مقالات

سيرًا على الأقدام .. من الأندلس إلى بغداد!

بحثتُ في برنامج الخرائط في شبكة الإنترنت عن المسافة بين إسبانيا والعراق، كانت النتيجة أن المسافة تزيد عن 5140 كيلومتر، فتساءلتُ، كم ستكون مدة المسير فيما لو أراد الإنسان قطعها ماشيًا بلا انقطاع، فكان تقدير برنامج الخرائط هو قرابة ست وثلاثين يومًا، يمرّ المرء فيها على عدد من البلدان.

تساءلت في نفسي والموقع يعرض لي المرور عبر القارة الأوروبيّة -وقد تماثلت لذهني صورة العلماء الرحّالة في طلب الحديث- تُرى هل مر بَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ الأندلسيّ بنفس المسار الذي أظهره البرنامج أم اختار بلدان شمال إفريقيا حتى يصل إلى غايته؟

يا لها من غاية جليلة تلك التي دفعَته ليواجه مخاطر السفر كل هذه المسافة ويتحمل المشقة والتعب يَحُثُّ الخُطى مواصِلًا السير مُصِرّا على الوصول إلى العراق مهما لاقى في رحلته ما لاقى!

ما قصة ذلك الأندلُسي العصامي، وما الكنز الذي سافر إلى العراق بهدف الوصول إليه، ومن أين أتى بذلك العزم، وتلك الشجاعة، وذلك الصبر؟  ولماذا لم يُؤْثِر الراحة بركوب راحِلة تُبلغه مرامَه كالحصان أو الجمل؟ كان ذلك سيفي بالغرض بكل تأكيد لقطع هذه المسافات الشاسعة؟

الرحلة إلى لقاء العلماء

عشرات الأسئلة الأخرى جاءت لذهني، إلا أن أكثرها إلحاحًا كان لماذا المشي بالذات، بمَ كان يحدث نفسه كلما قطع خطوة؟ وكيف كانت السعادة تغمره كلما اقترب من مراده الذي تهون المتاعب في سبيله؟

تلك التضحيات النبيلة والصبر العظيم كان في سبيل لقاء العلماء، فتمشي لأجل ذلك الأقدام آلاف الخطوات ولا تبالي، للقاء الإمام أحمد بن حنبل سافر بَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ الأندلسيّ من الأندلس إلى العراق ماشيًا على قدميه لهدف واحد، ألا وهو “طلب العلم”.

فرق شاسع بين حالٍ مضى كان يرحَل فيه آلاف الأميال للسماع على عالم جليل، وبين واقع اليوم في عام ألفين وواحد وعشرين، حيث يتوفّر مسند الإمام أحمد بنقرة واحدة على لوحة المفاتيح وفي أقل من ومضة!

يحدّثنا بقيٌّ عن نفسه ومعاناته في أسفاره، فليس له عيش إلا “ورق الكرنب الذي يرمى”، إلا أنه بالرغم من ذلك كله يقول: “سمعتُ مِن كُل مَن سمعت منه في البلدان ماشيًا إليهم على قدمي”، وقد صدَق -رحمه الله- فقد قيل عنه: إنه “لَمْ يُرَ راكِبا دابةً قَط”. (1)

لقد قطع بَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ تلك المسافات كلها ليسمع من إمام السُّنَّة حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وحُقّ له ذاك! فما أدراك من هو أحمد، وهل أتاك حديث المحنة والفتنة التي وقف فيها شامخًا صابرًا راسخًا؟

هل أتاك صوت السوط حين يهوي على ذلك العالِم الجليل جَلدًا وظلمًا وتعذيبًا إلا أنه آثر تذوّق العذاب على أن يريح نفسه من ألمه وإن كان المقابل كلمة عابرة تعبّر عن غير ما يقتنع به.

الهمم الجليلة

لعلكم سمعتم أو قرأتم عن كثيرٍ من الأئمة الأجلاء من سلف الأمة، كسفيان الثوري، ويحيى بن معين، وشعبة بن الحجاج، ووكيع بن الجراح.

لا شك أنك –أيها القارئ- سمعت شيئًا عن الإمام البخاري وصحيحه، لكن أَوَقفتَ يومًا على تفاصيل حياته ومحنته وصبره وتعبّده وزهده؟

يعرفُ طلبة العلم كتاب “سِيَر أعلام النبلاء” الذي يترجِم ويشرح ويسردُ الكثير عن شخصيات من العلماء والمحدثين والرواة في تاريخ المسلمين، لقد كان الهدف الأسمى لهذا العلم –أي التراجم- أن نميّز بين “النبلاء” الذين حفظ الله بهم هذه السُّنَّة المُشَرّفة، فتركوا الراحة وهاجروا من بلادهم ورحلوا في شتى أنحاء الأرض للوصول إلى الغاية الكبيرة في الاطمئنان عندما يقال: هذا “حديث صحيح”.

بالتأكيد فإنك قد رأيت هذه الكلمات مكتوبة ذات مرة تحت حديث ما، سواء في تويتر أو فيسبوك أو أي مكان آخر.. لقد كان ثمن هذه الكلمة الكثير الكثير، كالرحلة الجليلة لبَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ من الأندلس إلى بغداد..

صورة كتاب "سير أعلام النبلاء" وفيه سيرة بَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ الأندلسيّ

همّة منذ الصغر

قد لا يكون الحضور الشبابي في أروقة التراث أمرًا عجبًا، فمع بدايات سنّ العاشرة –تقريبًا- بزغت أنجم علماء كثيرة، كالإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومحمد بن إدريس الشافعي، والإمام سعد الدين التفتازاني وغيرهم الكثير من مفكري الإسلام وعلمائه، مما يفسّر عظمة العطاءات العلمية والمشروعات الفكرية التي قدمها الكثير من العلماء الأوائل؛ فقد كانت أعمارهم كلها تقريبا -إلا بضع سنين للنشأة الأولى- مبذولة للمحبرة والدواة.

جاء في “ترتيب المدارك” للقاضي عياض أن الإمام مالك جلس لتعليم الناس والفتيا وهو ابن سبع عشرة سنة، وعُرفت له الإمامة منذ ذاك (2).

لا يضرّهم من خذلهم

لقد بلغ من همم العلماء أنهم إذا أرادوا أن يحكموا على حديث ما بالصحة أو الضعف أن يتحروا ويبحثوا عن رواة هذا الحديث ويسافرون من بلد إلى بلد للسؤال عن حقيقتهم مهما كلفهم ذلك من مشقة وعناء! ثم يأتيكَ اليوم من يطعن في صحيح البخاري!

أنت يا من يرمي هذا الجبل بسيّئ الكلمات، سل عنه دواوين الخلود، فإن “كل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيًا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدّتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، هم حفظة الدين وخَزَنته، وأوعية العلم وحملته، [..] لا يَضرُّهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، والمحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وإن الله على نصرهم لقدير” (3) ثم بعد كل هذا أتُراهُ أمرًا سهلًا أن أكتب عن علماء الحديث!

إن اللغة لترتبك في مخابئها حين أتحدث عن هذه الهمم، تحذرني من إخراجها بأسلوب ضعيف، بل إن القلم ليتقدّم خطوة ثم يتراجع عشرًا خوفًا من التقصير في الوصف، وهيبة من استخدام اللغة بمستوى لا يليق بتلك النفوس العظيمة، واستحياء من التقصير في حمل الأمانة، إنه حياء التلميذة من إهمالها علوم شيوخها وآبائها.


الإحالات

  1. سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، ج13، ص: 291.
  2. ترتيب المدارك، القاضي عياض، ج1، ص58.
  3. شرف أصحاب الحديث، الخطيب البغددي، ص: 28.

حديث خالَف القرآن ظاهرُه، هيا لنردّه!

ليس من الغريب أن تنتشر في زمن السوشيال ميديا مقولات ردّ الأحاديث التي يخالف ظاهرها القرآن، وبالرغم من أن عرض المرويات الحديثيّة على كتاب الله الكريم للفحص والتمحيص له جذورٌ قديمةٌ نسبيًّا إلا أن أسباب جدّته وانبعاثه في هذا الزمن مرة أخرى لا يعود لأهل التخصّص، بل هو مما تعالت به أصوات الحداثيين وجمهرة المناهضين لمنهج المحدّثين، فصار ردّ الحديثِ المخالف لظاهر القرآن عمومًا منهجًا من مناهج الحكم على الحديث صحة وضعفًا متّبعًا لدى طيف واسعٍ من المفكرين المعاصرين، ووصل بانتشار تأثير السوشيال الميديا إلى أعداد كبيرة من الشباب الذين وقعوا في هذه القضية بلا وعي سديد أو استدلال قويم.

إنه زمن السرعة، هذا ما يوصف به عصرنا، طبعًا إلى جانب صفات أخرى كسرعة الوصول إلى المعلومة بضغطة زر، وإمكان تداول الآراء ونشرها، وكسب التعليقات وفتح النقاشات للجميع، ومن ثمّ فإنه يمكن لشخص في هذا العالم الافتراضي المفتوح أن يناقش حديثًا ما أمام جماهير افتراضيّة غفيرةٍ، فيقنعها بضرورة ردّه لأن ظاهره يوهم بمخالفة القرآن.

مخالفة الحديث للقرآن، مثال نظري وتطبيقي

فكرة نقد متن من الأصول النظرية والتطبيقية المهمة في علم الحديث، ومن المؤكد أنّ فقهاء الحنفية كان لهم نظرٌ خاصٌّ في ردّ الأحاديث التي خالفت القرآن والأصول الإسلامية الكبرى، وكانت تطبيقاتهم في هذا المجال مندرجة تحت مسمى “الانقطاع المعنوي”، كما أُلِّفت كتب عديدة لمحاولة فهم الأحاديث النبوية ونقدها ضمن الصور الكلية للدين مثل كتاب: “شرح معاني الآثار” للإمام الطحاوي، إلى جانب الكتب العديدة الأخرى التي أُلِّفت لإظهار التوافق بين الحديث وبين القرآن وعدم إمكان التعارض الجوهري بينهما..

هذا كلّه مما يدل على وجود إحساس عند علماء المسلمين بأن الحديث لا يمكن أن يخالف القرآن؛ وذلك لأن القرآن وحي من الله، إلى جانب الاعتقاد بأن الحديث صادر عن الرسول عليه الصلاة والسلام الخاضع لأمر الله ومراقبته في كل ما يتعلّق بتبليغ الوحي والرسالة، فإن حدث أن يكون ثمّة حديثٌ لا يمكن التوفيق بينه وبين القرآن، فقد نصّ العلماء على أن العقل يحكم برد الحديث المروي.

لكن مهلًا من يحكم، وكيف يحكم، وما المقصود بالمخالفة هنا؟ وهل ما نراه اليوم في البرامج الدينية، أو منشورات المجتمعات الافتراضية -كالفيسبوك وما شاكله- من ادعاءات بأن حديثًا ما مخالفٌ للقرآن وبالتالي يجب رده، هو الوسيلة لتطبيق القاعدة؟

ثمّة أثرٌ مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن القيم في كتابه “المنار المنيف” يصحّ أن يكون تمثيلاً لما نحن بصدده، يقول الأثر: (الدنيا سبعة آلاف سنة ونحن في الألف السابعة).

عقّب ابن القيّم على هذا الأثر المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم بالآتي: “وَهَذَا مِنْ أَبْيَنَ الْكِذْبِ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ عَالِمًا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ لِلْقِيَامَةِ مِنْ وَقْتِنَا هذا مئتان وأحد وخمسون سنة والله تعالى يقول: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 187] وقال الله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ)”.

من المهمّ لفت الانتباه إلى أن ابن القيّم أوردَ هذه الرواية في الأحاديث الموضوعة في كتابه المشهور “المنار المنيف” ضمن الروايات التي حكم بوضعها “صريح القرآن”، علمًا أن كتابه هذا وُضِع في الأساس ليحويَ تطبيقات نظريّة وعمليّة لما اصطلِح عليه لدى علماء الحديث بـ (نقد المتن)، وهنا نلاحظ أن ابن القيّم نقد الحديث المذكور بعرض آيات كثيرة وأحاديث أخرى تخالفه معنىً وواقعًا، ورأى أنه لا وجه البتّة للتوفيق بين هذا الحديث وبين المرويات الأخرى من القرآن والأحاديث الصحيحة والواقع.

منهجيّة الردّ عند علماء الحديث

يجدر بنا الوقوف قليلًا عند هذه المسألة، فردّ الحديث ورفض العمل به خاضع لمنهجيّة دقيقة من دراسة الأسانيد والروايات والمتن، والقول بأن الحديث مخالفٌ للقرآن أمر ليس محكومٌ بالهوى، وكذلك فإن الحكم على الحديث خاضع لمنهجية أصولية وعلمية وليست ضربًا من التخمين أو إبداء الرأي الذي لا يستند إلى منهجية..

ردّ الحديثِ ليس أمرًا سهلاً شأنه كشأن منشورٍ تشاركه أو خطبة عصماء يوردها مقدّم تلفزيوني أو يوتيوبر شهير وهو يتباكى على تسرّب هذا الحديث إلى كليات الحديث الكبرى ولم يُنتَبَه إليه متناسيًا أن العلماء قاموا بتأليف كتب كثيرةٍ لغربلة ما نسبِ إلى ميراث السنّة النبوية من الأحاديث الموضوعة والمعلولة، وبالتأكيد فإنه هذا لا يعني أن العمل في هذا الحقل قد انتهى، إلا أنه في نفس الوقت لا يعني إتاحة المجال لغير المتخصصين ممن أراد أن يصدر أحكامه لمجرد أنه لأمر ما لم يفهم الصلة بينه وبين القرآن.

استفاض الإمام الشاطبي في أثره المشهور الباقي “الموافقات” في الحديث عن ارتباط السنة بالقرآن، أي أنها عائدة إلى الكتاب الإلهي، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يسنّ سننه فإن هذه السنن لها أصل في الكتاب.

إنّ الإشكالية الأساسية هي في كشف هذه الرابطة التي قد تكون خفية في بعض الأحيان، وعدم إدراك شخص ما للعلاقة بينهما لا يعني انعدامها، وهذا ما تقرره القاعدة المشهورة (عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود).

خلطٌ كثير، وأخطاء منهجية

من يحاول أن يردّ حديثًا بناء على ادعاء أن الحديث يخالف القرآن قد يقع في الخلط بين نوعين من الأحاديث، أولهما: حديث مخالف للقرآن، أما النوع الثاني: فعدم ورود موضوع الحديث في القرآن مع وجود أصل له.

لنضرب على ذلك مثالا يتقنه الجميع، حيث لا يمكن لأحد رد أحاديث مواقيت الصلاة أو الأحاديث التي تتكلم عن تفصيلات الحج بدعوى أنها مخالفة للقرآن أو غير موجودة فيه، لأن الموضوع ببساطة أن الحديث فصل الأمر المُجمَل في القرآن.

ولزيادة في التفصيل، يجب التنبّه إلى أن من يحاول رد الحديث بناء على ادعاءات المخالفة يقعون في أخطاء عدة، يمكن إيضاحها في الآتي:

  1. الخطأ في فهم وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول ليس بساعي بريد يوصل رسالة ثم يذهب، بل إنه مكلَّف بمهمة التبيين وذلك من خلال قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فالرسول عليه الصلاة والسلام مكلّف بالبيان، والبيان هنا نقل الجانب النظري إلى الجانب التطبيقي، ويؤيد هذا قول السيدة عائشة لمَن سألها عن أخلاق الرسول، (كان خُلُقه القرآن) [أخرجه أحمد في المسند].
  2. الخطأ في الخلط بين الحديث والسنة، وهذا مما يقع فيه كثير من الناس، فالحديث هو الرواية لما قاله الرسول أو فَعَلَه أو قَرَّرَه، غير أن السنة ما رسمه النبي عليه الصلاة والسلام من الهدي والتصرّف ليحتذى ويقتدى به، فالسنة تشير إلى الأمر المطلوب فعله من قِبَل المؤمنين، وبتعبير آخر فإنّ في الحديث ما لا يكون سنّة، إلا أن كل ما في السنّة من الحديث، وهذا مما يعرف بالعموم والخصوص الوجهي لدى علماء الأصول، وعليه فإن الحديث أشمل من السنة لأن الحديث مصدر من مصادر السنة، كما أن هناك مصادر أخرى للسنة كعمل الصحابة.
  3. عدم إدراك طبيعة اللغة العربية، إضافة إلى عدم فهم خصوصية الأساليب اللغوية التي يستعملها النبي عليه الصلاة والسلام، فاللغة العربية بطبيعتها تعتمد على المجاز والأساليب البلاغية التي يجب ألّا تفهَم فهمًا ظاهريًّا محضًا، وهذا الأمر موجود في كثير من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، فكما أننا لا نفهم قوله عليه الصلاة والسلام: (رفقًا بالقوارير) [أخرجه البخاري] على ظاهره من دونِ الغوص في سياقه والمجاز الذي بُنيَ عليه، فكذلك يجب ألا نفهم: قوله (خُلِقَت المرأة مِن ضِلَعٍ) [متّفق عليه] على ظاهره؛ إذ إن أخذ كلا الحديثين ظاهريًّا دون فهم السياق والمرام سيوقعنا في إشكال واضح.

