تعود جذور الجمعيات السرية إلى عصور قديمة يصعب تتبعها، حيث يدعي بعض أعضائها اليوم انتسابهم لأنظمة وضعت أصولها منذ ما قبل التاريخ، بل يزعم آخرون -كما سنرى لاحقا- أن أول البشر آدم قد أسس بنفسه أولى جمعياتهم لتكون رديفا لسيرورة حياة البشر، وكأن هناك خطين متوازيين لا ثالث لهما يحكمان التاريخ، وهما مسار الحياة الظاهر بكل صراعاته وتذبذب صعوده وهبوطه، ومسار الأسرار الباطني الخفي الذي لا يزال يحتفظ بأسراره في أيدي “النخبة”.
وبما أننا نتحدث عن جمعيات تقوم على السرية والرمزية، وهي تعترف بذلك وتتشبث به، فنحن إذن أمام مادة غامضة للبحث، فليست هناك مصادر موضوعية أو أكاديمية يمكن الوثوق بها كما هو الحال في أي مادة أخرى تخضع للدراسة، وهذا هو السبب الذي يدفع الكثير من الجامعات لرفض مقترحات الطلاب بتقديم أطروحات علمية تبحث في الجمعيات السرية.
وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يُكتب عن هذه الجمعيات ضرب من التخمين، فالتحريات التي يجريها محققو البحث الجنائي والصحفيون الاستقصائيون لا تختلف كثيرا عن هذا النوع من البحث، حيث يمكن للباحث أن تجتمع لديه خيوط كثيرة تؤدي إلى حقيقة واحدة مهما كانت حريصة على التخفي. والعلم التجريبي نفسه يُسلّم بوجود الإلكترونات ومكونات الذرة الأخرى بالرغم من الاعتراف باستحالة رؤيتها لأنها أصغر حجما من الموجات المرئية، إلا أن آثارها في الواقع تدفعنا للاعتراف بوجودها.
وعليه؛ فإن الآثار التي تتركها بصمات الجمعيات السرية في الدين والفكر والسياسة والإعلام ومسار التاريخ وميادين كثيرة قد تدفعنا للجزم بحقائق ينكرها أتباع تلك الجمعيات.
أما من يؤمن بالوحي القرآني ويعلم أنه منزل من عند الله فسيجد أدلة أخرى تمنحه اليقين ببعض حقائق تلك الجمعيات السرية وأدوارها الخفية.
لماذا اللجوء إلى السرية؟ تتعدد التفسيرات والنظريات التي تحاول فهم طبيعة هذه الجمعيات وسبب لجوئها إلى السرية، وربما يمكننا إجمالها فيما يلي:
مردوخ
1- يزعم كثير من المؤرخين أن هناك فئة من الناس لجأت إلى السرية عبر التاريخ هربا من اضطهاد الأكثرية، وأنها أخفت طقوسها الدينية الخاصة بها لتحظى ببعض الخصوصية دون أن يكون هناك أي بعد تآمري للإضرار بالمجتمع. ومن الأمثلة التي يقدمونها لهذه الرواية لوح طيني اكتشف في بابل بالعراق ويزيد عمره عن أربعة آلاف سنة، وهو يتحدث عن عبادة سرية متفرعة عن العبادة الرسمية للإله مردوخ، حيث يقدم قصة أخرى لصراع الآلهة، ثم يصف طقوسا خاصة لأتباع هذه الجماعة السرية لتمثيل أدوار المسرحية التي تقام في عيد رأس السنة وتُجسد فيها صراعات الآلهة، ويختتم النص المنقوش بعبارة “إن المعاني الخفية لهذه الأفعال لا يجوز أن تقرأ من قبل الذين لم يدخلوا في هذه العبادة رسميا ووفق الطقوس المنصوصة”.
ويبدو أن تفسير هذا النص يختلف بسبب اختلاف المنهج نفسه كما أوضحنا في مقال “البحث في الدين“، فالمنهج الإلحادي الذي لا يعترف بوجود الغيبيات لن يجد في هذه الطقوس سوى تصرفات خرافية، أما من يؤمن بالوحي وبحقيقة وجود الجن والشياطين فسيرجّح ارتباط هذه الطقوس بالسحر.
وينبغي التذكير بأن بعض الطقوس والنصوص السرية قد تكون هي أصلا لب الدين نفسه، وليست مذهبا باطنيا منشقا عنه، أي أن بعض الأديان قائمة بذاتها على جوهر سري خفي، وأن كهنتها يظهرون لأتباعهم ما يريدون إظهاره فقط.
2- يزعم فريق آخر أن هناك فئة من الحكماء كانت تحتكر الحكمة الصحيحة التي لا يقدر العوام على فهمها منذ آلاف السنين، فاضطرت تلك النخبة لإخفاء وترميز علومها لحمايتها من التشويه والتحريف ومن الوقوع في أيدي الأشرار. ونجد تحت هذا الزعم عددا كبيرا من النظريات المتداولة عبر شبكة الإنترنت، ومنها مثلا أن النخبة كانت تحتفظ في حضارتي أطلنطس وراما الأسطوريتين بأسرار تكنولوجية أكثر تطورا مما نشهده اليوم، وكانت تستخدمها للتغلب على الجاذبية والسفر عبر الكواكب ورفع الحجارة العملاقة لبناء الصروح الهائلة مثل الأهرام وتشغيل الآلات بنوع خاص من الطاقة، ويقال إن هذه النخبة رمّزت علومها وأسرارها في طريقة بناء الهياكل والصروح التي بقيت قائمة حتى اليوم في مصر والهند وأمريكا الجنوبية والعراق، كي يتمكن أحفادهم بعد آلاف السنين من استخراج تلك العلوم والاستفادة منها، لا سيما وأن القدماء خافوا عليها من الاندثار بفعل الطوفان الذي حدث في عصر نوح وغيره من الكوارث.
ويجتهد أصحاب هذه النظريات في استخراج الرموز العميقة من تماثيل أبو الهول وإيزيس والمعابد العملاقة ومقارنتها بمعايير هندسية مثل النسبة الذهبية وبغيرها من الحقائق الفلكية والفيزيائية، كما يربطون بعض الاكتشافات المذهلة التي توصل إليها القدماء بكائنات فضائية يفترضون أنها هبطت إلى الأرض وأنها هي ذاتها كائنات الأنوناكي التي ذُكرت في الأساطير العراقية. ويذهب البعض إلى افتراض أنها كائنات من الزواحف نصف البشرية التي ما زالت تعيش على الأرض وتدير العالم في الخفاء، بينما لا يقدم أصحاب هذه النظريات أية أدلة علمية تربط “المشاهدات” المزعومة والروايات ببعضها.
مانلي هول
ويجدر بالذكر أن كبار المؤلفين المنتسبين إلى الماسونية وغيرها من الجمعيات السرية بدأوا بطرح هذه النظرية في وسائل الإعلام والأوساط الثقافية منذ بدايات القرن العشرين، وهو طرح يتزايد بثه باستمرار مع تزايد الانفتاح في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات الحالية، حيث بات من الصعب إخفاء أسرار تلك الجمعيات ومخططاتها، ولا سيما بعد نشر عدة كتب رصينة ألفها منشقون عن الجمعيات أو صحفيون تسللوا إلى محافلها وفضحوا ما يجري فيها، فلم تعد ملاحقة هؤلاء وقتلهم سياسة مجدية كما كانت في الماضي، فبدأت تلك الجمعيات بفتح أبواب محافلها أمام كاميرات الصحفيين لتصوير بعض طقوسها، مع الاعتراف بأن التصوير لا يطال كل ما يجري هناك وأن السرية ما زالت قائمة جزئيا، كما نشط منتسبوها في نشر الكتب والأفلام الوثائقية والسينمائية التي تزعم أن الماسونية وأمثالها لم تعد سرية كما كانت، وطرحوا فيها ما يزعمون أنه حقيقة تلك الأسرار التي احتفظوا بها آلاف السنين. ويعد الماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي هول من أوائل المؤلفين في هذا الباب عندما نشر كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” عام 1928، حيث زعم فيه أنه كشف كل ما كان يخفى عن الناس من “الحكمة” المتوارثة منذ عصور سحيقة، وهو كتاب مليء بالمغالطات التي لا تستند إلى دليل، وفيه الكثير أيضا من المزاعم التي لا يمكن لأحد إثباتها، فضلا عما فيه من إخفاء وتضليل لحقيقة الماسونية.
سلسلة أفلام “كنز وطني” من إنتاج شركة ديزني تعد من أهم محاولات هوليود الأخيرة لتلميع صورة الماسونية
ومن مظاهر هذه الحملة أيضا تحويل الجمعيات السرية إلى مادة للترفيه في أفلام هوليود، بحيث تُنزع عنها تهمة التآمر والخبث تحت وقع الكوميديا السوداء، بحيث يصبح أي ربط بين عوالم السر وبين التآمر مجرد خضوع “للفكر التآمري” وانعكاس لعقدة البارانويا ضد عدو وهمي.
ولكي تثمر هذه الحملة، كان لا بد من ضخ تلك الكتب والأفلام بأعداد لا تحصى، ففي كل عام تصدر عن دور النشر عشرات الكتب التي تزعم كشف المزيد من الأسرار والخفايا عن تلك الجمعيات، فضلا عن خلط الحق بالباطل، ما أدى في النهاية إلى نفور الكثيرين من الاطلاع على تلك المعلومات واعتبارها مجرد لغو لا يثمر أي نتيجة مفيدة.
3- ومن أسباب العمل السري أيضا اضطرار الحركات المقاومة للمحتل أو المعارضة للحكم إلى التخفي لحمايتها من القمع، فالهدف في هذه الحالة سياسي لا ديني، ومن الأمثلة المشهورة في العصر الحديث لهذه الحركات الجمعيات القومية الكاثوليكية الأيرلندية التي نشأت في القرن الثامن عشر لمقاومة حكم الأقلية البروتستانتية، كما نشأت على شاكلتها جميعات إيطالية قومية في أوائل القرن التاسع عشر لمقاومة السيطرة الأسبانية والنمساوية التي دامت نحو 250 سنة، لكن الجمعيات الإيطالية سرعان ما اندمجت بجميعات الكاربوناري وصارت جزءا من الماسونية، فلم تعد مجرد حركات ثورية لمقاومة المحتل بل تم تحريكها لأهداف الماسونية العالمية نفسها.
4- يرى فريق آخر أن ظهور الجمعيات السرية يعود أصلا إلى أسباب نفسية واجتماعية فقط، فالإنسان يسعى إلى التمرد على الطبيعة بالبحث في عالم المجهول السحري، وينجذب تلقائيا إلى التنجيم والباراسيكولوجي والتصوف، وقد يجد في رموز وطقوس الجمعيات الغامضة ما يشبع نهمه هذا.
ويقول أرسطو إن مغزى ممارسة الطقوس السرية لا يكمن في تعلم شيء ما فقط بل في مكابدة تجربة التغيير، ويعلق المؤلف نورمان ماكنزي في كتاب “الجمعيات السرية” عليه بالقول إن التغيير ليس مجرد رقي روحي ونشوة بل يُفهم على أنه بعث جديد، حيث يتم تجسيده في مسرحيات شعائرية يلعب فيها العضو الجديد دور المشارك والمشاهد، وهكذا يشعر العضو بأن السرية تمنحه طريقة تجعله استثنائيا ومختلفا عن عوام الناس، وأن لديه من الذكاء والحكمة ما يجعله في طبقة الصفوة. وهذا التفسير قد يصح فيما يتعلق بدوافع الأعضاء في الانتساب لتلك الجمعيات، ولكنه لا يبرر ظهور تلك الجمعيات أصلا، فقد يكون العضو المبتدئ مغررا به فعلا لكن القادة ليسوا كذلك بالضرورة.
ويرى هذا الفريق أن الذين يفشلون في التعامل مع العصر الحديث، بما فيه من مظاهر الاغتراب والقلق نتيجة الصراعات السياسية والتطور المتسارع، يلجؤون إلى اتهام الجمعيات السرية بوضع المؤامرات وتنفيذها.
ويتماشى هذا التفسير مع المنهج الإلحادي لدراسة الأديان [انظر مقال البحث في الدين]، فهو ينطلق من مبدأ استبعاد الجانب الروحي الغيبي من البحث، ويحاول إعادة كل ما يراه في نشاط الجمعيات السرية أو في ما ينسب إليها من مؤامرات إلى عوامل طبيعية واجتماعية لاإرادية، وكأن تلك الجمعيات مفعول بها وليست فاعلا لأي شيء يذكر. ونجد لهذه الفكرة أساسا لدى منظري الماركسية والرأسمالية على حد سواء، فهناك قانون حتمي لصراع الطبقات لدى الماركسيين، وقانون مماثل لدى النيوليبراليين يؤدي إلى صراع الحضارات، وهناك أيضا “يد خفية” تحرك المجتمع والاقتصاد نحو نهاية محتومة حسب الرؤية الرأسمالية الكلاسيكية، وليس للإنسان -فضلا عن الجمعيات السرية- دور في تغيير هذا الحراك أو تحريك مساره، حسب رأيهم.
عبد الوهاب المسيري (موقع المسيري)
وهذا التفسير هو السائد اليوم في الساحة الثقافية الغربية، وهو الذي يتلقى الدعم إعلاميا وأكاديميا حول العالم، وصار له أتباع كثر في العالم الإسلامي خلال العقود الأخيرة، ويُعد المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أحد أبرز منظريه، فهو ينفي عن الحركات السرية أي بعد ديني تآمري، ويكاد ينفي أي تأثير لها على أرض الواقع، بل يرى أنها نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي والسياسي، ويتجاوز دراسة الجانب الخفي لهذه الجمعيات إلى دراسة “الفكر التآمري” لدى من يقرون بوجود مؤامرة حقيقية في مشروع تلك الجمعيات، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون وهما في خيال الناس، كما هو حال الدين نفسه الذي يعتبره الملحدون واللادينيون مجرد وهم وليس له أي وجود موضوعي، وقد ظل المسيري متمسكا بقناعته بعد انتقاله من الماركسية إلى الإسلام، وتابعه في ذلك كثير من الإسلاميين الذين باتوا يبثون هذه الأفكار بقوة في الساحة الثقافية، وفي غلاف إسلامي أحيانا. [انظر كتاب اليد الخفية].
5- أخيرا، هناك فريق لا ينكر وجود الفكر التآمري، ويقر بأن المبالغة في ربط الأحداث بالجمعيات السرية ليس صائبا في كل مرة، كما يرى أن العديد من الجمعيات وُجدت لمقاومة العدو أو المحتل، أو لأهداف إنسانية أو بدوافع نفسية واجتماعية. لكن هذا كله لا يغطي الجمعيات السرية كلها، بل جانبا منها فقط.
ويستتند هذا الرأي إلى اعترافات كثير من المنشقين عن المحافل السرية، وتسريبات المتسللين إلى داخلها، مع ربط الحوادث التاريخية بما وضعه مؤرخون وشهود عيان على مجريات الأحداث، ولا سيما في القرون الثلاثة الأخيرة. كما يجد هذا الرأي ما يدعمه في نصوص الوحي القرآني، وهو ما يعطيه درجة اليقين ويغنيه عن الاكتفاء بالجدل الفلسفي لمن يؤمن بالوحي.
وتتفرع عن هذا الرأي نظريات تحتمل النظر والنقد كغيرها، لكن إطارها العام يربط غالبا النزوع إلى السرية مع المبادئ المعلنة الخارجة عن تعاليم الوحي بعالم السحر، فالسحرة كانوا طوال التاريخ أكثر الناس انطواءً وبعدا عن المجتمع، ولا يخفى ارتباط أنشطتهم بالأذى والشر والتآمر. ولا ينكر منظرو فك الرموز السرية المعاصرون الجانب السحري في علومهم، بالرغم من التلاعب في تقديم التفسيرات والمبررات.
وقد أوضحنا في مقالات “الإنسان والدين” و”الوثنية” و”الباطنية” تفرع التاريخ الإنساني إلى مسارات موازية لمسار الوحي. وبالعودة إلى إحدى روايات التأويل فقد بدأ السحر في وقت مبكر من عمر البشرية، وذلك في عصر النبي إدريس، وتزامن مع الجنوح عن سبيل الوحي كما يقول الحديث القدسي الذي رواه مسلم “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم”، وسنجد في هذا المقال وفي مقالات “القبالاه” و”فرسان الهيكل” و”الماسونية” مزيدا من التفاصيل عن هذا الارتباط.
تاريخ الجمعيات السرية يقول المؤرخ الماسوني الراحل جرجي زيدان (1861- 1914) في بداية كتابه “تاريخ الماسونية العام” إن هناك أقوالا كثيرة بخصوص نشأة جمعية الماسونية المعاصرة، فبالرغم من إقرار أتباعها بأنها خرجت في القرن الثامن عشر من عباءة جمعية الصليب الوردي التي تأسست سنة ١٦١٦، إلا أن الجذور تعود إلى ما هو أقدم بكثير، فهناك من يعود بتاريخها إلى الحروب الصليبية، وآخرون تتبعوها إلى القرن الثامن قبل الميلاد في اليونان، وآخرون قالوا إنها نشأت في هيكل سليمان، وفئة قالت إن منشأها يعود إلى بدايات الكهانة المصرية والهندية، وهكذا إلى أن زعم البعض أن مؤسسها هو آدم نفسه، وأن الخالق هو الذي أسَّسها في جنة عدن، وأن الجنة كانت أول محفل ماسوني، ويعلق زيدان على ذلك بقوله إنها أقوال مبنية على الوهم.
جرجي زيدان
كان زيدان يعمل في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة، وقد رافق القوات الإنجليزية التي حاولت قمع ثورة المهدي في السودان، فهو عضو أصيل في الحملة الدعائية للماسونية التي بدأت في أواخر القرن الماضي بمحاولة إقناع الناس بأن الحركات السرية قد تخلت عن سريتها المريبة وكشفت تاريخها وحقائقها للناس. لذا لا يمكننا الوثوق بمحاولة نفيه للعلاقة بين الماسونية والحركات السرية القديمة التي أرّخ لها في كتابه.
يصف زيدان في كتابه طقوس قبول المنتسب إلى “جمعية إيزيس السرية” في مصر القديمة، حيث يتحقق الكهنة من أهليته للالتحاق بهم وحفظ أسرارهم، ثم “يسومونه عند القَبول مشقات عظيمة تختلف بين تخويف وتهديد”، فإذا اجتازها بدأت مراسم الاستقبال، فيحقق معه كاهن يحمل اسم الإله أوزيريس، وبعد الانتهاء منه ينتقل العضو الجديد إلى قائد متنكر على رأسه غطاء كرأس الكلب، فيذهب به في دهاليز مظلمة إلى مجرى مائي، فيسقيه كأسا من “ماء النسيان” لينسلخ عن كل ماضيه ويبدأ حياته عضوا في الجمعية من جديد. وبعد انتهاء المزيد من الفعاليات الاحتفالية يبدأ تلقينه “الأسرار المقدسة”.
ويقول زيدان إن أول من نقل أسرار الجمعيات السرية إلى أوروبا هو أورفيوس الذي كان عضوا في الجمعية الإيزيسية بمصر، ثم عاد إلى بلاده في منطقة تراسيا (بلغاريا ورومانيا بأوروبا الشرقية حاليا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ونشر تعاليمها هناك. وبعد وفاته أسس تلاميذه “مجمع إلوسينيا” في إلوسيس باليونان، وابتكروا لأنفسهم طرقا جديدة في مراسم قبول الأعضاء بما فيها من أساليب غسل الأدمغة بالترهيب والتهديد، حيث يُمرر العضو الجديد على مواقع مليئة بالوحوش والأفاعي وحمم النيران والأصوات المخيفة بمراحل مدروسة، ويُزرع في عقله أن هذا هو الجحيم أو صورة عنه، ثم يُنقل إلى موقع يملؤه النور والأمان ليستقبله الكاهن ويلقنه الأسرار في أجواء احتفالية، وكأنه بلغ بذلك الجنة.
ويُطلب من العضو الجديد قبل خوض التجربة المرعبة أن يغتسل أولا بالماء والدم، وأن يقدِّم ثورا أو كبشا كأضحية، فإذا نجح في قبول عقيدتهم تم تعميده بالماء كما يُعمد المسيحيون اليوم في الكنائس، ومنحوه اسما جديدا سريا يُعرف به في مجتمعه الصغير بعيدا عن حياته الطبيعية، وهذه الطقوس تدل بوضوح على الخلفية الشيطانية لهذه الجمعية، فهي لا تختلف كثيرا عما يمارس في طقوس عبادة الشيطان المعلنة في عصرنا الحديث، وهو أمر لا يذكره زيدان.
ويقول زيدان إن تعاليم هذا المجمع انتشرت في سائر المدن القديمة مثل فينيقية (لبنان) والهند ومصر وسوريا واليونان وغيرها، حتى قيل إنها أصلٌ لجميع تعاليم المجامع السرية القديمة في العالم، مؤكدا أن حيرام ملك صور كان أحد كبار الكهنة فيها.
ويضيف زيدان أن هذه التعاليم انتشرت أيضا في المجتمع اليهودي عندما بُعث المسيح بينهم في فلسطين، فكان أتباعها يُعرفون باسم طائفة الأسينيين، إذ نجد في رؤيا يوحنا بالإصحاح الثاني (عدد ١٧) من الكتاب المقدس قوله “فَلْيسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن الخفي، وأهبه حصاة بيضاء منقوشا عليها اسم جديد لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه”، في دلالة إلى مراسم قبول العضو في مجمع الإلوسينيا حيث يُكتب اسمه السري على قطعة حجر يحتفظ بها حتى موته، وكأن مفاهيم الجمعيات السرية تسربت أيضا إلى الكتب السماوية التي تم تحريفها لاحقا.
ويُسهب زيدان في إظهار أتباع هذه الطائفة بمظهر المتقشفين المنقطعين عن الدنيا وملذاتها، وكأنهم مجموعة من الناسكين الزاهدين المنقطعين لاكتشاف المعرفة، فضلا عما يتمتعون به -حسب زعمه- من أخلاق راقية وتضحيات عظيمة فيما بينهم.
وما زالت طقوس العبادة الإلوسيسية السرية ماثلة حتى يومنا هذا بوضوح على جدران “فيلا الأسرار” Pompeii Villa of Mysteries في مدينة بومبي الإيطالية، حيث طمرت تحت الرماد منذ ثوران البركان المفاجئ قبل الميلاد بنحو ثمانين عاما لتبقى محفوظة حتى تُكتشف في عصرنا الحديث، إذ يبدو أن العبادة السرية لإله الخمر والنشوة “ديونيسوس” كانت مسيطرة على المنطقة، لا سيما وأن اقتصاد بومبي كان قائما على الدعارة، حيث تقدم لنا آثارها المحفوظة بدقة تثير الدهشة صورة واضحة عن تغلغل الجنس في حياة الناس إلى أقصى درجة.
فيلا الأسرار التي طمرها الرماد لأكثر من ألفي سنة، وهي تبدو اليوم في حالة جيدة بل تفاجؤنا أيضا بطرازها المعماري الذي لا يختلف كثيرا عن العمارة الحديثة، بل مازالت جدران الفيلا تشرح بالرسوم الملونة طقوس انضمام امرأة إلى عبادة ديونيسوس السرية (ElfQrin)
منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن
الهرمسية تحدثنا بإيجاز في مقال “الباطنية” عن النظريات التي تحاول كشف حقيقة شخصية هرمس وما ينسب إليها من مؤلفات وعلوم، وهي شخصية بالغ الباحثون في تعظيمها حتى قال فرانسيس باريت في كتابه “سيرة تاريخية قديمة”: “إذا كان الإله قد تجسّد فعليا في هيئة إنسان، فلم يكن ذلك سوى بشخص هرمس”، وقلنا إنه من الراجح أن تكون تلك الشخصية صورة محرفة عن شخصية النبي إدريس عليه السلام، بعد أن نُسبت إليه تراكمات من العلوم والخرافات والفلسفات الوثنية والسحرية.
أفرد الماسوني مانلي هول في كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” فصلا لتعاليم هرمس التي تحتل مكانة مهمة لدى الماسون، وقال إن البعض يعتبر أن هرمس هو ذاته الإله الإغريقي هرمز Hermes، وأنه هو نفسه الإله المصري تحوت Thoth أو توتي Tuti، الذي كان إله القمر أيضا، حيث رُسم على هيئة رأس طائر أبو منجل مع قرص وهلال القمر، وبما أنه دين باطني غنوصي سري، فقد أطلق عليه الكهنة -في الصيغة المعلنة للناس- إله الحكمة والأبجدية والزمن، بينما كان له وجه آخر في المعابد السرية والطقوس الخفية.
عصا هرمس
وبحسب كتاب مانلي هول، احتوى “كتاب تحوت” المقدس على الإجراءات السرية التي يمكن من خلالها “إعادة إصلاح البشرية”، وهو كتاب يصعب فك رموزه الهيروغليفية الغريبة, إلا أنه يمنح مستخدميه القادرين على فهمه “قوة غير محدودة على الأرواح العلوية والسفلية”، حيث يمكنهم تضخيم وعيهم البشري ورؤية الكائنات الخالدة Immortals والدخول إلى حضرة الآلهة الأسمى، وبما أن هول ماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين؛ فهو لا يعترف لعامة القراء بأن هذه الطقوس ليست سوى أعمال سحرية لاستحضار الشياطين.
أحد مؤلفات الشيطاني المعروف أليستر كراولي عن أسرار تحوت
ويضيف هول أن هناك أسطورة تقول إن “كتاب تحوت” كان في صندوق ذهبي في الحرم الداخلي للمعبد، ولا يمكن لأحد الوصول إليه سوى الأستاذ الأعظم، ويقول أيضا إن ذلك المعبد قد أزيل وتشتت أعضاؤه، إلا أن كتابهم هذا مازال محفوظا حتى اليوم، ويكتفي بالقول “لا يمكن تقديم أي معلومة إضافية للعالم حاليا، ولكن يجب الانتباه إلى أن الخلافة الرسولية المتسلسلة من عهد الأستاذ الأعظم الذي انتسب على يد هرمس شخصيا مازالت مستمرة حتى اليوم، ويمكن للأشخاص المميزين والملائمين لخدمة الخالدين [أي الشياطين] أن يجدوا هذا المخطوط النفيس الذي لا يقدر بثمن إذا اجتهدوا في البحث عنه بإخلاص”.
قارة أطلانطس ينسب مؤرخو الجمعيات السرية أصول الكثير من “الحكمة” السرية إلى قارة أطلانطس المفقودة، وهي جزيرة هائلة الحجم ورد ذكرها في كتاب “محاورة تيماوس” للفليسلوف اليوناني أفلاطون، حيث زعم أن الفيلسوف سولون الذي مات قبله بنحو 150 عاما، أي في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، سمع قصة القارة المندثرة من كهنة مصر ثم نقلها إلى اليونان شفهيا، وكان أفلاطون أول من وثقها لتبقى محفوظة إلى عصرنا الحالي.
أفلاطون
وبحسب هذه الرواية، فإن أطلانطس كانت جزيرة بحجم شمال أفريقيا وآسيا الصغرى، وتقع خلف “أعمدة هرقل” أي مضيق جبل طارق، فهي تحتل مكانا كبيرا من المحيط الأطلسي، وكانت قد اندثرت قبل الميلاد بنحو 9500 سنة، حيث كانت أشبه بالجنة على الأرض، ففيها من الحضارة والخيرات ما يحلم به كل إنسان، ثم بدأ ملوكها بالطمع في احتلال بلاد أخرى، فاحتلوا شمال أفريقيا، ثم هاجموا مصر وأثينا (اليونان)، وكانت نهاية تلك الحضارة بسلسلة من الزلازل والفيضانات التي أغرقت القارة كلها في البحر. [حضارات مفقودة، ص 17- 20].
ومما يهمنا من هذه الأسطورة أنه كان يحكم أطلانطس عشرة ملوك، وهم يمثلون مثلث “تيتراكتيس” الذي ترسم فيه عشر نقاط، وهو المثلث الذي قدّسه فيثاغورس بعد اقتباسه من مدرسة القبّالاه السحرية كما سيمر بنا لاحقا. وتضيف الأسطورة أنه كان في وسط أطلانطس معبد ديانة الحكمة هرمي الشكل، الذي يقع على هضبة مرتفعة في وسط مدينة البوابات الذهبية، ويقول أتباع الجمعيات السرية إنه أصل المعابد والهياكل والمحافل التي انتشرت لاحقا في قارات العالم من أمريكا الجنوبية مرورا بمصر إلى الهند.
ومن اللافت أن أفلاطون لم يوضح ما إذا كانت القصة خيالية أم حقيقة، كما أنه أسهب في رواية تفاصيلها دون ذكر مغزاها، وذلك على غير المعتاد في محاوراته الفلسفية، ما دفع البعض للاعتقاد بأنه كان يتحدث عن قصة حقيقية وليس من أجل ضرب الأمثلة الفلسفية. وسواء كانت قصة حقيقية أم خرافة، فقد وجد أتباع الجماعات السرية في القارة المندثرة فرصة لإلصاق جميع علومهم وأسرارهم وأكاذيبهم بأصل حضاري عريق، ما ينفي عنهم تهم الاتصال بالشياطين والاقتباس منهم.
لكن قصة أفلاطون تواجه تحديات كثيرة، فالمفترض أن سكان أطلانطس أنشأوا حضارة في غاية التقدم قبل 11500 سنة من يومنا هذا، مع أن أقدم الآثار المحفوظة لنشوء الحضارة لا يمتد إلى ما هو أبعد من حضارات العراق التي بدأت قبل نحو خمسة آلاف سنة، وبما أن جميع التنقيبات والأبحاث الجيولوجية لم تسفر عن أي أثر لها، فهناك من افترض أن أفلاطون كان يتحدث عن جزيرة كريت اليونانية وليس عن موقع في المحيط الأطلسي، كما قدم باحثون معاصرون عشرات التأويلات المختلفة لموقع أطلانطس المحتمل. ولا ننسى أن المؤرخين اعتقدوا طوال قرون أن طروادة لم تكن سوى مملكة خيالية وردت في أشعار هوميروس، إلى أن اكتشفت آثارها فعلا في شمال غرب تركيا عام 1871، وكذلك الحال مع الحضارة المينوية التي كان يعتقد أنها أسطورية حتى وجدت آثارها في كريت.
فرنسيس بيكون
في عام 1626، وضع الفيلسوف الإنجليزي المعروف فرانسيس بيكون كتابه “أطلانطس الجديدة”، وكان من أواخر مؤلفاته التي جعلت منه مؤسسا للعلم الحديث في الغرب، وفي العالم كله بحكم التبعية. وما يتداوله العالم بعد نحو أربعمئة سنة أن الكتاب كان يتضمن نبوءة فلسفية بريئة للعالم الحديث القائم على العلم، لكن بيكون كان في رأي بعض المؤرخين الأستاذ الأعظم للماسونية في عصره، ولم يكن هذا الكتاب سوى البيان الختامي الذي قدّم فيه رؤيته لنموذج الدول التي ستُدار من قبل محافل الجمعيات السرية كما كان الحال في أطلانطس، وذلك تحت مسميات العلم والحضارة. [انظر صفحة Occult theories about Francis Bacon في موسوعة ويكيبيديا]
في عام 1882، طرح الأميركي من أصل إيرلندي إغناطيوس دونيلي كتابه “أطلانطس: العالم العتيق”، وقدم فيه أدلة كثيرة تدعم نظريته في صحة وجود أطلانطس، وزعم أن عددا قليلا من سكانها استطاعوا النجاة بالسفن ونقلوا أسرار تلك الحضارة المتقدمة إلى العالم. وقد أطلق دونيلي بذلك موضة الاهتمام العالمي بهذه الأسطورة، وربما كان أول من نقلها من عالم الخيال إلى الأوساط الجادة لتداعب أحلام الكثيرين، كما تأثر بالكتاب العديد من السياسيين، حتى تحمس رئيس وزراء بريطانيا ويليام غلادستون لجمع المال وتمويل حملة استكشافية للعثور على مكان أطلانطس. وما زال الكثيرون يبجلون دونيلي حتى اليوم على اعتبار أنه كان باحثا مجتهدا ومخلصا لنظريته، ولكن معظمهم لا يعرفون أنه كان ماسونيا عتيدا، وأنه كان يمهد كما يبدو لإقناع عامة الناس بأن أطلانطس هي أصل حضارات العالم كله، وأن المنظمات السرية الموجودة اليوم هي الوريث الوحيد لأسرار الحضارة.
وفي عام 1924 بدأ الباحث الأسكتلندي لويس سبينس بنشر سلسلة كتب عن أطلانطس، حيث يرى البعض أن كتاباته كانت أفضل ما كتب علميا بشأن أطلانطس، وعلى أساسها افترض الكثيرون أن جزر أزور البرتغالية هي من بقايا القارة المفقودة، وما يزال حتى اليوم مئات الناشطين والمهتمين يتناقلون عبر الإنترنت نظريات تتحدث عن اكتشاف أهرام ضخمة في عمق المحيط، لا سيما قرب أزور وفي مثلث برمودا، ويقولون إن الحكومات الغربية تتعمد إخفاء هذه الحقيقة لتحتكر لنفسها أسرار أطلانطس التي لا يعرفها سوى كبار أعضاء الجمعيات السرية، وهي ادعاءات غير مؤكدة ولا يمكن التحقق منها.
ويجدر بالذكر أن عددا من الباحثين في خفايا الجمعيات السرية يؤكدون أن نخبة جمعية “المتنورين” (الإلوميناتي)، وهي جمعية منبثقة عن الماسونية، يعتقدون أنهم أسلاف ملوك وكهنة أطلانطس، أي أنهم من نتاج تزاوج الآلهة مع البشر، ويُعتقد أن فيلم “أطلانطس: الإمبراطورية المفقودة” الذي أنتجته شركة والت ديزني عام 2001 كان يتضمن هذه الفكرة رمزيا، لا سيما وأن ديزني نفسه (توفي عام 1966) كان على الأرجح ماسونيا من الدرجة الثالثة والثلاثين، ولا يزال في داخل مدينته الترفيهية بولاية فلوريدا “ديزني لاند” نادٍ مغلق يحمل اسم “33”، ولا يُسمح بالانضمام إليه إلا للنخبة وبعد دراسة طلب الانضمام التي قد تستغرق عشر سنوات.
المدرسة الفيثاغورية ربما لا يوجد أحد في العالم لم يسمع باسم العالم اليوناني فيثاغورس، فنظرياته الرياضية والهندسية تُلقن لطلاب المرحلة الابتدائية حول العالم، ولا يكاد معظم الناس يعرفون عنه شيئا أكثر من ذلك، وقد يفاجأ القارئ عندما يعلم أن فيثاغورس الذي ولد قبل الميلاد بنحو ستمئة سنة كان من أهم أقطاب الجمعيات السرية في التاريخ.
اشتهر فيثاغورس بنظرية حملت اسمه في الهندسة، لكن الوثائق التاريخية تشير إلى استخدام مثلثات قائمة بأضلاع أطوالها أعداد صحيحة في بابل قبل فيثاغورس بأكثر من ألف سنة، كما استخدم المصريون القدماء النظرية قبله أثناء عمليات البناء وتقسيم الأراضي.
ويجدر بالذكر أن بعض العلماء المعاصرين يؤكدون أنهم اكتشفوا ثغرات وأخطاء في النظرية المنسوبة لفيثاغورس.
تمثال فيثاغورس بمتحف الفاتيكان
يحظى فيثاغورس اليوم بمكانة عظيمة في مؤلفات الماسون، كما في كتاب مانلي هول، حيث نجد فيه تأريخا لحياته ابتداءً بقصة ولادته التي زعم أنها جاءت بنبوءة عندما قالت كاهنة معبد أبولو لوالديه إنهما سيرزقان بطفل، وإنه سيكون أعظم الرجال جمالا وحكمة، وسيساهم كثيرا في نفع البشرية. كما ينقل عن جودفري هيغينز ما سماه بأوجه التشابهة بين ولادة وحياة فيثاغورس وتاريخ حياة يسوع المسيح، ما دفع البعض لتسمية فيثاغورس بابن الإله أبولو، بل ظن البعض أن الإله حلّ فيه وتجسد.
ويجدر بالذكر هنا أن مؤرخي حياة فيثاغورس قد وضعوا الأساطير عن حياته وشخصية بعد ولادة المسيح بمدة ليست بالقصيرة مع أن فيثاغورس مات قبل ذلك بنحو خمسة قرون، فالذين كتبوا قصة فيثاغورس هم الذين اقتبسوا النبوءة من قصة المسيح، والذين حرّفوا دين المسيح عيسى بن مريم اقتبسوا في المقابل من الفيثاغورية أسطورة الحلولية والتجسد.
يقول المؤرخ والفيلسوف برتراند رَسل في كتابه “تاريخ الفلسفة الغربية” عن فيثاغورس إنه كان من أهم من شهدت الدنيا من رجال من الناحية العقلية، ويضيف “لست أعلم عن رجل آخر كان له من التأثير في نطاق الفكر ما كان لفيثاغورس، وأقول ذلك لأن ما قد يبدو لك أفلاطونيا، ستجده عند التحليل فيثاغوريا في جوهره… ولولاه لما فكر المسيحيون في المسيح على أنه الكلمة”.
ويتضح الأثر الذي تركه فيثاغورس عندما نعلم أن أفلاطون كان معجبا للغاية بأفكاره، ويقال إنه دفع مبلغا كبيرا مقابل الحصول على مخطوطات فيثاغورس التي نجت من التلف، حتى قال أرسطو (تلميذ أفلاطون) إن جمهورية أفلاطون المثالية (اليوتوبيا) لم تكن سوى ترجمة لأفكار فيثاغورس.
يقول المؤرخ الإغريقي ديوجينس ليرتيوس إن فيثاغورس كان يزعم أمام طلابه وأتباعه أن روحه تناسخت خمس مرات، وأنه يتذكر جيدا الحيوات التي عاشها قبل أن يلتقي بهم، ففي الحياة الأولى كان أثاليدس ابن إله الحرب، وفي الثانية كان يوفوربس أحد أبطال حرب طروادة، وفي الثالثة كان هيرموتيموس رسول آلهة الأولمب، ويبدو أنه تواضع في ما قبل الأخيرة فجعل نفسه صيادا عاديا، ثم تجسد على هيئة المعلم فيثاغورس.
ومن الطريف أن نجد هذه المزاعم لدى معلمين آخرين في الجمعيات السرية على مر العصور، ومنهم اليهودي الإيطالي كاجيلوسترو الذي ابتكر طقس ممفيس المصري لصالح المحافل الماسونية وكان له دور في إشعال الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، حيث كان يزعم أن روحه تناسخت عدة مرات، وأنه كان في إحداها صديقا ليسوع المسيح نفسه، وأن حياته الأخيرة امتدت أكثر من ثلاثمئة سنة.
ووفقا للماسوني هول، اكتسب فيثاغورس القدر المستطاع من المعرفة التي كانت متوفرة في اليونان، وانتسب لجمعية الإلوسيسية السرية التي تحدثنا عنها، ثم بدأ رحلاته لاكتساب المزيد من الأسرار، فتتلمذ على يد حاخامات اليهود القبّاليين، ثم سافر إلى مصر، وبعد محاولات عدة سُمح له بالانتساب إلى جمعية إيزيس السرية بمدينة طيبة، ثم توجه إلى سورية وبلاد الفينيقيين (لبنان) وانضم إلى جمعية أدونيس وتلقى أسرارها، وعبر بعد ذلك وادي الفرات ليتعلم أسرار الكلدانيين والبابليين.
ولم يكتف بذلك، فرحل إلى بلاد فارس والهند، حيث بقي هناك عدة سنوات للاطلاع على أسرار البراهمة والمجوس، وبعد نحو ثلاثين سنة من الترحال والتعلم عاد إلى أوروبا وأنشأ مدرسة في مدينة كروتونا (جنوب إيطاليا) التي كانت تحت حكم الإغريق، وأعلن عن فتح الباب لتعليم الرياضيات والهندسة والفلسفة، بينما كانت مدرسته في الباطن بمثابة الجمعية التي تتلخص فيها كل أسرار وطلاسم وطقوس الجمعيات السرية.
وضع فيثاغورس أصول تشكيل الجمعيات السرية التي ما زالت متبعة حتى اليوم، لذا يدين له أتباع الماسونية والصليب الوردي بالفضل، حيث قسّم منتسبي جمعيته إلى ثلاث درجات، بحيث لا يعلم أعضاء كل درجة شيئا عن التي تليها، فلكل منها طقوس وأسرار لا يعلم بها زملاؤهم الآخرون.
يقول مانلي هول إن فيثاغورس كان يتمتع بقدرات خارقة، فذكر أنه كان يزعم قدرته على التنبؤ بالمستقبل، ورجّح أنه كان قادرا على تنويم الناس والحيوانات، وعلى التغلغل إلى عقول الحيوانات لإقناعها بما يريد، وعلى رؤية الأشياء من مسافة بعيدة.
أما الدرجة الأولى فكانت علنية ومكشوفة، كما هو حال الدرجات الأولى من الماسونية اليوم، والتي تُفتح أبوابها للصحافة ويجاهر أعضاؤها بالانتساب لها ويُعلن أن أنشطتها تقتصر على المجال الخيري الإنساني، وكان طلاب هذه الدرجة يجلسون في أماكن مفتوحة للاستماع إلى محاضرات عامة دون مناقشة، حيث كان فيثاغورس يعلمهم أن الحقيقة في أعماقها رياضية وأن العدد هو أساس كل شيء، فلكل عدد معنى رمزي باطني، وبشكل يتطابق تقريبا مع فلسفة القبالاه اليهودية.
كراولي في زي جماعته “الفجر الذهبي”
وبعد خمس سنوات من الانتظام في تلك الدرجة يختار الأساتذة بعناية من يستحق الترقية إلى الدرجة الثانية، وهناك يفتح لهم باب المناقشة والتلقي ولكن داخل محافل سرية. ثم يتم اختيار الصفوة من هؤلاء للترقية إلى الدرجة الثالثة لتلقي الأسرار الخاصة، حيث يكتشفون آنذاك أن المعرفة لا تتعلق فقط بأسرار الهندسة والأعداد، بل هناك عقيدة كاملة بشأن الوجود والإله والموت وما بعده، وهي العقيدة الشيطانية المطابقة للقبالاه.
وقد أقر كبار مؤسسي الحركات الباطنية القبّالية والجمعيات الشيطانية الحديثة في الغرب باقتباس فيثاغورس من القبالاه، ومنهم الإنجليزي ماك غريغور ميثرز الذي شارك عرّاب الحركات الشيطانية الحديثة أليستر كراولي في تأسيس جمعية الفجر الذهبي، وذلك في كتابه “القبالاه بدون حجاب” The Kabbalah Unveiled.
ويمكن القول إن طقوس الجمعيات المندثرة حول العالم قد تم حفظها على يد فيثاغورس، حيث انتشرت عن طريقه تلك الطقوس في أنحاء أوروبا، فوصلت إلى شمالها حوالي عام 50 قبل الميلاد عندما تمرد الكاهن “سيغ” على الرومان وأخذ يدعو القبائل الهمجية الإسكندنافية إلى اتباعه، وخلط كما يبدو دينهم الوثني الذي يعبد الإله “أودن” بطقوس الجمعيات السرية، ثم أصبح بنفسه المعبود “أودن”.
وبعد بعثة النبي عيسى عليه السلام وسعي زعماء بني إسرائيل لإفشال دعوته ومحاولة صلبه وملاحقة أتباعه [انظر مقال المسيحية]، نجح اليهودي شاؤول (بولس) في تحريف رسالته التوحيدية إلى دين وثني زاعما أن عيسى إلهاً تجسد ليفدي الناس بنفسه ويغسل خطيئتهم، ولم يكتب لهذا الدين النجاح سوى بالعمل السري التقليدي كما هو حال جمعيات الإلوسيسية.
القوة الخفية أوضحنا في مقال “الماسونية” تفاصيل جمعية سرية حملت اسم “القوة الخفية” وتم تأسيسها في عام 43م على يد ملك القدس اليهودي هيرودس أغريباس، وذلك بهدف قمع الدعوة المسيحية التي أخذت بالانتشار. وذكرنا أن هذه القصة لم نجدها سوى في كتاب “تبديد الظلام” الذي يقول مترجمه عوض الخوري إنه ليس سوى ترجمة لوثيقة عبرية يورثها مؤسسو الجمعية التسعة لأبنائهم، حتى قرر آخرهم، ويدعى جوناس، أن يكشف السر في القرن التاسع عشر.
لا يمكننا الجزم بصحة الرواية لعدم وجود مصدر آخر يؤكدها، لكن الثابت تاريخيا أن كلا من اليهود وأتباع المسيح انتهجوا العمل السري في محاربة بعضهم.
وفي عام 330 بعد الميلاد، تبنى الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول نسخة معدلة من مسيحية بولس، وتم بذلك تأسيس الدين المسيحي القائم حتى اليوم [انظر مقال المسيحية]، وانتهى بذلك عهد السرية المسيحية، لكن طقوس العبادات الشيطانية القبّالية ظلت متوارثة داخل الجمعيات السرية في أوروبا لأكثر من سبعة قرون، إلى أن تغلغلت في الفاتيكان ولعبت دورا في إشعال الحروب الصليبية أملا في الوصول إلى هدفها النهائي وهو إنشاء هيكل سليمان في القدس، وهو ما عملت عليه بنشاط جمعية فرسان الهيكل التي أفردنا لها مقالا خاصا.
وبالرغم من نجاح فرسان الهيكل في الوصول إلى القدس والحفر تحت المسجد الأقصى، إلا أن صحوة المسلمين واستعادتهم للقدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ/1187م أفشلت المشروع، كما تصدت الكاثوليكية مجددا للجمعية بعد افتضاح خلفيتها الشيطانية، وتم تشتيتها في أوروبا لتنشأ عنها جمعيات الصليب الوردي والماسونية ومحافل المتنورين، التي كان لها دور كبير في إعادة صياغة المشهد السياسي الغربي عبر المساهمة في إشعال الثورة الفرنسية عام 1789 وما تلاها من انقلابات دامية على الأنظمة الإقطاعية الملكية المتحالفة مع الكنيسة. ثم أعادت النخب الفكرية المرتبطة بالجمعيات السرية صياغة المناهج الفكرية في الغرب، ولاحقا في معظم أنحاء العالم بفعل العولمة، فمعظم النظريات العلمانية بأطيافها المختلفة -وحتى المتضاربة- كُتبت على أيدي كبار الماسون، وكبار مؤسسي النهضة العلمية مثل ليوناردو دافينشي وجوردانو برونو وإسحق نيوتن وفرانسيس بيكون كانوا أقطابا في الجمعيات السرية.
ضرورة أم مؤامرة؟ ذكرنا سابقا أن المؤلفين الماسون حرصوا على تقديم صورة زائفة عن جمعياتهم السرية، واكتفوا بكشف ما يناسب توجهاتهم فقط، ومنهم جرجي زيدان الذي يقول “ولا نظن أحدا يجادلنا في احتياج البشر لمثل هذه الجمعيات السرية، وفي أن العلم لا ينمو وينتشر إلا بواسطتها، على أننا لا نحتاج إلى شديد عناء في إقناعهم إذا أصروا على الجدال؛ كيف لا وإن من أشهر الأديان الحديثة المتدينة لها أكبر دول الأعصر الأخيرة ما لم يَنمُ وينتشر إلا باتباعه خطة تلكم الجماعات من التعاليم والتبشير سرا”. [تاريخ الماسونية العام، ص 21].
ويصدق زيدان عندما يطبق كلامه هذا على دين عائلته المسيحي الذي وضعه بولس وانتشر في الخفاء قبل أن يتبناه قسطنطين، حيث يرى زيدان في هذه السرية فضيلةً للمسيحية، كما يصدق كلامه عندما يُنظر إلى الحضارة الغربية (الموصوفة بالعلم) على أنها الحق، ليبرر بذلك انتهاج العمل السري أولا، ويزعم طهارة تلك الجمعيات السرية ثانيا.
في مثل هذا الكهف الواقع في أخدود سحيق بالأناضول كان المسيحيون الأوائل يقيمون كنائسهم السرية هربا من السلطة الوثنية
لكن الأنبياء جميعا كانوا يجهرون بدعوة التوحيد بالرغم من كل ما كانوا يعانونه من أذى بسبب ذلك، وعندما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قريش لم يؤمر بالجهر مباشرة حتى تتكون من حوله نواة للدعوة، فظل يدعو أقاربه ومن يتوسم فيهم الخير ثلاث سنوات، ولم يؤمن به طوال تلك المدة أكثر من أربعين شخصا، ثم أمره الوحي بتبليغ الدعوة لعشيرته: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، فبدأت الدعوة الجهرية واشتد عليهم العذاب.
ومن الواضح أن مرحلة الدعوة “السرية” تلك لم تمتد لأكثر من ثلاث سنوات، ولم يتخللها إنشاء جمعية تراتبية ولا أداء طقوس سرية، ولم يترك النبي حتى مماته أي تعليمات سرية خاصة بالنخبة دون عوام الناس. وكل ما ظهر بعد ذلك من الفلسفة وعلم الكلام والتصوف فهو من العلوم الطارئة على الوحي الواضح الجلي، وليس من صلب الإسلام ولا من أصول دعوته [انظر مقال نبوة محمد].
في المقابل، لا يقدم أنصار الجمعيات السرية أي مبرر مقنع لمنهجهم السري، بالرغم من اجتهادهم الواضح في كتبهم وأفلامهم لإقناع العالم ببراءتهم، فإذا كان أسلافهم مضطرون للتخفي في القرون السابقة هربا من الاضطهاد، فقد زالت اليوم أسباب التكتم وأصبحت جمعياتهم شرعية في معظم دول العالم، ومع ذلك فإن أنشطتهم لاتزال تدار في الخفاء، ومازالوا يعترفون بذلك مع عجزهم عن تقديم أي توضيح يستحق التصديق.
يُنسب إلى الفيلسوف الرومانى ناتالاس قوله إن «الأشياء الحسنة تسعى للانتشار والانفتاح، أما الآثام فتتستر وراء حجاب السر والكتمان»، ومع ذلك فلسنا نتهم الجمعيات السرية بالإثم لمجرد كونها سرية، بل لأن الحقائق التاريخية والمعاصرة تؤكد أنها لم تكن سوى مراكز لتكريس عبودية الأتباع وغسل أدمغتهم ثم توظيفهم لتحقيق مصالح النخبة المسيطرة، كما كانت على مر التاريخ المكان المثالي لاجتذاب الموهوبين ثم توجيههم بأساليب الترغيب والترهيب لبث الأفكار الهدامة وقلب أنظمة الحكم ومواجهة أنصار الوحي، وسنبين في مقالات أخرى المزيد من الأدلة، وهذا لا يغني بطبيعة الحال عن الاطلاع على الكتب المتخصصة في هذا المجال.
أهم المراجع
عبد الوهاب المسيري، اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، دار الشروق، القاهرة، 1998.
مجموعة مؤلفين، الجمعيات السرية، تحرير نورمان ماكنزي، ترجمة إبراهيم محمد، دار الشروق، القاهرة، 1999.
جرجي زيدان، تاريخ الماسونية العام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013.
عوض الخوري، تبديد الظلام أو أصل الماسونية، بدون ناشر، 2002.
عبد المجيد همّو، الماسونية والمنظمات السرية: ماذا فعلت ومن خدمت؟، دار صفحات، دمشق، الطبعة الخامسة، 2009.
عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار أم البنين، بدون تاريخ.
برتراند رَسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2010.
ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.
محمد العزب موسى، حضارات مفقودة، الدار المصرية اللبنانية، 2000.
فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.
بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.
Manly P. Hall, The Secret Teachings of All Ages, H. S. Crocker Company Inc., San Francisco, 1928.
بعد تحققنا من إمكانية المعرفة، وبعد بحثنا في مصادرها التي نشأ عن الاختلاف فيها ظهور عدة تيارات فكرية، سيبدأ مسيرنا في سبيل الحقيقة من أولى الحقائق الوجودية التي تشغل عقل الإنسان، وهي وجود الإله الخالق للموجودات والمدبر لشؤونها، فنستعرض أولا الفكرة المضادة المنكرة لوجوده (الإلحاد)، ثم نناقش أدلتها للتحقق من قدرتها على الإقناع، وسيكون دليلنا في هذا المسير مزيج من العقل والحس (التجربة).
الإلحاد يُقصد بالإلحاد في العصر الحديث إنكار وجود إله خالق، وهذا المعنى يختلف مع الاستخدام القديم في اللغة العربية للمصطلح، حيث كانوا يُطلقونه على المذاهب الفكرية التي يميل أصحابها عن منهج الإسلام، لأن الإلحاد في اللغة هو الميل، أما إنكار الخالق فكان يسمى “إنكار الصانع”، وهو أمر نادر للغاية في التراث العربي.
ديموقريطس
بل كان إنكار الصانع نادرا في التاريخ البشري كله قبل العصر الحديث، ولعل أول من قال به من الفلاسفة هو اليوناني ديموقريطس في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث رأى أن الكون مادي بحت، ثم أنكر أبيقور في القرن الرابع قبل الميلاد وجود إله لاعتقاده بأن ذلك يتناقض مع وجود الشر في العالم، وذلك حسب ما نقله عنه الفيلسوف ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر (ليس هناك مصدر مؤكد آخر لمقولة أبيقور). ولم يشتهر عن الفلاسفة الآخرين إنكار الخالق بالرغم من التفاوت الكبير في آرائهم بشتى القضايا الوجودية.
في القرن السابع الميلادي، ذكر القرآن فئة من الناس أنكروا البعث بعد الموت، فنقل عنهم: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: ٢٤]، فأطلق المفسرون على هذه الفئة اسم الدهريين، وظن البعض أنهم يقابلون ملاحدة العصر الحديث، لكن الآية لا تذكر شيئا عن إنكارهم للصانع.
ويرجح باحثون أن كل ما قيل عن إلحاد بعض الفلاسفة في التاريخ الإسلامي ليس دقيقا، ومن أشهر هؤلاء ابن المقفع والكندي والفارابي وابن سينا وأبو العلاء المعري وابن الراوندي، لكن التحقيق يؤكد أنهم كانوا يؤمنون بوجود إله بطريقة أو بأخرى على اختلاف عقائدهم، وقد كان أقصى ما وصل إليه بعضهم هو إنكار رسالات الأنبياء والبعث، وليس إنكار الخالق.
نيوتن
لذا قال ابن رشد في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة” إن العرب كلها تعترف بوجود الباري، كما قال الشهرستاني في موسوعة الملل والنِحل إن شبهات العرب مقصورة على شبهتي إنكار البعث وبعثة الرسول، وقال أيضا “أما تعطيل الصانع العالم القادر الحكيم فلست أراها مقالة لأحد”.
يقول المؤرخ الفرنسي لوسيان فيفر في كتابه “مشكلة عدم الاعتقاد أو اللادينية في القرن السادس عشر: عقيدة رابليه” إن الفيلسوف رابليه لم يكن كذلك ملحدا كما يعتقد الكثيرون اليوم، فمع أنه كان شديد السخرية من الدين ورجال الكهنوت إلا أنه لم يجرؤ على إنكار الإله، لأن الأدوات الفكرية المتاحة حتى القرن السادس عشر لم تكن تسمح بوجود تيار فلسفي إلحادي، كما لم يكن لدى الفلاسفة الدعم العلمي الفيزيائي الذي يسمح لهم بتشكيل رؤية إلحادية مادية للكون.
