مقالات

بناء الأسرة بين الكمال وغسيل الأدمغة!

كتبت قبل عدة سنوات عن وهم الشريك المثالي في محاولة لتوضيح دوافع الزواج والعوائق المتعلقة بالاختيار الصحيح، وقد بيّنتُ أن شريك الحياة حريٌّ به أن يقيَّم من منظور الزواج المثالي والعيش المتوافق، فكل من الزوجين مكمِّل للآخر بطبيعة الحال، فالغاية السامية كانت وما زالت هي التوفيق بين الأزواج وتوسيع دائرة التفاهم لحياة ممتدة بالرضا والسعادة.

بالرغم من هذا فإن ذلك لا يعني بالضرورة وجوب وحتمية نجاح الزواج في أول تجربة لكي نتجنّب الانفصال، كما أنه لا يعني أن الزواج المثالي قد يغني عن تكرار التجربة، وبالطبع فإنه لا خلاف على هذا شرعًا، ولكن المشكلة هي في غسيل الأدمغة المستمر.

المبادئ المنسيّة

على العموم فإنه من الملاحظ أن مبادئنا أصبحت أشبه بالمثاليات والشعارات التي تظهر وقت الحاجة فقط لكنها تختلف عمّا حُفِر في عقلنا الباطن خصوصًا وتوافقه أفعالنا وألسنتنا على نحو واضحٍ عمومًا، وها أنا أجد في نفسي الحاجة الملحّة اليوم للخوض في هذه الأسباب وعواقبها التي حدت بالمجتمع إلى جملة من المشكلات المتلاحقة كتغيير مفهوم الزواج بما فيه من طبائع بشرية متغيرة إلى مؤسسة قائمة على الشراكة الوردية، وقل مثل ذلك عن أمور تالية كتحقير الطلاق ومؤسسة الزواج الموحد “مونوغرامي” وبغض تعدد الزوجات.

لنتساءل بداية: كيف زُرِع مفهوم الشريك “الوردي” في عقولنا؟

إن الأمر باختصار شديد، البداية كانت في صُنعِ تصوُّرٍ إعلاميٍّ -عبر الأفلام والمسلسلات القديمة- عن روعة هذا الشريك بمجرد ذكر الزواج، والتركيز على إحدى صفاته الأساسية وهي الحب والهيام والعطف المغرِق، وما دامت هذه الصفة موجودة ومطلوبة بطبيعة الحال لديمومة الزواج، فإن الجيل القديم (الناشئ حينها) لم يجد حرجًا في سماع الأشعار وقصص العشق والأغاني على مر السنين، على افتراض حسن النية طبعًا.

إلا أن الأمر تطور إلى قولبة هذا الحب على هيئة صور رمزية وتمثيله في كلا الجنسين، من حيث الحسن والجمال، ومن ثم تحرّكت الصور وتجسّد الحب في شريكين جميلين يعيشان قصة حب طاهرٍ يتكلّل دائمًا بالزواج والحياة السعيدة المديدة والكلام والخجل والغزل والنظرات وغيرها من الأفعال التي سحرت القلوب وأغوت العقل منذ الصغر بوجود قرين في الحياة من الإنس بَهِيُّ الطلعة لابد أن ترتبط به وتنتهي بعدها القصة لأن النتيجة محسومة، ثم يكون -كما في المثل الشهير- (عاشوا في سبات ونبات وخلّفوا صبيان وبنات).

بعد حين من الزمن –أي حين تشبّعت الأنفس فكرة الحب المرتبط بحسن المحبوب-، بدأت تُدَسُّ الخلافات في قصص جديدة بين الأحباب، ويتوجّس المشاهِد، هل ما يراه هو الحبيب أم الخائن، مع توجيه الوعي الداخلي نحو فكرة احتمال تعثر الارتباط الدائم في حال غاب التعارف قبل الزواج، لذلك كان لابد من الاختبارات لقطع الشك باليقين فلم نعد نسمع العبارة المستهلكة (أنا قصدي شريف). وهذا يعني أن الحياة السعيدة المديدة كما وثقها الإعلام المرئي والمسموع على حد سواء، مرتبطة بأحداث العشاق من إثباتات مادية وتضحيات عائلية وتنازلات أخلاقية وتبديل ديانات –وربما- محاولات الانتحار!

تدرُّج الغواية!