يضاف إلى ما تقدّم أن دعوى رد الحديث ليست دعوى قائمة على ملاحظة ظاهرية بمعنى أنها ليست قائمة على رد الحديث بمجرد أن العقل رأى اختلافًا ما، بل لا بد من فهم الحديث والآية ضمن كلية الموضوع الذي يوضحانه ويتكلمان عنه، ومن بعد ذلك يمكن فهم الحديث والآية في ضوء الصورة الكلية التي تنتج عن الدراسة، ومن ثم يكون إصدار الحكم، وعند ذلك يُقبَل الحكم على أنه حكم اجتهادي قد يصيب المرءُ فيه أو يخطئ.

نقدُ المتن أم نقدُ السند، ما المطلوب؟

ثمة خطأ شائع بين الذين يبادرون لرد الحديث لمخالفة ظاهره القرآن، وهو أن المحدثين لم يهتموا بنقد المتن كما اهتموا بنقد السند، ولذلك ينادون بأنه لا بد من عملية نقد جديدة لنقد المتن!.

إن قائل هذه العبارة –على الأغلب- لا يدرك ذهنية النقد أو الفكر النقدي الذي اتبعه المحدثون في دراسة الأحاديث والحكم عليها، ومع اعترافنا بأن الباب ما زال مفتوحًا لنقد الأسانيد والمتون ذاتها وفق الضوابط العلمية وأصول منهج علم الحديث، إلا أن نقد السند مُنبَنٍ في جزء منه على نقد المتن، فلكي يُعرَف أن شخصًا ما ثقة وضابطٌ -وفق تعريف المحدثين- لا بد أن تكون أحاديثه صحيحة، وهذا يقتضي أولًا غربلة ما رواه وفحصه، إلى جانب متابعة ما يصدُر عنه من مقولات وتصرفات على حدٍّ سواء.

من ناحية أخرى فإن النقد الحديثي ذاته بدأ مع عصر الصحابة، ومن الطبيعي أنه لم يكن في ذلك الوقت إسناد طويلٌ، وبذلك فقد انصبّت الجهود كلّها على نقد جوهر الكلام المرويّ، وقد قدمت السيدة عائشة رضي الله عنها أمثلة عديدة على نقد المرويات التي سمعتها، وقد جمع الإمام الزركشي كتابًا لطيفًا في هذا الموضوع سمّاه “الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة”.

ختامًا، إن مبدأ ردّ الحديث المخالف للقرآن ينتسبُ لمنهج أصيل وقاعدة مهمة في فهم الدين والسنة وفق الأصول العامة والصورة الكلية للدين، إلا أنه لا بد من تحقّق شروط معيّنة ومهمة حتى نحكم بهذه المخالفة، أهمها: تحقّق مفهوم المخالفة حقيقةً، ويظهر ذلك من خلال عدم إمكانية الجمع بين الحديث المذكور وبين الآية أو بين الصورة الكلية المستنبطة من الأدلة المختلفة، إضافة إلى وجود خلل حقيقيٍّ في السندِ الراوي لذلك الحديث، وهذا كله لا يتحقق إلا وفق جهد علمي رصين مع تدقيق وحذر شديدين، إضافة إلى التأكيد على خطورة رد الأحاديث تنفيذًا لأيدولوجيات معينة، والأجدر والحال هكذا أن يترَك هذا الأمر لأهله، فأهل مكة أدرى بشعابها..!

تركه ما لا يعنيه

لا يختلف اثنان في أن حياتنا في هذه الدنيا قصيرة، فمهما طال عمر أحدنا فإنه سينتهي، ومما يروى في هذا الجانب أنه قيل لنوح عليه السلام -الذي عاش في دعوته 950 سنة-: يا أطول أنبياء الله عمراً كيف وجدت الدنيا؟ فقال كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر!

إن هذا الكلام ليس بمستغرَب إذ يقضي معظمنا ثلث عمره نوماً، ونصف الثلث الآخر، ما بين مأكلٍ ومشرب! فيخرج بهذا وقد ضاع نصف عمره ما بين نومٍ وأكلٍ وشرب! طبعًا إذا ما استثنينا ما نقضيه من ساعات يومياً على الانترنت من فيسبوك وانستغرام ويوتيوب، والمعذرة، قد أخطأت التعبير إذ قلت ما نقضيه، إذ إن التعبير الصحيح هو: ما نحرقه من ساعات دون أن نشعر!

ضياع العمر
انتشر على بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي فيديو لعجوز أجنبي يختبره حفيده فيسأله عن توقعه لعمره الحالي فيجيبه ذلك العجوز 79 سنة أولاً ثم 89 ثانياً وما يزال يتوقع وحفيده يقول له أكبر من ذلك حتى يصل إلى عمره الحقيقي وهو 98 سنة! وإذ بالعجوز يكاد يُصعق غير مصدق لما يسمع، فينطلق شاتماً حفيده بأقبح الألفاظ..

إذا رجعنا إلى أنفسنا لأدركنا أن شبيه ذلك يحصل معنا، فكل منا يسأل نفسه هل مرت العشرون أو الثلاثون أو الأربعون سنة التي عاشها إلا كلمح البصر؟ إننا لا نكاد ندخل بعامٍ حتى نودعه، فعمرنا هذا يمضي مسرعاً ويكاد يأتي يوم معلناً فيه عن خروجنا من هذه الدار شئنا الخروج منها أم أبينا، أعددنا لهذا اليوم أم لم نستعد له!

ضرورة العمل الصالح
إن الإنسان في حياته القصيرة جداً إما أن يرفع أعمالاً صالحةً عسى أن ينجو بسببها يوم القيامة، أو يرتكب أفعالاً خبيثة ستكون وبالاً عليه يوم القيامة إن لم يتغمده الله برحمته، والإنسان الفالح هو الذي ينشغل بما يفيده وينفعه ويكون له حجةً في الدار الآخرة، فلا يحضر مجلس لهوٍ لا خير من ورائه، ولا ينصت إلى حديث فارغٍ يتفوه به أناسٌ ليس لحياتهم أي معنى، ولا يتبع النظرة الأخرى إلى ما لا يخرج منه بفائدة، إذ تبعد هذه الأفعال جميعها الإنسان عن الغاية التي خلقه الله من أجلها، ألا وهي العبادة الحقّة.

ومن الضروري التأكيد على أن العبادة لا تقتصر على صلاة العبد الفروض التي فرضها الله عليه في كل يوم، إلى جانب صوم رمضان، وأداء زكاة المال، وحج البيت الحرام، بل تتعدى العبادة ذلك كله إلى كل شيء، كأن يعمل الإنسان حتى يكون رزقه من عمل يده، ويحادث أباه وأمه ويبرّهما ويسليهما، وأن يتودد إلى أولاده ويربيهم ويلعبهم، وأن يصل رحمه، فالله يصل من وصلها ويقطع من قطعها!

ذلك كله هو من جوهر الحياة التي أرادها الله لنا، وهذه الأعمال وما كان على شاكلتها نرجو بفعلها -مقدمين رجاء الله عليها- أن تنجينا من أهوال يوم القيامة.

الانشغال بتوافه الأمور
جاء التوجيه النبوي من حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، منبهاً إيانا أن نكون ممن تشغلهم توافه الأمور عما يجب عليهم أن يقفوا عنده وينظروا فيه، فقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) [أخرجه الترمذي في السنن وهو حديث حسن].

إن الإنسان الذي يقف عند كل ما لا يعنيه، فلا يترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا ويبحث فيها وبما ورائها مستفسراً وفاحصاً إياها، ناهيك عن ضياع عمره، فإنه لا يبقي لنفسه صاحباً، فإنه إن لم يزل يسأل هذا عن ذهابه، وذلك عن ماله، وتلك عن حياتها، وهؤلاء عن سبب اجتماعهم، فلن يكون أثقل على قلوبهم في هذه الدنيا من رؤية ذلك الشخص الذي لا يترك فرصة لأن يسأل سؤالاً أو يلقي مداخلةً إلا ويتعمق فيها كيف كانت أو ستكون وعن ماهيتها وغير ذلك!

سيتعِب هذا الرجل نفسه عندما يقوم أحدهم بفعل، أو يقول كلمةً فلا تعجب هذا الرجل، فيحمل على عاتقه تفسير هذا الفعل أو تلك الكلمة والبحث فيما وراءها، فيركّب لنفسه نظارة المحقق، مصوّباً بصره من خلالها إلى ما قيل وما فعل، يريد أن يكشف عن أبعادها، ونوايا صاحبها ومقاصده وأهدافه، فيتعب بذلك قلبه وعقله، فيهجر حياة السعادة والطمأنينة لييمّم وجهه شطر الاضطراب والقلق والتحليلات التي لا أول لها ولا آخر، إذ إن كلام الناس وأفعالهم لا تنتهي إلا بانتهائهم أنفسهم، أفكلما نطق أحدهم بكلمة أو صدرت منه حركةً أخذ هذا الرجل على عاتقه تحليلها؟ فأي حياة سيحياها إن عاش كذلك؟

ثم إن أخطاءه لا تقف عند أن ينفر الناس منه ويتعب نفسه وقلبه، بل تتعدى ذلك، فالإنسان الذي يعيش حياته فضولياً لا يترك مجلساً إلا ويذهب إليه، ولا حديثاً إلا ويشارك به، ولا اجتماعاً إلا ويحضره، ثم لا يترك فكرةً قد خطرت على باله إلا ويجريها على لسانه، ولا سؤالاً قد تحرك في عقله إلا ويطرحه، فيخرج من ذلك كله بإهدار وقته وربما عمره على ما لا طائل ولا منفعة من ورائه، وكما قال الحسن البصري: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك”.

لقد أرشدنا ابن القيم إلى حقيقة إهدار الوقت قائلاً: “إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها” [الفوائد، ص31].

قال أحدهم: “لا تجعل أذنك مزبلةً للناس يرمون فيها ما معهم”، وفي قوله صوابٌ كبير؛ إذ إن الإنسان إما أن يسمع ما يفيده أو يسمع ما يضره، وإما أن يحضر مجلساً له به صلاح أو يحضر مجلساً يفسد به قلبه، وإما أن ينطق كلمةً ترفعه عند الله وعند الناس أو يتفوه بكلمة تكون وبالاً عليه وتضيق صدور الآخرين منه، وهنا نعيد ونقول: ماذا لو طبق قول الهادي صلى الله عليه وسلم “حسن إسلام المرء، تركه ما لا يعنيه”

هديُ الإسلام في التخلّص من الحسد

لو أراد أحدنا استقصاء جميع جرائم القتل والسرقة عبر التاريخ ثم نظر في أسبابها لأدرك أن المحرّك الرئيسيّ لمعظمها كان “الحسد”، ولو أننا راقبنا المعاصي الأولى التي ارتُكِبَت بعد خلق آدم لعرفنا أن محرّكها كان الحسَد من مقامِه لدى الله والتكبّر المتجذّرِ في النفس، فمعصية الشيطان بعدم السجود لآدم جاءت من هنا، وكذلك جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل تحرّكت بفعل الحسد، ثم إذا وضعنا التاريخ أمام أعيننا لنبحث في صفحاته عن رسالة الأنبياء إلى أقوامهم، وعن سبب كفرهم بها ونكرانهم لها رغم كل المعجزات الحسية والمعنوية التي رافقتها لعلمنا أن الحسد كان في مقدمتها، وآخر تلك الرسائل كانت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي نزلت على رجل قد عاش أربعين سنة في قومه، ولم يرَ أحدٌ منه سوى الصدق والأمانة والإخلاص، ثم لما جاءهم بدعوة النبوّة ورسالة الإسلام وكتاب الله البليغ متحديًا إياهُم بالإتيان بمثله، وهو الذي لم يعرِف طريق الدراسة والعلم بل لم يعرف طريق القراءة والكتابة وإنما العمل والتجارة، فما كان منهم إلا أن كذبوه.

لقد أعلنها طلحة النميري صراحة حين قال لمسيلمة الكذّاب: “أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر” أي أنه يفضّل أن يقوده كذاب منافق من قومه على أن يترأّسهم نبي صادق في الوحي إليه من غير قومهم.

لقد عرض القرآن الكريم اعتراضات الحاسدين وكلماتهم، وفنّدها بأنه لا وجه منطقي فيها وأن حججهم ومنبع اعتراضاتهم تدور على الحسد فلا هو فاسدٌ أو كاذب أو ساحر، وإنما يقولون: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 3] وهذا الموقف يشبه موقف اليهود عندما أعطى الله الملك لطالوت فخرجوا معترضين قائلين أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه!

علاج الحسد

أنواع الحسد ودرجاته
وإذا جئنا إلى الحسد الذي هو مراتبٌ أعلاها الإضرار باليد ثم العين فاللسان، فإن منبع الحسد الأساسي هو ألّا يكون لهذا الحاسد عملاً في هذه الحياة إلا النظر في ِنعَم غيره وإحصائها وتعظيمها وتجميلها ثم إدخالها إلى قلبه، والشعور بحبّه لها والخوف من فقدانها وحرمانه منها، إذ يجري مقارنات بين ما يملك غيره وما يملك هو متحسّراً على ما فاته مغتمّاً بما معه، والأسوأ من ذلك أنه لا ينظر إلى ما آتاه الله من فضله وما حرم به غيره، فذلك ليس من منهجه في الحياة.

إذن فالنظر في نعم الآخرين هو منطلَق الحسد، وقد تشعّب وتفرّع في وقتنا هذا مثله مثل جميع الطباع والأخلاق السيئة التي وجدت تربةً خصبةً لها فنبتت، ثم ماءً متدفّقاً فنمت، ثم سماداً كثيراً فقويت، وهنا فإني أقصد به وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات الفيديوهات التي لا يترك روادها نعمةً آتاهم الله إياها إلا أعلنوها، بل ويدّعون وجود نعمٍ لم يحصلوا عليها للتكبّر على غيرهم وإغاظتهم، وفي الإطار ذاته انتشرت بكثرة حسابات لأشخاص هدفهم الأساسي هو تصوير أنفسهم وهم يسافرون حول بلدان العالم ويأكلون ألذ الطعام ويزورون أجمل الأمكنة والعجيب أن متابعيهم يقدّرون بعشرات الملايين ولا تجدهم إلا متحسّرين على أنفسهم أن قد كتب الله لهؤلاء السعادة والسفر والتجوال ولم يكتبها لنا!

أين الخلل، وما العلاج؟
المشكلة الحقيقية أن المحصي لنعم غيره تجده معمياً عن مصائب أو نقائص غيره كما هو معمي عن النعم التي أسدلها الله عليه، جاهلاً أن الحياة لم تكمل لأحد وأنها ما زادت لأحد في جانب إلا نقصت له في جانبٍ آخر، وأنها طبعت على الأكدار والهموم فهي توزع منها بالتساوي على بني البشر، ولا يكون الاختلاف إلا بالأشكال التي تأتي بها، فذلك تأتيه على شكل فقر، وذاك على شكل مرض، وهذا على شكل جهل، وتلك على شكل عقم، إذ كما قال مصطفى محمود: “لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه ولَرَأَى عدل الموازين الباطنيّة برغم اختلال الموازين الظاهريّة ولما شعر بحسد ولا بحقد ولا بزهو ولا بغرور”.

مظاهر الفروقات الطبقية والمؤدية أحيانًا إلى الحسد

مرض اليوم الذي يبحث معظم الناس عن علاجه هو الشعور بالنقص والدونيّة وعدم الرضى عن النفس والذي يولَد بدوره اضطراباً وحزناً وغماً، ولا يتطلّب علاجه أكثر من أن يكون الإنسان راضياً بما آتاه الله من فضله شاكراً لهذه النعم مقدّراً لها عالماً بأنّ الكثير من خلق الله قد حرم منها، واضعاً كلام نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام نصب عينيه الذي كان بمثابة علاج لهذه الاضطرابات ألا وهو الحديث الشريف:

“انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم” [رواه مسلم]، كلمات قلائل أعلمنا بها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام تمثل علاجاً لواحد من أعظم أمراض هذا العصر الذي أدى إلى الانتحار في بعض الحالات وإلى نوبات من الاكتئاب في حالات أخرى.