لكن هذا الإجماع على وجود الإله بدأ بالاهتزاز على يد رواد “الثورة العلمية” المقترنة بثورات سياسية واقتصادية، مثل كوبرنيكوس تل الصلبان في ليتوانيا بأوروبا الشرقية يحتوي على مئات آلاف الصلبان، فمع أنهم كانوا مؤمنين بالله إلا أنهم مهدوا الطريق للشك بوجوده بتقديم رؤية مادية للكون، حيث شاع الاعتقاد آنذاك بأن اكتشاف القوانين المادية التي تتحرك وفقها الأشياء والأجرام يعني عدم الحاجة لوجود خالق.
بيير لابلاس
ومع حلول نهاية القرن الثامن عشر، أهدى عالِم الرياضيات الفرنسي بيير لابلاس نسخة من كتابه “حركة الأجرام السماوية” إلى الإمبراطور نابليون بونابرت، فسأله الأخير عن سبب إغفال ذكر الإله في كتابه الرياضي، فأجابه “سيدي، لست بحاجة لهذه الفرضية”. ويرى العلماء الملحدون اليوم أن هذا الموقف كان مؤشرا على بداية ظهور الإلحاد المدعوم بالعلم، والحقيقة أن نظرية لابلاس الرياضية لم تكن أصلا تستلزم البحث في وجود إله، فهو لم يستغنِ عن اللاهوت كما يقول أوستن فارر، بل تعلم كغيره من العلماء ألا يتدخلوا في الدين وأن يلتزموا حدود تخصصهم. فلو أن نابليون سأل لابلاس من البداية: لماذا يوجد كون من أجرام مادية تتحرك وفقا لقوى الجاذبية التي تعبر عنها معادلاتك؟ فعندئذ سيكون من الصعب أن يجيب بنفس جوابه السابق، لكن الملحدين المعاصرين اعتادوا على اعتبار ذاك الجواب كافيا عندما قرروا توسيع دائرة العلم ليشمل كل شيء.
وبالرغم من شيوع الأفكار العلمانية والتحلل من الأديان كلها في تلك الفترة، ولا سيما في ظل الدعم الذي قدمته الجمعيات السرية للأنظمة السياسية الثورية وللجمعيات العلمية الحديثة، إلا أن الإلحاد لم ينتشر بصورة ملحوظة إلا بعد ظهور نظرية تشارلز داروين في النشوء والارتقاء بمنتصف القرن التاسع عشر، حيث أصبح من الممكن أخيرا تقديم تفسير “علمي” لوجود الكائنات الحية ذات الصنع المتقن -وعلى رأسها الإنسان نفسه- دون حاجة للتصديق بوجود خالق لها، فأنشأ بعض الفلاسفة تيارات جديدة على أساس إلحادي، مثل أوغست كونت وكارل ماركس وفريدريك نيتشه وسيغموند فرويد ولودفيغ فيورباخ.
بعض أدلة وجود الله سنلخص في هذه الفقرات أهم الأدلة العقلية والحسية التي تؤكد ضرورة وجود إله، ونحن نرى أن مناقشة تفاصيل التساؤلات التي قد يطرحها المشكك قد تستغرق مئات الصفحات وتتطلب من القارئ غير المتخصص جهدا مضاعفا، والأولى أن نبين الأدلة التي تقبلها كل العقول لبداهتها، فلو كان وجود الإله غامضا لكان الإيمان به من شأن النخبة فقط، ثم نستشهد بما أثبته العلم التجريبي من ضرورة الخلق والتدبير.
الدليل الأول: الصنع الغائي ذكرنا في مقال مصادر المعرفة أن في العقل البشري مبادئ أولية “بدهيات” لا تحتاج إلى إثبات، ومنها دلالة الصنع الغائي على وجود صانع له غاية، فعندما يرى الإنسان قلماً صغيراً بعلامات دقة واضحة فإن عقله يقتنع مباشرة بأن هناك صانعا صنعه ليؤدي غاية ما، فالقلم المُتقن ليس ككومة تراب أو حجارة عشوائية في الصحراء، والأمر ذاته ينطبق على الأشياء الأكثر تعقيدا كالحاسوب والهاتف والسيارة، فكلها تحمل علامات صنع لتؤدي غايات معينة.
والعقل لا يستطيع أن ينكر هذا المبدأ البدهي، وأقصى ما يمكنه أن يفعل هو أن محاولة التشكيك في استمرار العلاقة الدائمة بين التصميم والمُصمم، فيفترض احتمال انفكاك هذه العلاقة في ظرف لا نعلمه بعد، أو يقول إن أحكامنا هذه مبنية على أمثلة نعرفها لأنها تتعلق بأشياء صنعها الإنسان، فيرفض سحب دلالة الصنع الغائي على سائر الأشياء الأخرى لتدل على وجود خالق.
لكن محاولة إنكار اطّراد العلاقة بين التصميم والمُصمم أو المصنوع والصانع هو إنكار للعقل نفسه، فهو كقول قائل إن جمع واحد مع واحد يساوي اثنين لا يصح إلا فيما نعرفه فقط وإنه ليس بالضرورة أن يكون هكذا دوماً في ظروف أخرى لا نعرفها، وهذا نوع من السفسطة، فالبديهيات العقلية لا تتجزأ ولا تنفصل.
في عام 1997 أنتجت هوليود فيلما بعنوان “اتصال” contact، مقتبسا عن رواية بنفس الاسم للعالِم الفلكي كارل ساغان، حيث يحكي الفيلم قصة عالِمة فلك تدعى “إيلي” وهي تدرس مع زملائها في مركز أبحاث “سيتي” إشارات واردة من أعماق الفضاء، ويتبين أنها تتمتع بصفتي التفرد والتعقيد، ما يؤكد استحالة كونها قد نشأت بالصدفة، لذا يصيح أعضاء الفريق “إنها ليست تشويشا كونيا، إنها تحمل نظاما”، ثم تكشف أحداث الفيلم عن ورود تلك الرسائل بالفعل من عوالم أخرى.
واللافت أن كلا من مؤلف القصة ساغان وبطلة الفيلم جودي فوستر ملحدان، فالفيلم يؤكد أن رسالة معقدة واحدة تكفي لإثبات وجود مرسل ذكي، لكن ساغان لا يستخدم نفس هذا المنطق عندما يرى أن تعقيد الحمض النووي لا يمكن أن ينشأ عن صدفة عشوائية!
يقول علي عزت بيجوفيتش في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”: “إذا وجدنا في اكتشاف أثري حجرين موضوعين في نظام معين أو قُطّعا لغرض معين، فإننا جميعاً نستنتج بالتأكيد أن هذا من عمل إنسان ما في الزمان القديم. فإذا وجدنا بالقرب من الحجر جمجمة بشرية أكثر كمالاً وأكثر تعقيداً من الحجر بدرجة لا تقارن، فإن بعض العلماء المكتشفين لن يفكر في أنها من صنع كائن واع، بل ينظرون إلى هذه الجمجمة الكاملة أو إلى الهيكل الكامل الذي تتجلّى فيه قدرة صانعه كأنهما قد نشئا بذاتيهما أو بالصدفة”.
ومن الملاحظ أن الكثير من العلماء الملحدين المعاصرين يدعمون مشاريع عملاقة للبحث عن مؤشرات لوجود كائنات حية في كواكب أخرى، وذلك برصد الإشارات اللاسلكية والميكروية القادمة من أعماق الكون، أملا في أن تحمل رسائل مشفرة تختلف عن النبضات والموجات الكونية العادية، فلو كانوا يعتقدون فعلا بأن العوالم الأخرى لا يجب أن تنسحب عليها مبادئنا العقلية فلا ينبغي إذن أن يعتقدوا بأن ما قد يصل من تلك العوالم من علامات الذكاء هو مؤشر على أي شيء يخص تلك العوالم المجهولة.
حاول فيلسوف الشك والعدمية ديفيد هيوم [انظر مقال مصادر المعرفة] أن ينفي صحة دليل الغائية والتصميم معتبرا أنه من باب قياس الغائب على الشاهد، كأن نقول مثلا إذا كان للبيت مهندس فلا بد أن يكون للكون خالق، وهذا قياس للكون على البيت وقياس للإله على الناس. ويقول هيوم أيضا إننا لم نشاهد عالَما آخر لنقارنه بعالمنا كي نستنتج أن هذا العالم مخلوق بالضرورة.
لكن هيوم لم يلاحظ أن البيت والكون من جنس واحد، فكلاهما كيان مادي حادث في الزمان والمكان، وكلاهما يحتاج إلى طاقة، والاختلاف بينهما يقتصر على الصفات فقط وليس الجنس.
واللافت أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت كان قد سبق هيوم وأوضح أن “برهان التصميم” يعتمد على الحدس (نقصد هنا الحدس الفلسفي وليس الصوفي)، أي بالإدراك العقلي المباشر وليس بالاستنتاج والقياس، فديكارت يقول إن أولى الحقائق التي يدركها العقل هي وجود الذات (أنا أفكر إذن أنا موجود)، ثم يدرك مباشرة أن هناك خالقا موجودا بالضرورة وهو الذي أوجده، وهذا الإدراك ليس قياسا بل حدسا.
فإذا هبط أحدنا مثلا على سطح كوكب بعيد ووجد عليه جهازا معقدا وهو لا يعرف شيئا عن حقيقته وآلية عمله، فسيدرك فورا وبدون قياس ولا مقدمات أن هناك مصمما ما قام بتصميم هذا الجهاز.
العلة الفاعلة والعلة الغائية قد يقع الإنسان في الحيرة عندما يخلط بين العلتين الفاعلة والغائية، فالرؤية المادية للكون لا تتجاوز العلة الفاعلة (الكيفية) لتفسير ظواهر الكون، مثل نسبة حركة الكواكب إلى قوى الجاذبية والطرد والتنافر، وهي علل (أسباب) يعترف بها المؤمن ويدرسها ويتعامل معها وفقا لقوانينها، إلا أنه يرى في الوقت نفسه أن هناك علة غائية وراءها تعود إلى إرادة الإله وقدرته.
ولا تتعارض العلتان بالضرورة، فعندما نقول إن شخصا حُكم عليه بالإعدام شنقا قد فارق الحياة بسبب الشنق؛ فنحن نتحدث هنا عن العلة الفاعلة (كيفية موته)، وسنكون على حق أيضا إذا قلنا إنه مات لأنه قتل شخصا بريئا (علة موته)، فيكون الحديث هنا عن العلة الغائية التي لأجلها تم لف حبل المشنقة حول رقبته.
الدليل الثاني: السببية وعدم التسلسل تعد السببية من البدهيات العقلية الأولية أيضا، ولتوضيحه نضرب مثالا بجنديّ يحمل سلاحه ويستعد لإطلاق رصاصة عند أمر قائده، ولكن قائده ينتظر أمراً من قائده، وقائده ينتظر أيضا أمر قائده… وهكذا، فإذا افترضنا ان هذه السلسلة من القادة مستمرة إلى ما لا نهاية وأنه لا يوجد قائد أخير تصدر كل الأوامر منه دون أن ينتظر أمرا من أحد؛ فهل ستنطلق رصاصة الجندي؟ والإجابة هي حتما لا.
لذا يجزم العقل البشري باستحالة أن يكون الكون وما فيه من موجودات معقدة قد نشأت عن سلاسل مستمرة من الظهور والفناء للذرات ومكوناتها من غير بداية محددة، فلكل سبب مسبِّب ولكل حادث مُحدِث، ولا بد من وجود موجود أول غني عن كل ما سواه.
من أجل ذلك آمن الفلاسفة على مر العصور بالإله، على اختلاف تصوراتهم له، وعبّر عنه الفلاسفة في التراث الإسلامي بقولهم إنه “واجب الوجود”، وذلك لأن كل الموجودات في هذه القسمة العقلية إما ممكنة الوجود (أي أن وجودها وعدمها يستويان في الاحتمال وهي كل الموجودات في الكون)، وإما مستحيلة الوجود (وهي الأشياء المتناقضة في ذاتها كأن نتخيل وجود مربع بثلاث زوايا في مستوى واحد)، وإما واجبة الوجود (أي التي لا بد من وجودها لأنها سبب وجود الممكنات، وهو الخالق الأزلي).
وقد يتساءل المشكك: لماذا نستثني الإله من التسلسل؟ فإذا كان لا بد لكل موجود من موجِد فلماذا لا يكون للإله خالق أوجده؟ والجواب هو أن إنكار السببية سيوقعنا في مشكلة أكبر، فإذا اعتبرنا الإله محتاجا لموجد آخر فقد أصبح بذاته مشابها للموجودات الأخرى، وسنستمر في التسلسل للبحث عن أصل أول، وبما أن كل الموجودات المادية التي يألفها الحس والعقل لا يمكن لها أن توجد بذاتها فلا بد عقليا من الإيمان بوجود أصل غير مادي وغير محتاج لأحد سواه.
وإذا لم نصل إلى هذه النتيجة، فإما أن نمنح الكون نفسه صفة الألوهية، فيكون أزليا بذاته، وهذا مستحيل عقليا وحسيا، وإما أن يكون الكون هو الذي أوجد نفسه من عدم، وهذا غير معقول أيضا.
إذن فالذي تستثقله النفس هو صعوبة تصور الإله المستغني بذاته، وذلك لأنه مختلف عن كل ما نتصوره ونعرفه، لكن هذا لا يعني استبعاد وجوده، بل وجوده ضروري لكن تصوره مستحيل.
لذا أمر الأنبياء أتباعهم بعدم التفكر في ماهية (حقيقة) هذا الإله، حيث قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم “يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته” [رواه البخاري ومسلم]، فالنبي أوضح أن العقل البشري عندما يصل إلى هذا النوع من التساؤل فإنه قد بلغ حده، ولم تبق له سوى وساوس الشيطان التي تلقي في قلبه الشك، لأن قياس الغائب على الشاهد ليس من المنطق في شيء، ولا يصح للعقل الذي انتهى إلى ضرورة وجود الإله أن يقيس هذا الإله (واجب الوجود) على مخلوقاته (ممكنة الوجود).
لايبنتز
يقول الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز “وإذا كانت عقولكم لا تتصور هذا الإله فلا يلزم عن ذلك عدم وجوده، فكثير من الحقائق لم تتمكنوا من تصورها وهي موجودة عقلا”، لذا فإن قياس الإله على الأشياء هو قياس تمثيل ومغالطة، فيكفي للعقل أن يستدل على وجود الإله بآثاره.
والعقل يستبعد تصور حقائق أخرى كثيرة مع أنها موجودة في عالم الحس وبمتناول اليد، ونذكر منها هذه الأمثلة:
1- قصة الحكيم الذي اخترع الشطرنج: حيث طلب من الملك الذي أعجب باللعبة أن يحصل على مكافأة بدا للملك أنها تافهة، فقال إنه يطلب وضع حبة قمح واحدة في أول خانة من رقعة الشطرنج، وحبتين في الثانية، وأربع حبات في الثالثة، ثم ثماني حبات، وهكذا بمضاعفة الحبات في كل خانة تالية وصولا إلى الخانة الرابعة والستين، فضحك الملك وأمر الحاشية بتنفيذ الطلب، لكن حساب هذه المتتالية خرج بنتيجة مفادها أن خزائن المملكة كلها لا تكفي.
2- أحجية الورقة المقطعة: تصور وجود ورقة رقيقة سمكها 1/100 ملم، واقطعها إلى نصفين، ثم اقطع النصفين إلى أربعة، وتابع القطع مع وضع الأنصاف فوق بعضها، وستجد أن سُمك ما تم تجميعه بعد 48 مرة فقط سيصل إلى القمر.
3- تباطؤ الزمن: كان جميع الفيزيائيين طوال التاريخ يتصورون أن الزمن ثابت، ثم أكد أينشتاين في القرن العشرين أنه نسبي، وأن سرعة الضوء هي الثابت، فالزمن يتمدد ويتقلص حسب سرعة الجسم المتحرك، وهو أمر يصعب على العقل حتى الآن تصوره مع أنه مثبت رياضيا وعمليا.
الدليل الثالث: الفطرة تنكر المذاهب الحسية والمادية وجود الأفكار الفطرية [انظر مقال مصادر المعرفة]، ويستند إليها الملحدون لتبرير فراغ العقل البشري من أي معلومات أولية قد تدل وجود خالق أنشأها، لكن بحثا أجراه البروفسور جستِن باريت Justin Barrett في جامعة أوكسفورد أثبت العكس، حيث طبق دراسته على أطفال في أعمار مبكرة طوال سنوات ليخرج بنتيجة تؤكد أن الأطفال لديهم القابلية المُسبقة للإيمان بـ”كائن متفوق”، وذلك لأنهم يعتبرون أن كل ما في هذا العالم مخلوق لسبب، وعبر عن ذلك بقوله “إننا إذا وضعنا مجموعة من الأطفال على جزيرة لينشأوا بمفردهم، فأعتقد أنهم سيؤمنون بالله”.
وضع باريت نتائج أبحاثه في كتاب نشر عام 2012 بعنوان “مؤمنون بالفطرة”، كما نشرت عدة وسائل إعلام تقارير عن أبحاثه، ومنها صحيفة تليغراف البريطانية في نوفمبر 2008، بينما قال لإذاعة بي.بي.سي في حوار إذاعي “إن غالبية الأدلة العلمية في السنوات العشر الماضية أظهرت أن الكثير من الأشياء تدخل في البنية الطبيعية لعقول الأطفال بشكل مختلف عما ظننا مسبقاً، من ضمنها القابلية لرؤية العالم الطبيعي على أنه ذو هدف ومصمم بواسطة كائن ذكي مُسبب لذلك الهدف”.
وقد انضم إلى البروفسور باريت باحث آخر، هو البروفسور جوناثان لانمان Jonathan A. Lanman من جامعة أكسفورد، الذي وضع بحثا بعنوان “علم الإيمان الديني” The Science of Religious Beliefs، وتساءل فيه “إذن من أين جاءت هذه الاعتقادات الفطرية بوجود الخالق؟ فنحن لا نستطيع القول بأنهم (الأطفال) تعلموها من المجتمع وذلك لأنها اعتقادات فطرية، وكذلك الدراسات أكدت أنها لا تعتمد على ضغوطات المجتمع وهي مشتركة بين مختلف الثقافات”.
وبالطريقة نفسها، تقول الباحثة في علم نفس النمو والأديان بجامعة أكسفورد أوليفيرا بيتروفيتش Olivera Petrovich في كتابها “نظرية الطفل عن العالم” Child’s Theory of World إن “الإيمان بالله ينمو طبيعياً، أما الإلحاد فهو بالتأكيد موقف مكتسب”.
وهو ما يؤكد المقولة الشهيرة المنسوبة إلى المؤرخ الإغريقي بلوتارخ، عندما قال “لو سافرنا خلال العالم، فمن الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار، بلا حروف، بلا ملوك، بلا ثروات، بلا عملات، بلا مدارس ومسارح، ولكن أن نجد مدينة بلا معبد، وبلا ممارسات وعبادة وصلاة ونحوه، فلم ير أحد ذلك قط”.
الدليل الرابع: وجود الشر بقليل من التأمل يمكننا أن نكتشف أن وجود الشر يؤكد وجود “مصدر مفارق للعالم”، بدلا من أن يكون دليلا على عدم وجوده كما يحاجج الملحدون، فالاعتقاد بأن وجود الشر لا يتناسب مع وجود إله رحيم يحب الخير هو ميل نفسي وليس دليلا عقليا، فلا يتناقض في العقل وجود هذا الإله مع سماحه بوجود الشر في العالم الذي خلقه لغرض الامتحان.
فوجود الشر يؤكد بالفعل وجود إله مفارق لهذا العالم المادي، لأنه اعتراف بوجود إله يمثل الخير بالفطرة، وإلا فمن أين أتى التمييز البشري بين الخير والشر إن كان الأصل في الوجود المادي هو عدم الترجيح في الأفعال بين خير وشر؟ فالإله المفارق للموجودات هو الذي أعطى معنى الخير، وهو الذي منح الإنسان القدرة على تمييزه عن الشر، بينما لا يستطيع أي باحث أن يجزم بأن الخير (بمعناه العام) هو الأصل الوحيد في نفوس الإنسان والحيوانات، خصوصا وأن من يؤمن بنظرية التطور يرى أن استمرار الحياة قائم أصلا على الصراع وأن البقاء للأقوى، فالأقوى هو الأقدر على قتل الضعيف ونهب حقوقه وليس العكس.
وقد اختلف الفلاسفة وعلماء الكلام في التاريخ الإسلامي حول منشأ الحُسن والقبح، فرأى المعتزلة والشيعة والماتريدية أن العقل يدركهما بذاته، بينما رأى الأشعرية والظاهرية أن تحديدهما يعود إلى الوحي فقط، وجاء من يجمع بين الرأيين ويرى أن العقل قد يستقل بمعرفة حُسن وقبح بعض الأفعال دون بعض، كالعدل والظلم، والصدق والكذب.
جوليان باجيني (Vera de Kok)
وفي أحد التسجيلات المصورة، يوجه الفيلسوف البريطاني الملحد جوليان باجيني سؤالا للمؤمن الذي يلتزم بالأخلاق: هل يأمرك الله بفعل الخير لأنه خير بذاته أم أن الفعل أصبح خيرا لأن الله أمرك بفعله؟ ثم يقول إن “المؤمن لو اختار الخيار الثاني فستكون حجته ركيكة، لذا فإن النقطة الأساسية هي أنه حتى الإله يختار فعل الخير لأنه خير، إذن فهو خير بذاته، ومن ثم فيمكن للملحد أيضا أن يكتشفه بنفسه دون إله”.
وقد يبدو للبعض أن باجيني يشير إلى الخلاف السابق نفسه، لكن جوهر ذاك الخلاف لم يمتد إلى مسألة الوجود الإلهي، فالطرفان يؤمنان بإله خالق للإنسان والفطرة والعقل والأفعال معا، والخلاف بينهما محصور في مدى قدرة العقل البشري على تصنيف الأفعال دون مصدر موجه، أما المعضلة التي تهرب منها باجيني بمحاولة إلقائها على المؤمنين فهي أن الإلحاد يبقيه حبيس المادة أصلاً، والمادة مهما ارتقت في تطورها المفترض فهي محكومة بالغرائز، وليس هناك ما يبرر اكتشافها الذاتي لمفاهيم نبيلة لا تحقق لها أي مصلحة، مثل التضحية والإيثار، لذا لم يجد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (توفي عام 1804م) بداً من الإيمان بوجود إله مفارق لحل معضلة الأخلاق.
ولا يمكن للملحد أن يثبت عمليا استقلال الأخلاق عن الأديان والميتافيزيقيا، فليس هناك مجتمع ملحد ومادي مئة بالمئة، وليس هناك أيضا أي فرد طبيعي في هذا العالم يعيش في عزلة تامة عن كل المؤثرات الدينية في مجتمعه. لذا يقول المفكر والرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش “يوجد ملحدون على خلق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي” [الإسلام بين الشرق والغرب، ص175].
وقد أقر العديد من مفكري الإلحاد المعاصرين بمأزق البحث عن أساس أخلاقي دون مرجعية غيبية (ميتافيزيقية)، ومنهم الفيلسوف الأميركي جيمس ريتشلز الذي اعترف في كتابه “مصنوعون من الحيوانات: الآثار الأخلاقية للداروينية” أن السؤال عن بديل للرؤية الأخلاقية الدينية من منظور دارويني إلحادي هو سؤال صعب، ثم أخذ يبحث في الكتاب عن تأصيل فلسفي للأخلاق من منطلق ذاتي، ليثبت بذلك من غير قصد أن الأخلاق المجردة عن المصدر المفارق (الموضوعي) ستؤدي في النهاية حتماً إلى نسبية الأخلاق، ومن ثم إلى انهيار أي مرجعية تثبتها.
أما الفلسفة البراغماتية، التي انبثقت عن الفكر المادي في مطلع القرن العشرين، فلم تستطع تقديم حل مقنع للمعضلة مع تغييب العنصر الإلهي، فاضطرت للاكتفاء بربط الأخلاق بالمصلحة، وزعمت أن ما كان نافعا للإنسان فهو خير.
جون لوك
ولو افترضنا أن البشرية كلها كانت لا تؤمن بإله يراقبها في كل لحظة وسيحاسبها عاجلا أو آجلا، فهل كانت الكائنات البشرية “المتطورة” ستهذب غرائزها بالفعل دون حاجة لوازع ديني؟
يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك “إذا كانت غاية الإنسان مقتصرة على هذا العالم، وإذا كنا نستمتع بالحياة في هذه الدنيا فحسب، فلن نجافي المنطق إذا بحثنا عن السعادة الشخصية ولو كان ذلك على حساب الآباء والأبناء”. وهذا القول يلخص تعارض الأخلاق مع المادية بكل أمانة، فمفهوم التضحية على سبيل المثال لا يمكن فهمه ولا تبريره بالمنطق المادي الإلحادي، بل هو ضرب من “الغباء” لكونه يتعارض مع المصلحة.
يحاجج البعض بأن بعض المجتمعات المعاصرة التي تزداد فيها نسبة الإلحاد تحتفظ في الوقت نفسه بقدر كبير من الالتزام الأخلاقي، ولا سيما عند مقارنتها بمجتمعات توصف بأنها متدينة، لكن هذه المقارنة لا تكتسب صفة علمية ولا تقدم برهانا سليما، فالسببية في القضايا الاجتماعية أكثر تعقيدا بكثير مما هي عليه في الظواهر الفيزيائية، وعلى الباحث أن يجرد جميع العوامل قبل أن يقارن بين أخلاقيات المجتمعين، وإلا فيمكن الافتراض أن الالتزام الأخلاقي في مجتمع إلحادي (على فرض وجوده) قد ينبع من الانضباط الذي ينشأ عليه الفرد، وأن ارتفاع الدخل وانتشار كاميرات المراقبة وقسوة القانون هي كلها عوامل تحول دون ميل الفرد الملحد في سويسرا مثلا إلى السرقة، وذلك على العكس من فرد ينشأ على الفقر والجهل في بلد يسوده الفساد الإداري ويوصف خطأً بأنه مجتمع متدين.
لكن المقارنة قد تصبح أكثر إقناعا عندما يُقارَن سلوك وانضباط الشخص نفسه قبل تدينه وبعده، كما يحدث مع المجرمين الذين يعتنقون ديناً ما في السجون.
وسيصبح أكثر وضوحا أيضا عندما نستدل ببعض البرامج الترفيهية التي ظهرت مؤخرا على الإنترنت، والتي تم تصويرها بكاميرات خفية لاكتشاف مواقف وردود أفعال أشخاص عشوائيين، فالكثير من هذه التجارب تكشف أن الفرد الغربي الذي نشأ في مجتمع منضبط بالقانون قد يتساهل في ارتكاب سرقة طفيفة عندما يكون بعيدا عن عيون الرقابة والقانون، وهذا السلوك يمكننا أن نفهمه طالما أن الفرد لا يؤمن بإله يراقبه وسيحاسبه على كل كبيرة وصغيرة، فالأصل في حالة الإلحاد والبراغماتية وبقاء الأقوى أن يفكر الإنسان بمصلحته العاجلة قبل مصلحة الآخرين، وأن ينتشي بقدرته على السرقة بدلا من الخجل.
من جهة أخرى، يقول الكاتب الإيرلندي سي.إس لويس، الذي ألحد في فترة من حياته بسبب تشاؤمه من الشر والحروب وموت أقرب الناس إليه بالأمراض، “كانت حُجتي ضد الله أن الكون يبدو في غاية القسوة والظلم. ولكن كيف حصلتُ على مفهوم الظلم والعدل هذا؟ فالإنسان لا يصف الخط بأنه منحني إلا إذا كانت لديه فكرة عن الخط المستقيم، فبماذا كنت أقارن هذا العالم عندما وصفته بأنه ظالم؟ إذا كان العرض كله سيئاً ولا معنى فيه من الألف إلى الياء إن جاز التعبير، لماذا أنا -الذي من المفترض أن أكون جزءًا من هذا العرض- أجد نفسي في رد فعل عنيف معارض لذلك؟ الإنسان يشعر بالبلل عندما يقع في الماء، لأن الإنسان ليس حيواناً مائياً، ولكن السمك لا يشعر بالبلل بالطبع” [Mere Christianity, p. 38-39].
إن محاولة الاحتجاج بالشر على عدم وجود الخالق تحوي في طياتها عوامل الهدم الذاتي والتناقض المنطقي، إذ يحق لأي مؤمن في المقابل أن يقول بالمثل: ووجود الخير في العالم يدل على وجود الله، وإذا افترضنا أن الخالق إله شرير فسنجد أن مشكلة وجود الشر لا علاقة لها في الأصل بوجود خالق أو عدمه، فنحن لا نقول إنه لا توجد حكومة إذا كانت سياستها شريرة، ولا نقول إنه لا وجود لصانع القنبلة النووية لأنها سلاح شرير، فالصواب أن هناك علامات خاصة بالصنع والتصميم (أو الخلق والتقدير) مفصولة عن قيمتي الخير والشر.
لذا يمكننا القول إن هذه “المعضلة” ذات منشأ نفسي لا عقلي، وسنناقش في نهاية مسير بحثنا عن الحقيقة الجانبَ النفسي لوجود الشر، وذلك في مقال “الأسئلة الوجودية الكبرى“.
الدليل الخامس: دقة الضبط الكوني استند الإلحاد المعاصر في بدايته على فرضية تقول إن الكون (المادة والطاقة) أزلي لا بداية له، ثم صيغت الفرضية على شكل نظرية سميت بالكون المستقر، وكان من أشهر المدافعين عنها عالم الرياضيات والفلك البريطاني فريد هويل.
لكن العلم أثبت استحالة أزلية الكون؛ إذ لو كان كذلك لتبددت طاقته وتوزعت عشوائيا بدلا من التجمع منذ زمن بعيد، ولتوقف بذلك كل نشاط في الوجود، وهذه الحالة التي تسعى للاستقرار تسمى بالإنتروبي حسب القانون الثاني للديناميكية الحرارية.
وفي ستينيات القرن الماضي بدأت نظرية الانفجار العظيم Big Bang بالتغلب على نظرية الكون المستقر، وهي تنص على أن الكون الذي يتسع باستمرار كان قد نشأ من نقطة أولية، وأن النشوء والاتساع الكوني يتوقفان على قوانين وثوابت فيزيائية في غاية الدقة، ما دعا العلماء لإطلاق مصطلح الكون المضبوط بعناية Fine-tuning of universe، وخصوصاً مع دقة الثابت الكوني Cosmological constant لاتساع الكون، والتي بلغت 1 إلى “10 أس 122” (1 وأمامه 122 صفرا) وهو رقم لا يسمح بوجود الصدفة والعشوائية.
وفي محاولة لإنكار وجود القصد (الإلهي) وراء هذه الدقة، افترض الفيزيائيان ستيفن وينبرغ وستيفن هوكينغ أن هذا الكون الدقيق ليس سوى حالة نادرة من بين عدد هائل من الأكوان الأخرى العشوائية التي تسبح في الوجود. وقد حاول هوكينغ في كتابه “التصميم العظيم” The Grand Design حساب احتمال وجود هذا الكون من بين الأكوان العشوائية، فوجد أن الصدفة تتطلب وجود “10 أس 500” كون (أي 1 وأمامه 500 صفرا)، وهو افتراض لا يدعمه دليل أصلا.
كان الملحدون في القرن العشرين يستندون إلى ما يسمى بنظرية القردة، والتي تفترض أننا إذا وضعنا مجموعة قردة أمام لوحة مفاتيح للضرب عليها في زمن غير محدود فلا بد أنها ستنجح بالصدفة يوماً ما في كتابة قصيدة لشكسبير.
حاول عالم الأحياء الملحد ريتشارد دوكينز في كتابه “صانع الساعات الأعمى” (1986) اقتراح آلية لإنجاح التجربة، فكلما كتب قرد حرفا نقارنه مع الحرف الذي نتوقعه، فإن نجح احتفظنا به وإلا حذفناه وسمحنا للقرد بالمتابعة، والعجيب أن دوكينز لم ينتبه إلى أن “التطور الأعمى” الذي يتخيله ليس له هدف أصلا، فالمعلومات التي ينبغي للصدفة والعشوائية أن تنتجها يشترط دوكينز أنها موجودة أصلا في الكائن الحي الذي لم يتطور بعد، وهذا استدلال دائري [انظر المغالطات المنطقية].
وقد بيّن العالِم التطوري رونالد فيشر أن الطبيعة لا تحتفظ بالحرف الصحيح كما يتخيل دوكينز، فمعظم الطفرات النافعة تختفي عشوائيا أو بفعل الطفرات الضارة الأكثر عددا بكثير [العلم ووجود الله، ص 299].
دوكينز (David Shankbone)
ومع ذلك، حاول البعض أن يتحققوا من فرضية القردة عمليا، فوضع باحثون في “المجلس القومي البريطاني للفنون” ستة قرود في قفص مع كمبيوتر لمدة شهر، ولم يحصلوا على كلمة واحدة، مع أن أقصر الكلمات بالإنجليزية مكونة من حرف واحد وهو A، وهي تتطلب النقر على هذا الحرف مع النقر على زر المسافة قبله وبعده فقط. وعندما احتسب الرياضي جيرالد شرويدر في كتابه “علم الإله” Science of God نسبة احتمال الحصول على إحدى قصائد السوناتا لشكسبير والمكونة من 488 حرفا عبر الضرب العشوائي على لوحة مفاتيح مكونة من 26 حرفا، وجد أن هناك احتمالا وحيدا من بين “10 أس 690” من الاحتمالات الخاطئة، ولكي نتخيل ضخامة هذا العدد الهائل يمكننا أن نقارنه بعدد ذرات الكون كله التي تقدر بحوالي “10 أس 80” فقط.
وقد دفعت هذه الحسابات بالملحد الشهير “أنتوني فلو” إلى القول إن البرهان العقلي للإلحاد انهار تماماً، فآمن بوجود الله مؤكدا أن نشوء الحياة أكثر تعقيدا بكثير من الحصول على قصيدة قصيرة بالضرب العشوائي [أنتوني فلو، هناك إله، ص 75].
كما استنتج عالم الرياضيات وليام دمسكي أن “التعقيد المخصص” لا يمكن أن ينشأ بالصدفة، فالنقر على حرف A مخصص لكن دون تعقيد، ونقر جملة طويلة من الحروف العشوائية (كما فعلت القرود) هو أمر معقد لكنه غير مخصص، أما طباعة قصيدة كاملة لشكسبير فهو عمل معقد ومخصص معا.
وبالرغم من ضآلة الاحتمال، فإن المشكلة الأهم هي استحالة رصد تلك الأكوان المفترضة، فأي كون خارج كوننا سيكون خارج ما يسمى بأفق الجسيم the particle horizon، وهي مسافة كبيرة إلى درجة أن أي جسيم حامل للمعلومات لا يستطيع أن يقطعها ليصل إلى الباحث (الراصد) لأن عمر الكون نفسه أقصر من تلك المدة، وهذا يعني أن افتراض الأكوان الأخرى ليس سوى نظرية فلسفية لا علمية.
علاوة على ذلك، أثبت كل من أرفيند بورد وآلان غوث وألكساندر فيلينكن أن أي كون لا بد أن يتوسع طوال تاريخه، وأنه لا بد أن تكون له بداية وليس أزليا، وهذا يعني أنه حتى في حال صحة وجود أكوان أخرى غير هذا الكون، فكل واحد منها لا بد أن يكون قد بدأ من نقطة نشوء ما في الزمن الغابر.
ومع ذلك، يتمسك العلماء الملحدون بفرضية “الأكوان المتعددة” لأنها الملاذ الوحيد، حيث قال وينبرغ في لقاء مع زميله دوكينز “إذا اكتشفت أن هذا الكون المدهش معد فعلياً بعناية… أعتقد أنه ليس أمامك ساعتها إلا أحد احتمالين، إما خالق عظيم، وإما أكوان متعددة”.
لكن وجود تلك الأكوان -والتي يستحيل إثبات وجودها علميا- سيضع وينبرغ أمام بحث آخر حول نشأتها ومصدر قوانينها وثوابتها الفيزيائية، فإذا كان يعتقد أنه سيتخلص عندئذ من معضلة إعداد الكون بعناية fine tuning، فسيجد أكوانا أخرى معدة بعناية أيضا، وربما كانت أكثر إعجازا وتعقيدا، وسيضطر بذلك للبحث عن خالقها بدلا من الاستناد إلى الصدفة.
وبدوره، يقول الفيزيائي اللاديني ليونارد سوسكايند “إن الثابت الكوني من الرهبة بمكان بحيث أنه يصير بهذا المقدار الذي لا يسمح بتدمير النجوم والكواكب والذرات، لكن ما هذه القوة الغامضة والعجيبة التي استطاعت أن تحسب هذا الموقف المعقد للغاية؟ إن قوانين الفيزياء متوازنة على حافة سكين حاد للغاية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يطرح أسئلة كبيرة” [The Cosmic Landscape, p. 88].
يحاول البروفيسور لورنس كراوس في كتابه “كون من لاشيء” إثبات إمكانية انبثاق الكون المادي من العدم من تلقاء نفسه، إلا أن المأخذ الجوهري على نظريته هو أنه حاول إقناع قرائه بأن “اللاشيء” هو “العدم” نفسه، وقد يكون هذا الخلط مقبولا في اللغة إلا أنه مغالطة كبيرة في الفيزياء، فحسب فيزياء الكم لا يوجد فراغ ليس فيه أي شيء أو فيه عدم محض، فالعدم هو نقيض الوجود أصلا ولا يمكن للعدم أن يوجد، وقياس طاقة الفراغ في زمن محدد يجب أن يحوي قدرا ما من الطاقة حتى لو كان للجسيمات الافتراضية التي تظهر وتختفي، وهو ما يسمى بالقدر الأدنى من الطاقة الممكنة Zero-point energy، فلا يمكن إذن أن “يوجد” هذا العدم المحض ليكون هو أصل الوجود (الكون). وقد أوضح هذا المبدأ كل من جوهان رافيلسكي وبيرندت مولر في كتابهما “بنية الفراغ”The structured vacuum.
الدليل السادس: عجز نظرية التطور تاريخ النظرية في منتصف القرن الثامن عشر، بدأ ظهور بعض التفسيرات المادية لنشأة وتطور الكائنات الحية على الأرض، وذلك بالتزامن مع انتشار الأفكار العلمانية في أوروبا وحرص العلماء التجريبيين على البحث عن نظريات جديدة لتفسير ظواهر الطبيعة خارج إطار الكنيسة التي احتكرت المعرفة طوال قرون، وكان من أهم المحاولات المبكرة كتاب “زونوميا أو قوانين الحياة العضوية”، الذي كتبه العالِم البريطاني إرازموس داروين عام 1768 ووضع فيه تأملاته الفلسفية حول نشأة الحياة من الأصداف التي شاع اكتشافها في الحفريات، لكن إرازموس لم ينشره لعدم جاهزية بريطانيا بعد لتحدي الكنيسة، والراجح أنه لم يكن ملحداً إلا أنه اعتقد أن دور الإله توقف عند الخلق لتتطور الكائنات وحدها تلقائياً.
جورج دي بوفون
وفي فرنسا التي كانت تتهيأ لثورة عارمة، نشر عالِم الطبيعة جورج دي بوفون كتاب “التاريخ الطبيعي” عام 1780، واقترح فيه أن الكائنات الحية تطورت عن أسلاف مشتركة.
سرعان ما تأثر كثير من المثقفين المتمردين على الكنيسة بنظرية دي بوفون، ودافع عنها بشراسة الفيلسوفان الفرنسيان بارون دولباخ ودينيس ديدرو، حيث وضعا على أساسها نظرية فلسفية تقترح تطور المادة عشوائيا لاكتساب الحياة بدون خالق.
وفي عام 1789 انفجرت الثورة الفرنسية وحملت معها كل الأفكار المادية لتطفو على السطح، فتجرأ إرازموس داروين في بريطانيا على نشر أفكاره، وطرح كتابه “حب النبات” على الجمهور، وقال فيه “لعل كل منتجات الطبيعة في طريقها إلى كمال أعظم”.
وبدوره، حاول عالم الأحياء الفرنسي جان باتيست لامارك تطوير الأفكار المادية الصاعدة في كتابه “التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية” الذي نشره عام 1820، حيث رصد أشكال التشابه بين الأجناس المختلفة، واقترح أن يكون لاستخدام الأعضاء أو عدم استخدامها دور في ظهورها وضمورها، كما حاول أن يربط بين تأثير البيئة وتغيراتها وبين ظهور أو اختفاء تلك الأعضاء، ثم تصور أن الآباء يورثون تلك التغييرات في أعضائهم للأبناء لتنشأ أشكال جديدة من المخلوقات.
ومثل جميع الأطروحات المماثلة، كانت نظرية لامارك أقرب إلى الفلسفة من التجريب، لكنها حظيت بالقبول النفسي من المتمردين على الدين، ولا سيما في فرنسا التي كانت قد نجحت ثورتها للتو على الإقطاع والكنيسة، فبذل مزيد من العلماء جهدهم لوضع الإلحاد في إطار علمي مقبول، ومنهم إيتيان جوفري.
في المقابل، لم يتوان علماء آخرون عن المواجهة، مثل جورج كوفييه الذي يعد من مؤسسي علوم الحفريات والتشريح في العصر الحديث، حيث نشر في عام 1812 كتابه “خطاب تمهيدي” الذي أكد فيه أن التغييرات البسيطة في الكائنات الحية تتطلب تغييرا موازيا في الكثير من أجهزتها وأعضائها بالوقت نفسه، وقال إن معجزة التغيير الموازي في كل الأجهزة وفي نفس الوقت لا تختلف عن معجزة الخلق الإلهي التي يرفضها التطوريون.
وقد دخل كوفييه في مناظرة مع جوفري لعدة أسابيع, وتمكن كوفييه من نقض أدلة خصمه وكبح جماح نظرية التطور قليلاً، إلا أن الدعم الأكاديمي كان موجها للتطور المادي فقط.
إرازموس داروين
هناك العديد من الكتابات التي يرى أصحابها أن الداروينية ارتبطت منذ ظهورها بالجمعيات السرية، ويستشهد أصحابها بهذه العبارة التي جاءت في البروتوكول الثاني من بروتوكولات حكماء صهيون: “لا تتصوروا أن تصريحاتنا كلمات جوفاء، ولاحظوا هنا أن نجاح داروين وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل، والأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي سيكون واضحاً لنا على التأكيد”. وبغض النظر عن صحة نسبة هذه البروتوكولات لجمعيات سرية، فإن العديد من مؤسسي وداعمي فكرة التطور كانوا أعضاء مرموقين في الماسونية، مثل الفرنسي ديدرو، أما إرازموس داروين فتؤكد المراجع الماسونية الرسمية أنه كان من أعضاء محفل “بوابة كانون” في أسكتلندا [انظر: http://freemasonry.bcy.ca]، وبعض المراجع تقول إنه كان أستاذا للمحفل من الدرجة الثالثة والثلاثين، ومن ثم فقد ورّث مهمته إلى ابنه روبرت، والذي ورثها بدوره إلى ابنه تشارلز داروين، واليوم يطلق اسم داروين على أحد المحافل الماسونية في أستراليا.
ويربط الكثير من الباحثين بين الداروينية وآثارها السياسية والاجتماعية، بدءا من مراسلات قيل إنها حدثت بين داروين الحفيد وماركس، ووصولا إلى الاستغلال الحرفي لنظرية التطور في تبرير مذابح العرق الأبيض “الأرقى داروينيا!” للشعوب السوداء والملونة [انظر مقال الشيوعية]، ولعل الباحث التركي المعروف باسم هارون يحيى من أشهر الكتّاب الذين كشفوا هذا الجانب الأسود للداروينية [انظر: http://www.harunyahya.com/]
تشارلز داروين
في عام 1859، برز اسم تشارلز داروين حفيد إرازموس مع نشر كتابه المشهور “أصل الأنواع”، والذي جمع فيه خلاصة تأملاته وملاحظاته بعد رحلة طويلة حول العالم على متن سفينة “بيغل”، وحاول أن يثبت تطور جميع الكائنات الحية -باستثناء الإنسان- من خلية بسيطة عبر آلية الانتخاب الطبيعي، فزعم أن الفرد القوي يستطيع النجاة من الكائنات المفترسة ومصاعب الحياة ليعيش ويورّث عوامل قوته لسلالته، بينما تنقرض الأفراد الضعيفة وتتلاشى، ليستمر بذلك تصاعد السلالات وتطورها، وكلما احتاجت الكائنات إلى مهارة جديدة (مثل الخروج من الماء والسير على اليابسة) تطورت أعضاؤها لتحقق تلك الوظائف الجديدة، مثل تطور زعانف السمكة إلى أطراف تساعدها على الزحف.
كان داروين يدرك أن نظريته تفتقر لأدلة محسوسة، فالنظرة العلمية لأصل الحياة كانت بدائية في عصره قياسا إلى علوم البيولوجيا اليوم، إذ لم يكن الحمض النووي قد اكتُشف أصلا، وكانت فكرة العلماء عن الخلية لا تعدو كونها مجرد مادة هلامية أولية تتكاثر بالانقسام، كما لم تكشف الحفريات في ذلك العصر عن دلائل لل��طور، لا سيما وأن تنوع الكائنات يتفرع إلى أكثر من 8 ملايين نوع من الكائنات الحية، فأوضح داروين في كتابه بصراحة أن نظريته لن تثبت ما لم تظهر الحفريات التي تؤكد التطور، وعلّق الأمر على الاكتشافات المستقبلية.
وفي عام 1871، طوّر داروين فكرته وجعلها شاملة للإنسان أيضا، وقال في كتابه “انحدار الإنسان وعلاقة الانتقاء بالجنس” إن الإنسان انحدر من سلف مشترك مع الكائنات الحية الأخرى، فعارضه عدد من زملائه الذين كانوا على وفاق مع طرحه الأول، لكن النظرية كانت ولاتزال المبرر الوحيد لأي طرح إلحادي لنشأة الحياة، ولا سيما حياة الإنسان.
نقد نظرية التطور ربما لم تحظ نظرية أخرى في كافة العلوم بمثل ما حظيت به نظرية التطور من جدل، فهناك عدد يصعب حصره من الكتب والأبحاث والأفلام والمقالات التي تحاول نقضها أو إثباتها، فالنظرية لم تكن منذ نشأتها مجرد محاولة لتفسير ظاهرة علمية بل كانت ولا تزال أداة أديولوجية للصراع بين المؤمنين والملحدين. وسنعرض فيما يلي بإيجاز شديد أهم الانتقادات التي تثبت ضعف النظرية:
أولا: من أهم الانتقادات لفرضية الانتخاب الطبيعي، والتي تفترض مثلا أن تنجو الغزلان السريعة وتنقرض الضعيفة تحت أنياب الحيوانات المفترسة، أن أثر الانتخاب المزعوم لا يمكن إلا أن يكون محدوداً، فالكائنات القوية موجودة أصلاً ولا علاقة لنجاتها بظهور صفات جديدة لم تكن موجودة في نوعها، مما اضطر داروين إلى خلع صفات العقل والتفكير على الانتخاب الطبيعي وجعل الأمر يبدو وكأن هناك مربي ماشية يخلط بين الأنواع الموجودة لديه للخروج بتشكيلات هجينة، فيقول “من أجل الإيجاز، فإني أحياناً أتحدث عن الانتخاب الطبيعي كقوة ذكية، وبنفس الطريقة التي يتحدث بها الفلكيون عن قوة الجاذبية في التأثير على الكواكب، أو كما يتحدث الزراعيون عن رجل يصنع سلالاته المحلية بقوة اختياره” [The origin of species, P. 6-7].
وقد اعترف عدد من علماء التطور بالافتقار للأدلة، ومنهم كولن باترسون الذي قال “لم ينتِج أي أحد نوعاً بواسطة آليات الانتخاب الطبيعي، بل لم يقترب أحد منه، ويدور معظم الجدل الحالي في إطار الداروينية الجديدة حول هذه المسألة” [Colin Patterson, “Cladistics” Interview with Brian Leek, Peter Franz, March 4, 1982, BBC].
ثانيا: أدرك داروين مبكرا أن نظريته لن تستطيع تفسير وجود الجَمال، فالجمال لا يفسر من ناحية تكوينه وغايته بالعشوائية والصدفة، خصوصاً أن بعض الأسماك والكائنات البحرية التي تعيش في أعماق مظلمة تعد آية في الجمال، فلمَن كان هذا الجمال طالما أنه لا يراه أحد؟
لذا قال داروين في رسالة بعثها إلى صديقه أسا غراي في 3 أبريل 1860م “أما الآن، فبعض التركيبات الواضحة في الطبيعة تزعجني، مثلاً رؤية ريش الطاووس تمرضني”. [نص الرسالة رقم 2743 في مشروع تجميع رسائل داروين بجامعة كامبردج: اضغط هنا].
ثالثا: اعترف داروين باستحالة تطور الغرائز، وخصوصاً تلك التي ترتبط بها نجاة الكائن من الموت أو نجاة الوليد نفسه أو الأبناء، فالملاحظة تؤكد وجود تلك الغرائز مع الاستعداد للتعلم، فإما أن توجد الغريزة كاملة فينجو بها الوليد وإما ألا توجد فيموت، ولا مكان للتدرج والتطور هنا. كما لم يكتشف أحد حتى الآن أي تمثيل جيني لتلك الغرائز في الكائنات، ولا لكيفية انتقالها من الآباء إلى الأبناء، وخصوصاً لدى الكائنات التي لا تتزاوج أصلاً مثل النحلة الشغالة، لذا قال داروين إن “هناك غرائز كثيرة مُحيرة إلى حد أن تصورها ربما سيعطي قرائي القوة الكافية لإفساد نظريتي بكليتها” [The origin of species, P.233].
نظرية التطور تعجز عن شرح أساليب التمويه التي تتمتع بها الكثير من الكائنات الحية، فما هي الآلية التي لجأت إليها هذه العظاءة لإدراك العلاقة بين شكلها وشكل بيئتها ثم قامت بتعديل شكلها على مدى أجيال لتصل إلى هذا التطابق كي تمنع الحيوانات المفترسة من رؤيتها؟
تقوم فلسفة التطور جذريا على غريزة البقاء Self-preservation، فهي تفترض أن جميع الكائنات الحية -من البكتيريا إلى الإنسان- تشترك في هذه الغريزة، فهي تسعى إلى الغذاء والتكاثر ومقاومة الموت بشكل غريزي، بل يكاد يكون هدف وجودها هو البقاء على قيد الحياة لأطول مدة ممكنة مع ترك بذور حياة السلالة لتبقى من بعدها على قيد الحياة.
وبقليل من التأمل، يبدو أن هذه الغريزة ليس لها أي مبرر مادي، فحتى لو أثبتنا أن الصدفة وقعت فعلا ونقلت مادة جامدة إلى الخلية الحية الأولى؛ فكيف نفسر نشأة غريزة حب الحياة وما يستلزمها من بحث عن الغذاء وطرح الفضلات ومقاومة عوامل الفناء والسعي للتناسل؟
يقول عالم الجينات فرانسيس كولينز إننا لا نعرف كيف نشأت أصلا الكائنات الحية القادرة على إعادة إنتاج نفسها، فليست لدينا فرضية واحدة تقترب من تفسير ما قامت به بيئة ما قبل الحياة لإنشاء الحياة في غضون 150 مليون سنة فقط [The Language of God, p. 90].
رابعا: استحالة صدْفية الحمض النووي: يمكن القول إن هذا النقد هو الدليل الأقوى على تهافت نظرية التطور، وأنه يقدم أقوى دليل علمي يقيني على ضرورة وجود إله. فبعد عشرات السنين من وضع النظرية على يد داروين تبين للعلماء أن تعقيد بنية الخلية الحية لا يمكن أن يسمح للنظرية بالاستمرار على النحو الذي تخيله داروين عندما كان يرى الخلية مجرد كتلة بروتوبلازمية هلامية يمكن تكونها من مواد غير حية بالتوالد التلقائي Spontaneous generation، فهو لم يكن يعرف آنذاك أن بداخلها عالما مستقلا، فبداخل كل خلية حية من خلايا أي كائن حي توجد مصانع لإنتاج الطاقة (ميتوكندريا)، ومصانع تدعى ريبوسومات لإنتاج البروتينات التي تعتبر عماد بناء الخلية نفسها وبناء أنسجة الجسم الأخرى (حتى الشعر والأظافر وقرنية العين وسم الثعبان والإنزيمات وأجزاء من الهرمونات).
يؤكد عالم الفيزياء البريطاني بول ديفيز أن نظرة العلم إزاء الوجود تغيرت في القرن العشرين، فقد كان يُنظر إلى الجزئيات المادية على أنها أساس الكون، لكن الفيزيائيين المعاصرين يرون أن الوجود قائم أصلا على المعلومات التي جاءت المادة لاحقا لتجسيدها. وقد وضع ديفيز عدة كتب تبرهن علميا وجود خالق مدبر للكون، ومن أشهرها كتاب “عقل الإله” (1992).
يقول رئيس الأكاديمية الوطنية للعلوم في أميركا بروس ألبرتس: دائما كنا نقلل من قيمة الخلايا البدائية، ثم اكتشفنا أنها مصنع قائم بذاته، يحتوي على شبكة من خطوط التصنيع المتشابكة التي تتكون كل منها من آلات بروتينية ضخمة، وهي تحوي بذاتها أجزاء متحركة عالية التناسق مثل الآلات الصناعية التي يخترعها البشر. [العلم ووجود الله، ص 215].
وبما أن كل بروتين يتكون من سلسلة طويلة جداً من مئات أو آلاف الأحماض الأمينية، فإن تلك الأحماض لا ترتبط ببعضها بنفس ترتيبها عشوائياً لتكوين البروتينات، فاحتمال التركيب العشوائي لتكوين جزيء بروتين صغير واحد مكون من مئة حمض أميني فقط، وعبر جهاز كمبيوتر خارق (سوبر)، يستغرق من السنوات عددا يُكتب برقم “واحد” وأمامه 127 صفرا، وهي مدة تتجاوز عمر الكون كله بمليارات السنين، مع أن هناك بروتينات تتكون من 27 ألف حمض أميني وليس مئة فقط.
علاوة على ذلك، يعتمد عمل البروتينات على نظام محدد لترتيب أحماضها، فلو اختل ترتيب حمض أميني واحد فقد يؤدي ذلك إلى المرض أو الموت، مثل اختلال حمض أميني واحد في بروتين الهيموغلوبين، حيث يؤدي ذلك إلى الإصابة بمرض أنيميا فقر الدم، فهذا الجزيء يحتوي على 539 حمض أميني، وعدد احتمالات ترتيب هذا العدد يصل إلى “واحد” وأمامه 620 صفرا من الاحتمالات، لكن احتمالا واحدا فقط هو الذي يحدث دائما.
لذلك تبين أن تكوين سلسلة البروتين الطويلة في الريبوسومات من الأحماض الأمينية يأتي نتيجة “أكواد” أو رموز تشفير محمولة في الحمض النووي الوراثي DNA الموجود في نواة كل خلية، فكل ثلاث قواعد من الحمض النووي تمثل شفرة (أو كودون) لاستدعاء حمض أميني معين، وبنفس الترتيب الصحيح وإلا اختل البروتين، ويستحيل على العقل أن يتخيل حدوث هذا بالصدفة والعشوائية.
وإذا كانت فرضية التطور الأولى تقوم على تصور سطحي للخلية في عصر داروين، فقد ثبت لاحقا أن عدد الحروف البرمجية المشفرة التي يتكون منها “البرنامج” الموجود في الحمض النووي للبشر مثلاً هو ثلاثة مليارات ومائة مليون حرف، وهي مرتبة بترتيب محدد مسبقا، لذلك يشبّه مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس الحمض النووي بالبرنامج الحاسوبي مؤكدا أن تعقيده الشديد أكبر بكثير من أي برنامج كتبه البشر [ستيفن ماير، “توقيع في الخلية” Signiture in The Cell].