دعني أمرّ سريعًا على عدة أمثلة لتوضيح وإثبات ما ذكرته أعلاه من تحوير مقاصد الزواج وحصرها في البحث عن الشريك المثالي وتداعيات الحصول عليه:

غنَّى أحدهم في الثمانينات قائلاً:

ياريت تعرف شو بصرلي … لتطل قبالي شي طلة

ها العقدة صار بدها حل … وصار لازم روح أحكي فيها

وبعد مرور أكثر من عشرين عامًا، غنّت إحداهن قائلة:

خليني شوفك بالليل … الليلِ بعد الغروبِ

مش عيب “الملأى” بالليل … الليل بيستر العيوبي

أرأيت هذا التدرُّج؟

في الثمانينات، كانت المعضلة الرئيسية أمام زواج الأحباب في المسلسلات الدرامية هي الخلافات العائلية واختلاف الوسط الاجتماعي، وقد شاهدنا ذلك في كثير من المسلسلات مثل “الشهد والدموع”، “ليالي الحلمية”، و”المال والبنون”، أما الآن؛ فإنّ الزواج ذاته غير مهم بقدر ما هو مهم أن يكون الحبيب عاشقًا، حتى لو أحبّ المرء زوجة عمه مثلًا أو خيانة الحبيبة بمعاشرتها أخا الحبيب وهو المتزوج أصلًا إلا أنها تغويه لتستدرجه، كما عُرض ذلك في العديد من المسلسلات المدبلجة والعربية -للأسف-.

في أفلام الثمانينات: يحب الرجل ابنة رئيس العصابة إلا أنه شرطي، أو تحب الفتاة الفقيرة الابن الغني صاحب النسب والحسب ويحبها رغم الفقر والتشرّد، لتكون النهاية السعيدة في هذا النمط بالزواج.

لننظر الآن في أفلام اليوم: أزواج متنافرة لا تعدم كثرة العشيقات والعلاقات المحرّمة السرية أو العلنية، وقد تأتي هذه الأحداث على هامش الفيلم كجزء من الواقع المحيط وليست في الأصل الحبكة الفنية لقصة الفيلم.

أين الخلل؟

لعل تحديد الخلل المفصّل قد يحتاج لمؤلفات وشروح طويلة، إلا أن الخلل بمظهره العام في استساغة المجتمع للعبثية الأخلاقية الموجهة في تفكيك الأسر، -كما أشرت أعلاه من واقع العرض المؤسف- هو الطَّرْق المتواصل والمتزايد في الحدة، حتى إذا ما تأصّلت الفكرة في النفوس واعتادها المشاهد وأعادها في حياته إلى أن رآها طبيعيّة بوجهٍ ما، اختلفت المطرقة واختلف موضع الطَّرْق، إلى أن تأخذ عقولنا بعد حين من الزمن شكلاً غريبًا، لا يضع قِيم الزواج وأهدافه ومسؤولياته نصب الأعين مثلما يفعل للحب، وفي الوقت ذاته يرفض أمورًا عديدة في هذا الزواج، لعل أبرزها الطلاق والتعدد، وربما الحديث في حقوق الزوج ومفهوم الطاعة فيما أمر الله.

إن الطلاق يعارض النظرية المدسوسة للحياة المديدة السعيدة مع الحبيب الأول، كما أن التعدد يعارض النظرية الأخرى للقرين المخلوق لأجل المحب. والنتيجة المستقبلية أن مجتمعاتنا لن تختلف عن المجتمعات الغربية التي منعت قوانينها الطلاق والتعدد، وحينما اختلف الأزواج تعددت الخيانات واختلطت الأنسال.

إن المشكلة الأكبر ليست في نتائج غياب هذه القوانين، بل في تسهيل تعارف وتقارب الجنسين قبل الزواج (مثل الدراسة المختلطة) كوسيلة لتجنب النتائج السيئة السالف ذكرها، فكانت الطامة الكبرى بانحراف المراهقين وتعدد العلاقات الجنسية، والحمل المبكر خارج مؤسسة الزواج، وانتقال الأمراض الجنسية …إلخ. وما زالت الحلول تقترَح لتصبّ في الاتجاه ذاته، من خلال إقرار مواد تعليمية للجنس في مرحلة مبكرة لتثقيف النشء وتوعيته بالاحتياطات اللازمة لمنع الحمل وانتقال الأمراض الجنسية حال تعرفهم على الجنس الآخر.