وفي الوقت الذي وضع لنا ديننا علاجاً لهذا المرض، حثنا في الوقت نفسه على أن نتخذ من الرضى والقناعة والصبر منهجاً لنا في حياتنا، إذ لا بد للإنسان من منغصاتٍ تعترضه بين حين وآخر فإن لم يقابلها العبد بالرضى أو الصبر فقد شق طريقه نحو الضيق والضجر، والرضى هو أن ينظر العبد في المصيبة فلا يبحث إلا عن جوانب الخير فيها، أما الصبر فهو النظر بالمصيبة مع عدم الانتباه إلى ما تشتمل عليه من خير فيصبر الإنسان عليها منتظراً فرجاً من الله، وقد وضعها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه دستوراً لنا، فقال موصياً أبي موسى الأشعري: “أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر”

أمسكْ عليك لسانك

إن الأمور التي تثير عجب الإنسان في هذه الدنيا كثيرة، ولكن أعجب العجب هو كيف لقطعة لحم صغيرة لا يتجاوز طولها بضع سنتمترات قليلة، تتحرك حركاتٍ محدودة، قد تفرق بين المرء وزوجه، وتطرد مُعيلاً من عمله، وتفسد على الإخوة علاقتهما، وعلى الأصدقاء ودّهم، ولا تقتصر في خطورتها على ذلك، بل تتعداها إلى أن تكسر خاطراً وتدمر مستقبلاً.

هذه النتائج الكارثية كلها لم تكن بسبب سلاح نووي قد انفجر، أو كيماوي قد انتشر، بل بفعل لسان لم يكن في قلب صاحبه رادعٌ يمنعه من أن يخوض فيما لا علاقة له به، ولا طائل له من ورائه.

مخاطر اللسان
رغم أن اللسان لا يملك قدرات اليد والرجل في البطش، إلا أن جزءًا عظيمًا من كبائر الذنوب مرتبط به، بدءاً من الكذب الذي يخدع به الإنسان غيره بعد أن كان مصدقا له واثقاً به، فيضلله ويبعده عن الصواب، وقد يؤدي ذلك لأن يفقد الذي كُذب عليه الثقة في جميع من حوله.

وكذلك من كوارث اللسان شهادة الزور، تلك الشهادة التي تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، وتجعل أناساً ينامون باكين، وقد ظُلموا ونزعت حقوقهم من بين أيديهم، وآخرين ينامون وقد أكلوا حقاً سيوردهم المهالك يوم القيامة.

وإليك كارثة أخرى، وهي الغيبة التي يمحو بها المغتاب صوراً جميلة منطبعة في قلوبنا لأناس لم نتعامل معهم، ذاكراً لنا نقائصهم وعثراتهم، وقد طُبِعنا جميعاً على النقائص والعيوب، فإن فشت الغيبة بيننا فلن يصافح أحد أحداً، إذ يصبح حينها في قلب كل واحد منا شيء على صاحبه، وما وقر في القلب يصعب محوه.

أمسك اللسان عن الغيبة

كلّ ذلك ولم نذكر هادمة العلاقات وممزقة الروابط، التي ما إن تقع في قلوبنا حتى تقلب صفاءها كدراً، وتصيّر نقاءها قذراً، ألا وهي النميمة التي تنثر البغض والكره في المجتمع نثراً، فلا تقتصر على أفراد هنا وهناك بل تتعداهم إلى الأسرة ولا تقف عندها بل تتوسع وتتغلغل في المجتمع ملقيةً بظلالها عليه، إذ لا يسمع اللسان كلمةً قد قالها أخ عن أخيه ساعة حزن أو غضب أو مزاح حتى يوصلها ذاك النمّام، مُوقِعاً خلافاً بل وربما قطيعةً بين أخوين أو صاحبين، ما كان لها أن تحدث لو أنه سمع تلك الكلمة فوقفت عنده.

وأقول يسمع اللسان لا الأذن لأصف لكم حال ذاك النمام الذي لا يكاد يسمع الكلمة حتى يجريها على لسانه فكأنه إنما سمعها بلسانه لا بأذنه! وقد جاء هذا التعبير في القرآن الكريم عندما قال الله عز وجل: {إذ تلقونه بألسنتكم} مبيناً حال المنافقين الذين ما إن سمعوا طعناً بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام حتى نشروا ذاك الخبر في كل مجلس.

ونبدأ من حيث انتهينا، فذلك الفعل الوضيع الذي من شأنه أن يشوه سمعة تلك الفتاة الطاهرة العفيفة، ويجعلها باكيةً ليلها ونهارها لا يجف لها دمع ولا يهدأ لها بال، كل ذلك بسبب مريض حاقد قد أخذ على عاتقه ألا يوفر مجلساً إلا ويقعد فيه طاعناً بتلك الفتاة، فذلك هو قذف المحصنات، والذي لا يحزن ويضر تلك الشريفة وحدها بل يصيب أبويها وأخوتها بهمٍّ وغمٍّ لا يعلم بقدرهما إلا الله، وإن كانت قد تعرضت أم المؤمنين لهذه المحنة أياماً وليالٍ فعانت خلالها ما عانت، فنزل الوحي معلناً براءتها قاطعاً ألسنة الذين طعنوا بها، فمن يبرئ اليوم فتياتٍ طاهراتٍ قد وقع ذئاب في أعراضهن وقد ولى زمن الوحي وانقطع.

تظاهر اللسان بغير واقع الحال
إليك حالةً قد كثرت وانتشرت في يومنا هذا، ألا وهي ذاك الذي لا يعرف شروط الصلاة من أركانها، ولا يحفظ من القرآن إلا السور القصار القلائل، ويمر على السور الطوال فلا يفهم منها إلا القليل النادر، فيجهل من الدين أكثر مما يعلم، ومع ذلك فيريد هذا الناشئ أن يعطي رأيه في هذا العالِم وأن يبين للناس مدى نفاقه! وأن يفسر هذا الحديث على هواه وتلك الآية وفق “بصيرته”! وأن يأخذ بهذا الحديث ويضرب بذاك الحديث عرض الحائط، وأن يأخذ طرفاً من هذا الدين ويلقي بطرف آخر، ولو أنه كف لسانه، وجلس فتعلم قبل أن يتكلم، وأنصت قبل أن يعظ، وفقه قبل أن يهذي بما لا يعقل، لكان خيراً له من أن يسلك طريقاً آخره جهنم إن لم يدركهٍ الله برحمته.

قد نعيش عمراً طويلاً، يصل إلى الثمانين أو التسعين عاماً، فننسى ما يشاء الله لنا أن ننسى، إذ تضيق مساحة التذكر وتتسع مساحة النسيان، ومع ذلك فإنه ثمة كلمة قد قالها غريب وعبر، لكنها ما تزال محفورةً في ذاكرتنا لا تغادرها إلا حين نصبح تحت الثرى، وقد تكون كلمةً لطيفةً قد أنعشت بنا آمالاً وأحلاماً وقتها أو تكون كلمةً قبيحةً قد فتحت في قلوبنا جراحاً وأماتت بنا أحلاماً، وقد نكون سامحناه عليها إلا أنها لم تشأ الفكاك عن عقولنا.

ذلك أثر الكلمة على الإنسان، الكلمة التي لا يتطلّب النطق بها من الوقت إلا بضع ثوانٍ، فتخرج صوتاً ما إن يسمعه أحدهم حتى تحييه أو تميته، فإن أحيت أحداً فهنيئاً له ذاك المعروف، وإن أماتت أحداً، فسوف يلقى قائلها الله، وعند ملك الملوك تجتمع الخصوم، ولكان خيراً له حينها أن يكون أبكماً لا يقدر على النطق من أن يؤذي غيره أذىً لا شفاء منه، ولكان أجدر به وبكل من وقعوا في ذنوب اللسان لو سمعوا نصيحة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام التي ليست بطول الجرائد والمعلقات بل لا تتجاوز ثلاث كلمات ألا وهي: “…أمسِك عليك لسانك” [أخرجه الترمذي في السنن]

 

اسلُك طريقًا تلتمس فيه علمًا

يتّضح للقاصي والداني عظمة الدين الإسلامي ورفعته وأنه دين الحق كما أنه دين الخلق جميعاً، بأن يفرغ ذاك الباحث عن الحق قلبه من ميوله السابق وأن يكون موضوعياً صادقاً مع نفسه أولاً ثم مع الآخرين ثانياً، ثم يقبل على نصوص الله عز وجل وأحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام دارساً لها، مقارناً ومقارباً بينها، هادفاً إلى معرفة صلاحيتها لأن تنهض بالبشر وتقومهم وتخرجهم من الظلمات إلى النور.

ولا يكون الباحث عن الحق صادقاً في بحثه إن أخذ عن الإسلام حكماً مسبقاً بأنه دين الجهل أو دين العنف أو دين التخلف أو ما شابه، لأن حكمه المسبق هذا سيؤدي به إلى أن يحرّف أو يؤول الأحاديث النبوية والآيات القرآنية على هواه وإن كان هواه يقتضي تأويلاً لا يعقل أن تؤول به!

الحق في البحث عن الحق
زعم بعض الباحثون أنهم يريدون الحق ولا شيء سواه، ثم شقوا طريقهم في دراسة الإسلام وعلومه، فأخذوا ببعض الأحاديث الشريفة ثم رموا بعضها الآخر وراء ظهورهم! ولا يصلح ذلك ولا تتحقق هداية به، إذ إنما تدرس أحاديث الباب الواحد دراسةً شاملة، ولا يؤخذ إلا بها جميعا ثم يجمع الباحث بينها ليصدر حكمه على أساس ذلك.

وقد زعم باحثون آخرون بحثهم عن الحق، ولكنهم لم يريدوا على وجه الواقع سوى البحث عن العثرات وعن النقائص وعن الشبه المتوهم وجودها في هذا الدين، ليثيروها فيشككوا المسلمين في دينهم، ظانين أنهم قادرون على أن يواجهوا ديناً وقفت في وجهه مختلَف التيارات والاتجاهات الفكرية الرافضة لتعاليمه، فذهبت أدراج الرياح وبقي قرآن الله كما نزل، وما ذلك إلا لأن الله عز وجل تعهد بحمايته من الأفكار الضالة أن تدخله وذلك بحفظ كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

فكان منهج هؤلاء الباحثين عن الشبه ليثيروها، أن ينشروا أحاديثاً مدّعين أنها من الدين وما هي من الدين بشيء، كتلك الموضوعة أو المكذوبة، أو أن ينشروا بأحسن الأحوال أحاديثاً صحيحةً ولكنهم يفسرونها تفسيراً لم يفسره أحد من الصحابة أو التابعين أو العلماء وإنما هو تفسير قد أملاه عليهم هواهم.

طلب العلم والسؤال
إن الإسلام دين العلم والمعرفة لا دين الجهل والتخلف، إذ يحث أتباعه وغيرهم على البحث والنظر والتفكر لا أن يعطلوا عقولهم وقلوبهم، ففي الوقت الذي يخبرنا الله عز وجل في كتابه عن نفسه وعن حقيقة الدنيا والآخرة، وعن حقيقة الجنة والنار، وعن هذا الدين وأحكامه، فإنه لا يشغله ذلك عن أن يثير بينها أسئلةً داعياً الباحثين عن الحق إلى التفكر بها قائلاً:

{أم خُلِقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون؟} [الطور: 35]

وهذا مثالٌ عن سؤالٍ أثاره القرآن الكريم، ورغم عدد كلماته القليلة إلا أن الله عز وجل قد قدّم من خلاله سؤالاً جوهرياً يفضي جوابه إلى معرفة أن الله هو الخالق القاهر فوق عباده، فهل يعقل أن الإنسان بتعقيدات جسده قد خلق من غير شيء؟ إننا لا نصدق أحداً قد قال لنا أن كرسياً من الخشب قد صنع من غير صانع، أفيعقل أن نقبل على أنفسنا تصديق وجودنا من غير خالق؟! أم يعقل أن الإنسان الذي لا يقدر على أن يخلق ذبابةً أن يدّعي أنه هو الخالق؟!

طلب العلم طريق الجنة
لقد حثنا الله عز وجل في كتابه على التفكر في خلق السموات والأرض، وأمرنا بأن نطلب العلم، إذ لا يمكن أن يعقل الإنسان ويفهم إلا بالعلم، لا أن يصم أذنيه ويعمي بصره وقلبه عن الحق الذي يكاد يحاط به من كل جانب إن لم يصرف هو نفسه عنه، وقد انتهجت السنة النبوية نهج القرآن ذاته، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة) [متفق عليه]

والعلم المقصود بالحديث هو العلم المراد به وجه الله، إذ إنّما الأعمال بالنيات وإن لكل امرئ ما نوى، وكذلك هو العلم الذي جرّد الباحث عنه نفسه من جميع أهوائها وميولها طالباً الحق وحده ولا شيء سواه، فكان أن ثمن ذلك الجنة! وما أعظمه من ثمن، وما أعظمه من دين!

طريق علم

إنه ليهون على الإنسان كل شيء في هذه الدنيا عندما يعرف أن المقابل الجنة، وأن يُكافئ الإنسان بالجنة لسلوكه طريق العلم فإن ذلك شأن عظيم، إذ بينما يدرس ذاك الطالب ويتعب ويكد ويسهر فإن الحسنات تنزل عليه، ويرضى الله عنه لما يقوم به من جهد وصبر، وإن من شعر بذلك وآمن به فإن مشقات العلم والبحث والدراسة كلها لتصبح هينةً على قلبه إذ إنما عقبى ذلك الجنة!

الجنة التي يدفع أقوام في سبيلها أرواحهم، فيهجرون أهلهم وأوطانهم، حاملين معهم كل ما جمعوا من أموالٍ ليضعوها وأنفسهم في سبيل الذب والدفاع عن الإسلام دين الحق، فيجاهدون أقواماً قد ضلوا وأضلوا كثيراً من الخلق، فلا يرجعون من ذلك إلا بإحدى الحسنين: الشهادة أو النصر.

كما دفعت الجنة أقوامًا آخرون -وهم من الذين قصدهم الحديث الشريف- في أن يسعوا في ليلهم ونهارهم على تعلم لغة القرآن الكريم، فيحثوا ألسنتهم على إتقان اللغة العربية والنطق بها نطقاً صحيحاً من مخارج حروفها السليمة، فيتعثرون حيناً وينجحون حيناً آخراً، ولا يدفعهم إلى تعلمها سوى رغبتهم في أن يصبحوا من أهل القرآن وخاصته، راجين أن يكونوا من الذين قد سلكوا طريق العلم فكانت عاقبتهم الجنة يوم القيامة.

موقف الفكر الحداثي من السنة النبوية

سلك الحداثيون مع السنة النبوية مسلكهم مع القرآن الكريم ونزعوا عنها صفة القدسية، وقد استندوا في موقفهم هذا على الشبه التي تثار حول ظنية السنة النبوية وقلة المتواتر وكثرة الآحاد، واحتمالية الخطأ والرواية بالمعنى، والكذب والاختلاط الذي قد يطرأ على الرواة أثناء روايتهم للحديث الشريف، إضافة إلى الوضاعين والمتزندقين الذين أكثروا من الكذب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، متناسين الجهود الكبيرة التي وضعها أئمة السنة لحماية السنة من التحريف، والعلوم التي ابتكروها لضبط الرواية، كعلم المصطلح والرجال والعلل وغيرها.

يعرّف الحداثيون السنة عدة تعريفات، فمنها على سبيل المثال ما قاله حسن حنفي في كتابه “دراسات إسلامية” إن السنة هي “مجموعة من المواقف التفصيلية التي يتحدد فيها سلوك الإنسان، والذي تظهر فيه القدرة كمحك للسلوك، هي مواقف إنسانية مثالية، وتجارب بشرية نموذجية، يمكن الاحتذاء بها إذا أردنا مزيداً من التعيين والتحديد في الواقع” [ص 408].

محمد شحرور

وعرفها محمد شحرور في كتابه “الكتاب والقرآن” بأنها “منهج في تطبيق أحكام أم الكتاب بسهولة ويسر، دون الخروج عن حدود الله في أمور الحدود، أو وضع حدود عرفية مرحلية في بقية الأمور، مع الأخذ بعين الاعتبار عالم الحقيقة، الزمان والمكان، والشروط الموضوعية التي تطبق بها هذه الأحكام، معتمدين على قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج” [ص 549].

والمتأمل لهذين التعريفين يدرك كيف وُصفت السنة بأنها فعل إنساني محض، وهم يلمحون بذلك على أنها ليست وحياً من الله سبحانه وتعالى، أو ليست نصاً مقدساً لا يحتمل التأويل، وهذا التعريف والفهم مخالف لما فهمه علماء الأمة من السنة النبوية، الذين يرون أنها كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة على وجه التشريع.

فالحداثيون يرون أن السنة مجرد وصف للواقع المعاش لا أكثر، فكل نص فيهما جاز تأويله، إذ أنهما وجدا ليواكبا نشأة المجتمعات وتطوراتها، فلابد من تأويل أي نص يخالف واقع المجتمعات، فالنص عندهم يخدم المجتمع وينقاد له، وليس العكس.