وإزاء هذه الاكتشافات بات التصور الدارويني الأولي لخلية تتطور في بحيرة دافئة أمرا مستحيل الحدوث، وهو ما دفع أتباعه المعاصرين لإيجاد تأويلات أخرى، حيث اعترف عالم الأحياء الملحد المعروف ريتشارد دوكينز بأنه لن يتفاجأ إذا وجد توقيع “مصمم” داخل الخلية الحية، إلا أنه سارع إلى استثناء الإله من هذه الضرورة، وقال إنه ساعتها سيقول إن هذا المصمم هو كائنات فضائية زرعت الخلية الحية الأولى على الأرض بكل ما فيها من إبداع ونظام. لكن هذا الحل الافتراضي لن يحل المعضلة، حيث سنقع هنا في مشكلة التسلسل التي أثبتنا سابقا عدم منطقيتها، وهذا ما دفع دوكينز للقول إن هذه الكائنات الفضائية بالتأكيد قد تطورت داروينياً في مكان آخر من الكون، وكأنه قام بإرجاع أصل البشر إلى أصل سابق متطور بدوره عن أصل آخر، دون أن يقدم جوابا على السؤال الأساسي: من أين أتى الأصل الأول لكل الكائنات؟ [الفيلم الوثائقي: مطرودون.. غير مسموح بالذكاء Expelled: No Intelligence Allowed ].
وعندما سأله المحاور في مجلة “تايم” روث غلدهيل عما إذا كان يستبعد أن يكتشف الفيزيائيون مستقبلا وجود إله في أحد الأبعاد، قال دوكينز إنه مقتنع بأنهم سيكتشفون شيئا مدهشا ويصعب فهمه، وأن كل التصورات اللاهوتية ستكون بسيطة بالمقارنة به، ثم استدرك وقال إن هذا الشيء لا يكفي أن نسميه بالإله وأنه لا بد أن نجد قانونا جديدا لتفسيره مثل التطور، فربما يكون قد تطور بدوره على كوكب آخر وصنع برنامجا حاسوبيا للمحاكاة ونحن جميعا جزء منه (أي كما هو الحال في سلسلة أفلام ماتريكس) [مجلة التايم، 10 مايو 2007]. وهذا يعني أن دوكينز اضطر للإقرار بوجود كائن خارق يشبه في صفاته تماما الإله الذي وصفه الأنبياء، إلا أن نفوره من “التصورات اللاهوتية” وإيمانه العقائدي بنظرية التطور يدفعه إلى جعل التطور قانونا شاملا لتفسير الوجود، وكأنه يضع قانونا وجوديا (دينيا) يحتم باستحالة نشوء الوعي بدون تطور.
ساغان
ويبدو أن اللجوء إلى فرضية التطور عن أصل فضائي باتت أكثر شيوعا لدى علماء التطور الملحدين، مع أن هذا الخيال العلمي لا يحل المعضلة وليس أكثر “علمية” من الإقرار بوجود إله، ومنهم فريد هويل الذي وضع في الثمانينات مع زميله تشاندرا ويكرامسينغي كتابا بعنوان “التطور من الفضاء”. وكذلك عالم الفلك المشهور كارل ساغان الذي سخر يوما ما من الصحفي السويسري إريك فون دانكن بسبب تأليفه كتابا خياليا يحاول البحث عن أصل للحياة على يد كائنات فضائية بعنوان “عربات الآلهة”، ثم تحدث ساغان نفسه عن احتمال وصول الخلية الحية إلى الأرض من مكان آخر في الكون لاستحالة تشكل مكوناتها الأولى بالصدفة، مع أن عمر الكون كله لا يكفي لذلك.
خامسا: لا يوجد دليل واحد حتى الآن على حدوث التطور الماكروي (الكبير)، أي الانتقال من صنف إلى صنف عن طريق الانتخاب الطبيعي، فمع أن الجدل ما زال قائما حول صحة التطور الميكروي (الصغير) داخل الأصناف نفسها، أي حدوث تعديلات في بعض السلالات مثل التغير في سلالة إحدى الأسماك، إلا أنه لم يثبت تطور أي صنف من الأسماك إلى صنف برمائي آخر، بل يؤكد باحثون معاصرون أن هذا مستحيل.
ومنذ ظهور نظرية داروين يحاول الباحثون إخضاعها للتجربة أو حتى إثباتها بالملاحظة، فإذا بحثنا في أجساد ملايين البشر الذين يجرون تعديلات “طقوسية” على أجسادهم على مدى آلاف السنين، مثل ختن أولاد المسلمين واليهود، والتعديلات “الجمالية” التي تقوم بها نساء القبائل المختلفة في أفريقيا وآسيا، سنجد أن الأجيال التالية تولد دائما خالية من أي تغيير.
وكذلك حاول ريتشارد لينسكي من جامعة ميتشيغان أن يثبت تطور البكتيريا، وهي أبسط الكائنات الحية، فظل يراقب نشوء 40 ألف جيل منها طوال 20 سنة، لكنه لم يجد تغيرا مفيدا في أي جين من جيناتها.
لذا يقول أستاذ علم الجراثيم بجامعة بريستول آلان إتش لينتون إنه بعد 150 عاما من نشوء علم الجراثيم، لم يتمكن أي عالم حتى الآن من إيجاد دليل واحد على أن نوعا واحدا من أنواع البكتيريا قد تغير إلى آخر، وذلك بالرغم من تعرضها لطفرات كيميائية وفيزيائية قوية، وبما أنه لا يوجد دليل على تطور الأنواع في أبسط أشكال الحياة وحيدة الخلية، فمن المنطقي إذن عدم وجود دليل على التطور من الكائنات بدائية النواة إلى حقيقية النواة، ناهيك عن جميع الكائنات الحية الأعلى المتعددة الخلايا [المصدر: Alan H. Linton: “scant search for the maker”, Times Higher Education Supplement, April 20, 2001, 29].
ويجدر بالذكر أن داروين الذي لم يستطع تقديم برهان علمي على صحة فرضيته، لجأ إلى مغالطة على هيئة تحدّ مقلوب، فقال في كتابه “أصل الأنواع” إنه إذا ثبتت استحالة تطور أي عضو فإن نظريته ستنهار، وكأنه يطالب المشككين بإثبات استحالة فرضية لم تثبت، وقد تابعه في هذه المغالطة دوكنز أيضا. لكن الأصل في العلم هو أن يُثبت واضع النظرية صحة دعواه أولا، بدلا من مطالبة الآخرين بإثبات خطأ الاحتمالات الأخرى، فعلى داروين وعلماء التطور أن يثبتوا عشوائية التطور قبل مطالبة الآخرين بإثبات العكس.
سادسا: استحالة التطور وفق مفهوم “التعقيد غير القابل للاختزال”، فبالرغم من المغالطة الكامنة في الطرح الذي قدمه داروين في الفقرة السابقة، فقد قبِل البروفسور في جامعة ليهاي الأميركية مايكل بيهي التحدي عام 1996، ووضع في كتابه “صندوق داروين الأسود” أدلة تثبت عجز أنصار داروين عن تفسير “عشوائية التطور” المفترضة، وضرب عدة أمثلة تثبت استحالة التطور، ومن أهمها تعقيد سوط البكتيريا المكون من ثلاثة أجزاء لا بد أن “تُخلق” معا ليكون الذيل قادرا على العمل وتحريك البكتيريا، كما حسب احتمال نشوء هذا السوط بالصدفة فوجد أنه يمثل 1 إلى “عشرة أس 1170”.
مايكل بيهي (The Maine Campus)
وأكد بيهي من خلال دراسته للخلايا البسيطة أن الأنظمة الكيميائية الحيوية لا يمكن أن توجد بالصدفة ولا الضرورة، بل أنشأها “مصمم” كان يعرف الشكل الذي ستؤول إليه عند اكتمالها، فهي معقدة تعقيدا لا يقبل الاختزال لكونها مؤلفة من أجزاء متفاعلة وشديدة التناسق لتحقيق وظيفة واحدة، وهو أمر لا يمكن إنشاؤه بإحداث تطوير طفيف وتدريجي كما يفترض التطوريون، فأي تغيير على نظام لا يقبل الاختزال سيعطله كله عن العمل. ويُعد مفهوم “التعقيد غير القابل للاختزال” إثباتاً تجريبياً رصيناً للملاحظة التي طرحها من قبل جورج كوفييه في القرن التاسع عشر كما ذكرنا سابقاً.
وبعد استنفار الكثيرين للرد على كتاب بيهي، وضع الأخير في عام 2007 كتابا آخر بعنوان “حافة التطور”، وردّ فيه على كل الانتقادات مقدما أدلة أكثر رسوخا على استحالة نشوء مكونات الخلية الحية بالانتخاب الطبيعي العشوائي.
يقول بيهي في هذا الكتاب إن أفضل اختبار لفرضية داروين على الإطلاق هو تاريخ الملاريا، فقد حدثت مئات الطفرات التي تزود الإنسان بالمقاومة ضدها في الجينوم البشري (خريطة الجينات)، ثم انتشرت بين أفراد الجنس البشري بالانتخاب الطبيعي، لكن دراسة هذا التطور المفترض تثبت ما يلي:
التطور الدارويني غير متسق ومقيد.
التصور المسبق لدى الداروينيين بأن الطفيل (الملاريا) والعائل (الإنسان) يدخلان في سباق تسلح ويسفر عن تطور الجانبين ليس صحيحا، فالصراع أدى إلى تدهور بدلا من التطور.
الطفرة العشوائية التي يُفترض أن تؤدي إلى تطور كانت تنهار بعد فترة قصيرة من ظهورها بدلا من الثبات وتحسين النسل، كما أن نسبة حدوث طفرة عنقودية تتطلب منا الانتظار مئة مليون سنة مضروبة في عشرة ملايين سنة، وهي مدة تزيد عن عمر الكون.
البيانات الهائلة المتوفرة لدينا عن صراع الإنسان مع الملاريا تثبت عجز التطور الدارويني عن التفسير.
ويضيف بيهي أن فرضية داروين ظهرت في مرحلة لم تكن فيها التجارب والملاحظات قادرة على الإثبات أو النفي، لكن الطبيعة قدمت لنا في السنوات الخمسين الأخيرة دورات لحياة الملاريا وفيروس الأيدز بما يفوق قدرة المختبرات مليار مرة، وأثبتت لنا أن الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي لا يمكن أن ينشئا آلة بيولوجية متسقة إطلاقا.
سابعا: لم تقدم الحفريات حتى الآن أي دليل على صحة فرضية التطور، وقد أدرك داروين من البداية أن سجل الحفريات ليس في صالحه فتساءل “لماذا لا تزخر كل طبقة جيولوجية بالحلقات المتوسطة (الانتقالية من صنف إلى صنف)؟ من المؤكد أن الجيولوجيا لا تكشف عن أي سلسلة عضوية متدرجة، ويبدو أن هذا هو أوضح وأخطر الاعتراضات المثارة ضد نظريتي”.
وبعد مرور قرابة 150 سنة على ظهور الكتاب، وبالرغم من التنقيب الكثيف في معظم طبقات الأرض التي تسجل حفريات الكائنات الحية، لم تظهر الحفريات التي تجسد بدقة التحورات المفترضة بين الكائنات المتطورة من نوع إلى آخر، ولم يُعثر سوى على ظهور مفاجئ لكل نوع على حدة ثم استمراره على ما هو عليه.
يقول العالِم في متحف فيلد للتاريخ الطبيعي ديفيد روب إن المعرفة بسجل الحفريات ازدادت كثيرا منذ عصر داروين، حيث أصبح لدى العلماء ربع مليون من الأنواع المتحجرة، ومع ذلك فإن الوضع لم يتغير كثيرا، وما زال سجل التطور متقطعا، بل إن المتوفر اليوم من الأشكال الانتقالية أقل مما كان مُعتمدا في عصر داروين [العلم ووجود الله، ص 198].
ويؤكد العالم ستيفن غاي غولد أيضا أن حفريات الأنواع المتحجرة تثبت أن معظم تلك الأنواع ظهرت بشكل مفاجئ ومكتمل التكوين دون أن يطرأ عليها تغير تدريجي من الأسلاف، كما أنها احتفظت بشكلها كما هو حتى انقرضت [المرجع السابق، ص 199].
وبالنتيجة، اقترح بعض علماء الأحياء تعديلات على النظرية، فخرج غاي غولد ونيلز إلدردج في عام 1972 بفكرة التوازن النقطي أو المتقطع Punctuated Equilibrium، وهي تفترض أن الكائنات الحية تمر بفترات مستقرة لا تظهر فيها أنواع جديدة، ثم تظهر فترات تطور مفاجئ لتتشعب فيها الأنواع الجديدة.
لكن فرضية غولد وإلدردج لا زالت تعتمد على المصطلحات الافتراضية لنظرية داروين الأولى مثل قد وربما وإذا كان ومن الممكن واحتمال، فضلا عن أنها غير مُبررة منطقيا ولا تجريبيا، فما الذي يدفع آلية التطور -إن وُجدت- إلى المرور عشوائيا بمراحل سكون وانطلاق طالما كانت سيرورة الحياة وتحدياتها قائمة في كل مراحل التاريخ الطبيعي؟
إذن مازال افتراض حدوث التطور أقرب إلى الفرضية الفلسفية التي لم تتحقق بالرصد أو التجربة، وقد يصل الأمر ببعض العلماء الباحثين عن أي دليل إلى وضع افتراضات لسيناريوهات غير منطقية، مثل محاولة تفسير ظهور الحليب لدى الثدييات عبر الصدفة بأن المواليد كانوا يلعقون عرق الأمهات، ثم تطور هذا العرق مع مرور الوقت إلى حليب، وبالرغم من الاختلاف الكبير بين العرق الذي يعد من مخلفات الجسم وبين الحليب الذي لا يضاهيه أي غذاء أو مضاد حيوي طبيعي للمولود، فإن الفرضية لا تستند إلى أي مبرر علمي، كما أنها لا تفسر ظهور “منعكس المص” الفطري لدى المواليد الجدد الذين يبادرون إلى التقام الثدي والرضاعة فطريا دون تعليم. [Mr. Tompkins Inside Himself, p. 149].
رسوم إرنست هيغل
ومن المؤسف أن اندفاع بعض العلماء لمحاولة تبرير النظرية، بعد أن أصبحت الملاذ الوحيد للإلحاد، دفعهم إلى تلفيق بعض الأدلة، مثل رسوم إرنست هيغل لتشابه الأجنة المبكرة بين الإنسان وحيوانات مائية وبرمائية وزواحف وطيور، وهو ما ثبت زيفه وأجبره على الاعتراف في عام 1908م، إلا أنه ظل معتَمدا لدى بعض الكتب العلمية حتى وقت قريب. ونذكر أيضا تلفيق جمجمة “إنسان بلتداون” التي جمعت قحفا بشريا (تمت معالجته كيميائيا ليبدو قديما) مع فك قرد أورانغتان، حيث اعتُمدت هذه الجمجمة كدليل على الحلقة المفقودة لتطور الإنسان في بعض المتاحف قرابة 40 عاما.
وهناك حالات أخرى لتزوير عظام “إنسان جاوه”، والذي لم تُكشف حقيقته إلا بعد نحو 30 سنة، وكذلك وضع تصور لما سمي بإنسان نبراسكا بناء على ضرس واحد، حيث اتضح بعد عامين أنه ضرس خنزير بري، فضلا عن أمثلة أخرى كثيرة لأسماك قيل إنها أسلاف البرمائيات والزواحف، وطيور منقرضة قيل إنها ديناصورات طائرة.
أمثلة لأهم الكتب التي صدرت في المكتبات الغربية لنقض نظرية التطور خلال العقود الماضية
من أهم الكتب التي ناقشت “التصميم الذكي” في الثمانينات
التصميم الذكي إزاء قصور نظرية التطور عن تفسير الكثير من الظواهر، أصبح الكثير من العلماء يؤمنون بأن الحياة بدأت وفقا لتصميم وضع بذكاء، وبغض النظر عن ماهية المصمم الخالق باعتبار أن صفاته شأن ديني، لكن المنابر الإعلامية لا يتصدرها اليوم سوى التطوريون الذين يرون أن مجرد القول بوجود تصميم ذكي هو قول ديني خارج عن العلم.
في عام 1982، ناقش القضاء في ولاية أركانساس الأميركية دعوى رُفعت للسماح للمدارس بتدريس نظرية التصميم الذكي إلى جانب نظرية التطور، واستنفر الإعلام والمثقفون للمساهمة في الجدل العنيف حول مدى “علمية” نظرية التصميم الذكي، وتضمنت القضية وضع النظرية أمام اختبارات أربعة:
الخضوع للملاحظة: فالتطوريون قالوا إن نظرية الخلق لا يمكن ملاحظتها، وكان الرد بأن هناك تصورات علمية كثيرة لا تخضع للملاحظة مثل مكونات الذرة، إلا أن آثارها قابلة للرصد وهي قادرة على تفسير الظواهر العلمية، بل إن التطور من نوع إلى نوع هو مجرد تصور لم يخضع للملاحظة أبدا.
التكرار: يطالب التطوريون بضرورة تكرار الخلق ليتمكنوا من دراسته، مع أن نظرية الانفجار العظيم لا يطبق عليها هذا الشرط، بل إن بدء الحياة وفقا لمفهوم التطور أمر لا يمكن تكراره.
الاختبار: أعلن القاضي أن التصميم الذكي لا يمكن اختباره علميا، وبنفس الوقت استشهد بمرافعة التطوريين عندما قالوا إنه ثبت خطأ التصميم، فكيف ثبت خطؤه مع أنه لم يخضع للاختبار؟!
وقد مال القاضي إلى التطوريين انطلاقا من ضيق مفهوم العلم في الفلسفة الطبيعية التي تسيطر على الثقافة الغربية، فهي تنطلق من حقيقة أن العلم يقتصر على الأسباب الطبيعية والظواهر القابلة للاختبار الحسي والرياضي، إلا أنها تصر على أن يخضع الكون كله لأدوات اختبار العلم على اعتبار أنه ليس في الوجود سوى مادة وطاقة.
ولو أن العالِم الطبيعي -بالمفهوم الغربي- اقتصر على تفسير الظواهر لكان هذا محل اتفاق، إلا أنه يصر على البحث في أصول الظواهر معتبرا أن علمه صار بديلا عن الدين والفلسفة، وهو يحكم مسبقا على الكون بأنه يجب أن يكون ماديا، ليس لأنه قد ثبت له بأدواته المادية أن الكون حقا كذلك، بل لأن أدواته عاجزة أصلا عن البحث فيما وراء المادة.
وهذا المفهوم القاصر والمتضخم أصبح أساسا لمغالطة شائعة وهي وضع أي ظاهرة ميتافيزيقية في عالم التأجيل، فيقال إننا إذا عجزنا اليوم عن تفسير المعجزات والسحر وما يظهر من عالم الجن فيجب أن نؤجل الأمر إلى وقت غير مسمى أملا في أن يجد العلم الطبيعي المادي تفسيرا لها، والواقع أن العلم يكتشف المزيد من الحقائق التي تزيد من حيرة العلماء بدلا من العكس.
وعندما يقول العالِم إن وراء هذا الخلق تصميما ذكيا فهو لا يسند الخلق إلى إله على اعتبار أنه حدث أول بل هو السبب الأول، فإسناد التعقيد المتفرد في الحمض النووي إلى جهة “عاقلة” هو قرار علمي ضروري وليس هروبا إلى الأيديولوجيا الدينية، أما إنكار الخلق وانتظار ظهور تفسير “علمي” في أجل غير مسمى فهو هروب مؤدلج إلى احتمال غير مؤكد لمجرد النفور من الدين.
يقول الفيلسوف ريتشارد سوينبرن في كتابه “هل هناك إله؟” إن الحديث عن وجود الله هو ليس افتراضا كالذي يتصوره الملحدون تحت مسمى “إله الفجوات”، أي إلهاً وهمياً لتفسير الظواهر التي لم يكتشفها العلم بعد، بل هو إله ضروري يفسر قدرة العلم نفسه على التفسير، فنحن نقر بأن العلم قادر على التفسير لكن الإله هو الذي يفسر لنا سر تلك القدرة التفسيرية للعلم، وهذا يعني أن نجاح العلم يزيد من قوة إيماننا بالله وليس العكس، فكلما ازداد علمنا اكتشفنا أن الكون يتسم بنظام دقيق وأن هناك مسببا له، أما الملحدون فيصرون على تصور الإله على أنه بديل للعلم ويحاججون المؤمنين بناء على هذا الوهم [العلم ووجود الله، ص 82].
جورج والد
عندما حاول عالم الأحياء الملحد جورج والْد الرد على استحالة التوالد التلقائي بالصدفة والعشوائية، قال إنه يمكن للطاولة التي يكتب عليها أن ترتفع فجأة في الهواء إذا تصادف عشوائيا أن تتحرك جميع جزيئات الطاولة (التي تتحرك مكونات ذراتها باستمرار) مرة واحدة إلى الأعلى [Scientific American, Aug. 1954, p. 47]، وهو نفس المثال الذي لجأ إليه ريتشارد دوكينز عندما قال إنه ليس من المستحيل أن تجد ذراع تمثال السيدة مريم يلوح لك، وذلك إذا تحركت جزيئات يد التمثال كلها في اتجاه واحد، بالرغم من أنه طلب من أحد أصدقائه الفيزيائيين حساب إمكانية ذلك فقال له إن عمر الكون كله لن يكفي لكتابة أصفار هذا الاحتمال الضئيل [The Blind Watchmaker, p. 159- 160].
الدليل السابع: فطرية اللغة تفترض النظريات القائمة على التطور أن اللغات تطورت بدورها عن أصوات بدائية للكائنات الدنيا، وأن حناجر أسلاف الإنسان كانت أشبه بحناجر أطفال عصرنا التي لا يكفي بلعومها القصير لإصدار الكلام الواضح، وأن مراكز النطق لم تكن قد نضجت في أدمغتهم، لكن عالم الأنثروبولوجيا إيان تاتيرسل يقول إن الانتخاب الطبيعي العشوائي يعجز عن تفسير ظهور مراكز النطق والممرات الصوتي في الحناجر قبل أن ينطق “أسلاف الإنسان” بمدة طويلة.
تشومسكي (Duncan Rawlinson)
وفي ستينيات القرن العشرين، أكد عالم اللسانيات الأميركي ناعوم تشومسكي وجود نظام جيني في عقل الطفل منذ ولادته لاكتساب اللغة، فهو يتعلم المفردات من البيئة المحيطة ويكون جاهزا لتشكيلها بمفردات واشتقاقها على هيئة فعل ومفعول وفاعل ثم ربطها بالزمن.
وأكد تشومسكي أيضا أن هذا النظام عالمي، فالجنس البشري يتعامل مع اللغة بطريقة متماثلة مع اختلاف اللغة، ويقول تشومسكي إن اللغات نشأت في لحظة انفجار لغوي عظيم، قياسا على نظرية الانفجار العظيم التي تفسر نشأة المادة، ولا يمكن أن تكون قد تطورت عن أصوات بدائية. كما يعبر زميله ستيفن بنكر في معهد ماساتشوستس للتقنية في كتابه فطرة اللغة: “إذا زار عالم لغويات من كوكب المريخ الأرض فسيستنتج أن أهل الأرض جميعا يتكلمون لغة واحدة، باستثناء بعض الكلمات غير ذات المعنى”.
تعد قصة الفيلسوف البريطاني أنتوني فلو من أشهر قصص الانتقال من الإلحاد إلى الإيمان في العصر الحديث، فبعد نشأته في بيئة متدينة قرر في سن المراهقة معاداة الأديان واختيار الإلحاد، وكانت معضلته الأولى مع وجود الإله هي وجود الشر في العالم، وظل حتى سن الثمانين من أكثر المؤيدين للإلحاد عنادا.
ترددت أنباء عن احتمال انقلابه على الإلحاد منذ عام 2001، إلا أنه أنكر ذلك، ويبدو أن إلحاده لم يصمد أمام عقله الذي لم يكف عن المراجعة، فكانت لديه الجرأة الكافية لإعلان إيمانه بالله في عام 2004، ما أثار ضده الكثير من زملاء الماضي ووسائل الإعلام.
وفي عام 2007، اختتم فلو رحلته الفكرية الطويلة بالكتاب الصادم “هناك إله: كيف غيّر أشرس ملحد رأيه”، وأوضح أن إيمانه بضرورة وجود إله يعود إلى الأسباب الخمسة التالية:
1- فشل العلماء والفلاسفة في إثبات نشأة العالم المادي من العدم بمعزل عن إله خالق.
2- الطبيعة تسير وفق قوانين ثابتة مترابطة ويمكن كتابة كل صيغها الرياضية في صفحة واحدة، ولا بد أن هناك مصدرا عاقلا وضع هذه القوانين.
3- كل قوانين الطبيعة تعجز عن تفسير نشأة الحياة من مادة صماء، ومن المستحيل أن نفسر الغائية والذكاء بالعشوائية والصدفة.
4- كلما ازدادت معرفتنا بالكون نكتشف أنه قد تم إعداده بذكاء لاستقبال البشر، وكل النظريات التي وضعها العلماء لتفسير هذا الإعداد المحكم -كنظرية الأكوان المتعددة- كانت مثيرة للسخرية.
5- لا يمكن للغة الكهروكيميائية للمخ -والتي توجد في بقية الخلايا الحية- أن تفسر قدرات العقل البشري، فلا بد من مصدر غيبي (إله) وراء هذ العقل المبدع.
الأٍسباب النفسية للإلحاد بعد كل ما مر بنا من أدلة عقلية وعلمية ورياضية على ضرورة وجود إله خالق، قد يتساءل القارئ عن سبب استمرار وجود الإلحاد وانتشاره بين كثير من العلماء والمفكرين في هذا العصر. وللرد على هذا الإشكال لا بد أن نذكّر هنا بمغالطات الاحتكام إلى الأكثرية وإلى السلطة وإلى الحداثة [انظر مقال المغالطات المنطقية]، فكثرة الملحدين لا تعني بالضرورة أن يكونوا على حق، واعتناق علماء العلوم الطبيعية فكرة أيديولوجية ما ليس دليلا على صحة معتقدهم الخارج عن تخصصهم الدقيق، كما أن حداثة فكرة ما (الإلحاد) ليست مؤشرا على أنها الرأي الصائب [انظر مقال مصادر المعرفة].
ومن الواضح أننا نسلّم للعلماء التجريبيين بنتائج أبحاثهم عندما تتم بالنزاهة المطلوبة، لكن اقتناع أحد هؤلاء العلماء بما تؤدي إليه النتائج (مثل وجود الله) هو أمر آخر، فتاريخ العلم حافل بصراعات فكرية “أيديولوجية” بين العلماء، ولا سيما أولئك الذين يجدون صعوبة في التخلي عن نظام معرفي مألوف لصالح نظام آخر جديد مهما كانت الأدلة على صحته قوية. وقد أوضح المؤلفان روبرت أغروس وجورج ستانسيو في كتابهما “العلم فى منظوره الجديد” قصة الصراع بين النظرة العلمية القديمة (التي تعود إلى عصر نيوتن) والنظرة العلمية الجديدة (التي بدأت مطلع القرن العشرين)، فمع أن الكتاب نُشر عام 1989 إلا أن نقد المؤلفَين لتمسك غالبية العلماء بالفلسفة المادية (وما تؤدي إليه من إلحاد) مازال قائما حتى اليوم.
فإذا كان العلماء يتعصبون فعلاً لتوجهاتهم الفكرية (وهذا موقف غير علمي)، فلماذا نستبعد إذن تعصبهم لموقف مسبق تجاه الدين، ومن ثم تجاه وجود الإله نفسه؟
إذن فالأدلة العلمية التي تثبت ضرورة وجود خالق ومصمم أوجد هذا الكون لغاية مسبقة وبفعل إرادي، تبقى بحد ذاتها دليلا إرشاديا لمن يريد أن يقتنع بها من العلماء، لكن الفعل الإرادي المتمثل باتخاذ خطوة أخرى نحو الاقتناع هي سلوك بشري يخضع لرغبة العالِم الشخصية، وليست سلوكا علميا بالضرورة.
علاوة على ذلك، نجد أن الوسط العلمي لا يخلو من السلوكيات المنحرفة والشاذة التي يدينها القانون والعُرف الاجتماعي، وهو ما نجده أيضا لدى بعض أصحاب أفضل العقول وحملة جوائز نوبل، بل نجد أن الكثير من العلماء ينحازون نحو تيارات عنصرية أو فلسفات هدامة، فالنخبة العلمية في ألمانيا النازية كانت تؤيد توجهات هتلر الوحشية، وكذلك الحال في الاتحاد السوفييتي والصين حيث أبيد ملايين البشر لتحقيق الحلم الشيوعي، كما أيد الكثير من العلماء الأميركيين تصنيع أسلحة الدمار الشامل وإلقاءها على البشر، ولا يعني ذلك أن العلم التجريبي في موضع الاتهام، فما ينشأ عن إرادة أهل العلم يعود إلى قراراتهم وليس إلى العلم المجرد.
يناقش البروفسور جون لينوكس بإسهاب في كتابه “هل قتل العلم الايمان بوجود الله؟” -والذي تُرجم إلى العربية بعنوان “العلم ووجود الله”- تهافت الكثير من أقوال زملائه العلماء الملحدين، مثل مقولة الكيميائي البريطاني بيتر أتكنز “تستحيل مصالحة العلم والدين”، ويثبت لينوكس أنه لم يجد مع المئات من زملائه أي تناقض بين الإيمان والعلم، فنحن نهتم بنتائج أبحاث العلماء في تخصصاتهم التجريبية التي أثبتوا صحتها، أما معتقداتهم الشخصية فليست من العلم، سواء كانت اعتقادًا بأساطير قديمة أو إلحاداً.
ويستشهد لينوكس باستبيان أجرته عام 1996 مجلة “نيتشر” عندما سألت عشوائيا ألف عالم عن إيمانهم بإله يستجيب للعبادة وبخلود الإنسان، وهو سؤال يختلف عن مجرد الإيمان بخالق، وقد أجاب 60% منهم عن السؤال، وكانت نسبة من قالوا نعم منهم حوالي 40%، ومع أنهم ليسوا أغلبية فإن وجود هذه النسبة يكفي للقول إن العلم التجريبي ليس مرادفا للإلحاد في عقول العلماء المعاصرين الغربيين [ص 30].
ومن الجدير بالذكر أن المجلة الفرنسية “العلوم والمستقبل” Sciences et Avenir نشرت عام 1998 نتائج استبيان سئل فيه 72 عالم فيزياء عن رأيهم في نظرية تعدد الأكوان، فقال 60 % منهم تقريبا إنهم يؤمنون بها، وهي نسبة تماثل نسبة الملحدين في الاستبيان السابق، مما يرجح صحة مقولة وينبرغ المذكورة أعلاه حول كون هذه النظرية الملاذ الوحيد للملحدين.
لذا قد تكون هناك أسباب نفسية واجتماعية وأيديولوجية عديدة تدفع شخصا ما للإلحاد، وذلك بغض النظر عن ذكائه ونجاحه في مجالات عدة، فقد يتفوق الإنسان في جانب ما ويخفق كثيرا في آخر، وربما نصادف عالِما عبقريا في أحد المجالات وهو يقدّس وثنا أو يؤمن بخرافة. وسنوجز فيما يلي أهم الأسباب النفسية للإلحاد:
شعار الحركات الإلحادية
1- النفور من الدين: في عام 2011 احتفت مواقع كثيرة بإلحاد ليو بيهي، نجل مايكل بيهي الذي أشرنا سابقا إلى مؤلفاته المشهورة في نقض الداروينية، واعتبر الملحدون هذا الخبر بمثابة انتقام من البروفسور الذي أصاب التطور والإلحاد في مقتل، لكن الشاب المراهق الذي قرر أن يلحد في سن السابعة عشرة كان يقول في المقابلات التي أجريت معه إن ريتشارد دوكنز أقنعه بالإلحاد من خلال تفنيده للكتاب المقدس للمسيحيين، كما نجد في مدونة ليو أن مشكلته الأساسية هي المفهوم الكاثوليكي للدين والإله (المجسد في شخص المسيح)، وليس وجود الإله الخالق مجردا عن الكهنوت.
وتكاد هذه الظاهرة تكون الدافع الأول للإلحاد في الغرب، فالتناقض الذي أثبته الباحثون في الكتاب المقدس [انظر مقالَي اليهودية والمسيحية] منذ بدء ترجمته ونشره في عصر النهضة دفع كبار فلاسفة ذاك العصر إلى اعتبار العلم المادي المصدر البديل للمعرفة، فظهرت اللادينية (أو ما سمي بالدين الربوبي) التي تعترف بوجود إله وتنكر الوحي والأديان، ودُعمت بقوة من قبل النخبة الاقتصادية والسياسية عبر الجمعيات السرية، ثم تطور الأمر إلى إنكار وجود الإله نفسه. وقد بيّنا في مقال “مصادر المعرفة” أن العلم لا يملك الأجوبة على الأسئلة الوجودية.
واللافت أن معظم العلماء التجريبيين في عصر النهضة كانوا مؤمنين بالله، فقد وصف الفلكي يوهانس كبلر (توفي عام 1630م) دافعه للعلم بأنه “اكتشاف النظام المنطقي الذي فرضه الله على هذا العالم”، كما أن التصور الشائع عن غاليليو غاليلي بشأن إلحاده ليس صحيحا، فالمؤلفة دافا سوبيل تؤكد في كتابها “ابنة غاليليو” أنه ظل مؤمنا بالله طيلة حياته وأنه كان يعتقد بأن “قوانين الطبيعة مكتوبة بيد الإله وبصيغة رياضية”، فقد كان متمردا على تبني الكنيسة للرؤية الأرسطية وليس على الإيمان والدين. [العلم ووجود الله، ص41].
بل إن الكثير من رجال الكنيسة -وخصوصا اليسوعيين- تبنوا الفتوحات العلمية ولم يجدوا مانعا من تأويل نصوصهم المقدسة بما يوافق المنظور الجديد للفيزياء والفلك الذي طرحه نيوتن، وتخلصوا بذلك من البناء الكوني الأرسطي الذي قدسوه طوال تسعة قرون، حيث يقول البروفسور المعاصر جون بروك، وهو أول أستاذ للعلوم والدين في جامعة أوكسفورد: “إن المفاهيم العلمية التي آمن بها الرواد غالبا ما كانت تثريها معتقدات لاهوتية وميتافيزيقية” [العلم ووجود الله، ص38].
وإذا كان هذا هو حال الصراع بين مؤسسة الكنيسة والتجريبيين في أوروبا، فإن تعميم التجربة على أديان أخرى ليس صحيحا، فالعلماء المسلمون لم يواجهوا تحديا مماثلا في القرون الوسطى التي شهدت ذروة الحضارة الإسلامية، بل لم يثبت إلحاد أي منهم بمعنى إنكار الإله على النحو المعروف اليوم، وإن كان بعضهم قد تبنى مذاهب وفلسفات وأديانا أخرى.
ومع تجدد موجة الإلحاد في العصر الحديث تحت مسمى الإلحاد الجديد The New Atheism، والذي انطلق إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، أصبح من الواضح أن الدافع الرئيس للإلحاد هو معاداة الدين، فمعظم كتابات أقطاب هذه الظاهرة، مثل ريتشارد دوكنز وسام هاريس ودانييل دِنيت، مشغولة بنقد الدين وسلوك المتدينين أكثر من محاولة البرهنة على عدم وجود إله.
2- التمرد: يتجدد انتشار ظاهرتي اللادينية والإلحاد كلما انغمست المجتمعات في نمط الاستهلاك والرفاه، كما تنتشران أيضا في أوساط الشباب إبان فترات الحروب والكوارث، ومنها ما تشهده منطقتنا العربية اليوم من ثورات واضطرابات وحروب، فبعض الشباب الذين وجدوا في أنفسهم القدرة على قلب الحكومات وتحدي السلطات تشجعوا على تحدي السلطة الإلهية الأكبر، ولا سيما عندما رأوا أن الكثير من الفقهاء والدعاة قد مالوا إلى الأنظمة الظالمة ووظفوا الدين في تبرير الخنوع.
ويعترف الدكتور مصطفى محمود في كتابه “رحلتي من الشك إلى الإيمان” بأنه مال إلى الشك في سن الصبا بدافع التمرد والغرور، فكثيرا ما تظهر في محاججات الملحدين اليافعين ميول التمرد والشعور بعدم الحاجة للإله وقيود التدين بالرغم من تغليف تلك الميول بغلاف الجدل العقلي، فالأمر يشبه كثيرا نزوع الشباب في هذا السن إلى خرق قواعد الآباء والأمهات والمجتمع، والتلذذ بذلك للشعور باكتمال الشخصية ونضج الذات، وقد تسيطر هذه النزعة على النفس وتستمر في السيطرة على العقل مدى الحياة مهما امتدت.
3- معضلة الشر: عندما امتد أمد الثورات وانقلبت إلى عنف دموي يحصد أرواح الأطفال والأبرياء؛ سقط قسم آخر من الشباب في هوة اليأس، وحارت عقولهم أمام معضلة الشر وحكمة الابتلاء وتسلط الظلمة دون رادع إلهي فمالوا نفسيا إلى الإلحاد.
سنناقش هذه الأسئلة في مقال “الأسئلة الوجودية الكبرى” بنهاية مسيرنا، لأن بحثنا هنا يتعلق بحقيقة وجود الإله على اعتبار أنها ضرورة عقلية وحقيقة كونية لا بد منها، فالعقل السليم المجرد عن الهوى والضغوط النفسية والدعاية الإعلامية لا يملك إلا أن يسلّم بوجود إله، أما الدوافع النفسية والأخلاقية التي تدور في النفس فسنناقشها بعد استعراضنا لتاريخ علاقة الإنسان بالإله الحافل بنشوء عشرات الأديان والتيارات، وبعد تحققنا من صحة الوحي وصدق النسخة الأخيرة المتبقية منه بين أيدينا (القرآن) كما سيأتي في مقالات لاحقة.
أطفال قُتلوا بالغاز السام في الغوطة بريف دمشق في 21 أغسطس 2013
4- العدمية: تعد الفلسفة الوجودية من مظاهر العدمية البائسة الشهيرة في العصر الحديث، ومع أن مؤسسها الدنماركي سورين كيركغارد الذي عانى من آلام نفسية كان مؤمنا بوجود الله، إلا أن خليفته الفرنسي جان بول سارتر جعل من الوجودية رديفا للإلحاد، وتلقف الكثير من الشباب أفكاره في منتصف القرن العشرين بعد خروج الغرب من حربين عالميتين طاحنتين، حيث كانت العدمية تهيمن على الثقافة العامة في ظل توحش الرأسمالية وتشييء الإنسان (تحويله إلى مادة) وضياع بوصلة القيَم.
في ظل هذه الأجواء المضطربة اجتماعيا، قد ينشأ الإلحاد في نفس الشاب المثقف نتيجة اختلاط الأسباب النفسية السابقة كلها، فيصبح الإلحاد موقفا اجتماعيا أكثر من كونه قرارا فلسفيا متعقلا، وكثيرا ما يتزامن هذا الموقف مع ادعاء الملحد أنه أكثر سعادة من المؤمنين ومن معتنقي كل الأديان.
إسماعيل أدهم
على سبيل المثال، في ثلاثينيات القرن العشرين وضع المفكر المصري إسماعيل أدهم قبل أن يبلغ سن الثلاثين كتابا أسماه “لماذا أنا ملحد”، وحاول أن يؤكد فيه أنه سعيد بإلحاده ومنسجم معه كما هو حال المؤمنين المطمئنين إلى الإيمان.
وتكشف سيرته الذاتية أنه كان عبقريا، حيث حصل على الدكتوراه وأصبح أستاذا للرياضيات في عمر مبكر، والأرجح أنه كان يشعر بغربة اجتماعية وشعور بالتفوق، والمفارقة أنه انتحر في سن الثلاثين عام 1940، حيث وجدت جثته طافية على مياه البحر أمام شواطئ الإسكندرية، وفي معطفه رسالة موجهة إلى رئيس النيابة يخبره فيها أنه انتحر لزهده في الحياة وكراهيته لها.
وإذا كانت الدعاية الإلحادية الشائعة اليوم تحاول إقناع الشباب بأن الملحدين لا يعانون من مشكلات نفسية أو اجتماعية؛ فإن بعض الأبحاث تثبت العكس.
ففي دراسة نشرت عام 2002م بعنوان “منظور عالمي لعلم الأوبئة عن الانتحار”، قال الباحثان خوسيه بيرتولوتي وألكساندرا فليشمان إن الملحدين هم الأكثر انتحارا في العالم، وإن المسلمين هم الأقل انتحارا، [رابط الدراسة].
وبالرغم مما تعرضت له الدراسة السابقة من تشكيك، نُشرت دراسة أخرى عام 2004م في مجلة طب النفس الأميركية The American Journal of Psychiatry بعنوان “الانتماء الديني ومحاولات الانتحار”، حيث أثبتت مجددا وجود تأثير قوي للتعاليم الدينية على الحد من ظاهرة الانتحار، [رابط الدراسة].
أما تأثير الإلحاد والتدين على العلاقات الاجتماعية فقد تم بحثه في عدة دراسات، وكان منها دراسة أجريت في جامعة كولومبيا البريطانية بكندا، حيث تبين للباحثين أن الملحدين هم أكثر الفئات المنبوذة في المجتمع [رابط الدراسة].
أهم المراجع أنتوني فلو، هناك إله، ترجمة صلاح الفضلي.
جون لينوكس، العلم ووجود الله، ترجمة ماريانا كتكوت، الناشر: خدمة كريدولوغوس، 2015.
عمرو شريف، خرافة الإلحاد، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2014.
مصطفى محمود، رحلتي من الشك إلى الإيمان، 1970.
عبد الله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، مركز تكوين، 2014.
George Gamow, Martynas Ycas, Mr. Tompkins Inside Himself, The Viking Press, New York, 1967.
Richard Dawkins, The Blind Watchmaker, W. W. Norton, London, 1986.
Michael J. Behe, The Edge of Evolution: The Search for the Limits of Darwinism, Free Press, 2007.
C.S. Lewis, Mere Christianity, Harper Collins, 2001.
George Wald, “The origin of life,” Scientific American, Aug. 1954.
Francis S. Collins, The Language of God, free press, 2006.
تبين لنا في بداية مسيرنا أن وجود الله حقيقة حتمية، وأن الإيمان به ليس سوى بداية الطريق نحو فهمنا للحقائق الوجودية الكبرى، وتعرضنا في مقال “مصادر المعرفة” للانتقادات الموجهة إلى كل مصدر على حدة، ما يجعل أياً منها قاصراً عن الإحاطة بكل جوانب المعرفة وبلوغ اليقين في كل التفاصيل والحقائق، بينما يبقى مصدر الوحي الأكثر يقينا وإحاطة، لكونه صادرا عن الله نفسه.
وبعد مرورنا بشتى الطرق والسبل من الأديان والمذاهب والفلسفات التي نشأت وتراكمت على مدى قرون، وبعد أن تحققنا من جوانب النقص والخلل والتحريف والانحراف في كل منها، ومن عجزها عن تقديم الأجوبة أو تعمد واضعيها تضليل الناس عن بلوغ الحقيقة، نحط رحالنا الآن عند آخر المحطات لاكتشاف سبيل الحق اليقيني الذي لا يشوبه شك، ونبتدئ بالبحث في ضرورة النبوة وحاجة الإنسان إليها كمصدر وحيد لبلوغ الحقيقة في الغيبيات.
الحاجة للنبوة سنحاول في هذه الفقرة الإجابة على سؤال: هل وجود الأنبياء ضروري؟ وللإجابة سنطرح سؤالا معاكسا: ماذا كان سيحدث لو لم يوجد الأنبياء؟
تبين لنا في مقال “مصادر المعرفة” أن افتقار الإغريق للوحي أدى إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية، وذكرنا بعض الأمثلة على نتائج غياب الوحي، وهي أمثلة تتكرر في كل المجتمعات التي طُمست فيها آثار رسالات الأنبياء، حيث حارت عقول الفلاسفة أمام المعضلات الوجودية الكبرى، فضلا عن الاتفاق في المشكلات الأخلاقية والتشريعات القانونية، ولم يكن من سبيل إلى الحق ودرء الخلاف سوى بالرجوع إلى وحي إلهي يعلو على الجميع ويوافق عقولهم.
حتى كبار الفلاسفة مثل سقراط لم يتمكنوا من وضع فلسفة أخلاقية متكاملة اعتمادا على العقل وحده
والمشكلة هنا لا تقتصر على محدودية العقل البشري، فالإنسان أصلاً ليس كائناً عقلانياً مجرداً، فحتى لو وصل عقله إلى قناعة مجردة فقد تقوده نفسه وهواه إلى مخالفته، ولو كان من كبار الفلاسفة.
وإذا كان العقل البشري لا يكفي وحده، فقد يتساءل أحدنا: لماذا لا ينزل الوحي إلى البشر بطرق أخرى غير الأنبياء، كأن يوحي الله إلى كل شخص على حدة بما يحتاج إليه من حقائق؟ والجواب أننا ذكرنا في المقال المشار إليه أعلاه أن الحدس (الكشف) لا يصلح للاعتماد عليه كمصدر موثوق، فليس هناك أي ضمان يثبت للمرء أن ما يقع في نفسه من مكاشفات هي صادرة عن الله نفسه، ولو أن الله تركنا بالفعل بدون أنبياء وتواصل معنا عبر هذه الوسيلة لتساءلنا عما إذا كانت تلك “الرسائل” واردة من كائنات فضائية تتواصل معنا بالتخاطر أو من حقيقة كونية ما (كما يقول الباطنيون) أو حتى من الشياطين؟
والحدس الشخصي لا يُستفاد منه إلا لتثبيت الإيمان (اليقين) بعد اقتناع العقل وانكشاف الحقائق، لكنه لا يصلح أن يكون مصدرا يتفق عليه الناس لأنه خاص بكل منهم على حدة، ولا يمكن طبعا أن يُعتمد مصدرا للتشريع والقوانين، فلا يمكن لبقية الناس أن يتحققوا من زعم أحد بأنه تلقى قانوناً إلهياً بحدسه الخاص، وإن فعلنا ذلك فسنعود إذن إلى مشروعية وضرورة وجود نبي يتلقى هذا الوحي، بحيث يمكن لنا التحقق من صدقه باعتباره المرجع الشامل والوحيد للأمة كلها وحلقة الوصل بينها وبين الله.
وقد يعود السائل ليقول: فلماذا لا تكون حلقة الوصل هذه من كائنات أخرى غير البشر؟ وهذا الإشكال قد طرحته قريش على النبي محمد الذي كان واحداً منهم، حيث استبعد المنكرون أن يكون نبياً من بينهم، لا سيما وأن بعضهم أقر بأن رفضهم لنبوته كان بدافع الحسد (كما فعل أبو جهل عمرو بن هشام)، وقد ردّ عليهم القرآن نفسه بقوله {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} [الإسراء: 95]، أي أن الله يبعث على الناس رسولا من جنسهم لكي يتمكنوا من رؤيته ومخالطته والتواصل معه والتعلم من سلوكه وأفعاله وأقواله، وليضعوه أيضا موضع الاختبار والتمحيص، وإذا كان البعض يتصور أن الملائكة أحق بالحصول على هذه المرتبة فقد رأينا في سيرة النبي محمد أن مهمته تضمنت من المشقة ما لا يحتمله معظم الناس، وكأن عبء الرسالة أعظم بكثير مما فيها من التشريف، ولو أن الله منح الناس القدرة على رؤية الملاك المُرسَل (في حال إرساله بدلا من رسول بشري) فربما كان الجاحدون سيطرحون اعتراضا آخر من قبيل: وما الذي يضمن لنا أن هذا الملاك مرسل من الله أيضا وليس مجرد كائن فضائي أو شيطان متجسد… إلخ؟
إذن فلا بد للإنسانية من العودة إلى الوحي بصفته الرسالة الواردة إليها من الإله، كي تكتشف من خلالها غاية وجودها وطبيعة المهمة الموكلة إليها في هذه الحياة، ولتجد أيضا في ثناياها المنهج والطريقة (الشريعة) التي يجب عليها الاحتكام إليها للتمييز بين الصواب والخطأ، وللتعرف على وسائل مكافحة الشر وتقليص مساحته ونفوذه.
وتبدأ مهمة الإنسان في البحث عن الوحي الصحيح والتحقق من صدق نسبته إلى الله وسلامته من التبديل والتحريف، وذلك بالتحقق أولا من صدق الأشخاص الذين زعموا أنهم أنبياء مرسلون من الله، بدراسة سيرتهم ومعجزاتهم وما نُقل عنهم من أقوال وأفعال، ثم بالتحقق من صدق الوحي الذي جاؤوا به، وذلك بعرضه على العقل (المنطق) ودلائل الحس (العلم التجريبي)، ومقارنة قصصه ونبوءاته بحقائق التاريخ، وتمحيص لغته وبيانه ودعاواه وكل ما يتضمنه من حيث كونها صادرة بالفعل عن مصدر إلهي أو غير ذلك.
وسنحاول إيجاز بحثنا في هذا المقال للتحقق من صدق نبوة محمد، على اعتبار أنه قد ادعى كونه آخر الأنبياء والمرسلين في التاريخ، وأنه مُرسل إلى البشرية كلها، ثم نبحث في تراثه وما نُقل إلينا من سنته في مقال لاحق، وأخيراً نتحقق من صدق الوحي الذي جاء به في المقال الذي يليه.
“كل خيرٍ في الوجود فمنشؤه من جهة الرسول، وكل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وسعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة، والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاحٍ للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟”.
ابن تيمية
ذكر النبي محمد في الكتب السابقة على بعثته تعرضنا في مقالات الوثنية واليهودية والمسيحية إلى الوحي الذي أنزله الله إلى رسل سابقين، وذكرنا في مقال “الهندوسية والبوذية” أن هناك مؤشرات عديدة على أن الأصول البعيدة للبراهمية الأولى تعود إلى مصدر سماوي، واستعرضنا أيضا بعض الأدلة التي تثبت تعرض تلك الكتب المنزَلة للتحريف، فضلا عن إخفاء أجزاء منها عمداً وضياع أجزاء أخرى. ومع ذلك؛ فما زال المتاح من تلك الكتب يتضمن بعض الإشارات التي توحي بأنها تتحدث عن النبي محمد، بينما تصرح أجزاء أخرى منها في الحديث عنه، إما باسمه الصريح أو بصفاته.
فعلى سبيل المثال، نقرأ في سفر أخنوخ (الكتاب المنسوب إلى النبي إدريس عليه السلام وهو من أوائل المرسلين إلى البشرية) وصفاً للقيامة يتضمن حديثا عن الشخص المختار أو المصطفى، فيقول “سيقوم المصطفى ويختار الصالحين والقديسين من بين الموتى، فقد جاء اليوم الذي فيه يُنقذون. سيجلس المصطفى في تلك الأيام على عرشي، وستنطلق من فمه أسرار الحكمة والموعظة التي منحها له رب الأرواح ومجده” [R.H. Charles ,The Book of Enoch, 1917, p. 69]، ويبدو أن الحديث هنا عن شخص مُختار ومميز عن كل البشرية، ينال مرتبة رفيعة يوم القيامة، وهو ما يتطابق مع الوصف الذي ذكره النبي محمد لأحداث القيامة ومقام الشفاعة الذي سيُمنح له.
وسنسرد فيما يلي أهم النصوص التي تنبأت بنبوة محمد قبل قرون من ولادته، وذلك فيما هو متاح بين أيدينا اليوم من كتب الهندوس واليهود والمسيحيين:
أولا: في الكتب الهندوسية سنسرد فيما يلي أهم النصوص التي وردت في الكتب الهندوسية المقدسة وجاء فيها ذكر محمد وأتباعه، تصريحا أو تلميحا:
1- كتاب بهافيشيا بورانا: النص الأول: بارف 3، خاند 1، أدهاي 3، شلوكا 21 إلى 23: “المليخا (شعب أجنبي في بلد أجنبي) سيظهر بينهم معلم روحي مع صحابته. سيكون اسمه مهامادا (محمد). راجا (بوج) -وهو لقب يوصف به ملوك الهند- بعد أن يعطي هذا العربي ماها ديف (تعني ذو الطبيعة الملائكية) غسلا في ماء بانشجافيا فى نهر الكانج (كناية عن التطهير من الذنوب) وبعد أن يعلن دعمه له ورضاه عنه سيقول له: سأضع لك عصا الطاعة. لك أنت يا فخر البشرية يا ساكن الصحراء العربية. يا من تملك قوة عظيمة لقتل الشيطان، وأنت ستكون محفوظا من كل أعدائك”.
وفي هذا النص يظهر اسم النبي محمد صلى الله عليه و سلم بوضوح، ويحدد أيضا موقع ظهور رسالته. ومع أن النبي لم يغتسل في نهر الكانج المقدس لدى الهندوس، فالمقصود بالنص كما يبدو أنه سيكون شخصا مطهرا من الذنوب ومعصوما، وربما يكون النص قد تعرض لهذه الإضافة من قبل كاتبها كي يفهمها الهندوسي بما يوافق طقوسه.
النص الثاني: براتيساراج 3، خاند 3، أدهاي 3، شولكا 10 إلى 27، يتنبأ مهاريشى فياس بالقول:
“المليخا أفسدوا أرض العرب الشهيرة. أريا دارما (طريقة العبادة السليمة) لم تعد موجودة فى البلد. كذلك كنت من قبل قد قتلت الشرير المضلل ولكنه عاد مرة أخرى للظهور مصحوبا بأعداء أقوياء. من أجل إظهار طريق الحق لأولئك الأعداء ومنحهم الهداية، فإن محمدا المعروف جيدا سينشغل بتوجيه هؤلاء البيشاتشا إلى طريق الحق. يا أيها الملك راجا لن تحتاج للذهاب إلى أرض أولئك البيشاتشا الحمقى لأن رحمتي ستطهرك حيثما أنت. وفي الليل، سيقول ذاك الرجل الحكيم ذو الطبيعة الملائكية، وهو في هيئة البيشاتشا، مناديا راجا بوج (يقصد به هنا الرب) “أيها الراجا، طريقك القويم و دينك وُجد ليظهر على كل الأديان الأخرى. ولكن طبقا لتعاليم إيشوار بارماتما سأعزز إيمان آكلي اللحوم (لأن الهندوس لا يأكلون اللحوم). أتباعي سيكونون رجالا مختونين ولا ذيول لهم فى رؤوسهم (لأن الهندوس يطيلون شعرهم ويربطونه) ويطيلون لحاهم، وسيصنعون ثورة ويجهرون بالأذان (مكتوبة بنفس هذا النطق العربي)، ويأكلون كل الطعام المباح. وهو سيأكل كل لحوم الحيوانات باستثناء الخنزير، وأتباعه لن يسعوا وراء التطهر من خلال الشجيرات المقدسة بل في ساحات القتال (الجهاد). وبسبب قتالهم للأمم التي لا دين لها، فإنهم سيعرفون باسم المسلمين (MUSALMAANS)، وسأكون أنا (الرب) منبع دين الأمم التي تأكل اللحوم”.
النص الثالث: بارف 3 خاند 1 أدهاي 3 شلوكا 21 إلى 23:
“انتشر الفساد والشر في سبع مدن مقدسة فى كاشي… الهند أصبحت مسكونة بالراكشاس والشابور والبهيل والكثير من الأقوام الآخرين الحمقى. في أرض المليخا (الشعب الأجنبي) أتباع الماليخا دارما (أتباع الإسلام) يتصفون بالحكمة والشجاعة. كل الصفات الطيبة اجتمعت فى المسلمين (MUSALMAANS) وكل الزعامات اجتمعت على أرض الأرياس (الجزيرة العربية). الإسلام سوف يحكم في الهند وجزرها”.
