدقة، ويعبر عن اجتماع هذين الشرطين في الرواي بمصطلح “الثقة”.

يتكون كل حديث من عنصرين:
1- السند أو الطريق: وهو سلسلة الرجال الذين رووا الحديث.
2- المتن: هو ما ينتهي إليه السند من الكلام، أي نص الحديث.

ومع تطور علوم الحديث في عصور التدوين الأولى نشأ تحت مظلته علم “الجرح والتعديل”، وهو يُعنى بالبحث في حال الراوي من حيث عدالته وضبطه، فكان مؤلفو كتب هذا العلم يبينون بدقة حالة كل راوٍ من حيث التزامه بالدين والآداب العامة والمروءة ومقدار ضبطه وحفظه وقدراته العقلية، وذلك للحكم عليه في النهاية بكون أهلاً للثقة والاحتجاج بروايته أم لا.

وطوّر علماء الحديث كثيرا من المصطلحات التي تدل على مستوى الراوي من حيث العدالة والضبط، فطبقة الصحابة كلهم عدول بتعديل النبي لهم، وقد يخطئون في الضبط من حيث النسيان أو الغلط في الرواية الحديث، حيث كان بعضهم يصحح لبعض، ثم يتدرج التابعون وتابعوهم في طبقات عدة، فعلى سبيل المثال وضع ابن حجر اثنتي عشرة طبقة للرواة في كتابه “تقريب التهذيب”، تبدأ بالثقة الثقة، أو أوثق الناس، وتتدرج إلى الثقة أو المتقن أو الثبت، ثم الصدوق، ثم الصدوق سيئ الحفظ، وهكذا حتى يصل إلى المتروك فالمتهم بالكذب فالكذاب.

وألّف العلماء في الجرح والتعديل كتبا متنوعة لسرد سير الرواة وما قيل فيهم، مثل “تهذيب التهذيب” لابن حجر، و”الثقات” لابن حبان، كما خصصوا كتبا للضعفاء والمتروكين والوضّاعين (الكذابين) من الرواة، مثل كتب “الضعفاء” التي ألفها كل من البخاري والنسائي وابن حبان، وكتاب “الكامل” للجرجاني الذي ذكر فيه كل من تُكلم فيه، بينما وضع آخرون موسوعات أكثر شمولا مثل “ميزان الاعتدال في نقد الرجال” للحافظ الذهبي الذي قال فيه “قد احتوى كتابي هذا على ذكر الكذابين والوضاعين، ثم على المحدثين الصادقين أو الشيوخ المستورين الذين فيهم لين ولم يبلغوا رتبة الأثبات المتقنين، ثم على خلق كثير من المجهولين”.

أما الشروط المتعلقة بالمروي (المتن) فهي ثلاثة، ولا يُنظر فيها إلا بعد ثبوت قدر كاف من عدالة وضبط الراوي، والشرط الأول في المروي ألا يكون شاذا، أي لا يكون مخالفا للقرآن أو لحديث آخر أو لرواية رجل أقوى حفظا. والشرط الثاني ألا يكون الحديث معلولا، فلا يكون فيه خطأ خفي، وتفصيل ذلك أن بعض الرواة نالوا درجات عليا في الضبط والإتقان، لكنهم مع ذلك بشر يخطئون ويصيبون، لذا فليس كل ما يروى عنهم صحيح بالمطلق، حيث لم يكتف علماء الحديث بكونهم متقنين ضابطين بل اشترطوا ألا يكون في أحاديثهم خطأ خفي من العلل التي لا يكتشفها إلا المتمرس في الحديث ورواياته، وعلى هذا نشأ علم مستقل يسمى بعلل الحديث.

وأما الشرط الثالث فهو “اتصال السند”، حيث اشترط العلماء أن يكون كل راو قد سمع الحديث ممن فوقه (شيخه)، حتى يتسنى للعلماء والنقاد التأكد من حال الرواة، وإذا حدث انقطاع لشخص واحد في السند فقدَ الحديث درجة الصحة، وقد برع العلماء في تسجيل تاريخ الرواة وشيوخهم وسيرهم، حتى أصبح بالإمكان التحقق مما إذا كان أحدهم قد التقى راوياً آخر فروى عنه أم لا، وذلك بالتحقق من رحلات كل منهما وتاريخ حياته ومماته.

من أهم ملامح الدقة العلمية لدى علماء الحديث ابتكارهم لمفهوم الرحلات، حيث كانوا يشترطون على كل طالب علم في بداية نشأته أن يُنهي الاستماع والرواية لكل ما يرويه شيوخ بلدته من أحاديث ثم يخرج في رحلات علمية قد يبلغ بها كل أقطار العالم الإسلامي مترامي الأطراف، فيسمع ويدوّن ما يرويه شيوخ البلدان الأخرى، حتى كان بعضهم يقطع آلاف الكيلومترات من الصحاري والجبال للتأكد من حديث سمعه في بلده نقلا عن شيخ في بلد آخر، فيقول الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه إنه سار شهراً إلى الشام ليسأل الصحابي الآخر عبد الله بن أنيس رضي الله عنه حديثاً سمعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم [علوم الحديث لابن الصلاح، ص8]، كما كان التابعي سعيد بن المسيب يقول: “إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد” [الرحلة في طلب الحديث، ص127]، أما في المراحل التالية على الصحابة والتابعين فقد أصبحت الرحلات شرطا أساسيا من شروط طلب العلم.

لم تُبدع أي حضارة أخرى علماً مماثلاً لتمحيص النصوص والروايات التاريخية كالذي أبدعه العلماء المسلمون في تمحيصهم لأحاديث نبيهم، ويقول الدكتور مصطفى السباعي إن عالماً معاصراً من علماء التاريخ -وهو أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت أسد رستم- كان قد ألف كتاباً في أصول الرواية التاريخية, اعتمد فيها على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات، وأطلق على كتابه اسم “مصطلح التاريخ” [السنة ومكانتها للسباعي، ص 126].

أنواع الحديث
سنوجز فيما يلي أنواع الحديث من حيث عدة عوامل:

من ناحية تعدد الطرق:
1- متواتر: وهو ما نقله جمع عظيم عن جمع عظيم لا يُتصور أن يتفقوا على الكذب، وكان ما نقلوه متعلقا بأمور خبرية (فيقول أحدهم عن الآخر أخبرني)، أو حسية (فيقول رأيت أو سمعت)، وليست أمورا عقلية.

2- آحاد: وهو ما عدا المتواتر، أي أن كل طبقة من طبقات الرواة يكون عدد الناقلين فيها أقل من أن يبلغ جمْعا عظيما.

من حيث القائل:
1- الحديث المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً عنه, سواء كان متصلاً أو منقطعاً أو مرسلاً (كما سيأتي).

2- الحديث الموقوف: هو ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم وأفعالهم.

3- الحديث المقطوع: هو ما يروى عن التابعين من أقوالهم وأفعالهم، والتابعون هم الذين شهدوا الصحابة ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ومثاله قول التابعي الحسن البصري في الصلاة خلف المبتدع: “صلّ وعليه بدعته”.

من حيث الصحة:
1- الحديث الصحيح: هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه, ولا يكون شاذاً ولا معللاً.

2- الحديث الحسن: هو الذي يحقق شروط الصحيح إلا أن في رجاله من هو خفيف الضبط, ويُحتج به.

3- الحديث الضعيف: هو ما لم تتوافر فيه شروط الصحة أو الحُسن.

وهناك أنواع كثيرة للحديث الضعيف بحسب السبب الذي أدى إلى تضعيف كل منها، وأهمها:

1- المجهول: ما كان في رواته راوٍ غير معروف الهوية أو غير معروف الحال.

2- المنقطع: ما سقط من وسط إسناده رجل، وقد يكون الانقطاع في موضع واحد, وقد يكون في أكثر من موضع.

3- المرسل: هو حديث التابعي إذا قال: قال رسول الله أو كلمة نحوها دون أن يذكر الصحابي الذي رواه له, وأطلق بعض أهل العلم المرسل على ما سقط من إسناده رجل من أي موضع كان.

4- المتروك: هو الذي يرويه من يُتهم بالكذب, ولا يعرف ذلك الحديث إلا من جهته, ويكون مخالفاً للقواعد العامة.

5- المعلق: ما حُذف من مبتدأ إسناده راو واحد فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد.

6- المعضل: ما سقط من وسط إسناده اثنان فأكثر على التوالي.

7- المعلول: هو الحديث الذي اطُلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر سلامته منها.

8- الموضوع: هو المكذوب على رسول الله صلى الله عليه و سلم، وتحرُم روايته مع العلم بحاله إلا للبيان والتحذير.

مخطوطة لكتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام من القرن الرابع الهجري

وهناك أنواع مشتركة بين الصحيح والحسن والضعيف، وهي:
1- المسند: هو ما اتصل إسناده إلى رسول الله.

2- المتصل: هو الخالي من الإرسال والانقطاع, ويشمل المرفوع إلى النبي والموقوف على الصحابي، فعليه يكون المتصل هو الذي سمعه كل راوٍ من الذي قبله, ويشمل المرفوعَ إلى رسول الله والموقوفَ على الصحابي.

3- الغريب: هو الذي تفرد به راويه، سواء تفرد به عن إمام يُجمع حديثه أو عن راو غير إمام.

ويجدر بالذكر أن نقد أي حديث لا يعني بالضرورة ترك العمل به والاستفادة منه، فالحكم على حديث بأنه ضعيف لا يعني بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، ومخالفة حديث ما لآية قرآنية في الظاهر لا يوجب الحكم بضعفه أو كذبه، كما أن الحكم بصحة حديث ما لا يوجب العمل بظاهره كما هو، فاستخراج الحكم من الحديث مهمة الفقيه لا المحدث، فقد يترك الفقيه الأخذ بحديث لترجيحه حديثا آخر أو لتخصيصه أو تقييده بحديث أو آية من القرآن، ولا يلزم من ذلك أن يُحكم على الحديث بالضعف أو يُتهم الراوي بالكذب، وقد ذكر ابن حزم في كتابه “مراتب الديانة” أنه أحصى الأحاديث التي رواها الإمام مالك بن أنس في كتابه “الموطأ” ويقول “فيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسُه العمل بها”. وسنفصل في مقال “الشريعة الإسلامية” بعض أصول الفقه وقواعد التشريع التي يستخدمها الفقيه في استنباط الأحكام وترجيحها من نصوص القرآن والسنة.

كتب الحديث وأنواعها
كان لكل إمام من أئمة الحديث منهج في كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من اشترط أن تكون الأحاديث التي سيدونها صحيحة،  كالإمام البخاري والإمام مسلم والإمام ابن خزيمة.

ومنهم من جمع الصحيح والقريب منه (نسميه الحسن)، ولكنه لم يتشدد كثيراً في قضية الضبط، فاشتمل كتابه على الأحاديث الصحيحة والحسنة وقليل من الضعيف المقبول، وفيما يلي تعريف بأهم أنواع هذه الكتب:

1- كتب الجوامع: هي الكتب التي رتبت فيها الأحاديث في ثمانية أبواب أساسية، وهي العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والتفسير والفضائل والأطعمة والأشربة، سواء التزم أصحابها بالصحة أم لم يلتزموا، فهي إذن تشتمل على كل ما يتعلق بالدين من العقيدة والفقه والتفسير، وتقتصر على الأحاديث النبوية دون آثار الصحابة والتابعين: ومن أمثلة هذه الكتب:

  • الجامع الصحيح للإمام البخاري (ت 256هـ): التزم فيه الصحة، وهو أصح كتاب بعد القرآن الكريم، وسيأتي الحديث عنه مفصلا إن شاء الله.
  • الجامع الصحيح للإمام مسلم (ت261هـ): التزم فيه الصحة، ولكن شروط التصحيح عنده أخف من شروط البخاري، فهو في المرتبة الثانية بعد كتاب البخاري.
  • الجامع الصحيح للإمام الترمذي (ت 279هـ): لم يلتزم فيه بالصحة.
  • الجامع الصحيح للإمام ابن خزيمة (ت 311هـ): التزم فيه الصحة، ولكن شروطه في التصحيح غير شروط الشيخين البخاري ومسلم.