سؤال لا بدَّ منه!

واليوم نسأل: كيف لمجتمع شرقي أصبح يقدس الحب قبل الارتباط الشرعي وينبذ الطلاق والتعدد بشكل عام، أن يختلف في كيانه عن المجتمع الغربي ومشاكله؟

الطلاق والتعدّد، أباحهما الشرع –بشروط- كأدوات إصلاح في ردء كيان المجتمع ودرء المفاسد عنه، وذلك تماشيًا مع ضوابط الدين في تنظيم حدود العلاقة بين الجنسين خارج مؤسسة الزواج ومحارم العائلة.

هذه الضوابط وجدت لتدعم أدوات بناء أفراد المجتمع وتهيئتهم لتأسيس زواج ناجح، كالتحلي بصفات الأدب والعفة والمروءة ومكارم الأخلاق، والاعتماد على النفس، والتراحم واحترام الآخرين وودهم ومعاونتهم وتقدير عونهم، والصدق ومهارات التواصل وغيرها. الأصل هو التركيز على أدوات البناء، فما أحسنت بناءه، قلَّت أعطاله. ولكن في حالة التقصير في بناء الأفراد وتعريفهم بمسؤوليات الأزواج، سينجم عن التطبيق الصارم لهذه الضوابط الدينية، اختلافات فردية في الزواج تتطلب تدخل أدوات الإصلاح. والعكس صحيح، في حالة الإخلال بضوابط الدين، قل تركيز الأفراد على أدوات البناء، وزادت فرص استخدام أدوات الإصلاح في الزواج. بمعنى آخر، تتضاءل احتمالية اختلاف زوجين تشاركا أدوات البناء ذاتها، وأي شذوذ عن هذه القاعدة، تتكفل دائما بتصحيحه أدوات الإصلاح، إما لخلق فرص جديدة بإعادة ربط الأفراد الصالحة أو تدعيم مؤسسة الزواج بفرد صالح جديد. هي منظومة متكاملة لتنمية مجتمع يعتمد على الزواج المثالي في تثبيته الترابط وخلق بيئة صالحة وصحية أخلاقيًّا لتربية لجيل القادم.

“عروض زواج رومنسية” و”أمهات عازبات”.. كيف تسربت إلينا هذه العادات؟

“المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب”، بهذه العبارة الشهيرة يلخص لنا ابن خلدون واقع مجتمعاتنا اليوم، وسواء اتفقنا مع ما جاء في مقدمته أو اختلفنا، فإن لهذه العبارة نصيبها من الصحة.

بيد أن مشكلتنا لا تقف عند حدود التقليد، فالمقلد إنما يأخذ بإيجابيات وسلبيات من يقلده، يأخذه عنه حزمة كاملة، بينما تجاوزت مجتمعاتنا مرحلة التقليد لتنجب لنا نسخًا مشوهة لا تشبهنا، تسيّرنا ولا نسيّرها، وإن كانت الدهشة التي حكمت أفعال الشبّان الذين زاروا الغرب سابقا وتأثروا بنظرياته وعاداته ونقلوها بقدّها وقديدها إلى أوساطهم في بلدانهم الأصلية، إن كانت تلك الدهشة تقتصر عليهم وعلى فئة قليلة، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تكفلت بإيصالها لجمهور أكبر حين سهّلت دخول هذه النظريات والعادات إلى بيوتنا عبر شاشات صغيرة، ووجدنا أنفسنا أمام عادات لم نكن نعرفها بداية ثم تتطبعنا معها ولم نعد نرى في سنّها ضمن عاداتنا أي غضاضة.