يقول شحرور “ومن هنا يأتي التعريف الخاطئ برأينا للسنة النبوية، بأنها كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو أمر أو نهي أو إقرار”، ثم أوضح فكرته بقوله “هذا التعريف كان سبباً في تحنيط الإسلام” [الكتاب والقرآن، ص 548].

فالحداثيون يرون أن التزام الأمة بظاهر السنة النبوية، وظاهر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أدى إلى تشتت المسلمين، وإلى كارثة في الفقه والتشريع الإسلامي، وأدى إلى تحجير الإسلام وربطه بالبيئة البدوية والصحراوية التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما جعله مجرد تراث موروث لا قيمة له واقعاً في حياة الناس، ولذلك لم يستطع المسلمون تحرير حاضرهم من ماضيهم.

وأما عن موقف الحداثيين من حجية السنة النبوية، فهم يرون أن السنة لا تصلح للمحاججة بأدلتها لكونها ظنية وليست قطعية، حيث قال حسن حنفي في مقال له في مجلة اليسار الإسلامي: “ولم أستعمل الحديث الشريف تأييداً للقرآن حتى لا يعترض أحد الأدعياء برواية الحديث وسنده ودرجة صحته، وتضيع القضية في مماحكات العنعنة، هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد شيء في الحديث لا يوجد أصله في القرآن، والاعتماد على القرآن وحده هو الرجوع إلى الأصل أولاً، وهو أوعى وأشمل وأكمل”.

وهو بهذا النص يشبه إلى حد كبير أقاويل وشبه القرآنيين الذين يسعون وراء تنحية السنة النبوية، ومحاولة الاعتماد على القرآن الكريم لوحده دون غيره، ولا شك أن هذا المنهج بان فساده، وضعفت حجته، إذ لا يستقيم الأخذ بالكتاب لوحده، إذ السنة لطالما كانت وظائفها تتراوح بين تأكيد ما جاء في القرآن أو شرح مجمله أو المجيء بحكم تنفرد به دون القرآن الكريم، وقد بين العلماء ذلك بالتفصيل في كتب أصول الفقه.

مناقشة المغالطات
تدور مغالطات الحداثيين حول عدة أمور، منها:

1ـ مغالطتهم في المعنى اللغوي للسنة، حيث يخلطون بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي للسنة النبوية، ويحاولون سحب المعنى اللغوي على المعنى الشرعي، فهم يرون أن المعنى اللغوي لمادة: سسن، تدور حول الحركة والتغير والجريان، بينما في معناها الشرعي تدل على الثبات والسكون والجمود، وهذا استدلال عجيب، فالسنة لها معان كثيرة جداً في اللغة، وحصرها بهذا المعنى الذي يخدم أفكارهم خيانة علمية، وما زال علماء الأصول واللغة لا يفهمون منها معنى واحدا بل معان متعددة، أخذوا منها ما يناسب السنة النبوية.

2ـ رفضهم التعريف المتفق عليه بين علماء الأمة، وقد بنوا رفضهم هذا على مغالطتهم الأولى، فرأينا كيف رفض محمد شحرور وحنفي تعريف العلماء، واعتبروه أداة لتحنيط الإسلام وجموده، والصحيح أن السنة بخلاف ذلك تماماً، ففيها من المرونة ما يواكب جميع العصور، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ومع مرونتها حافظت على الأصالة الإسلامية.

3ـ انتقاصهم للسنة النبوية، وذلك بذريعة أنها أدت لتدهور الإسلام، وهذا يرد عليه كما قلنا في المغالطة الثانية، وبأن السنة شارحة ومبينة وموضحة لما جاء في القرآن الكريم.

4ـ قولهم بمرحلية السنة النبوية، وأن ما جاء فيها من أحكام خاص بتلك البيئة الصحراوية التي نزل فيها النبي، أما واقعنا فلا بد فيه من أحكام جديدة تناسب تطوره ومتغيراته اليومية، فالسنة حسب رأيهم تتغير وتتبدل ولا يجوز أخذ ظواهر الأحاديث وتطبيقها في كل مكان وزمان.

5ـ عدم اعترافهم بحجية السنة، معتمدين في ذلك على أنها لا تنهي خلافاً لكثرة الخلاف حول الأحاديث، وطرق ثبوتها، وصحتها وضعفها، وقد تبين ضعف هذه الشبهة بجهود العماء الكبيرة في تنقيح السنة، وبيان ضعيفها، والضوابط التي وضعوها للقبول والرفض والاستدلال والترجيح بين الأحاديث.

ولاشك أن كل ما سبق من تلاعباتهم بالألفاظ، فالقرآن لا يكتمل ويتضح إلا بالسنة، فلا مفاضلة بينهما إلا في حالة التعارض وتقديم الأدلة على بعضها، أما أن يتم رفض أحدهما كلياً فهذا غير وارد أبداً في الفكر الإسلامي، وغير مقبول.

وسبب رفضهم وموقفهم السلبي هذا من السنة أن السنة النبوية غالباً ما تكون واضحة، وليست كالقرآن الذي غالباً ما يحتمل وجوهاً عدة، لإجماله، ثم تأتي السنة الكريمة فتشرحه وتوضحه، وتفصل مجمله، ويدل على ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بعث ابن عباس رضي الله عنهما لمحاججة الخوارج قال له: “اذهب إليهم فخاصمهم، ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين أنا اعلم منهم بكتاب الله، في بيوتنا نزل، قال صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن خاصمهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا، فخرج إليهم فخاصمهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حجة”.

وبذلك بين لنا سيدنا علي رضي الله عنه أن لا سبيل إلى إنكار السنة، أو إغفال شأنها بين مصادر التشريع الإسلامي، خاصة وان الله سبحانه وتعالى في القرآن ـوهو المصدر الذي يعتمد عليه الحداثيونـ أكد على مكانة السنة، فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، وقال: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} [المائدة: 92].

وبذلك يتضح لنا أن من أراد هدم الإسلام التجأ إلى هدم السنة وإنكارها، وهذا جزء من قراءة أهل الحداثة للتراث الإسلامي، وأن التناقض قد لحق منهجهم هذا ببيان القرآن الكريم بضرورة ولزوم اتباع السنة، ووجوب الأخذ بها.


المصادر والمراجع
التلخيص في أصول الفقه، الجويني، تحقيق: عبد الله جولم النبالي وبشير أحمد العمري، دار البشائر الإسلامية، 1417هـ- 1996م، بيروت.

الاتجاه العلماني المعاصر في دراسة السنة النبوية، غازي الشمري، دار النوادر، بيروت، ط: 1، 1433هـ، 2012م.

الحداثة وموقفها من السنة النبوية، الحارث عبدالله، دار السلام، القاهرة، ط: 1، 2013م.

دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

دراسات إسلامية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

دفاع عن السنة، محمد محمد أبو شهبة، دار الجيل، بيروت، 1411هـ، 1991م.

منهج حسن حنفي، فهد بن محمد السرحاني القرشي، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ط: 1.

مجلة اليسار الإسلامي، حسن حنفي، العدد الأول، 1401هـ.

ماذا لو طُبِّق حديث: “لا يفرك مؤمن مؤمنة”؟

عندما يبحث الرجل عن شريكة حياته، فإنه يمر من أجل ذلك بمراحل، أولها الرؤية الشرعية أو ما يوازيها، وفيها إما أن يحدث قبول نفسي للطرفين فينتقلان إلى مرحلة الخطوبة أو يجدان ضيقاً فتنتهي العلاقة قبل أن تبداً، وإذا كان أساس الرؤية الشرعية القبول النفسي فأساس الخطوبة القبول العقلي، ويحصل تبعاً لما يجري بينهما من نقاشات، تكشف لهما أفكار وآراء وطباع بعضهما، ولكن مثل الخطوبة كمثل كشّافٍ وجهته إلى نفقٍ ضخمٍ، فإنه يجعلك تبصر شيئاً ويخفي عنك أشياء، فترى الصورة العامة وتغيب عنك التفاصيل الدقيقة، فمهما أعمل أحدهما عقله فترة الخطوبة فلن يكشف جميع طباع وأخلاق وأفكار الطرف الآخر، ولكنها ستعطيه فكرةً عامةً عنه إن أعمل بها عقله وعطّل بها قلبه.

وبقدر ما يسعى الطرفين إلى كتم مشاعرهما فترة الخطوبة، بقدر ما تنفجر مشاعرهما وعواطفهما عند عقد الزواج، فهي مرحلة الحب والأحلام الوردية، وبها يجعل العاقدان لبعضهما البحر طحينةً! ويبدأ الاقتراب النفسي والجسدي، وينتهي عصر استخدام العقل! فكما قيل: “الحب يعمي ويصم”، فيرى المحب كوارث محبوبه هفوات، وهفواته حسنات، وحسناته معجزات!

فتكون علاقتهما ببعضهما كعلاقة الأم بولدها لا تراه إلا خير خلق الله، فأما حسناته فهي تصدر منه، وأما سيئاته فهي تُكاد عنه!

وقد أظهر العلم أن جسد العاقدين يفرز خلال هذه الفترة هرموناً يجعلهما لا يريان سوى إيجابيات وكمالات بعضهما وهو الهرمون ذاته الذي يفرز لدى الوالدين في علاقتهما مع أولادهما.

ولكن الحياة ليست بهذه اللطافة والوداعة وإنما يحكم الفرد فيها واجبات ومسؤوليات ويتخلل رحلة السير بها ضغوط ومشاق وصعوبات، لذلك فإن الحب والحياة الوردية يتنحيان جانباً عند الزواج وتبدأ المسؤولية تحكم! فيناط بكلا الزوجين واجبات عليهما الإتيان بها ويصبح لكل منهما حقوقاً على الآخر أن يؤديها له.

ولا نقصد بذلك أن الحب يذهب أدراج الرياح، بل هو يزداد ويتنامى مع الوقت، وإنما الذي قصدناه هو أن كلا الزوجين ينظر إلى الأمور بعين العقل، فيصبح أكثر واقعيةً في التعامل مبتعداً عن خيالات الشعراء التي كانت تجول عقله عند العقد!

وخلال هذه الفترة ومع طول المعاشرة تبدأ عيوب الطرف الآخر بالظهور، فما كان مخفياً صار اليوم ظاهراً، وما كان يُبرر له أصبح اليوم يُعاقب عليه! فتبدأ المشاكل والمنغصات من حينٍ لآخر، وتُكرر الأخطاء إذ كل منهما قد طُبع على نقصٍ يجاهد نفسه على تركه ولكنه لا يلبث أن يعود إليه، فهاهنا يأتي التوجيه النبوي الذي يريد للعباد خيراً ولحياتهم أمناً، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر” [رواه مسلم].

فلا ينبغي للزوج أن يبغض زوجته لطبعٍ كرهه فيها، بل يغض الطرف عنه مصوباً بصره نحو طباعها الحسنة، ورغم أن الحديث موجه للزوج إلّا أنه يشمل كلا الزوجين، ونعتقد أنه جاء بهذه الصياغة لأن كره الزوج قد يؤدي إلى الإضرار بها بتنغيصٍ أو شتمٍ أو ضربٍ أو طلاقٍ، ولأن الرجل يحكمه عقله أكثر من عاطفته فلا تشفع لها محبتها في قلبه لتجاوز أخطائها، بينما تغلب على المرأة عاطفتها فتشفع له محبته في قلبها لتجاوز أخطائه.

ومن لطائف الحديث أنه وصف الزوج والزوجة بالإيمان، وكأن في ذلك تنبيه للزوج بأنه يكفي الزوجة إيمانها لترضى عنها وتصبر على هفواتها وتعينها على تصحيح أخطائها، فتسيرا معاً في طريق الإيمان متحابين في الله تجاهدان نفسيكما على رعاية حق الله فيكما، فجاءت هذه الكلمة في هذا الموضع مهدئةً للنفس مريحةً للبال مطفئةً للغضب.

ولأن الإسلام دين كامل ذو منهج متكامل، فإنك لن تستفيد منه إن أنت أخذت بعضه وألقيت بعضه الآخر وراء ظهرك، وعملت بما وافق هواك وألغيت ما خالفها، وانقدت لما فهمت مغزاه وأدبرت عما لم تدرك حكمته، ومثال ذلك أنه يصعب جداً أن يستفيد من هذا الحديث من عطّل عقله وأعمل قلبه في فترة الخطوبة غافلاً عن تعاليم الإسلام في أن تكون هذه الفترة للتقييم العقلي فقط بعيداً عن أي عاطفة أو مشاعر، والسبب في أنه يصعب عليه الاستفادة منه هو أنه قد يكون فيها طباعاً يستحيل عليه احتمالها أو تكون سيئاتها تفوق حسناتها بمراحل أو أنها منافقةً تظهر إيماناً وتبطن كفراً، أو أنها مسلمةً ولكن لمّا يدخل الإيمان إلى قلبها! وكل ذلك كان يمكن أن يظهر له في فترة الخطوبة سواء ظهر له واضحاً أو بعد طول نظرٍ وفكر ولكنه كان مخمور العقل معمي القلب!

كما لا يمكن لزوجين أن يستفيدا منه إذا كان لا يعاشر الزوج زوجته بالمعروف فيرعاها ويحفظها وينفق عليها ويكرمها، وإذا كانت الزوجة لا تطيع زوجها بل تجعله نداً لها، ولا يجد منها حفظاً لنفسها وماله وأولادهما، فكيف يمكن ألا يبغضا بعضهما وتضيق نفوسهم وتجف منابع الحب في قلوبهم، وكل منهما قد نسي ما لغيره من حقوقٍ عليه متجاهلاً ما شرعه الله من أحكام في حق الزوج على زوجته وحق الزوجة على زوجها.

لذلك ها قد أوصلتكم إلى بداية الطريق، طريق الله الذي أنزل علينا شريعة، وأمرنا أن نلتزم بها ونأخذها كلها، وأن ندعوه في صلاتنا كل يوم سبعة عشر مرة -على الأقل- ألا يجعلنا من المغضوب عليهم وهم اليهود الذين علموا الحق ولم يعملوا به، بل ألقوه وراء ظهورهم، وجعلوا يمدون أيديهم إلى وراء ظهورهم فيأخذون منه ما يوافق هواهم ويتركون ما لا يروق لهم، وكل من كان هكذا حاله فقد حل عليه غضبٌ وسخطٌ من الله، فإما أن يستمر بذلك وينتظر هلاكه أو فلينته وينتظر رحمة الله القريبة من المحسنين.

 ما هكذا تستمر السيرة.. نظرات في كتاب “السيرة مستمرة” (3 من 3)

نتابع في هذا المقال الثالث والأخير، ما بدأناه في المقالين السابقين من مراجعة لكتاب (السيرة مستمرة)، ونخصص هذا المقال لبيان بعض ما نحسبه أخطاء أو عثرات وقع فيها الدكتور أحمد خيري العمري.

يقول العمري في مقدمة الكتاب: “كان التسييس واحدة من أهم الكوارث التي منيت بها السيرة في نسختها المعاصرة السائدة”[1]، كوارث؟ هكذا بجرة قلم ينتقد العمري كل من كتب في السيرة المعاصرة لأنها تحوي “كوارث”، وكأنه يريد أن يقول للقراء: لا تقرؤوا السيرة عند غيري فقد جئتكم بسيرة صافية لا كوارث فيها، ولم يأت العمري بدليل واحد على تلك الكوارث،  بل لم يأت بدليل على “أهم الكوارث” برأيه، وهي تسييس السيرة، وهي تهمة عممها على كل من كتب السيرة، وزعم أنه حسب هذا التسييس “يبدو الرسول عليه الصلاة والسلام مؤسسا لحزب أو حركة سياسية سرية في المرحلة المكية”، ويؤكد ذلك من جديد في الصفحة 177 فيقول: “الدعوة إلى الإسلام لم تكن حركة حزبية تسيرها قرارات حزبية صارمة، كما يحلو للبعض تصويرها والترويج لها”، ولنا أن نتساءل: من هم هؤلاء “البعض” كتاب السيرة المعاصرة؟ فلدينا مثلاً الخضري والصلابي والمباركفوري والبوطي والغزالي وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب الكيلاني وأبو الحسن الندوي وغيرهم كثير، ولم نجد أحداً منهم قد قال أو ألمح أو أشار إلى إن رسول الله كان “مؤسسا لحزب سري في مكة”.

