هل يمكن للفنّ أن يتجاوز التحيّزات؟
للفن صلة وثيقة بتاريخ الإنسانية منذ العصور القديمة، سواء كان في صورة مناظر طبيعية مرسومة أو منحوتة، فالفن المرئي أو المسموعُ يمس حياة الناس بطريقة أو بأخرى، ويعدّ الفنّ -في تاريخ البشرية- شكلاً من أشكال المقاومة أو التعبير عن الكوامن الإنسانية، لما له من تأثير كبير في حياة الإنسان والمجتمع.
إن جمال الفنّ يزداد عندما يذكّر الإنسان بالمغزى من وجوده، إنه إذ ذاك يبعد عنه الترهل بكل أشكاله ويجعله يواجه الواقع بكل ما فيه من تحديات، وهذا يفرض على الإنسان عن أن يجيب عن الأسئلة الآتية: لماذا نرسم؟ ولمَ ننتج الفنّ؟ ما الهدف منه، بل ما هو أصلاً؟ هل هو إنتاج للأشكال ودمج للألوان؟ أم هو إيصال لمعنىً ما بطريقة لا كلام فيها ولا لغة محكية؟
الكيف وليس الكم
من أجمل ما كُتب عن الفن أنه “مرتبط ومعنيٌّ بالكيف، وليس الكم” ولذا فإنه لا يمكن قياسه بميزان الخضار، فالفن ليس عملية إنتاج بالمعنى الصناعي، إنما هو تفاعل داخليٌّ قد ينتج عنه تقويم أو تحريف للمادة والإنسان معًا.
إن الفنان الحقيقي هو من يعيش الفنّ وينحت أفكاره ووجوده وتطلّعاته بشكل متجرّد متجاوز لكل لغات العالم. وبالرغم من أن الفنّان له رؤيا خاصة وغير عامة للوجود، وأن الفن نابع من انطباعات شخصية في الغالب ولذا يكون متحيزًا لإنتاج فكرة ما، إلا أن مما يجعل العمل الفني الصادق مميزًا ومختلفًا عن طرق التعبير الأخرى أنه شامل التأثير في كل من يتأمله بصدق.
أقتبس هنا من علي عزت بيغوفيتش قوله: “الفن هو اﻹبداع، أي النشاط اﻹبداعي بحد ذاته، واﻷخلاق هي النية المنعقدة في القلب، وهي التي تمنح العقل قيمته الحقيقة حتى لو كان محاولة فاشلة أو تضحية لم تصل إلى نتيجة. فإننا عندما ننحي جانباً كل ما هو عرضي وغير جوهري في اﻷخلاق والفن والدين، إذا اختزلناها إلى جوهرها فحسب، فسنجد اﻹلهام والرغبة والنية، أو في كلمة واحدة مختصرة “الحرية” هي المحتوى النهائي واﻷصيل. وهكذا فإن خلاصة اﻷخلاق والفن والدين واحدة، وهي اﻹنسانية الخالصة.” [الإسلام بين الشرق والغرب].
الفنّ لغة دفاعية

Source: Reddit – u/professorrigby
نرى في الصورة تعبير رمزي لصورة المسجد وذلك لتعزيز وجوده في الأذهان والتأكيد على أهميته. لولا تعمق صورة المسجد في أذهان الناس وارتباطه بمكان وسياق معين وهوية جمعية، هل كان بالإمكان إنتاج هذه الرسمة؟ والتي تأثر فيها الناس من حول العالم، لما تحمله من معنى شريف وراقٍ واضح الغاية والهدف.