2- كتب السنن: هي الكتب التي رتبت الأحاديث على أبواب الفقه، فتبدأ الأحاديث فيها بكتاب الطهارة، ثم كتب الصلاة والصوم والزكاة والحج والنكاح، وهكذا. ومن أشهرها:

  • سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ): جمع في كتابه الصحيح والحسن، ولم يورد الضعيف إلا قليلا.
  • سنن النسائي للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ): فيه الصحيح والحسن والضعيف المقبول.
  • سنن ابن ماجة للإمام محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (ت273هـ): فيه الصحيح والحسن والضعيف وبعض الضعيف المردود.

ويطلق على صحيحي البخاري ومسلم مع السنن الأربعة تعبير “الكتب الستة”، وهذه الكتب لها مكانة خاصة في الاحتجاج الفقهي والتشريعي.

3- كتب المسانيد: هي الكتب الحديثية التي  جمع أصحابها أحاديث كل صحابي على حدة، ومن أشهرها:

  • مسند الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ، ويعد من أضخم كتب الحديث.
  • مسند الحميدي (أبي بكر عبدالله بن الزبير الحميدي) المتوفى سنة 219هـ.
  • مسند الطيالسي (أبي داود بن سليمان بن داود الطيالسي) المتوفى سنة 204هـ.
  • مسند أبي يعلي المصولي (أحمد بن علي المثنى الموصلي) المتوفى سنة 307هـ.
  • مسند عبد بن حميد المتوفى سنة 249هـ.

4- المصنفات: هي الكتب التي رتبها أصحابها على أبواب الفقه، واشتملت على الأحاديث المرفوعة (الأحاديث المضافة إلى النبي) والموقوفة (الأحاديث المضافة إلى الصحابة) والمقطوعة (الأحاديث المضافة إلى التابعين)، فهي لم تقتصر على الأحاديث النبوية بل ذكرت أقوال الصحابة وفتاوى التابعين وتابعي التابعين، ومن أشهر المصنفات:

  • المصنف لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى 211هـ.
  • المصنف لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى 235هـ.
  • المصنف لبقي بن مخلد القرطبي المتوفى 276هـ.
  • المصنف لأبي سفيان وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى 196هـ.
  • المصنف لأبي سلمة حماد بن سلمة البصري المتوفى 167هـ.

5- إلى جانب الكتب السابقة، اعتنى العلماء أيضا بجمع الكتب الضعيفة والموضوعة وتصنيفها في كتب مستقلة، مثل كتاب “الأباطيل” للجورقاني، و”الموضوعات” لابن الجوزي، و”اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة” للسيوطي.

نماذج لأهم علماء الحديث ومؤلفاتهم

الإمام أحمد ومسنده
ولد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على الأرجح سنة 164هـ، ونشأ في بغداد، بدأ بطلب الحديث في سن مبكرة فرحل إلى البصرة والكوفة واليمن، كما رحل إلى الحجاز خمس مرات، أولاها سنة 187هـ حيث التقى بالشافعي واستفاد منه كثيرا، واستمر جِدُّه في طلب الحديث وروايته حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة، فيقال إن رجلا رآه وهو يحمل المحبرة لكتابة الحديث فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين! فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.

تعرض ابن حنبل لمحنة عظيمة عندما أكره الخليفة العباسي المأمون الفقهاء والمحدثين على القول برأي المعتزلة في قضية خلق القرآن، فحُبس وضُرب وأوشك على الموت. وتوالى على تعذيبه من بعد المأمون كل من المعتصم والواثق، ثم أفرج عنه المتوكل وأكرمه، وبلغت شهرته في الصمود والتضحية الآفاق، حتى يقال إن نحو من مائة من بيت الخلافة حضروا غسله يوم وفاته، أما عدد الذين شيعوه فاختلف في تقديره المؤرخون، حيث روى البيهقي أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف (مليون وثلاثمئة ألف)، بينما قال ابن أبي حاتم أن المتوكل أمر بمسح الموضع الذي وقف الناس فيه عندما صلوا على ابن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف (مليونين ونصف)، حتى قال الوركاني إن عشرين ألفا من غير المسلمين أسلموا في ذاك المشهد الرهيب.

ويعد مسند أحمد من أشهر كتب الحديث وأوسعها، ففيه الكثير من الأحاديث الصحيحة التي لا توجد في الصحيحين، وقد جعله مرتباً على أسماء الصحابة من الرواة، وبلغ عدد أحاديثه أربعين ألفاً تقريباً، تكرر منها عشرة آلاف حديث، ومن أحاديثه ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد (أي بين راويها وبين النبي ثلاثة رواة فقط).

الإمام مسلم وصحيحه
هو الإمام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم، وُلِد بنيسابور سنة 206هـ، ونشأ في بيت تقوى وصلاح وعلم، فقد كان والده من محبي العلم، وقد بدأ الإمام مسلم رحلته في طلب العلم مبكرًا.

يعد صحيح مسلم من أهم كتب الحديث الجامعة للصحيح فقط، حيث اقتصر مؤلّفه على ما صحّ من الحديث وترك كلّ ما كان في إسناده ضعف أو وهن، وافتتح صحيحه بمقدمة ذكر فيها سبب تأليفه الكتاب، ومنهجه العلمي الذي سار عليه، ثم بيّن بعض الأمور المتعلقة بالحديث.

جمع مسلم في صحيحه روايات الحديث الواحد في مكان واحد وفق الموضوعات الفقهية، وذلك لإبراز الفوائد الإسنادية في كتابه؛ فكان يروي الحديث في أنسب المواضع له، ويجمع طرقه وأسانيده في ذلك الموضع، بخلاف البخاري الذي كان يفرق الروايات في مواضع مختلفة، وتلك ميزة لصحيح مسلم، ما يجعل كتابه أسهل تناولا بحيث يجد القارئ طرق الحديث ومتونه جميعها في موضع واحد.

الإمام البخاري وصحيحه
هو محمد بن إسماعيل البخاري، ولد في مدينة بخارى 194هـ، ونشأ يتيما فربّته أمه على الأخلاق وطلب العلم، فبعد أن أتم حفظ القرآن التحق بحلقات المحدثين، وظهرت بوادر نبوغه المبكر فكان يصحِّح للشيخ خطأه في الإسناد وهو ابن إحدى عشرة سنة.

سئل البخاري: كيف كان بدء أمرك؟ فقال: أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقيل: كم كان سِنك؟ قال: عشر سنين أو أقل، فلما طعنتُ في ست عشرة سنة كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها، وتخلَّفتُ (أي بقيت) في طلب الحديث.

وقال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يوما بعد ستة عشر يوما: إنكما قد أكثرتما عليَّ وألححتما فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نُحْكِم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرا وأضيِّع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.

وفي سن الثامنة عشرة، بلغ البخاري درجة العلماء وبدأ بتصنيف الكتب التي يقوم بدراستها اليوم الباحثون لنيل درجات الدكتوراه.

ذكر المؤرخون أنه دخل بغداد وكان أئمة الحديث فيها يسمعون عن قوة حفظه، فأرادوا امتحانه، فجاء إليه عشرة من حفَّاظهم مع كل واحد منهم عشرة أحاديث خلطوا أسانيدها، فقرأوها على البخاري حديثًا حديثًا، وهو يقول: لا أعرف هذا الحديث؛ حتى أنهوا المائة حديث، ثم أعاد عليهم المائة حديث بخطئهم (أي حفظها بالخطأ لمجرد سماعها مرة واحدة) وأعادها مرة أخرى مصحَّحة؛ فأقرّوا له بالحفظ والفضل [وفيات الأعيان: 4/190].

ومما قيل أيضا عن سرعة حفظه وقوة ذاكرته أنه كان يطّلع على الكتاب فيحفظه من نظرة واحدة [سير أعلام النبلاء: 12/416]، كما كان عجيبا في حرصه على العلم حتى قال محمد بن يوسف “كنتُ مع البخاري بمنزله ذات ليلة، فأحصيتُ عليه أنه قام وأسرج (أي أضاء السراج ليكتب)؛ يستذكر أشياء يعلِّقها في ليلة ثماني عشرة مرة” [تهذيب الكمال: 3/1170].

وعندما اجتمعت الذاكرة العجيبة مع الانضباط الشديد بالمنهج العلمي والجلَد في الارتحال لطلب الحديث، كانت الثمرة بظهور أهم كتب الحديث وأصحها المعنون بـ”الجامع الصحيح المختصر من سنن رسول الله وأيامه”، فلم يقتصر جهد البخاري في صحيحه على جمع الأحاديث الصحيحة وتمحيصها، بل برع أيضاً في إبراز فقه الحديث واستنباط الفوائد منه.

ويبلغ عدد أحاديثه مع المكررات 7275 حديثًا، وبحذْف المكررات ينخفض العدد إلى أربعة آلاف حديث صحيح. وقد قال الإمام النّووي “اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز الصّحيحان: البخاري ومسلم، وتلقَّتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صحَّ أن مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث”.

ولم يبلغ كتاب البخاري هذه المنزلة عند العلماء والنقاد إلا لحرص مؤلفه الشديد، حيث اشترط البخاري شروطا دقيقة أثناء اختياره الأحاديث، فعلى الرغم من حفظه  لعشرات الآلاف من الأحاديث لم يصحح منها إلا أربعة آلاف كما ذكرنا.

وإذا أردنا تبسيط شروطه قلنا إنه اشترط أن يكون الراوي الذي يروي الحديث قد حاز أعلى درجات الحفظ والإتقان وسمع الحديث من شيخه مباشرة، فكان شديدا في التحقق من اتصال السند وسماع الرواي من شيخه.

قال إمام الحرمين الجويني: “لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولا حنثته، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما” [صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح، ص 86].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن” [مجموع الفتاوى: 18/74].

ومن شدة حرصه، قال البخاري إنه بعد انتهائه من دراسة كل حديث على حدة للتحقق من موافقته للشروط، كان يغتسل ويستخير الله ويصلي ركعتين قبل إضافته للكتاب، وعندما أنهى هذه المهمة الجبارة قال “صنَّفت الجامع من ستمائة ألف حديث، في ست عشرة سنة، وجعلته حُجَّة فيما بيني وبين الله” [مقدمة فتح الباري، ص513].

ونظرا للأهمية الاستثنائية التي يتمتع بها كتاب البخاري في المكتبة الإسلامية، فقد تعرض أكثر من غيره للنقد من قبل الإسلاميين وخصومهم على حد سواء، فأجمع الفريق الأول على منحه المرتبة التي يستحقها لما يتمتع به من المصداقية والالتزام بشروط الصحة والضبط، بينما تتردد منذ القرن الماضي شبهات كثيرة على يد المستشرقين وغيرهم بشأن صحة أحاديث هذا الكتاب، وفيما يلي إيجاز لأهم هذه الشبهات ومناقشة سريعة لها:

الطفل جهاد المالكي لم يمنعه فقد البصر من حفظ القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن الأربعة وكتبا أخرى كاملة.

1- يقال إن البخاري عندما جمع أحاديث كتابه لم تكن أصوله (مراجعه) متوفرة بين يديه، ما يشكك في صحة ألفاظه، لكن المؤرخين الذين وثقوا سيرة البخاري أجمعوا -كما ذكرنا- على نبوغ وعبقرية هذا الرجل وقدرته الاستثنائية في الحفظ وقوة الذاكرة، وهذه الموهبة على ندرتها ليست مستحيلة، فقد كان أئمة آخرون مثل الشافعي وابن تيمية يتمتعون بمثل هذه الموهبة، بل نجد مثيلا لها في عباقرة معاصرين يمتلكون قدرة عجيبة على الحفظ والتذكر بالرغم من حداثة السن، وربما أيضا كانوا من فاقدي البصر، كما يتمتع البعض بما يسمى بالذاكرة الفوتوغرافية التي تمكنهم من تذكر أدق التفاصيل بنظرة واحدة.