مصطفى العقاد، مخرج أم مؤرخ؟
يقول العمري “يعتبر المخرج الراحل مصطفى العقاد صاحب فيلم الرسالة أفضل كاتب سيرة معاصر”، وهذا زعم غير صحيح إطلاقاً، فالعقاد رحمه الله لم يكن كاتب سيرة إنما كان مخرجاً، وفيلم الرسالة، رغم أنه كان في زمنه اختراقا وإنجازاً عظيماً، لأنه أول إنتاج سينمائي بتقنيات هوليودية يتناول السيرة النبوية، وكان له تأثير إيجابي عندما عرض في الغرب، غير أن العقاد ليست له أي يد في انتقاء وكتابة مادته التاريخية، ولاننصح إطلاقاً بأن يكون هذا الفيلم مرجعاً تاريخيا لمن يريد دراسة السيرة، لأن هذا الفيلم على جودته يحوي كثيراً من الأخطاء التاريخية المتعلقة بالسيرة النبوية، ليس هذا مجال تعدادها ونقدها.

لماذا انتصر المسلمون في الفتوحات
يزعم  العمري أكثر من مرة في ثنايا سيرته، أن انتصار الفتوحات الإسلامية كان سهلاً بسبب ضعف الفرس والروم، ويقول في الصفحة 36 عن حرب الروم والفرس: “كان ذلك مؤشراً لاندلاع حرب دامت قرابة العشرين عاماً، بين الإمبراطوريتين بين عامي 572 و591 ميلادية، وقد مهدت هذه الحرب لحرب أخرى لاحقة، ستنهك الطرفين على نحو يسهل لقوة جديدة ثالثة أن تكسرهما معاً”، ويكرر هذا الزعم في الصفحة 413 فيقول عن الفرس: “ولم يكونوا يعرفون أن حالة الحرب المستمرة بينهم وبين البيزنطيين تجعلهم منهكين على نحو يفسح المجال للقوة الجديدة التي كانت لم تظهر بعد”، ويكفينا تفنيداً لهذا الزعم أن نقول للعمري: دلنا على معركة واحدة فقط من معارك الفتوحات، كان فيها عدد المقاتلين المسلمين يصل إلى ربع عدد المقاتلين من الروم أو الفرس، وعندها سنصدق هذا الزعم، ألا ما أسعد المستشرقين والمغرضين بما تقول.

ما هكذا تكون السيرة “مختلفة”
أول جملة في تعريف العمري لكتابه هي أنه ينقلك للسيرة “على نحو مختلف تماما عن كل ما عرفته عن السيرة سابقاً”، وويبدو أنه حتى يثبت أن سيرته (مختلفة)، لم يفوت فرصة في أن يحشد فيها تعبيرات حديثة، السيرة في غنى عنها، لأن في لغتنا ما يكفينا، من ذلك مثلاً وصفه لميله صلى الله عليه وسلم إلى العزلة قبل بدء الوحي بأنه كان  “خياراً تكتيكياً استراتيجياً”، وعنونة أحد فصول الكتاب: “قريش على صفيح ساخن”، وفصل آخر: “الأوائل: سيكولوجيا وسيسولوجيا”،  ووصف إسلام سيدنا عمر بأنه كان (بيضة القبان) وتكراره المستمر لمصطلح “كاريزما النبوة”، وكل ذلك يهون أمام استخدامه مصطلحاً لا يمكن قبوله في سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، بل لا يمكن قبوله في لغتنا العربية، وهو مصطلح تحاول الأمم المتحدة فرضه في أدبياتها على شعوب العالم، لتنسف كل الأسس التي قامت عليها المجتمعات الإنسانية والقيم والحضارة، وذلك من خلال التلاعب بأهم وأعمق وأخطر الخصائص النفسية للفرد الإنساني سواء كان ذكراً أم أنثى، وهو مصطلح (الجندر Gender)، ولن نخوض هنا في معنى هذا المصطلح، ولكن نقول باختصار إنه يفصل بين الخصائص الفيزيولوجية وبين الخصائص النفسية للذكورة والأنوثة، وغايته النهائية تحويل الشذوذ الجنسي إلى مفهوم مقبول، وقد أثار هذا المصطلح  اعتراضات كثيرة عند طرحه لأول مرة في مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994،  لذلك فإن إدخال هذه اللفظة إلى لغتنا أمر غير مقبول إطلاقاً، وعلينا أن نرفض إدخاله قواميسنا واستخدامه في لغتنا، ويصبح ممجوداً ومرفوضاً بشكل أكبرإذا تم استخدامه في السيرة النبوية مهما كان سياق هذه الاستخدام، لذلك لا ندري ما هو مسوغ قول العمري في الصفحة 100 عن علاقته عليه الصلاة والسلام بالسيدة خديجة: “فدورها كان عابرا للجندر Gender وتمييزاته وفروقه”، فليس من المقبول إطلاقاً أن يقوم العمري بالترويج لهذا المصطلح الدخيل المرفوض في كتاب يتناول سيرته عليه الصلاة والسلام، ولا في أي كتاب آخر، مهما كان السياق والقصد، علماً بأن السياق أيضاً مرفوض تماماً، فما هكذا نتحدث عن علاقة نبينا عليه الصلاة والسلام بأمنا خديجة رضي الله عنها.                    

دلائل النبوة أم كاريزما النبوة؟
ذكرنا آنفاً أن من  المصطلحات التي استخدمها العمري لتكون سيرته (مختلفة تماماً) مصطلح (كاريزما النبوة)، مستبدلاً به ما درج كتاب السيرة على استخدامه مثل فضائل النبوة وشمائل النبوة وغيرها، وجعل هذا المصطلح عنوانا لفصل من سيرته، يتحدث فيه  بشكل أساسي عن أسباب الجاذبية التي كان يتمتع بها عليه الصلاة والسلام، فتجعله مؤثراً فيمن حوله، محبباً إلى كل من يراه أو يسمع منه، وذكر من ذلك صدقه وأمانته عليه الصلاة والسلام، وشرع فيما يشبه تحليلاً نفسياً لا نراه لائقاً بمقام النبوة، ولا نريد الخوض فيه، ولكن الذي عجبنا منه أن العمري لم يتطرق في هذا الفصل إلى ما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم حول ذلك، وهو قوله تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وقوله تعالى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}، وفي كلام الله وتفسيره ما يغني عن قول كل قائل في أسباب جاذبيته عليه الصلاة والسلام.

أبو الحسن الندوي

الوحي هو مصدر علم الأنبياء
يقول العمري في الصفحة 47: “لقد عمل الرسول الكريم على نفسه وسلوكه وأخلاقه على نحو جعله يكون مؤهلاً لاحقاً لأعظم أمانة تحملها بشر على الإطلاق، أمانة الرسالة الأخيرة”، ولعمري إن مثل هذه العبارة قد تقال في طالب تخرج للتو من الجامعة (فعمل على نفسه) ليكون متفوقاً في مهنته، أما قول ذلك في نبي اصطفاه الله تعالى ليبلغ رسالته فأمر غير مقبول ولا يليق بمقام النبوة، ونرد هنا بما يقول العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس (النبوة والأنبياء في ضوء القرآن الكريم)[2]: “إن أول وأهم ما يمتاز به معشر الأنبياء، أن العلم الذي ينشرونه بين الناس، والعقيدة التي يدعون إليها، والدعوة التي يقومون بها، لا تنبع من ذكائهم أو حميّتهم أو تألمهم بالوضع المزري الذي يعيشون فيها أو من شعورهم الدقيق الحساس، وقلبهم الرقيق الفياض، أو تجاربهم الواسعة الحكيمة، لاشيء من ذلك، إنما مصدره الوحي والرسالة التي يصطفون لها ويكرمون بها، فلا يقاسون أبداً على الحكماء أو الزعماء أو المصلحين، وجميع أصناف القادة التي جربتهم البشرية، وتاريخ الإصلاح والكفاح الطويل، والذي هو نتيجة بيئتهم وغرس حكمتهم وصدى محيطهم ورد فعل لما يجيش به مجتمعهم من فساد وفوضى، والقول الفصل في ذلك قول القرآن على لسان سيد الرسل صلى الله عليه وسلم: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} وقوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}، وقوله تعالى: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك}.

صدق الندوي، نعم، قول الله هو القول الفصل، وبناء على ذلك فإنه من غير المقبول واللائق، وكدت أقول إنه من قلة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، أن نتكلم عنه بعيداً عن تلك الحقيقة، حقيقة أن مصدر دعوته عليه الصلاة والسلام وكل ما يتعلق بها هو الوحي، وليس خبرته العملية أو ما مر به من حوادث،  فليس من المقبول أن يقول العمري مثلاً: “حرب الفجار وحلف الفضول كانا مثل درس عميق لا بد أنه عليه الصلاة والسلام استوعبه عن الحرب والسلام.. الحرب ليست أول الحلول حتماً لكن السلام عندما يأتي يجب أن يكون عادلا.. بدهيات ربما لا يمكن الوصول لها إلا بعد أن تمر بتجربتي الحرب والسلام”.[3]

من كان متصلاً بالوحي لا يحتاج دروساً وتجارب، ماذا كانت تجربته عليه الصلاة والسلام عندما وصل المدينة فأقام دولة؟ صدق سبحانه إذ قال له: {وعلمك مالم تكن تعلم}، وماذا كانت تجربة نبي الله موسى عندما ناداه الله تعالى ليلاً من جانب الطور؟ قد تربى في قصر فرعون كابن له، ثم عمل راعياً للغنم ثمان سنوات في المنفى، فناداه الله تعالى ليلاً من جانب الطور وأرسله إلى أعظم دولة في زمانها، وأشد الملوك سطوة على الأرض في زمانه، وليس من المقبول أن يقال في حقه عليه الصلاة والسلام: “هذا الصدق مع النفس هو الأساس لكل تلك الرحلة التي أهلته عليه الصلاة والسلام ليكون الرسول الخاتم”[4]، فالأساس هو الوحي ورعاية الله له، الله الذي قال له: {فإنك بأعيننا}، ولا يقبل أن يقال: “كان خيار الحبشة موفقاً”[5]، وهل كانت له عليه الصلاة والسلام خيارات غير موفقة وهو الذي “لا ينطق عن الهوى”؟، ولا يقبل أن  يقال: “ثمة صراع في داخل ذلك العالم المحمدي، صراع في داخل نفس أكمل البشر؟ نعم لأنه لم يصبح أكمل البشر إلا بوجود صراع كهذا”، ونقول: بل أصبح أكمل البشر لأن الله تعالى اصطفاه وأرسله وأوحى إليه وصنعه على عينه.

وهكذا، فإن المتصفح لسيرة العمري سيجد الكثير من أمثال هذه العبارات التي تتحدث عنه صلى الله عليه وسلم، بما لا يتناسب مع مقام النبوة ومفرداتها.

هجرة الحبشة والهجرات المعاصرة.. هل تصح المقارنة؟
يقول في التعليق على هجرة الحبشة، مقارناً إياها بهجرة المسلمين اليوم إلى بلاد الغرب: “ترى هل فكروا وهم يهاجرون اليوم أن دينهم سيضيع هناك، تراهم فكروا كما نفكر بأن أولادهم سيكبرون في الغربة معوجي اللسان، تراهم تصوروا ولو لوهلة أن هناك من المسلمين في أجيال لاحقة سيتداول فتاوى تحرم ما أمرهم به الرسول يوم قال لهم أن يذهبوا إلى من لا يظلم عنده أحد”[6]، ما هذه المقارنة العرجاء؟ لقد هاجر المسلمون آنذاك هجرة مؤقتة من أرض الكفر وفرارا من العذاب وحفاظاً على الدين، وعادوا عندما أمنوا على دينهم في أول فرصة سنحت لهم، وقد كانت عودتهم فرحة كبرى لرسول الله، حتى إنه صلى الله عليه وسلم قال مبتهجاً عندما رجعوا يقودهم جعفر بن أبي طالب، “والله ما أدري بأيّهما أفرح؟! بفتح خيبر أم بقدوم جعفر”[7]، وكان أول عمل قام به جعفر أن كان أحد القادة الثلاثة الذين خاضوا غزوة مؤته واستشهدوا فيها، أما الفتوى التي يتحدث عنها العمري، فهي موجهة لغير المضطرين، الذين يتركون بلاد الإسلام  طمعاً في جنسية أو جواز سفر، فيذوبون هناك، وإن نجحوا في الحفاظ على دينهم وتراثهم فقل وداعاً للجيل التالي ومن بعده، أهؤلاء يقارنهم العمري بسيدنا جعفر وصحبه؟

أبو طالب يريد الذهاب إلى النار!
يقول العمري في سياق الحديث عن مشهد احتضار أبي طالب: “عملياً كان أبو طالب واعياً تقريباً أنه يريد أن يذهب إلى النار فقط ليرضي أباه”[8]، ونقول:  وهل كان أبو طالب يؤمن أصلاً بوجود جنة ونار؟ وأي عاقل يصدق أنه لو كان حقاً يؤمن بالنار فلن يقول كلمة تنقذه منها وأنه سيقذف نفسه فيها للأبد من أجل رضى أبيه الميت؟ وهل كان أبو طالب يعتقد أن أباه سيبلغه موقفه هذا؟

ثم يذكر العمري ما رواه الشيخان: “فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك”، ولا يذكر بقية الحديث وهي: فأنزل الله عز وجل: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}!

لماذا السعي لمخالفة الغير؟
يلاحظ من يقرأ كتاب العمري، جنوحاً في بعض المواقف إلى التمسك بما يخالف الآراء المعتمدة والمثبتة بروايات صحيحة ونذكر أطرافاً من ذلك بإيجاز:

  • يعتمد الكتاب رواية لا تصح، تقول إنه كان من المسلمين من ارتد في مكة لعدم تصديقهم بحادثة الإسراء والمعراج وحاربوا مع المشركين في غزوة بدر، ويعتمد في ذلك على حديث عن السيدة عائشة، ولكنه حديث منكر، وعلى حديث في مسند أحمد، ولكن ذاك الحديث لا يدل على ارتداد أحد، بل يدل على إصرار نفر ممن كانوا كفاراً أصلا على كفرهم بعد الحادثة.[9] علماً بأنه لم يصلنا اسم واحد من أسماء هؤلاء المرتدين المزعومين.
  • كما يعتمد الرأي الشاذ في قوله تعالى {نون والقلم وما يسطرون}، والذي يقول إن نون هنا ليست من الحروف المقطعة بل تدل على الحوت، والآثار الواردة بهذا التفسير لا يصح منها شيء، وهل يكون سياق مطلع السورة إذن هكذا: (حوت والقلم وما يسطرون)؟ ويربط ذلك بشكل فيه الكثير من التمحل بحادثة سيدنا يونس في بطن الحوت.
  • يبرر سرية الدعوة في مكة بأنها كانت بشكل أساسي لتجنب السخرية، رغم أن المعلوم والذي يتفق عليه المؤرخون وكتّاب السير أن السبب الأول لسرية الدعوة هو اتقاء بطش كفار قريش، وهل حصلت هجرتان إلى الحبشة خوفا من السخرية أم من البطش؟
  • يخالف جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى {عم يتساءلون عن النبأ العظيم}، فيرده إلى نبأ كانت قريش تحدس به[10] ولكن لم تكن تعرف ما هو، والنبأ العظيم حسب أقوال الغالبية العظمى من المفسرين، وحسب الكثير من الآثار والنقول، هو القرآن الكريم أو البعث والحساب، وليس حدثاً تنتظره قريش.
  • خلت سيرة الدكتور العمري من الكثير من أخبار الصحابة في العصر المكي، وهي أخبار لا بد منها لتكون السيرة مكتملة، ولتعطي صورة واضحة عن الأحداث، وكتب السيرة عادة لا تخلو من مثل تلك الأخبار لأنها جزء لا يتجزأ من أحداث السيرة.

وأخيراً، فلا نعلق على ما في الكتاب من احتمالات “أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد فكر بهذا، أو تذكر هذا، أو ربط هذا بهذا”[11]، ونترك الفتوى في جواز الكتابة في هذه الاحتمالات من عدمه لأهل العلم، ولكن في ضوء ما رأيناه من مآخذ على الكتاب، نهمس في أذن الصديق الدكتور أحمد خيري العمري ونقول له: ما هكذا تستمر السيرة!

__________________________________________________

الهوامش

[1] السيرة مستمرة، ص 12

[2] النبوة والأنبياء في ضوء القرآن الكريم، لأبي الحسن الندوي، طبعة بيروت، ص 43-44

[3] السيرة مستمرة، ص 80

[4] السيرة مستمرة، ص 90

[5] المصدر السابق ص 255

[6] المصدر السابق ص 265-266

[7] رواه الحاكم وصححه

[8] السيرة مستمرة، ص 315

[9] مسند الإمام أحمد، حديث رقم 3546، وفي بصه قول الكافرين: “نحن لا نصدق محمداً بما يقول فارتدوا كفاراً”، فالنص يدل بوضوح على أنه أصلا لم يكونوا مؤمنين لما سمعوا رواية الحادثة منه صلى الله عليه وسلم وأنهم ارتدوا إلى كفرهم بعد سماعهم معجزة الإسراء وإثباتها لهم بوصف المسجد الأقصى من قبل رسول الله، فارتدوا إلى كفرهم بدل أن يؤمنوا,

[10] السيرة مستمرة، ص 413

[11] السيرة مستمرة ص 15

السنة النبوية


بعد أن تبين لنا في المقالين السابقين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق نسبة القرآن الذي جاء به إلى الله تعالى، نواصل بحثنا في هذا المقال للتحقق من إرث هذا النبي القولي والعملي، والذي يشكل بدوره جزءا مهما من الوحي نفسه، ومصدرا أساسيا من مصادر التشريع.