2- كتاب أتهَرفافيدا: الكتاب 20، الإنشاد 127، الآيات 1 إلى 13:
مانترا 1:
“إنه ناراشاناش أو طيب الذكر (المحمود). إنه كوراما: المهاجر أو أمير السلام، الآمن حتى وهو فى وسط 60090 عدواً”.
وقد قدّر الشيخ المباركفوري عدد أعداء النبي من قبائل العرب قبل فتح مكة بنحو 60 ألفا، بينما يعتقد الدكتور ذاكر نايك أن هذا العدد هو عدد أتباع قريش في مكة، لكن الصحيح هو الرأي الأول، والله أعلم.
مانترا 2:
“إنه ريشي قائد الجمل، الذي تمس عربته السماء”.
ومصطلح الريشي يعني رجل الدين المقدس. ومع أن تعاليمهم تحرّم على الريشي ركوب الجمل إلا أن النص تنبأ بقدوم هذا الرجل المقدس الذي يركب جملا، والنص يوضح جلال هذا الرجل الذي يعيش حياة بسيطة على الأرض ويصل مع ذلك إلى عالم الملكوت عندما يُعرج به إلى السماء.
مانترا 3:
“إنه الريشي ماماه (أي محمد) الذي يعطى مئة عملة ذهبية…”
الكتاب 20، الإنشاد 21، الآية 6:
“يا مولى كل من آمن بالحق, هؤلاء الفاتحون يتغذون بالشجاعة وبالأناشيد التي ترضيك فى ساحة المعركة. حينما تدفع العشرة آلاف عدو للحامد (أو الأحمد) المحبوب مهزومين بدون قتال”.
وهذه كما يبدو إشارة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في معركة الأحزاب.
وفي نفس الكتاب والإنشاد، الآية 9:
“لقد استطعت يا إندرا (إله الحرب) أن تهزم عشرين ملكا وستين ألفا وتسعة وتسعين رجلا مسلحين بعربات ذات عجلات قل نظيرها، الذين جاؤوا لقتال طيب الذكر (المحمود) أو ذائع الصيت اليتيم”.
يقول ذاكر نايك إن المقصود هو عدد سكان مكة قبل الفتح البالغ 60 ألفا، وزعماء مكة البالغ أيضا عشرين زعيما.
3- كتاب سامافيدا: الكتاب الثاني، الإنشاد 6، الآية 8:
“أحمد أخذ من ربه القانون الأبدي. لقد حصلتُ منه على النور كأنه الشمس”.
يقول نايك إن النص جاء باسم أحمد صريحا، وإن العديد من المترجمين أساؤوا فهم الكمة وترجموها بالخطأ، ويضيف أن المقصود بالقانون الموحى به من الله هو الشريعة الإسلامية.
ثانيا: في الكتب اليهودية سنستعرض طائفة من البشارات المتعلقة ببعثة النبي محمد في كتاب العهد القديم، والذي يتضمن المزامير التي يعتقد أنها الزبور الذي أنزل على النبي داوود، وسفر نشيد الأناشيد المنسوب للنبي سليمان، وما بقي من التوراة التي أنزلت على النبي موسى، والصحف الأخرى التي أنزلت على أنبياء بني إسرائيل بعد موسى، ومن أهمها نذكر ما يلي:
سفر إشعيا
1- جاء في سفر إشعيا (29: 12): “ثم يناول الكتاب لمن لا يعرف الكتاب ويُقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة” ولعل مجرد قراءة هذه الكلمات تستدعي إلى ذهن القارئ مباشرة قصة بدء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له جبريل “اقرأ” فقال “ما أنا بقارئ”، ولكن لا بدَّ من توضيح أن هذه الترجمة العربية الكاثوليكية لهذا النص- مع وضوح دلالتها- قد حرَّفت فيه ما بينته الترجمات الإنجليزية والفرنسية والتي جاء النص فيها كما يلي (حسب The New International Version): “or if you give the scroll to someone who cannot read, and say: read this, please) he will answer: I don’t know how to read”.
ونلاحظ الاختلاف البسيط في ترجمتها : “أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة، مع الرجاء: اقرأ هذا، فيجيب: لا أعرف القراءة”، لكنه على بساطته يكشف تحريفاً متعمداً للنص لإبعاده عن الشخص الذي يشير إليه وهو محمد نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم الذي كانت أهم صفاته أنه أميّ لا يعرف القراءة.
2- جاء في سفر التثنية (32 :21) أن الرب قال في بني إسرائيل غاضباً: “هم أغاروني بمن ليس إلهاً وأغضبوني بأباطيلهم وأنا أغيرهم بمن ليسوا شعباً بقومٍ أغبياء أغضبهم”. (ترجمة المطبعة الكاثوليكية ببيروت). وفي الترجمة العربية المشتركة جاء: “… وأنا أثيرهم بشعبٍ لا شعبٌ هو وأكدِّرهم بقوم جهلاء”. والشعب “الغبي” أو “الجاهل” الذي يخبر الرب أنه سيحل محل بني إسرائيل بعد انحرافهم هو “الأميون” من العرب الذين اشتهروا بهذا الوصف وذكرهم القرآن الكريم به.
3- ورد في سفر التثنية (18: 18) أن الرب قال لموسى: “سأقيم لهم نبياً من بين إخوتهم مثلكَ وألقي كلامي في فمه فينقل إليهم جميع ما أكلمه به وكلُّ من لا يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي أحاسبه عليه”، ويدل هذا على أن النبي المقصود في البشارة من غير بني إسرائيل لقوله: “من بين إخوتهم” فالخطاب لبني إسرائيل ولا يكونون إخوة لأنفسهم، أما إخوتهم فهم أبناء أخي أبيهم إسماعيل أخي إسحاق، وهم العرب. ولو كان المراد به نبياً من بني اسرائيل مثل (صمويل) كما يؤوله اليهود لقال: من بينكم أو من وسطكم.
وقد نبه السموأل بن يحيى -الذي كان من أحبار اليهود في الأندلس واعتنق الإسلام- في كتابه “غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود” أن هذا النصَّ كان يتضمن وصفاً للنبي المبشر به وهو أنه “أمّيٌّ” قبل أن يحذفها اليهود وأنها كانت السبب في إسلامه.
4- في سفر التثنية (33 :2): “جاء نور الرب من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتلألأ من جبال فاران وجاء معه عشرة آلاف قديس”. وقد حاول الأحبار إبهام دلالة فاران وقالوا إنها لا تقع في بلاد العرب بل قريبة من سيناء وساعير، لكن مكة عُرفت بهذا الاسم بضعة قرون سالفة، كما أن إسماعيل -وفقاً لهم- سكن برية فاران وتزوج من امرأة مصرية، ومن ولده قادار انحدر أحفاده العرب الذين سكنوا قفار فاران (التكوين 25: 13- 15)، وكان منهم محمد الذي دخل مكة مع عشرة آلاف قديس (وهو عدد الصحابة عند فتح مكة) كما جاء في التثنية (33: 2). وتذكر موسوعة الكتاب المقدس أن اسم (قيدار) مرادف للبلاد العربية وعرّف بعضهم بني قيدار بأنهم قريش.
5- في سفر إشعياء (21: 13- 17): “نبوءة بشأن العرب: بيتوا في غاب العرب يا قبائل الدّدانيين، وافوا بالماء للقاء العطشان يا سكان أرض تيماء استقبلوا الهاربين بالخبز لأنهم قد فروا من السيف المسلول.. لأنه هكذا قال لي الرب بعد سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار وتكون بقية الرماة الأبطال من أبناء قيدار قِلَّة لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم”.
وذكر معجم العهد القديم أن قيدار -كما سبق- هو ابن إسماعيل وأبناؤه العرب من قريش خاصة وأن أحبار اليهود ينادون كل العرب في كل مكان بهذا الاسم، أما الدّدانيون فهم قبيلة عربية مرتبطة بأدوم وتيماء وتقيم شرق البحر الميت، وتيماء: اسم عبري بمعنى “الجنوبي” وهي قبيلة إسماعيلية تسلسلت من تيما وكانت تقطن بلاد العرب وتسمى الجهة التي تسكنها تيماء أيضاً، وهي في بلاد العرب في منتصف الطريق بين دمشق ومكة (حسب قاموس الكتاب المقدس ضمن المجموعة الإلكترونية “البشارة”)، وذكر قاموس الكتاب المقدس أن تيماء واحة شمال المدينة. وهي المدينة التي دعا الرب أهلها لاستقبال “الهارب” بدعوته من بطش بني قيدار في مكة، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون، وهو الذي عاد بعد عام من هجرته كما نصت البشارة ليهزم أبناء قيدار “قريش” في موقعة بدر.
6- يقول سفر حجَّاي (2: 7،8) مبشراً المستضعفين والمحزونين: “فإنه هكذا قال رب الجنود.. وأزلزل جميع الأمم ويأتي مُتمنَّى جميع الأمم فأملأ هذا البيت مجداً.. وسيكون مجد هذا البيت الأخير أعظم من الأول قال رب الجنود وفي هذا الموضع أعطي السلام يقول رب الجنود”. وقد اضطربت تراجم الكتاب المقدس في عبارة: “ويأتي مُتمنَّى (أو مُشتهى) جميع الأمم”، حيث أكد القس الكلداني الذي اعتنق الإسلام عبد الأحد داود في كتابه “محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس، ص 36” أن هذه النبوءة تتحدث عن مقدم نبي الإسلام “أحمد”، فقد ذكر النص العبري كلمة مُتمنَّى أو مشتهى بلفظ “حِمده”: “في يا فو حِمده كول هاجوييم) ما يعني حرفياً: “وسوف يأتي حِمده لكل الأمم”، وهي كلمة عبرية قديمة تعني “الأمنية الكبيرة” أو “المشتهى”، أما في العربية فمن جذر (ح م د) التي تعني الإطراء والمديح، والشخص الذي يتاق إليه ويُرغب فيه هو أولى الناس بالمديح، وأكد عبد الأحد داود أن كلمة أحمدهي الصيغة العربية لكلمة حِمده. أما أصل كلمة شالوم بالعبرية و”سلام” و”إسلام” بالعربية فهما مشتقتان من أصل واحد، ورأى المؤلف أن تفسير النبوءة بمعنى الأمنية والسلام يجردها من أي معنى، بينما هي في الحقيقة بشارة صريحة باسم نبي الإسلام.
7- في سفر المزامير (84: 6- 8) : “هنيئاً للذين عزتهم بك وبقلوبهم يتوجهون إليك يعبرون في وادي الجفاف فيجعلونه عيون ماء بل بركاً يغمرها المطر، ينطلقون من جبل إلى جبل”، وفي ترجمة المطبعة الكاثوليكية تأتي العبارة: “يجتازون في وادي البكاء”، أما في النص العبري ومعظم تراجم الكتاب المقدس بالإنكليزية والفرنسية نجد أن الوادي يحمل اسم (Bacah) حيث يبدأ بحرف كبير مما يدل على أنه اسم علم، وبكة هو أحد أسماء مكة المكرمة كما جاء في القرآن الكريم: {إنَّ أوَّل بيتٍ وُضِعَ للناس للذي بِبَكَّة مباركاً وهُدىً للعالمين} [آل عمران: 96].
8- أكثر البشارات وضوحاً هي التي وردت في سفر نشيد الأناشيد المنسوب للنبي سليمان (5: 16) حيث يرد فيه تغزلٌّ بشخص ما: “حلقه من الحلويات وكلُّه مشتهيات، هذا ودودي وهذا صاحبي يا بنات أورشليم”. فعبارة (كله مشتهيات) هي ترجمة محرفة لما ورد في النص العبري والذي ما زال محفوظاً كما هو على الشكل التالي: “حِكو ممتكيم فِكلّو محمديم زيه دودي فزيه ريعي”. ولاحقة “يم” العبرية تستخدم للتفخيم، ويبدو أن هناك من تعمد تحريف الترجمة مع أنها تشير إلى اسم علمٍ مع أنه لا يجوز ترجمة أسماء الأعلام.
ثالثا: في الكتب المسيحية مع أن العهد الجديد من الكتاب المقدس -الذي توجد منه حالياً أربع نسخ مختلفة- لا يمثل الإنجيل الحقيقي الذي أنزل على النبي عيسى عليه السلام حسب المعتقد الإسلامي، بسبب ما تعرض له من تحريف وتبديل وضياع [انظر مقال المسيحية]، إلا أن المتداوَل منه اليوم يتضمن بعض الإشارات إلى نبوة محمد، وفيما يلي مثالان لهذه الإشارات:
وفي سفر يوحنا [14/16] يقول المسيح: “ولسوف أطلب من الأب وسوف يعطيكم معزياً (برقليطوس) آخر يبقى معكم إلى الأبد”، بينما يؤكد البروفسور عبد الأحد داود أن هذا النصٌ تعرض للتشويه، فكلمة “برقليطوس” لا تعني “المعزي”، حيث حرصت الكنيسة على تفسيرها بالروح القدس (الأقنوم الثالث للإله) الذي جاء ليعزي المؤمنين بصلب المسيح ويكون واسطة بينهم وبين الأب، بل تعني الأمجد والمستحق للمديح، وهي مطابقة تماماً لمعنى اسم “أحمد” في اللغة العربية، وبهذا يصبح المقصود بها النبي محمد الذي بشّر المسيح عيسى، وبشكل موافق لنص الآية القرآنية.
2- يذكر العهد الجديد قصة رعاة يرعون أغنامهم قرب بيت لحم في الليلة التي ولد فيها المسيح، إذ ظهر لهم ملاك ليعلن مولد “السيد المخلِّص” ثم ظهر حشدٌ من الملائكة ينشدون: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة” [لوقا 2/14]، وما زالت هذه الترنيمة ترتل في الكنائس حتى اليوم، بينما يشكك باحثون في ترجمتها إلى اللغة اليونانية التي كُتب بها هذا الإنجيل، إذ يُفترض أن تكون الملائكة قد رتلت أنشودتها بلغة الرعاة وهي العبرية أو الآرامية وليس اليونانية.
ويقول عبد الأحد داود إن الأصل الآرامي للنص كان يتضمن ثلاث كلمات مهمة حوّرت الترجمة معناها إلى معنى آخر، فاسم الله تُرجم إلى “Theos” باليونانية، وكلمة شلاما (السلام) ترجمت إلى “Eiriny”، وكلمة المسرَّة SobhraTabha تُرجمت إلى “Eudokia”، حيث تتوافق هذه المعاني مع العقيدة المسيحية المعتمدة بعد بولس.
ويضيف داود أن كلمة Eiriny اليونانية مرادفة لكلمتي “شالوم” في العبرية، و”شلاما” في الآرامية، لكنها تعني أيضا “إسلام” في العربية. أما كلمة Eudokia فهي مركبة من مقطعين: “Eu” تعني الأكثر والأحسن، و”dokia” تعني المجد والشرف أو اللطيف المحبوب، وتتفق هذه الكلمة في معناها الصحيح والحرفي مع الكلمات العبرية “مَحْمَد، مَحَمُد، حِمْدَه، حِمِدْ” التي استخدمت بصورة متكررة في العهد القديم [إرميا 1/7،10- 2/4]. وبهذا يمكن أن تتحول الترنيمة إلى “المجد والحمد لله في الأعالي، أوشك أن يجيء الإسلام للأرض، يقدمه للناس أحمد”.
الكعبة في عام 1910م
مقدمات بعثة النبي محمد قال أبو محمد بن قتيبة “ومن أعلام (علامات) نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لم يسم أحد باسمه قبله صيانةً من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بيحيى بن زكريا إذ لم يجعل له من قبل سمياً، وذلك أنه سماه في الكتب المتقدمة وبشّرت به الأنبياء، فلو جعل الاسم مشتركا فيه ساغت الدعاوى ووقعت الشبهة، إلا أنه لما قرُب زمانه وبشّر أهل الكتاب بقُربه حضر أربعة أنفس عند راهب وأخبرهم باسمه وقرب زمنه فسموا أولادهم بذلك”.
وذكر عدة مؤرخين أولئك الأشخاص الذين أطلقوا اسم محمد على أطفالهم قبل بعثة محمد الحقيقي بسنوات قليلة، والبعض ذكر أنهم ستة، وكانوا قد التقوا براهب نصراني في أحد أديرة الشام أثناء رحلة لهم للقاء ملك الغساسنة “ابن جفنة”، فقال لهم الراهب عندما عرف أنهم من قبيلة مُضر العربية “إنه يُبعث فيكم وشيكاً نبي خاتم النبيين، فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا”، فقالوا: ما اسمه؟ فقال: اسمه محمد، فلما وُلد لكل منهم ولد سمى ابنه محمداً أملاً بأن يكون هو النبي [ذكره ابن حجر والبغوي وابن سعد وابن شاهين وابن ظفر المكي].
والظاهر أنه لم يدّع أي من الذين حملوا اسم محمد النبوة، والعجيب أن عائلة محمد الحقيقي لم تكن قد سمعت بهذه القصة من أي راهب وأنها أطلقت على مولودها هذا الاسم الجديد -الذي لم تعرفه العرب من قبل- بالصدفة. ففي روايات نقلت من طرق عدة عن عبد المطلب، جدّ النبي محمد لوالده، فإنه رأى في منامه أن سلسلة فضة خرجت من ظهره وامتدت إلى ما بين السماء والأرض، وما بين المشرق والمغرب، ففسرت له كاهنة قريش الرؤيا بأنه سيولد له مولود يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض، فلما ولدت آمنة (زوجة ابنه عبد الله) قال لها سميه محمداً [ذكره أبو نعيم والصالحي والخفاجي والسيوطي]، كما ذكر مؤرخون آخرون أن آمنة أُمرت أثناء حملها (في المنام) بأن تسمي مولودها محمداً [ابن حبان والطبري وابن سعد وغيرهم].
اختار الله أن يبعث خاتم أنبيائه في أرض العرب التي لم تعرف الحضارة، وتحديدا في مكة التي بُني فيها البيت الحرام على يد آدم أبي البشر، والذي جدده إبراهيم عليه السلام بعد أن ضاعت معالمه، وكأن الحكمة من خروجه في هذا المكان أن يجمع بين النشأة في بيئة لا تعرف القراءة والكتابة ولم تقرأ شيئا من الكتب المنزلة على بني إسرائيل وغيرهم، وبين الانطلاق بدعوته من مركز التوحيد وقبلة المؤمنين على مر العصور.
وُلد محمد يتيمًا على الأرجح، حيث توفي والده عبد الله قبل ولادته، كما توفيت والدته آمنة وهو في سن السادسة، ثم كفله جده عبد المطلب (سيد قريش) سنتين قبل أن يرحل أيضا عن الدنيا، لينشأ في كنف عمه أبي طالب، وكأن قدَر النبي أن ينشأ يتيما ليكون أكثر استقلالية منذ الصغر، واللافت أن عمه الذي ظل حياً إلى ما بعد بعثة محمد لم يؤمن به، وهذا يعني أن كل الذين نشأ محمد في كنفهم لم يكن لهم دور في رسالته.
عاش محمد طفولة طبيعية في مكة، وبدأها بمرحلة الرضاعة في مضارب البدو كما هي عادة العرب آنذاك، فحملته حليمة السعدية إلى دارها في مضارب بني سعد لتبدأ أمارات تميز هذا الطفل بحلول البركة في دارها ورزقها، ثم وقعت معجزة شق صدره عندما أخذه الملَك جبريل وهو يلعب مع بقية الأطفال، فشقّ صدره وأخرج قلبه وغسله مادياً في وعاء من ذهب ثم أعاده إلى مكانه، وقد رويت هذه القصة ببعض الاختلافات في التفاصيل في صحيح مسلم وغيره، وأخرج أحمد والدارمي أن حليمة أعادته إلى أمه فوراً بعد هذه الحادثة فلم تُفاجأ بما حدث له، وقالت أمه آمنة “إن رأيت (في المنام أثناء حملها به) خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام”، وليس في هذا المعجزة ما يناقض العقل ولا المنطق السليم.
رعى محمد الغنم لكسب رزقه، وقال لأصحابه بعد أن صار نبياً “ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم”، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال “نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة” [البخاري: 2262]، ولدى الجمع مع روايات أخرى يتبين أنه كان يرعى الغنم أيضا أثناء إقامته صغيراً عند مرضعته حليمة، ويقول أبو الوفاء ابن عقيل “لما كان الرعي يحتاج إلى سعة خلق وانشراع صدر، وكان الأنبياء مُعدّين لإصلاح الأمم، حَسُن هذا في حقهم”.
وفي سن الشباب بدأ يعمل بالتجارة، ففي سن الخامسة والعشرين خرج بقافلة تجارية لصالح خديجة بنت خويلد، وهي إحدى سيدات قريش، وعندما عاد من رحلته إلى بُصرى (في جنوب سورية حالياً)، أو من سوق في تهامة (غرب السعودية) حسب رواية أخرى، أُعجبت بما ذكره لها غلامها ميسرة من أخلاقه، فتزوجا وهي تكبره بنحو خمسة عشرة سنة.
مدخل غار حراء
يقول ابن خلدون في كتابه “المقدمة” إن من علامات نبوة محمد أنه كان قبل الوحي معروفا في قومه بخلق الخير والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس، وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات، فقد دعي وهو شاب صغير إلى وليمة عرس فيها رقص ولهو، فغلبه النوم أثناء الحفل حتى طلعت الشمس ولم يحضر شيئا من اللعب، وكأن الله كان ينزّهه عن كل المنكرات حتى لو حدثت بالصدفة ودون قصد منه.
وفي سن الأربعين اكتمل نضجه، وبدأت أمارات النبوة بالظهور، فتقول عائشة “كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء (أي الخلوة واعتزال الناس) فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي أولات العدد” [صحيح مسلم: 160].
ووقعت الحادثة المعروفة في الغار باللقاء الأول بين محمد وجبريل، وبدأت بذلك بعثته ونبوته. ومع أنه كان قد واجه العديد من المواقف والعجائب التي أكدت له مسبقاً أنه سيكون نبياً، إلا أن الصدمة كانت بالغة الأثر على نفسه في بدايتها، حتى عاد إلى زوجته خائفاً مرتجفاً وهو يقول زملوني (غطوني)، وعندما هدأت نفسه قال لها “لقد خشيت على نفسي”، لكن خديجة أيقنت على الفور أنه سيكون بخير، مستدلة على ذلك بأخلاقه الحميدة بالرغم من عدم وجود دين ولا شرع في القوم آنذاك، فقالت له “أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكَلّ (أي تعين الضعيف) وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق” [صحيح مسلم: 160].
ويستنتج ابن خلدون من إسلام أوائل الصحابة أن نبوة محمد لم تكن تحتاج إلى “دليل خارج عن حاله وخلقه”، ومنهم أبو بكر الذي يروى عن النبي أنه قال فيه “ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا أبا بكر ما تردّد فيه”.
يقول ابن تيمية في كتابه “شرح العقيدة الأصفهانية” إن أي شخصين ادَّعيا أمرًا من الأمور، أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب، فلابد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة، إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، ويقول أيضا إن مُدعي النبوة إما أن يكون أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يُلبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين.
وعندما أرسل النبي إلى الملك البيزنطي هرقل رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، كان وفد من قريش في الوقت نفسه يقوم بزيارة لبلاده، فاستدعاهم الملك وسأل قائدهم أبا سفيان عدة أسئلة عن محمد، ومنها: بمَ يأمركم؟ فقال أبو سفيان: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، فأجابه هرقل: إن يكن ما تقول حقاً فهو نبي، وسيملك ما تحت قدميّ هاتين”. وقد صدقت نبوءة الملك فعلا عندما فتح المسلمون في خلافة عمر بلاد الروم البيزنطيين.
الفرق بين النبي والسحرة كان الوليد بن المغيرة من قادة قريش في مكة، وكان ممن تصدوا لدعوة النبي عندما جهر بها، وعندما اقترب موسم الحج ووصول وفود العرب إلى مكة اجتمع الوليد بوجهاء المدينة وطلب منهم أن يتفقوا على رأي واحد بشأن محمد، تحسبا للسؤال الذي قد يُطرح عليهم من الوفود القادمة عندما تعلم بنبأ خروج نبي من بينهم، وبدأ الحاضرون بطرح الاقتراحات.
فقالوا نقول كاهن، قال الوليد: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته، ولا سجعه. قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون، ولا بخنقه، ولا وسوسته (أي لا تأتيه نوبات صرع). قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده (لأن الساحر يعقد عقدا في الحبل وينفخ فيه بعد تلاوة الطلاسم). قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئا، إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإن أقرب القول أنه ساحر، فإنه سحر يفرق بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته.
وفي النص دلالة واضحة على الفارق الكبير بين النبي والساحر في سلوكه وطرحه، إلا أنهم وجدوا هذا التشبيه أقرب اتهام ممكن إليه من حيث كونه قادرا على التأثير في الناس، مع أن تأثيره لم يكن إلا بإقناعهم بصدقه ودون استخدام أي قوى خفية.
ولو قارنا بين سلوك النبي (الذي وصفه الصحابة بأدق التفاصيل) وسلوك السحرة والكهنة والشامانات فلن نجد أي تقاطع، فعلى سبيل المثال يدعي الشامانات اتصالهم بالآلهة أو أرواح الموتى عندما يطلبونها لتلقي الإلهام منها بأمور غيبية، مثل الأحداث المستقبلية التي يزعمونها أو كشف مكان بعض الأشياء المخفية، ويمارسون لذلك طقوسا معروفة لدى كل الشعوب، وهي الطقوس التي يتم فيها استحضار الشياطين ليس إلا، أما النبي فلم يكن يفعل شيئا من ذلك، ولم يستحضر الوحي بنفسه يوماً، بل كان ينتظر أحياناً أياماً أو شهوراً حتى يأتيه الجواب على مسألة ما، وقد يتسبب له ذلك بالحرج، كما في قصة الإفك عندما طعن البعض في عِرض زوجته عائشة وهو ينتظر تبرئتها من الوحي، ولو كان دجالا لافتعل بنفسه نزول الوحي وزعم أن زوجته بريئة على الفور وقطع لسان أعدائه.
والشامان يتحدث بصيغة الناطق باسم الإله أو الروح أو الحقيقة المطلقة، فيزعم أنه اتحد به واستمد منه القداسة مباشرة، أما النبي فمع أن القرآن أكد أنه لا يأتي بالخبر الكاذب: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3-4]؛ إلا أن القرآن أوضح للناس أيضا أن النبي لا ينطق بالحق إلا من الله، وأنه إذا لم يستعن بالله فقد ينسى كما ينسى البشر -دون وقوع في الخطأ الفادح بالوقت نفسه- فيقول {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} [الكهف: 23-24].
ومن المعروف أن النبي لم ينطق يوما بطلاسم أو تعويذات سحرية بأي لغة كانت، وعندما كان يرقي المرضى فلم يكن ينطق بشيء سوى القرآن والدعاء الواضح الصريح، بل كان يتعوذ بالله من السحر والشياطين صباح ومساء كل يوم.
الفرق بين النبي والفلاسفة يقول الفيلسوف يعقوب الكِندي إن الذين اصطفاهم الله للنبوة لا يشبه العلم الذي يتلقونه بالوحي العلوم الأخرى (الكسبية) التي يكتسبها الإنسان بالتعلم، فعلم الوحي يأتي “بلا طلب ولا تكلف ولا بحث ولا بجبلةٍ بالرياضيات والمنطق ولا بزمان”، فمن يتدبر أجوبة الرسل على الأسئلة التي كان يطرحها عليهم المشككون بشأن الأمور الخفية فسيجد فيها أجوبة تختلف عما كان سيقدمه الفلاسفة في تلك العصور، وذلك من حيث الوجازة والبيان وقرب السبيل والإحاطة بالمطلوب.
ويضرب الكِندي على ذلك بأمثلة، ومنها أن المشركين سألوا محمدا {من يحيي العظام وهي رميم؟}، فجاءه الجواب من الوحي: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)} [يس: 79-82]. ويحلل الكندي هذا الجواب بلاغيا وفلسفيا من وجه عدة، ومنها أنه إذا كانت العظام قد وجدت بالفعل بعد أن لم تكن، فإنه من الممكن -إذا بطلت وصارت رميماً- أن توجد من جديد، فجمع المتفرق أسهل من صنعه من العدم، والسائل المنكر لقدرة الله على البعث مقر بخلقه من عدم.
ويضيف أن كون الشيء من نقيضه موجود، كإخراج النار من الشجر الغض، ثم يستشهد النبي في جوابه الموحى به بخلق الله للكون، ما يدل بالبداهة على قدرته على البعث، إلى آخر ما قاله من دلائل فلسفية يختتمها بقوله “فأي بشر يقدر بفلسفة البشر أن يجمع في قول بقدر حروف هذه الآيات ما جمع الله جل وتعالى إلى رسوله فيها من إيضاح”، ليستنتج من هذا النمط من العلم أن مصدره ليس حسا ولا عقلا بل وحيا مفارقا من الله. [رسائل الكندي الفلسفية، 1/372]. وسنبحث في مقال “الوحي القرآني” المزيد من الأدلة على صحة الوحي القرآني ونسبته إلى الخالق مباشرة.
ومن أوضح الاختلافات بين النبي محمد والفلاسفة، أنه ظل أمياً حتى آخر حياته، ولم يعرف عنه خصومه من قريش أنه تعلم القراءة والكتابة فضلا عن تلقي العلم على أي معلم، بل كان قبل البعثة (التي فاجأته وهو في سن الأربعين) مشغولا بتربية أولاده والعمل في التجارة ورعي الغنم، حتى ذكر الوحي في مرحلة لاحقة أن النبي لم يكن قد خطر بباله أصلاً أنه سيصبح نبياً فقال: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} [القصص: 86]، ومع ذلك فقد تمكن بعد بعثته من وضع تشريع متكامل قائم بذاته، ومازال جهابذة الفقهاء حتى اليوم يقضون أعمارهم في تعلم الشريعة التي أتى بها واستنباط قواعدها وأصولها والاجتهاد في ضوئها، بينما لم يبذل النبي أي جهد في “وضع” تلك الشريعة التي أوحيت إليه، بل كان مشغولا بالدعوة والجهاد وتأسيس الأمة، وكان وقت فراغه ينصرف إلى العبادة وليس إلى طلب العلم والقراءة، فعِلمه كان يأتيه دون طلب.
وقد تم الاعتراف بالشريعة التي جاء بها النبي كمصدر عالمي للتشريع والقانون في عدة مؤتمرات دولية في القرن العشرين، وكان أولها مؤتمر القانون المقارن الدولي في لاهاي الهولندية عام 1932، حيث أقرت تلك المؤتمرات بأن الشريعة الإسلامية أصيلة وليست مستمدة من القانون الروماني كما حاول بعض المستشرقين أن يثبتوا.
عبد البهاء
ووُضعت عشرات الكتب في كشف معجزات العدالة والإتقان في التشريع المحمدي، وهو أمر لا يتسع هذا المقال للاستشهاد به، إلا أننا نكتفي بالتوقف عند التناسق بين كافة جوانب هذا التشريع، وهو من أدل البراهين على إعجازه وصدوره عن مصدر غير بشري، فكل الشرائع الوضعية التي عرفتها البشرية تطلب وضعها جهودا جماعية متأنية، ثم نضجت عبر تراكمات لأجيال متعاقبة، أما النبي فكان يفتي أحيانا عند وقوع الواقعة، وقد يصمت عندما يُسأل عن أمر لم يأته فيه الوحي فينزل عليه في لحظتها أو بعد برهة قصيرة، فيستدعي صاحب السؤال ويخبره بما جاءه من تشريع، وقد يُنسخ حكم بحكم آخر لتطور الأحداث ونضج المجتمع حديث التشكل، إلا أننا لا نجد أي وجه من وجوه التعارض والتناقض بين كافة الأحكام على ضخامتها، ولا نجد فيها أيضا ما يتعارض مع مقومات العدالة، وهو تحدٍّ لم ينجح فيه كل من ادعى النبوة [انظر مقال شريعة الإسلام].
فعلى سبيل المثال، ينص كتاب “الأقدس” الذي يقدسه البهائيون على أنه “إذا كان المتوفّى أباً وله دار كان يسكنها، يختصّ الابن الأرشد بهذا المسكن”، فالأفضلية للابن الذكر والأكبر سناً فقط، ويزعم مؤسس هذه الديانة عبد البهاء أن هذا التفضيل منصوص عليه في الكتب السماوية السابقة، فيقول “كانت للابن البكر في جميع الشرائع الإلهية امتيازات فوق العادة، حتى النبوة كانت ميراثا له”، وهو ادعاء غير صحيح.
يقول الفيلسوف والحقوقي الفرنسي مونتسكيو “إنه ليس هناك مقنِّن (واضع للقوانين) إلا وله رأي خاص في القانون، فكل مقنن لديه عواطف وأفكار خاصة، وهو يسعى عند وضع القانون إلى أن يجعل مكاناً لنظرياته”، ويستنتج من ذلك حصول التغير الدائم في القوانين الوضعية، فلا يكاد رئيس أو ملك يصل إلى السلطة إلا ويجري تعديلات دستورية وقانونية تتواءم مع رؤيته ورؤية حكومته، ولا يمكن للمقنن البشري أن يحقق العدالة المطلقة إلا بمدد معرفي مفارق للحاجات البشرية ومؤثرات البيئة، وهو ما لا يتوفر إلا للأنبياء الذين يستمدون الشرائع من الوحي.
الفرق بين النبي وأساتذة الجمعيات السرية أوضحنا في مقال “الجمعيات السرية” أن الكثير منها نشأ داخل الأديان الكبرى لأسباب عدة، وأن نظامها يقوم أساساً على التدرج والترقي في مراتب سرية، وصولا إلى درجة الأستاذية التي يحتلها شخص خفي لا يعرفه إلا أصحاب الدرجة التي تحته مباشرة فقط، كما تحفل عقائد وشعائر هذه الجمعيات بالرمزية التي تحتمل التأويلات المختلفة بكل تفاصيلها، وإلى درجة يمكن فيها أن يجتمع النقيضان في أمر واحد، كأن يشيع مثلا أن جمعية ما تعبد الإله بينما هي تعبد الشيطان نفسه في الحقيقة، ولا يعرف ذلك إلا من يترقى إلى الدرجات العليا فقط.
لقطة من مشهد تمثيلي جاء في الفيلم الوثائقي “سري للغاية-الماسونية” وهي توضح إقرار العضو الجديد في الماسونية بأنه سيعرض نفسه في القتل إذا أفشى أسرار جماعته
وذكرنا أيضا أن أنظمة هذه الجمعيات تشترط على أعضائها الولاء المطلق والطاعة العمياء وكتمان الأسرار التي لا تُكشف إلا بعد تمحيص واختبار شديدين، مع التهديد بالقتل في حال كشف أي سر، ما يعطي “الأستاذ الأعظم” سلطة هائلة على عقول ونفوس وأجساد كل من يوافق على الانضمام إلى جماعته.
في المقابل، لم يقدم النبي محمد نفسه على أنه صاحب رسالة سرية أو تعاليم خفية، ومع أنه اضطر إلى تقليص نطاق دعوته بين المقربين منه في السنوات الثلاثة الأولى من الدعوة فهذا لا يعني أنها كانت خفية، بل أمره الوحي بإعلان نبوته منذ اليوم الأول، فجمع قريشًا عند جبل الصفا وأخبرهم بأنه رسول الله إليهم، إلا أنه لم يوسع الدعوة بعد ذلك حتى لا يتضرر أتباعه القلائل من بطش الرافضين لدعوته وطغيانهم، وكان النبي طوال تلك الفترة يجاهر بدينه وعقيدته دون إظهار التحدي، ويتلقى بالمقابل الكثير من الأذى والاضطهاد، كما كان يفعل ذلك الأقوياء من صحابته الأوائل مثل عمه حمزة وعمر بن الخطاب.
وطوال مدة النبوة التي امتدت ثلاثة وعشرين عاما، لم ينشئ النبي أي كيان سري، ولم يُخفِ عن الناس أي شعائر أو عقائد، بل نصّ القرآن على أن الدين مكشوف وعلني وواضح ومكتمل، فقال في حجة الوداع وقبل وفاة النبي ببضعة أشهر {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام} [المائدة: 3]، وفي حديث صحيح رواه مسروق عن عائشة أنها قالت “من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته” [رواه البخاري].
وبما أن النبي كان سيد قومه ومؤسسا لدولة ناشئة ويحيط بها الأعداء المتربصون، فقد اضطر من حيث موقعه السياسي إلى إطلاع بعض صحابته الذين يشكلون “الكيان الأمني” للدولة على بعض الأسرار التي لا تتعلق بالدين نفسه، فأخرج البخاري عن أبي الدرداء أنه قال لعلقمة: “أو ليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره؟”، وجاء في روايات أخرى أن صاحب السر هو حذيفة بن اليمان، وهو يشبه ما يسمى اليوم بأمين السر (السكرتير)، وقد أوضح الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن المراد بالسر ما أعلمه به النبي صلى الله عليه وسلم من أحوال المنافقين، ولهذا المعنى شواهد كثيرة في كتب الحديث.
كما أخرج البخاري عن أبي هريرة أنه قال “حفظت عن رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم”، وبيّن ابن حجر أيضا في الفتح أن وعاء العلم الأول الذي كشفه لنا أبو هريرة هو الدين نفسه، أما الوعاء الذي أخفاه فيتضمن أسماء أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم في عهد بني أمية، والديل أن أبا هريرة كان يكني عن بعضهم ولا يصرح خوفا على نفسه من بطشهم، كقوله “أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان”، في إشارة إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، وقد استجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. وقد أكد هذا المعنى بشواهد كثيرة الذهبي والقرطبي وغيرهما، مما يؤكد أن العلم المخفي هو نبوءات كشفها النبي لأمناء السر عن أسماء المنافقين وما سيحدث من الفتن والظلم بعد موته، وهي أمور لا علاقة لها بالدين نفسه.
“كانت صورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهيئته وسمته وشمائله، تدل العقلاء على صدقه، ولهذا قال عبد اللَّه بن سلام (كان من أحبار اليهود وأسلم): فلما رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، ولذا كان من سمع كلامه، ورأى آدابه، لم يدخله شك” [التقي المقريزي، إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، 4/179].
وعلاوة على ما سبق، يوجه الوحي النبي مراراً ليوضح للناس أنه ليس وصيّا عليهم، ولا سلطانا على نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، فيقول في إحدى الآيات {قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار} [ص: 65]، وهذه الصورة أبعد ما تكون عن الدور الذي يلعبه أساتذة الجمعيات السرية الذين يعشقون السلطة ويشترطون الطاعة العمياء على أتباعهم، بينما لم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه البيعة إلا من حيث كونه مؤسسا لكيان سياسي، وبما يحقق حلم العدل للناس في مجتمع لا يُعبد فيه بشر ولا حجر.
الفرق بين النبي والملوك
المسجد النبوي في المدينة المنورة بمنتصف القرن التاسع عشر
يميل القادة في العادة عبر التاريخ إلى التمتع بقدر ما من الشهوات، فالأحمق منهم ينغمس فيها حتى الثمالة، والقائد الذكي يوجه طاقته نحو بسط سلطته وتقوية نفوذه ومقاومة أعدائه، لكن كلاهما يهتم بمظاهر العظمة، فأكثر القادة زهدا في الملذات نجده منغمسا في المقابل بشهوة السلطة.
والنبي هو الاستثناء الوحيد من هذه المعادلة الصعبة، فقد كان صاحب سلطة دنيوية معنوية، ومع ذلك لم يؤسس لنفسه ملكا، ولم يتخذ شيئا من مظاهر السلطة والنفوذ فضلا عن الملذات الدنيوية، بل كانت سلطته مستمدة أصلا من انقياد الصحابة له بموجب البيعة على الطاعة دون النص على تأسيس دولة، لذلك حار المفكرون والمنظرون في تصنيف سلطة النبي الاستثنائية، والتي خلفه فيها حكّام حقيقيون (الخلفاء الراشدون) يستمدون شرعيتهم من البيعة بصفتهم خلفاء للنبي، فيقول الماوردي في “الأحكام السلطانية” إن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ويعرفها ابن خلدون بأنها خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
ومن ينظر في سيرة الخلفاء الراشدين يتعجب من زهدهم في ملذات الدنيا بالرغم مما حققوه من فتوحات غير مسبوقة في التاريخ، لكن هذا الزهد لم يكن سوى اقتباس من التطبيق النبوي للزهد، فالنبي ابتدأ دعوته برفض العرض السخي الذي قدمته له قريش عن طريق عمه أبي طالب، حيث عرضوا عليه الأموال والنساء والمُلك مقابل أن يكف عن الدعوة إلى التوحيد ونبذ الوثنية، فرفض بشدة، وتابع مسيرته مطارَدا منبوذا من قبل قومه ومعظم القبائل التي قصدها للدعوة، إلى أن بايعه الأنصار في يثرب (المدينة المنورة) على الطاعة فهاجر إليهم، وأسس بذلك واحدة من أقوى دول التاريخ، دون أن يتغير شيء في طبعه وسلوكه وحياته اليومية.
قال أبو ذر كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة فاستقبلنا (جبل) أُحُد، فقال يا أبا ذر، قلت لبيك يا رسول الله، قال ما يسرني أن عندي مثل أحُد هذا ذهبا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار إلا شيئا أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى فقال إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه وقليل ما هم [البخاري: 6079]، أي لو أن النبي كان يملك ذهبا بحجم جبل ضخم فما كانت ستمضي ثلاث ليال إلا ويكون قد أنفقه كله على الناس إلا شيئا قليلا يحتفظ به لوفاء الديون.
وأما طعامه، فقد كان يمر عليه شهران وما توقد في بيوت زوجاته نار للطبخ، فلا يأكل سوى التمر والماء وما يهدى إليه من أصحابه، وربما ظل يومه يلتوي من شدة الجوع وما يجد من الدَّقل (التمر الرخيص) ما يملأ به بطنه، وما شبع النبي ثلاثة أيام تباعا من خبز برّ حتى مات، وكان أكثر خبزه من الشعير، بل لم يؤثر عنه أنه أكل خبزاً مرقّقا أبداً، وهو الخبز الذي يتاح لنا في هذا العصر يوميا بأرخص الأثمان، وقد قال خادمه أنس بن مالك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا حين يأتيه الضيوف [رواه الترمذي].
ورويت أحاديث كثيرة عن زهد النبي في المسكن والملبس والمظهر أيضا، فكانت حجرات زوجاته أكثر زهدا وبساطة من بيوت الكثير من سكان المدينة، وعندما طالبنه بمزيد من النفقة والرفاه نزل الوحي على الفور بتخييرهن بين أخذ حقوقهن والطلاق بالمعروف وبين الصبر على الحياة مع النبي وبالقدر الأدنى من مقومات الحياة، فأخبرهن النبي بما نزل عليه من القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29]، فاخترن جميعا الصبر، وكأن حياة النبي لا تقبل التوسع في ملذات الدنيا ليكون أبعد الناس عن التهم.
وعندما رأى عمر بن الخطاب النبي مضطجعا على فراش من الخصف وتحت رأسه وسادة محشوة بالليف، قال يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فإن فارس والروم وُسع عليهم وأُعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، فجلس النبي وقال: “أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا” [صحيح البخاري: 2336].
وكان النبي يجلس مع أصحابه في مسجده الملاصق لحجرات زوجاته، فلم يكن يملك قصورا ولا ديوان ملك، وعندما يدخل عليه أعرابي لا يعرفه فإنه يسأل أيّكم محمد؟ والنبي متكئ بين ظهرانيهم لا يختلف عنهم في شيء. [صحيح البخاري: 1/23].
وخلافا للمشاهير في كل الأزمنة والحضارات والمجالات، لم يكن النبي يخشى الاختلاط بالناس، بل كان يقضي معظم وقته بينهم وبدون حواجز مادية ولا معنوية. فالمشاهير يتجنبون في العادة الاحتكاك بالناس كي لا تسقط هيبتهم وتظهر عيوبهم البشرية، ولا سيما الملوك الذين يحرصون على عدم الظهور إلا في المناسبات، أما النبي فكان يسافر مع أصحابه وكأنه واحد منهم، ويتعرض للمواقف شديدة القسوة فلا يظهر منه ما يطعن في كمال شخصيته، ومن بين آلاف الأحاديث التي نقلت إلينا أدق تفاصيل حياته اليومية لا نجد تصرفا واحدا غير لائق، فضلا عن أي تصرف عادي كالغضب والزلل وفلتات اللسان، بل نقل لنا الصحابة قصصا عجيبة عن حلمه وسعة صدره في التعامل مع أعدائه أو مع السفهاء من قومه.
قال ابن عباس “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة (يحلبها)، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير” [رواه الطبراني وصححها الألباني].
ومن المعروف في سيرة الملوك أنهم إذا خرجوا إلى أرض المعركة فإنهم كانوا يتحصنون في مقصوراتهم الملكية وراء الصفوف بعيدًا عن الخطر، أما النبي محمد فكان يحمل السيف ويقاتل بنفسه في الصفوف الأولى، حتى قال علي بن أبي طالب -وهو من أشد الفرسان شجاعة- “كنا إذا حمي الوطيس واشتدت المعركة اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم” [رواه البخاري و مسلم]، أي أن النبي نفسه كان هو الذي يحمي أصحابه في الميدان بسلاحه، وليس هذا لشجاعة النبي وإقدامه فقط بل لأنه كان يعلم أنه لن يُقتل حتى يتم الرسالة التي بعثه الله بها، وهو أمر لا يمكن لأي شخص يدعي النبوة أو يطمح إلى المُلك أن يزعمه لنفسه ثم يخاطر بحياته في سبيله.
وعندما توفي بعد 23 سنة من الجهاد المتواصل لنشر دعوته، لم يترك النبي درهما ولا دينارا ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة، وقالت زوجته عائشة “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي”.
سيف النبي محفوظ في متحف توب كابي بإسطنبول، علما بأن الجواهر والمقبض قد أضيفت إليه في العصر العثماني
معجزات النبي يرى الإمام أبو حامد الغزالي أن المعجزة وحدها قد لا تكون كافية لإقناع البعض، فمن يكتفي بالنظر في خوارق العادات مثل قلب العصا ثعبانا وشق القمر فقد يظن أنه سحر وتخييل وتضليل، ومن يستند إلى دعوى النبوة بالكلام المنظوم فقط فربما يقع أيضا في التضليل كما يفعل الشعر المتقن في نفس الإنسان.
لذلك فالخوارق تأتي على يد النبي من باب الإعجاز لمن يتحداه وليست كافية وحدها، لكن التحقق من نبوة من يدعي النبوة يتطلب النظر في معرفة أحواله، فمن يدرس أحوال “جالينوس” (طبيب إغريقي) مثلا ويقرأ كتبه يصل إلى علم يقيني بأنه كان طبيبا، وكذلك إذا فهمنا معنى النبوة وأكثرنا النظر في القرآن والأخبار نصل إلى “علم ضروري” بكونه نبيا.
ويضيف الغزالي أنه يمكن لمن يريد بلوغ اليقين أن يخوض تجربة العبادات التي جاء بها محمد، وأن يعيش بنفسه أثر تلك الشعائر على نفسه، وأن يطبق أيضا وصايا النبي في العلم والعمل. أما المعجزات الحسية الخارقة للعادة فهي من قبيل الرد على تحدي الخصوم، ولا يحتاج إليها الباحث عن الحقيقة بعقله المجرد.
ويقول ابن القيم في “إغاثة اللهفان” (2/691) إن معجزات النبي تتجاوز الألف، منها ما حصل وانتهى، ومنها ما هو باق، وهو القرآن الكريم الذي يعد المعجزة العظمى، وذلك من جهة لفظه التي تحدى الله بها فصحاء العرب، ومن جهة إخباره بأحداث مستقبلة وقعت لاحقا، ومن حيث احتوائه على تشريعات محكمة وأخبار قصص الأمم السابقة وبعض أسرار الكون.
سنفصل الحديث عن القرآن (المعجزة الكبرى) في مقال مستقل، وسنكتفي هنا بسرد بعض الأمثلة للمعجزات التي حدثت في عصر النبوة، ثم نورد أمثلة أخرى لبعض نبوءاته المستقبلية.
قبة الصخرة في المسجد الأقصى التي عرج منها بالنبي إلى السماء
أما المعجزات التي حصلت وانتهت فمن أشهرها ما يلي:
1- الإسراء والمعراج: حيث انتقل النبي في ليلة واحدة من مكة إلى القدس، ثم عُرج به من هناك إلى السماء, ووصل إلى سدرة المنتهى حيث لم يقترب أحد من العرش مثله، والتقى بالأنبياء الذين سبقوه، ورأى شواهد كثيرة من عالم الملكوت ونعيم الجنة وعذاب النار، ثم عاد في الليلة نفسها إلى مكة، وعندما أخبر أبا جهل بما رأه جمع له الناس كي يستمعوا إليه ويكذبوه، فكان النبي يقص القصة على قريش وهم يسخرون، بل ارتد كثير ممن كان قد أسلم عن الإسلام، وطار بعضهم بالخبر إلى أبي بكر ليختبروه فقال لهم “إنه ليخبرني أن الخبر (الوحي) ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه”، أي أن نزول جبريل إليه ليس مستحيلا في العقل وقد صدّقته فلماذا أستبعد انتقالا عكسيا للنبي من الأرض إلى السماء، حتى لو كان ذلك خارقا للعادة ولا يقدر عليه البشر العاديون.
ثم حاول البعض أن يمتحن النبي فسألوه عن صفات المسجد الأقصى، فوصفه لهم وهم كانوا قد سافروا إليه في رحلات التجارة ويعرفونه، ثم أخبرهم عن تفاصيل القوافل (العير) التي رأها في طريق عودته وهي توشك على الوصول إلى مكة، فوصلت عند مغيب الشمس وعلى النحو الذي وصفه بدقة، ومع ذلك قال المشركون “هذا سحر مبين”. [البداية والنهاية: 4/282].
وأنزل الله آية في حق الذين أنكروا القصة فقال {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً} [الإسراء: 60].
2- انشقاق القمر: جاء وصف هذه المعجزة العجيبة في القرآن والسنة بالتواتر، فسُميت سورة كاملة من القرآن باسم القمر، وكان مطلعها: {اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}، كما روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُريهم آية (معجزة)، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما.
وللواقعة روايات كثيرة من قبل الصحابة، بما فيهم صغار السن مثل عبد الله بن عمر، وجبير بن مطعم بن عدي الذي لم يكن قد أسلم حينئذ. ويدور في العصر الحديث جدل بشأن إمكانية العثور على دليل يؤكد وقوع الانشقاق عبر دراسة ما تطرحه وكالة ناسا للفضاء من صور قمرية، لكن عدم العثور على صور لشقوق أو أخاديد كافية لا يعني عدم وقوع الحدث، فالانشقاق المعجز قد تبعه التحام معجز أيضا، ومن الطبيعي ألا يترك الالتحام أثرا، لأن التحدي كان لمن شهد الواقعة فقط.
وبما أن الانشقاق قد حدث لبرهة قصيرة، ولم يكن نتيجة ظاهرة مرصودة يترقبها الناس، فالأرجح أنه لم يرها من سكان الأرض سوى من صادف أنه كان ينظر إلى القمر في تلك اللحظة، وممن كان أيضا في منطقة يطل عليها القمر في الوقت نفسه، ولعل هذا يفسر عدم انتشار الخبر في تاريخ الشعوب الأخرى، أو عدم وصوله مدونا إلينا بكثرة، مع أن بعض الباحثين رصدوا توثيقا في مخطوطات فارسية وإسبانية تعود إلى عصر النبي نفسه.
المقال التالي بعنوان “القمر المنشق في وثيقة مدريد والمخطوطات الفارسية”، وقد نشر للمرة الأولى في موقع http://www.mayalords.org عام 2000، ثم تم تعديله عشرات المرات قبل أن يحذف نهائيا، وما زال موقع “أرشيف الإنترنت” يحتفظ بالنسخة الأولى وكل تعديلاتها، ويمكنك الاطلاع على ذلك بالضغط هنا.
3- تكثير القليل من الطعام بين يدي النبي أو بدعائه لطعام ما بالبركة، وقد تكرر ذلك في مرات كثيرة جدا وشاهدها عشرات الصحابة، ورويت تلك الروايات في صحيحي البخاري ومسلم، وأشهرها حديث جابر بن عبد الله في غزوة الخندق.
4- نبع الماء من بين أصابع النبي، وتكثيره الماء القليل حتى يشرب ويتوضأ منه جميع جنود الجيش، وهو حديث أثبته البخاري ومسلم عن أنس بن مالك وشهده حوالي ثلاثمئة صحابي، وفي حديث آخر شرب نحو 1400 صحابي من بئر جاف لا ماء فيه في غزوة ذات الرقاع.
كسرى الثاني جالسا على عرشه في لوحة جدارية
5- قصة إسلام أهل اليمن، حيث أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالةً إلى كسرى ملك الفرس (كسرى الثاني أو خسرو الثاني) يدعوه فيها للإسلام، فمزق كسرى الرسالة وأرسل إلى باذان بن ساسان عامله على اليمن يأمره فيها بإرسال رجلين قويين إلى الحجاز واعتقال النبي واقتياده إليه (وفي رواية أخرى أن يأمراه فقط بالتوقف عن الدعوة)، فنفذ باذان الأوامر، ودخل الرجلان على النبي وقالا له إن شاهنشاه (ملك الملوك) كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك وهدداه، فلم يرد النبي وأمرهما أن يلاقياه غدًا. وفي اليوم التالي قال لهما النبي أخبِرا الذي أرسلكما -أي باذان- أن ربي قتل ربه الليلة -أي أهلك الله كسرى- وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملّكتك على قومك من الأبناء، ثم أعطى النبي إلى رسولَي باذان “منطقة” فيها ذهب وفضة، كان بعض الملوك أهداها له.
عاد الرجلان إلى باذان يخبرانه بالأمر، وبعد شهر وصل الرسل من فارس (إيران) إلى اليمن فسألهم باذان على الفور: هل قُتل كسرى؟ فتعجبوا وسألوه من أخبرك بذلك؟ وأخبروه أن شيرويه بن كسرى ثار على أبيه فقتله ونصب نفسه ملكا في نفس الليلة التي ذكرها النبي، فآمن باذان بأن محمدا نبي يأتيه الوحي من السماء، وأسلم معه أهل اليمن. [أخرجه الطبري وابن كثير وابن سعد عن ابن مسعود بسند صحيح، وأخرجه ابن بشران عن أبي هريرة وحسنه الألباني].
ملحمة الشاهنامه الفارسية تحكي قصة مقتل كسرى الثاني على يد ابنه قباز شيرويه في 28 فبراير 628م
النبوءات المستقبلية تنبأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعدد كبير من الأحداث التي وقع الكثير منها ومازال بعضها ينتظر التحقق، فكل ما وعد بحدوثه في حياته أو في حياة بعض أصحابه وقع بدقة، وكأنه كان ينظر إلى المستقبل بعين الحاضر، وفيما يلي بعض الأمثلة:
1- قبل بدء معركة بدر بيوم واحد، وهي أول المعارك التي خاضها المسلمون بعد تأسيس نواة دولتهم في المدينة المنورة، تفقد الرسول أرض المعركة وأخذ يشير إلى موابع مقتل المشركين فيها ويقول “هذا مصرع فلان”، فيسميهم بالاسم وكأنه كان يرى بعينه نتائج المعركة، ويقول أنس بن مالك “فما ماط (ابتعد) أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم” [رواه مسلم].