يعد الشاب البريطاني ستيفن ويلتشير من أشهر العباقرة المعاصرين الذين يتمتعون بالذاكرة الفوتوغرافية، حيث يمكنه أن يحفظ تفاصيل أي شيء ينظر إليه من مرة واحدة، فعلى سبيل المثال تمكن من رسم لوحة مفصلة لأربعة أميال مربعة من مدينة لندن، بكل ما فيها من تفاصيل المباني وحتى عدد نوافذها وطوابقها، وذلك بعد رحلة بطائرة مروحية واحدة فوق تلك المدينة.

2- يستشهد بعض النقاد اليوم بالنقد الذي سبق أن طرحه بعض أئمة الحديث لصحيح البخاري، مثل الدارقطني في كتابه “الإلزام والتتبع”، كما ضعّف الشيخ الألباني في عصرنا الحديث بعض أحاديث البخاري، لكن اتفاق معظم الأئمة في مختلف العصور على صحة الكتاب لم يكن نابعاً من تقديس لشخص البخاري، بل نتيجة لتمحيص كتابه وإعادة التدقيق في كل ما جمعه ورواه، وقد أجاب الإمام ابن حجر في مقدمة “فتح الباري” عن الأحاديث التي تعرضت للنقد وبيّن صوابية تصحيح الإمام البخاري لها.

وجميع الانتقادات الموجهة لصحيح البخاري تتعلق بالأسانيد ورسومها أو ببلوغ درجة أصح الصحيح، أو تتعلق بكلمة أو كلمتين من الحديث، وهي لا تتجاوز العشرات من بين أكثر من سبعة آلاف حديث، أما الانتقادات المتعلقة بأمور تؤثر في صحة المتن فلا تتجاوز الثلاثة أحاديث.

3- ينتقد البعض اعتماد البخاري على رواة لم يحققوا شروط الصحة المطلوبة، لكن ضعف راوٍ ما لا يعني بالضرورة أن كل أحاديثه ضعيفة بالمطلق، بل قد يكون فيها ما يصح إذا حقق شروط الصحة، فقد كان البخاري ينتقي من أحاديث الرواة الضعفاء ما كان قويا ويورد له شواهد من رواة آخرين ليرتفع إلى درجة الصحيح.

4- يروّج مستشرقون وباحثون معاصرون فكرة وجود بعض الأحاديث التي تخالف العقل في صحيح البخاري، لكن فهم سياق تلك الأحاديث أو حملها على محمل المجاز قد يرفع عنها صفة التعارض مع العقل، لا سيما وأن العرب اشتهروا بالمجاز وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أفصح العرب.


أهم المراجع
جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق عزت علي عطية وموسى محمد علي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1980م.

عبد العظيم المطعني، الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية، مكتبة وهبة، القاهرة، 1999م.

أحمد عمر هاشم، دفاع عن الحديث النبوي، مكتبة وهبة، القاهرة، 2000م، ط1.

محمد محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة، مكتبة السنة، القاهرة، 2007م، ط2.

جمال الدين القاسمي، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، دار العقيدة، القاهرة، 2008م.

مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، دار السلام، مصر، 2006م، ط3.

نور الدين عتر، السنة المطهرة والتحديات، دار المكتبي، سوريا، 1999م.

شريعة الإسلام

ذكرنا في مقال “الدين والتدين” أن الدين يتكون من عناصر رئيسة، هي: الاعتقادات، الشعائر والعبادات، الفرائض والالتزامات، تنظيم حياة الجماعة. ويمكن القول إن العناصر الثلاث الأخيرة تدخل تحت مسمى الشريعة.

وبما أننا وصلنا في مسير بحثنا عن الحقيقة إلى أن الإسلام هو السبيل الحق، وأوضحنا في مقالات سابقة دلائل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة الوحي الذي جاء به وأسس عقيدته، فسنواصل في هذا المقال التعرف على الإسلام عبر عنصر التشريع الذي جاء به الوحي.

ويدل مصطلح التشريع على سنّ الأحكام والقواعد، كما يحمل مصطلح الشريعة معاني أخرى، مثل مورد الماء العذب، والطريق المستقيم، أما في الإسلام فهي تعني ما سنه الله من الأحكام والقواعد على لسان رسول من الرسل، لتنظيم حياة الناس الدينية والدنيوية فيقال: شريعة موسى وعيسى، وشريعة محمد.

أما مصطلح الفقه بمعناه العام (في أصل اللغة) فهو مطلق الفهم، ومنه قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: ٤٤] أي لا تفهمونه، وهو يعني أيضا الإدراك والفهم الدقيق الذي يتطلب بذلاً لقدر من الجهد العقلي، وهو المقصود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين” [أخرجه الشيخان]. أي يفهّمه الدين كله وليس المقصود علم الفقه خاصة، وبذلك دعا النبي لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “اللهم فقهْه في الدين” [البخاري].

ويجدر بالذكر أن معنى الفقه الاصطلاحي تطور تاريخيا عبر ثلاث مراحل زمنية، ففي مرحلة صدر الإسلام كان يراد به فهم الأحكام التي جاءت في القرآن والسنة، وفي منتصف القرن الثاني الهجري أصبح مدلول كلمة الفقه مقصوراً على الأحكام الشرعية العملية دون المتعلقة بالعقائد، ثم أصبح مدلولها في صدر الدولة العباسية مقتصراً على أحكام العبادات والمعاملات فقط، حيث صار لأحكام العقائد علم مستقل يسمى علم الكلام أو التوحيد، كما صار لأحكام الأخلاق علم يدعى التصوف. أما تطور الفقه نفسه فيمكن تقسيمه على سبع مراحل تشريعية كما سيأتي لاحقاً.

يبحث علم الفقه فيما يصدره الله تعالى للناس من أوامر ونظم عملية (غير الاعتقادية التي يبحثها علم العقيدة) مستفادة من دليل يشهد على أن الله تعالى شرع هذه الأحكام للناس، بخطاب واضح في نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية، أو باستنباط العلماء وفهمهم لمجمل دلائل نصوص القرآن والسنة ومقاصد الشريعة وقواعدها. لذلك عرّفوا الفقه بأنه: “العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية” [المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقا، ٦٥].

إذن، فالفقه مختص بالأحكام التي يترتب عليها عمل، وقد قسمه الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله إلى سبعة موضوعات [الفقه الإسلامي ومدارسه، ص١٠-١٢]، هي:

1- أحكام العبادات والشعائر الخاصة، كالصلاة والصوم والحج، ويطلق عليها: العبادات.

2- أحكام الأسرة، كالنكاح والنفقة والميراث، وتسمى قانونيا: الأحوال الشخصية.

3- الأحكام المتعلقة بنشاط الناس الاكتسابي، كتعاملاتهم المالية والتعاقدات وفصل المنازعات، وتسمى: المعاملات. ومن هذين الموضوعين (الأحوال الشخصية والمعاملات) يتكون ما يعرف حديثا بـ”القانون المدني”.

4- القواعد المتعلقة بسلطان الحاكم على الرعية، والحقوق والواجبات المتقابلة بينهما، ويسميها بعض الفقهاء: الأحكام السلطانية، وهي من قبيل ما يسمى: السياسة الشرعية. وتشمل بالاصطلاح الحديث: القانون الإداري، والقانون الدستوري.

5- الأحكام المتعلقة بعقاب المجرمين، وضبط النظام الداخلي بين الناس، وتسمى: العقوبات.

6- القواعد الناظمة لعلاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى، أو ما يعرف حديثا بـالعلاقات الدولية.

7- أحكام الأخلاق والفضائل ومحاسن السلوك ومساوئه، وتسمى: الآداب.

فطرة العبادة
في كل إنسان حافز خفي قوي مثل نبض القلب، يجعله مطمئنا إلى وجود من هو فوقه، وفوق كل ما حوله من المخلوقات؛ إله عظيم قادر، يجب الخضوع له والتقرب إليه؛ لا شكرا على نعمته واتقاءً لنقمته فقط، بل لأن هذه هي “العلاقة الطبيعية” بين الخالق والمخلوق، الإله والعبد.. إنها العبادة التي بها يحقق الإنسان ذاته ويستجيب لدوافع فطرته.

مدخل غار حراء

لذلك لم يكن غريبا تساؤل الناس -في كل زمان ومكان- عن الإله الحق، وسعي كثيرين ممن نقل لنا التاريخ -بل حتى الحاضر- قصصهم في البحث عنه، منها مغامرات كثير من علماء الطبيعة والفلك والفلاسفة وغيرهم، ولعل منها قصة أبينا الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي قلّب وجهه في السماء ونظر في النجوم حتى اهتدى إلى خالقها سبحانه، فقال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} [الأنعام: ٧٩].

ومنها كذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “حُبّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه -وهو التعبّد- الليالي أولات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود” [صحيح مسلم: ١٦٠]، حتى نزل عليه الوحي وهو كذلك.

ومن الدين ما يمكن التوصل إليه بالنظر والتفكر في الطبيعة والخلق، وتأمل المآلات وغاية كل كائن، والتدبر في تفاصيل العدالة ومقتضياتها، فإن الإنسان إن تفكر متجردا في هذا يمكن أن يصل إلى أن للكون خالقا واحدا، حكيما قادرا عليما مدبرا، ولعلنا صادفنا أو قرأنا عمّن قاده بعض تفكره في شيء من خلق الله تعالى إلى الإيمان بخالقه. وقد قال الله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون} [العنكبوت: ٦١].

وهذا القدْر من الدين يكون مشتركا بين الأنبياء جميعا، فلا يختلف من نبي إلى آخر، ولا يتغير بتغير شرائعهم؛ إنما تتغير التشريعات والأحكام الناظمة لحياة الناس، ومناسك العبادات والشعائر. أي أن ما يتغير من نبي إلى آخر هو أحكام الفقه.

ومن الحق ألا نتغافل عن تفاوت الناس في الفهم والعلم والفطنة، ونكون موضوعيين في أن التجرد من التصورات المسبقة ليس بالأمر اليسير؛ لذلك فإن من رحمة الله جل وعلا وعفوه عنا أن أرسل إلينا رسلا مبشرين ومنذرين، يدلوننا إذا ضعنا وينبهوننا إلى ما غفلنا عنه، وجعل عدم بلوغ الرسالة مانعا من العذاب، فقال سبحانه: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: ١٥].

وإن كان النظر في الكون والتأمل في المخلوقات يهدي إلى الله سبحانه، ويعرّفنا كثيرا من صفاته عز وجل، فإن هذا لا يكفي لنعرف: كيف نعبد الله سبحانه؟

وبما أن العبادة أصل راسخ من اختبار الدنيا الذي نعيشه، لذلك كان لا بد أن نتساءل عن تفاصيل العبادة المطلوبة: ما الشعائر الواجبة علينا؟ وكيف نؤديها؟ وما شروطها؟ وما حرّم علينا وما أبيح لنا؟ وما حق الخلق علينا وما حقنا عليهم؟ وغير ذلك.

ولا يستطيع المسلم أن يعرف ما الصلاة الواجبة عليه، وكيف يصليها، وما يحرم عليه من الطعام أو الشراب، وما يجب عليه في المال، وما عليه إذا قتل أو سرق، وما مصير ماله إذا مات؛ وغير ذلك من الأحكام والقواعد والتشريعات إلا بخبر عن الله تعالى أنه حكم فيها بكذا، وشرّع فيها كذا.