مفهوم السنة
السنة النبوية تشكل مصلطحا من أهم المصطلحات التي يدور عليها الدين ويبنى عليها الفقه والأحكام الشرعية، وبنظرة بسيطة إلى أي كتاب من الكتب الدينية نرى أنه مليء بتعابير “سنة الرسول” و”سنة النبي”، أو أن هذا الأمر” مسنون”، وما شاكل ذلك من العبارات والمصطلحات.

ولو بدأنا بتعريف السنة لغويا لرأينا أنها تعني “الطريقة والمنهج”، سواء أكان ممدوحا أو مذموما، وقد ورد تعبير السنة في القرآن الكريم قريبا من هذا المعنى: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} [الفتح: 23] وسياق الآية يدل على الشيء المتَّبع والمطبق، أي أن السنة هي الشيء الذي استمر العمل على منواله.

أما تعريف السنة اصطلاحا، أي المُعتمد في كتب الفقه والأصول والحديث، فهناك خلاف حوله، لكن هذا الاختلاف راجع إلى زاوية النظر، حيث نظر علماء كل فرع من فروع العلم إلى جانب معين في السنة وعرّفوها بناء عليه.

فأهل الحديث يعرفون السنة بأنها كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، والمقصود بالتقرير أن يُفعل أمام النبي أمر أو أن يبلغه شيء فيسكت ولايعلق، فسكوته دليل على رضاه وموافقته إذ لو كان حراما لوجب عليه التنبيه. فالمحدِّثون نظروا إلى كون السنة صادرة عن النبي عليه الصلاة والسلام وهي تمثل كل تصرفاته القولية والفعلية والتقريرية، التي لها علاقة بالتشريع.

أما الفقهاء فقد عرفوا السنة بأنها ما يجب فعله من غير وجوب، أي ما يثاب الإنسان على فعله ولا يعاقب على تركه، فالسنة هي مقابل الفرض والواجب، وأما علماء أصول الفقه فعرفوا السنة على أنها مصدر من مصادر التشريع، ومصادر التشريع الأساسية هي القرآن والسنة والإجماع والقياس.

ولو أردنا أن نقدم تعريفا شاملا للسنة لأمكننا القول إن السنة هي الطريقة المتبعة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام في جميع عباداته وسلوكياته وتصرفاته، وبطبيعة الحال فإن من هذه الأمور ما يمكن أن نصفه بواجب أو غير واجب.

وبناء على مفهوم السنة هذا، يظهر لنا خطأ من يقول بترك السنة إلى القرآن، لأن السنة ليست مجرد شيء يندب فعله أو يثاب عليه، وليست مجرد قول صادر عن النبي بل هي طريقة في السلوك الديني، والغاية منها بيان التطبيق العملي للدين كما سأل رجل السيدة عائشة عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام فقالت له: “كان خلقه القرآن”.

ويظهر لنا مما سبق أن العلاقة بين التعريفين اللغوي والاصطلاحي هي أن السنة تتضمن المواظبة على فعل أمر ما، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما يواظب على فعل ما مبينا أنه فعل تشريعي للأمة، فعلى المسلمين الاقتداء به.

وجوب الاقتداء بالسنة
إنه لا يُتصور فهم القرآن دون اللجوء إلى حديث الرسول الذي جاء به، فحديثه هو الشارح للقرآن، وعلى ذلك كثير من الأدلة، فبواسطة السنة أخذ الصحابة أفعال الصلاة ومواقيتها، إذ لا يوجد في القرآن تفصيل لمواقيت الصلاة أو أحكامها، إنما اكتفى القرآن بإيجاب الصلاة على المؤمنين فقال {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}، بينما نجد تفصيل أحكامها في السنة وفقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي” [أخرجه البخاري].

كما اكتفى القرآن بالإخبار عن فرضية الحج، أما أحكامه التفصيلية فتولت السنة النبوية شرحها، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “خذوا عني مناسككم”، وكذلك الحال في الصيام وبقية العبادات، وعلى ذلك نقول إننا لا نستطيع أن نفهم القرآن بدون السنة، وما يقال من أن القرآن اشتمل على كل شيء فالمقصود بهذا الاشتمال هو القواعد والمبادئ الأساسية، أي أن القرآن يعرض القواعد العامة التي ينبني عليها الدين، أما التفصيلات والتطبيقات فهي متروكة للسنة بدليل قوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]، فالآية واضحة الدلالة على مهمة الرسول في شرح القرآن وتفصيله.

وقد اتفق علماء الأمة على أن السنة بمجموعها حجة ومصدر من مصادر الأحكام واستدلوا على ذلك من القرآن، وإجماع الصحابة الذين عاشوا في عصر النبي وتلقوا عنه مبادئ الدين.

أما أدلة القرآن التي توجب اتباع النبي فنذكر منها الأمثلة الآتية:

قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]، فالآية دليل على أن أقوال النبي صادرة عن وحي إلهي.

وقال أيضا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الحشر: 7]، ودلالة الآية واضحة على وجوب الأخذ بكل ما أمر به النبي وما نهى عنه دون تفريق بين كونه قرآنا أو سنة.

وقال أيضا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فالآية جعلت علامة محبة الله في اتباع النبي والتأسي به، ومثلها قوله تعالى {من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقوله {فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وقد دلّ كثير من الأحاديث ومواقف الصحابة على مثل ما دلت عليه آيات القرآن الكريم، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم “فعليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّين” [أخرجه أبو دادود وغيره]، كما حذر النبي من ترك سنته فروي عنه أنه قال: “يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله” [أخرجه ابن ماجه والدارمي]. فالتحذير في هذا الحديث واضح من ترك سنته والعدول عنها والقول بأن القرآن وحجه يكفي.

وأما دليل إجماع الصحابة فيتضح في مواقف عديدة تثبت أنهم كانوا يبحثون عن أحكام للمسائل التي تواجههم في القرآن، فإن لم يجدوها بحثوا في سنة النبي بعد وفاته، ومنها قصة أبي بكر في ميراث الجدّة، حيث جاءت جدّة إليه في خلافته وسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة ، فأنفذه لها أبو بكر”.

علاقة السنة بالقرآن
تكتسب السنة أهميتها من صدورها عن الرسول بصفته الرسولية، أي بصفته مبلغا عن الله، فإذا كان المشرع هو الله بصفته الإله الخالق فما يصدر عن الرسول بصفته الرسولية هو في الحقيقة صادر عن الله تعالى، أما التصرفات التي تصدر عن الرسول بحكم طبيعته البشرية فليست داخلة في تعريف السنة، والاقتداء بها ليس واجبا، فعلى سبيل المثال كان الرسول يحب أكل الدبّاء (أي القرع)، وهذا لا يجعل من أكل الدباء سنة مُتبعة.

أما علاقة السنة بالقرآن من جهة التشريع فتتنوع على ثلاثة أنواع، هي:

1- تأكيد السنة للقرآن الكريم: بمعنى أن يأتي ذكر أمر في القرآن ثم تؤكده السنة، من ذلك أيضا قول الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فهذا المعنى جاء تأكيده في أحاديث كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم “المسلم أخو المسلم” [أخرجه البخاري]، وقوله: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الأعضاء بالحمى والسهر” [أخرجه مسلم].

2- بيان السنة لما جاء في القرآن الكريم: أي أن تفصّل السنة أمراً جاء في القرآن مجملا أو عاما، كتفصيل السنة لأحكام الصلاة، فالله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، ويقول {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النور: 56]، كما يمتدح تعالى المؤمنين من حيث محافظتهم على الصلاة فيقول {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، أما بيان أوقات الصلاة وعدد ركعاتها وأركانها وواجباتها وشروطها فلا نجد له تفصيلا إلا في السنة الشريفة، فلولا بيان السنة ما عرفنا كيف نصلي.

3- تشريع أحكام جديدة ليست في القرآن: مثال ذلك صدقة الفطر، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة [أخرجه البخاري]، فهذا الحكم ليس موجودا في القرآن، ومع ذلك فحكمه واجب بإجماع المسلمين بناءً على هذا الحديث الصحيح.

مناقشة آراء الرافضين لحجية السنة
يطرح بعض المفكرين العرب والمستشرقين حججاً للتشكيك في السنة من حيث كونها مصدراً للتشريع، وسنناقش بإيجاز فيما يلي أهم هذه الحجج:

القرآنيون
يطلق مصطلح القرآنيين على تيار ديني يدّعي أن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع الإسلامي، وأن السنة كانت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون أتباعه، ويطلقون على أنفسهم اسم “أهل القرآن”. ويُعتقد أن بداية ظهور هذا الرأي كانت على يد الخوارج، ثم تبلور في الهند خلال القرن التاسع عشر عندما أنكر السنة بعضُ المفكرين الذين حظوا برعاية الاحتلال البريطاني، وتوسعت فلسفة هذا التيار في باكستان ومصر خلال مرحلة الاحتلال أيضا.

1- يدعي منكرو السنة أن القرآن اشتمل على كل الأحكام ولم يترك شيئا للسنة، ويستدلون على ذلك ببعض الآيات مثل قوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] وقوله {وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} [النحل: 89]، والواقع العملي يرد هذه الدعوى، فهناك عدد لا يحصى من النوازل والأمور التي تحدث كل يوم وليس لها ذكر في القرآن، ما يعني أن كلمة “شيء” في الآيتين لا تدل على الشمول، وبيان ذلك أن القرآن الكريم يشتمل على القواعد والأسس العامة التي نحتاج إليها في حياتنا، أما التفصيلات فمتروكة للسنة أو للاجتهاد، وشمولية القرآن كاشتمال الدستور على المبادئ العامة وتركه التفصيل للوائح القانونية والتفصيلية، فالسنة هي التي تفصل قواعد القرآن العامة، وسبق أن استشهدنا بمثال تفصيل السنة لأحكام الصلاة واكتفاء القرآن بالأمر بها، وكذلك الحال مع بقية العبادات.

2- يرى منكرو السنة أن القرآن محفوظ بحفظ الله فلا تداخله شبهة ولا شك ولا تحريف بخلاف السنة التي يوجد فيها الموضوع والضعيف، وعليه فالاحتجاج بالمحفوظ أولى في رأيهم من الاحتجاج بما دخلته الشبهة. إلا أن هذا الرأي يتجاهل منهج النقد الذي وضعه علماء الحديث لتمييز الصحيح من الضعيف كما سيأتي، فوجود الضعف في بعض روايات التاريخ مثلاً لا يبرر نسف علم التاريخ وما تقوم عليه من علوم إنسانية شتى.

3- يدّعون أن السنة ليست إلا اجتهادا من الرسول، وبما أن الاجتهاد ليس وحيا فليس بلازم الاتباع، ويستدلون على ذلك ببعض الحوادث كمسألة تأبير النخل ونزول الجيش في بدر. لكن هذا الادعاء مردود بآيات القرآن التي تأمر باتباع النبي في كل ما جاء به، مثل قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، والوقائع التي استشهدوا بها جاءت في غير محلها، فتصرفات الرسول وحي عندما تكون في مجال التشريع وليست من الأمور الدنيوية، وقد ذكر علماء الأصول كثيرا من الضوابط للتفريق بين أعماله الرسولية والبشرية، ولا يسمح هذا المقام بذكرها.

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “نضّر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلّغه، فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبّ حامل فقه ليس بفقيه” [رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني].

4- يستدلون بوجود تناقض بين بعض الأحاديث، فيجعلون من ذلك مبرراً لإنكار السنة بالجملة، لكن وجود أحاديث متناقضة في الظاهر ليس دليلا كافيا لرد العمل بالسنة، فالخطأ ليس من الرسول وإنما من الرواة الذي قد يخطئون في النقل أو الحفظ، أو قد يكون الخطأ في فهم القارئ للحديث، وبما أن علماء الحديث قد بذلوا جهودا جبارة في تمحيص الروايات وبيان التناقضات وأسبابها والراجح منها فما زال بالإمكان العمل بما وصلنا من سنة النبي، ولم تسقط بذلك حجيتها عنا.

5- يقولون إن السنة لو كانت لازمة الاتباع لأمر الرسول بكتابتها كما أمر بكتابة القرآن، ويرد هذه الحجة عمل الصحابة أنفسهم ومن جاء بعدهم من حيث مركزية السنة في فتاواهم وقضائهم وسائر أحكام عباداتهم، أما عدم أمر النبي بكتابة السنة عنه فليس دليلا بذاته على كون سنتة غير ملزمة، فقد كان يخشى اختلاط سنته بالوحي القرآني، إلا أنه كان يدرك أن العرب أمة أميّة وأنها ستنقل عنه سنته شفوياً، ومع أنه لم يأمر بكتابة هذه السنة فإنه لم ينهَ عنها، بل سمح لمن طلب منه ذلك من الصحابة كعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما، وسنتابع تفصيل هذا الأمر بعد قليل.

روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “تسمعون، ويُسمع منكم، ويُسمع ممن يَسمع منكم” [رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح].

6- يرون أن ضخامة عدد الأحاديث الموجودة في الكتب الحديثية مبرر للاعتقاد بأن غالبيتها غير صحيحة، استناداً إلى كون الرسول صلى الله عليه وسلم قليل الكلام بحيث لو أراد العاد عدَ كلامه لاستطاع. لكن الاستدلال بضخامة العدد ليس دقيقاً، فالمحدثون يعدون كل طريق (سند) حديثا بذاته ولو كان المتن واحدا، ومثال ذلك لو فرضنا أن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام “بني الإسلام على خمس” روي من خمسة وجوه فهذا يعني أن لدينا خمسة أحاديث وليس حديثا واحدا، فعندما نقول إن عدد الأحاديث المدونة يتجاوز المئة ألف فالمقصود هو عدد الأسانيد وليس متون الأحاديث.

تاريخ السنة
سنوجز فيما يلي تطور انتقال السنة من مصدرها عبر رواتها من الصحابة والتابعين، وصولاً إلى تدوينها وتوثيقها، وذلك عبر ثلاث مراحل:

المسجد النبوي في المدينة المنورة بمنتصف القرن التاسع عشر

1- الحديث في عهد النبوة: نزل القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام في ظرف 23 سنة منجّما (مفرقاً) على حسب الحاجة، وكان للنبي كتّاب من الصحابة يكتبون ما نزل عليه من الوحي بأدوات بسيطة مما يتوفر لهم من الورق والحبر، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يشجع صحابته على حفظ القرآن في الصدور، فالعرب كانوا أمة شفوية تحفظ أشعارها وأنسابها وتاريخها دون تدوين.

لم يُظهر النبي عليه الصلاة والسلام حرصاً على كتابة سنته كحرصه على تدوين القرآن الكريم، فالوحي كان ينزل بشكل متقطع ببضع آيات تسهل كتابتها على الفور، أما السنة فتتضمن ما كان يتحدث به النبي مع أصحابه أو يفعله في حضورهم يوميا، حيث كانوا يوجهون له الأسئلة عن شتى الأمور، كما كان يخطب فيهم عند حدوث بعض المناسبات، أو يقدم لهم النصائح والمواعظ والأخبار والنبوءات أثناء استقباله الوفود أو خلال تجوله في السوق أو في أي حالة يكون عليها خلال حياته اليومية، ما يجعل من كتابة هذه التفاصيل في وقتها أمراً متعذراً.

علاوة على ما سبق، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى اختلاط القرآن بالحديث، ولا يعني ذلك بالضرورة اختلاطا لا يُستطاع معه التمييز، فالصحابة كانوا قادرين على التمييز لغويا وبيانيا، لكن المقصود على الأرجح هو الاختلاط من الناحية التشريعية وعدم إدراك البعض مكانة كل منهما فيظن أن الحديث في مرتبة مساوية للقرآن.