2- كان الصحابة الأوائل يلقون الأذى الشديد من قريش، فاشتكوا إلى النبي وقالوا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويُمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون” [رواه البخاري]، وقد تحقق هذا الوعد الذي كان يبدو خياليا في حينه.
وعندما كان النبي وصحابته يحفرون الخندق حول المدينة تحسبا لهجوم قريش وحلفائها، شكا الصحابة صخرة لم يستطيعوا كسرها، فأخذ الفأس وقال بسم الله، وضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر، وقال “الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا”، وفي الضربة الثانية قال “الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إنى لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا”، وفي الثالثة قال “الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا” [رواه أحمد]، وقد سخر المنافقون فيما بينهم من هذه النبوءات الطموحة جدا، فالنبي الذي كان على وشك التعرض لحصار خانق يتنبأ بإسقاط أقوى الدول على وجه الأرض، وقد تحقق وعده فعلا في حياته وقبل نهاية خلافة عمر بن الخطاب.
كما وعد النبي أيضا الصحابي سُراقة بن مالك بأنه سيلبس سِوارَي كسرى، وعندما فتح عمر بلاد فارس أعطى سواري أعظم ملوك الأرض لسراقة تحقيقا لوعد النبي.
الفيديو التالي يوضح أن الإسلام كان أسرع أديان التاريخ انتشارا في العالم.
3- بالرغم من وعده لأصحابه بالنصر والفتوحات، فقد أخبرهم أيضا أن الضعف سينال من جسد أمتهم وأنهم سيتقاتلون فيما بينهم، فقال “يوشك الأمم أن تدّاعى عليكم كما تداعى الأكَلَة إلى قصعتها”، فقال قائل “ومن قلةٍ نحن يومئذ؟”، قال “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت” [صححه الألباني] .
وهناك أحاديث كثيرة نُقلت عن النبي وهو يحدث أصحابه عن الفتن التي سيتعرضون لها، وهذه من أعجب المعجزات، فقد كان الصحابة يعلمون بحدوث تلك الفتن ولم يستطيعوا منعها، كما تحدث النبي بالتفصيل عن فتنة الخوارج ووصف أشكالهم وأفعالهم، مع أنهم لم يبدأوا فتنتهم إلا في عهد علي بن أبي طالب ولم يكن خروجهم وارداً في ذهن أحد، وكان يجدر بهم أن ينتبهوا إلى ما قاله النبي قبل سنوات قليلة عنهم وأن يحذروا من سوء عاقبتهم.
ومن أدل روايات الفتن على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم أنه عندما خرج كل من علي والزبير في جيشين وكانا على وشك الاقتتال بينهما، وهما من كبار الصحابة والمبشرين بالجنة، نادى عليّ الزبير فأقبل عليه، فقال علي: يا زبير أنشدتك بالله أتذكر يوم مر بك رسول الله ونحن في مكان كذا وكذا؟ فقال النبي يا زبير تحب عليًا؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمي وعلى ديني فقال: يا علي أتحبه؟ فقلت: يا رسول الله، ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني، فقال النبي: يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم. فتذكر الزبير الحادثة على الفور وقال: بلى، والله لقد نسيته منذ سمعته من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك، وتراجع عن المعركة قبل أن تبدأ.
4- أخبر النبي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب بأنهم سيموتون شهداء، وقد قتُل عمر وعثمان فعلا في الفتن التي أخبر بها النبي، وعندما مرض علي مرضا شديدا قال له بعض أصحابه وهم يعودونه لقد تخوفنا عليك يا أمير المؤمنين في شكواك هذه، فقال بكل ثقة: لكني والله ما تخوفت على نفسي منه، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصادق المصدوق يقول “إنك ستُضرب ضربة ها هنا وضربة ها هنا -وأشار إلى صدغيه- فيسيل دمها حتى تختضب لحيتك..”، وكأن النبي كان يرى بعينه كيف سيُقتل علي، وقد حدث هذا فعلا.
وفي السياق نفسه، قال النبي عن عمّار بن ياسر “ويح عمار تقتله الفئة الباغية” [رواه البخاري]، وقد قُتل بسهم أطلقه معسكر معاوية على معسكر علي، وكان النبي يقول عند زيارته أم ورقة بن نوفل “انطلقوا بنا نزور الشهيدة” [رواه أحمد وابن خزيمة]، وقد قتلها غلام وجارية لها في عهد عمر فصلبهما، كما أخبر النبي ثابت بن قيس باستشهاده في قوله “يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة، قال بلى يا رسول الله” [رواه الحاكم]، وقد عاش حميدا واستشهد في المعركة ضد مسيلمة الكذاب، وأخبر النبي أم حرام بنت ملحان أنه رأى في منامه ناس من أمته يغزون في البحر، مع أنه لم يكن من الوارد لدى العرب ركوب السفن وشن الغزوات فيها، فقالت أم حرام: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: أنت من الأولين، وقد ركبت أم حرام أول أسطول إسلامي بالفعل في زمن عثمان، وما إن نزلت أرض جزيرة قبرص حتى سقطت عن دابتها وكانت أول الشهداء هناك، وما زال قبرها معروفا [أخرجه البخاري ومسلم].
ويجدر بالذكر أنه من غير المنطقي أن يستغل المشككون في عصرنا الحالي الفتن التي وقعت بين الصحابة للطعن في الإسلام نفسه، وذلك من باب الطعن في الصحابة والتقليل من شأنهم، بل هي من أقوى الأدلة على صحة الإسلام الذي جاء به النبي، فقد وقعت كما أخبرهم عنها تماما، ولم يقوَ أحد على منعها. أما وقوع الأخطاء من الصحابة فليس سوى دليل على بشريتهم وعدم بلوغهم الكمال الذي بلغه النبي وحده، فالوحي لم يقل إن الصحابة معصومون أصلا بل أكد العكس.
وإذا حاولنا التشكيك في تلك النبوءات كلها، وزعمنا أن أتباع النبي قد اخترعوها بعد حدوثها ونسبوها إليه، فمن غير المنطقي أن يتواطأ جميع الرواة على الكذب، فالكثير من تلك الروايات وردت من أكثر من طريق وثبتت لدى المحدثين صحتها، وسنبين في مقال “السنة النبوية” المنهج العلمي الدقيق الذي جُمعت به الأحاديث والسنن ودُققت واعتُمدت، وهو منهج لا يقبل المحاباة والمجاملة والعبث، ولا يدانيه أي منهج في دراسات التاريخ المقارَن لدى كل حضارات العالم.
ميرزا غلام أحمد
في المقابل، لم يستطع مدّعو النبوة المعروفون في التاريخ المعاصر أن يثبتوا صحة نبوتهم عبر التنبؤ بالمستقبل، ولعل أشهرهم مؤسس طائفة القاديانية الميرزا غلام أحمد (توفي عام 1908م) الذي حاول أن يثبت نبوته بوضع العديد من التنبؤات المستقبلية فكان الفشل حليفه، ونذكر منها المثال التالي:
فقد تنبأ غلام أحمد بأن الطاعون الذي ضرب الهند في زمانه لن يدخل بلدته قاديان أبداً، وقال: “هو الإله الحق الذي أرسل رسوله في قاديان وهو يحفظ القاديان ويحرسها من الطاعون ولو يستمر الطاعون إلى سبعين سنة، لأن القاديان مسكن رسوله وفي هذا آية للأمم” [دافع البلاء للقادياني10، 11]، لكن الطاعون دخل البلدة وفتك بأهلها حتى وصل إلى بيته، فقال: “إن بيتي كسفينة نوح من دخله حُفظ من كل الآفات والمصائب”، ثم اعترف بأنه خاف على نفسه: “ودخل الطاعون بيتنا فابتليت غوثان الكبيرة فأخرجناها من البيت.. ومرضتُ أيضاً حتى ظننتُ أنه ليس بيني وبين الموت إلا دقائق قليلة” [إحسان ظهير، القاديانية، 1984، ص 180].
الخاتمة حاولنا في هذا المقال الموجز تركيز الإجابة على التساؤلات الكبرى بشأن النبوة نفسها، ثم بشأن مصداقية نبوة محمد نفسه. وقد يتطلب البحث عن السبيل مزيدا من التوسع، وأن يواصل الباحث التحقق من الأدلة والغوص في تفاصيل سيرة النبي العامرة بآلاف التفاصيل والأحداث والتصريحات والوقائع، والتي تتفرع باستفاضة عن الأصول التي حاولنا الإلمام بها.
وفي المحطات التالية، سنتوقف عند حقيقة الوحي الذي جاء به النبي، ونبحث في القرآن لنتأكد من كونه الكتاب الموحى به فعلا من الله تعالى، وأنه المعجزة التي تحدى بها الإله مخلوقاته، وأنه ما زال محفوظا على هيئته الإعجازية الأولى دون تحريف ولا نقصان. ثم سنتعرف على التراث الذي أورثه النبي المُرسل إلى البشرية من بعده، من الأحاديث والسنن، وما يستفاد منها من تشريعات وعقائد وعلوم أخرى.
أهم المراجع القاضي عياض السبتي، كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار الفكر، 2002.
أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985.
أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، تحقيق محمد رواس قلعة جي وعبد البر عباس، دار النفائس، بيروت، 1986.
ابن ناصر الدين الدمشقي، جامع الآثار في السير ومولد المختار، تحقيق نشأت كمال، وزارة الأوقاف القطرية، 2010.
صفي الرحمن المباركفوري، وإنك لعلى خلق عظيم: الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، شركة كندة للإعلام والنشر، 2006.
أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق سميح دغيم، دار الفكر، بيروت.
إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، دار عالم الكتب، بيروت، 2003.
عبد الأحد داود، محمد كما ورد في كتاب اليهود والنصارى، ترجمة محمد فاروق الزين، مكتبة العبيكان، الرياض 1417هـ.
سامي العامري، محمد رسول الله في الكتب المقدسة، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، 2006م، ط1.
العهد القديم العبري، ترجمة بين السطور عبري-عربي، الأبوان بولس الفغالي وأنطوان عوكر، الجامعة الأنطونية، لبنان 2007.
فرسان الهيكل هو اختصار لاسم أول منظمة عسكرية وأشهرها في تاريخ أوروبا، وهي المنظمة الأم التي كانت كل المنظمات العسكرية في تاريخ أوربا فرعاً منها أو تقليداً لها، واسمها الكامل هو “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان” The Poor Fellow Soldiers of Christ and of Temple of Solomon، ولا توجد معلومات موثقة عن نشأة المنظمة ولا بداية تكوينها، وكل الذين أرخوا لفرسان الهيكل لجأوا إلى مصدر وحيد كُتب بعد سبعين سنة من إنشائها على يد وليَم الصوري. وقبل أن نستعرض نشأة المنظمة وتطورها وصولا إلى أفولها وتفتتها إلى عشرات المنظمات السرية القائمة حتى اليوم، يجدر بنا الحديث عن الجذور التاريخية التي تعود إلى بني إسرائيل.
رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)
الجذور الإسرائيلية يقول مؤرخون إن هيكل سليمان في بيت المقدس كان يضم مدرستين إحداهما للصبيان والأخرى للفتيات، وكانت الأولى تخرج كهنة الهيكل والربانيين والأحبار ليكونوا صفوة المجتمع اليهودي، وكانوا يُختارون من العائلات الثابت انحدارها من سبط لاوي المتحدر من هارون، بينما يختص سبط يهوذا المتحدر من داوود بالمُلك.
وعندما هدم الإمبراطور الروماني فسباسيان الهيكل سنة ٧٠ تفرق رؤساء السبطين وأسرهم ومن تبعهم في أرجاء الأرض، واستقر عدد كبير منهم في أوربا الغربية. وكانت تقاليدهم تقتضي الاندماج في المجتمعات الأخرى والتظاهر باتباع الدين السائد وإخفاء أنسابهم الحقيقية، بخلاف عوام اليهود ممن يعلنون أنسابهم ويمارسون شعائرهم.
وطوال قرون حرص سبط المُلك وسبط الكهانة على التوغل في المجتمعات والصعود إلى قمتها، فأحد فروع أسر الملك الإلهي صار هو صلب الأسرة السكسونية الحاكمة في إنجلترا، كما امتزج فرع آخر مع الأسرة الميروفنجية التي حكمت فرنسا مابين القرنين الخامس والثامن الميلاديين، بينما وصل فرع آل سيتوارت إلى عرش اسكتلندا.
ومن هذه الأسر أيضا آل سان كلير التي حكمت نورماندي شمال غرب فرنسا، وتزاوج أبناؤها مع أسر الملك الإلهي الأخرى في فرنسا وهي شومو وجيزور وكونت وكونت شامبان وبلْوا وبولون.
ووفقا لكتاب “المُلك الإلهي” Rex Deus الصادر عام 2000 للمؤلفين الثلاثة غراهام سيمانز وتيم والاس ميرفي وماريلين هوبكنز، فإن مجموعة أسر الملك الإلهي كانت قد سيطرت على معظم أوربا الغربية مع مطلع القرن العاشر الميلادي بتغلغلها في الأسر الحاكمة، وهو أمر لم يلاحظه معظم المؤرخين التقليديين.
ونتيجة لهذا النفوذ نجحت الأسرة الميروفنجية في التغلغل إلى داخل الكنيسة الكاثوليكية وصولا إلى تعيين ستة بابوات من أصول ميروفنجية، كان أولهم البابا سلفستر الثاني سنة ٩٩٩، وآخرهم هو أوربان الثاني الذي أعلن بدء الحروب الصليبية عام 1096 باسم الكاثوليكية، وذلك بعد استكمال خطة حشد أوربا المسيحية وراء أسر الملك الإلهي التي تجري فيها الدماء الإسرائيلية.
هوج دي بايان
تشكيل المنظمة مع وصول الصليبيين إلى الأراضي المقدسة وسيطرتهم على بيت المقدس، انتقلت خطة أسر الملك الإلهي إلى المرحلة التالية، ففي سنة ١١١٨ سافر إلى القدس تسعة فرسان من السلالة الإسرائيلية وعلى رأسهم هوج دي بايان وأندريه دي مونتبارد، والتقوا بالملك بلدوين الثاني الأخ الأصغر لأول ملوك مملكة أورشليم اللاتينية الصليبية جودفروا دي بويون وخلفه عليها، وأسفر اللقاء عن تكوين منظمة فرسان الهيكل تحت مسمى “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان”.
وكان الهدف المعلن للمنظمة هو حراسة طرق الحج المسيحية من سواحل يافا إلى أورشليم وحماية الحجاج المسيحيين القادمين من أوربا من قطّاع الطرق.
وذهب بعض الباحثين إلى أن هذا الهدف لم يكن سوى غطاء لأهدافهم الحقيقية، وذلك لسببين، الأول هو أن تأمين طرق الحج الطويلة من يافا إلى أورشليم مهمة يستحيل أن يقوم بها تسعة فرسان في الأربعينيات من العمر، والثاني أنهم جعلوا مقر قيادتهم في المسجد الأقصى وليس على طريق الحج كما يُفترض.
فبعد استيلاء الصليبيين على القدس وتحويلها إلى مملكة أورشليم اللاتينية، حوّلوا المسجد الأقصى إلى “هيكل الرب”، وفي السنوات العشر الأولى من عمر المنظمة لم تفعل شيئا له علاقة بالمهمة التي ادعتها بل كانت مشغولة فقط بالحفر والتنقيب تحت المسجد الأقصى، حيث اكتشف الكابتن البريطاني وارين في سنة ١٨٦٧ الأنفاق التي حفرها فرسان الهيكل وفيها بعض آثارهم من تروس وصلبان.
دي كليرفو
في مجمع طروادة سنة ١١٢٩ م تمكن برنارد دي كليرفو -كبير مستشاري البابا وابن أخ مونتبارد- من الحصول على اعتراف الكنيسة بفرسان الهيكل. وبما أن الكنيسة لم تكن تقبل فكرة أن يكون الرهبان مقاتلين، فقد كتب دي كليرفو عدة رسائل ومقالات، كان أشهرها رسالة كتبها سنة ١١٣٥ بعنوان “في مدح فرسان الهيكل” ووصف فيها فارس الهيكل بأنه “فارس لا يعرف الخوف الطريق إلى قلبه، وما يحرسه ويقوم على حمايته آمن ومصون، قوة الإيمان تحرس روحه، كما أن الحديد يحمي جسده، ولأن سلاحه في جسده وفي روحه معاً، فلا خوف يعتريه ولا يتمكن منه إنسان”.
وفي سنة ١١٣٩ تمكن دي كليرفو من استصدار مرسوم بابوي من البابا الجديد إنوسنت الثاني يمنح فرسان الهيكل حق المرور عبر حدود الممالك والإمارات الأوربية كافة بحرية تامة ودون دفع ضرائب عبور، كما استثناهم من الالتزام بالقوانين المحلية في كل أوربا، بحيث لا يخضع فرسان الهيكل إلا لأستاذهم الأعظم، بينما لا يخضع هو سوى للبابا نفسه. وهي امتيازات لم يحصل عليها أحد في كل أوربا.
وهكذا انهالت على المنظمة العطايا والهبات من النبلاء والملوك، فبعد انتهاء الفرسان التسعة من حفرياتهم تحت المسجد الأقصى وحصولهم على الشرعية عادوا إلى فرنسا سنة ١١٢٩، ثم رحل الأستاذ الأعظم دي بايان ومعه دي مونتبارد إلى إنجلترا ثم اسكتلندا، فحصلوا من آل سنكلير على أرض واسعة تحولت لاحقا إلى مقر قيادة.
ارتبط تكوين فرسان الهيكل ثم صعودهم بالحروب الصليبية، فهي التي جلبت لهم الشرعية وأجبرت الكنيسة الكاثوليكية على غض الطرف عن الجمع بين الرهبنة والقتال. ونظرا لكفاءتهم في القتال فقد أصبحت المنظمة القوة الأولى في مملكة أورشليم الصليبية، ففارس الهيكل الذي يجمع بين الرهبنة والفروسية يتصف بصفات لا يناظره فيها أي جندي آخر، كقوة البنية والتدريب العالي والتسليح الجيد.
ويُقسِم الفارس ألا يفر من القتال أو يخرج من الميدان إلا بإذن قائده أو إذا واجهه ثلاثة مقاتلين معاً على الأقل، والموت في الميدان هو أسمى صور الموت عنده. كما كانت خيول فرسان الهيكل مدربة على أجواء القتال، وكانت كتائبهم أشبه بقوات الصاعقة في الجيوش الحديثة، حيث تساند الجيوش الكبيرة بأعداد قليلة تنقض على العدو في سرعة خاطفة لخلخلة الصفوف.
القوة الاقتصادية
كنيسة تابعة لفرسان الهيكل في لندن وتبدو كالقلعة
مع الوقت طور فرسان الهيكل مهاراتهم ليصبح استثمار الأموال وإدارة المزارع وتربية الخيول وإقراض الأموال والتجارة من أبرز أنشطتهم، بل تقدمت على القتال الذي صار واجهة الفرسان لجلب الشرعية فقط .
كان النبلاء المتجهون إلى الأرض المقدسة للمشاركة في الحروب يتغيبون سنوات طويلة، فيضعون ثروتهم كلها تحت سيطرة فرسان الهيكل لحمايتها، فإذا مات أو لم يعد نقلوها إلى ورثته أو إلى المنظمة إن رغب في ذلك، ويقال إن ملك فرنسا فيليب أوجست أودع ثروة التاج الفرنسي بمقر فرسان الهيكل في باريس وفوضه في إدارة الأملاك الملكية، وطوال فترة غيابه كانت عوائد إدارة هذه الثروة تذهب إليهم.
وأقام فرسان الهيكل شبكة بنكية داخل أوربا، وبينها وبين الأرض المقدسة وعبر الطرق الممتدة بينهما، فإذا أراد أوربي الحج ذهب إلى أقرب مقر لهم ليودع أموالا تغطي تكاليف الرحلة ويأخذ ما يشبه الصك ليقدمه عند كل مرحلة في رحلته إلى مقر لفرسان الهيكل فيمنحوه ما يشاء من مال، وقد أكسبت هذه التقنية فرسان الهيكل قوة سياسية ونفوذاً اقتصادياً حتى انخرطوا في تمويل التجارة ونقل البضائع، فأنشأوا أسطولاً حربياً تجارياً يتكون من ثماني عشر سفينة، ولم تكن أي دولة أوربية في حينه تملك أسطولاً بمثل سرعته وكفاءته.
صار الفرسان بمثابة شركات متعددة القوميات وعابرة للبحار تستثمر أموال الأمراء والنبلاء وتدير أراضي الإقطاعيين وتؤجر ما تمتلكه من أراض للمزارعين، وبعد خمسين عاماً من تكوينها صارت قوتها الاقتصادية تفوق قوة دول غرب أوربا مجتمعة.
وكان من أبرز أنشطة فرسان الهيكل الإقراض بالربا، حيث التفّوا على حكم الكنيسة بتحريم الربا عبر تسميته بالأجرة بدلا من الفائدة، واضطرت الكنيسة للتغاضي عن الأمر لحاجتها إلى تمويل الجيوش، فمنذ النصف الثاني للقرن الثاني عشر أصبحت المنظمة هي الممول الأبرز للحملات الصليبية.
وفي عام 1200 زاد البابا إنوسنت الثالث من قوتهم بإصدار مرسوم ينص على عدم خضوع الأفراد والأموال والبضائع داخل مقرات فرسان الهيكل ومنازلهم للقوانين المحلية الأوروبية.
إحدى قلاع فرسان الهيكل بالبرتغال (DanielFeliciano)
وبالإضافة إلى قوتهم الاقتصادية، كان فرسان الهيكل أعظم البنائين في القرون الوسطى، فشيدوا لمنظمتهم خمسة عشر ألف مقر خلال قرنين، وكانت مقراتهم تتضمن مزارع وطواحين وحظائر خيول وكنائس وأديرة وحصونا، ومن أشهر آثارهم قلعة صفد في فلسطين.
وكان إنوسنت الثاني قد سمح لهم سنة 1139 ببناء كنائس خاصة بهم لا تخضع لسيطرة الأبرشيات والأسقفيات المحلية، فكثفوا عملية البناء، واختاروا لمقراتهم مواقع مرتفعة للإطلال على طرق الحج والتجارة، وابتدعوا تصميما جديدا للكنائس هو الطراز الدائري القوطي، والذي تعمدوا فيه محاكاة تصميم هيكل سليمان.
وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر تمايز البناؤون في أوربا إلى ثلاث طوائف، الأولى هي أبناء الأب سوبيس التي تتولى بناء الكنائس على الطراز الروماني، والثانية أبناء ميتر جاك المختصة بتشييد القناطر والجسور، أما الثالثة وهي المرتبطة بفرسان الهيكل فاسمها أبناء سليمان، وكانت تهتم ببناء الكنائس والأديرة الضخمة على نمط العمارة القوطية، وهي تنسب نفسها للنبي سليمان بن داوود باني الهيكل، وقد وضع فرسان الهيكل في عام 1145 لائحة قواعد تنظم شؤون الحياة اليومية لأبناء سليمان، بما فيها طريقة الأكل والنوم والثياب، فهي تجعل من بناء الكنائس رسالة خالدة ولها طقوس وشروط ونمط حياة خاص، وكانت هذه الطائفة هي بذرة الماسونية كما سنرى لاحقا.
العلاقة بالباطنيين يقول ول ديورانت في موسوعة “قصة الحضارة” إن الإسماعيليين استخدموا أعضاء جماعاتهم السرية في التجسس والدسائس السياسية، ثم انتقلت طقوسهم إلى بيت المقدس وأوربا، وكان لها أكبر الأثر في أنظمة فرسان الهيكل ومنظمة النور البافارية (إلوميناتي)، وغيرها من الجماعات السرية التي قامت في العالم الغربي، كما كان لها أكبر الأثر أيضًا في طقوسها وملابسها.
أما مؤلف كتاب “تاريخ الماسونية” كلافل –وهو من أقطاب الماسونية- فيؤكد أن منظمة فرسان الهيكل كانت على علاقة وثيقة بالإسماعيلية [ويقصد جماعة الحشاشين تحديداً]، فكلاهما اختارتا اللونين الأحمر والأبيض شعارًا لهما، واتبعتا النظام نفسه والمراتب نفسها، فكانت مراتب الفدائيين والرفاق والدعاة تقابل المراتب نفسها لدى فرسان الهيكل وهي المبتدئ والمنتهي والفارس، كما تآمرت المنظمتان على “هدم الدين” الذي تظاهرت باعتناقه، وشيدتا الحصون العديدة للاحتماء بها.
ويتفق معه الباحثان الماسونيان كرستوفر نايت وروبرت لوماس في كتابهما الشهير “مفتاح حيرام” بتأكيدهما على أن أصل الماسونية يرجع إلى فرسان الهيكل.
وتحدث مؤرخون عدة في الشرق والغرب عن زيارة قام بها دي مونتبارد إلى قلعة شيخ الجبل سنان بن سلمان ليتلقى على يديه أصول العمل السري والاغتيالات، ما دفعهم إلى القول إن الحشاشين الإسماعيليين لعبوا دورا جوهريا في تطوير أنظمة الجمعيات السرية لتصل إلى وضعها الحالي في العصر الحديث.
الأفول كانت موقعة حطين سنة 1187 التي كسرت الممالك الصليبية هي بداية أفول الفرسان، حيث ارتكب الأستاذ الأعظم للمنظمة جيرار دي ريدفورد أخطاء فادحة، إذ خرج بثمانين من نخبة فرسانه لمباغتة صلاح الدين الأيوبي قائد جيوش المسلمين، لكن هذا الأخير أحاط بهم وقضى عليهم، فأخطأ دي ريدفورد مجددا واستسلم ليقع أسيرا مخالفا دستور الفرسان، ثم أطلق سراحه بعد حطين بفدية باهظة.
يؤكد مؤرخون أوروبيون أن صلاح الدين أطلق سراح معظم الأسرى بعد حطين باستثناء فرسان الهيكل وفرسان مالطة، ويرى الأستاذ بجامعة نونتنغهام ديفيد نيكول في كتابه “حطين 1187” أن إعدامهم لم يكن عملاً قاسياً إذا ما أخذ بعين الإعتبار أن صلاح الدين يعلم استعداد هؤلاء الفرسان للموت بشكل دائم، فكان القضاء عليهم وعدم القبول بالفدية وسيلة ناجعة للقضاء على القوة الضاربة للصليبيين.
حاول فرسان الهيكل دفع أوروبا إلى معركة أخرى مع صلاح الدين لاستعادة القدس، لا سيما بعد سقوط إمارة صفد التي كانت تضم أمنع قلاع فرسان الهيكل، وانضم الفرسان إلى الحملة الصليبية الثالثة التي يقودها ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد وملك فرنسا فيليب الثاني، لكن الصليبيين عجزوا عن استعادة القدس بالرغم من محاولاتهم المتكررة، فركزوا جهودهم على المدن الثلاث المتبقية لديهم وهي أنطاكية وطرابلس وصور، ونجحوا أخيرا في السيطرة على ميناء عكا عام 1191.
وبعد قرن كامل من احتلال الصليبيين لعكا، فتحها المسلمون المماليك عام 1292، وسقطت بذلك آخر قلاع فرسان الهيكل في الشرق الإسلامي، فنقل أستاذهم الأعظم جاك دي مولاي مقر قيادتهم إلى جزيرة قبرص، وقام بجولات واسعة في أوربا لتحريض البابا والملوك على شن حملة صليبية جديدة ففشل، لكنه تمكن من الحفاظ على امتيازات منظمته.
حاول فرسان الهيكل عام 1300 استعادة طرطوس على الساحل السوري، فنقلوا أسطولهم إلى جزيرة أرواد، لكن المماليك طردوهم منها بعد سنتين. ومن حينها صارت فرسان الهيكل منظمة عسكرية بلا هدف وجيشاً بلا معركة، ولم يعد في حوزتها سوى السيطرة المالية والنفوذ الاقتصادي.
وفي سنة 1305 صعد البابا كليمنت الخامس إلى الفاتيكان، وبناء على رغبة ملك فرنسا فيليب الرابع طلب من جاك دي مولاي وفولك دي فيلاريه الأستاذ الأعظم لفرسان مالطة الحضور إلى فرنسا لمناقشة دمج المنظمتين، وعندما وصل دي مولاي بدأ التحقيق معه باتهامات فيليب الرابع له بالهرطقة وممارسة السحر والخروج عن المسيحية، حيث أكد الملك أنه تمكن من اختراق منظمته باثني عشر جاسوساً تحققوا من تلك الاتهامات.
أمر فيليب الرابع باعتقال دي مولاي مع سبعين من قياداته، فاعترفوا تحت التعذيب بالاتهامات، وخلال السنوات الخمس التالية اعتقل مئة وخمسة وثلاثون آخرون واعترفوا جميعاً.
إحراق بعض فرسان الهيكل بالنار
أصدر البابا مرسوماً باعتقال فرسان الهيكل في كل أوربا ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم والتحفظ عليها، وفي عام 1310 أمر فيليب الرابع بإحراق أربعة وأربعين فارساً منهم أحياء وعلناً في باريس، وقرر البابا حل المنظمة وتحويل ممتلكاتها إلى منظمة فرسان مالطة.
وفي السنة نفسها انتهت اللجنة التي كونها البابا لمتابعة قضية فرسان الهيكل وتقديم تقرير عن المنظمة وممارساتها، وكانت النتيجة هي الحكم على دي مولاي بالإعدام على الخازوق عام 1314.
وانتهت بذلك (ظاهريا) قصة الصعود الاستثنائي لأحد أكثر التنظيمات العسكرية نفوذاً، والتي نجحت خلال قرنين فقط من السيطرة على أكثر من 900 مستوطنة، وامتلاك عشرات القلاع والحصون، فضلا عن ابتكارها لأحدث أساليب التسليح والتخطيط العسكري والأعمال المصرفية والنقل والزراعة والتجارة، والتي كان لها فضل في تطور المجتمع الغربي لاحقاً.
منظمة فرسان مالطة ما زالت هذه المنظمة قائمة حتى اليوم، بل تحولت إلى دولة ذات سيادة ومعترف بها من قبل المجتمع الدولي، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي ليس لها وجود جغرافي على الأرض ولا حدود، بل هي منظمة تتخذ من قصر مالطة بمدينة روما مقرا لها، وأعضاؤها الذين يعيشون في شتى أنحاء العالم هم مواطنوها.
الأسد (يسار) يُمنح الوشاح الأحمر لإعلان قبوله عضوا ومواطنا في منظمة ودولة فرسان مالطة عام 2008
وكما هو حال الجمعيات السرية القائمة اليوم، فإنها تزعم أن نشاطها يقتصر على الأعمال الخيرية والطبية، حيث تدير مئات المستشفيات وتساعد في عمليات الإنقاذ والإسعاف في أكثر من 120 دولة حول العالم، إلا أنها تعلن أيضا أن هدفها الأساسي هو حماية الحق المسيحي في الحج إلى القدس، وهو الهدف الظاهري الذي أنشئت من أجله إبان الحروب الصليبية.
وتضم قوائم أعضاء المنظمة عددا من كبار السياسيين والمتنفذين في العالم، مثل رونالد ريغان وتوني بلير والملكة إليزابيث، إضافة إلى عدد من المسؤولين العرب، مثل رئيس النظام السوري بشار الأسد.
وقد أنتجت قناة الجزيرة في عام 2008 فيلما وثائقيا يبحث في علاقة دولة فرسان مالطة بعمليات عسكرية قذرة في العالم الإسلامي، وأهمها المشاركة في غزو العراق عبر شركة “بلاك ووتر” الأمنية.
اتهامات خطيرة هناك ثلاثة أنواع من التهم التي وجهت لفرسان الهيكل وهي:
1- الهرطقة: إهانة المسيح وإنكار ألوهيته، البصق على الصليب والتبول فوقه، احتقار القداس ورجال الكنيسة، وإنكار المقدسات.
2- الجرائم الأخلاقية: الشذوذ الجنسي الجماعي والمنظم، وابتكار طقوس للترقي داخل المنظمة تتضمن ممارسة الشذوذ وتقبيل أعضاء التناسل.
3- الوثنية: عبادة رأس حجري لكبش ذي قرون اسمه بافوميت، عبادة وثن العذراء السوداء، وعبادة وثن لساحرة على شكل قطة سوداء.
بافوميت بريشة إليفاس ليفاي
وهذه الأفعال كانت تمارس في سرية تامة، فلم يكن للمنظمة سجلات علنية بل تحفظ كل أوراقها داخل كنائسها وقلاعها بسرية بالغة.
انقسم المؤرخون بشأن هذه الاتهامات إلى قسمين، الأول يرى أنه تم تلفيقها لفرسان الهيكل بعد أن حقد عليهم الملوك لتزايد قوتهم، وأن اعترافهم جاء تحت التعذيب.
أما الفريق الثاني فيرى أنها منظمة مهرطقة غايتها القضاء على المسيحية، حيث اعترف الفرسان بالتهم كلها في دول أخرى غير فرنسا دون تعذيب، بل كان بعضهم في حماية ملوك إنجلترا وإسبانيا والبرتغال ومع ذلك اعترفوا بالهرطقة والشذوذ الجنسي وهي جرائم تستحق الإعدام في أوربا البابوية.
كما أن عبادة أوثان محددة هي ليست من ذلك النوع من التهم الذى يختلقه أحد ويقر به تحت وطأة تعذيب، فهذه تهم لم يقر بها أحد غيرهم، وكان يمكنهم أن ينكروها بعد اعترافهم بما هو أخطر من الهرطقة والشذوذ.
ما هو معبودهم؟ تعددت النظريات لتفسير رمزية بافوميت، فرأى البعض أن هذه الرأس الحجرية ترمز لرأس يوحنا المعمدان (النبي يحيى) التي قطعها هيرود، فكان فرسان الهيكل يرون أن يوحنا المعمدان هو المسيّا الحقيقي وأن عيسى المسيح نبي كذاب. وقال آخرون إن الفرسان عثروا حقا على رأس يوحنا المعمدان في الحملة الصليبية الرابعة، بينما ذهب رأي ثالث إلى أن رأس بافوميت ترمز إلى رأس دي بايان مؤسس فرسان الهيكل، كما فسره آخرون بأنه يرمز إلى أزموديوس الجني الحارس الذي ساعد سليمان في بناء الهيكل.
رسم لطقس عبادة بافوميت التي اقتبسها الماسون من فرسان الهيكل أورده الماسوني الفرنسي ليو تاكسيل في كتاب نشره عام 1884 لفضحهم
أما هوج شونفيلد فقام بتحليل كلمة بافوميت Baphomet وفقا لشفرة أتباش اليهودية القديمة واستنبط أنها تعني كلمة صوفيا Sophia، أي ربة الحكمة الإغريقية وكل ربات الحكمة الأخريات ومنهن إيزيس المصرية، ويدل على ذلك أن فرسان الهيكل قدسوا رموزا وأفكارا مصرية قديمة تختلط بالتقاليد اليهودية.
وتشير الرسوم والتماثيل إلى تشابه رأس بافوميت مع “كبش مِندِس” الذي كان يُعبد في مصر وبابل على أنه تمثيل للشيطان إبليس، حيث قالوا إن إبليس دخل الجنة في جلد أفعى ليشجع الإنسان (آدم وحواء) على اكتساب المعرفة بالأكل من الشجرة، وإن إبليس عندما يهبط إلى الأرض فإنه يتجسد في هيئة كبش له قرون.
وكانت الأساطير المصرية تقول إن إيزيس تعلمت السحر من والدها “سِب”، فجسدها الكهنة في صورة امرأة لها تاج على هيئة قرنين تتوسطهما الشمس. وإذا أعدنا قراءة هذه الرمزية في ظل الوحي الإسلامي فسنجد تطابقا عجيبا مع الأحاديث النبوية التي تحظر على المسلمين الصلاة في وقتي الشروق والغروب لأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان، مما يقوي اعتقادنا بأن إيزيس هي إحدى تجسدات الشيطان نفسه.
وتقول أساطير الفراعنة إن “حورس” الذي يُصور على هيئة صقر قد نتج عن تزاوج إيزيس مع أخيها أوزيريس، وإنه سعى للانتقام من جده “سب” الذي قتل أباه، فأصيبت إحدى عينيه ليبقى أعوراً بعين واحدة تمثل الشمس [انظر مقال الوثنية].
ولا نجد لهذه الأساطير في مناهج البحث الغربية تأويلات أبعد من الربط فيما بينها وفي ضوء ما قاله كتبة الأساطير نفسها، كما لا نجد لدى المؤرخين والفقهاء المسلمين في القرون الماضية سوى محاولات لفهم ما رواه لهم أهل الكتاب بعد إخفاء وتحريف الكثير، وذلك قبل أن تُكتشف في العصر الحديث الكثير من الأساطير إبان الفتوحات الكبيرة في استخراج الآثار واكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية.
كما نجد تشابها كبيرا بين حورس ذي العين الواحدة وبين الأعور الدجال الذي ورد ذكره فيه الحديث النبوي لدى المسلمين: {لم يُبعث نبي قبلي إلا حذر قومه من الدجال الكذاب} [رواه أحمد].
ويمكن القول إن إيزيس المصرية تحل أيضا سر العذراء السوداء، فهي تُجسد بتمثال لسيدة سوداء تحمل بين يديها رضيعًا أسود، لكن الكاثوليك في أوروبا كانوا يظنون أن فرسان الهيكل أرادوا بذلك تحقير العذراء والمسيح، وظل هذا الاعتقاد سائداً حتى القرن الثامن عشر عندما اكتشف باحثون في الآثار المصرية أن العذراء السوداء ليست سوى أم الحكمة والمعرفة ومصدر الخصوبة (إيزيس) وهي تحمل وليدها حورس، وهو الرأي الذي دافع عنه المؤرخ إيان بيغ والبروفيسور ستيفان بينكو، كما أثبته بالوثائق والصور المؤلفان لين بيكنيت وكلايف برنس في كتابهما المنشور عام 1994 “كفن تورينو: صورة من؟ كشف الحقيقة الصادمة”.
واحد من بين نحو 180 تمثالا للعذراء السوداء المتبقية حتى اليوم في فرنسا
ورجح باحثون -ومنهم إيان بيغ في كتابه “وثن العذراء السوداء”- أن دي كليرفو هو الذي ابتكر هذه العبادة عندما نظم مئتين وثمانين أنشودة، يتضمن كثير منها مقولة مأخوة من نشيد الأنشاد التوراتي تقول “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم” [1: 5-6]، وهي عبارة تم نقشها على كثير من تماثيل العذراء السوداء، وما زال نحو خمسمئة تمثال منها قائما وتؤدى عندها طقوس العبادة المسيحية في كنائس أوروبا.
بناء على ما سبق، يمكن القول إن العقيدة التي كان يخفيها فرسان الهيكل وكل من تبعهم لاحقا في الجمعيات السرية المتعددة هي قريبة جدا من الديانة المانوية الفارسية القديمة، والتي تدور حول ثنائية الآلهة، بحيث يكون الشيطان نداً للإله وأجدر منه بالعبادة والتعظيم، لذا نرى في بعض طقوسهم رموزا تبدو على النقيض من الطقوس الدينية للكاثوليكية، كالقداس الأسود والعذراء السوداء. ونظرا لممارسة الجمعيات السرية في درجاتها العليا طقوس السحر والاتصال بالشياطين فلا يُستبعد أن تتلقى “مكافأتها” من الشياطين بمزيد من النفوذ والملذات.
ولادة الجمعيات السرية لم يكن عدد المعتقلين والمحاكَمين سوى بضع مئات، بينما يقدر باحثون أن عدد الفرسان كان يتراوح ما بين 20 و50 ألفا، وقد اختفوا فور إعلان حل المنظمة، كما اختفت جميع وثائقهم وبياناتهم المالية وحتى ثرواتهم سفن أسطولهم.
قرر باحثون أن فرسان الهيكل انضموا إلى فرسان مالطة، بينما رأى آخرون أنهم اختفوا في جبال الألب السويسرية كما اندمج بعضهم في الحياة المدنية بدول أخرى وخصوصا اسكتلندا التي كانت خارج سلطة البابا، أما في البرتغال فاحتفظوا بكيانهم بعد تغيير اسمه إلى فرسان المسيح وظل قائما حتى أواخر القرن السادس عشر، وقد ساهمت هذه المنظمة في حركة الكشوف الجغرافية التي انطلقت من إسبانيا والبرتغال، فكان منهم هنري الملاح وفاسكو دي غاما، كما أبحر كريستوفر كولمبوس على متن سفن تحمل شعارهم لاكتشاف أميركا، وهو يحمل أحلاما توراتية لاستعادة أورشليم وبناء الهيكل بعد اكتشاف العالم الجديد ونهب ثرواته.
“أصول الماسونية تعود إلى عهد الحملة الصليبية الأولى، والذي أسسها في فلسطين هو أول ملوك أورشليم جودفروا دى بويون”. [كتاب الجمعيات السرية والحركات الخفية للمؤرخة نستا وبستر، نقلا عن نشرة أصدرها لمؤرخ الماسوني شيفالييه دي باراج عام 1747].
أما مؤرخو الماسونية والجمعيات السرية فيقولون إن محافل الماسون -التي كانت في الأصل أماكن لتجمع البنائين- أصبحت ملاذاً مثالياً لفرسان الهيكل، فهي الفرع الوحيد من المنظمة الذي نجا من الحل والتدمير والملاحقة، وهكذا بدأت نشأة الماسونية على يد فرسان الهيكل.
ويقول الأستاذ الأعظم للماسونية في القرن التاسع عشر الجنرال الأمريكي ألبرت بايك في كتابه “عقيدة الطقس الأسكتلندي القديم وآدابه” المنشور عام 1872: “إن هدف فرسان الهيكل الظاهر الذي أسبغ عليهم الشرعية ومنحهم الهبات وأكسبهم السلطة كان حماية الحجاج الكاثوليك، لكن الهدف الحقيقي الذي انخرطوا من أجله في الحملات الصليبية هو العمل على إعادة بناء هيكل سليمان كما وصفه النبي حزقيال وصفاً مفصلاً في السفر المسمى باسمه، فالهيكل حين يعاد بناؤه باسم الكاثوليكية وتحت راياتها سيكون قبلة العالم ومركز ومصدر أمنه وسلامه، وسيحكم بنو إسرائيل من خلاله كل الشعوب”.
ألبرت بايك
أما الهدف الثاني كما يقول بايك فهو إزالة الكاثوليكية وتأسيس عالم جديد له ديانة جديدة تستمد عقائدها من “التقاليد المسيحية الأولى والنقية” التي يمثلها يوحنا المعمدان. فالقديس يوحنا هو الأب الروحي لكل الحركات الغنوصية التي تؤمن بأن خلاص البشر في المعرفة والأفكار وليس في مطلق الإيمان، وهي الحركات التي يمتزج فيها نموذج يوحنا المعمدان بالتراث الشفوي اليهودي الباطني وما يحويه من معارف وأسرار القبّالاه، وفقا لكتاب بايك.
ويضيف بايك أنه كانت توجد في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى طائفة من المسيحيين من أتباع يوحنا وكانت تعرف التاريخ الحقيقي للمسيح والتقاليد اليهودية وروايات التلمود والقبالاه، وهي طائفة تعارض كنيسة القديس بطرس ومسيحها (عيسى) المتمثلة في الفاتيكان.
وتعد هذه الكنيسة سرية للغاية، ويقودها أحبار عظام يتسلسلون إلى يوحنا المعمدان، وفي زمن الحروب الصليبية كان الحبر الأعظم لها يدعى ثيوكليتس، وقد تعرف على دي بايان وأطلعه على أسرار كنيسته ونصّبه خلفاً له على رئاسة الطائفة، وهذا اعتراف من بايك بأن منظمة فرسان الهيكل لم تكن سوى واجهة مسيحية لكنيسة تعادي الكاثوليكية نفسها وتنتسب إلى يوحنا وتؤمن بعقيدة غنوصية قبالية يهودية.
ويقول بايك إنه حين كان دي مولاي ينتظر حكم الإعدام في السجن أمر بتكوين أربعة محافل مركزية، الأول في نابولي لقيادة فرسان الهيكل في شرق أوروبا، والثاني في إدنبره من أجل قيادتهم في غربها، والثالث في ستوكهولم لفرسان الشمال، والرابع في باريس لفرسان الجنوب .كما انشطرت المنظمة إلى عشرات الجمعيات السرية والمنظمات الخفية وجماعات السحر والشعوذة، وتحولت مقاطعة لانجدوك جنوب فرنسا -وهي معقل فرسان الهيكل- إلى مأوى للملحدين والمهرطقين واليهود والوثنيين. ويؤكد بايك أن الماسونية الاسكتلندية هي الوريث الأقدم لفرسان الهيكل والامتداد الشرعي لها.
وكان من أبرز الجماعات الإلحادية والشيطانية التي نشطت في مناطق نفوذ فرسان الهيكل جماعة “الألبيين”، والتي حكمت عليها الفاتيكان عام 1139 بالهرطقة وبدأت بمطاردتها، ثم انضمت إلى الجمعيات السرية المشابهة التي انبثقت عن فرسان الهيكل بعد حلّها.
بيل كلينتون كان عضوا في تنظيم دي مولاي الدولي أثناء شبابه (demolay.org)
وتوجد في أوربا والقارة الأمريكية اليوم عشرات المنظمات السرية التي تقول إنها وريثة فرسان الهيكل، وكثير منها تضع في اسمها الهيكل أو فرسانه أو اسم أحد أساتذة فرسان الهيكل العظام، كما تحاكي في تنظيمها ودرجاتها ورموزها وطقوسها فرسان الهيكل.
ومن أهم هذه المنظمات تنظيم دي مولاي الدولي المخصص للشباب في الولايات المتحدة، الذي كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون من أعضائه [حسب موقع المنظمة]، ومنظمة فرسان الهيكل الاسكتلندية، وعصبة فرسان الهيكل الاسكتلندية، ومنظمة هيكل الشمس، ومنظمة دير صهيون التي سيأتي ذكرها بالتفصيل لاحقاً.
ومن أكثر المنظمات انتشارا اليوم “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” OSMTH، وهي تؤكد أنها امتداد لفرسان الهيكل وأن دي مولاي عهد بالأستاذية إلى يوهانس لارمينيوس ثم توالى الأساتذة العظام دون انقطاع، إلى أن أخرجها الماسوني الفرنسي برنارد ريموند فابري بالابرا إلى النور سنة ١٨٠٤، وأن نابليون بونابرت كان أباً روحياً لها. وفي سنة 2001 اعترفت الأمم المتحدة بهذا التنظيم كمنظمة عاملة من أجل السلام ووضعتها في قائمة الجمعيات المدنية التي تحظى باستشارة منظمات الأمم المتحدة لها في الأزمات وتفويضها في فض النزاعات. بينما تعلن المنظمة أنها تهدف إلى الحفاظ على الأراضي المقدسة في أورشليم وحولها، وإجراء البحوث الأثرية، ودعم السلام. وكثيرا ما يتم إرسال وفودها تحت غطاء الشرعية الدولية من الأمم المتحدة إلى أماكن النزاعات في العالم الإسلامي.
كتاب أصدره “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” عام 2017 بمناسبة “مرور خمسمئة عام على التأسيس”.
منظمة دير صهيون طبقاً للوثائق السرية التي نشرها الفرنسي بيير بلانتار في ستينيات القرن العشرين فإن جذور دير صهيون تعود إلى جمعية سرية غنوصية لا يعرف تاريخها، حيث أسسها رجل اسمه أورمس ومزج فيها المسيحية مع الوثنية، ثم أعيد بناؤها -حسب بلانتار- سنة 1070 عندما اجتمع عدة رهبان في إيطاليا لتأسيس منظمة سرية اسمها دير أورفال، وشاركوا بأنفسهم في الحملة الصليبية الأولى. وبعد سقوط بيت المقدس في يد الصليبين ساهموا في انتخاب دي بويون ليكون أول ملوك مملكة أورشليم الصليبية، لأنه سليل الأسرة الميروفنجية المتحدرة من الملك داوود.
وفي السنة نفسها أسس هؤلاء الرهبان ديرًا في جبل صهيون حسب رواية بلانتار، وكانت مهمتهم الأولى هي البحث عن كنز هيكل سليمان الذي نهبه الرومان أثناء اجتياحهم أورشليم إبان ثورة اليهود عليهم سنة 70م، ثم إعادة تكوين الأسرة الميروفنجية وإعادتها إلى حكم فرنسا وصولا إلى حكم أوروبا كلها، وكانت منظمة فرسان الهيكل جناحاً عسكرياً لدير صهيون طوال مائة عام تقريباً.
اصطدم ملك فرنسا فيليب الثاني مع ملك إنجلترا هنري الثاني عام 1188 في معركة عند قلعة جيزور بفرنسا في صراع على شرعية الحكم، حيث تنافس كلاهما على أحقية تمثيل السلالة الميروفنجية، وكان النصر من نصيب فيليب الثاني، لكن المعركة تسببت بانشقاق فرسان الهيكل المؤيدة للإنجليز عن دير صهيون المنحازة للفرنسيين، وهكذا اندثرت آثار الجمعية السرية وظلت خفية ثمانية قرون كاملة، وفقا لمزاعم بلانتار.
وفي عام 1989 نشر بلانتار قائمة بأسماء أساتذة دير صهيون العظام، زاعما أنه كان هو نفسه أستاذها الأعظم ما بين عامي 1981 و1984، كما ادعى أن كلا من إسحق نيوتن وروبرت بويل وكيجان كوكتو وليوناردو دافنشي وفيكتور هوغو كانوا في القائمة، واشتهرت هذا الجمعية باسم أخوية صهيون (أخوية سيون)، ولا سيما بعد ظهورها مؤخرا في الرواية الشهيرة “شفرة دافنشي” للبريطاني دان براون، والتي تحولت إلى فيلم هوليودي.
وبعكس المنظمات التي انحدرت من فرسان الهيكل أو زعمت أنها هي فرسان الهيكل أو أحد فروعها، فقد قدمت دير صهيون نفسها على أنها هي الأصل وأن فرسان الهيكل فرع منها. ويعد بلانتار هو المصدر الوحيد لهذه الوثائق والمعلومات، ما دفع الكثيرين للتشكيك فيها، حيث يقول المؤرخ أحمد دراج في كتابه “وثائق دير صهيون بالقدس الشريف” إن المراجع الأوروبية تجمع على أن بناء دير صهيون في القدس لم يتم إلا بعد أن اشترى ملك صقلية روبرت أنجو المنطقة من السلطان محمد بن قلاوون عام 1335، كما أن وجود الدير هناك لا يعني بالضرورة ارتباطه بجمعية سرية.
أهم المراجع بهاء الأمير، اليهود والحركات السرية في الحروب الصليبية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2012.
ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة وتحقيق سهيل محمد ديب، مؤسسة الرسالة، 2002.
محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار الهلال، 1925.
أحمد دراج، وثائق دير صهيون بالقدس الشريف، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1968.
Charles G. Addison, The History of the Knights Templar, Longman, Brown Green, London, 1842.
Nesta Webster, Secret societies and submersive movements, Boswell Publishing Co. Lltd, London, 1924.
Christopher Knight and Robert Lomas, The Hiram Key, The Century Books, 1996.
Lynn Picknett and Clive Prince, Turin Shroud: In Whose Image? The Shocking Truth Unveiled, Stoddart, 1994.
Albert Pike, Morals and dogma of the Ancient and Accepted Scottish Rite of Freemasonry, published by the authority of The Supreme Council of the thirty third degree, Charleston, 1871.
M.p. Hall, The secret teachings of all ages, H.S. Crocker Company, San Francisco, 1928.
David Nicolle, Hattin 1187: Saladin’s Greatest Victory, Osprey Publishing, 1993.
ولئن كانت جذور فكر الحركة تعود إلى تلك الجذور البعيدة، إلا أن نشأتها باعتبارها حركة معاصرة تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عندما تبنى عدد من مفكري الغرب الفكر الباطني للتمرد على الدين النصراني، ومحاولة لتفسير طبيعة الإنسان والخلاص بطريقة أخرى تركز على “الغنوص والحكمة” كنموذج للخلاص الفردي بدلا من انتظار مخلص كوني مبعوث من مصدر خارجي (المسيح حسب اعتقادهم).
أنشأ هؤلاء المفكرون أربع حركات دينية متزامنة تبنت الأصول الفلسفية الباطنية وأسهمت فيما بعد بنشوء حركة العصر الجديد ، وفيما يلي تعريف بهذه الحركات:
1- حركة “الفلسفة المتعالية” Transcendentalism: وتُعد أول حركة فكرية في أمريكا الشمالية تتأثر بالديانات الشرقية وتعتمد على ترجمات الكتب الهندوسية المقدسة، وتقوم على أربع أفكار أساسية هي: أن العلاقة بين الإله والإنسان والكون هي علاقة وحدة الوجود، وأن المعرفة الحدسية الداخلية التي تأتي من خارج نطاق الفكر والحواس عن طريق (العرفان الغنوصي) مقدسة لكونها فيض من العقل المقدس، وأن للإنسان قدرات كامنة غير محدودة تمكنه من التعامل مع العالم الغيبي، وأن التناغم مع الطبيعة هو طريقة الحياة الفضلى. ويعد “رالف إمرسون” المتوفى عام 1882م الشخصية القيادية لهذه الحركة التي وصلت ذروة انتشارها في أربعينات القرن التاسع عشر.
2- حركة “الفكر الجديد” New Thought: ظهرت على يد فينياس كويمبي المتوفى عام 1866، وهي امتداد لفلسفة فرانز مزمر الطبيب الألماني النمساوي الذي اشتهر بالعلاج الروحي الجماعي وفق ما أسماه التنويم المغناطيسي، معتقدا بوجود طاقة حيوية تتسبب بالشفاء والسعادة، فمزج فينياس هذه الفكرة مع الفلسفة المثالية التي تعتبر العقل أصل الحقيقة.
3- حركة الأرواحية Spiritualism: في القرن الثامن عشر الميلادي اهتم عالم الجيولوجيا السويدي إيمانويل سويدنبرغ بالتعامل مع الأرواح –بحسب الاعتقاد الباطني- وحاول تفسير الغيبيات كالموت والجنة والنار تفسيرًا يجمع بين الدين والعلم حسب ادعائه، محاولا تفسير الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى تفسيرا باطنيا، حيث اعتقد أن الجنة والنار حالات وعي ذهنية يمكن الوصول إليها من خلال “السفر خارج الجسد” وحالات “التأمل الروحاني”، وانتشرت من خلاله جلسات استحضار الأرواح.
4- جمعية الحكمة الإلهية “الثيوصوفيا” Theosophy: أسستها في نيويورك سيدة من أصل روسي تدعى هلينا بلافاتسكي (توفيت عام 1891م)، وقالت إنها تهدف إلى اكتشاف القوانين التي تحكم الكون والقوى الكامنة في الإنسان، والدعوة إلى الأخوة الكونية بتناغم الإنسان مع الكون، ودراسة الأديان والفلسفة والعلوم دراسة مقارنة.
“اتحاد العصر الجديد” كان يعقد اجتماعات لمناقشة القضايا السياسية خلال السبعينات
واعتبرت أن “دين الحكمة” أو “الفلسفة الباطنية” هو أصل كل الأديان، وأن الإسلام واليهودية والنصرانية لم تكن سوى تحريفات لهذا الدين من قبل الأنبياء والحكماء الذين أرادوا تبسيط الحكمة للعامة، فأعلنت أنها تريد تدريب الناس على الوصول إلى العرفان (الغنوص) بأنفسهم، وزعمت أنها أخرجت إلى العلن أسرار المذاهب الباطنية التي كانت ممنوعة على العوام، وهي ليست سوى تعاليم القبالاه السحرية.