فهذا مما لا يمكن التوصل إليه بمجرد التفكر والتأمل، بل لا بد من إخبار مباشر من الخالق سبحانه، ولذلك أرسل لنا رسلاً مبلّغين، وكان مما يبلغوننا به: أحكام الله تعالى وتشريعاته؛ وإلا فإن المرء لربما عصى الله سبحانه وهو يظن أنه يطيعه، فيكون كمن وصف الله تعالى: “عاملة ناصبة تصلى نارا حامية” [الغاشية: ٣-٤].

العبادة في الإسلام
مر بنا في مقال عقيدة الإسلام حديث صحيح جاء فيه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حضرة الصحابة وسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، كي يتعلم الحاضرون أركان هذا الدين، فلخّص النبي الإسلام في خمسة أركان، تتضمن العبادات الأساسية التي لا يصح الإسلام بدون تطبيقها معًا، وهي:

1- النطق بالشهادتين، وهما: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.

2- أداء خمس صلوات كل يوم، مع استيفاء شروطها من طهارة الملبس والبدن، والوضوء، وستر العورة، واستقبال القبلة (الاتجاه نحو الكعبة في مكة المكرمة). وصفة الصلاة مفصلة بحركاتها وأذكارها في السنة النبوية ومنقولة إلينا بالتواتر، و لا يُشترط لها مكان لا تؤدَّى إلا فيه، مع أن الأفضلية لأدائها في المساجد، كما لا يُشترط أن يؤم المصلين فيها شخص معين (رجل دين)، ولا واسطة فيها بين المسلم وربه.

والصلاة من العبادات الثابتة في الشرائع النبوية السابقة، وأغلب الظن أن معظم أركانها لم يتغير، حيث ما زالت بقايا سنن الأنبياء في الصلاة حاضرة اليوم عند أتباع الديانات ذات الأصل السماوي بالرغم مما طالها من الاندثار والتحريف، وهو ما تؤكده الدكتورة هدى درويش بالتفصيل في كتابها “الصلاة فى الشرائع القديمة والرسالات السماوية”، فتقول إن تعاليم كتاب “كنزا ربا” المقدس لدى الصابئة المندائيين تتضمن ما يثبت الأصل الواحد للدين، فهم يغسلون أعضاءهم بشكل مشابه لوضوء المسلمين، ويؤدون ثلاث صلوات مع الاتجاه نحو الشمال، وتتضمن كل صلاة لديهم عددا محددا من الركعات.

يؤكد الدكتور نديم السيار في كتابه “المصريون القدماء.. أول الحنفاء” أن المصريين الذين بُعث فيهم النبي إدريس عليه السلام (هرمس) كانوا يؤمنون بأركان الإسلام الخمسة، ويثبت بالصور التي جمعها من البرديات والجداريات أن صلاة المصريين القدماء كانت تتضمن الوضوء والتطهر واستقبال القبلة (نحو الجنوب) وستر العورة، وأداء حركات تكاد تتطابق مع حركات صلاة المسلمين المعروفة اليوم.

ولدى الزرادشتيين أيضا وضوء وخمس صلوات في اليوم، مع استقبال للقبلة باتجاه مصدر النور من نار أو كواكب، كما يتوضأ المانويون (أتباع المانويّة في إيران) بالماء، أو يمسحون أعضاءهم بالرمل إذا لم يجدوا الماء بشكل مشابه تقريبا للتيمم لدى المسلمين، ويصلون أربع مرات، ويسجدون في كل منها عدة سجدات.

أما اليهود والمسيحيون فكانت صلواتهم أقرب إلى المسلمين قبل تحريفها، وفقًا لكتاب هدى درويش، حيث كانوا جميعا يؤدون الصلاة قياما، وكانوا يركعون ويسجدون ويجلسون على الأرض [ص 287- 292].

وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله أي مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام»، قال: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قال: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة». ويرجح العلماء أن آدم عليه السلام هو الذي بنى المسجد الحرام في مكة، لتكون قبلة للبشرية منذ نشأتها على الأرض، ثم بنى هو أو أحد أبنائه من بعده المسجد الأقصى، واندثر أثر الكعبة لفترة غير معروفة قبل أن يعيد إبراهيم عليه السلام بناءها بأمر إلهي، ويؤمر الناس مجدداً باستقبال القبلة والحج إليها.

3- أداء الزكاة عن فضل المال الزائد عن حد معين يسمى النِّصاب، فإذا مرت سنة كاملة على هذا المال وهو زائد عند المسلم عن نفقات نفسه ونفقات عياله كُلّف أن يُخرج منه مبلغ 2.5 في المئة للفقراء والمحتاجين والمشاريع الخيرية المحددة في ثمانية بنود. وهذا المبلغ يُعد بمثابة ضريبة صغيرة على المال المكنوز، فلا يحس المُنفق بثقلها، وتوطد أواصر التضامن الاجتماعي وتعالج مشاكل الفقر.

يقول البروفيسور الأمريكي المسلم جيفري لانغ في كتابه “حتى الملائكة تسأل” إنه عندما جرب صوم رمضان -بعد اعتناقه للإسلام- في أحد أيام الصيف الحارة، لم يستطع أن يتابع عمله في الجامعة من شدة الإعياء، فعاد إلى بيته وهو يتضور جوعا، وعندما شاهد على شاشة التلفاز صوراً مؤلمة لضحايا المجاعات في أفريقيا قال على الفور «يا رب، لقد فهمت حكمة الصيام».

4- صوم شهر رمضان كل عام، بحيث يمتنع المسلم القادر عن الطعام والشراب والجماع من الفجر وحتى غروب الشمس، فيكون في ذلك شهر صفاء لنفسه، وتهذيب لخُلقه، وصحة لجسده، ويكون هذا الشهر مظهراً من مظاهر الاجتماع على الخير، والتساوي بين طبقات المجتمع.

5- الحج إلى بيت الله الحرام في مكة، مرة واحدة في العمر إن توفرت الاستطاعة المادية والبدنية، حيث يوفر الحج فرصةً لاجتماع المسلمين من كل الأقطار في ما يشبه المؤتمر الشعبي العام، متجردين من ملابسهم وزينتهم وكل ما يميزهم عن بعضهم في المظهر، بحيث يضطرون جميعا لارتداء ما يشبه الأكفان والتواضع لله على صعيد واحد بالتساوي، فيقضون نهارهم الأول في التضرع والتوسل على جبل عرفة ومحيطه، ثم ينفرون في مشهد مهيب يستحضر رهبة القيام إلى المحشر، ويبيتون بمزدلفة، ويتوجهون في صباح العيد إلى مِنى لرمي الجمرات في أداء رمزي لنبذ الشيطان، وأخيرا يستكملون الشعائر في البيت الحرام من طواف وسعي، ويذبحون القرابين لتوزيع لحومها على المحتاجين إن دعت الحاجة وتوفرت الاستطاعة.

فالحج في الحقيقة دورة توجيهية ورياضية وفكرية يكلَّف المسلم بأن يحضرها مرة واحدة في العمر، وقد كانت مفروضة على الأمم السابقة، فحجّ الأنبياء إلى مكة منذ عهد آدم وحتى اندثار أثرها، ثم عاد الناس للحج بعد أن رفع إبراهيم عليه السلام قواعد البيت ولبى أمر الله تعالى في قوله: {وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27]، لكن العرب الذين استوطنوا مكة في عصر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام عادوا بعد قرون إلى الوثنية وحوّلوا البيت الحرام نفسه إلى معبد للأصنام، وحرّفوا شعائر الحج وخلطوها بمصالحهم الدنيوية، حتى أعادها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما كانت عليه بأمر الوحي.

وتعد الأركان الخمسة السابقة بمثابة العبادات الأصلية التي يُكلَّف بها المسلم، ولكن العبادة لا تقتصر عليها، فكل عمل نافع لم يمنعه الشرع، يعمله المؤمن ابتغاء ثواب الله يكون عبادة؛ حتى الأكل والنوم والنكاح والاغتسال والترويح عن النفس وكسب المال وإنفاقه وتربية الأبناء، فمفهوم “العبادة” التي هي غاية خلقنا حسب قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: ٥٦] يشمل الاستجابة لعموم ما أمرنا الله به ونهانا عنه، ظاهرا وباطنا، وعرفها ابن تيمية بأنها: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة” [رسالة العبودية، ص١٩].

وقد شُرعت العبادات لتحقيق القيم العالية ومصالح الفرد والمجتمع، ولترسيخ هوية المسلم وشخصيته، وهذا ما نلاحظه في قول الله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: ٤٥]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر” [ابن ماجه]، فالله ليس بحاجة لعبادة المسلم، بل العبد هو المستفيد من تلك العبادة.

ومن هنا كان أمر الله تعالى بإقامة العدل والإحسان والصدق والوفاء بالعهود وبرّ الوالدين والإحسان إلى ذوي القربى والجيران واليتامى وأداء الأمانة والإنفاق في سبيل الله بل حتى إحسان الذبح والقتل، ونهيه سبحانه عن الظلم والبغي والكذب وقول الزور والغدر ونقض العهد وتطفيف الميزان والغش وعموم الفحش والمنكر، وحتى الإضرار بالنفس والجسد، وغير ذلك الكثير -أمرا ونهيا- من القيم والأخلاق التي تتفق البشرية على نبلها.

ومن ذلك قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: ٥٨]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا” [مسلم: 2563].

عندما سأل ملك الحبشة النجاشي الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب عن سبب هجرتهم من مكة وتركهم لدين آبائهم من قريش وعدم قبولهم بدينه وهو المسيحية، قدّم له جعفر هذا الموجز المبسط للإسلام، فقال “أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنَّا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشركْ به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك”. [سيرة ابن هشام، 1/ 335]

خصائص الفقه الإسلامي
1- إلهية المصدر، فهو وحي منزل من خالق الإنسان والعالم بمصلحته، والعالِم المجتهد يقتصر دوره على بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من نصوص الوحي في القرآن والسنة، وبما ترشد إليه مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية المستنبطة أصلا من الوحي.

2- الارتباط بالأخلاق والعقيدة، فأحكام العبادات شرعت من أجل تزكية النفس وتربيتها، وأحكام المعاملات تقوم على الوفاء بالعهود والأمانة واحترام حقوق الناس.

3- اجتماع الصفتين الدنيوية والدينية، فأحكام الفقه الإسلامي قائمة على مبدأ الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة معاً، والقاضي الشرعي ملزم بالحكم بناءً على الظاهر، وحكمه مُلْزِم مع أنه لا يحوّل الحلال إلى حرام ولا العكس، أما المفتي فيصدر فتواه اعتماداً على الظاهر والباطن معاً، وعند اختلاف الظاهر مع الباطن يبني حكمه على الباطن إذا ظهر له. ونظراً لاجتماع الصفتين في أحكام الفقه فإنه أكثر ردعاً من القوانين الوضعية، فالمسلم العاقل يدرك أن مراقبة الله له أكثر شمولا من مراقبة الحكومة، وأن عقاب الله أشد إيلاماً أيضاً.

4- صلاحية التطبيق في كل زمان ومكان والقابلية للتطور، لأن أحكام الفقه الإسلامي مبنية على قواعد تحقق مصالح الناس الثابتة، مثل قاعدة التراضي في العقود، وضمان الضرر. أما التطبيق فيتسم بالمرونة لمراعاة الأعراف والمصالح المتغيرة.

5- مراعاة مصالح المجتمع، فأحكام الفقه تراعي التوازن بين مصلحة الفرد والجماعة، لكنها تقدم مصلحة الجماعة عند التعارض بشرط التعويض العادل للفرد ورفع الظلم عنه، مثل تقييد الوصية بثلث المال منعاً من إلحاق الضرر بالورثة.

6- شمولية الفقه لكل مناحي الحياة الإنسانية، فهو يتناول علاقات الإنسان بربه ونفسه ومجتمعه، وأحكامه تشمل نوعين: الأول هو أحكام العبادات والشعائر، والثاني هو أحكام المعاملات التي تشمل كلا من أحكام عقود المعاملات (العلاقات المالية)، أحكام الأسرة (الأحوال الشخصية)، الأحكام الجنائية، الأحكام الدستورية، الأحكام الدولية، وأحكام المرافعات (تنظيم السلطة القضائية).