والحديث هنا ليس عن العادات التي ترافق فرحًا ما مثلًا، مما لا يختلف مع معايير ديننا ومجتمعنا، إنما عن عادات وظواهر متأصلة في الغرب ورؤيتنا لها بعين واحدة، فلا يمكن أن تمرّ أيام حتى يعرض لنا مما يعرض في فيسبوك مثل فيديو رومنسي عن شاب تقدم لخطبة فتاة محمّل بالورود وبخاتم يجعل الفتاة تبكي فرحًا، ثم تفتح التعليقات لتجد دعوات عريضة من الفتيات للشباب ليقتدوا ويتعلموا الرومانسية وحسن التعبير، من غير أن تنقل لنا الصورة المخيفة القابعة خلف هذه الرومنسية وعن المرارة التي تعانيها المرأة بعد علاقة محرمة لتنهي رحلتها المشتتة وغير المستقرة بالزواج، الزواج الذي يسعى إليه شبابنا ابتداء بالخطبة والعقد، وقبل أي علاقة محرمة تستهلك المرأة وتستنزفها، خصوصًا إن رافق العلاقة حمل غير شرعي، لتحمل المرأة أعباء الطفل فوق أعبائها، وقد ناقش الأستاذ إياد قنيبي هذه الظاهرة ضمن سلسلته على اليوتيوب رحلة اليقين.

طلاق وردي
ولما كانت بدايات رحلة الزواج الغربية محط إعجاب، كان من المنطقي أن تكون رحلته ونهايته على خطى غربية أيضًا، فما زالت مجتمعاتنا تغلف كلمة “طلاق” بهالة كبيرة ولا يمكن لوقع الحياة المادية التي سهّلت أمور الطلاق وصعبت أمور الزواج أن تنزع هيبة الكلمة ووقعها على من خاض التجربة رجلًا كان أو امرأة، لكنها استطاعت أن تخفف تلك الهيبة وأن تجعل باب الطلاق من أوائل أبواب الحل المقروعة.

فلم يكن معروفا لدينا مثلا ما يسمى “بحفلات الطلاق”، والتي تتشابه مع حفلة “وداع العزوبية” تبتدأ الرحلة بها وتعلن الثانية نهاية الرحلة، ولست أدري أي حالة نفسية تعيشها المرأة التي تُقدم على مثل هذه الخطوة حين تُقلب الموازين ويصبح الطلاق من مدعاة لأن يعيد الإنسان حساباته إلى مفاخرة واحتفالات.

وأتساءل كيف تقضي المرأة المحتفلة مع أقرانها ليلتها بعد أن ينفض عنها الجمع؟ صحيح أن طلاق المرأة الراضخة تحت ظلم زوجها يكون خلاصًا، وكذلك الرجل الذي تعرض لظلم من زوجته، إلا أن الأمر مع ذلك يستدعي مراجعة الحسابات ويعني فشل الإنسان في مرحلة ما، ولا يستدعي الفرح البتة خصوصًا إن نتج عن هذا الزواج أولاد.

أمهات عازبات
اصطُلح مؤخرًا على إطلاق لقب أم عازبة على النساء اللواتي يربين أطفالهن في غياب كامل لأب الطفل، وغالبا تطلق التسمية على الأمهات اللواتي أنجبن خارج إطار الزواج، إذ تشير التقارير التي قدمتها الباحثة التونسية سامية محمود المختصة في علم الاجتماع على أن عدد الأمهات العازبات يبلغ حوالي 1060 أم كل سنة في تونس وأن هذا العدد يشهد ارتفاعًا ملحوظًا سنويًا، وأثبتت الباحثة أن أعمار الأمهات العازبات تتراوح من 15 إلى 24 ، ومعلوم أن هذه الإحصائيات لا يمكن أن تغطي كل الحالات ما يلزم ضرورة أن تكون الأعداد أكثر من المعلن عنه، وفي المغرب هناك ولادتان غير شرعيتان بين كل خمس ولادات شرعيّة[1].

ويقدّر عدد الولادات التي تمت خارج إطار الزواج بـ 153 مولود يوميًا[2]،  كما تشير التقارير إلى أن نسبة الأطفال المولودين خارج إطار الزواج في بريطانيا بلغت 47.5 بالمئة عام 2012[3].

والحديث عن الحقوق التي تمنحها الدول الأوروبية للأمهات العازبات هو حديث عن جانب حقوقي وإغماض عين عن الجوانب الأهم، فاعتبار الحقوق المادية على أنها غاية إنسانية نبيلة هو عين الظلم للطفل الذي لا تقف حاجته عند حد الاعتراف به أو منحه وأمه راتبًا شهريًا، فالواقع يثبت أن القوانين التي توضع للتدخل في العلاقات الاجتماعية “الأسرية مثلًا” تهدم أكثر مما تبني، وفي أحسن الأحوال تقدم حلولًا تقتصر على الماديات.