وقد مهدت هذه الحركات الباطنية الأربعة بمعتقداتها وممارساتها ومطبوعاتها لظهور حركة العصر الجديد “New Age Movement” في ستينات القرن العشرين، وكانت البداية في معهد “إيسالن” بأمريكا الشمالية المختص بالفكر الباطني، والذي أجرى أكثر من عشرة آلاف دراسة للفرضيات في القدرات الكامنة خلال العقود الماضية، استنادًا إلى المبادئ الباطنية.
ومن أهم أسباب إقبال الغربيين على الطوائف الروحانية الشرقية أنها قدمت لهم روحانيات خالية من أي التزامات أخلاقية أو شرعية، فبعد تخليهم عن الدين النصراني لم تعد لديهم رغبة في التقيد بالضوابط الأخلاقية التي تردع شهواتهم، إضافة إلى رغبة كثير من الغربيين في التلاعب بالوعي دون تعاطي العقاقير بعد ثبوت أضرار المخدرات، إذ دلت الإحصاءات على أن 96,4٪ من أتباع الطوائف الروحانية الشرقية سبق لهم استخدام المخدرات قبل انضمامهم إليها. [The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill].
في العصر الجديد تصبح جميع الأديان متساوية وتؤدي إلى نتيجة واحدة لأنها تُجرد من عقائدها الأصلية
أهم المبادئ والمعتقدات
من خلال ملاحظة برامج الحركة وفحص أدبياتها نجد أن الوصول إلى الإشراق والعرفان الباطني هو غايتها، أما الطريق المؤدي إلى ذلك فيعتمد على ثلاث أفكار رئيسة، هي:
1- الكل واحد (وحدة الوجود)، فكل شيء هو الإله والإله هو كل شيء، على اختلاف تصوراتهم عن الإله وحقيقته وأسمائه، والتي تتراوح بين المطلق والكلي والوعي الكلي والعقل الكلي والطاو والقوة العظمى وغيرها، وهذا يعني أن كل ما هو موجود إنما هو انطباع لذلك الكلي وتجلٍ له فليس في الوجود شيء غيره، وهي فكرة مأخوذة من فلسفات شرقية عدة مثل الطاوية والهندوسية والبوذية وعدة طوائف غنوصية، ثم تبناها بعض أقطاب التصوف الفلسفي مع أنها تتناقض جوهريا مع الإسلام.
2- الإنسان هو الإله أو جزء من الإله (تأليه الإنسان)، وهذه الفكرة نتيجة للفكرة السابقة، فعندما يتوحد الإنسان مع “المطلق” يتأله الإنسان نفسه.
3- الإنسان لا يموت وإنما يستمر في الحياة من خلال التقمص والتناسخ، أي بانتقال الروح بعد الموت من جسد بشري إلى كائن أعلى للتنعم أو أدنى للتعذّب، وذلك بدلا من دخول الجنة أو النار، ويستمر التناسخ حتى تتطهّر النفس فتنعتق من تكرار المولد. وتعود هذه الفكرة إلى الطاويين وقدماء الفراعنة واليونانيِّين والفرس قبل أن يستوردها فلاسفة الهند ثم بعض المتصوفة والباطنيين الدروز.
4- الإنسان يخلق واقعه الخاص وقيمه ومعتقداته ويحقق مراده من خلال حالات الوعي المتغيرة التي يدخل فيها، وهو بذلك لا يحتاج إلى الوحي للإجابة على الأسئلة الكبرى التي يقدمها الدين، كما أن الإنسان هو الذي يخلق بزعمهم محيط حياته ويتحكم بمستقبله وصحته وسعادته عن طريق قوة عقله الباطن.
وبالعودة إلى ما ذكرناه عن رؤية بلافاتسكي للأديان السماوية، فإن حركة العصر الجديد تؤمن أيضا بوحدة الأديان، لأن الباطنيين يرون أن جوهر دين الحكمة هو ما ينص عليه المنقول الباطني في جميع الأديان، فيزعمون أن الغيبيات من قبيل الإله (المعبود في الأديان السماوية) والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر هي أمور لا تتعدى كونها تصورات ذهنية بحتة قد تفيد من يعتقد بها، إلا أنه ليس لها في الواقع حقيقة ثابتة، بل ذكرها الأنبياء ليسهل فهمها من قبل العامة، وهم يزعمون أنهم بدؤوا بنشر الحقيقة التي ظلت مخفية عن العامة طيلة قرون وكانت خاصة بالنخبة، ما يزيد من تشوق عامة الناس للاستماع إلى مروّجي هذه الحركة.
تعتمد جمعيات العصر الجديد على الأساليب المتبعة في كل الحركات السرية من حيث التدرج الهرمي في طريق المعرفة، بحيث لا يرتقي العضو إلا بعد استيعابه لقدر ما من المعلومات السرية، وإثبات اقتناعه بها وتقبّله لتصديق ما سيأتي بعدها. لذا فهي تعلن في الظاهر أن الغيبيات ليست سوى تصورات ذهنية خرافية، كي يجنح جميع المؤمنين بهذه الحركات إلى الإلحاد واللادينية، لكن العضو الذي يترقى إلى أعلى المراتب تُكشف له في النهاية حقيقة الإيمان بالشياطين وعبادة إبليس نفسه.
فيلم “لوسي” الذي أنتجته هوليود عام 2014 يقوم على فكرة عدم استخدامنا لأكثر من عُشر طاقتنا العقلية
وتستمد حركة العصر الجديد بعض أفكارها أيضا من العقائد الهرمسية Hermticum، وهي اعتقادات مسجلة في كتابات ورسائل مشكوك في مصادرها تعود إلى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، وفيها تلفيق بين الفلسفات الأورفية والفيثاغورية والأفلاطونية والرواقية والفيزياء الأرسطية والتنجيم الكلداني، وتكوّن في مجموعها معرفة خاصة يزعمون أنها وصلتهم عن وحي إشراقي، وهي تقر بوجود إله لا يمكن وصفه ولا معرفته، ويصفونه أحيانا بأنه الكون نفسه أو الإنسان، كما يرون أن النفوس الإنسانية هي أرواح هبطت من الأفلاك السماوية ويمكنها التحرر والعودة إلى هناك عبر قوة المعرفة (الغنوص). ونجد أن الكثير من تطبيقات حركة العصر الجديد تعتمد منهج الهرمسية دون أن تذكرها بصراحة، مثل بعض برامج الماكروبيوتيك والهونا والفونغ شوي.
ونظرا لاعتقادهم بتعظيم الذات الإنسانية وتأليهها، فإن الكثير من برامجهم التدريبية وكتبهم تدور حول القدرات الخارقة المزعومة للإنسان، وقد يستندون في ذلك إلى معلومات غير مؤكدة علميا، مثل القول بأن 90% من قدرات العقل البشري لا يتم استخدامها مدى الحياة، ومع ذلك فإن خطابهم التحفيزي يستقطب اهتمام الكثير من الناس عبر إقناعهم بوجود قدرات كامنة تنتظر الاكتشاف والتفعيل.
يظهر تأثير الصوفية اليهودية الباطنية (القبالاه) في جميع الحركات الباطنية الحديثة، فالقبالاه تبني أساس فلسفتها على تأليه الإنسان باعتبار أنه فاض عن الإله ويمكنه الاتحاد به، فالإنسان إذن يمتلك قدرات كامنة خارقة تحتاج إلى من يبحث عنها وينميها ويطلقها من القمقم.
كما يزعم القبّاليون أن أسرار “الحكمة” التي نُقلت إليهم بالسر عن الأنبياء هي الحقيقة الوحيدة لجوهر العالم، وأن ظاهر الوحي المذكور في التوراة ليس سوى غطاء للحقيقة الكامنة في باطنه.
في هذا الكتاب الذي يسوّقه معهد إيسالن على موقعه يشرح قصة انطلاقته واستمراره على مدى أكثر من خمسة عقود في ظل تراجع إيمان الأمريكيين بالأديان
طرق النشر والتطبيق
بدأت حركة العصر الجديد بالظهور في الغرب وتشكلت بما يتناسب مع متطلبات الناس هناك، فتم تصميم برامجها بعناية وربطها بمجالات الحياة المختلفة كالصحة والرياضة وتطوير الذات والعلاج وهندسة الديكور وتصميم المنازل وغيرها؛ لتوافق احتياجات معظم الناس بما يحقق الانتشار، وسرعان ما انتشرت في أنحاء أمريكا ثم وصلت إلى بريطانيا وبقية أوربا، وفي بداية القرن الميلادي الحالي تغلغلت في البلاد الإسلامية تحت ستار الطب البديل والتدريب المعتمد بنظام المستويات المتعددة.
ولا يزال معهد إيسالن (المذكور سابقا) يطور أبحاثه، ويغيّر إطار أفكاره بما يوافق متطلبات الناس، حيث يعيد اليوم دمج الفكر الإلحادي مع عقائد الحلول والاتحاد بدلا من الإلحاد المادي لتناسب اعتقاد الناس المؤمنين بوجود إله، كما يتبنى المعهد أبحاثا في المؤثرات الغيبية ضمن ممارسات الأديان الشرقية ووثنيات القبائل البدائية في أستراليا وغيرها، حيث تُنشر النتائج على أنها أبحاث علمية، حتى أصبح أتباع الحركة يعتقدون بأن الممارسات الخرافية والسحرية تتمتع بصبغة العلم التجريبي الرصين، ومع أن العلماء والجامعات ترفض هذه الأبحاث إلا أن الاتجاه العام في الغرب بدأ بتقبل الروحانيات والاعتراف بتأثيرها ووجودها ومحاولة فهمها علميا، وتساهم عولمة وسائل الإعلام وسهولة الولوج إلى شبكة الإنترنت في نشر تلك الأفكار.
ويمكن القول إن انتشار معتقدات حركة العصر الجديد يعود إلى غناها بالروحانيات الغامضة التي جاءت لتروي الجفاف الروحي عند أصحاب الأديان المحرفة والملحدين في الغرب، ولا سيما في فترة الستينات من القرن العشرين التي شهدت تضخم الرأسمالية المتسارع والمفاجئ على حساب العقل والروح، وتسارع وتيرة الاستهلاك إلى درجة إفراغ الإنسانية من قيمها الروحية، فضلا عن انهيار القيم الأخلاقية وشيوع العدمية والفلسفة الوجودية بعد ما رآه العالم من دمار في الحربين العالميتين وإبان الحرب الأمريكية على فييتنام وكوريا الشمالية، فانتشرت في الوقت نفسه موضة “الهيبيز” مع ما لازمها مع انحلال أخلاقي غير مسبوق. وبما أن روحانيات العصر الجديد لم تكن تلزم الشباب الغربي بأي عبادات دينية أو مناقشة أي عقائد يريدون الاقتناع بها فضلا عن أن تلزمهم بضوابط أخلاقية تحد من شهواتهم، فقد كانت الخيار الأنسب لكل من يبحث عما يملأ به فراغه الروحي.
ومع انتشار الفوضى وسقوط العديد من المجتمعات المسلمة في الحروب والعنف في السنوات الأخيرة، بدأت بعض برامج حركة العصر الجديد بإعادة انتشارها مجددا في أوساط الشباب، حيث يقدمها أصحابها تحت مسميات متنوعة من البرامج التدريبية، والتي تختلط بنسب مختلفة مع أمور أخرى مثل تنمية المهارات وفنون الإدارة والعلاجات البديلة، ونجد لها أثرا واضحا في دورات البرمجة اللغوية العصبية والتفكير الإيجابي والعلاج بخط الزمن، وفي جلسات التنفس التحوّلي والتأمل الارتقائي والاسترخاء وشحن الطاقة وقانون الجذب.
يرصد الباحث السويسري باتريك هايني في كتابه “إسلام السوق” -الصادر عام 2005- مظاهر محاولة أسلمة مفاهيم العصر الجديد تحت مسميات جديدة، وعبر مداخل التنمية البشرية وإدارة الأعمال وعلم النفس، ويرى أن من أهم خصائص هذه الظاهرة الانفتاح على العالم على حساب الهوية، وشيوع النزعة الفرادنية وسيولة المبادئ، والتخلي عن المبادئ الكبرى التي كانت تشغل الحركات الإسلامية مثل إحياء الخلافة والحاكمية.
البرامج التدريبية
فيما يلي تعريف موجز بأشهر عناوين البرامج التدريبية والاستشفائية التي تغلغلت فيها أفكار حركة العصر الجديد وبطرق خفية قد لا ينتبه لها معظم الناس، بما فيهم المؤمنون بالأديان السماوية:
1- الطاقة: وهي مسمى واحد يشمل مفاهيم متعددة في الفلسفات الشرقية القديمة، مثل كي ki وتشي chi-Qi وطاو Tao وماكرو Macro وبرانا Prana ومانا Mana، أما في برامج العصر الجديد فأصبحت تحمل أسماء إضافية مثل “قوة الحياة” و”الطاقة الكونية”، وهي مجرد فكرة فلسفية لا علاقة لها بالطاقة الفيزيائية التي يتم قياس آثارها بالعلم التجريبي، فالمؤمنون بها يعتقدون أنها قوة عظمى تقابل الاعتقاد بالإله عند أتباع الديانات السماوية.
وهي أول ما ينبغي أن يؤمن المتدرب به، وبأهميته وقوته، ويمارس كيفية الشعور به، واستمداده، وفعل ما يساعد على تدفقه في جسده، واتحاده به، ويتجنب ما يبعده عنه.
الين واليانغ
وتشتمل جميع البرامج المقدمة باسم الطاقة على نسب متفاوتة من أصول الفلسفة الباطنية، حيث يتم في بعضها شرح الغنوصية الشرقية على أنها حقائق كونية تفسر أصل الكون ونشأته وانقسامه لثنائيات عظيمة يسمونها (ين/يانغ)، وأنها مؤثرة في كل جوانب الحياة، ثم تُصاغ الدورات التدريبية في العلاقات الاجتماعية والإدارة والعلاج الجسدي والنفسي على أساس التوازن بين الين واليانغ.
ويظهر أثر هذه الفلسفات أيضا في نظرية “الأجسام السبعة”، والتي يتم خلالها إقناع المتدربين بوجود سبعة أجسام لكل الكائنات، ومنها الإنسان. أولها الجسم البدني، وأهمها الأثيري الذي تنفذ من خلاله الطاقة الكونية للأجسام الأخرى وتمنحها السعادة والصحة، كما يتم التدريب من خلال الدورات المختصة بهذه النظرية على تقوية “الحاسة السادسة” لاكتساب قدرات خارقة في التأثير والعلم، وغير ذلك من الممارسات التي تتقاطع مع السحر والمقتبسة من القبالاه اليهودية.
رسم من مطلع القرن التاسع عشر لتوزع الشاكرات على الجسد
وتقدم برامج الطاقة التدريبية تمارين تزعم أنها تفتح منافذ الطاقة (الشاكرات) Chakras في أجساد المتدربين، بهدف الحصول على كميات أكبر من طاقة قوة الحياة، أو الاتحاد بها، ومن ذلك التدرب على تمارين وترانيم ووضعيات خاصة هي في حقيقتها عبادات وطقوس وثنية وشيطانية، بالرغم من أنها تُقدم في إطار منفصل عن الدين من دون أن ينتبه لذلك كثير من الناس، وكثيرا ما تتقاطع مع تدريبات اليوغا.
ومن الملاحظ أن تقديم هذه الفلسفة باسم “الطاقة” الذي يشتبه بالمصطلح العلمي المعروف في العلوم الطبيعية جعل المتدربين يعتقدون أنها علم لا ديناً وثنياً، كما أن الكثير من الناس ينجذبون إليها لأنهم يرون في الشرق الآسيوي تقدماً بمجالات الصحة والطب البديل.
2- التنفس التحولي والعميق Transformational Breathing: هو برنامج تدريبي أو علاجي يهدف إلى تجميع “طاقة البرانا الكونية” واستشعار تدفقها في الجسم، للدخول في حالة من الاسترخاء العميق والنشوة، ويعد أحد طرق التنويم للدخول في حالات الوعي المغيّرة وإطلاق قدرات “اللاوعي”، عبر التواصل مع “العقل الكلي” أو “اللاوعي الجمعي”.
ويعتبر المدربون هذه الحالة بداية التغيير والانطلاق والفتح، وهي تقابل ما يُعرف عند البوذيين والهندوس باسم “النرفانا”، وعند المتصوفة بـ”الفناء”، بينما يسميها بعض المروجين المعاصرين من المسلمين بحالة “الخشوع”.
3- التأمل الارتقائي والتجاوزي Trancsendental Meditation: يعود أصل هذا البرنامج إلى مذهب مهاريشي ماهيش (انظر مقال الهندوسية والبوذية)، ويهدف إلى الاسترخاء الكامل والدخول في حالة من اللاوعي والنشوة “النرفانا”، وفق طرق محددة من تركيز النظر في الأشكال والرموز وترديد الترانيم أو الاستماع إليها، إلى جانب الالتزام بتعليمات محددة في الطعام واللباس والكلام.
باندلر
4- البرمجة اللغوية العصبية Neuro Linguistic Programming: وضع أسس هذا الفن الباحثان الأمريكيان جون غريندر وريتشارد باندلر، وبدعم وتنظير من غريغوري بيتسون (توفي عام 1980م) أحد أبرز الباحثين في معهد إيسالن والذي عاش على المبادئ البوذية في أمريكا، كما اعتمد المؤسسان على ثلاثة من المتأثرين بالباطنية، وهم ميلتون إريكسون (توفي عام 1980م) الذي تميز في التدريب على تقنيات الخروج من العقل إلى “حالات الوعي المتغيرة” تطبيقاً مباشراً لبوذية زن، وفرتز بيرلز (توفي عام 1970م) أحد الباحثين في معهد إيسالن المهتمين بفلسفة “وحدة الوجود”، وفرجينيا ساتير (توفيت عام 1988م) المعالجة التي عملت بمعهد إيسالن وأسست أحد أكبر مراكز حركة العصر الجديد في أمريكا ويدعى مركز آفانتا.
وتتضمن البرامج التدريبية لهذا الفن خليطا من العلوم والفلسفات الهادفة لإعادة صياغة صورة الواقع في الذهن بحيث تنعكس على تصرّفاته، وهي برامج انتقائية تجمع نظرياتها من علم النفس السلوكي والمعرفي وفنون الإدارة وغيرها؛ لذلك تشمل بعض التمارين النفسية أو العلاجية الصحيحة، غير أنها تحتوي كذلك على فرضيات غير مثبتة ونظريات مرفوضة علمياً بينما تُقدم على أنها حقائق علمية. كما تكمن خطورتها في تسريب بعض مفاهيم الفلسفة الباطنية، وإقناع المتدربين بالإمكانات غير المحدودة التي يمكن تحصيلها عن طريق العقل الباطن، وتدريبهم على الدخول في حالة اللاوعي لإحداث التغيير الإيجابي في النفس من دون قيود العقل.
5- الماكروبيوتيك Macrobiotics: هو فلسفة باطنية تقدم في شكل برامج للتثقيف الصحي والعلاج البديل، وتُشرح فيها بشكل صريح فلسفة الحياة بالاعتماد على الإيمان بالطاقة الكونية، وضرورة إعادة نظم الحياة والمأكل والملبس والرياضة وتصميم المنزل بما يوصل إلى التناغم مع الطاقة الكونية والوصول للسمو الروحي والشفاء الجسدي.
يصف هنري تينك في مجلة لوموند [العدد مارس/آذار 2000] حركة العصر الجديد بأنها أفكار ضبابية تخلط مخلفات الروحية الباطنية القديمة مع الطرق الحديثة في التركيز والاسترخاء وشحن طاقة الإنسان، وتضعها جميعا في إطار وثني معاصر، مع إبقاء فكرة الإله غامضة وفتح الباب لتقبّل وجود كائنات غيبية غير مرئية مثل الأرواح والأشباح والكائنات الفضائية. ونضيف على هذه القائمة الشياطين من عالم الجن.
وتركز المستويات الأولى من برامجها على الغذاء عبر مفاهيم الطاقة الكونية وثنائية الين واليانغ، وما يتعلق بذلك من اعتماد خصائص غيبية للأطعمة مثل ربط الخواص الروحانية المزعومة للنبات بروحانيات مماثلة للكواكب، وهي أفكار كانت تُعرف قبل قرون بأنها داخلة في باب السحر لكنها تُقدم اليوم على أنها علم. ثم تترقى برامج الماكروبيوتيك التدريبية ليتعمق المتدرب في الفلسفة الباطنية بشمولها ويمارس تطبيقاتها في كل مجالات حياته، بهدف استجلاب الطاقة الكونية لتحقيق الصحة والسعادة.
______________________________________________
أهم المراجع
– Historical Dictionary of New Age Movements ,Michael York.
– New Age encyclopedia, Belinda Whitworth.
– The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill.
-Christian Responses to the New Age Movement, John A. Saliba.
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2017/08/العصر-الجديد-e1506579635215.jpg?fit=1200%2C429&ssl=14291200أحمد دعدوشhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngأحمد دعدوش2017-08-26 13:49:542023-07-15 23:40:30حركة العصر الجديد
اعتبر كثير من الفلاسفة القدماء أن العناصر الخمسة التي تتكون منها كل المواد في العالم (الماء، النار، الأرض، الهواء، السماء “الأثير”) أو (الماء، النار، التراب، المعدن، الخشب) تتحرك باستمرار وبتناغم دائري داخل الجسم، ففسيولوجيا الجسم الإنساني ليست سوى صورة مطابقة للكون، ولذا أكد حكماء اليوغا على ضرورة معرفة هذه العناصر داخل الجسم والعمل بها.
وطريقة تفكيرهم هذه تفترض أن كل ما يوجد في الخارج له ما يقابله في الداخل؛ أي أن كل عنصر من العالم الروحي يجب أن يكون له صداه في العالم المادي، وهذا يفسر إمكانية وجود تطور روحي يتم من خلال الجسم.
انتشرت الدعوة إلى اليوغا في بعض البلاد الإسلامية وغيرها، وأقام بعض دعاتها مجموعات ومدارس لتعليمها، وألفوا أو ترجموا في سبيل نشرها والدعوة إليها العديد من المؤلفات. فكثير من الناس يعتقد أن اليوغا ليس لها أساس في الديانتين الهندوسية والبوذية، أو أنها غير متعلقة بهما، وأنها ليست سوى رياضة تعتمد على التأمل والتفكير، لكي توصلهم إلى الراحة النفسية والفكرية والجسدية، ويتجاهلون بذلك الأسس الثمانية التي وضعها الحكيمان باتنجالي وسوامي شيفاناندا، وغيرهما من الحكماء الهنود سواء من الهندوس أوالبوذيين.
ولمعرفة المزيد عن اليوغا والتحقق من كونها مجرد تمارين رياضية روحية أم شعائر تعبدية فلسفية، ينبغي أن نتعرف على نشأتها وعلاقتها بالديانات الأخرى.
التعريف والنشأة نشأت اليوغا في وادي السند (شمال الهند وباكستان حاليا) خلال الفترة 3300 –1700 قبل الميلاد، وهي مستمدة من جذور كلمة “يوغ” السنسكريتية التي تتألف من عدة معان، منها المراقبة والعبودية لأنَّها تخلّص النفس من قيود الجسد والعبودية للشهوات.
تمثال لبوذا في حالة تأمل
وفي الأدبيات البوذية، يستخدم مصطلح “التأمل” بدلا من “يوغا”، إلا أن مصطلح “يوغا” أصبح شائعا حول العالم، ولم يعد من السهل اعتماد مصطلح آخر بنفس المعنى .
واليوغا هي طريق لتسهيل الاتحاد بالنفس الكلية، عن طريق رياضة روحية وجسدية، أو عن طريق القرابين. وتذهب اليوغا إلى أنَّه لا تكفي حياة واحدة لإدراك هذا الاتحاد، فحسب مبدأ “الكارما” قد تتطلب أفعال الإنسان السيئة ولادات متتالية في صور إنسانية أو حيوانية [انظر مقال الهندوسية والبوذية].
فاليوغا تعني تجميع القوى وتركيزها وممارسة التمارين العملية التي تؤدي إلى الاتصال بين الروح والآلهة. وبما أن نظام اليوغا يضع التأمل في محور تعليمه وممارسته، فهو يولي أهمية بالغة لكل طرق الخلاص التي ترتكز على التأمل والاستغراق.
يقوم محتوى الخلاص على تطهير الروح تطهيرا كاملا من كل الأدناس الأرضية، بحيث تكتشف ذاتها في شكلها الصافي، أو توضع في حالة تمكّنها من أن تعيش مع المطلق (الإله) وتصل إلى الاتحاد به. وهذه الحالة التي تتجاوز الوجود الأرضي تجاوزاً “لامتناهيا” تعجز الكلمات البشرية عن وصفها.
وفي الخلاصة، يمكن القول إن اليوغا هي مجموعة من الشعائر الروحية القديمة التي نشأت في الهند، وإنها كمصطلح عام في الهندوسية تشير إلى منهج عملي وممارسات محددة تجمع بين التصوف والزهد والتأمل، وهي تسعى للحصول على خبرة روحية خاصة وفهم عميق جداً للحقائق الكبرى في الوجود والتحكم الواعي في الكثير من مناحي الحياة.
أهم طرق اليوغا
تتنوع طرق ومدارس اليوغا المعتمدة حاليا، وهي أشبه ما تكون بالمدارس والمذاهب في الديانات، وتعود في الأصل إلى يوغا ساتراس التي أسسها الحكيم باتنجالي. وتعتمد هذه المدارس على الجانبين الفكري والعملي، حيث يهتم الأول منهما بالتحرر الروحي دون أن يشترط الإيمان المطلق، بل يحذر المعلمون منه. أما الجانب العملي فيتضمن التمارين البدنية والتحكم بالتنفس، بالإضافة إلى الفنون الأخرى، وفيما يلي موجز عن طرق اليوغا الأساسية الأربعة:
1– بهاكتي يوغا: تؤكد هذه الطريقة على استثمار المحبة للوصول إلى حالة الكمال الروحي من خلال عبادة الإله مباشرة، وذلك بتنقية العقل وتكرار اسم الإله وذكر صفاته العديدة مثل راما وكريشنا، وذلك من خلال شعائر تسمى “جابا”.
2– غنانا يوغا: تهتم هذه الطريقة بطرح الأسئلة الفلسفية الوجودية والإجابة عليها من المنظور البوذي، حيث تحاول الإجابة على أسئلة من قبيل: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ كيف وُجِدت ولماذا؟ وإلى أين أمضي؟ ومن خلال سلوك هذا الطريق العقلاني والتجرد عن كل أنواع التعلق المادي في الحياة يحاول الممارس الحصول على الخلاص الروحي واكتشاف المُطلق والتوحد به.
وحسب الفلسفة البوذية فإن المطلق يحمل صفات الإله نفسه، فهو العلة التي لا علَّة لها، وهو كُلي القدرة والمعرفة والحضور، لذا فهو يتجلى للإنسان في صور ثلاث، هي المادة (صفة الحضور الكلِّي)، الطاقة (صفة القدرة الكلِّية)، والوعي (صفة المعرفة الكلِّية)، ومن خلال هذه الصفات يحاول الممارس إدراك المطلق بالتأمل في باطنه هو.
وتتضمن هذه العقيدة أيضا الاعتقاد بنظرية الفيض التي نجدها عند الأفلاطونية الحديثة، والتي تقول إن الوجود كله ليس سوى فيضًا من المطلق وصدورًا عنه وتجليًا له، فالإله لا يخلق مباشرة بل يفيض. كما نجد في هذه العقيدة فكرة وحدة الوجود التي يعتقد صاحبها أن بإمكانه الاتحاد بالمطلق (الإله)، ولا يتحقق هذا الاتحاد إلا بعد التخلص من الأنانيات الفردية (الأنا) التي تعد مؤقتة وغير حقيقية، والتأمل في جوهر الإنسان وهو النفس (أتمان)، والارتباط بالأتمان الجماعية الموجودة في كل الأشخاص وفي النفس الأزلية للإله. [انظر مقال الباطنية].
3- كارما يوغا: تركز هذه الطريقة على الجانب العملي من الحياة، فالتوازن العقلي والتخلص من الأنانية الفردية والاتحاد بالمطلق هي أهداف لا تتحقق سوى بالعمل، ولا يقصد بالعمل هنا المهنة التي يُكسب بها الرزق، بل العمل لأجل الحياة، فينبغي على الممارس أن يعمل من أجل العمل وحده دون التفات إلى ما سيجنيه من ثمار.
4- راجا يوغا: وتعني “اليوغا الملكية”، وهي أرقى الطرق وأكثرها تعلقا بالعقائد والأساطير البوذية، حيث تهتم بتحصيل الحقائق الروحية من خلال التأملات والسيطرة على الأفكار والأفعال ومقاومة الغرائز واعتبار العقل سلطانا على الحواس. وغالباً ما تعرف هذه الطريقة باسم “اليوغا سوترا”، ويسعى الممارس لها إلى الوصول للمعرفة الذاتية ومعرفة الإله والحقيقة المطلقة.
وتعود هذه الطريقة إلى الحكيم باتنجالي الذي يعد المؤسس الأول لليوغا، حيث وضع قبل 2300 سنة خطوات ثمانية يجب على كل تلميذ ومعلم التقيد بها لتنقية جسمه وعقله والسير بهما في طريق الاستنارة، ويمكننا اختصارها كالآتي:
1- ياما (المحرمات)، وتتضمن خمس خطوات هي: عدم العنف، الصدق، عدم الاشتهاء، العفة، عدم السرقة.
3- أسانا (هيئات الجسم)، ويصفها الحكيم باتنجالي بأنها الوقفات أو الوضعيات المستخدمة لجلسات التأمل، وهي تساعد على توفير الطاقة والعلاج من الأمراض والمرونة، وقد اشتقت منها الرياضات الأخرى، وتتضمن 84 وضعية تهدف إلى فتح الطاقة الكامنة تحت العمود الفقري والملتفة على هيئة أفعى.
4- براناياما (السيطرة على التنفس)، وتهدف إلى دعم قوة الحياة أو الطاقة الحيوية (البرانا).
5- براتياهارا (التجريد): وهي بداية التدرب على انسحاب الحواس من إدراك الأجسام الخارجية عبر السيطرة على العقل والتركيز على الحساسية الفائقة للعقل لجميع ما يحيط به.
ونستنج من الأسس الخمس السابقة أنها أسس خارجية، تهتم بالوضع الخارجي للجسم كتنظيفه وتعويده على التقشف وتدريبه على مساعدة الجزءالأصعب وهو الجسم الداخلي، وهو ما يأتي في الأسس الثلاث التالية التي تتطلب قوة التركيز وشدة التأمل، وتتطلب أيضا الاتصال الكلي بمكون الكون، ونلخصها فيما يلي:
1- دارانا (التركيز): هي الخطوة الأولى لتركيز الاهتمام بشيء معين، كضوء شمعة مثلا أو تمثال، ويتم عن طريق العين الثالثة.
2- دايانا (التأمل): تدعى هذه المرحلة بالتأمل الصامد، حيث يحاول المتدرب أن يوسع دائرة وعيه وحساسية عقله، فيتأمل في الطبيعة والكون كله وليس شيئا واحدا فقط.
3- سامادي (الاتصال بالإله)، وهي المرحلة الأخيرة التي يصل بها المتأمل إلى التحرر أو الوحدانية، وتتطلب دمج الوعي بموضوع التأمل، بما يحقق السيطرة التامة على العقل والجسم والروح.
من خلال ما سبق وعلى الرغم من أن اليوغا تُقدّم في كثير من النوادي الصحية والمستشفيات في العالم -ومنها بلاد المسلمين- على أنها رياضة للجسد واللياقة، ومع أن المدربين يحاولون غالبا قطع الصلة بين الفلسفة التي تقوم عليها اليوغا وبين حركاتها الرياضية، إلا أنها ليست مجرد رياضة يمكن لأي شخص ممارستها، حتى وإن بدت كذلك في مراحلها الأولى، بل تتضمن شعائر دينية تتوجه إلى الفكر والعقل من خلال الاعتقاد والتأمل والتركيز.
اليوغا والهندوسية
تهدف الشعائر الهندوسية إلى الاتحاد بالإله المطلق (براهمان)، وغايتها السموّ بالعقل والروح إلى حالة من السعادة القصوى، وذلك بإبعاد المرء نفسه عن الشهوات الجسدية والمادية وإنقاذه من كل النوازع الأرضية حتى يصل إلى حالة من القداسة والصلاح تسمى “الموكشا”.
ويتطلب الوصول إلى هذه الحالة الالتزام بالصلاة وترتيل الأناشيد المقدسة (مانترات) والتأمل الروحي، مع الصوم عن الطعام والشراب والكلام والجماع، والتركيز الذهني على شيء معيّن دون تشتت التفكير بالأمور المادية والدنيوية والجسدية العديدة. ويُسمى الناسك الممارس لليوغا بالقديس “المهاتما”، أو صاحب الروح الصالحة أو الروح الكبيرة.
لذلك يركز الهندوس اهتمامهم على النفس لأن النفس في معتقدهم يمكن أن ترقى إلى الكمال، أما البدن فسِمته النقص، ولكي يحقق الجسد درجة ما من التطهير ينبغي عليه أن يستغل وجود الروح فيه، ولهذا قالوا بحرق البدن بعد الموت، والموت عندهم نهاية لا تجدّد لها. ومع أن النفس عند الهندوس كاملة إلا أنها لا تخلد كجوهر مستقل، وإنما يتم خلاصها عن طريق ممارسة اليوغا، والتي تتضمن القسوة على البدن وتدريب النفس على الصبر والثبات.
ويصل المرء في ممارسة اليوغا إلى المشاعر والأحاسيس الداخلية في الأعماق للتخلص من الضغوط العصبية والنفسية، وإلى الالتحام الكامل بين العقل والجسد. والهدف بطبيعة الحال هو الوصول إلى حالة من السموّ الروحي والصفاء الذهني، بعيداً عن التأثيرات النفسية والعصبية اليومية، لذا تمارَس اليوم كعلاج لأمراض نفسية من قبل بعض الأطباء النفسيين في الغرب.
يؤمن الهندوس بوجود طاقة أزلية اسمها “برانا”، وهي منبثقة عن الأصل الأول للوجود “براهمان”، لكنها ليست مخلوقة بل هي قديمة بلا بداية. وبما أن الهندوسية دين حلولي يؤمن بحلول الإله (المطلق) في الكون والإنسان فإن البرانا بمثابة روح هذا المطلق التي تسري في الكون. وعليه فإن دور اليوغا يتلخص في استجلاب هذه الطاقة وشحن الجسد والنفس بها.
اليوغا والبوذية
ظهرت البوذية كمذهب تصحيحي في إطار الديانة البراهمية بدعوتها لنبذ الطبقية مع بعض التعديلات العقائدية، وهي تعتمد أيضا على اليوغا لإخضاع الإنسان لنظام تعبدي يحقق له تحرير النفس من الارتباطات الجسدية والمادية وبلوغ “الاستنارة”.
وتؤكد سيرة حياة مؤسس البوذية سيذهارتاغوتاما (بوذا) أنه درس اليوغا على يد الرهبان البراهمة كجزء من المقرر الفلسفي المفروض على التلاميذ، وذلك في الفترة التي قضاها في جبال الهمالايا قبل أن يصبح معلما، ويعتقد أنه صاغ مبادئ اليوغا على طريقته الخاصة قبل ظهور كتاب “بْهاغافاد غيتا” الذي يعد من أقدس الكتب الفيدية لدى الهندوس.
ويمكن القول إن اليوغا هي الجسر الذي يربط بين الهندوسية (الديانة الأم) والبوذية التي انشقت عنها في القرن السادس قبل الميلاد، بالرغم من وجود عوامل مشتركة أخرى بينهما، مثل مبدأ عدم العنف (أهيمسا) ومبدأ التركيز والاستنارة.
وتظهر في منطقة التيبت الصينية آثار اليوغا البوذية بوضوح أكبر، وذلك لتأثير التانترا الهندوسية -التي تتلخص في عبادة شاكتي (التجسد الأنثوي للآلهة)- على التقاليد هناك، ونجد آثار هذه الشعائر في السيطرة على النظام الخاص بالنبضات القلبية والحركات الجسدية التي تتضمن 108 وضعيات جسدية، وتستعمل هذه الأساليب اليوم من قبل الرياضيين للسيطرة على العقل، وكذلك في بعض الرياضات الروحية في الغرب، وحتى في جلسات تحضير الأرواح والسحر والشعوذة وعبادة الشيطان، ولا سيما تلك التي تدمج الأفعال الجنسية بالتأمل.
لا تتضمن البوذية شعائر للصلاة والتعبد كما في الهندوسية، ولكنها تحتوي على خمسة أنواع من التأمل التي يمكن أن تحل محلها، وهي:
1 ـ ميتاـ بهافتا (التأمل في الحب): وهو التأمل في الكائنات والدعوة إلى سعادتها.
2 ـ كاروناـ بهافاتا (التأمل في الشفقة): وهو المشاركة في حزن الآخرين.
3 ـ موديتاـ بهافاتا (التأمل في الفرح): وهو التأمل الذي يبهج الآخرين بالمشاركة في ما يفرحهم.
4 ـ أسوبهاـ بهافاتا (التأمل في المدنسات): وهو التأمل في أهوال المرض والموت.
5 ـ أبكاـ بهافاتا (التأمل في الهدوء): وهو التأمل في المتناقضات مثل الخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض.
تتطلب جلسات التأمل من الممارس أن يجلس وساقاه مضمومتان ومثنيتان، بحيث يكون الظهر منتصباً والرأس مرفوعاً ومحاطاً بهالة التفكير، وأن يبحث عن نقطة معيّنة ليركز فيها.
وتتلخص مراحل التأمل خلال الجلسة في البدء بتحقيق درجة كافية من الثقة عبر التحرر من الجسد، ثم بلوغ الصحوة بالتحرر من الرغبات والغرائز وتمني الخير لجميع الكائنات، ثم الاستغراق والتخلص من الألم وصولا إلى تعطيل الإحساس، ومع نجاحه في تنظيم التنفس والانفصال عن كل الأشياء باستثناء التنفس يحقق العقل سيطرته على الحواس، فتتركز الأفكار والحواس كلها في نقطة واحدة بما يسمح للممارس –حسب معتقدات اليوغا- العودة للماضي لاسترجاع الذكريات أو الإبحار في المستقبل للتنبؤ وغير ذلك.
وتسمى حالة الاستغراق والتحرر التام بالنيرفانا التي تقابل الموكشا لدى الهندوسية، وهي تعني التحرر من دائرة الحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت. ويهدف الممارس من خلالها للوصول إلى ولادة ثانية، وذلك عبر كبت شهواته الجسدية وغرائزه النفسية والتخلص من آلامه ومعاناته في الحياة اليومية.
وتعود هذه الفكرة إلى أسطورة التناسخ في الديانة البوذية، والتي ترى أن روح الإنسان تتناسخ منذ ولادته وحتى موته، وأنه لا بد من التحرر الكامل من كل المعوقات لتحرير العقل والروح والوصول بهما إلى الحقيقة والاستنارة، وبذلك ينجح الإنسان في كسر قيود التناسخ.
اليوغا والطاوية والكونفوشية تعد الطاوية (أو التاوية) بمثابة الوعاء للأديان والأساطير التي تراكمت في الصين على مدى قرون، وقد أعاد جمع وترتيب أصولها الفيلسوف لاوتسي في القرن السادس قبل الميلاد، ثم التقى به الفيلسوف كونفوشيوس وتلقى عنه الكثير من مبادئه قبل أن يضع فلسفته الكونفوشية الرائجة حتى اليوم في من الصين وأجزاء من كوريا واليابان وفيتنام.
وتلتقي الطاوية والكونفوشية مع الهندوسية والبوذية (الهنديتان) في الكثير من المبادئ العقائدية، إلا أن الأديان والفلسفات الصينية تميل أكثر إلى الاهتمام بالجوانب الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.
وكما تؤمن الهندوسية والبوذية بأن المطلق الأزلي براهمان صدرت عنه بالفيض والتأمل بيضة أو زهرة لوتس ثم خرجت منه بقية الآلهة وكل الموجودات، فإن الطاوية ترى أيضا أن الأصل المطلق (طاو) انبثقت عنه “بيضة كونية”، ثم انقسمت إلى نصفين، فتكونت الأرض من نصفها السفلي الثقيل المظلم (ين)، وتكونت السماء من نصفها العلوي الخفيف المضيء (يانغ)، ثم تشكل بينهما الإنسان الأول بان كو.
الين واليانغ
وتركز الطاوية جل اهتمامها على التوازن الافتراضي بين الين واليانغ، كما تزعم أن الطاقة الكونية “برانا” أو “تشي” ما زالت سارية في الكون كما تسري الروح في الجسد، ولكي تستمر حياة الإنسان فإن على الجسم أن يمتلك البرانا أو التشي، وإلا فإن أي نقص سيؤدي إلى خلل في توازن النقيضين الين واليانغ ومن ثم إصابة الإنسان بالأمراض الجسدية والنفسية.
يقول تشوا كوك سوي في كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” إن هناك ثلاثة مصادر رئيسية لطاقة الحياة، وهي طاقة الحياة الشمسية التي يمكن الحصول عليها عبر التعرض لأشعة الشمس، وطاقة الحياة الهوائية التي يمكن امتصاصها من الهواء عن طريق الرئتين، وطاقة الحياة الأرضية الموجودة في باطن الأرض وتُمتص عن طريق باطن القدم بالمشي دون حذاء. ووفقا للطب الحديث فإن هذه الافتراضات لا يدعمها أي دليل.
يقوم الطب الصيني التقليدي على فكرة إعادة التوازن الطبيعي للين واليانغ إلى الجسم، ويعتقد ممارسوه أن الوخز بالإبر الصينية يساعد على تفعيل مسارات الطاقة (شاكرات) التي تمر بالجسد وفقا لخريطة محددة، كما يعتقدون أن كل التمارين الرياضية والأدوية والأطعمة الصحية تستمد منفعتها من خلال علاقتها بالطاقة وبتوازن الضدين، وما زال الصينيون حتى اليوم عاجزين عن تقديم أدلة علمية على ارتباط هذه العوامل بالطاقة الكونية التي لم يثبت وجودها علميا.
لذا تُصنف تطبيقات الطاوية ومثيلاتها على أنها “علوم زائفة” حتى لو كانت نتائجها سليمة، لأن ربط النتائج المحسوسة بمسببات غيبية مزعومة هو مجرد افتراض وهمي لا يدعمه أي دليل حسي ولا عقلي ولا نقلي (وحي محفوظ مصدره الإله).
ومن أهم هذه التطبيقات المنتشرة اليوم الريكي والبرانا والبرانيك هيلنغ والتشي كونغ والتاي تشي والفانغ شوي والماكروبيوتك، وهي جميعا تلتقي مع اليوغا في الاعتقاد بوجود طاقة كونية انبثقت عن الإله الأول (براهمان) أو (طاو).
ويجب الانتباه إلى أنه لا يصح تفسير أي تغير محسوس (المرض أو الشفاء) بوجود عامل غيبي مفترض (طاقة كونية أو ين ويانغ) عندما تغيب العوامل الحسية، لأن احتمالات هذا التفسير مفتوحة بلا ضوابط، فعلى سبيل المثال إذا لم نستطع إيجاد سبب محسوس لألم أصاب أحدنا في يده، فيمكن لأي كاهن أن يزعم أن هناك وحشا خفيا يعضّ على هذه اليد بأنيابه، وإذا قام هذا الكاهن بطقوس لطرد الوحش المزعوم ثم زال الألم لسبب نجهله كما نجهل سبب الألم نفسه؛ فهذا لا يعني أن الوحش الخفي كان موجودا بالفعل وأن طقوس الكاهن كانت ناجعة. فعالم الغيبيات لا يمكن الحكم عليها إلا بمصدر مفارق، وهو الوحي الذي تثبت الأدلة الحسية والعقلية أنه صحيح وموحى به من الإله.
يستهل تشوا كوك سُوي مؤسس البرانيك هيلنغ كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” بقوله “أنت ممتلئ بأفكار وآراء مسبقة. لكي تتعلم، عليك أن تفرغ كأسك”. وهذا يعني أن تعلم فلسفات الطاقة لا ينجح سوى بتجريد المتعلم من عقيدته الدينية وقواعده العلمية أولا، لأن هذه الفلسفات تقوم على مسلّمات باطنية لا تقبل النقاش ولا يُستدل عليها بعقل ولا نقل، كما أنه لا يمكن الجمع بينها وبين الإيمان بعقائد أخرى.
الماكروبيوتك هو أسلوب في تناول الطعام وطريقة الحياة يقوم على فلسفة الين واليانغ والعقائد الهندوسية والطاوية، وبما أن هذه الأديان تحرّم تناول اللحوم (انظر مقال الهندوسية والبوذية) لاعتقادها بأن الحيوانات تحمل أرواح الموتى، فإن الماكروبيوتك يحاول تقديم أسلوب المعيشة النباتي في إطار صحي، مع أن الطب الحديث يؤكد أن الاكتفاء بالمصادر النباتية لا يكفي لصحة الإنسان ونموه.
يصنف معلمو الماكروبيوتك كل النباتات والأطعمة من حيث كونها أقرب إلى الين أو اليانغ، ويطالبون مريديهم بموازنة الطعام وفقا لهذا التصنيف الغيبي على افتراض أنه الأكثر موائمة للطبيعة، ويرتبط هذا التصنيف بالقدر الذي يحتويه الطعام من الدسم والكثافة والحلاوة، وبالمكان الذي تنمو فيه النباتات من حيث الحرارة والبرودة، ومع أنهم لا ينصحون بتناول اللحوم إلا أنهم يصنفونها وفقا للبيئة التي تعيش فيها، أو حتى وفقا للارتفاع الذي تحلق فيه الطيور، وهذه العوامل كلها ليس لها علاقة بالعلم.
ومع أن بعض الأنظمة الغذائية التي يقدمها مدربو الماكروبيوتك تحقق فوائد معينة، ولا سيما في مجال الحمية وتخفيف الوزن، مما يكسبها رواجا لدى النجوم ومعجبيهم، إلا أن الجهات العلمية المعتمدة في أمريكا الشمالية وأوروبا تحذر من خطورة هذه الأنظمة ولا سيما على صحة الأطفال والنساء الحوامل والمرضى.
اليوغا والعبادات الشيطانية سبق أن أوضحنا في مقالات القبالاه والباطنية والهندوسية والبوذية التداخل بين هذه الأديان وعبادة الشيطان، وبما أن اليوغا تتقاطع مع تلك الأديان في العقيدة والسلوك فهي في كثير من جوانبها ليست سوى إحدى وسائل الاتصال بين الإنسان والشياطين.
فعلى سبيل المثال، يعد تمرين “سوريا ناماسكارا” أحد أشهر التمارين التي عولمتها اليوغا في أنحاء العالم، وهو يعني باللغة السنسكريتية “تحية الشمس بثمانية أعضاء”، حيث يؤدي المتدرب عند شروق الشمس وغروبها حركات ووضعيات يلامس فيها الأرض بقدميه وركبتيه ويديه وصدره وجبهته، وهي تشبه طقوس عبادة الشمس في بعض الوثنيات القديمة.
وفي الإسلام، نهى النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن أداء الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، مع أن الصلاة الإسلامية تؤدى لله وحده، والسبب كما في الحديث النبوي أن الشمس “تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار”، وقد فسر علماء مسلمون ذلك -مثل النووي وابن قتيبة- بأن الشيطان يدنو من الشمس أو يقف في جهتها عند هذا الوقت فيسجد له أتباع تلك الديانات بسجودهم للشمس.
(yogasuggestion.com)
وكما هو حال طقوس القبالاه التي تسعى لما تسميه بالاستنارة، وهو الاتصال بحامل الضوء “لوسيفر” (الشيطان)، فإن الاستنارة التي يصل إليها الكثير من محترفي اليوغا ليست سوى اتصال بالشياطين، وكثيرا ما يحدث ذلك دون أن يعلموا بأن له علاقة بعالم الشياطين، ولا سيما من قبل الممارسين الذين يؤمنون بالأديان السماوية. ففي كتاب “معجزات الشفاء البْراني” يقول المعلم العالمي تشوا كوك سوي إن “أصحاب الجلاء البصري” يمكنهم أن يروا بأعينهم عمودا من نور، وإن الأشخاص الروحيين الذين مارسوا التأمل لمدة أطول يمكن أن يشعروا بأنهم غُمروا بنور يحير أبصارهم من شدة ضيائه، حسب تعبيره.
كتب سوي تحظى بترويج كبير في المكتبات العربية
وهناك الكثير من التجارب التي تعرض لها ممارسون مسلمون ومتدينون وقالوا إنهم بلغوا فيها درجة الاستنارة ورؤية الضوء الغامر، بل ورؤية كائنات شفافة (أرواح المعلمين كما يزعمون)، وهي ليست سوى كائنات شيطانية. ففي العقيدة الإسلامية لا يمكن لأرواح الموتى أن تعود إلى الدنيا للتواصل مع البشر الأحياء في عالم اليقظة، كما لا يمكن لروح الشخص الحي أن تفارقه بشكل إرادي -كما يزعم أصحاب نظرية الإسقاط النجمي- وأن تتجول في أي عالم كان.
يقول تشوا كوك سوي “إن هذا الشعور شائع عند معظم ممارسي اليوغا المتطورين والقديسين والصالحين في جميع الأديان”، وهذا يعني أنه لا يهم الانتماء الديني طالما كانت اليوغا توحد الجميع تدريجيا تحت مظلة وحدة الأديان وتمييعها، حيث يضيف الكاتب نفسه “مثل النحل حينما يجمع العسل من مختلف الأزهار، فإن الرجل الحكيم يقبل جوهر الكتب المقدسة المختلفة، ويرى الخير فقط في كل الديانات”.
وبينما تسعى حركات العصر الجديد إلى تهيئة العقول والنفوس للعصر الذي يتجلى فيه لوسيفر كما تقول مؤسسة جمعية الثيوصوفيا “الحكمة الإلهية” هيلينا بلافاتسكي [انظر مقالَي الجمعيات السرية والهندوسية والبوذية]، فإن اليوغا هي إحدى الوسائل الأكثر نجاحا في الانتشار العالمي. وهذا ما يبشر به تشوا كوك سوي عندما يتنبأ قائلا “في المستقبل القريب سيكون المعالجون وملائكة الشفاء أكثر فعالية وتعاونية لإحداث الشفاء الخارق أو المدهش و على أوسع نطاق”، وينقل عن غوستاف سترومبرغ قوله “سيأتي الزمن الذي ينجز العلم فيه التقدم الهائل، ليس بسبب تحسن الأدوات المساعدة على الاكتشاف وقياس الأشياء، بل بسبب وجود أشخاص قليلين يملكون تحت سيطرتهم قوى روحية كبيرة، والتي نادرا ما تكون في الوقت الحالي مستخدمة. وخلال عدة قرون، فإن فن الشفاء الروحي سيتطور بشكل متزايد وسينتشر استخدامه على مستوى الكون”.
ويمكن أن نرى في العالم الإسلامي بوضوح سرعة انتشار اليوغا خلال السنوات القليلة الماضية، حتى أصبح الكثير من المتدينين والمحجبات يمارسونه في الحدائق العامة ويتباهون به وكأنه أحد مظاهر الانفتاح، حيث أضيفت إلى اليوغا بعض التعديلات والمصطلحات في أساليب التطبيق، بل وصل الأمر بالبعض إلى محاولة تأصيله إسلاميا.
وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر 2014 بالإجماع على اعتبار 21 يونيو من كل عام يوما دوليا لليوغا.
أهم المراجع تشوا كوك سوي، معجزات الشفاء البراني: كتاب عملي للشفاء بالطاقة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2009.
تشوا كوك سوي، المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2014.
ميشيو كوشي، أسلوب الماكروبيوتك، مكتبة جرير، الرياض، 2003.
هيفاء بنت ناصر الرشيد، التطبيقات المعاصرة لفلسفة الاستشفاء الشرقية (رسالة ماجستير).
أحمد شلبي، أديان الهند الكبرى، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
حميد فوزي، عالم الأديان بين الأسطورة والحقيقة، دار حطين للدراسات والترجمة، 1993.
عادل تيودور خوري، مدخل إلى الأديان الخمسة الكبرى، المكتبة البولسية، بيروت، 2005.
ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، دار الجيل، 2010.
Patanjali, The Yoga Aphorisms, An interpretation by William Q. Judge, The Theosophy Company, Los Angeles, 1973.
Gabriel Monod-Herzen, Le Yoga et les yoga, Éditions du Rocher, Monaco, 1978.
استعرضنا في مقال “الإنسان والدين” رواية الوحي والنظريات اللادينية لنشأة الدين، وأوضحنا أن الرواية الثانية تنطلق من منظور إلحادي في تفسيرها لنشوء كل العقائد والجوانب الروحية والشعائر والممارسات السحرية في حياة البشر، وسنتابع في هذا المقال تطور هذه العقائد والعبادات من منظوري الوحي والنظريات اللادينية بعد نشوء الحضارة وظهور الكتابة والتاريخ.
ولا بد لنا من مراجعة الفارق بين الروايتين والخلل في المنهج، حيث لا نجد في أي كتاب علمي حديث وصفا “علميا” يمكن الركون إليه عن نشأة الدين، والسبب ببساطة يعود إلى أن العلماء يبنون نظرياتهم بهذا الشأن على أساس من التخمين، فلم يترك لنا البشر الأوائل أي أثر مكتوب عن نشأة معتقداتهم، بل تركوا وراءهم وصفا أدبيا لأساطيرهم على هيئة ملاحم أدبية، بجانب ما بقي من المعابد والتماثيل والصور (الأوثان) التي كانوا يقدسونها، أما تفسير نشوء المعتقد نفسه ودوافعه فليس هناك أي دليل تاريخي عليه.
تعود هذه المشكلة إلى المنهج العلمي نفسه، حيث تقوم جميع الأبحاث العلمانية في نشأة الأديان ومقارنتها -وهي الأبحاث التي توسم وحدها بأنها علمية- على فكرة مفادها أن “العلم” يقتضي عدم البناء على أي نص ديني، ويمكن أن تُقبل هذه القاعدة طالما كان العلم التجريبي يبحث في أمور مجردة، بحيث يتوصل العلماء من كل الأديان على نتائج التجربة العلمية، إلا أن المشكلة تبدأ عندما يصر الباحث على اعتبار العلم التجريبي مصدرا وحيدا للمعرفة في كل شيء وأنه لا وجود للحقيقة إلا في إطار المادة والتجربة، ففي حال غياب أي معلومة علمية تجريبية عن نشأة الإنسان الأول ومعتقداته لن يكون “العلم” مفيدا ولا قادرا على تقديم أي جواب سوى التخمين، والمشكلة لا تكمن في التخمين فقط بل في افتراض أن أي تفسيرات غيبية لنشوء الكون والحياة والدين هي غير مقبولة طالما أنه لا يستطيع اختبارها بأدواته المحدودة، والمؤسف أن تصر المؤسسات العلمية حول العالم على منح “العلم” هذا الدور التخميني والمضي فيه إلى أبعد مدى، حتى باتت كتب الأكاديميين الكبار تخلط بين العلم والفلسفة.
انطلقت الأبحاث العلمانية لنشأة الدين من نظرية التطور (الداروينية) باعتبارها التفسير “العلمي” الوحيد لنشأة الإنسان [انظر مقال “وجود الله“]، وعليه فإن نظريات نشوء الدين تدور حول رغبة الإنسان الأولى في اكتشاف العالم والبحث عن أجوبة شافية للأسئلة الوجودية الكبرى وتفسير الظواهر الطبيعية، دون تطرق لاحتمال أن يكون هذا الإنسان قد خُلق من قبل إله واعٍ وأنه منحه المعارف الأولى منذ وجوده على الأرض ليتمكن من العيش وإعمار الأرض.