لذا يمكن القول إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه كان إجراءً احترازياً معللاً وليس نهياً تعبدياً من غير علة، والحكم المعلق على علة يدور مع علته وجودا وعدما فإذا انتفت العلة في مكان ما فإن الحكم ينتفي هو الآخر، وعلى ذلك نستطيع فهم بعض الأحاديث المتعارضة في هذا الصدد، فنجد أن بعض الأحاديث تنهى عن كتابة ما يقوله النبي وبعضها يبيح ذلك، ففي حالات الأمن من وقوع الالتباس والاختلاط عند بعض الصحابة كان يأذن لهم بالكتابة، ومن ذلك قول عبد الله بن عمرو بن العاص: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؛ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه (أي أشار بإصبعه إلى فمه) فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق” [أخرجه أحمد]، وفي حجَّة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة فقال له أبو شاه (رجل من اليمن): اكتب لي يا رسول الله، فقال لصحابته: “اكتبوا لأبي شاه” [أخرجه أحمد والبخاري].

2- الحديث في عهد الصحابة: كان الصحابة يحرصون على حفظ  كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيق كل ما يأمر به، بل كانوا من شدة حرصهم يتناوبون في ملازمة الرسول عندما لا يكون في مقدور أحدهم ترك أعماله، ثم يخبر بعضهم بعضا بما جرى مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكان بعضهم يتخذ لنفسه صحيفة يدون فيها بعضا من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كتب لنفسه بعض أحكام الإسلام في صحيفة، ووردت الإشارة إلى صحيفته في حديث رواه البخاري. كما أن عددا ليس بالقليل من الصحابة كانوا يكتبون الحديث، فقال أبو هريرة: “ما كان أحد أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب” [أخرجه البخاري].

وكان الصحابة يتخذون مجالس في عهد رسول الله وبعد وفاته يتدارسون فيها ما حفظوا من أحاديث ويروونها لبعضهم، وكانت قلة حديث الرسول وتمهله في الحديث أثناء كلامه عاملان مهمهان في حفظ الصحابة للحديث ورسوخه في أذهانهم، وقد تبين لنا قبل قليل من قضية ميراث الجدة أنهم الصحابة لم يتركوا الاحتجاج بالسنة في كل ما يعرض لهم من شؤون دينهم.

وقد يحتج بعض منكري السنة أو منكري خبر الآحاد (أي ما نقله شخض واحد عن آخر كما سيأتي لاحقاً) ببعض تصرفات الصحابة، كطلب عمر بن الخطاب من أحد الصحابة شاهدا على حديثه الذي رواه وكذلك فعل أبي بكر، وكطلب علي بن أبي طالب من رواي أحد الأحاديث أن يُقسِم يمينا على روايته، وكطلب عمر من بعض الصحابة أن يقللوا من الرواية، لكن إنعام النظر في سياقات هذه الحوادث تكشف أنها كانت تنبع من الاحتياط للسنة وليس تقليلا من الاعتماد عليها، وبيان ذلك أن أبا بكر وعمر كانا يطلبان شاهدا من الراوي في حال الشك في حفظ الراوي، وهذا مطلب منهجي، أما طلب عمر بالإقلال من الراوية فجاء في سياق معين، وهو أنه أرسل بعض الدعاة إلى قوم أسلموا جديدا، وكانت الحكمة تقتضي أن يعلموهم القرآن وقواعده الأساسية أولاً ثم يروون لهم أحاديث النبي وسنته.

3- الحديث في عهد التابعين: عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الأموية ازدادت حاجة الناس للاطلاع على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وازدادت أيضا ظاهرة وضع الحديث (أي نسبة أحاديث مكذوبة إلى النبي)، لا سيما مع دخول أتباع ديانات أخرى في ظل الدولة وميل البعض إلى التحريف في الدين، فضلا عن الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمذهبية لطوائف من البشر تسعى كلٌ منها لإيجاد نص ديني يدعم رأيها ويحقق مصالحها، ما حمل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في نهاية القرن الهجري الأول على الأمر بتدوين السنة النبوية رسمياً وبإشراف الدولة وتوجيهها، فكتب إلى أمراء الأقاليم ليكلفوا حفاظ الحديث بجمع السنة من أهل العلم الموثوقين مثل ابن شهاب الزهري وتدوينها، وتابع ابن جريج وسفيان الثوري ومالك بن أنس هذه المهمة الصعبة.

كانت طريقتهم في التدوين تتضمن جمع كل ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن وبيان شرائع الإسلام من العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والأقضية دون تفريق أو تصنيف، ثم بحثهم عن أحوال الرواة وإسقاط ما يتبين لهم أنه موضوع, ويقول أبو داود إنهم في تلك المرحلة المبكرة كانوا يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث، ومن أهم كتب هذه المرحلة كتاب “الموطأ” للإمام مالك.

قال الأوزاعي (وهو من أئمة تابعي التابعين): “كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا (أي التابعين) كما يُعرض الدرهم الزائف على الصيارفة, فما عرفوا منه أخذنا، وما تركوا تركنا” [الموضوعات لابن الجوزي: 1/103].

وبعد هذه المرحلة العامة في الجمع بدأت مرحلة التصنيف، حيث تم تصنيف الأحاديث تحت الأبواب الفقهية وغيرها كما سنذكر لاحقاً، ومن أهم أعلام هذه المرحلة بقيّ بن مخلد وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، وقد بذل هؤلاء أيضاً جهوداً جبارة في تمحيص الروايات ونبذ الموضوع، إلا أنهم كانوا كسابقيهم يمزجون الصحيح بغيره من حسن وضعيف، حيث لم تكن قد ظهرت بعد تصنيفات الحديث من حيث الصحة والضعف، فجاء من بعدهم من قام بهذا العبء ووضع أصول علوم النقد، وتمكن بذلك الإمامان البخاري ومسلم من تأليف أول كتابين مخصصين للأحاديث الصحيحة، وتابع بقية العلماء من بعدهم مهمة النقد والتصنيف وفقاً لتلك القواعد المعتمدة.

نقد الحديث والتأكد من صحته
طوّر العلماء ونقاد الحديث منهجا دقيقا لنقد الحديث والتأكد من صحته، فعلْمُ رواية الحديث النبوي قائم على عنصر مهم وهو راويه، والرواي هو الشخص الذي يسمع الحديث ممن فوقه وينقله لمن بعده، وللتأكد من أن الراوي لم يدخل في روايته أي خطأ ولم يقع فيه سهو اشترط علماء الحديث شروطا خمسة، وقالوا إنها إذا اجتمعت كان الحديث صحيحا، ويتعلق اثنان منهما بالراوي وثلاثة بالمروي (الحديث).

أما الشرطان المتعلقان براوي الحديث، فأولهما أن يتصف بـ”العدالة”، أي يكون ملتزما بالدين غير كاذب ولا فاسق، والثاني أن يتصف بـ”الضبط”، أي يكون حافظا للحديث الذي سمعه وأن يرويه كما سمعه دون خطأ ولا تغيير، أو يكون قد دوّنه بدقة، ويعبر عن اجتماع هذين الشرطين في الرواي بمصطلح “الثقة”.

يتكون كل حديث من عنصرين:
1- السند أو الطريق: وهو سلسلة الرجال الذين رووا الحديث.
2- المتن: هو ما ينتهي إليه السند من الكلام، أي نص الحديث.

ومع تطور علوم الحديث في عصور التدوين الأولى نشأ تحت مظلته علم “الجرح والتعديل”، وهو يُعنى بالبحث في حال الراوي من حيث عدالته وضبطه، فكان مؤلفو كتب هذا العلم يبينون بدقة حالة كل راوٍ من حيث التزامه بالدين والآداب العامة والمروءة ومقدار ضبطه وحفظه وقدراته العقلية، وذلك للحكم عليه في النهاية بكون أهلاً للثقة والاحتجاج بروايته أم لا.

وطوّر علماء الحديث كثيرا من المصطلحات التي تدل على مستوى الراوي من حيث العدالة والضبط، فطبقة الصحابة كلهم عدول بتعديل النبي لهم، وقد يخطئون في الضبط من حيث النسيان أو الغلط في الرواية الحديث، حيث كان بعضهم يصحح لبعض، ثم يتدرج التابعون وتابعوهم في طبقات عدة، فعلى سبيل المثال وضع ابن حجر اثنتي عشرة طبقة للرواة في كتابه “تقريب التهذيب”، تبدأ بالثقة الثقة، أو أوثق الناس، وتتدرج إلى الثقة أو المتقن أو الثبت، ثم الصدوق، ثم الصدوق سيئ الحفظ، وهكذا حتى يصل إلى المتروك فالمتهم بالكذب فالكذاب.

وألّف العلماء في الجرح والتعديل كتبا متنوعة لسرد سير الرواة وما قيل فيهم، مثل “تهذيب التهذيب” لابن حجر، و”الثقات” لابن حبان، كما خصصوا كتبا للضعفاء والمتروكين والوضّاعين (الكذابين) من الرواة، مثل كتب “الضعفاء” التي ألفها كل من البخاري والنسائي وابن حبان، وكتاب “الكامل” للجرجاني الذي ذكر فيه كل من تُكلم فيه، بينما وضع آخرون موسوعات أكثر شمولا مثل “ميزان الاعتدال في نقد الرجال” للحافظ الذهبي الذي قال فيه “قد احتوى كتابي هذا على ذكر الكذابين والوضاعين، ثم على المحدثين الصادقين أو الشيوخ المستورين الذين فيهم لين ولم يبلغوا رتبة الأثبات المتقنين، ثم على خلق كثير من المجهولين”.

أما الشروط المتعلقة بالمروي (المتن) فهي ثلاثة، ولا يُنظر فيها إلا بعد ثبوت قدر كاف من عدالة وضبط الراوي، والشرط الأول في المروي ألا يكون شاذا، أي لا يكون مخالفا للقرآن أو لحديث آخر أو لرواية رجل أقوى حفظا. والشرط الثاني ألا يكون الحديث معلولا، فلا يكون فيه خطأ خفي، وتفصيل ذلك أن بعض الرواة نالوا درجات عليا في الضبط والإتقان، لكنهم مع ذلك بشر يخطئون ويصيبون، لذا فليس كل ما يروى عنهم صحيح بالمطلق، حيث لم يكتف علماء الحديث بكونهم متقنين ضابطين بل اشترطوا ألا يكون في أحاديثهم خطأ خفي من العلل التي لا يكتشفها إلا المتمرس في الحديث ورواياته، وعلى هذا نشأ علم مستقل يسمى بعلل الحديث.

وأما الشرط الثالث فهو “اتصال السند”، حيث اشترط العلماء أن يكون كل راو قد سمع الحديث ممن فوقه (شيخه)، حتى يتسنى للعلماء والنقاد التأكد من حال الرواة، وإذا حدث انقطاع لشخص واحد في السند فقدَ الحديث درجة الصحة، وقد برع العلماء في تسجيل تاريخ الرواة وشيوخهم وسيرهم، حتى أصبح بالإمكان التحقق مما إذا كان أحدهم قد التقى راوياً آخر فروى عنه أم لا، وذلك بالتحقق من رحلات كل منهما وتاريخ حياته ومماته.

من أهم ملامح الدقة العلمية لدى علماء الحديث ابتكارهم لمفهوم الرحلات، حيث كانوا يشترطون على كل طالب علم في بداية نشأته أن يُنهي الاستماع والرواية لكل ما يرويه شيوخ بلدته من أحاديث ثم يخرج في رحلات علمية قد يبلغ بها كل أقطار العالم الإسلامي مترامي الأطراف، فيسمع ويدوّن ما يرويه شيوخ البلدان الأخرى، حتى كان بعضهم يقطع آلاف الكيلومترات من الصحاري والجبال للتأكد من حديث سمعه في بلده نقلا عن شيخ في بلد آخر، فيقول الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه إنه سار شهراً إلى الشام ليسأل الصحابي الآخر عبد الله بن أنيس رضي الله عنه حديثاً سمعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم [علوم الحديث لابن الصلاح، ص8]، كما كان التابعي سعيد بن المسيب يقول: “إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد” [الرحلة في طلب الحديث، ص127]، أما في المراحل التالية على الصحابة والتابعين فقد أصبحت الرحلات شرطا أساسيا من شروط طلب العلم.

لم تُبدع أي حضارة أخرى علماً مماثلاً لتمحيص النصوص والروايات التاريخية كالذي أبدعه العلماء المسلمون في تمحيصهم لأحاديث نبيهم، ويقول الدكتور مصطفى السباعي إن عالماً معاصراً من علماء التاريخ -وهو أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت أسد رستم- كان قد ألف كتاباً في أصول الرواية التاريخية, اعتمد فيها على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات، وأطلق على كتابه اسم “مصطلح التاريخ” [السنة ومكانتها للسباعي، ص 126].

أنواع الحديث
سنوجز فيما يلي أنواع الحديث من حيث عدة عوامل:

من ناحية تعدد الطرق:
1- متواتر: وهو ما نقله جمع عظيم عن جمع عظيم لا يُتصور أن يتفقوا على الكذب، وكان ما نقلوه متعلقا بأمور خبرية (فيقول أحدهم عن الآخر أخبرني)، أو حسية (فيقول رأيت أو سمعت)، وليست أمورا عقلية.

2- آحاد: وهو ما عدا المتواتر، أي أن كل طبقة من طبقات الرواة يكون عدد الناقلين فيها أقل من أن يبلغ جمْعا عظيما.

من حيث القائل:
1- الحديث المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً عنه, سواء كان متصلاً أو منقطعاً أو مرسلاً (كما سيأتي).

2- الحديث الموقوف: هو ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم وأفعالهم.

3- الحديث المقطوع: هو ما يروى عن التابعين من أقوالهم وأفعالهم، والتابعون هم الذين شهدوا الصحابة ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ومثاله قول التابعي الحسن البصري في الصلاة خلف المبتدع: “صلّ وعليه بدعته”.

من حيث الصحة:
1- الحديث الصحيح: هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه, ولا يكون شاذاً ولا معللاً.

2- الحديث الحسن: هو الذي يحقق شروط الصحيح إلا أن في رجاله من هو خفيف الضبط, ويُحتج به.

3- الحديث الضعيف: هو ما لم تتوافر فيه شروط الصحة أو الحُسن.

وهناك أنواع كثيرة للحديث الضعيف بحسب السبب الذي أدى إلى تضعيف كل منها، وأهمها:

1- المجهول: ما كان في رواته راوٍ غير معروف الهوية أو غير معروف الحال.

2- المنقطع: ما سقط من وسط إسناده رجل، وقد يكون الانقطاع في موضع واحد, وقد يكون في أكثر من موضع.

3- المرسل: هو حديث التابعي إذا قال: قال رسول الله أو كلمة نحوها دون أن يذكر الصحابي الذي رواه له, وأطلق بعض أهل العلم المرسل على ما سقط من إسناده رجل من أي موضع كان.

4- المتروك: هو الذي يرويه من يُتهم بالكذب, ولا يعرف ذلك الحديث إلا من جهته, ويكون مخالفاً للقواعد العامة.

5- المعلق: ما حُذف من مبتدأ إسناده راو واحد فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد.

6- المعضل: ما سقط من وسط إسناده اثنان فأكثر على التوالي.

7- المعلول: هو الحديث الذي اطُلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر سلامته منها.

8- الموضوع: هو المكذوب على رسول الله صلى الله عليه و سلم، وتحرُم روايته مع العلم بحاله إلا للبيان والتحذير.

مخطوطة لكتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام من القرن الرابع الهجري

وهناك أنواع مشتركة بين الصحيح والحسن والضعيف، وهي:
1- المسند: هو ما اتصل إسناده إلى رسول الله.

2- المتصل: هو الخالي من الإرسال والانقطاع, ويشمل المرفوع إلى النبي والموقوف على الصحابي، فعليه يكون المتصل هو الذي سمعه كل راوٍ من الذي قبله, ويشمل المرفوعَ إلى رسول الله والموقوفَ على الصحابي.

3- الغريب: هو الذي تفرد به راويه، سواء تفرد به عن إمام يُجمع حديثه أو عن راو غير إمام.

ويجدر بالذكر أن نقد أي حديث لا يعني بالضرورة ترك العمل به والاستفادة منه، فالحكم على حديث بأنه ضعيف لا يعني بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، ومخالفة حديث ما لآية قرآنية في الظاهر لا يوجب الحكم بضعفه أو كذبه، كما أن الحكم بصحة حديث ما لا يوجب العمل بظاهره كما هو، فاستخراج الحكم من الحديث مهمة الفقيه لا المحدث، فقد يترك الفقيه الأخذ بحديث لترجيحه حديثا آخر أو لتخصيصه أو تقييده بحديث أو آية من القرآن، ولا يلزم من ذلك أن يُحكم على الحديث بالضعف أو يُتهم الراوي بالكذب، وقد ذكر ابن حزم في كتابه “مراتب الديانة” أنه أحصى الأحاديث التي رواها الإمام مالك بن أنس في كتابه “الموطأ” ويقول “فيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسُه العمل بها”. وسنفصل في مقال “الشريعة الإسلامية” بعض أصول الفقه وقواعد التشريع التي يستخدمها الفقيه في استنباط الأحكام وترجيحها من نصوص القرآن والسنة.