7- التيسير، فالقرآن يقول {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة : 286]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري عندما بعثهما إلى اليمن “يسّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنفّرا” [متفق عليه]، فوضع الفقهاء قواعد فقهية تنص على التيسير مثل “المشقة تجلب التيسير” و”إذا ضاق الأمر اتسع”.

المراحل التشريعية للفقه الإسلامي
يمكن تقسيم المراحل التي تطور خلالها الفقه إلى سبع مراحل تشريعية، وهي:

1- عصر الرسول: بدأت هذه المرحلة بنزول الرسالة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو في سن الأربعين وانتهت بوفاته بعد ثلاث وعشرين سنة تقريباً، وتنقسم إلى فترتين، هما:

فترة التشريع في مكة التي استمرت ثلاث عشرة سنة، و كان التشريع فيها متوجهاً إلى تأسيس العقيدة وبناء شخصية المسلم فكرياً وأخلاقياً. لذا لم ينزل في مكة من الأحكام إلا القليل.

ثم جاءت فترة التشريع في المدينة المنورة بعد الهجرة، واستمرت عشر سنين، حيث ظهرت فيها نواة الدولة والمجتمع الإسلاميين، وتوالى فيها نزول آيات التشريع والأحكام، إلى أن نزلت آخر آيات الأحكام قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وهي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وكان الفقهاء من الصحابة الذين وضعوا قواعد التشريع وأصوله في هذا المرحلة يسمون بالقرّاء، لأنهم يحفظون القرآن وأحكامه وتطبيقاته، حيث يروى عن ابن مسعود أنه قال “كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن”.

اقتصرت مصادر التشريع في هذه المرحلة بالقرآن والسنة، واجتهد فيها النبي ليدرب صحابته على الاجتهاد، كما مارسوا الاجتهاد في حياته إلا أنهم كانوا يرجعون إليه في كل شيء.

عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عندما أراد أن يبعثه إلى اليمن: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال معاذ: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي الله ورسوله. [أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والدرامي والبيهقي].

2- عصر الخلفاء الراشدين: بدأت هذه المرحلة بوفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عام 11 للهجرة وامتدت إلى منتصف القرن الأول الهجري، وشهدت توسع الدولة الإسلامية ودخول شعوب جديدة في الإسلام وهي تحمل بقايا ثقافاتها وتقاليدها، فظهرت أنماط حياة مختلفة ومسائل لم تكن معروفة في زمن النبوة، وبدأ فقهاء الصحابة بالاجتهاد لمواجهة هذا الواقع الجديد.

كان الفقهاء يبحثون أولاً في القرآن عن حكم يناسب الوقائع الجديدة، فإن لم يجدوا نظروا في سنة الرسول وأقضيته، وسألوا كبار الصحابة إن كان أحدهم يعلم عن الرسول شيئاً مشابهاً، فإن لم يجدوا اجتهدوا معتمدين على قواعد الشريعة والمصالح والقياس، مع أنها لم تكن مصنفة بعد.

ظهرت في هذه المرحلة بوادر المدرستين الرئيستين في الفقه، وهما مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، وذلك نظرا لتفاوت الصحابة في اعتمادهم على الاجتهاد والرأي، فكان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود مثلا يتوسعان في الاجتهاد المبني على التعمق في فهم النصوص ومعاني الألفاظ والمصالح، بينما كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص في المقابل يتورعان عن القول بالرأي ويتمسكان بالنصوص، فنشأ عن هذين الاتجاهين لاحقًا مدرستا الرأي والحديث.

مسجد الكوفة

3- عصر التابعين: تمتد هذه المرحلة ما بين منتصف القرن الهجري الأول وأوائل القرن الثاني، وبقيت فيها مصادر التشريع المعروفة من القرآن والسنة والإجماع والقياس إلا أن مصدراً آخر أضيف لدى البعض وهو مذهب الصحابي، كما لم يعد الإجماع ميسوراً في عصر التابعين بسبب انقسام المسلمين إلى فرق (لظهور الخوارج والشيعة) وتوسعهم في الأمصار.

انتشرت في هذه المرحلة رواية الأحاديث المدونة، وبدأ الفقهاء أيضاً بتدوين ما خلفه الصحابة من فتاوى، كما ظهر الفقه الافتراضي لأول مرة.

ومن أهم مميزات هذه المرحلة أنها شهدت تكوّن مدرستي الرأي والحديث بناءً على البوادر التي ظهرت في عصر الصحابة، فبعد أن انتشر الصحابة في الأمصار حاملين مناهجهم في الفقه، أصبح لكل مدينة أو منطقة منهج فقهي خاص، وهكذا تبلورت مدرسة الرأي في الكوفة بالعراق، بينما نضجت مدرسة الحديث في المدينة المنورة ومدن الحجاز.

4- تكوين المذاهب الفقهية: تمتد هذه المرحلة من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع، فبعد ظهور مدرستي الحديث والرأي نشطت الحركة العلمية عبر الرحلات التي قام بها العلماء لجمع الحديث والفتوى ومناهج الاستنباط، وبدأ تلاقح الأفكار والتقارب والتمايز، واتفق العلماء على قبول الاجتهاد بالرأي، وأصبحت الاجتهادات قائمة على الحديث والرأي معاً بالرغم من الاختلاف في نسبة الاعتماد على أحدهما دون الآخر.

شهدت هذه المرحلة أيضا ظهور المصطلحات العلمية في شتى العلوم، ومنها الفقه. ومع توسع التدوين والرحلات العلمية والمناظرات وتشجيع الخلفاء والأمراء؛ ظهرت المذاهب الكبرى.

ويقصد بالمذاهب المدارس التي تميزت بمناهج استنباط وضعها الأئمة المجتهدون، وقد كُتب لبعضها البقاء بسبب حفظها من قبل التلاميذ النجباء وكثرة العلماء الذين تبنوا مناهجها، فضلا عن تقبل الدولة لها، وهي مذاهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والجعفري والزيدي والظاهري والإباضي.

وهناك مذاهب أخرى لم يُكتب لها البقاء فبقيت آثارها موزعة في بعض الكتب، وقد لا تقل في أهميتها عما كتب له البقاء، ومنها مذاهب سفيان الثوري والطبري والأوزاعي والليث بن سعد.

المغول يحاصرون بغداد

5- التقليد: يرى بعض المؤرخين أن هذه المرحلة بدأت في منتصف القرن الرابع الهجري واستمرت إلى سقوط بغداد سنة 656ﻫ، فمع انقسام دولة الخلافة العباسية وظهور دول أخرى في أفريقيا والأندلس وتسلط البويهيين والسلاجقة على بغداد تسربت مظاهر الفساد والخلاف والانحطاط من رأس الدولة إلى جسدها، وتراجع النشاط العلمي كثيراً حتى أصبح العلماء مشغولون بالاجتهاد المقيد ضمن مذاهبهم دون إبداع، كما تعصب البعض لمذاهبهم وطعنوا في المذاهب الأخرى، وانصرفت الجهود إلى تفسير نصوص مؤسسي المذاهب وشرحها بدلاً من العودة إلى نصوص الوحي نفسها، لا سيما وأن كل خليفة أو أمير سعى إلى تأييد مذهب ما ودعمه في القضاء والتدريس، فانصرف الفقهاء إلى الانشغال بما تدعمه الدولة دون غيره.

ولا يعني هذا التقليد أن القدرات العلمية والعقلية لفقهاء هذه المرحلة كانت أقل من أسلافهم، لكن البيئة العلمية والسياسية لم تكن تسمح بظهور مذاهب جديدة واجتهادات مطلقة خارج أطر المذاهب التي استقر الناس عليها؛ فاضطر الفقهاء للتقليد. ومع ذلك فعلينا ألا نبخس حقهم في ما تركوه من أعمال جليلة، حيث أبدعوا في الجمع والترجيح والاستنباط، وتوسعوا في تفريع المسائل والمناظرات.

6- الجمود: تسبب سقوط بغداد في ذروة الاجتياح المغولي سنة 656ﻫ بحدوث صدمة ثقافية وحضارية كبيرة لدى المسلمين، فكان أثرها واضحا في الأوساط العلمية، حيث انتقل العلماء من التقليد إلى الجمود، واقتصرت معظم جهودهم على الانصراف إلى تراث القدماء ضمن المذاهب لاختصاره وشرحه والتعليق عليه، ولا سيما في ظل انقطاع الصلة بين علماء الأمصار وتوقف الرحلات العلمية التي كان لها الأثر في تقارب الأفكار وتقليص هوة الخلاف.

ومع أن هذه المرحلة لم تخل من ظهور فقهاء بلغوا رتبة الاجتهاد المطلق إلا أن الجو العلمي السائد أبقاهم ضمن دائرة التعصب المذهبي والتقليد، حتى غلب على مؤلفاتهم التعقيد والغموض من شدة الإيجاز، ثم انشغل تلاميذهم بشرح هذه المختصرات والشروح لفك ألغازها، فظهرت شروح على الشروح أو الحواشي. لكن هذا لم يمنع ظهور العديد من المؤلفات المهمة التي عُنيت بالنوازل المستحدثة، حيث دوّن العلماء فتاواهم في كتب سُميت بكتب الفتاوى، ومن أشهرها الفتاوى التتارخانية، والفتاوى الغياثية، والفتاوى الخانية، والفتاوى البزازية، والفتاوى الهندية.

مجلة الأحكام العدلية

7- النهضة الحديثة: يرى مؤرخون أن الأوساط الفقهية شهدت نهضة نسبية في أواخر العهد العثماني، حيث أنشأت الدولة العثمانية لجنة علمية عام 1286ﻫ/1869م وأوكلت إليها مهمة تقنين المعاملات المدنية بما يتوافق مع مستجدات العصر، مع اعتماد المذهب الحنفي مذهباً للدولة، ونتج عن هذا المشروع نشر “مجلة الأحكام العدلية” التي احتوت على 1851 مادة موزعة على ستة عشر كتاباً.

وفي عام 1917م، تم وضع “قانون حقوق العائلة العثماني” لتقنين قوانين الأحوال الشخصية دون الالتزام بمذهب واحد، ما دفع بالأمصار الإسلامية لوضع قوانينها الخاصة والمنتقاة من مذاهب عدة، وظل العمل سارياً بها حتى سقوط العالم الإسلامي في يد الاحتلال الأوروبي وما تلاه من تأسيس للحكومات العلمانية.

وبالرغم من انهيار الحكم الإسلامي والتبعية القائمة حتى اليوم للغرب بأشكال مباشرة وغير مباشرة، فما زال فقهاء العصر الحديث يعملون على النهوض بالحركة العلمية ومواكبة النوازل والتطورات، ويستعينون على ذلك بالانفتاح الذي فرضته سهولة التنقل وسرعة المواصلات وثورة الاتصالات، فبات من السهل عقد المؤتمرات العلمية، ولا سيما بعد تأسيس المجامع الفقهية، والتي كان أولها المجمع الفقهي الإسلامي في مكة المكرمة الذي أنشأته رابطة العالم الإسلامي عام 1977م.

كما تلعب كليات الحقوق والشريعة في الجامعات العربية دوراً مهماً في النهضة الفقهية، حيث تعالج دراسات الطلاب والباحثين مختلف مناحي الحياة الحديثة، كما تجري مقارنات علمية بالقوانين الوضعية ما يؤدي إلى نشوء نظريات فقهية حديثة.