إدوارد تايلور
هيمنت أفكار الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور التطورية على الفكر الأنثروبولوجي خلال القرن التاسع عشر، فكان يزعم أن “الإحيائية” Animisme هي الشكل الأولي الوحيد للدين الذي تطور عبر العصور خلافا لباقي الأشكال الأخرى، وصار شائعا لدى الباحثين في الأديان تفسير كل ما يتجمع لديهم من معلومات عن حياة المجتمعات غير الغربية –التي سموها بالشعوب البدائية- من منطلق التطور.
في الوقت نفسه، زعم جيمس فريزر أن الدين تطور مع ظهور الزراعة في عصور ما قبل التاريخ، وأن البشر تطوروا بتطور عقولهم عبر ثلاث مراحل، هي السحر البدائي ثم الدين وصولا إلى العلم. ووافقه في ذلك أوغست كونت وفريدريك هيغل، أما إميل دوركهايم فرأى أن الدين نشأ بتقديس القبائل “البدائية” لما يسمى بالطوطم، وهو رمز (أيقونة) حيواني كان يُشكل هوية القبائل ويحظى باحترامها، وتلاقى معظم الباحثين الغربيين على الإيمان بالتطور الدارويني في المجال الديني سواء عن طريق الصدفة أو بالحتمية الاجتماعية.
طوطم
تفترض تلك الأبحاث أن السحر هو الأصل، وأن الإنسان “البدائي” حاول السيطرة على الطبيعة عبر ادعاء حصوله على قوى السحر والشعوذة، ثم قرر بعد قرون من الفشل أن يتجه إلى الدين ويعبد الإله أو الآلهة المتعددة ليسترضيها. لكن هذا الزعم لا تسعفه الأدلة التاريخية لأن السحر والدين يعيشان جنبا إلى جنب في ظل الجماعات القديمة والحديثة، فالفارق بينهما في الوظيفة وطبيعة النظم وليس في التسلسل التاريخي. كما أن السحر نقيض الدين، فهو يتضمن الجانب العقائدي والشعائري لعبادة الشياطين في مقابل عبادة الإله أو الآلهة الوثنية، وليس هناك أي دليل تاريخي يؤكد فرضيات أسبقية السحر على الدين أو حتى يفسر نشوء السحر عن غريزة السيطرة أو الحاجة إليها في ظل غياب الدين.
كما أثبت روبرت شميت تهافت نظرية الطوطمية لدى دوركهايم، فهناك أمم عديدة لم تعرف شيئا عن الطوطم [The Making of Religion, 95]، بينما اكتشف جيمس فريزر وأندرو لانغ أن الطوطمية كانت تمثل منظومة اقتصادية مدنية وقومية وليست ذات بعد ديني. [العودة إلى الإيمان، 183].
وبحسب الرواية الإسلامية (الوحي) فإن الدين الحق الذي يقوم على عبادة الله هو الأصل منذ بدء البشرية في نسل آدم، أما ظهور السحر والأديان الوثنية فكان بعد عدة أجيال، ويقول ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم إن ظهور الملَكين هاروت وماروت -اللذين نسب إليهما القرآن تعليم السحر للناس- كان في زمن النبي إدريس، وهو أول الأنبياء بعد آدم، أي أن السحر أقدم من الوثنية نفسها، وهذا الرأي يتشابه جزئيا مع الرواية اليهودية -التي نعتبرها محرفة عن الوحي الأصلي- فهي تتهم الملائكة بارتكاب الخطيئة ومعصية الرب والسقوط إلى الأرض في زمن إدريس (أخنوخ) أيضا. ومع أن هناك الكثير من الروايات الإسرائيلية التي تداولها المفسرون عن حقيقة هاروت وماروت، وهي قصص أسطورية لا يدعمها دليل، ومع أن القرطبي استبعد أن يكونا من الملائكة أصلا ورأى أنهما شيطانين، فإن ما يهمنا هنا هو أن تعلم بعض الناس للسحر كان متزامنا مع نشوء العبادات الوثنية والأديان المحرفة، أو متقدما عليها بفترة وجيزة، ولكنه لم يكن متقدما على الدين الأصلي وهو عبادة الله.
يقول ستيفن لانغدن في كتابه “الميثولوجيا الساميّة”: إن تاريخ الحضارة القديمة تزامن مع تدهور التوحيد إلى الوثنية والاعتقاد بالأرواح والأشباح، وهذا يشكل انحطاطًا للإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
[Semitic Mythology].
ونظرًا لسيطرة الفكر الغربي بمدارسه المتعددة على العلوم الاجتماعية في أنحاء العالم، بما فيها العالم الإسلامي، فقد تغلغلت في عقول الكثير من العرب فكرة تطور الأديان التوحيدية عن الوثنية والأرواحية، وليس العكس، بل حاول بعضهم إيجاد طريقة ما للجمع بين هذه الفكرة مع الإسلام بالرغم من التناقض الجلي، وسيتبين لنا في ثنايا المقال بطلان هذه الفكرة وتناقضها مع الكثير من الأبحاث التي صدرت في القرن العشرين، حيث نستعرض أهم المحطات التاريخية لظهور العبادات الوثنية (تعدد الآلهة) بعد الانتقال المفترض للمجتمع الإنساني من النظام البدوي والعشائري إلى نظام المدن وتشكل الدول والحضارات، وما رافق ذلك من ظهور المؤسسة الدينية الوثنية (الكهنوت) وتحالفها مع المؤسسة السياسية الملكية.
يقول الباحث آرثر كوستانس في كتابه “سلسلة أوراق المدخل”: مع اكتشافنا لألواح أثرية أقدم، ومع تقدم كفاءتنا في فك الرموز، تغيرت فكرتنا عن الوثنية القديمة، واستبدلنا بها تصورا آخر هو الترتيب الهرمي للأرواح التي يحتل قمتها كائن مطلق. كما يرى أن نظرية التطور مبنية على اعتقاد مُسبق بأن الإنسان يرقى بتفكيره مع مرور الزمن، بينما تثبت الآثار أن ما حدث كان تدهورا وليس تطورا. [The Doorway Papers Series, 3- 34].
يقول الباحث الألماني فيلهيلم شميدت في كتابه “أصل ونمو الدين” إن زعم هربرت سبنسر بأن البشر الأوائل قدسوا آباءهم وأجدادهم ثم عبدوهم وفق تراتب هرمي حتى ظهرت الآلهة والأديان هو تصور خاطئ، فالعالَم القديم كانت لديه صورة نقية عن الإله الواحد، ومع تقدم الحضارات زادت فكرة الإله تعقيدا حيث نُسبت له الزوجة، ثم تعددت الآلهة، حيث لم توجد عبادة الأسلاف في الكثير من قبائل وسط أفريقيا وجنوب شرق أستراليا وغرب أمريكا.
[The Origin And Growth of Religion, 61].
ستونهنج في بريطانيا من أشهر الأنصاب الميغاليثية
المعابد الأولى ذكرنا في مقال “الإنسان والدين” أن الآثار المتبقية في تركيا ومصر والشام وأوروبا الغربية والشمالية ترجح ظهور المعابد الأولى على هيئة كتل صخرية ضخمة أطلق عليها اسم “الأنصاب الميغاليثية”، وهي تعود إلى العصر الحجري الحديث (النيوليت)، أي ما بين 9000 و4500 قبل الميلاد، ويُعتقد أنها كانت مخصصة لعبادة أرواح الموتى.
وفي عام 1994، اكتُشف موقع “غوبكلي تيبي” بولاية أورفة جنوب تركيا، وهو يضم 20 معبدا، ويعد أقدم معبد مكتشف حتى اليوم، ويعود تاريخ بنائه إلى ما قبل 12 ألف سنة تقريبا، ومازالت حجارته تحتفظ بنقوش لأشخاص ونساء عاريات وحيوانات أسطورية وبرية. [gobeklitepe.info].
تعود كل تلك المعابد إلى العصر الحجري الذي لم يترك لنا نصوصا مكتوبة عن تاريخها وعقائدها، لكن النقوش تؤكد أن الوثنية بدأت بتقديس الآباء والأجداد، وهو ما يتوافق مع ما جاء في الوحي الإسلامي، حيث أشرنا في مقال “الإنسان والدين” إلى أن بداية الانحراف عن عبادة الله كانت مع إيحاء الشيطان إلى الناس بصناعة أنصاب تحمل أسماء آبائهم الصالحين دون أن تُعبد، ثم جاءت أجيال أخرى فعبدتها.
وإذا كانت بقايا المعابد الأولى لا تكشف لنا شيئاً عن مساجد يُعبد فيها الله وحده دون وثنية ولا شرك، فهذا لا يعني أن الوثنية سابقة على التوحيد والوحي بالضرورة، فليس هناك ما يمنع تاريخياً ولا عقلياً أن تكون آثار المساجد الأولى قد اندثرت أو دُمرت عمداً، وأن المعابد الوثنية التي اهتم بها الطغاة والكهنة هي التي كُتب لها البقاء.
ويرى مؤرخون مسلمون -مثل القرطبي وابن حجر وابن الجوزي- أن آدم (أول البشر) كان قد بنى بنفسه أول المعابد على الأرض، وهو المسجد الحرام في مكة، فكان بذلك سابقاً على كل المعابد الوثنية، واستندوا بذلك إلى الحديث الصحيح الذي قال فيه أبو ذر: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال صلى الله عليه وسلم “المسجد الحرام”، قال ثم أي؟ قال “المسجد الأقصى”، قال كم كان بينهما؟ قال “أربعون سنة” [البخاري: 3366، ومسلم: 520]. لكن أثر المسجد الحرام اندثر عدة أجيال، حتى أرشد الوحي إبراهيم إلى مكانه فأعاد بناءه.
قائمة ملوك سومر
بلاد الرافدين بالعودة إلى بلاد الرافدين (العراق) التي ينسب إليها التاريخ المدوَّن أول الحضارات البشرية، نجد لوحا طينيا يدعى “قائمة ملوك سومر” وهو يقول إن أول الملوك بعد الطوفان كان يسمى “جشور”، وهو الذي أنشأ مدينة كيش (تل الأحيمر حالياً) في منطقة بين دجلة والفرات، لكن الباحث العراقي خزعل الماجدي يقول في كتابه “أصول الناصورائية المندائية في آريدو وسومر” إن الناصورائيين (المندائيين) أسّسوا أول مدينة في التاريخ وهي إريدو (تل أبو شهرين حالياً)، وهناك ظهر أول معبد في التاريخ (أي بعد العصر الحجري)، وكان لعبادة الإله (إيا)، ونجد في كتاب المندائيين المقدس “الكتاب العظيم” أن صفاته لا تكاد تختلف عن صفات الله المذكور في القرآن، ومنها على سبيل المثال العظيم، القديم، ملك النور، رب العوالم قاطبة، ذو الحول الشامل، الرؤوف التواب، الغفور الرحيم، العزيز الحكيم، البصير، الذي على كل شيء قدير. لكن السومريين الذين ورثوا مدينة إريدو لاحقاً حوّلوا هذا الإله إلى “إنكي”، والذي يجسد إبليس نفسه كما سنرى.
لا نجد في “قائمة ملوك سومر” اسم النمرود، إلا أنه ورد في نصوص أخرى، وأهمها الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل المتبقيان اليوم) الذي يقول إنه ابن كوش بن حام بن نوح، ويضيف أنه أول من أسس مملكة في تاريخ البشرية بتأسيسه مملكة بابل، وأنه كان طاغية جبارا كافرا بالله، كما يربط التلمود (كتاب يتضمن شروح التوراة) بين النمرود والملك إمرافيل الذي كان حاكما في عصر النبي إبراهيم، وفي القصص الشعبية التي جمعها مؤرخون في العصر الإسلامي نجد توجها عاما للاعتقاد بأن النمرود هو أول جبار في الأرض وأول من ادعى الألوهية، ويقول بعضهم إنه رأى حلما أوّله الكهنة والمنجمون بأنه سيولد ولد في قومه ويكون هلاكك على يديه، فأمر بذبح كل من يولد في تلك السنة، لكن إبراهيم نجى عندما نجحت والدته في إخفائه حتى كبر وتحدى النمرود، وعندما فشل الملك في محاججته بالعقل أمر بحرق إبراهيم بالنار، لكن المعجزة اقتضت ألا تمسه النار بسوء، وهي معجزة أكدها القرآن الكريم.
بقايا بناء يقال إنه بيت إبراهيم في أور (Aziz1005)
لا يذكر القرآن أيضا اسم النمرود، إلا أنه يورد بإيجاز المحاججة بين إبراهيم وملك جبار يدعي الألوهية [سورة البقرة: 258]، كما يذكر أن إبراهيم حاجج قومه في ألوهية الشمس والقمر [سورة الأنعام: 74- 79]، وسنذكر لاحقا أن السومريين والبابليين عبدوهما تحت مسمى شمش ونانا، وقد ذكرنا في حديث نبوي سابق أن بين نوح وإبراهيم عشرة قرون (مع احتمال أن يكون معنى القرن هو الجيل وليس مئة سنة)، وهذا يوافق ما ورد في التوراة عن كون إبراهيم العاشر في شجرة النسب من جده نوح.
نستنتج مما سبق أن إبراهيم بُعث في وقت مبكر من عمر الحضارة ببلاد الرافدين التي بدأت بالتشكل بعد الطوفان، وأنه حاول إعادة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك والوثنية، وقام في سبيل ذلك برحلات طويلة انطلاقا من مدينة أور بجنوب العراق ومرورا بحرّان في جنوب تركيا ثم إلى مصر ومكة التي أعاد فيها بناء الكعبة التي بناها آدم (أول مسجد ومعبد على الإطلاق)، وانتهاء بفلسطين التي توفي فيها، حيث لم يجد سوى التحدي والصدّ من الملوك والجبابرة.
وقد تبع ظهور السومريين نشوء حضارات مماثلة في مناطق متفرقة من العراق، وهي الأكادية والبابلية والكلدانية والآشورية، وظهرت فيها جميعا أساطير وثنية على يد الكهنة المتواطئين مع الملوك وبطرق متشابهة.
بحسب القرآن الكريم، يخاطب الله المسلمين من أتباع آخر الأنبياء محمد بقوله {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج: 78]، ما يعني أن الإسلام كان ملة الأنبياء جميعا، وأن أتباع آخر الأنبياء سيشهدون على الناس يوم القيامة بأن ملة الإسلام كانت واحدة وأنها بقيت محفوظة حتى النهاية بالرغم من سعي الطغاة لتشويهها.
بالعودة إلى الأساطير التي نشأت في بلاد ما بين النهرين بعد الطوفان، نجد أن قصة الخلق وعقيدة الألوهية والإيمان بالغيبيات تختلف بحسب اختلاف المكان والزمان، وأيضا بحسب فهمنا المعاصر لما تركته تلك الحضارات من تاريخ مدون على الطين، فنجد تفسيرات وقراءات متعددة يصعب معها الجزم بما كانت عليه عقيدة العراقيين القدماء، إلا أننا نجد في تلك الأساطير نقاطا مشتركة وكأنها تقتبس من مصدر واحد، كما يبدو أن الحضارة المنتصرة كانت تضيف وتعدّل على أساطير الحضارة المندثرة، حتى وصلت إلينا أساطيرهم على هيئة تراكمية.
وبحسب الوحي الإسلامي، كان الإله الواحد موجودا وحده قبل وجود أي شيء آخر معه، ثم خلق الماء والعرش، ثم بدأ خلق الكون، ففي حديث رواه البخاري في صحيحه دخل ناس من أهل اليمن على النبي فقالوا “جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان”، فقال “كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض…”، كما تقول الآية في سورة هود {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7].
لكن المندائية أجرت كما يبدو تعديلاً طفيفاً على قصة الخلق، ففي نص التكوين من كتاب “الكنز العظيم” نجد أن الإله كان موجوداً في الأزل وكان الكون (الثمرة العظيمة) متداخلا بعضه مع بعض (الأثير بداخل الأثير)، وبأمر الإله تكونت المانات العظيمة وانتشر بريقها بما يشبه الانفجار العظيم للكون، فتكونت آلاف مؤلفة من الثمار بلا نهاية (المجرات) وملايين الملايين من المواطن بلا عدد (الكواكب)، وهذا يعني أن الكون كان موجوداً في بذرته الأولى مع الإله في الأزل وأنه تشكل لاحقاً بأمر الإله وتوسع إلى ما لا نهاية. [mandaeannetwork.com].
وإذا كان السومريون هم ورثة المندائيين -كما يقول خزعل الماجدي- فقد أجروا تعديلاً آخر، إذ يبدو أن الذي وضع أسطورة الخلق السومرية أراد تحريف رواية الوحي فدمج الإله الخالق بالماء وجعله بداية الوجود، ثم افترض أن المخلوقات انبثقت منه مباشرة عبر مراحل متتالية. وقد أثرت أسطورة الخلق هذه على معظم الأساطير اللاحقة حول العالم، لا سيما من حيث ابتكار مفهوم تعدد الآلهة، حيث لم تعد الوثنية هنا مقتصرة على تقديس أرواح الموتى كما كان في الأقوام السابقة، بل تغلغلت الوثنية إلى قصة الخلق نفسها وجعلت للإله شركاء في كل شيء.
وبإيجاز، زعم مخترع أسطورة الخلق السومرية أن الوجود كان يقتصر على حالة غير مفهومة من العماء المائي الذي يسمى “نمو”، فهناك ماء ولكنه غير متشكل وغير مادي، وفي لحظة ما انبثق عنه إله السماء المذكر “آن” وإلهة الأرض المؤنثة “كي”، ومن زواجهما نتج الإله إنليل الذي أصبح رئيس مجمع الآلهة. أما البابليون فزعموا أن البداية كانت مع الأب أبسو والأم تعامة والابن ممو، وأنهم أنجبوا سبعة من الآلهة الأقل شأنا أو أنصاف الآلهة (الأنوناكي)، الذين أنجبوا بدورهم جيلا آخر يدعى “الإيجيجي”، ثم تم خلق السماء والكواكب والأرض وبدأت حياة الحيوانات والنباتات.
تقول ملحمة أتراحاسيس، وهي نص بابلي يعود تاريخه تقريبا إلى عام 1700 ق.م، إن الأنوناكي الذين في السماء حمَّلوا عبء العمل على عاتق الإيجيجي الذين في الأرض، مثل حفر نهري دجلة والفرات وتفجير الينابيع، لكن الإيجيجي قرروا التمرد، ومنعا لاندلاع الحرب قررت الأنوناكي خلق الجنس البشري ليحمل عبء العمل عن الآلهة. [الرحمن والشيطان].
جلجامش
وتقول الأسطورة إن الإنسان خُلق من تربة الأرض الممزوجة بلحم ودم إله قتيل قُدم قرباناً لهذه الغاية، لكنه مع ذلك سيظل بحاجة إلى الآلهة، فهو يقدم لها شعائر العبادة والقرابين، كما تظل الآلهة بحاجة له في علاقة تبادلية، إلا أن الآلهة تبدو غير منصفة ولها مشيئة غير مفهومة، كما أن تصرفاتها تتسم أحيانا بالعدوانية والقسوة وغير ملتزمة بالقواعد الأخلاقية، حتى إن قصة الطوفان الذي دمر المدن الإنسانية الأولى وردت في ملحمة جلجامش وفي النص السومري المعروف باسم “هلاك مدينة أور” على أنها قرار اتخذه الإله إنليل (وهو نظير الإله البابلي أبسو) بعد أن أزعجه ضجيج البشر بسبب تكاثرهم، حيث قرر في البداية تجويعهم بالقحط والطاعون لكنهم لم يموتوا، فقرر لاحقا إغراقهم بالطوفان، وأمر إنليل الحكيم “أتراحاسيس” (وهو نوح عليه السلام) ببناء سفينة وإنقاذ أهله وما يقدر على حمله من الحيوانات، وقد توسلت إلهة أور بقوة إلى إنليل للتراجع عن قراره، ولكن دون جدوى.
ويبدو أن واضعي هذه الأسطورة أرادوا وضع البشر في مواجهة الآلهة، فزعموا أن أتراحاسيس تمكن بذكائه من إقناع الآلهة بالنجاة من الطوفان والإبادة.
وهكذا تم ابتكار الفصل بين الدين والأخلاق طالما كانت الآلهة نفسها غير أخلاقية، لا سيما وأن هناك العديد من الآلهة الشريرة التي تشبه الشياطين، كما زُرعت في نفوس الناس عقيدة تحدي الآلهة التي خلقتهم أصلا ليكونوا في خدمتها.
ومع انتفاء العدالة في هذه العقيدة لم تعد هناك حاجة للبعث والقيامة والحساب، فالأسطورة تقول إن الأفراد ينالون ثوابهم وعقابهم في الدنيا فقط، مع أنهم يرون بأعينهم أن العدالة غير متحققة في الدنيا، لذا لم يكن المرء يرى لنفسه قيمة أعلى من البهيمة سوى في درجة الوعي، كما أن انتفاء مفهوم الخلاص والمحاسبة والعدالة أدى إلى سقوط القيَم بالجملة، وإلى عدم جدوى التفكير في الغاية من الوجود وقيمة الحرية والاختيار وجوهر الإنسانية.
وبالرغم من التعددية الواضحة في هذه الأساطير، نجد في التراتيل السومرية والبابلية والأكادية أن الأصل ينبع من الإيمان بإله واحد أعظم، ففي مدينية أوروك (الوركاء حاليا) كان الإله “آن” هو الإله الأعلى، ثم انتصرت عليها مدينة نيبور فأصبح ابنه إنليل هو الإله الرئيسي الذي لا شريك له، أما بقية الأنوناكي الذين يشكلون آلهة المجمع السماوي فليسوا أكثر من مجمع ملائكة وقديسين.
إنكي
وفي مقابل استعلاء آن وإنليل، قرر السحرة أن يرفعوا من مكانة إله آخر نجد فيه شبها كبيرا بإبليس، وهو “إنكي” الذي كان من الأنوناكي وأصبح إله العالم السفلي، فجعلوا منه إلهًا أقرب إلى البشر، وقالوا إنه كان يعلم جميع الأسرار التي أخفتها الآلهة فقرر أن يكشفها للإنسان الأول، لا سيما بعد أن اكتشف خطط الآلهة التي أرادت حرمان البشر من المعرفة، لذا كان الناس يعودون إليه ليستوضحوه بعض الأسرار، وهي ليست سوى خليط من علوم الهندسة والطب والرياضيات مع فنون السحر والتنجيم والشعوذة، فمنذ ذلك العصر القديم اختلطت العلوم بالسحر واحتكرها السحرة والكهنة. وباتت مدينة إريدو بجنوب العراق المركز الرئيسي لعبادته، كما جعلوا ابنه مردوخ رئيس مجمع الآلهة في بابل التي سيطرت على معظم بلاد ما بين النهرين وصارت العاصمة الكبرى للمنطقة.
عشتار
في الوقت نفسه، رفعت شعوب عراقية أخرى آلهتها إلى مستوى إنليل، كما فعل كهنة ربة القمر إنانا التي كانت تُعبد في كل معابد المدن السومرية، وقدّس آخرون كوكب الزهرة وأعطوه اسما أنثويا هو عشتار (فينوس)، ومن بين التراتيل البابلية الموجهة إليها نقرأ هذا الاستهلال “إليك أرفع صلاتي يا ربّة الربّات ويا إلهة الإلهات.. يا عشتار، يا ربّة البشر أجمعين ومسدِّدة خطاهم..”.
هناك أيضا تراتيل أخرى تعود إلى الدولة الأكادية تسمي الإله الأعلى بإله القمر نانا، وهو الإله الواحد الذي يجمع بين يديه كل صلاحيات الآلهة الأخرى، وهو “الذي أنجب نفسه بنفسه”، أي لم يوجده أحد. وفي إحدى الصلوات الآشورية تُوجه العبادة إلى إله الشمس “شمش”، وهو يمتلك بدوره كل الصفات التي تُطلق على الإله الواحد في الحضارات العراقية المختلفة.
إذن فهناك من تمسك بعبادة إله أعظم مطلق الصفات ولديه آلهة تساعده أقل شأنا تشبه الملائكة، وهناك من رفع الشيطان (إله العالم السفلي) إلى مرتبة الإله الأعلى وجعل من حوله أيضا آلهة تساعده، لكن سلطة الكهنوت في كل حضارة كانت تعيد صياغة الدين وتربطه بإحدى المظاهر الكونية كالكواكب والنجوم لتشخيص وتجسيد العوالم الغيبية (الميتافيزيقية)، ثم تربط تلك الآلهة المشخصة بالقوم والوطن حتى تختلط مفاهيم الدين والقومية والوطنية وتنصهر في بوتقة واحدة، فيُنزع عن الإله جزء من عظمته ويُضاف إلى الملوك والكهنة جزء من القداسة، ويصبح الولاء للملك والكهنة والدولة جزءا من الإيمان بالإله.
وعليه، نجد أن مفهوم الوثنية ارتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة، حيث لم يظهر “مجمّع الآلهة” (البانثيون) pantheon في عالم الأديان والأساطير إلا بعد ترسيخ السلطة المدنية في دويلات المدن البشرية الأولى التي توسعت لتشمل القرى والأرياف ثم الدويلات المدنية الصغيرة الأضعف لتصبح كلها تحت سلطة مدينة (عاصمة) واحدة، إذ يبدو أن حلف السلطة الملكية مع الكهنوت ابتكر مفهوم مجمع الآلهة لتوحيد المجتمعات الصغيرة المتفرقة تحت لواء العاصمة، فيكون لكل إقليم إلهه الخاص الذي يمثله في مجمع الآلهة (الاتحادي) الذي يسوده الإله الواحد صاحب السلطة المطلقة. لكن مفهوم الإله الواحد (التوحيد) كان سابقا على تعددية الآلهة (الشرك)، وتجريد الإله وتنزيهه كان مقدما أيضا على تشخيصه وتجسيده في الأوثان والصور.
يقول الباحث ستيفن لانغدن في مقال بعنوان “الأسكتلندي” إن تتبع نقوش الحضارة السومرية يثبت وجود التوحيد أصلا عندهم، وإن أقدم النقوش والآثار التي بين أيدينا تشير بقوة إلى اعتناقهم توحيدا “بدائيا”، وإن ادعاء نشوء الدين اليهودي (الذي يعتبر لدى الغرب أصل الأديان التوحيدية) من أصل طوطمي (وثني) هو ادعاء كاذب. [The Scotsman, 18 November 1936].
الوثنية في الشام تبدو أساطير بلاد الهلال الخصيب مستنسخة بعضها من بعض، وكأنها انتقلت من بلاد سومر إلى الكلدانيين والبابليين وصولا إلى الكنعانيين والآراميين والفينيقيين في سورية ولبنان وفلسطين، إلا أن واضعي تلك الأساطير كانوا يعيدون صياغتها بمنظورهم الخاص ليصبح أكثر مواءمة مع البيئة المحلية.
تمثال بعل مكتشف في أوغاريت
يُعتقد أن الكنعانيين هم أول الشعوب التي سكنت سورية، وأن مملكة إيبلا تزامنت مع وجود حضارة سومر العراقية، وكانت عاصمة إيبلا في إدلب بينما امتد نفوذها على معظم أراضي سورية الحالية، ويُعتقد أن تاريخها المكتوب بدأ في العام 3100 قبل الميلاد. وبحسب لوح طيني اكتشفته البعثة الإيطالية في أوائل الثمانينات فقد كان الكنعانيون الأوائل يعبدون إلها واحدا هو خالق كل شيء، إذ يقول الابتهال في اللوح المكتشف “رب السماوات والأرض، أنت… من خلقتها، لم تكن بعد قد صيَّرتَ الضوء في الوجود، أنت لم تضع الشمس بل خلقتها”.
لا يكشف النص السابق متى ظهر الشرك (تعدد الآلهة) في تلك المنطقة، لكن الألواح المكتشفة في ممالك ماري وإيبلا وأوغاريت تشير إلى وجود مجمع للآلهة (بانثيون) على شاكلة المجمع الأسطوري الذي وُجد في بلاد الرافدين. وكان على رأس الآلهة “إيل”، ثم يليه بعل أو حَدد الذي نُسب إليه المطر والسحاب والصواعق فكانوا يتوسلون إليه للحصول على مواسم زراعة جيدة، أما الإله “موت” فكان في مقابل بعل لكونه إله الجفاف والعالم السفلي.
كما عبد الكنعانيون “عشيرة” أو “إيلات” زوجة إيل، وعناة (التي تقابل عشتار أو عشتارت في بابل) وهي زوجة بعل، وأما إلهة الشمس فتسمى شبش وهي تقابل شمش في بابل. ويمكن للباحث المتعمق أن يكتشف التشابه الكبير بين الأساطير الكنعانية والفينيقية وبين سابقتها السومرية والأكادية والبابلية، كما يظهر أيضا أثر الأساطير السورية على ما ظهر لاحقا في بلاد الإغريق.
الوثنيات المصرية بحسب كتاب نديم السيار “المصريون القدماء أول الحنفاء”، والذي يتضمن الكثير من الوثائق والصور، فقد تعلم المصريون الأوائل عبادة الإله الواحد من نبيهم هرمس (إدريس حسب أحد الأقوال)، وكانت الصلاة لديهم الركن الثاني بعد الشهادة، وكانوا يصلون خمس مرات في اليوم، ويُشترط لصحة صلاتهم التطهر وستر العورة واستقبال القبلة في الجنوب، كما تتضمن الطهارة لديهم غسل أعضاء الوضوء كما هو متبع اليوم في الإسلام بالضبط، بل إن نواقض الوضوء لديهم هي ذاتها المعروفة لدى المسلمين.
وبحسب تعاليم هرمس (إدريس) في مصر، كان هناك منادٍ ينادي للصلاة كما يفعل المؤذن، وقد أوردت الدكتورة هدى درويش في كتابها “نبي الله إدريس” تفاصيل التطابق بين صلاة أتباع إدريس وصلاة المسلمين اليوم، وذكرت أنهم عرفوا التسبيح وصلاة الجنازة وصلاة العيد وتقديم الأضاحي قبل الخروج للصلاة في العيد، كما أكد ابن العبري والقفطي أن إدريس أمر قومه بالزكاة، وأنه أمرهم أيضا بالصيام عن الطعام والشراب وإتيان النساء، ونقل السيوطي عن طائفة الصابئة المندائية (التي ما زالت تعيش في العراق) اعتقادهم بأن إدريس هو الذي بنى الكعبة في مكة وأنه كان يحج إليها هو ومن بعد من الأنبياء، إلى أن اندثرت فأعاد إبراهيم بناءها.
تؤكد د. هدى درويش أن ديانة النبي إدريس التوحيدية انحدرت لاحقا على أيدي الكهنة المصريين الذين جعلوا تعاليمه سرية حتى اندثرت وغابت عن عوام الناس، ثم نصبوا آمون إلها يُعبد بعد أن كان رمزا للشمس فقط، فأصبحت الوثنية المصرية بذلك أساسا للوثنيات الكلدانية والفارسية والإغريقية والرومانية، قبل ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام.
منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن
ومع تشوه رسالة إدريس، أعاد الوثنيون المصريون تقديمه في صورة إله أو حكيم يحمل صفات إلهية اسمه “تحوت” Thot (وقد يكتب أحيانا توت أو طوط)، وظهر في الرسوم الجدارية برأس طائر أبو منجل وهو يحمل لوح كتابة ويدوّن نتائج وزن أعمال الأموات في الحساب الأخروي داخل قاعة أوزيريس، وهذه الصورة انتقلت رمزيا إلى المحافل الماسونية لاحقا. ومن الملفت أن نجد لدى القبالاه اليهودية فكرة رفع إدريس إلى السماء ومنحه درجة الملائكة تحت اسم “مطاطرون” ليصبح مسؤولا عن محاسبة الناس في الآخرة، وقد ناقش المفسرون المسلمون احتمال أن يكون النبي إدريس قد رُفع فعلا إلى السماء (معراج) تكريما له حيث يقول عنه القرآن الكريم “ورفعناه مكانا عليا”، ومن المحتمل أن يكون قد رُفع بالفعل لكن الأساطير أعادت صياغة هذا الرفع لتمنحه درجات الآلهة والملائكة.
تُنسب إلى هرمس أيضا مجموعة مخطوطات تدعى “متون هرمس”، يُعتقد أنها كُتبت في مصر، أو في اليونان بعد الميلاد، ومع أنها تتضمن عقيدة التوحيد إلا أنها تضع أيضا أصول الفكر الباطني (الغنوصي)، وقد نُسبت إلى هرمس لاحقا آلاف الكتب المليئة بالفكر الباطني والسحر وشتى أنواع العلوم، لكن التشابه بين أجزاء من تلك الكتب وبين عقيدة التوحيد الواردة في الكتب السماوية يشير إلى أن هناك أصلا واحدا.
على سبيل المثال، يسمى المتن الثاني من متون هرمس باسم بويماندريس Poimandres، ويطلق عليه أيضا اسم “سفر الرؤيا” فهو يتحدث عن نشأة الكون وخبايا الروح الإنسانية من وجهة نظر فرعونية، ويشبّهه بعض الباحثين بسفر التكوين في التوراة الذي يتحدث عن خلق العالم، ومع أن الكتاب يتضمن رؤية فرعونية باطنية وثنية للكون والخلق والإله، لكن أثر الوحي واضح فيه، وكأنه يحكي قصة نزول الملاك على النبي إدريس عندما اختاره الله نبيا، ليبدأ بتعليمه أسرار الكون.
يقول الكتاب إن هرمس كان يتأمل منعزلا في مكان مقفر بين الصخور، فظهر له كائن رهيب يسميه بالتنين العظيم وهو باسط أجنحته في الأفق والنور يشع منه، فنادى التنين العظيم هرمس باسمه وسأله عن سبب عزلته، ومع أن هرمس فزع من منظر هذا المخلوق فقد توسل إليه أن يكشف له أسرار العالم، فعُرج به إلى عالم نوراني لا مادي، وتلقى من الإله بويماندريس قصة الخلق التي بدأت بكلمة مقدسة فاضت عن النور، وهبطت على الماء ليتشكل منها عمود عظيم، ثم انبثق منها النار والهواء, ثم تم فصل ماء النور عن ماء الظلمة, وتشكلت بذلك العوالم العلوية والعوالم السفلية. ومن الملفت أن هذه القصة تشبه تماما مطلع سفر التكوين الذي يقول “في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة”.
وبعد جلاء الأصل التوحيدي لهذه العقيدة في “سفر الرؤيا”، نجد أثر التدخل الفلسفي الذي يحرفها باتجاه الغنوصية بوضوح، وفي النهاية يطلب بويماندريس من هرمس أن يعود إلى الأرض ويكون رسوله إلى الناس فيقول “آمرك بأن تنطلق وتكون هادياً لأولئك الذين يهيمون في الظلمة, لكل البشر الذين تكمن في دواخلهم روح العقل الكوني لعلهم ينجون مهتدين بعقلي الكامن فيك”. وهنا يعود هرمس إلى العالم المادي ويبدأ بنشر “الحقيقة” فيسخر منه معظم الناس، ثم يستأمن تلاميذه وأنصاره على الأسرار في هذا الكتاب لتصل إلى كل الأجيال اللاحقة.
وهكذا نرى أن تعاليم هرمس وعباداته تتشابه كثيرا مع ما جاء به نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، كما تتقاطع في بعض جوانبها مع ما ينسب إلى النبيين موسى وعيسى، ما يدل على التأثر والاقتباس، وسيتضح لنا في مقالات أخرى أن الوحي السماوي واحد ومنبعه واحد، وأن التحريفات التي طرأت عليه كانت تقتبس وتتأثر بأساطير سابقة.
“يلد ولم يولد، ينجب ولم ينجبه أحد.
خالق ولم يخلقه أحد، صنع نفسه بنفسه.
هو الوجود بذاته، لا يزيد ولا ينقص.
خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون”. جزء من ترتيلة مصرية تصف الإله الواحد، أوردها واليس بدج في كتاب “أوزيريس والبعث المصري”.
منذ مطلع القرن العشرين، تخصص الباحث البريطاني واليس بَدْج في دراسة معتقدات قدماء المصريين، واستنتج أنهم كانوا يؤمنون بإله واحد موجود بذاته، وأنه خفيّ، أبدي وأزلي، مطلق القدرة والعلم، لا تدركه العقول، وهو خالق الكون والقائم عليه، وأنه خلق كائنات روحانية لإيصال رسالته إلى خلقه ومساعدته في تصريف شؤون الكون، ورأى “بدج” أن المصريين الأوائل لم يشخصوا إلههم ولم يجسدوه في التماثيل والصور، لكن الملائكة التي كانت تساعده اكتسبت بعض صفات الألوهية مع أنها مخلوقة.
عائلة الآلهة المصرية (JeffDahl)
ابتدأت الحضارة عموما في مصر قبل سبعة آلاف سنة تقريبا، لكن تاريخها الأول مجهول لعدم تدوينه، فلا نعرف الكثير عن عقائدها الأولى وما زال هناك خلاف كبير بين من يرى أنهم كانوا موحدين ومن يرى أنهم عبدوا الحيوانات أو أنهم تخيلوا الآلهة كالبشر من البداية، لكن المؤكد أن التاريخ المدون ابتدأ مع ما يسمى بعصر الأسرات (السلالات الحاكمة) عبر توحيد البلاد المصرية على يد الملك مينا (نارمر) قبل الميلاد بنحو 3100 سنة.
وإذا صحت نظرية “بدج” فقد نُزعت القدسية عن الإله الواحد بالتدريج، فبعد أن أشركوا معه ملائكته، وبعد أن نُسي الإله وعُبدت الآلهة التي تشبه البشر في أهوائها وتعرضها للمرض والموت، صار لكل مدينة وبلدة في مصر إلهها الخاص، ووضع الكهنة عقائدهم الخاصة بما يوائم الظروف ومصالح الطبقة الحاكمة، لكن بعض الآلهة الإقليمية خرج من دائرته الضيقة واكتسب صلاحيات آلهة أخرى حتى صار تجسيداً للألوهة المطلقة، مثل تيمو إله هليوبوليس، وبتاح إله ممفيس، وآمون إله طيبة. وبالرغم من كثرة الآلهة التي بلغ عددها الآلاف، فقد أكد العلامة الفرنسي جون فرانسوا شامبليون في القرن التاسع عشر أن “الدين المصري يقوم على معتقد توحيدي صافٍ، يعبر عن نفسه خارجياً بصيغ شِركية تعددية”.
يُعتقد أن الميثولوجيا الوثنية التي طرأت على المجتمع المصري كانت مستوردة في أصولها من العراق والشام، ويبدو أن هناك عدة روايات أسطورية لبداية الخلق في مصر، إلا أن أشهرها يفترض انبثاق الكون من كائن أولي غير محدد الملامح ويدعى “نون”، وهو ماء الأزل (يذكرنا بأساطير بلاد الرافدين)، تولدت عنه الشمس المتمثلة بالإله “رع” بطريقة مجهولة، وما إن أشرقت أشعة الشمس على الخواء حتى بدأ الكون بالتشكل، كما انبثق عن نون أبو الآلهة “آتوم” الذي نتجت عنه العائلة الأساسية كما في معظم الأساطير السابقة واللاحقة، وبما أن آتوم لم تكن له زوجة فقد استمنى لينتج عنه “شو” وأخته “تفنوت”، ثم تزوج الأخوان وأنجبا رب الأرض “جب” وربة السماء “نوت”، اللذين أنجبا بدورهما أربعة أبناء، ثم بدأ الصراع بين الإخوة الأربعة عندما غار الإله الشرير ست من أخيه أوزوريس وقتله، فعملت الأخت إيزيس على إعادة تجميع أشلاء حبيبها وأخيها القتيل بمساعدة أختهما نفتيس ورب الموتى أنوبيس، وأعاد رع الحياة لأوزوريس الذي أنجب من أخته إيزيس طفلا يسمى حورس، فخبأته الأم في مستنقعات الدلتا وتركته في عهدة الإلهة حتحور (على هيئة بقرة) حتى كبر، ثم عاد وانتقم من عمه ست، وهكذا أصبحت السيادة لحورس المتجسد في هيئة صقر، بينما هبط والده أوزوريس إلى عالم الموتى ليصبح إلهه السفلي.
شو في الوسط يرفع نوت (السماء) بينما يتمدد جب (الأرض)
لم تظهر أسطورة الصراع بين الآلهة إلا في عصر الأهرامات (حوالي 2600 قبل الميلاد) عندما احتاج الفراعنة لملحمة درامية على شاكلة ملاحم الإمبراطوريات المجاورة، وقد زعموا الاتحاد بالإله حورس الذي يحرس مصر كالصقر، واتخذوا من عينه شعارا مازال حاضرا في الوثنيات المعاصرة والحركات السرية، ثم زعم بعض الفراعنة أنهم أبناء “رع” المتمثل بالشمس.
أخناتون ونفرتيتي تباركهما الشمس
بعد نحو ألف سنة اندمج مع رع إله محلي كان يُعبد في مدينة طيبة واسمه “آمون”، ثم حاول الفرعون أمنحوتب الرابع (توفي عام 1334ق.م. تقريبا) نبذ الشرك وعبادة إله واحد، فغيّر اسم آمون إلى “أتون” واتخذ لنفسه اسم “أخناتون”، ومحى ملامح تعدد الآلهة الوثنية من المعابد، لكن كهنة آمون لم يسمحوا لهذه العقيدة بالبقاء، وأجبروا ابنه الصغير الذي خلفه “سمنخ كا رع” على العودة إلى عبادة الآلهة المتعددة، ثم توفي في ظروف غامضة بعد ثلاث سنين وخلفه أخوه “توت عنخ أتون” الذي كان عمره 9 سنوات، حيث أجبره الكهنة أيضا على الشرك وتغيير اسمه إلى “توت عنخ آمون”، ومُسح اسم أتون من كل المعابد، ثم توفي الفرعون الصغير في سن الثامنة عشرة في ظروف أكثر غموضا من وفاة أخيه، حيث يعتقد الكثيرون أنه قُتل وأن وزراءه الذين خلفوه في الحكم طمسوا الكثير من الأدلة.
بما أن الملوك اللاحقين طمسوا تاريخ أخناتون فلا ندري بالضبط ما إذا كان قد عبد الإله الواحد المنزه عن التمثيل والتجسيد الذي دعا إليه الأنبياء، أم أنه حاول فقط توحيد العبادة لرب واحد متمثل بالشمس، إلا أننا نعلم أن النبي موسى عليه السلام بُعث إلى أحد الفراعنة لدعوته إلى التخلي عن تأليه نفسه وعن استعباد قومه والسماح لبني إسرائيل بالخروج من مصر. وبحسب الكتاب المقدس فإن موسى نشأ في كنف أحد الفراعنة ثم عاد لدعوة ابنه الذي خلفه قبل أن يموت غرقا في خليج السويس أثناء المطاردة، ويُعتقد أن الأول هو رمسيس الثاني وأن ابنه هو مرنبتاح (توفي عام 1203 ق.م)، بينما لا يذكر القرآن الكريم سوى فرعون واحد، ومازال الخلاف قائما بشأن هويته، حيث يؤكد باحثون أن مومياءه تكشف عن وفاة طبيعية وأن آثاره تحكي عن غزوه لبلاد بني إسرائيل وانتصاره عليهم. ولم تترك المدونات المصرية أي ذكر لموسى ولخروج بني إسرائيل وهزيمة الفرعون بمقتله غرقا، إذ يبدو أن هذه النكبة التي حلت بمؤسسة السلطة والكهنوت قد طُمست كما طمست القصة الحقيقية لأخناتون، وأن الوثنية ظلت قائمة في مصر بعد خروج موسى وقومه إلى فلسطين دون أن تبقي على أثر يُذكر للوحي والتوحيد.
“وإني أرجح أن كثيرًا من فلسفة الأقدمين في مصر والصين والهند هي بقايا نبوات نسيها التاريخ فحُشر أصحابها في عداد الفلاسفة، ولعلهم من الرسل أو أتباع الرسل”. [نديم الجسر، قصة الإيمان، ص35].
رسم تخيلي لزرادشت من القرن الثالث الميلادي
الزرادشتية والمجوسية في القرن السادس قبل الميلاد (على الأرجح)، ظهر في شمال إيران زرادشت الذي تتقاطع الكثير من تعاليمه مع عقائد الأنبياء كما نجدها اليوم في الإسلام. وتقول الروايات التاريخية التي دخلت فيها الكثير من الأساطير والتحريفات إن ولادته ترافقت بسلسلة من المعجزات، فاختبأ الشيطان خوفا من ظهوره المنتظر، وعندما أصبح شابا حاول الشيطان إغراءه بمنحه سلطة على الأرض مقابل تخليه عن الرسالة الدينية فلم يقبل، وتقول الروايات أيضا أن زرادشت كان كاهنا على دين قومه، ثم انشق عنهم ونزل عليه وحي النبوة في سن الثلاثين عن طريق أحد الملائكة، حيث عرج به إلى السماء للقاء الإله “أهورا مزدا”.
تنص هذه الديانة على أن الإله لم يكن سواه في الوجود، فاختار أن يخلق روحين توأمين هما سبينتا ماينيو وأنغرا ماينيو، ومنحهما حرية الاختيار، فاختار الأول الخير ودُعي بالروح القدس، واختار الثاني الشر ودُعي بالروح الخبيث، ثم بدأ الصراع بينهما، ومع أن الإله كان قادراً على سحق أنجرا ماينيو إلا أنه آثر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره، فخلق ستة كائنات روحانية قدسية تدعى “الأميشا سبينتا” أي الخالدون المقدسون ليدعموا الروح القدس، وذلك عن طريق “الفيض” من نوره، كما تقتبس الشمعة نورها من المشعل، وبالفيض أيضا أوجدت هذه الكائنات كائنات طيبة أخرى هي “الآهوريون”، بينما أخرج أنغرا ماينيو إلى الوجود كائنات روحانية متفوقة اسمها “ديفا” لمساعدته في التخريب، وهكذا تشكلت الملائكة والشياطين قبل خلق العالم المادي.
وكان أهورا مزدا يعلم أن القضاء على الشيطان أنغرا ماينيو وأتباعه لن يتيسر قبل خلق العالم المادي، فخلق هذا العالم ليكون ساحة الصراع، وذلك على ست مراحل زمنية، ثم أوجد آدم “ماشيا” وحواء “ماشو”، وبدأ الصراع بين بني آدم والشيطان، وسينتهي في آخر الزمان بدحر الشيطان وسيادة الخير على العالم بعد ظهور المخلّص المنتظر “ساوشيانط”.
ونصّت الزرادشتية على أن الإنسان يُحاسب بعد ثلاثة أيام من موته، فتوزن أعماله بالميزان، ويتم امتحانه بالعبور على صراط المصير، وهو جسر يتسع ويضيق بحسب أعمال الشخص فإما أن يتيح له الوصول إلى الجنة أو يلقي به في الجحيم.
وعلى صعيد العبادات، تتضمن النصوص القديمة الصلاة خمس مرات في اليوم، وتسبقها عملية تنظيف تشبه الوضوء، تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين، وهي تبدأ بالوقوف في حضرة الإله وتلاوة مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا القديمة المنسوبة إلى زرادشت. وتنقل تلك النصوص عن زرادشت أن الصلاة تقام في أي مكان طاهر دون اشتراط وجود المعبد، وقد شدد كثيرا على طهارة الجسد والملابس، كما منع زرادشت صنع الصور والتماثيل للإله والملائكة.
ويشاع عن هذه الديانة أنها تعبد النار لذاتها، لكن تقديسهم لها لا يزيد عن اتخاذها رمزًا للإله، وفي عصور لاحقة شُيدت المعابد المليئة بالصور والتماثيل، وزودت بمواقد للنار المقدسة.
ومع توالي هذه التغييرات على الديانة في ظل الإمبراطورية الأخمينية، نشأت طبقة الكهنة المتفرغين لطقوس النار الذين عُرفوا باسم “موغان” ومفردها “موغ”، وهو مصطلح كان يُطلق على الكهنة في الأديان الفارسية السابقة لدى القبائل الميديّة، لكن الكهنة الزرادشتيين أصبحوا أكثر سلطة وتنظيما في العصر الأخميني، ثم ازدادت سيطرتهم في عصر الدولة الساسانية اللاحقة.
ومن هنا جاء مصطلح “المجوس” الذي تداوله العرب للدلالة على الكهنة “الموغان”، حتى نُسبت الديانة إليهم فسُميت بالمجوسية. كما اشتق الأوروبيون من هذه الكلمة مصطلح “ماجيك” magic باللاتينية، والتي تعني السحر، نظرا للإرث السحري القديم للكهانة الفارسية.
معبد النار في باكو عاصمة أذربيجان (السبيل)
أدخلت طبقة الكهنة الجدد (المجوس) على النصوص الزرادشتية القديمة (أناشيد الغاثا) شروحهم الخاصة التي جُمعت تحت اسم الأفيستا؛ ثم ظهرت شروح إضافية جُمعت في كتاب “زند أفيستا”، وانتهى الحال بالزرادشتية التوحيدية إلى المجوسية المثنوية (الثنائية) التي جعلت الشيطان ندًا للإله.
وفي القرن الثاني بعد الميلاد، كان مذهب الزورفانية قد أصبح مسيطرا في ظل الدولة الساسانية، وبتأثير من عوامل يونانية وبابلية قديمة -كما يرى بعض المؤرخين- أعيد تشكيل العقيدة الزرادشتية ليصبح الزمن اللامتناهي “زورفان أكاناراك” هو الأصل، ويُعدَّل اسم أهورا مزدا إلى أوهرامَزد، ويُبتكر إلهٌ جديد للشر اسمه “أهريمان” بدلا من أنغرا ماينيو، وهكذا زعم المجوس الجدد أن أهريمان وأوهرامَزد توأمين أزليين، وذلك بعدما كان الشيطان أنغرا ماينيو إلهًا حادثًا لا أزليًّا وموازيًا لإله الخير سبينتا ماينيو، وأصبحت هذه العقيدة هي الدين الرسمي للدولة الساسانية، كما تم ربطها بالقومية الفارسية بعد أن كانت ديانة عالمية تسعى لهداية كل البشر.
وبما أن التراث الأصلي لزرادشت لم يُحفظ دون تشويه وتحريف، فلا يمكن الجزم بما كان يدعو إليه، بل إن بعض المؤرخين يشككون في وجوده ويعتبرونه مجرد شخصية أسطورية نُسبت إليها الكثير من التعاليم، لكننا لا نستبعد أن يكون نبيا حقيقيا أوحي إليه كما أوحي إلى الأنبياء على مر العصور، لا سيما أن الكثير من تعاليمه وعباداته وتفاصيل عقيدته في الخلق والموت والبعث تتشابه مع ما جاء به آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
منحوتة تصور الملك الساساني أردشير على حصانه وهو يطأ خصمه أردافان وينال البركة من أهورا مازدا الذي يطأ بحصانه خصمه أهريمان (MiladVandaee)
ومن المعروف أيضا أن الكثير من اليهود الذين أسرهم الملك البابلي نبوخذ نصر قد انتقلوا إلى بلاد فارس وحملوا معهم شيئا من آثار الوحي (التوراة)، فحدث بذلك نوع من التداخل بين الثقافتين.
كما نقلت كتب الحديث عن العديد من الصحابة بأسانيد صحيحة أنهم عندما فتحوا مدينة “تستر” الفارسية في عهد عمر بن الخطاب وجدوا جثة النبي دانيال الذي كان معاصرا لنبوخذ نصر عندما أسر بني إسرائيل مع نبيهم إلى بلاد العراق وفارس، حيث تُركت جثته محفوظة طوال تلك المدة ليتبرك بها الناس حتى دفنه الصحابة. [مصنف ابن أبي شيبة (7/ 4)].
وفي رواية للبيهقي في كتاب “دلائل النبوة” عن خالد بن دينار أنهم وجدوا عند رأس دانيال كتابا، فترجمه كعب بن مالك إلى العربية بأمر من عمر بن الخطاب، ووجدوا فيه وحيا سماويا يشبه القرآن الكريم، فكان يتضمن نبوءات عديدة مما جرى لاحقا بالفعل وخصوصا نبوة عيسى ومحمد. [دلائل النبوة: (1/ 381)].
أما ما يردّده المنصّرون في العصر الحديث عن اقتباس المسلمين من التراث الزرادشتي قصة صعود المخلّص الزرادشتي ويراذ إلى السماء، واعتبارها أصلا لقصة معراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فيُردّ على هذه المزاعم بأن القصة وردت في “نصوص أردا ويراذ ناماك” التي تعود إلى القرنين التاسع والعاشر الميلادي، أي بعد فتح بلاد فارس على يد المسلمين واندثار المملكة الساسانية، فالظاهر أن من بقي من الكهنة المجوس هم الذين اقتبسوا القصة من المسلمين وليس العكس، لذا نجد تطابقًا في بعض التفاصيل التي قيل إن ويراذ رآها في رحلته عند مقارنتها بما تحدث عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وبالرغم من التشويه الكبير الذي طرأ على الزرادشتية، فقد تركت آثارًا من الوحي السماوي في أديان ومعتقدات شعوب كثيرة في المنطقة وساهمت في تخليصها من عقائد تتناقض مع التوحيد، ونقتبس من كتاب “الرحمن والشيطان” لفراس سواح أهم هذه الآثار، كما يلي:
1- توحيد الإله وتنزيهه عن المخلوقات، وذلك وفق عقيدة أكثر وضوحا وتقديسا من الأديان الشرقية الأخرى.
2- كانت أديان العراق والشام تنظر للزمان على أنه مفتوح لانهائي، وكانت أديان الهند وشرق آسيا تقول إن الزمان يدور في حلقات، فالعالم يفنى في كل مرحلة من مراحل الزمن بكارثة كونية ثم يعود من جديد بدورة زمنية أخرى، لكن الزرادشتية أعادت للتاريخ معناه وغايته بحيث ينطلق من بداية الخلق ويتطور من خلال صراع الخير والشر قبل أن ينتهي وفقا لرؤية محددة مسبقا لآخر الزمان وقيام الساعة، وعندها تُبعث الأجساد من الموت ويبدأ زمن سرمدي جديد في عالم الآخرة.
3- التاريخ ينتهي بظهور المخلِّص، وهو إنسان طبيعي يولد من أبوين بشريين لكن ميلاده يحدث بمعجزة، وهو الذي سيقود الأشخاص الصالحين في آخر الزمان للانتصار على الشر.
4- لم تعد العبادات مجرد وسيلة للخضوع للإله، بل تهدف إلى تربية الإنسان وتنمية أخلاقه، ولم تعد الأخلاق مجرد سلوك نفعي “براغماتي” لتحقيق المصلحة بل هي قيمة ناجزة وطبيعة كامنة في الوجود لأن الإله نفسه إله أخلاقي كامل الأوصاف.
5- كان الإنسان في ديانات الشرق القديم يسعى إلى موافقة مشيئة الآلهة في حياة لا معنى لها، كما كان هدف الإنسان في شرق آسيا هو فهم العالم والتناغم معه فهو غير قادر على إصلاحه لأنه يسير وفق قوانين ثابتة في دورة حتمية، أما الزرادشتية فأعادت مفهوم الوحي السماوي القائل بأن العالم قابل للإصلاح، وأن الإنسان هو الذي يحمل هذه المسؤولية.
6- أعادت الزرادشتية للشيطان دوره وحجمه الطبيعي، فهو ليس إلهاً أزلياً ولا خالداً بالرغم من تحديه للإله، وسيكون مصيره خائبا في النهاية، وهو أصل كل الشرور في الوجود.