زواج القاصرات وزنى القاصرات
ما الذي يمكن أن يحدد جاهزية الفتاة أو الشاب للزواج؟ وهل يعقل أن تكون قدرات الشباب متكافئة؟ فإن سألنا متى يحق للإنسان أن يأكل كان الجواب المنطقي حين يجوع، ومتى يحق للإنسان أن يشبع حاجته الجنسية؟ فالجواب حين يشتهي، وهو سن التكليف في الإسلام، فالأمر إذا ليس لإشباع رغبة فحسب بل هو سن يحاسب الإنسان على كل أفعاله فإن قتل قُتل وإن سرق قُطع، وإن باع أو عقد نفذ بيعه وعقده، طالما أنه مكلّف أي بالغ، فإن كان الأمر كذلك في العقوبات والتكاليف بمعنى أنه يملك زمام أمره ذكرا كان أو أنثى فإنه يستطيع تحمل تبعات مسؤولية الزواج وتكوين أسرة.

والكلام عن تجريم زواج من هم في سن صغيرة هو حديث قاصر عن الإحاطة بكل جوانب الإشكالية، فلو كان الأمر مواكبًا للطبيعة الإنسانية لما شهدت المجتمعات الغربية خصوصًا تزايد عدد الامهات العازبات واللواتي قد يصرن أمهات وهن في عمر المدرسة، أي في عمر الرابعة عشرة، الأمر الذي دفع بعض المدارس في الولايات المتحدة الأمريكية لإنشاء حواضن خاصة بالأمهات الطالبات.

ولا يقف الأمر عند حدود إنجاب طفل من علاقة غير شرعية لتكون مشكلة فردية، فالحديث هنا عن أب تخلى عن مسؤوليته تجاه طفله، وعن أم تضطر للعمل في مجالات ربما لا تناسبها لتلبي حاجات الطفل، وفي ظل هذا التخلي يُدفع بالأطفال إلى هاوية التشرد والعوز.

إذن نحن أمام حقيقة تتلخص بما يلي: رفع سن الزواج عند الشاب والفتاة لا يعني أنهما سينشغلان بتعليمهما ويصرفان النظر عن  تلبية تلك الحاجة، وتعسير أمر الزواج يعني ضرورة تيسير أمر الحرام، فإما زواج وأبناء تحت مظلة هذا الزواج، وإما زنى وأبناء لقطاء قد ينتهي بهم المطاف في عالم التشرد والجريمة إن لم يجدوا من يأخذ على أيديهم.

فإن قلنا إن المعايير اختلفت وشباب وبنات مجتمعنا اليوم غير قادرين على حمل المسؤولية كما يجب، قلنا إن مرد ذلك عائد للتربية التي ينشأ بها الشاب والفتاة داخل العائلة، فالعائلة هي مربط الفرس إن قام الأب بدوره وقامت الأم بدورها من تغير تنازع بينهما، فإن قيل إن أمور الزواج لا تتعلق فقط عند الوعي بالمسؤولية بل إن الأمر يكاد يكون ماديًا صرفًا، فالحق أن هذا مما أفرزته الأنظمة الرأسمالية التي قيّدت الشباب بقيد الوظائف التي تستهلك منهم عمرهم ولا يكاد الشاب يجد مقابل وقته ما يسد الرمق، ما يجعله غير مختار في موضوع تأخير زواجه، فإن كان ولا بد من هذا التأخير فلا يتجاوز سن الشباب.

عند إقرار الإنسان بوجود خالق لزمه ضرورة اعتقاده بما أقره الله لضمان صلاح حياته، فإنه إن خرج عن تلك القوانين التي سنّها الخالق، وطالت يده هذه القوانين تعديلًا واعتراضًا، لا بد أن يدفع فاتورة هذا الانحراف، سواء اعترفنا بهذا أم لا فإننا نجني عواقبه، والكارثة أن العواقب تشمل مجتمعا بأكمله.