منشأ الحكم (مصدر التشريع)
الامتثال لما شرع الله تعالى هو من تمام عبوديته؛ فنحن نطيعه لأننا عباده ولأنه ربنا. ومن آمن أن لا إله إلا الله، كان لا بد أن يتحرر من أي عبودية إلا لله سبحانه، فلا يعبده إلا كما أمره، ولا يدخل في الدين أي شيء بأمر غيره؛ وهذا من إخلاص الدين لله الذي به تتحقق العبودية، ولا تكون إلا به، قال عز وجل: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} [الزمر: ١١].

ومن معنى التوحيد هذا كان من المقرر أن “التشريع” -بمعنى سن أحكام الدين وقواعده- هو “حق” حصري لله، لا أن ينازعه فيه أو يشاركه أحد، لا نبي ولا عالم ولا أمير. قال سبحانه: {ألا لله الدين الخالص} [الزمر: ٣]، ومن دون هذا الخلوص لا يتحقق معنى الإيمان.

أما العلماء فليس لهم -وهم البشر المعرّضون للخطأ- أن يشرّعوا شيئا من عندهم، ولا أن يصدروا حُكما من تلقاء أنفسهم، إنما دورهم أن يستخرجوا مما ورد عن الله ورسوله أحكاما، ويبينوها للناس امتثالا لقوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة: ١٢٢].

ولا أعرف أحدا يقول إن العلماء مشرّعون بذاتهم، لكن قد يخامر المرء سوء فهم عندما يسمع أن أمرا ما حلال عند عالم حرام عند آخر، فيظن أنهما حللا أو حرما من عندهما. وهذا غير صحيح؛ بل المقصود أن الأول فهم أن الله تعالى أحل هذا الأمر، بينما فيهم الآخر أن الله تعالى حرّمه.

فمثلا، يرى الحنفية أن الرجل إذا صافح امرأة لم ينتقض وضوؤه، بينما يرى الشافعية أن ذلك ينقضه؛ وهذا الخلاف راجع إلى اختلاف فهمهما لقوله تعالى في آية الوضوء: {أو لامستم النساء}[المائدة: ٦]، إذ يرى الحنفية أن اللمس الناقض للوضوء هو كناية عن الجماع، مستشهدين بأن العرب إذا قرنت اللمس بالمرأة كان المقصود “الوطء”، ومنه قوله تعالى: {قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر} [مريم: ٢٠]. بينما يرى الشافعية أن المقصود باللمس هنا ظاهر معناه لا الكناية، مفرّقين بين “لامس” و”مسّ” بأن الثانية هي التي تستخدم للكناية عن الوطء.

هذا طبعا فضلا عن النظر في باقي النصوص الواردة في المسألة، والاستدلال بمزيد من القرائن حتى يستقر كل رأي على حكم.

وبالرغم من اختلاف الأحكام فإن “مسلكها الاجتهادي” واحد، ومقصد عملية معالجة البيانات هذه -التي تتم بالاجتهاد- إنما هو التحري عن “حكم الله في المسألة”، وإن العالم إذا قال: هذا واجب أو هذا حرام، فإنما يقصد أن فهمه لما جاء عن الله أنه واجب أو أنه حرام؛ وإنما أوجبه أو منعه الله تعالى.

التشريع النبوي
أما النبي فهو مبلغ عن الله تعالى، ووظيفته هذه كانت واضحة في القرآن الكريم: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: ٦٧]، {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور: ٥٤، والعنكبوت: ١٨]، وعندما طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بغير هذا القرآن، كان الرد: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} [يونس: ١٥].

يقول الإمام الغزالي في كتاب المستصفى إن “أصل الأحكام واحد، وهو قول الله تعالى، إذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا فالحكم لله تعالى وحده. والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى”.

لكن الله تعالى أمرنا بطاعة رسوله: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [التغابن: ١٢]، وجعل الاستجابة لحكم رسوله بمنزلة الاستجابة لحكمه سبحانه، لا خيار للمسلم إلا الالتزام بها: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: ٣٦].

وبين العلماء نقاش طويل بشأن “اجتهاد النبي”، هل له صلى الله عليه وسلم أن يجتهد أم أن كل ما يصدر عنه هو وحي يوحى؟ لكن ثمرة هذا النقاش لا تغير شيئا من حقيقة أننا مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لما سبق من نصوص من كلام الله تعالى، ولسبب منطقي تنبّه له الصحابي خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، إذ اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا من أعرابي، وطلب منه أن يلحقه ليدفع له ثمنه، ومشى رسول الله وأبطأ الأعرابي، فكان الناس في السوق يعترضون الأعرابي ليساوموه على الفرس وهم لا يعلمون أن رسول الله اشتراه. فنادى الأعرابي رسول الله فقال له: إن كنتَ مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته؟ فقام النبي حين سمع نداء الأعرابي فقال: “أوليس قد ابتعته (اشتريته) منك؟”، فقال الأعرابي: لا، فقال رسول الله: “بلى”، فقال الأعرابي: هلمّ شهيدا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته (أي بعته له). فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: “بم تشهد”، فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله شهادة خزيمة بشهادة رجلين [أبو داود: ٣٦٠٧].

وهذا السبب المنطقي الذي تنبه له خزيمة حاسم في المسألة، فمن آمن بأن محمدا رسول الله، وصدّق بالقرآن الذي جاء به، فكيف لا يصدقه بأن الله فرض كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا، وما دام يصدق النبي في خبر السماء ومشاهد الغيب والجنة والنار، فكيف لا يصدقه في تشريعات الدنيا التي تدخله الجنة وتقيه النار؟

والخلاصة في اجتهاد النبي أن ما يبلغنا من الأحكام عنه مما لا نص من القرآن فيه، لا يعدو أن يكون:
بلاغا عن الله تعالى، أو حكما من عند الرسول لكنه موافق لحكم الله؛ وهذان يكون الالتزام بهما التزاما بحكم الله تعالى. أو حكما من عند رسول الله لكنه غير موافق لحكم الله تعالى، وعندئذ لا يمكن أن يقرّ الله هذا الحكم، بل لا بد أن يأمر رسوله بالحكم الصحيح وتبليغ الناس به، والله يقول: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} [آل عمران: ١٧٩].

وهذا لا يعني جعل القرآن والسنة في مرتبة واحدة، بل نصّ الأصوليون (علماء أصول الفقه) في قاعدة معروفة على أن: “رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار” [الموافقات، الشاطبي: ٤/٧]، “فما كان من أصول الدين الاعتقادية أو العملية، إنما يكون أصل تشريعه في القرآن، ولا يترك منه للسنة إلا ما كان من قبيل البيان والتفصيل” [البيان الدعوي، فريد الأنصاري: ٤٠].

“أما ما تفردت السنة بتشريعه تأسيسا، من الواجبات والمحرمات، فإنه لا يكون من الأصول والكليات، وإنما هو من الفروع والجزئيات، بالنسبة إلى ما ورد في القرآن من تشريع” [السابق، ٤١].

وكما قال الإمام الشافعي: “فكل من قَبِل عن الله فرائضه في كتابه: قَبِل عن رسول الله سننه، بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه. ومن قبِل عن رسول الله فعن الله قبِل، لما افترض الله من طاعته” [الرسالة، الشافعي: ٣٣].

إذن فمَنشأ الحكم ومصدره حصرا هو “خطاب الله تعالى”، ويسميه الأصوليون أيضا: خطاب الشارع، أي “المشرّع”. فإذا سألنا مثلا: ما حكم الزكاة؟ فإن معنى سؤالنا هذا: بمَ خاطبنا الله تعالى في الزكاة؟ وإذا أجبنا: الزكاة واجبة، فكأننا نقول: إن الله تعالى أوجب الزكاة علينا.

هل خاطبنا الله بكل شيء؟
قد يتبادر إلى الذهن تساؤل مهم: هل خاطبنا الله تعالى في كل تفصيل من تفاصيل حياتنا وشأن من شؤوننا؟ وماذا بشأن ما يستجد من شؤوننا، هل يخاطبنا به قبل أن نعرفه أصلا؟!

مما يقع الوهم فيه أن نظن أن خطاب الله تعالى قائم على الأمر والنهي فقط، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها” [جامع العلوم والحكم، ابن رجب: ٢/١٥٠]، ويقول أيضا: “الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرّم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه” [ابن ماجه: ٢٧٣١].

إذن، فالمسكوت عنه هو خطاب من الله أيضا، فليس سكوته عز وجل عن أمر ما نسيانا له أو غفلة عنه -حاشاه- إنما هو رحمة بنا، وخطاب تشريعي لنا، أي أن عدم ورود نص في المسألة هو في ذاته “نص” فيها من وجه آخر.

ومما بنى العلماء على هذا الأصل، قاعدة أن “الأصل في الأشياء الإباحة”، أي أن كل ما لم يرد دليل على تحريمه فهو مباح. وهذا ينسجم مع كثير من آيات القرآن ومنها: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو…} الآية [الأنعام: ١٤٥]، فبنى على أن الأصل الإباحة، ثم عدد المحرّمات من الأطعمة؛ وقال سبحانه: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة: ٢٩]، وقال: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: ٣٢].

ومن ثم فخطاب الله تعالى إما أن يكون: طلبا لأمر ما، أو نهيا عنه، أو سكوتا عنه (وهو الأكثر الأعم). والطلب والنهي إما أن يكونا مُلزِمين أو دون إلزام، وبهذا يكون خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال عباده له واحدا من خمس صور:

1- ما طلب الله فعله طلبا ملزما، وهو: الواجب أو الفرض، مثل الصلاة، وبر الوالدين.

2- ما طلب الله فعله دون إلزام، وهو: المندوب أو السنة، مثل صلاة الضحى، والصدقة.

3- ما سكت الله عنه، أو صرّح بإباحته، وهو: المباح، وهو يعم سائر أعمال الإنسان.

4- ما نهى الله عنه دون إلزام، وهو: المكروه، مثل الأكل باليسرى والتنفل بعد الفجر.

5- ما نهى الله عنه نهيا ملزما، وهو: الحرام، مثل أكل الميتة، والكذب، والنميمة.

وبحسب الإلزام في الطلب أو النهي يكون الجزاء والثواب وتترتب المحاسبة والعقاب.

منطق استنباط الأحكام (دورة استنباط الأحكام)
كيف نتبين خطاب الله تعالى؟ أي: كيف نعرف أن خطاب الله تعالى في مسألة ما، هو كذا؟

إن بيان الله لما تعبّد به خلقه له وجوه متفاوتة في التأكيد والوضوح وفي دلالتها على الحكم المستفاد منها، ففي حكم الزكاة السابق مثلا، نتبين أن الله تعالى أوجبها علينا من قوله في سور عدة قائلا {وآتوا الزكاة}، فكان هذا دليلا واضحا على خطاب الله تعالى لنا في الزكاة، لذلك لم يقع خلاف في وجوبها، مع أن شروطها وضوابطها قد وقع فيها بعض الخلاف لأن أدلتها تحتمل تنوع الأفهام.

لكن الأمر لم يكن بهذا الوضوح في قوله سبحانه: {أو لامستم النساء} (المشار إليه سابقا)، لذلك تنوعت فيه الأفهام.

ويذكر الإمام الشافعي في كتابه الرسالة -أول كتاب وُضع في أصول الفقه- الصور التي يرد بها بيان الله تعالى للأحكام، فيقول:

“فمنها: (١) ما أبانه لخلقه نصا. (أي في القرآن الكريم)، مثل جمل فرائضه، في أن عليهم صلاةً وزكاةً وحجًا وصوما (هكذا بالمجمل دون تفصيل)، وأنه حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونصّ الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير (أي النصوص الواردة في هذه الأمثلة)، وبيّن لهم كيف الوضوء، مع غير ذلك مما بيّن نصا.

ومنها: (٢) ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه. مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.

ومنها: (٣) ما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه َنصُّ حُكمٍ، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله، والانتهاء إلى حكمه. فمن قَبِل عن رسول الله فبفرضِ الله قَبِل.

ومنها: (٤) ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم” [الرسالة، ٢١-٢٢].