إن أهمية هذه الصورة تنبع من قدرتها على تعزيز الهوية الجمعية حيث توضح هذه الرسمة أهمية وجود صورة في أذهان الناس ترتبط بهويتهم، وبالرغم من أن مفهوم الهوية معنوي غير ملموس –في الدرجة الأولى- ، إلا أن للارتباط بالهوية نتائج وظواهر يمكن تتبّعها بشكل منطقي، فيظهر لنا أن من أصل الهوية أن نتمسك بالمضمون والشكل معاً. فالتمسك بالمضمون دون الشكل قد لا يتمكن من الاستمرار بشكل مستدام ومتواصل وذلك لضعف النفس البشرية وكثرة نسيانها، فتحتاج لما يشجّعها ويذكّرها بالمعنى من الوجود. كما أن التمسك بالشكل دون المضمون يتلاشى وينهار مع التحدي الأول، ومن ثم ندرك أن كلاهما –الشكل والمضمون– مهم ومؤثر في النفس البشرية ولا يمكن تناولهما منفصلين عن بعضهما البعض.
الفنّ معايشةٌ للجمال
من المهمّ النظرُ والتفكير في الكيفية التي يتحول بها عنصر القهر إلى عنصر قوة، وذلك من خلال إعادة تشكيل بقايا الرصاص والألم وتحويله إلى عنصر جمالي يحمل رسالة سامية ومعنى يتفهّمه كل من لديه قلب. “اجلس واعمل على إنتاج الجمال، هذا غير ممكن. لكن يمكنك معايشة الجمال” هذا ما قاله المهندس الألماني فراي أوتو Frei Otto في مقابلته عند ترشحه لجائزة بريتزكر العالمية للعمارة، والذي توفى بيوم واحد قبل استلام الجائزة. يقول بالمقابلة: “يوجد عندي حلم واحد فقط، وهو أقدم حلم للبشرية في الزمن: حلمي هو الجنة”.(1)

فراي أوتو
هل لنا طاقة اليوم؟
من خلال تأمل عبارات هذا المهندس، نتأمل أن معايشة الجمال شيء وجداني لا يمكن إنتاجه ولا شراؤه ولا استهلاكه، بل يحتاج لوعي الإنسان ويحتاج مداومة التطلع لما هو سامٍ في الفكر والعمل والسلوك. فهذا المهندس يعمل بجد وإخلاص، حتى آخر أيام حياته يقول: “أنا لست متطلع للنوم، سوف أعمل كل يوم، وهذا هو الجمال. تعلمت من عائلتي مفهوم الجمال”.(2) ومع أننا لدينا الكثير من الأمثلة لشخصيات من تراثنا لتقول لنا مفهوم الجمال والإخلاص، وقد يتصور للبعض أننا لسنا بحاجة لسماع مواعظ ممن لا أولوية ثقافية لكلامهم، خاصة في عصر تمجيد الغرب والتقليل من شأن تراثنا. إلا أن كلمات هذا المهندس تنبض بإشكاليات وتحديات هذا العصر بالتحديد، وبالخصوص لمفهوم الجمال في عصر الاستهلاكية والصناعية وقلة وجود المعنى في الواقع العملي والمهني. فندرك أن مع وجود المعنى والغاية السامية.
علينا أن نقوم بواجبنا على أكمل وجه متسلحين بالإيمان الواعي الذي يفتح لنا آفاق الرؤية الإنسانية الشاملة والذي يدفعنا للمبادرة لتقديم منهج يكون له دورٌ فاعل في حضارة العالم في عصرنا، مدركين أن التبنّي الموضوعي للفكر والثقافة الإسلامية هو الطريق الأمثل الذي يجنّبنا الوقوع في التبنّي السلبي التابع لأعمال الآخر المنحازة ضد الإسلام ومبادئه وقيمه، وهذا الهمّ والسعي يبشّرنا بولادة ثقافة وفنّ مستمسك بأصوله، التي يؤدي الإسلام ومبادئه فيها دورًا فاعلاً فيها. فهل لنا طاقة بذلك؟ هنا نقول: بالتأكيد لنا طاقة، اليوم وكل يوم، بإذن الله وفضله.
- مقابلة مع المهندس فراي أوتو عند ترشحه لجائزة بريتزكر للعمارة. https://www.youtube.com/watch?v=VAGigUhA91U&t=1116s تبدأ المقابلة من دقيقة 14:20 إلى 18:35 من الفيديو.
- المصدر نفسه