والحديث هنا عن الآثار المجتمعية بصورتها العامة، فلا يمكن قياس حالات لأشخاص ينتمون لمنظومة دينية ولا يطبقون قواعدها لا يمكن اعتبارهم ممثلين عن تلك المنظومة، وسوء استخدامنا لجهاز كهربائي مثلًا لا يعني خطأ الشركة المنتجة، ويكفي ليعرف الإنسان أن ترك التعاليم الدينية التي وضعت لتنظيم علاقة المرأة بالرجل في الزواج والطلاق والأسرة وغيرها، يعني ضرورةً حرف المسار وحصد نتائج كارثية وقلبًا للمفاهيم، حتى أصبح الزواج المبكر جريمة حتى لو تم برضى ووعي من الطرفين، والعلاقات خارج هذا الإطار حضارة، ناهيك عن اعتبار زواج الشواذ حرية ونقده جريمة، لنحصد اليوم نتاج هذا انهيارًا أخلاقيًا مريعًا سيزداد سوءًا كلّما ابتعدنا عن شريعة الفطرة واقتربنا مما يوفد إلينا، “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”؟


[1] تقرير نشره موقع BBC بالعربية، https://cutt.us/P1q0P 

[2] دراسة نشرتها جمعية “إنصاف” عام 2011م غير الحكومية بالتعاون مع الأمم المتحدة، ولتقرير نشرته وكالة الأناضول  https://cutt.us/r4Hox .

[3] موقع BBC بالعربية https://cutt.us/.

ماذا لو طُبِّق حديث: “لا يفرك مؤمن مؤمنة”؟

عندما يبحث الرجل عن شريكة حياته، فإنه يمر من أجل ذلك بمراحل، أولها الرؤية الشرعية أو ما يوازيها، وفيها إما أن يحدث قبول نفسي للطرفين فينتقلان إلى مرحلة الخطوبة أو يجدان ضيقاً فتنتهي العلاقة قبل أن تبداً، وإذا كان أساس الرؤية الشرعية القبول النفسي فأساس الخطوبة القبول العقلي، ويحصل تبعاً لما يجري بينهما من نقاشات، تكشف لهما أفكار وآراء وطباع بعضهما، ولكن مثل الخطوبة كمثل كشّافٍ وجهته إلى نفقٍ ضخمٍ، فإنه يجعلك تبصر شيئاً ويخفي عنك أشياء، فترى الصورة العامة وتغيب عنك التفاصيل الدقيقة، فمهما أعمل أحدهما عقله فترة الخطوبة فلن يكشف جميع طباع وأخلاق وأفكار الطرف الآخر، ولكنها ستعطيه فكرةً عامةً عنه إن أعمل بها عقله وعطّل بها قلبه.

وبقدر ما يسعى الطرفين إلى كتم مشاعرهما فترة الخطوبة، بقدر ما تنفجر مشاعرهما وعواطفهما عند عقد الزواج، فهي مرحلة الحب والأحلام الوردية، وبها يجعل العاقدان لبعضهما البحر طحينةً! ويبدأ الاقتراب النفسي والجسدي، وينتهي عصر استخدام العقل! فكما قيل: “الحب يعمي ويصم”، فيرى المحب كوارث محبوبه هفوات، وهفواته حسنات، وحسناته معجزات!

فتكون علاقتهما ببعضهما كعلاقة الأم بولدها لا تراه إلا خير خلق الله، فأما حسناته فهي تصدر منه، وأما سيئاته فهي تُكاد عنه!

وقد أظهر العلم أن جسد العاقدين يفرز خلال هذه الفترة هرموناً يجعلهما لا يريان سوى إيجابيات وكمالات بعضهما وهو الهرمون ذاته الذي يفرز لدى الوالدين في علاقتهما مع أولادهما.

ولكن الحياة ليست بهذه اللطافة والوداعة وإنما يحكم الفرد فيها واجبات ومسؤوليات ويتخلل رحلة السير بها ضغوط ومشاق وصعوبات، لذلك فإن الحب والحياة الوردية يتنحيان جانباً عند الزواج وتبدأ المسؤولية تحكم! فيناط بكلا الزوجين واجبات عليهما الإتيان بها ويصبح لكل منهما حقوقاً على الآخر أن يؤديها له.

ولا نقصد بذلك أن الحب يذهب أدراج الرياح، بل هو يزداد ويتنامى مع الوقت، وإنما الذي قصدناه هو أن كلا الزوجين ينظر إلى الأمور بعين العقل، فيصبح أكثر واقعيةً في التعامل مبتعداً عن خيالات الشعراء التي كانت تجول عقله عند العقد!