ومع استقرار علم أصول الفقه، فصّل العلماء ما أجمله الشافعي تحت اسم “الاجتهاد”، ووضعوا فيه أبوابا عديدة، وفصّلوا في تعداد “الأدلة” التي يُتوصل بها إلى معرفة خطاب الله سبحانه وتعالى.

ومما يجدر التنبّه إليه، أن الحكم كلما كان من الأصول الراسخة في الإسلام كان خطاب الشارع فيه أكثر وضوحا وتأكيدا، وكلما اتجهنا نحو الفروع والتفاصيل قلّ الوضوح والتأكيد، ولا يُستغرَب عندئذ اختلاف العلماء وتعدد أقوالهم.

وهذا من رحمة الله سبحانه بنا وتوسيعه علينا، وهو من مزايا الإسلام التي تجعله مرنا مطواعا يتلاءم مع كل زمان وأي مكان؛ والانتباه إلى هذا الأصل في “منطق التشريع” جدير أن يجعلنا أكثر تقديرا لتنوع الآراء واختلاف الأقوال، وتقبلا للخلاف في الفروع والثبات على الأصول.

تنقسم مصادر التشريع الإسلامي إلى قسمين:
1- المصادر الأصلية التي اتفق العلماء على حجيتها، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس.
2- المصادر التبعية التي اختلف العلماء حول حجيتها، وهي: الاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف، وسد الذرائع، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستصحاب.

الوصول إلى الفهم الصحيح
وحتى يستبين الفهم الصحيح، فإن العلماء يحشدون لكل مسألة “الأدلة” التي تتناولها، ثم يعالجونها ويقارنون بينها ويحاكمونها، ويبذلون جهدا كبيرا حتى يتوصلوا إلى ما يرجح لديهم أنه حكم لله تعالى فيها.

وهذه العملية المعقّدة تتضمن النظر في الألفاظ ودلالة كل لفظ (كما رأيناهم يفرقون بين “لامس” و”مسّ” في مثال سابق)، والنظر في السياق وما يحتمله كل من معان، وهذا النظر ليس لغويا فحسب، بل يشمل دراسة السبب الذي لأجله ورد النص، أو الموقف الذي قيل فيه، والظروف التي حفّته، وأيها هو شرط له أو مانع منه.

كما يتضمن ذلك أيضا النظر في جميع النصوص الأخرى التي وردت في المسألة أو في بعض فروعها، بحيث “تُفهَم” جميعها فهما منسجما متناغما، غير متعارض أو انتقائي أو أن بعضه ينقض بعضا!

وهذا كله وفق قواعد من اللغة والمنطق، ومحاكمات إلى الأصول والضوابط، ومراعاة لتعدد الروايات واختلافها في التفاصيل والألفاظ وقوة الثبوت، مع التزام بتحقيق المقصد الذي من أجله سنّ الله تعالى الشرائع، والغاية التي لتحقيقها شرّعت الأحكام.

فإذا بذل العالِم جهده بالنظر فيما ورد من نصوص القرآن والسنة في مسألة ما، انتهى إلى ما يرجح لديه أنه حكم الله تعالى فيها. لكن وظيفته لا تنتهي هنا، فمن واقعية التشريع الإسلامي أن أحكامه لا تصدر مجرّدة عن ظروف تطبيقها وواقع المكلف بها، بل إن حال المسلم (المكلّف) وما يحتفّ به من ظروف تؤثر تأثيرا مباشرا في الحكم، فتقيده أو تلغيه أو حتى تعكسه؛ لذلك فإن وظيفة العالِم لا تنتهي باستخلاصه الحكم من نصوص الشريعة، بل تمتد إلى النظر في ظروف التطبيق وحال المكلّف.

فمثلا، جعل الله تعالى الإكراه استثناء من الكفر نفسه، فقال: {إلا من أكره وقبله مطمئن بالإيمان} [النحل: ١٠٦]، وجعل السفر والحرب رخصة لقصر الصلاة: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء: ١٠١]، وجعل الاستطاعة شرطا لفرض الحج: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: ٩٧].

ومن هذه الظروف ما يكون اجتهاديا ومحل خلاف بين الفقهاء، مثل اختلافهم في كون السفر -أو المطر- مبيحا للجمع بين الصلوات، وحدّ المرض المبيح لفطر رمضان، وفي حكم زكاة المال إذا كان دَينا في يد غير صاحبه؛ وغير ذلك.

ومن هنا وجدنا بعض العلماء يشيرون في بعض المسائل إلى أنها تجري عليها الأحكام الخمسة (الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم)، كالزواج على سبيل المثال، إذ يربطون حكمه بحال المقدم عليه ومدى حاجته إليه وقدرته عليه وعلى آثاره من منفعة أو ضرر.

ولكني أظن أن هذا توسعا منهم، وإلا فإن كل الأحكام تتأثر بالظروف المحتفّة بها، فصوم رمضان مثلا “واجب” في أصله لكنه “حرام” على من علم أن الصوم سيؤدي إلى هلاكه، وأكل الميتة “حرام” في أصله لكنه “واجب” على من علم أن امتناعه عن أكلها سيهلكه.

ولذلك فإن من القواعد المستقرة بين العلماء أنه “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال”، وقد عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه “إعلام الموقعين” فصلا في “تغيير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد”، ووصفه بأنه “فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يُعلَم أن الشريعة الباهرة -التي في أعلى رتب المصالح- لا تأتي به” [إعلام الموقعين، ٣/١١].

يتبين لنا مما سبق أن “دورة” استنباط الحكم الشرعي تبدأ من خطاب الشارع سبحانه وتعالى، وتمر بعمليات تحليل ومقارنة واستقراء لفهمه واستنباط دلالاته، وتنهي بالحكم المستفاد منه وظروف تطبيقه.

لماذا يختلف الفقهاء؟
على الرغم من أن استنباط الحكم يتخذ الدورة نفسها عند جميع الفقهاء، فإنه لا يُنكَر اختلافهم في الأحكام المستنبطة، حتى بات الخلاف بين الفقهاء سمة واضحة في فروع الفقه الإسلامي، مع التنبيه على أن هذه الخلافات لا تكون إلا في الفروع، أما الأصول الراسخة فهي محل اتفاق، وذلك نظرا لأن تشريعها جاء بنص واضح عالي التأكيد، كما سبق بيانه.

ويرجع اختلاف الفقهاء إلى أسباب متعددة، يمكن تصنيف أهمها في مجالات ثلاثة، وهي:

1- الاختلاف في أن النص عامل في المسألة: ولذلك وجوه عدّة، منها: ألا يبلغ النص المفتي؛ وهذا يغلب في نصوص السنة النبوية وكان أكثر شيوعا في عصر التابعين قبل انتشار الكتب الجامعة للسنة النبوية واتساع بحث المسائل الفقهية التفصيلية. ومثال ذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سئل عن ميراث الجدة، فقال: ما لكِ في كتاب الله من شيء، وما علمتُ لكِ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن حتى أسأل الناس؛ فسألهم، فشهد المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس [رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ص١١].

وعلى العالِم أن يبذل جهده في تتبع النصوص الواردة في المسألة كما فعل أبو بكر، ولكنه مع ذلك قد لا يطلع عليها جميعها، لذلك قال أكثر العلماء الأوائل -خصوصا أئمة المذاهب- “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.

ومن وجوه هذا الباب: اختلافهم في كون النص عاملا أو منسوخا، أو ما يبدو تعارضا بين بعض النصوص. ومثاله خلافهم في حكم الوضوء بعد أكل المشويات (ما مست النار)، إذ رأى بعض الفقهاء وجوب الوضوء بعده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “توضؤوا مما مست النار” [صحيح مسلم: ٣٥٣]، بينما رأى جمهور العلماء أن هذا النص منسوخ بما روي في نصوص كثيرة من أن الرسول أكل لحما ثم صلى ولم يتوضأ ولم يمسّ الماء [مسلم: ٣٥٤، البخاري: ٢١٠].

ويلحق بهذا الباب ما يتعلق بالحكم على الحديث صحة أو ضعفا، أو التعارض الذي يكون من بعض الأدلة وترجيح أحدها على غيرهم، ومثله أيضا الاختلاف في ثبوت الإجماع أو ثبوت قول الصحابي عند من يعده دليلا، وغير ذلك.

2- الاختلاف في فهم النص: وهو من أوسع أسباب اختلاف الفقهاء، ويتضمن وجوها كثيرة، منها: اختلافهم في الدلالة اللغوية للفظ والمقصود منه، أو في عموم النص وخصوصه، أو إطلاقه وتقييده، أو حقيقته ومجازه، أو دلالة النص وما يقتضيه من موافقة أو مخالفة، وما يكتنفه من أسباب أو شروط أو موانع؛ أي: في تفسير النص والوقوف على دلالاته الدقيقة.

فمثلا: اختلفوا في دلالة حرف “الباء” في آية الوضوء التي يقول فيها تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: ٦]، هل تفيد: التبعيض (امسحوا بعض رؤوسكم)، أم الإلصاق (ألصقوا المسح برؤوسكم)، أم الاستعانة (امسحوا بالماء رؤوسكم)، أم أنها حرف زائد المعنى ليست له دلالة إضافية (امسحوا رؤوسكم)؟

واستدل كل فريق على معنى الباء الذي ذهب إليه، واستعرض شواهد أخرى من السنة تشهد له؛ ولذلك كان في هذه المسألة عدة أقوال، إذ يرى الشافعية بأن مسح أقل جزء من الرأس يجزئ في الوضوء، بينما اشترط الحنفية مسح ربع الرأس، وقال المالكية بوجوب مسح الرأس كاملا.

ومن الأمثلة على ذلك أيضا الخلاف المشهور في معنى كلمة “قروء”، في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء} [البقرة: ٢٢٨]، إذ إن “القُرء” في اللغة العربية لفظ مشترك يطلق على معنيين: الحيض والطهر، وبناء على ذلك اختلف العلماء في عدة المطلقة هل هي ثلاث حيضات أم ثلاثة أطهار؟ واختلفت المدة بين المذاهب بسبب ذلك.

3- الاختلاف في قواعد الاستنباط: أول ما يقصده العلماء للبحث عن الحكم الشرعي هو الكتاب والسنة، فإن لم يجدوا فيهما نصا في المسألة انتقلوا إلى ما يليهما من الأدلة. لكن هذه الأدلة ليست كلها محل اتفاق بينهم أصلا، بل ربما عمل بعضهم بدليل لم يرض به غيره، فضلا عن اختلافهم في ترتيب هذه الأدلة وتقديم بعضها على بعض.

فالظاهرية مثلا لا يأخذون بالقياس الذي يعمل به الجمهور، والشافعية لا يأخذون بالاستحسان الذي يعمل به الحنفية، بل يقدّمون قول الصحابي، ولكل فريق أدلته.

كما يدخل في هذا الباب أيضا اختلافهم في العمل بالحديث الضعيف أو الحسن، وتقديم فعل الراوي على قوله أو العكس، والعمل بالحديث المرسل (الذي يرويه تابعي عن رسول الله)، وإذا خالف خبر الواحد حديثا مشهورا أو خالف القياس أو أصلا عاما… فضلا عن قواعد فرعية في اللغة والمنطق، مثل حكم العام إذا خصص، ودلالة الأمر على الوجوب، ودلالة الأمر إذا كان بعد نهي… وغير ذلك من القواعد والأدوات التي يستخدمها الفقيه في عملية استنباط الحكم.

مثال ذلك اختلافهم في إفطار الصائم بالأكل والشرب ناسيا، إذ يرى جمهور العلماء أنه لا يفطر، آخذين بقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه” [الدارقطني: ٢/ ٣٨٨]، بينما يرى الإمام مالك وابن أبي ليلى أنه يبطل صومه ويلزمه القضاء، مستدلين بأن هذا الحديث خالف الأصل العام وهو: “فوات الشيء بفوات ركنه”، وركن الصوم الإمساك، فإذا فات الإمساك لم يكن صوما، مثلما تفوت الصلاة بفوات ركن من أركانها كالركوع أو السجود، ولو نسيانا [أسباب اختلاف الفقهاء، ص٧٦].