كتب الحديث وأنواعها
كان لكل إمام من أئمة الحديث منهج في كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من اشترط أن تكون الأحاديث التي سيدونها صحيحة،  كالإمام البخاري والإمام مسلم والإمام ابن خزيمة.

ومنهم من جمع الصحيح والقريب منه (نسميه الحسن)، ولكنه لم يتشدد كثيراً في قضية الضبط، فاشتمل كتابه على الأحاديث الصحيحة والحسنة وقليل من الضعيف المقبول، وفيما يلي تعريف بأهم أنواع هذه الكتب:

1- كتب الجوامع: هي الكتب التي رتبت فيها الأحاديث في ثمانية أبواب أساسية، وهي العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والتفسير والفضائل والأطعمة والأشربة، سواء التزم أصحابها بالصحة أم لم يلتزموا، فهي إذن تشتمل على كل ما يتعلق بالدين من العقيدة والفقه والتفسير، وتقتصر على الأحاديث النبوية دون آثار الصحابة والتابعين: ومن أمثلة هذه الكتب:

  • الجامع الصحيح للإمام البخاري (ت 256هـ): التزم فيه الصحة، وهو أصح كتاب بعد القرآن الكريم، وسيأتي الحديث عنه مفصلا إن شاء الله.
  • الجامع الصحيح للإمام مسلم (ت261هـ): التزم فيه الصحة، ولكن شروط التصحيح عنده أخف من شروط البخاري، فهو في المرتبة الثانية بعد كتاب البخاري.
  • الجامع الصحيح للإمام الترمذي (ت 279هـ): لم يلتزم فيه بالصحة.
  • الجامع الصحيح للإمام ابن خزيمة (ت 311هـ): التزم فيه الصحة، ولكن شروطه في التصحيح غير شروط الشيخين البخاري ومسلم.

2- كتب السنن: هي الكتب التي رتبت الأحاديث على أبواب الفقه، فتبدأ الأحاديث فيها بكتاب الطهارة، ثم كتب الصلاة والصوم والزكاة والحج والنكاح، وهكذا. ومن أشهرها:

  • سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ): جمع في كتابه الصحيح والحسن، ولم يورد الضعيف إلا قليلا.
  • سنن النسائي للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ): فيه الصحيح والحسن والضعيف المقبول.
  • سنن ابن ماجة للإمام محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (ت273هـ): فيه الصحيح والحسن والضعيف وبعض الضعيف المردود.

ويطلق على صحيحي البخاري ومسلم مع السنن الأربعة تعبير “الكتب الستة”، وهذه الكتب لها مكانة خاصة في الاحتجاج الفقهي والتشريعي.

3- كتب المسانيد: هي الكتب الحديثية التي  جمع أصحابها أحاديث كل صحابي على حدة، ومن أشهرها:

  • مسند الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ، ويعد من أضخم كتب الحديث.
  • مسند الحميدي (أبي بكر عبدالله بن الزبير الحميدي) المتوفى سنة 219هـ.
  • مسند الطيالسي (أبي داود بن سليمان بن داود الطيالسي) المتوفى سنة 204هـ.
  • مسند أبي يعلي المصولي (أحمد بن علي المثنى الموصلي) المتوفى سنة 307هـ.
  • مسند عبد بن حميد المتوفى سنة 249هـ.

4- المصنفات: هي الكتب التي رتبها أصحابها على أبواب الفقه، واشتملت على الأحاديث المرفوعة (الأحاديث المضافة إلى النبي) والموقوفة (الأحاديث المضافة إلى الصحابة) والمقطوعة (الأحاديث المضافة إلى التابعين)، فهي لم تقتصر على الأحاديث النبوية بل ذكرت أقوال الصحابة وفتاوى التابعين وتابعي التابعين، ومن أشهر المصنفات:

  • المصنف لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى 211هـ.
  • المصنف لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى 235هـ.
  • المصنف لبقي بن مخلد القرطبي المتوفى 276هـ.
  • المصنف لأبي سفيان وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى 196هـ.
  • المصنف لأبي سلمة حماد بن سلمة البصري المتوفى 167هـ.

5- إلى جانب الكتب السابقة، اعتنى العلماء أيضا بجمع الكتب الضعيفة والموضوعة وتصنيفها في كتب مستقلة، مثل كتاب “الأباطيل” للجورقاني، و”الموضوعات” لابن الجوزي، و”اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة” للسيوطي.

نماذج لأهم علماء الحديث ومؤلفاتهم

الإمام أحمد ومسنده
ولد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على الأرجح سنة 164هـ، ونشأ في بغداد، بدأ بطلب الحديث في سن مبكرة فرحل إلى البصرة والكوفة واليمن، كما رحل إلى الحجاز خمس مرات، أولاها سنة 187هـ حيث التقى بالشافعي واستفاد منه كثيرا، واستمر جِدُّه في طلب الحديث وروايته حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة، فيقال إن رجلا رآه وهو يحمل المحبرة لكتابة الحديث فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين! فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.

تعرض ابن حنبل لمحنة عظيمة عندما أكره الخليفة العباسي المأمون الفقهاء والمحدثين على القول برأي المعتزلة في قضية خلق القرآن، فحُبس وضُرب وأوشك على الموت. وتوالى على تعذيبه من بعد المأمون كل من المعتصم والواثق، ثم أفرج عنه المتوكل وأكرمه، وبلغت شهرته في الصمود والتضحية الآفاق، حتى يقال إن نحو من مائة من بيت الخلافة حضروا غسله يوم وفاته، أما عدد الذين شيعوه فاختلف في تقديره المؤرخون، حيث روى البيهقي أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف (مليون وثلاثمئة ألف)، بينما قال ابن أبي حاتم أن المتوكل أمر بمسح الموضع الذي وقف الناس فيه عندما صلوا على ابن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف (مليونين ونصف)، حتى قال الوركاني إن عشرين ألفا من غير المسلمين أسلموا في ذاك المشهد الرهيب.

ويعد مسند أحمد من أشهر كتب الحديث وأوسعها، ففيه الكثير من الأحاديث الصحيحة التي لا توجد في الصحيحين، وقد جعله مرتباً على أسماء الصحابة من الرواة، وبلغ عدد أحاديثه أربعين ألفاً تقريباً، تكرر منها عشرة آلاف حديث، ومن أحاديثه ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد (أي بين راويها وبين النبي ثلاثة رواة فقط).

الإمام مسلم وصحيحه
هو الإمام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم، وُلِد بنيسابور سنة 206هـ، ونشأ في بيت تقوى وصلاح وعلم، فقد كان والده من محبي العلم، وقد بدأ الإمام مسلم رحلته في طلب العلم مبكرًا.

يعد صحيح مسلم من أهم كتب الحديث الجامعة للصحيح فقط، حيث اقتصر مؤلّفه على ما صحّ من الحديث وترك كلّ ما كان في إسناده ضعف أو وهن، وافتتح صحيحه بمقدمة ذكر فيها سبب تأليفه الكتاب، ومنهجه العلمي الذي سار عليه، ثم بيّن بعض الأمور المتعلقة بالحديث.

جمع مسلم في صحيحه روايات الحديث الواحد في مكان واحد وفق الموضوعات الفقهية، وذلك لإبراز الفوائد الإسنادية في كتابه؛ فكان يروي الحديث في أنسب المواضع له، ويجمع طرقه وأسانيده في ذلك الموضع، بخلاف البخاري الذي كان يفرق الروايات في مواضع مختلفة، وتلك ميزة لصحيح مسلم، ما يجعل كتابه أسهل تناولا بحيث يجد القارئ طرق الحديث ومتونه جميعها في موضع واحد.

الإمام البخاري وصحيحه
هو محمد بن إسماعيل البخاري، ولد في مدينة بخارى 194هـ، ونشأ يتيما فربّته أمه على الأخلاق وطلب العلم، فبعد أن أتم حفظ القرآن التحق بحلقات المحدثين، وظهرت بوادر نبوغه المبكر فكان يصحِّح للشيخ خطأه في الإسناد وهو ابن إحدى عشرة سنة.

سئل البخاري: كيف كان بدء أمرك؟ فقال: أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقيل: كم كان سِنك؟ قال: عشر سنين أو أقل، فلما طعنتُ في ست عشرة سنة كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها، وتخلَّفتُ (أي بقيت) في طلب الحديث.

وقال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يوما بعد ستة عشر يوما: إنكما قد أكثرتما عليَّ وألححتما فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نُحْكِم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرا وأضيِّع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.

وفي سن الثامنة عشرة، بلغ البخاري درجة العلماء وبدأ بتصنيف الكتب التي يقوم بدراستها اليوم الباحثون لنيل درجات الدكتوراه.

ذكر المؤرخون أنه دخل بغداد وكان أئمة الحديث فيها يسمعون عن قوة حفظه، فأرادوا امتحانه، فجاء إليه عشرة من حفَّاظهم مع كل واحد منهم عشرة أحاديث خلطوا أسانيدها، فقرأوها على البخاري حديثًا حديثًا، وهو يقول: لا أعرف هذا الحديث؛ حتى أنهوا المائة حديث، ثم أعاد عليهم المائة حديث بخطئهم (أي حفظها بالخطأ لمجرد سماعها مرة واحدة) وأعادها مرة أخرى مصحَّحة؛ فأقرّوا له بالحفظ والفضل [وفيات الأعيان: 4/190].

ومما قيل أيضا عن سرعة حفظه وقوة ذاكرته أنه كان يطّلع على الكتاب فيحفظه من نظرة واحدة [سير أعلام النبلاء: 12/416]، كما كان عجيبا في حرصه على العلم حتى قال محمد بن يوسف “كنتُ مع البخاري بمنزله ذات ليلة، فأحصيتُ عليه أنه قام وأسرج (أي أضاء السراج ليكتب)؛ يستذكر أشياء يعلِّقها في ليلة ثماني عشرة مرة” [تهذيب الكمال: 3/1170].

وعندما اجتمعت الذاكرة العجيبة مع الانضباط الشديد بالمنهج العلمي والجلَد في الارتحال لطلب الحديث، كانت الثمرة بظهور أهم كتب الحديث وأصحها المعنون بـ”الجامع الصحيح المختصر من سنن رسول الله وأيامه”، فلم يقتصر جهد البخاري في صحيحه على جمع الأحاديث الصحيحة وتمحيصها، بل برع أيضاً في إبراز فقه الحديث واستنباط الفوائد منه.

ويبلغ عدد أحاديثه مع المكررات 7275 حديثًا، وبحذْف المكررات ينخفض العدد إلى أربعة آلاف حديث صحيح. وقد قال الإمام النّووي “اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز الصّحيحان: البخاري ومسلم، وتلقَّتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صحَّ أن مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث”.

ولم يبلغ كتاب البخاري هذه المنزلة عند العلماء والنقاد إلا لحرص مؤلفه الشديد، حيث اشترط البخاري شروطا دقيقة أثناء اختياره الأحاديث، فعلى الرغم من حفظه  لعشرات الآلاف من الأحاديث لم يصحح منها إلا أربعة آلاف كما ذكرنا.

وإذا أردنا تبسيط شروطه قلنا إنه اشترط أن يكون الراوي الذي يروي الحديث قد حاز أعلى درجات الحفظ والإتقان وسمع الحديث من شيخه مباشرة، فكان شديدا في التحقق من اتصال السند وسماع الرواي من شيخه.

قال إمام الحرمين الجويني: “لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولا حنثته، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما” [صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح، ص 86].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن” [مجموع الفتاوى: 18/74].

ومن شدة حرصه، قال البخاري إنه بعد انتهائه من دراسة كل حديث على حدة للتحقق من موافقته للشروط، كان يغتسل ويستخير الله ويصلي ركعتين قبل إضافته للكتاب، وعندما أنهى هذه المهمة الجبارة قال “صنَّفت الجامع من ستمائة ألف حديث، في ست عشرة سنة، وجعلته حُجَّة فيما بيني وبين الله” [مقدمة فتح الباري، ص513].

ونظرا للأهمية الاستثنائية التي يتمتع بها كتاب البخاري في المكتبة الإسلامية، فقد تعرض أكثر من غيره للنقد من قبل الإسلاميين وخصومهم على حد سواء، فأجمع الفريق الأول على منحه المرتبة التي يستحقها لما يتمتع به من المصداقية والالتزام بشروط الصحة والضبط، بينما تتردد منذ القرن الماضي شبهات كثيرة على يد المستشرقين وغيرهم بشأن صحة أحاديث هذا الكتاب، وفيما يلي إيجاز لأهم هذه الشبهات ومناقشة سريعة لها:

الطفل جهاد المالكي لم يمنعه فقد البصر من حفظ القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن الأربعة وكتبا أخرى كاملة.

1- يقال إن البخاري عندما جمع أحاديث كتابه لم تكن أصوله (مراجعه) متوفرة بين يديه، ما يشكك في صحة ألفاظه، لكن المؤرخين الذين وثقوا سيرة البخاري أجمعوا -كما ذكرنا- على نبوغ وعبقرية هذا الرجل وقدرته الاستثنائية في الحفظ وقوة الذاكرة، وهذه الموهبة على ندرتها ليست مستحيلة، فقد كان أئمة آخرون مثل الشافعي وابن تيمية يتمتعون بمثل هذه الموهبة، بل نجد مثيلا لها في عباقرة معاصرين يمتلكون قدرة عجيبة على الحفظ والتذكر بالرغم من حداثة السن، وربما أيضا كانوا من فاقدي البصر، كما يتمتع البعض بما يسمى بالذاكرة الفوتوغرافية التي تمكنهم من تذكر أدق التفاصيل بنظرة واحدة.

يعد الشاب البريطاني ستيفن ويلتشير من أشهر العباقرة المعاصرين الذين يتمتعون بالذاكرة الفوتوغرافية، حيث يمكنه أن يحفظ تفاصيل أي شيء ينظر إليه من مرة واحدة، فعلى سبيل المثال تمكن من رسم لوحة مفصلة لأربعة أميال مربعة من مدينة لندن، بكل ما فيها من تفاصيل المباني وحتى عدد نوافذها وطوابقها، وذلك بعد رحلة بطائرة مروحية واحدة فوق تلك المدينة.

2- يستشهد بعض النقاد اليوم بالنقد الذي سبق أن طرحه بعض أئمة الحديث لصحيح البخاري، مثل الدارقطني في كتابه “الإلزام والتتبع”، كما ضعّف الشيخ الألباني في عصرنا الحديث بعض أحاديث البخاري، لكن اتفاق معظم الأئمة في مختلف العصور على صحة الكتاب لم يكن نابعاً من تقديس لشخص البخاري، بل نتيجة لتمحيص كتابه وإعادة التدقيق في كل ما جمعه ورواه، وقد أجاب الإمام ابن حجر في مقدمة “فتح الباري” عن الأحاديث التي تعرضت للنقد وبيّن صوابية تصحيح الإمام البخاري لها.

وجميع الانتقادات الموجهة لصحيح البخاري تتعلق بالأسانيد ورسومها أو ببلوغ درجة أصح الصحيح، أو تتعلق بكلمة أو كلمتين من الحديث، وهي لا تتجاوز العشرات من بين أكثر من سبعة آلاف حديث، أما الانتقادات المتعلقة بأمور تؤثر في صحة المتن فلا تتجاوز الثلاثة أحاديث.

3- ينتقد البعض اعتماد البخاري على رواة لم يحققوا شروط الصحة المطلوبة، لكن ضعف راوٍ ما لا يعني بالضرورة أن كل أحاديثه ضعيفة بالمطلق، بل قد يكون فيها ما يصح إذا حقق شروط الصحة، فقد كان البخاري ينتقي من أحاديث الرواة الضعفاء ما كان قويا ويورد له شواهد من رواة آخرين ليرتفع إلى درجة الصحيح.

4- يروّج مستشرقون وباحثون معاصرون فكرة وجود بعض الأحاديث التي تخالف العقل في صحيح البخاري، لكن فهم سياق تلك الأحاديث أو حملها على محمل المجاز قد يرفع عنها صفة التعارض مع العقل، لا سيما وأن العرب اشتهروا بالمجاز وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أفصح العرب.


أهم المراجع
جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق عزت علي عطية وموسى محمد علي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1980م.

عبد العظيم المطعني، الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية، مكتبة وهبة، القاهرة، 1999م.

أحمد عمر هاشم، دفاع عن الحديث النبوي، مكتبة وهبة، القاهرة، 2000م، ط1.

محمد محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة، مكتبة السنة، القاهرة، 2007م، ط2.

جمال الدين القاسمي، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، دار العقيدة، القاهرة، 2008م.

مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، دار السلام، مصر، 2006م، ط3.

نور الدين عتر، السنة المطهرة والتحديات، دار المكتبي، سوريا، 1999م.