وخلال هذه الفترة ومع طول المعاشرة تبدأ عيوب الطرف الآخر بالظهور، فما كان مخفياً صار اليوم ظاهراً، وما كان يُبرر له أصبح اليوم يُعاقب عليه! فتبدأ المشاكل والمنغصات من حينٍ لآخر، وتُكرر الأخطاء إذ كل منهما قد طُبع على نقصٍ يجاهد نفسه على تركه ولكنه لا يلبث أن يعود إليه، فهاهنا يأتي التوجيه النبوي الذي يريد للعباد خيراً ولحياتهم أمناً، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر” [رواه مسلم].

فلا ينبغي للزوج أن يبغض زوجته لطبعٍ كرهه فيها، بل يغض الطرف عنه مصوباً بصره نحو طباعها الحسنة، ورغم أن الحديث موجه للزوج إلّا أنه يشمل كلا الزوجين، ونعتقد أنه جاء بهذه الصياغة لأن كره الزوج قد يؤدي إلى الإضرار بها بتنغيصٍ أو شتمٍ أو ضربٍ أو طلاقٍ، ولأن الرجل يحكمه عقله أكثر من عاطفته فلا تشفع لها محبتها في قلبه لتجاوز أخطائها، بينما تغلب على المرأة عاطفتها فتشفع له محبته في قلبها لتجاوز أخطائه.

ومن لطائف الحديث أنه وصف الزوج والزوجة بالإيمان، وكأن في ذلك تنبيه للزوج بأنه يكفي الزوجة إيمانها لترضى عنها وتصبر على هفواتها وتعينها على تصحيح أخطائها، فتسيرا معاً في طريق الإيمان متحابين في الله تجاهدان نفسيكما على رعاية حق الله فيكما، فجاءت هذه الكلمة في هذا الموضع مهدئةً للنفس مريحةً للبال مطفئةً للغضب.

ولأن الإسلام دين كامل ذو منهج متكامل، فإنك لن تستفيد منه إن أنت أخذت بعضه وألقيت بعضه الآخر وراء ظهرك، وعملت بما وافق هواك وألغيت ما خالفها، وانقدت لما فهمت مغزاه وأدبرت عما لم تدرك حكمته، ومثال ذلك أنه يصعب جداً أن يستفيد من هذا الحديث من عطّل عقله وأعمل قلبه في فترة الخطوبة غافلاً عن تعاليم الإسلام في أن تكون هذه الفترة للتقييم العقلي فقط بعيداً عن أي عاطفة أو مشاعر، والسبب في أنه يصعب عليه الاستفادة منه هو أنه قد يكون فيها طباعاً يستحيل عليه احتمالها أو تكون سيئاتها تفوق حسناتها بمراحل أو أنها منافقةً تظهر إيماناً وتبطن كفراً، أو أنها مسلمةً ولكن لمّا يدخل الإيمان إلى قلبها! وكل ذلك كان يمكن أن يظهر له في فترة الخطوبة سواء ظهر له واضحاً أو بعد طول نظرٍ وفكر ولكنه كان مخمور العقل معمي القلب!

كما لا يمكن لزوجين أن يستفيدا منه إذا كان لا يعاشر الزوج زوجته بالمعروف فيرعاها ويحفظها وينفق عليها ويكرمها، وإذا كانت الزوجة لا تطيع زوجها بل تجعله نداً لها، ولا يجد منها حفظاً لنفسها وماله وأولادهما، فكيف يمكن ألا يبغضا بعضهما وتضيق نفوسهم وتجف منابع الحب في قلوبهم، وكل منهما قد نسي ما لغيره من حقوقٍ عليه متجاهلاً ما شرعه الله من أحكام في حق الزوج على زوجته وحق الزوجة على زوجها.

لذلك ها قد أوصلتكم إلى بداية الطريق، طريق الله الذي أنزل علينا شريعة، وأمرنا أن نلتزم بها ونأخذها كلها، وأن ندعوه في صلاتنا كل يوم سبعة عشر مرة -على الأقل- ألا يجعلنا من المغضوب عليهم وهم اليهود الذين علموا الحق ولم يعملوا به، بل ألقوه وراء ظهورهم، وجعلوا يمدون أيديهم إلى وراء ظهورهم فيأخذون منه ما يوافق هواهم ويتركون ما لا يروق لهم، وكل من كان هكذا حاله فقد حل عليه غضبٌ وسخطٌ من الله، فإما أن يستمر بذلك وينتظر هلاكه أو فلينته وينتظر رحمة الله القريبة من المحسنين.