كما أن هناك أسبابا أخرى لاختلاف الفقهاء، كلها ترجع إلى طريقة تعاملهم مع النصوص والظروف واجتهادهم في الوصول إلى حكم الله تعالى فيما يعرض للمسلم من مسائل.

منها مثلا اختلاف الأحكام بتغير الزمان وتقلب حياة الناس وعاداتهم فيه، ولذلك ليس غريبا أن نرى متأخري الحنفية يبيحون أخذ أجرة على تعليم القرآن الكريم أو الأذان بعد أن كان هذا ممنوعا عندهم، وذهاب أكثر الفقهاء إلى جواز الاستصناع (طلب صناعة شيء ما) وهو بيع لمعدوم، وبيع المعدوم ممنوع، وغير ذلك من الأحكام التي تغيرت لتغير العصر والأوان، وليس لتغير الحجة والبرهان!

“والواقع أن مثل هذا لا يعد تغييرا ولا تبديلا… إذ الواقع أن الفقيه أو المجتهد إذا ما عرضت عليه مسألة من المسائل، راعى ظروفها وملابساتها والوسط الذي حدثت فيه، ثم استنبط لها الحكم المتفق مع كل هذا” [أسباب اختلاف الفقهاء، ص٢٤٦].

أبواب علم أصول الفقه
وضع العلماء قواعد لخدمة مراحل استنباط الحكم، وبنوا عليها أبواب علم أصول الفقه المختلفة، وربما صنفوا فيها مؤلفات خاصة. لذلك عادة ما نجد أن خريطة الكتب المعاصرة في أصول الفقه تتضمن الأبواب الآتية، (وقد يختلف اسمها أو ترتيبها):

  • أدلة الأحكام: ويتناولون فيه الأدلة على خطاب الشارع، وقواعد المعتبر منها وغير المعتبر، ودرجة دلالتها وتفاضل بعضها على بعض، وغيرها.
  • دلالات الألفاظ وطرق الاستنباط: ويتناولون فيه القواعد اللغوية والمنطقية، وكيفية تفسير النصوص والعلاقة بين اللفظ والمعنى، والتعارض والترجيح بينها، وغيرها.
  • الحكم ومباحثه: ويتناولون فيه أقسام الحكم، وما يترتب عليه، والأسباب المنشئة له والشروط والموانع المتعلقة به، والمكلّف (المحكوم عليه) ومواصفاته، وغيرها.
  • الاجتهاد: وربما أفردوا للاجتهاد وما يتعلق به بابا مستقلا، يتناولون فيه قواعده وشروط المجتهد، والفتوى وما يتعلق بها، ومباحث التقليد، وغير ذلك.

ننصح بالعودة إلى فهارس كل من: “علم أصول الفقه” لعبد الوهاب خلاف؛ “الوجيز في أصول الفقه” لعبد الكريم زيدان؛ “أصول الأحكام وطرق الاستنباط في التشريع الإسلامي” لحمد عبيد الكبيسي؛ “الوجيز في أصول الفقه الإسلامي” لمحمد الزحيلي؛ وغيرها.

هذه هي خريطة التأليف المعتادة في أصول الفقه، مع اختلاف غير مستغرب بين المؤلفين، أو توسع بعضهم في أبواب أو إفرادها بالتأليف.

وتعد هذه الأبواب هي العوامل الرئيسة في التشريع الإسلامي، ولا يمكن أن يخرج أي فقيه أو عالم عنها، وبسبب الاختلافات في تفاصيلها يختلف العلماء وتختلف بالتالي الأحكام التي يفهمونها من خطاب الله تعالى.

لكن يبقى ما تقرر سابقا سمة من سمات التشريع الإسلامي، وهو أن الأمر كلما زادت أهميته ومكانته الشرعية، جاء الخطاب الإلهي به واضحا ومؤكدا، وبالتالي قلّ الخلاف بشأن أو لم يكن فيه خلاف أصلا.

لذلك، فإن الاختلافات الكثيرة التي باتت “سمة” للجو الفقهي الإسلامي، ليست سوى خلافات في الفروع، وبالتالي فإنه يجب ألا تُضخّم وتشن لأجلها المعارك وترفع فيها رايات الخصومة. وإنما الأجدر بنا أن نتمسك بالأصول التي هي محل اتفاق، ويكون منها البناء الواعي المتفهم لاختلافات البشر، أنظارهم واحتياجاتهم.

الإمامة والسياسة
نقصد بالأحكام السياسية كل التشريعات المتعلقة بتدبير الشؤون العامة للدولة. على المستوى الدستوري والإداري والتنفيذي، والتي يسميها الفقهاء “الأحكام السلطانية” أو “السياسة الشرعية”، وأساسها إقامة مؤسسة الإمامة الكبرى، وكل ما يدخل في مفهوم السلطة من أجهزة إدارية وتنفيذية.

الإمامة: رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا. مهمتها حفظ الحوزة ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخيف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفائها على المستحقين. [غياث الأمم للجويني، ص15]

وفي كتب الفقهاء القدماء، كان مصطلح “السياسة الشرعية” يشمل أحيانا بالإضافة إلى فن حكم الدولة فن القضاء وتحري الجناة، أي كل ما يتعلق بعلم السياسة والقانون السياسي، مع جمعه لشؤون الدين والدنيا معاً، حيث كان الماوردي يعرف الإمامة بأنها “موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا” [الأحكام السلطانية، ص29]، بينما يقتصر التعريف الحديث للسياسة، والمتأثر بالوضعية الغربية العلمانية، على ما هو دنيوي فقط.

وذكرنا سابقا أن علماء أصول الفقه اتفقوا على أن المرتبة الأولى من التشريع هي لما كان منصوصا عليه في القرآن من أصول الدين الاعتقادية أو العملية، ثم تأتي نصوص السنة في المرتبة الثانية، وأخيرا ما سكت عنه الشارع وأحيل على الاجتهاد فهو في المرتبة الثالثة، وسكوت الشارع مع وجود المقتضي للتشريع لا يكون نسيانا ولا غفلة، بل هو مقصود كي لا يكون من أصول الدين بل من فروعه.

وبالنظر إلى المرتبة التشريعية للأحكام السياسية في الإسلام، نجد أنها في الغالب من المرتبة الثالثة، فأغلب القوانين التشريعية التي تبنى عليها الدولة موجودة مجملة ومفصلة في القرآن والسنة والاجتهاد، أما القوانين التشريعية التي تنظم فنون الحكم والإدارة، أي القوانين الدستورية والإدارية، فليس لها من النصوص إلا القليل، وتركها الشارع لاجتهاد الفقهاء.

فالشارع نص على أصول ما يسمى بالقانون العام، أي القانون الجنائي والقانون المالي والقانون الدولي العام وما يتعلق به من أحكام السلم والحرب والحياد، وكذا فروع القانون الخاص، الذي يشمل القانون المدني، والتجاري، وقانون العمل وغيرها، كما نص على الكثير من تفاصيل هذه القوانين، لكنه ترك معظم التفاصيل للاجتهادات التي ملأت كتب الفقهاء في أبواب العادات، والمعاملات، والقضاء، والجنايات والعقوبات، وأحكام الجهاد والحرب والسلم والصلح والهدنة.

أما باب الإمامة الكبرى وأحكامها المتعلقة بمنصب الحاكم، مما يدخل اليوم تحت مسمى “القانون الدستوري” فلم يتعرض له القرآن والسنة إلا بالمجمل، كما أن الاجتهاد فيه لم يتوسع إلا بعد نهاية عصر الاجتهاد وبدء عصر التقليد [السياسة الشرعية للقرضاوي، ص20]، حيث ظهر كتاب “الأحكام السلطانية” للماوردي في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، ثم تلته مؤلفات مماثلة.

وقد اكتفى القرآن بالنص على أهمية الشورى في آيتين، وهما {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159]، {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:35]، مع أن المفسرين لم يتفقوا على أن الشورى هنا تخص الجانب السياسي بل تشمل الفقهي أيضا. أما السنة فأغلب ما ورد فيها من أحاديث عن الشأن السياسي هو من أحاديث الفتن التي تحدث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عما سيقع بعده من حوادث، وهي تشمل أحوال الخلافة والسلطة، ومن المعروف أنها في غالبها أخبار عما سيحدث في المستقبل ولا تتضمن إنشاءً تُبنى عليه الأحكام الشرعية.

على سبيل المثال، قال النبي صلى الله عليه وسلم “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت” [رواه أحمد والبزار والطبراني وصححه الألباني]. وهذا الحديث يتضمن إخبارًا فقط بما سيحدث، وليس من الفقه أن تستدل به الحركات الإسلامية المعاصرة على “وجوب” الخروج على الملك العاض أو الجبري، فحكم الخروج على الحكام يُناقش في سياق النصوص التشريعية وليس الإخبارية.

أما أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فلا يُستدل بها في التشريع السياسي إلا بعد الفرز والتفصيل، فالفقهاء يميزون بين تصرفات النبي بالإمامة، والتصرفات بالرسالة، والتصرفات بالفتيا، والتصرفات بالقضاء. فالأولى هي تصرفات مصلحية في زمان ومكان معينين فلا علاقة لها بالتشريع. ويقول الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام: (وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة؛ فهو وصف زائد على النبوة، والرسالة، والفتيا، والقضاء؛ لأن الإمام: هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك”.

ويُستدل من “سكوت الشرع” عن قضايا الإمامة تركها على مقتضى الإباحة، أو إحالتها على اجتهاد الفقهاء. لا سيما مع وجود ما يقتضي التفصيل فيها، فقضايا الحكم تعد من أهم القضايا المؤثرة في حياة الناس، فسكوت الشارع عنها ليس إغفالا لأمر فرعي بل إحالة على الاجتهاد البشري ضمن الضوابط العامة وروح الشريعة، فقيام الدولة الإسلامية ضروري لإقامة مؤسسات القضاء والجهاد والحسبة وحماية دين المجتمع، ولا توجد دولة في العالم إلا وتستند إلى أصل أيديولوجي، فالعلمانية بذاتها أصل يقوم مقام الدين ويقدم رؤية شاملة للحياة سواء كان اشتراكية أو شيوعية أو ليبرالية، وكذلك الإسلام يقدم نظاما عاما للحياة يشمل العبادات والمعاملات وبناء الدولة والمجتمع، لكن تحديد شكل الإمامة نفسها سكت عنه الشارع وتركه لاجتهاد الفقهاء بما يناسب كل زمان ومكان.


أهم المراجع
محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، دار المنهاج، جدة، 2014.

أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، دار الكتب العلمية، ييروت، 1993.

ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الكتب العلمية، ييروت، 1991.

الشاطبي، الموافقات، دار ابن عفان، 1997.

ابن رجب، جامع العلوم والحكم، دار السلام، 2004.

ابن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1983.

ابن تيمية، رسالة العبودية، المكتب الإسلامي، بيروت، 2005.

عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع، 1956.

مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، 1999.

مصطفى الزرقا، الفقه الإسلامي ومدارسه، 1999.

فريد الأنصاري، البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي، 2009.

علي الخفيف، أسباب اختلاف الفقهاء، 1978.

عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، 2014.

حمد عبيد الكبيسي، أصول الأحكام وطرق الاستنباط في التشريع الإسلامي، كلية الدراسات الإسلامية والعربية، دبي، 2004.

محمد الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، دار الخير، دمشق، 2006.

أسامة الحموي، مبادئ الشريعة الإسلامية، منشورات جامعة دمشق، 2009.

مناع القطان، تاريخ التشريع، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1993.

محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005.

علي الطنطاوي، تعريف عام بدين الإسلام، دار المنارة، جدة، 1989.