7- الإنسان يتمتع بالوعي ويتميز عن الكائنات الأخرى بحرية الاختيار دون جبر. وحريته هذه تستدعي المسؤولية والمحاسبة.
ومع أن بعض الأديان في مصر والمشرق آمنت بالحساب بعد الموت ثم بذهاب الأرواح إلى جنة أو جحيم، فهي لم تؤمن بيوم القيامة الذي ينتهي فيه الزمان الدنيوي ويبدأ زمان جديد مختلف جذريا، على خلاف الزرادشتية التي قالت إن الأرواح ستعود إلى الأجساد بعد البعث وستعيش في عالم أبدي ينقسم بين جنة وجحيم.
الوثنية اليونانية (الإغريقية) تعود أصول الأساطير الوثنية اليونانية إلى الشاعر هوميروس الذي وضع ملحمتي “الإلياذة” و”الأوديسا”، وهناك من يشكك في وجود هذا الرجل أصلا ويرى أن أساطيره وضعت على يد جهة مجهولة ونسبت إلى شخص خيالي، وحتى في حال وجوده فهناك تضارب كبير بشأن الزمن الذي عاصره، لكن الأرجح أنه عاش (إن كان حقيقيا) ما بين عامي 1100 و850 قبل الميلاد.
رأس تمثال يعتقد أنه لهزيود
أما البناء المتكامل للوثنية اليونانية فكان على يد الشاعر هزيود، حيث يقول روبن هارد في كتابه “الميثولوجيا الإغريقية” إن هزيود هو الذي وضع قوائم معظم الآلهة في ملحمته وقسمها إلى مجموعات محددا أنسابها وأسماءها. [ص 36].
ويرجح المؤرخون أن هزيود عاش ما بين عامي 750 و650 قبل الميلاد، وقد تحدث عن نفسه في ملحمة “الأعمال والأيام” قائلا إن والده كان فلاحا في إيوليا بآسيا الصغرى (تركيا حاليا) فهاجر تحت ضغط الفقر والحاجة إلى اليونان، ثم عمل هزيود في عمل أبيه مزارعا وراعيا للغنم، وظل مجهولا إلى أن وضع في شبابه كبرى الملاحم التي شكلت ديانة الإغريق والرومان من بعدهم، وأهمها “الأعمال والأيام” و”مولد الآلهة”، كما وضع كتابا في التنجيم، ويرى مؤرخون أنه من أوائل المفكرين الاقتصاديين أيضا، وقد وضع كل هذه الأعمال الكبرى دون أن يذكر شيئا عن انتقاله من عالم الزراعة والرعي إلى الفكر، بل اكتفى بالقول إن ربّات الفنون “الموسيات” ظهرن له وأوحين له بتلك الأشعار الرائعة!
وفي كتابه أساطير إغريقية، يقول عبد المعطي شعراوي “وهكذا قدم لنا القروي الإغريقي البسيط هزيود تساؤلات وملاحظات حول كيفية حدوث كل شيء وحاول أن يصل إلى تفسير لكل ظاهرة أو عادة أو شعيرة أو تقليد، ولعله أول إغريقي يفعل ذلك، إذ إن هوميروس لم يفعل في الإلياذة والأوديسا مثلما فعل هزيود في قصائده، ومن هنا جاءت أهمية هزيود كصانع للأساطير الإغريقية”. [ج 1، ص 18].
لكن مؤرخي الحركات السرية يؤكدون أن هذه الأساطير لم تكن من وحي “الموسيات” الخرافيات، إذ يقول زعيم حركة الصليب الوردي في القرن السادس عشر فرانسيس بيكون في مقدمة كتابه “حكمة القدماء” إن تلك الأساطير لم تكن من ابتكار هوميروس ولا هزيود، بل انتقلت إليهما من أزمنة أقدم ومصادر أعرق، ويضيف “في اعتقادي أصولها واحدة، وليس هناك ما هو أعظم ولا أشرف من هذه الأصول”. [ص 320]. وهذا يعني أن بيكون -الذي لا يُعرف اليوم سوى بأنه مؤسس العلم الحديث- ينسب جميع الوثنيات إلى مصدر شيطاني واحد، وأن الشعراء الذين صاغوها في هيئة أعمال أدبية ونصوص دينية ليتعبد بها العوام لم يلجأوا إلى التأمل في غوامض الكون وأسرار الطبيعة أملا في إيجاد أجوبة وجودية لتفسيرها، بل وضعوا تلك الخرافات لتضليل البشر عن طريق الوحي.
تزعم أسطورة الخلق التي بثها هزيود في عقول الإغريق أن الربة كاوس هي الحالة الأولية للوجود فهي اللاشيء الذي انبثقت منه الأشياء، وكأنها كانت تجمع بين الوجود والعدم بطريقة غير مفهومة منذ الأزل، وقد تولّدت عنها ربة الأرض غايا، وربة الليل نيكس، ورب الظلام في العالم السفلي إيريبوس، ورب جهنم (العالم السفلي) تارتاروس، ورب الشهوة والرغبة إيروس. ثم ولدت غايا إلهًا يمثل السماء وهو أورانوس, و أصبح زوجا لها، أي تزوج الابن أمه, وأنجبا 3 سلالات مختلفة، الأولى عمالقة جبابرة (تيتان) وعددهم 12 ابنا، والثانية تسمى “السيكلوب” وهي مخلوقات بشعة لها عين واحدة في وسط الجبين, أما الثالثة فأكثر بشاعة وتسمى “ذوو المئة ذراع”، وعندما خاف الأب أورانوس من كثرة أولاده من السلالتين الثانية والثالثة خبأهم في أعماق الأرض أي في جسد أمهم غايا، فغضبت غايا على أورانوس وحرضت ابنها كرونوس (أحد الجبابرة) على الانتقام من أبيه وضربه بالمنجل، فقتل الابن أباه وورثه بأن أصبح إله السماء، ثم تزوج كرونوس أخته ريا, ونتجت عنهما السلالة البشرية الأولى المصنوعة من الذهب.
يقول عبد المعطي شعراوي في كتابه “أساطير إغريقية” إن الآلهة ليست هي التي خلقت الكون بل الكون خُلق أولا، ففي البدء كان الخواء ثم الأرض والبحار والجبال ثم السماء، ثم مجموعة العمالقة، ثم الآلهة وعلى رأسهم كبيرهم زيوس. [ج 2، ص 38].
وهذا يشير إلى أن أسطورة الخلق اليونانية التي ابتكرها هزيود هي أولى الخطوات التي مهدت للإلحاد في التاريخ المعروف، فقد مرّ بنا أن الأساطير الشرقية في العراق ومصر والشام كانت تؤمن بوجود الآلهة أولا ثم ينبثق عنها الكون والإنسان، أما هزيود فجعل الآلهة والإنسان ينبثقان معا من الكون نفسه. واللافت أن فلاسفة وأدباء عصر النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر عملوا على بعث الأساطير الإغريقية من جديد تمهيدا لنشر العلمانية والإلحاد السائدتين اليوم في الغرب.
رأس زيوس في الفاتيكان
ظهرت لكرونوس نبوءة تقول إنه سيلقى مصير أبيه على يد أحد أبنائه فقرر أن يبتلعهم, إلا أن ريا أخفت ابنها زيوس في مغارة بجزيرة كريت, حيث اعتنت به الحوريات وحرسته العفاريت حتى كبر، وعندها سقى والده دواء دفعه للتقيؤ فخرج من جوفه أبناءه الذين ابتلعهم، وانضم الإخوة إلى جيوش من الجبابرة والسيكلوب لمحاربة أبيهم كرونوس، وانتهت المعركة بمقتل السلالة الذهبية كلها وبانتصار زيوس وإخوته، فصار هو الإله الأعظم واستقر في قصر على قمة أعلى جبل باليونان (الأوليمب).
تزوج زيوس أخته هيرا ونساء أخريات، وكان شهوانيا لدرجة مفرطة، حتى صارت لديه سلالة جديدة الأبناء المصنوعين من الفضة، إلا أنهم لم يقدسوا الآلهة كما ينبغي فغضب منهم زيوس ونفاهم إلى العالم السفلي. ثم وُلدت السلالة البشرية الثالثة المصنوعة من البرونز, وكانت عدوانية وفاسدة فنفاها زيوس أيضا إلى العالم السفلي. وتبع هؤلاء جيل من الأبطال الذين نشأوا في العالم السفلي, ثم خلفتهم أخيرا السلالة الحديدية (البشر الحقيقيين).
وبطريقة تشبه أساطير بلاد الرافدين، يشقى الناس على الأرض ويكابدون مشقة الحياة لكي تعيش الآلهة الخالدة على قمة الأوليمب، بينما تمدهم تلك الآلهة بالدعم والنصر في الحروب وتمدهم بالقوت والمطر وتشفيهم من الأمراض بشرط أن يقدسوها ويتقوا غضبها ويقدموا لها القرابين.
وقد يبدو التداخل عجيبا بين الواقع والخيال لدى عوام الإغريق، إذ كانوا يصدّقون وجود قصور فارهة للآلهة على قمة الجبل، مع أنهم يرونه بأعينهم وهو جبل أجرد لا حياة فيه، كما كانوا يزورون مغارة في كريت لتقديم القرابين ويطرقون على قطع معدنية (مازالت محفوظة في المتاحف اليوم) بهدف التغطية على صوت زيوس الذي يتصورونه طفلا يعيش هناك، كي لا يسمع أباه كرونوس صوته ويبتلعه، مع أنهم لا يرون طفلا ولا يسمعون صوتا بل تقول الأسطورة إنه كبر وانتهى من قتل أبيه!
حرص هوميروس وهزيود على منح جميع الآلهة صفات بشرية، فهم يتصارعون على السلطة والنفوذ، بل يتعرض بعضهم للموت والبعث، ولهم خطايا أشد فداحة من خطايا البشر، وكأنهم أقرب إلى الشياطين من الملائكة، مما يبرر نزعات السيطرة لدى السلطات السياسية والكهنوتية التي وظفت هذه الأساطير لاستعباد البشر، كما كرست تلك الأساطير الطبقية الحادة في المجتمع ووجود العبيد والعمال والفلاحين الذين فُرض عليهم العمل بالسخرة لصالح الطبقات الأعلى وكأنه قدر محتوم.
وكما هو حال الوثنيات السابقة، تقدس الميثولوجيا اليونانية إلها واحدا أعظم وتجعله على رأس مجمع الآلهة وهو زيوس، وكل إله أو إلهة يمثل وظيفة أو قوة من قوى الطبيعة أو صفة ما من صفات الإنسان حتى لو كانت رذيلة، كما لكل قبيلة أو عشيرة أو دولة من دول البلقان المدينية الصغيرة إلهها الخاص، فكانت مدينة أثينا تعبد الإلهة أثينا، وإيلوسيس تعبد ديمتر، وساموس تعبد هيرا، وإفسوس تعبد أرتميس، وبوسيدونيا تعبد بوسيدون. وعندما تحارب دولة إحدى الدول الأخرى فإن أتباع الملك والكهنوت يربطون الأمر بصراع أعلى يجري بين الآلهة، فالشعب الغالب هو الذي يغلب إلهه إله العدو، وإذا قصّر الشعب في نصرة إلهه فعليه أن يتحمل تبعات غضبه.
لوحة تخيلية لمعبد أكروبوليس في أثينا من القرن التاسع عشر
الفلسفة والأسطورة
بالرغم من شيوع النظر العقلي الفلسفي لدى اليونان، وهو الأمر الذي يفخر به الغرب اليوم على اعتبار أنه وريث للفلسفة اليونانية التجريدية و”المنزهة” عن الدين والأسطورة، إلا أن معظم الفلاسفة الإغريق لم يتحرروا من البعد الغيبي، فالفيلسوف طاليس الملطي الذي وضع أسس الفلسفة العلمية في بداية القرن السادس قبل الميلاد حاول أن يقدم تفسيرات مادية لنشأة الكون، إلا أنه ربط تشكل الحياة من الماء بنزول زيوس عن عرشه وإحلال الدوامة محله.
والظاهر أن النزعة العقلية لدى الفلاسفة كانت تميل إلى رفض الوثنية وليس الدين نفسه، فانتقد إكزينوفان تشبيه الآلهة بالبشر، وكانت المدرسة الإيلية التي أسهها تعلم الناس العودة إلى التوحيد بدلا من الوثنية المتعددة، كما أنكر أنكساغوراس ألوهية الشمس وقال إنها مجرد حجر أحمر ملتهب وأكبر حجما من جبل البليونيز، أما كريتياس فتجرأ على القول إن البعض اخترعوا الآلهة ليرهبوا بها الأعداء، بينما رأى أويهيمروس أن الآلهة ﻟﻴﺴﻮا ﺳﻮى أﺑﻄﺎل وﻃﻨﻴين أدوا ﺧﺪﻣﺎت ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻓﺮﻓﻌﻬﻢ الخيال اﻟﺸﻌﺒﻲ إﻟﻰ ﻣﺼﺎف اﻵلهة، وهذا يذكرنا برواية الوحي عن قصة قوم نوح الذين ابتدعوا بدعة الوثنية عندما جسدوا الأموات الصالحين على هيئة أصنام ثم عبدوها.
وعندما عجز الفلاسفة الأوائل عن تقديم أجوبة مقبولة على الأسئلة الوجودية الكبرى، نظرا لعجز العقل عن الخوض في الغيبيات، أو ربما للطمس المتعمد لآثار الوحي فلم يصلنا من بقاياه لدى الإغريق شيء، نشر السفسطائيون مذهبهم في الشك واعتقدوا أنه يستحيل على العقل أن يعرف شيئا، وأنه ينبغي على الفلاسفة الاهتمام بحياة الإنسان العملية فقط.
سقراط يتجرع السم راضيا بعد الحكم بإعدامه، لوحة للرسام جاك ديفيد
استعاد سقراط هيبة العقل بعد أن كاد السفسطائيون أن يغرقوا الإغريق في هوة الشك والعدمية [انظر مقال مصادر المعرفة]، إلا أنه لم يستطع أيضا أن يقدم أجوبة على الأسئلة الدينية التي لا يمكن التوصل إليها إلا بالوحي، وحُكم عليه بالإعدام بتهمة “عدم الإيمان بمعتقدات أثينا”. ثم تابع أفلاطون المهمة ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وكان يرى أن الدين ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول دين أسطوري اخترعه الشعراء والفنانون لتسلية العوام، والثاني صنعه كهنة السلاطين لضمان انقياد الشعب لهم بخوفهم من الآلهة وتقديسهم للملوك، والثالث هو دين الفلاسفة الذي يكشف الحقيقة. أما تلميذه أرسطو فهرب من أثينا قائلا إنه لا يريد للمدينة أن ترتكب حماقة أخرى عندما أعدمت سقراط.
لقد كان بإمكان الشعراء الكبار أن يعترفوا بأن الأساطير مجرد أعمال مجازية لا حقيقة لها، كما كان في وسع الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون أن يعدلوها لتتوافق مع العقل، إلا أن غياب الوحي (وربما طمسه وتحريفه في عصر هزيود) جعل المهمة مستحيلة، وهم مع ذلك لم يرضخوا للأساطير المفروضة بقوة السلطة، بل دعوا للتوحيد أو اقتربوا منه.
وحين طاف المؤرخ بوزنياس ببلاد اليونان بعد خمسة قرون من عصر أفلاطون وجد أن الأساطير ما زالت حية في قلوب الجماهير، حيث لم يجد الناس غيرها للإجابة على تساؤلاتهم الوجودية، وكما يقول ويل ديورانت في موسوعته “قصة الحضارة” فإن أساطير هزيود شكلت عقيدة اليونان وفلسفتهم وآدابهم وتاريخهم، واستمد منها الفانون (أي البشر غير الخالدين كالآلهة) زخارفهم التي زينوا بها الأواني، كما كانت هي المصدر الأساس لمواضيع النحاتين والرسامين في معظم أعمالهم التي عاشت آلاف السنين.
سيرابيس يتشكل من دمج أوزيريس وأبيس
ويرجح غلبرت موراي أن الديانة اليونانية مرت بعدة مراحل، وأن البداية كانت دينا سماويا موحى به من الله، ثم تحولت إلى ديانة بشرية أسطورية، ثم فلسفية. [فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط للأهواني، ص22].
اتفق المؤرخون على إطلاق تسمية الحقبة الهيلينية على الفترة الممتدة من أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى موت الإسكندر المقدوني عام 323 قبل الميلاد، وهي الفترة التي ازدهرت خلالها الحضارة الإغريقية وبلغت أوجها فكريا وعلميا.
وعندما احتل الإسكندر الأكبر مصر سارع إلى مزج معبود الإغريق “زيوس” الذي كان يُجسد على هيئة رجل كبير كث اللحية, مع معبود مصر “أمون” الذي يتخذ هيئة كبش ذي قرنين, فكانت النتيجة هي اختراع إله يوناني مصري اسمه “سيرابيس” مع تجسيده أحيانا على هيئة رجل له لحية وقرون كبش، بينما يرى مؤرخون أن “سيرابيس” مزيج من أوزوريس وأبيس وزيوس.
أما الحقبة الهيلينستية فتبدأ عند أغلب المؤرخين بموت الإسكندر، حيث تقاسم خلفاؤه مملكته المترامية الأطراف وظهرت بذلك آثار التلاقح بين فلسفة اليونان وغنوصية الشعوب الشرقية، وامتدت هذه الفترة إلى الغزو الروماني لقلب اليونان عام 146 قبل الميلاد أو حتى الهزيمة النهائية لآخر دولة لخلفاء الإسكندر في معركة أكتيوم عام 30 قبل الميلاد حيث سقطت فيها مصر البطلمية بيد الرومان.
الوثنية الرومانية يُعتقد أن بداية الحضارة في إيطاليا تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد عندما انتقلت شعوب الأتروسكيين من ليديا (غرب تركيا حاليا) إلى شمال نهر التيبر، وعلى الأرجح أنهم تأثروا بالوثنيات المجاورة من اليونان ووسط أوروبا، لكن السيادة كانت لآلهة العالم السفلي المقتبسة عن المستعمرات اليونانية في الجنوب، حيث يعتقد أنهم كانوا يعظمون الشياطين ويمارسون السحر.
جوبيتر
ربما يصعب تقصي الإله الأعظم من بين الآلهة المتعددة التي عبدها الرومان، لكن يبدو أن جوبيتر (كوكب المشتري) كان هو الإله الأعظم، وبجانبه كل من مارس (المريخ) و كويرينوس (أحد أقمار زحل)، ثم في مرحلة لاحقة أصبح بجانب جوبيتر زوجته جونو وابنته مينيرفا.
استمتع أباطرة روما برفع مكانتهم الدينية حتى قدستهم شعوبهم وذبحت لهم القرابين، كما قرر كل من دوميتيان وكاليغولا ونيرون أن يتألهوا بأنفسهم وينافسوا الآلهة الخيالية على مناصبها، بينما تواضع آخرون واعتبروا أن الألوهية لقب ينالونه بعد موتهم.
بدأ عصر الرومان الذهبي بعد عام 30 قبل الميلاد الذي شهد سقوط آخر ممالك اليونان في أيديهم، وهي مملكة البطالمة في مصر، وأخذ الإمبراطور أغسطس في تلك المرحلة بتشييد الكثير من المعابد المكرسة للآلهة التي جسدها الكهنة في الكواكب، ثم أعلن أغسطس نفسه الكاهن الأكبر.
ومن الواضح أن الرومان اقتبسوا ميثولوجيتهم (أساطيرهم) من اليونان، حيث يؤكد المؤلف بي كوملان في كتاب “الأساطير اليونانية والرومانية” أن الدولة الرومانية “جعلت أغلب آلهة الإغريق أربابا لها، إلا أنها عندما أدخلتها في طقوسها الدينية وآدابها أطلقت عليها أسماء لاتينية”. [ص 7].
انتشر السحر في بلاد الروم على يد البابليين، ووجد له تربة خصبة مع عبادة النجوم والكواكب واهتمام الكهنة بالتنجيم، فالتنجيم يفترض وجود قوة روحية في الكواكب تؤثر على الإنسان الذي يعيش على الأرض، ومن خلال دراسة الأبراج المعقدة يتم التنبؤ بالمستقبل، وغالبا ما يتداخل هذا الفعل بالسحر القائم على التعامل مع الشياطين. وفي عصر الإمبراطور تبريوس (ابن أغسطس) حظي المنجمون بنفوذ أكبر من ذي قبل، وصار شائعا استخدام السحر بديلا عن الطب.
وكما هو حال الوثنيات السابقة، اهتم الرومان بأرواح الموتى وقدسوها، وجسدوا أجدادهم في التماثيل، وزعم السحرة أنهم قادرون على استحضار أرواحهم. كما قدسوا الشمس إلى جانب الكواكب الأخرى، حتى أصبحت عبادتها مهيمنة في عهد أسرة سيفروس في القرن الميلادي الثالث، لذا عندما قرر الإمبراطور قسطنطين تحويل ديانة روما إلى المسيحية تم دمج ديانة أتباع بولس بعبادة الشمس، وما زال حضور الشمس واضحا في الرموز المسيحية حتى اليوم.
الإله ثور يصارع العمالقة في لوحة من القرن التاسع عشر
الوثنية الإسكندنافية يعود تاريخ الفايكنغ في المنطقة الإسكندنافية بشمال أوروبا إلى القرن التاسع الميلادي، ويُعتقد أن الأساطير الإسكندنافية (النوردية) هي أصل الوثنيات الجرمانية الأخرى في شمال ووسط أوروبا.
لا يُعرف أصل الميثولوجيا الإسكندنافية بالتحديد، فقد ظلت أشعارها متداولة شفهيا دون تدوين، ما يعني صعوبة تتبع مصدرها، ويبدو أن الذي صاغها قد استورد فكرتها الأساسية من الإغريق (هوميروس وهزيود)، ثم أعاد بناءها بما يناسب طبيعة حياة الفايكنغ القائمة على الإبحار والقرصنة، وبثها في وعي تلك الشعوب الأمية لتصبح مصدر ثقافتها وعقيدتها وفنونها.
تتعدد الآلهة في الأساطير الإسكندنافية كما هو حال الأساطير السابقة، ويتربع أيضا على رأسها إله عظيم يدعى أودِن Odin، وهو نفسه وودِن لدى الشعوب الأنغلوسكسونية، كما عرفه الجرمان باسم ووتان. وتتكرر في هذه الأساطير أيضا عادة تثليث الآلهة كمعظم الوثنيات حول العالم، فهناك الإلهة الزوجة فريغ (أو فرييا عند الجرمان)، والابن ثور Thor إله الرعد.
ونظرا لخطورة الأعاصير والعواصف على البحارة الفايكنغ، رأى مخترع الأسطورة أن يجعل “ثور” على هيئة شاب ضخم مفتول العضلات ويحمل بيده مطرقة ليهاجم بها العفاريت التي تسبب العواصف والأمواج العاتية، فكان البحارة يستبشرون بصوت الرعد الذي تصدره المطرقة معتقدين أنها تصرع الشياطين.
تتشابه الأساطير الإسكندنافية مع أصولها الإغريقية بافتراض وجود عوالم خفية تعيش فيها كائنات عدة، من آلهة وعمالقة وأنصاف آلهة وأقزام وبشر، لكن مبتكر هذه الأساطير كان فيما يبدو أوسع خيالا، كما يبدو أن العديد من الشعراء والأدباء أضافوا خلال قرون طويلة المزيد من الخرافات عن عوالم خفية تسكنها كائنات عجيبة، حتى أصبح العوام يعتقدون أن كل ما حولهم في هذا العالم من كائنات حية وجمادات مسكونة بأرواح، وأن لها نوعا ما من الحياة الخفية.
ثور كما قدمته هوليود في أحد أضخم أفلامها
آمن واضعو الأساطير بوجود جنة بعد الموت، وهي عالم الفالهالا، إلا أنها مجرد مرحلة مؤقتة، كما اشترط واضعو الأسطورة لدخولها التمتع بالشجاعة لتشجيع الناس على الانخراط في المعارك. وتشبه الفالهالا قصرا ضخما يحكمه الإله أودين، حيث يحتفل فيه مع ضيوفه كل يوم بذبح خنزير لأكل لحمه مع شرب الخمر.
وعندما يحين الوقت يخرج أودين مع جنوده هؤلاء لخوض المعركة النهائية “راغناروك” ضد العمالقة، وهي المصير المحتوم للآلهة والعمالقة والبشر، إلا أن هذه النهاية ليست سوى بداية عالم جديد تسوده الأراضي الخضراء ويعم فيه السلام، حيث يُبعث بعد المعركة الآلهة من الموت ويحكمون العالم، ويتوالد البشر مجددا من رجل وامرأة تمكنا من النجاة من المعركة باختبائهما في مكان ما.
وإذا كانت الأساطير اليونانية، وبعدها الرومانية والإسكندنافية، نسخة محرفة عن الوحي وتصورا مشوها لحقيقة الإله الواحد وأدوار مخلوقاته من الجن والملائكة، فإن هذه الأسطورة تبدو وكأنها تحريف للملاحم الكبرى التي تنبأ بوقوعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان.
مما يؤكد أن واضعي الأساطير جعلوا من الجن والملائكة آلهة، أن مؤسِّسة جمعية الثيوصوفية هيلينا بلافاتسكي صرحت في كتابها “العقيدة السرية” بأن سمائيل الذي يعتبره التلمود رئيسا للجن هو أحد الآلهة الذين تذكرهم التوراة (المحرفة) باسم إلوهيم، وتضيف أن سمائيل في القبالاه اليهودية هو شكل رمزي للعمالقة.
الوثنية في الجزيرة العربية تحدثنا سابقا عن ظهور تعدد الآلهة (عبادة الأوثان) في الجزيرة العربية منذ فجر الحضارة وقبل بدء التاريخ، وذلك على يد عاد وثمود، وما تلاهم من الأنباط الذين اتخذوا من سلع (البتراء في الأردن) عاصمة لهم، إلا أن التوحيد عاد إلى العرب على يد النبي إسماعيل بن إبراهيم الذين نشأ في مكة واختلط بالعماليق (قوم من العرب الأوائل)، ثم ارتدوا مجددا إلى الوثنية على يد رجل يدعى عمرو بن لُحَيّ.
منحوتة للإلهة اللات عثر عليها في الطائف
يقول المؤرخ ابن كثير إن عمرو بن لحي كان أحد رؤساء خزاعة الذين تولوا زعامة البيت (الكعبة في مكة)، وإنه كان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل بين العرب، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها.
واشتهرت في مكة عبادة أصنام كثيرة، وعلى رأسها “هُبل” الذي كان بمثابة كبير الآلهة، حيث نصبت قريش له صنما في جوف الكعبة، ثم تأتي من بعده ثلاثة آلهة مشهورة هن اللات والعزّى ومناة، حيث يشكلن ثالوثاً أنثوياً على اعتبار أنهن أبناء الله، كما خصصت كل قبيلة من القبائل الكبرى لنفسها واحدا من الأوثان لتشتهر بعبادته وتقديسه وجذب المتعبدين وقوافل التجارة إليه، فاختارت قبيلة ثقيف في الطائف عبادة اللات وجعلت لها بيتاً يضاهي كعبة مكة، وروي أن ابن لحي استغل وفاة رجل صالح من ثقيف كان يحمل اسم اللات فقال لهم إنه لم يمت بل حلّت روحه في صخرة، فنحتوا الصخرة وجعلوها وثنا يُعبد.
وبالطريقة نفسها، أرادت قبيلة غطفان منافسة قريش، فجعلت لنفسها معبدا يسعى فيه الناس بين حجرين كما يسعون بين الصفا والمروة بمكة، ونصبت صنم العزى في بيت مهيب يضاهي الكعبة.
أما مناة فكان لها صنم في موضع يقال له “المشلل”، وكانت مقدسة تحديداً عند قبيلتي الأوس والخزرج في يثرب (التي سميت لاحقاً المدينة المنورة بعد هجرة النبي محمد إليها)، ويقول المؤرخون إن العرب أصبحوا يقدسون هذه الأصنام الثلاثة ويحجون إليها ويذبحون عندها القرابين كلما حجوا إلى مكة في موسم الحج السنوي. وعندما نزل القرآن على النبي انتقد تلك الأصنام الثلاثة فقال {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19-23].
وكما طرأ التحريف لدى العرب على العقيدة، فقد غيروا أيضا في شرائعهم، فيقال إن ابن لحي فتح الباب أيضا لوضع تشريعات جديدة في الأنعام (ذبح الحيوانات) وغيرها، فأصبح العرب يحرّمون على أنفسهم أنواعا من الجمال والغنم دون أي مبرر أو اقتباس من مصدر آخر، والعجيب أن التشريع الجديد انتشر بين القبائل وكأنه دين موحى به من السماء. ويرى ابن كثير أن القرآن ذكر ابن لحي في سورة الأنعام بقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا…} [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات.
وقبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس برسالة التوحيد من داخل قبيلته قريش، كانت قريش قد نجحت في بسط سيادتها المعنوية على كافة القبائل في شبه الجزيرة العربية بحكم سيطرتها على البيت في مكة، فقد جمعت لنفسها الرئاسة الدينية والدنيوية وميّزت نفسها في شعائر الحج وتفاصيل شرعية أخرى مما كان قد بقي من شريعة جدهم إسماعيل، فبينما كانت قبائل العرب تقف في جبل عرفة تركت قريش الوقوف هناك والإفاضة، وكان سادتها يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس، حيث لقبوا أنفسهم بالحمس (جمع أحمس) لتحمسهم في دينهم.
رسم لمكة يعود إلى عام 1790
وابتدعوا أمورا أخرى مثل قولهم لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط (أي يتخذوا الأقط وهو لبن مجفف)، ولا يسلئوا السمن (أي يطبخوه) وهم حرُم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيود الأدم ما كانوا حرماً، وغير ذلك من الأحكام المُخترعة التي شددوا فيها على أنفسهم من باب الحماسة، ويبدو أنهم فعلوا ذلك ليثبتوا للعرب أنهم أولى بالزعامة كما يفعل الرهبان في أديان أخرى بانقطاعهم عن الزواج وملذات الحياة مقابل تقديس الناس لهم، وقد دانت العرب لقريش بالفعل وجعلتهم أشرف القبائل، فتركت قريش الغزو واشتغلت بالتجارة ووضعت شروطا لكل من يريد الزواج بإحدى بناتهن.
وعندما نزل الوحي على أحد أبناء قريش، وأمرهم بالتساوي مع بقية شعوب الأرض رفضوا دعوته بشدة، مع اعترافهم بأنه كان معروفا بينهم بالصدق والأمانة ولم يجربوا عليه الكذب، إلا أن معظم قادتهم وجدوا في دعوته انتزاعا للسلطة التي منحوها لأنفسهم.
وبعد سنوات طويلة من الصراع الشاق، تمكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوة التوحيد وإنهاء وجود الوثنية في أرض العرب وفي مناطق أخرى واسعة من العالم، وتؤكد الموسوعات التاريخية الحديثة أن انتشار الإسلام كان أسرع انتشار لأي حضارة عرفها التاريخ حتى اليوم.
فيديو يوضح كيفية انتشار الأديان ويثبت أن الإسلام كان الأسرع انتشارا في التاريخ
ويؤكد القرآن أنه جاء ليجدد الرسالة نفسها التي بُعث بها كل الأنبياء لمقاومة الوثنية والانحراف عن التوحيد، وأن دين الإسلام نفسه هو دين واحد منذ بدء البشرية وليس دينا خاصا بمحمد وأمته، حيث قال نوح لقومه {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، كما وصف القرآن إبراهيم بقوله {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، وكان الإسلام هو الدين الذي أقر به أبناء يعقوب الذين يُعتبرون أجداد بني إسرائيل، حيث تقول الآية {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، وهذا ما أقره موسى أيضا في خطابه لبني إسرائيل: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس:84]، كما قال سليمان في رسالته لملكة سبأ {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30-31]، وقد أقر بذلك أيضا أتباع عيسى قبل تحريف رسالته عندما سألهم من أنصاري من الله؟ فقال الحواريون {نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].
الكعبة في المسجد الحرام بمكة المكرمة
خلاصة بعد هذه الجولة الموجزة في تاريخ تطور الأديان الوثنية، سنوجز في النقاط الآتية أهم الخلاصات التي يمكن استنتاجها والانطلاق منها إلى دراسة الأديان اللاحقة:
1- تنطلق الأبحاث الإنثروبولوجية اللادينية -كما أسلفنا في بداية المقال- من منطلق إلحادي/لاديني مسبق، وهذا يعني بطبيعة الحال افتراض أن أي تشابه بين النصوص الدينية وبين الأساطير والسحر يعني أن الأولى مقتبسة من الثانية، وذلك لاعتقاد الباحثين مسبقا بأنه لا وجود لمصدر إلهي للوحي أصلا.
لذا يجتهد الباحثون في محاولة إثبات اقتباس التوراة والإنجيل (بالنسخ المتبقية اليوم) والقرآن من الأساطير السابقة، ويفترض بعضهم أن وجود أي شبه بين شعائر الصيام والصلاة والحج الإسلامية اليوم وبين مثيلتها في بلاد الرافدين ومصر الفرعونية هو دليل على “وثنية” الإسلام.
وهذا الافتراض يتضمن مغالطة منطقية، فتلازم أمرين لا يعني بالضرورة نشوء أحدهما عن الآخر. وفي حال ثبوت تأثر أي منهما بالآخر فإن الافتراض اللاديني يتخذ مسبقا قراره بالانطلاق باتجاه واحد ويشترط عدم صحة الاتجاه الآخر، فما الذي يمنع أصلا أن يكون الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، بدءًا من آدم أول البشر، وأن الوثنية العراقية والمصرية وغيرهما هي التي اقتبست وحرّفت وليس العكس؟
برستد
2- يضاف إلى الخلل في وضع الفرضيات أن بعض الأدلة التي يطرحها اللادينيون تفتقر إلى الصحة أصلا، حيث يزعم البعض -مثل المؤرخ جيمس هنري برستد في كتابه “فجر الضمير”- أن “الظاهرة الدينية” بدأت بأساطير قائمة على تعدد الآلهة، وأن أخناتون المصري هو أول من ابتكر مفهوم الإله الواحد ثم ترك أثره على الأديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، لكن هذه المقولة التي راجت طويلا في القرن العشرين ثبت تهافتها أخيراً كما يقول جون ولسن في كتابه “الحضارة المصرية”، فالتوحيد كان معروفاً وقديماً في العراق ومصر والشام قبل ظهور مفهوم “مجمع الآلهة” لدى السومريين ومن جاء بعدهم.
وفي حين يزعم البعض أن “الكتاب المقدس” اقتبس من الميثولوجيا اليونانية والمصرية قصتي إخفاء المسيح من الإمبراطور الروماني وإخفاء موسى من فرعون في تابوت وإلقائه بالنيل، يتبين لنا أن هزيود الذي ابتكر هذه الأسطورة في اليونان عاش بعد قصة موسى وأنه هو الذي اقتبس منها، وكذلك الحال في قصة أوزيريس وإيزيس التي ظهرت بعد ذلك، وسنستعرض المزيد من هذه الاقتباسات في مقالي اليهودية والمسيحية.
ملاحظة السميط في أفريقيا للتحقق من آلية هذا التحريف للوحي، نجد مثالا معاصرا ما زال حاضرا أمام أعيننا في جزيرة مدغشقر المنعزلة بالمحيط الهندي، حيث قال الداعية الكويتي والعامل في مجال الإغاثة د. عبد الرحمن السميط إنه سمع أثناء وجوده هناك عن قرية نائية تدعى مكة وتقيم فيها قبيلة تسمى الأنتيمور، وإن الوصول إليها يتطلب الخوض في مستنقعات من الماء الراكد والروث لأربع ساعات، وعندما بلغها وتحاور مع أهلها أخبروه أنهم جاؤوا من مدينة في الشمال تدعى “جدا” وهي جدة في السعودية، وأنها قريبة من بلدة طيبة تدعى “مكا” أي مكة، كما قالوا إنه كان فيها جار طيب اسمه محمد، ومع أنهم لا يعرفون أنه نبي إلا أنهم يقرون بمحبته، وهم يوقرون أيضا أسماء رجال صالحين يعتقدون أنهم كانوا من أجدادهم، ومنهم “راماكاري” أي المبجل أبو بكر، و”راماأهي” أي المبجل عمر، و”راأوسماني” أي المبجل عثمان، أما أمهم فاسمها “رامونا” أي المبجلة آمنة، وهي والدة النبي محمد.
السميط
وعندما سألهم السميط عن دينهم قالوا إنهم “مسلمون بروتستانت”، وأضافوا أن أجدادهم أخبروهم قبل مئات السنين أنهم مسلمون إلا أنهم فقدوا طريقة التعبد لأن معظمهم لا يعرفون القراءة والكتابة، فجاءتهم بعثة تبشيرية من البروتستانت وأقنعتهم بأنها ستعلمهم الإسلام، وهكذا شيدت لهم كنيسة وأعطتهم نسخا من الإنجيل زاعمة أن هذا هو دين أجدادهم المندثر، فاختلطت لديهم تعاليم الأجداد بما جاءهم به المبشرون، ومع أنهم مازالوا يعظمون يوم الجمعة ويصرون على الذبح الحلال ويحرّمون على أنفسهم لحم الخنزير إلا أنهم باتوا يقدسون الكنيسة والإنجيل.
ومن المفارقات أن السميط وجد لديهم كتابا مقدسا يطلقون عليه اسم السورابي، أي الكتاب الكبير، وفيه بعض سور القرآن بالخط العربي، إلا أنها مشوبة بكثير من الأخطاء والتحريف، وإلى جانبها طلاسم سحرية وتوسلات بالموتى.
وحسب دراسة السميط، فقد بدأت هجرة هذه القبيلة من سواحل جدة قبل 1200 سنة، أي بعد نحو مئتي سنة فقط من بعثة النبي محمد، واستمرت دفعات المهاجرين بالوصول ستمئة سنة، ثم انعزلوا عن العالم ستة قرون، مُكتفين بما لديهم من خيرات الأرض والبحر، وليس لديهم سوى رجال الدين والسحرة الذين يحتكرون لأنفسهم القراءة والكتابة وأسرار الدين، وقد تمكن هؤلاء الكهنة من تحريف دينهم ودمج النصوص الأصلية للوحي القرآني بالأساطير والطلاسم، وبما أن عامة الناس كانوا أميين فقد نجح التحريف وضاعت الحقيقة خلال بضع قرون، ونتج دين وثني جديد يخلط بين الوحي والخرافة والسحر.
[المصدر: حوار مع الشيخ عبد الرحمن السميط في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة: http://goo.gl/cbIIaL]
3- علاوة على مغالطة الانطلاق من منطلق لاديني مسبق، ووضع الافتراضات الممنهجة والمؤدلجة، فإن المنهج اللاديني نفسه قائم منذ نشوئه في القرن الثامن عشر على الفلسفة المادية التي تفترض أن الوجود محصور في عالم الشهود (المادة والطاقة) أصلا، وأن عالم الغيب ليس موجوداً. فالمشكلة لا تقتصر على أن أدوات “العلم الحديث” لا تستطيع التحقق من وجود الغيب بل يفترض العقل المادي مسبقاً أن هذا العالم لا وجود له من البداية، لذا فإن أكثر العلماء انفتاحاً وتقبلاً للرأي الآخر يكتفون بالقول إن وجود الإله والملائكة والجن والوحي هي مقولات “غير علمية” وإن كونهم علماء يدفعهم إلى عدم الخوض في هذه المقولات الخارجة عن تخصصه، ولو أنهم وقفوا عند هذا الحد لكان موقفهم سليماً، لكن معظمهم يتجاوزون هذا الحد ويقدمون تفسيراً “علمياً” للكون والتاريخ والدين من داخل فلسفتهم المادية، ويعتبرون أن أي مقولة تعارض هذه التفسيرات المليئة بالتفاصيل الخيالية (الافتراضية) هي مقولة غير علمية، وبما أنها “غير علمية” فهي تعني في العرف العام والمقررات التعليمية ووسائل الإعلام أنها “غير صحيحة”.
لذا يصرح العلماء بأنهم مضطرون لاعتماد نظرية تطور الإنسان عن كائن شبيه بالقرد، بالرغم من افتقارها لأي دليل علمي [كما يوثق الفيلم الوثائقي مطرودون Expelled]، لأنها التفسير “العلمي” الوحيد الذي يتناسب مع فلسفتهم المادية، ولا بديل عنها سوى الإيمان بوجود عالم الغيب، مع أن وجود هذا العالم لا يتعارض مع وجود المادة ولا مع جدوى العلم المادي ونزاهته. ويتبع اعتمادهم لنظرية التطور وضع افتراضات لا نهاية لها عن نشأة الدين وتطوره، وهي جميعا سيناريوهات متخيلة لا يدعمها دليل.
على سبيل المثال، لا يملك العلماء المعاصرون أدلة علمية تكشف لهم حقيقة نشوء الدين فيما قبل التاريخ سوى آثار التماثيل الصغيرة وبقايا المعابد، وبما أن الإنسان في ذلك العصر لم يترك تاريخاً مدوناً، يلجأ علماء التاريخ والإنثروبولوجيا إلى الخيال لوضع نظريات “علمية”، تتحول لاحقاً إلى ما يشبه الحقائق والمسلّمات، حول دوافع إنشاء المعابد وتشكيل التماثيل وما قامت عليه من أسس تتعلق بدورات الخصب الزراعي وما دار حولها من طقوس، ثم يدعمون هذه الفرضيات بما تركه اللاحقون من أساطير مدونة بعد ظهور الكتابة، وقد لا يترك لنا مؤرخو تلك المراحل سوى مدونة واحدة، مثل ملحمة جلجامش، فيعتمدها العلماء بمثابة الدليل العلمي الوحيد لأديان وعقائد ذلك العصر، مع أننا نشاهد في عصرنا الحديث روايات متعددة للأفكار والمعتقدات والأحداث بالرغم من الانفتاح العالمي وسهولة الاتصال، فلا يمكن الجزم بأن رواية واحدة يكتبها مؤرخ أو كاهن مؤدلج هي الممثل الوحيد لما آمن به الناس في عصر ما.
واللافت أن العلماء الماديين يعتمدون أي نص منقوش على الطين والحجر أو مخطوطة مدونة على الجلد، ليكون بمثابة دليل علمي يؤرخ لتاريخ الأحداث وتطور الفكر والدين، إلا أنهم يعتبرون أن الكتاب المقدس (التوراة والزبور والإنجيل) لا يحظى بالمصداقية الكافية ليعتبر مصدرا تاريخيا موثوقا، ولا مشكلة في الشق الثاني من هذه المقولة لأن التحقيق العلمي يكشف عن أخطاء وتناقضات فادحة في الكتاب المقدس، لكن هذا يؤدي إلى التشكيك أيضاً في مصداقية النصوص الأخرى الأكثر قدماً، فإذا كان واضعو الكتاب المقدس قد حرفوا التاريخ لمصالحهم الدينية فيجدر أيضاً بمؤرخي العراق والشام ومصر القدماء أن يفعلوا ذلك. لكن المذهب المادي الذي انبثق عنه المنهج العلمي يدفع العلماء إلى السير في اتجاه واحد والحكم على الكتاب المقدس من خلال النصوص الطينية وليس العكس، وكأن تلك النصوص التي يؤسس عليها علم الآثار هي المرجعية “العلمية” الوحيدة التي يجب الرجوع إليها في كل الحقائق!
في عام 2014 تناقلت وسائل إعلام عدة نبأ اكتشاف نسخة قديمة لقصة آدم وحواء على يد عالمين هولنديين، وقيل إنهما فككا رموزا باللغة الأوغاريتية للوحين طينين عُثر عليهما في سوريا ويعودان إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حيث يذكران أن الإله الأعلى في الميثولوجيا الكنعانية إيل كان في صراع مع الإله الشرير حورون (إبليس)، وعندما عُوقب حورون بالطرد من الجبل سمَّم “شجرة الحياة”، فأرسل إيل إلى الأرض إلهاً آخر يدعى آدم ليضع حداً لتمرد حورون، فحوَّل حورون نفسه إلى ثعبان ولدغ آدم، فخسر الأخير طبيعته الخالدة. ولكي يسليه إيل أمر إلهة الشمس (حواء) بالنزول إليه والتزاوج معه.
احتفت المواقع الإلحادية بهذه القصة كثيراً، واعتبرت أنها كشف “علمي” يؤكد أسبقية هذه الأسطورة على القصة الواردة في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، وأجمعت تلك المواقع أن القرآن ينقل القصة نفسها عن التوراة، وهي مغالطة شائعة، فالقرآن لا يتهم حواء بإغواء آدم ليأكل تفاحة، ولا يجعل نزول آدم وحواء من الجنة عقاباً على خطيئة، بل أكل كلاهما من الشجرة المحرمة (دون تحديد نوعها) بعد أن أغواهما إبليس معاً، وتاب الله على آدم عندما ندم، وأنزله إلى الأرض بعد ندمه وليس عقاباً له.
وإذا كانت هذه القصة قد وردت في نص طيني أسطوري قبل التوراة بثمانمئة عام فهذا لا يعني منطقياً أن التوراة والإنجيل والقرآن قد أخذا عنها، إلا إذا انطلقنا مسبقاً من مسلّمات الفلسفة المادية التي تنكر وجود إله غيبي يوحي إلى الأنبياء كلهم وحياً واحداً ويتم تحريفه بالأساطير مراراً قبل أن يعاود الأنبياء تصحيحه جيلاً بعد جيل. وهذا موقف فلسفي لاديني ولا علاقة له بالعلم المجرد.
4- إذا كان العلماء قد اتخذوا موقفا مسبقا واعتمدوا النقوش الطينية مصدرا للتاريخ بدلا من الكتاب المقدس بعد ثبوت تهافته، فإنهم لم يلتفتوا أصلا إلى القرآن الكريم، ولم يعتبروه مصدراً للتاريخ والمقارنة ولا حتى الأساطير، فالأوساط العلمية الغربية تتجاهل هذا الكتاب وتترك أمر دراسته للدراسات الاستشراقية التي نشأت أصلا في رعاية الإدارات السياسية الاستعمارية ولتحقيق مصالحها، والباحثون اللاحقون والمعاصرون ما زالوا ينهلون من المناهج والأفكار المسبقة التي وضعها رواد الاستشراق المؤدلجون [للمزيد: ينصح بالاطلاع على كتاب “الاستشراق: قراءة نقدية” للمؤلف صلاح الجابري]، ويتابعهم في ذلك الباحثون والمؤرخون العرب أنفسهم بحكم التبعية الحضارية للغرب، وهذه المواقف تضع مصداقية مناهج علوم الآثار والإنثروبولوجيا ومقارنة الأديان والتاريخ كلها على المحك.
5- في مقابل الرواية اللادينية التي يعتبر العلماء أنها الوحيدة المتوافقة مع “العلم”، ومن ثم تُقدم للطلاب في المدارس والجامعات على أنها الوحيدة الصحيحة، ثمة رواية أخرى يقدمها الوحي، ويتوقف الحكم بصحتها أولاً على التجرد من مسلمات الفلسفة المادية، والتسليم مبدئياً بأن الرواية التي يبنيها العلماء على افتراضات هي مجرد احتمال يقبل التكذيب (كما تؤكد فلسفة العلم الحديثة التي وضعها كارل بوبر).
وبناء على القصة المذكورة أعلاه للدكتور السميط في أفريقيا، يمكن القول إن التحقق من الرواية الأخرى يتوافق مع المنهج العلمي المجرد، لكن البدء بهذا التحقق يشترط أولاً الاعتراف بوجود الإله الذي أثبتنا وجوده يقيناً في مقال “وجود الله“، ومن ثم الاعتراف بإمكانية اتصاله بالبشر منذ بدء خلقهم عن طريق الأنبياء، وبإمكانية إنزاله وحياً يوضح لهم قصة الخلق الحقيقية، ويبيّن لهم طريق العبادة الصحيحة للتقرب إليه وكسب رضاه والنجاح في الابتلاء الذي خلقوا لأجله.
وإذا كان علماء الغرب اليوم يقرون بعدم مصداقية النسخ المتوفرة اليوم للكتاب المقدس، فمن المقبول علميا إذن أن نصدق بأن كل الكتب السماوية السابقة قد تعرضت للتحريف الذي كان الدكتور السميط شاهداً عليه، فالوحي كان يتنزل ويتلى على ألسنة الأنبياء ويُقدم في سلوكهم العملي، إلا أنه كان يُحارب دائما من قبل السلطات والمتنفذين وكهنة المعابد، كي يحتفظوا بسلطتهم وبالنظام الاجتماعي الطبقي الاستغلالي الذي أقاموه على أديانهم المحرفة، والذي مزجوا فيه النعرات القبلية وتبجيل الأوطان بقداسة الملوك والكهنوت، فصارت أي محاولة لإعادة تصحيح المسار بمثابة التمرد وإعلان العصيان لتخريب المجتمع وزعزعة الاستقرار، وسيتبين لنا في مقالات أخرى أنه من السذاجة الاعتقاد بأن واضعي القصص الأسطورية كانوا مجرد باحثين أبرياء عن تفسيرات غيبية لظواهر طبيعية غامضة، وهو الافتراض الذي تبتدئ به كل نظريات علوم الآثار والإنثروبولوجيا الحديثة.
وعندما نتابع مسيرنا مرورا بمحطتي اليهودية والمسيحية، ويتبين لنا أن الكتب المقدسة لدى هاتين الديانتين قد تعرضت للفقد والتحريف والتبديل، فلن يتبقى للرواية الأخرى (المفترضة حتى الآن) سوى التحقق من صحة القرآن نفسه، وهو ما سندرسه بالتفصيل في النهاية إن شاء الله.
أهم المراجع ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.
فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.
فراس سواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق، 1998.
فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.
فراس سواح، مقال “معتقدات الشرق القديم: وثنية أم توحيد؟”، موقع معابر.
جون كيرتشر، كيف وُجدت الآلهة، ترجمة إبراهيم جركس، 1929، نسخة إلكترونية.
عبد المعطي شعراوي، أساطير إغريقية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982.
خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.
هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.
بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق عمر تدمري، دار الكتاب العربي، 1997.
كتب تفسير القرآن الكريم الكبرى، مثل تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي.
تعد الماسونية في العصر الحديث الجمعية الأم لمعظم الأخويات والمنظمات والجمعيات السرية في العالم، وهي بدورها الوريث الأهم لأخطر الحركات السرية التي تشكلت عبر قرون، وكان آخرها منظمة فرسان الهيكل التي نشأت في ظل الحروب الصليبية وتم حلّها في أوربا لاحقا.
تستمد الماسونية الكثير من أفكارها ومبادئها من الفلسفات الباطنية (الغنوصية) واليهودية المحرفة والسحر والقبالاه، وهي مرتبطة على الأرجح بعبادة الشيطان، وترمي في النهاية إلى تحقيق سيادة بني إسرائيل على العالم عبر بناء هيكل سليمان في القدس.
ومنذ إعادة هيكلتها عام 1717، يحاول الماسون إخفاء الكثير من أسرارهم وأهدافهم وإظهار منظمتهم في صورة جمعية خيرية وأخوية عالمية، إلا أن توالي حركات الانشقاق وانكشاف الكثير من الأسرار دفعهم في النهاية إلى فتح بعض الملفات لنفي تهم المؤامرة عن أنفسهم، وللظهور في مظهر الانفتاح، كما عمدوا في العقدين الأخيرين إلى ضخ عدد لا يحصى من الأفلام والكتب التي تخلط الحق بالباطل عن الماسونية ومؤامراتها، ليصل عامة الناس إلى نتيجة سطحية مفادها أن الأمر كله ليس سوى اتهامات باطلة وهواجس ذهانية تُصنف عالميا تحت مسمى “نظريات المؤامرة”، لا سيما وأن هناك الكثير من الاتهامات الباطلة فعلا في وسائل الإعلام وكثير من المؤلفات، إلا أن وجودها لا ينفي الحقيقة عن الأبحاث الجادة، فالبحث الموضوعي الرصين مازال قادرا على كشف الكثير من حقائق هذه الجمعية السرية، وهو ما يسلتزم عدم الانشغال بالكميات الهائلة من الأكاذيب التي تشجع الماسونية على نشرها للتغطية على الحقيقة.
أصل الماسونية لا يمكن الجزم بأصل هذه الجمعية السرية طالما كانت وثائقها خفية، وطالما كان من الصعب التحقق من التسريبات والاعترافات ونتائج الأبحاث التاريخية بسبب تداخل الحقائق بالأباطيل، فقد تكون الوثائق والشهادات المتوفرة لدينا صحيحة إلا أن الشاهد عليها لا يكون سوى شخص واحد أو بضعة أفراد، ويكاد التحقق من موثوقيتهم شبه مستحيل.
لذا تظل الروايات المتعددة بشأن نشأة الماسونية وأصلها في مقام النظرية المعرضة للنقد والتمحيص، وهذا لا يمنع ترجيحنا لصحة أو ضعف أي منها دون جزم، كما لا يمنع أن نصل إلى نتيجة مؤكدة بشأن أهداف الماسونية الحالية وما تسعى إليه، بغض النظر عن لحظة نشأتها التاريخية.
وسنتعرض فيما يلي لأهم النظريات التي تتحدث عن أصل الماسونية، علما بأن الخلاف يقع غالبا في لحظة البدء والمؤسس الأول وليس في المراحل اللاحقة من تاريخ الماسونية الممتد لآلاف السنين، وصولا إلى لحظة ولادة محفل إنجلترا الأعظم عام 1717 في لندن التي تعد الإعلان الأول لنشأة الماسونية باسمها المتداول اليوم، مع أن وجودها السابق كان تحت أسماء وأنظمة وطقوس مختلفة.
أولا، الرواية الماسونية: هي ليست رواية واحدة، حيث نجد لدى الماسون أنفسهم روايات مختلفة، وقد يكون ذلك نتيجة العماء الذي تتعمد قيادة الجمعية العالمية أن تبقيه مسيطرا على أعضائها، بما فيهم أولئك الذين ترقوا إلى أعلى الدرجات، أو نتيجة التضليل المتعمد لعامة المجتمع بشأن نشأة جمعيتهم السرية.
ففي دستور الماسونية الأول الذي وضعه جيمس أندرسون عام 1723، قيل إن الجمعية بدأت في فجر البشرية على يد آدم عليه السلام، مرورا بالأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وسليمان، ثم الملكين يوليوس قيصر وجيمس الأول.
غلاف الدستور الأول للماسونية
وحسب “مخطوطة الشوك” الماسونية (Thistle Manuscript) التي تعود إلى عام 1756، فإن الملك النمرود –الذي يقال إنه بنى مدينة بابل في العراق وكان معاصرا لإبراهيم عليه السلام- هو الذي أسس الماسونية قبل عصر سليمان عليه السلام، ووضع رموزها ومصطلحاتها ليميز أعضاءها عن بقية الناس.
ونجد في بعض المؤلفات من يزعم أن الماسونية سبقت البشرية نفسها، فينسبها إلى الكائنات الفضائية التي عرفت الحضارة قبل نشأة البشر على هذا الكوكب مثل الدكتور أوليفر [كتاب تبديد الظلام، ص 82]، ومع أن هناك من الماسون أنفسهم من يسخر من هذا الطرح، إلا أن له أصل مفهوم، فالجمعيات السرية تبث منذ سنوات أفكارا عن احتمال هبوط كائنات فضائية في المستقبل القريب لإنقاذ البشرية من حروب وكوارث محتمة، وقد عملت عشرات الأفلام والمسلسلات الهوليودية على تكريس هذه الفكرة، والتي يرى فيها البعض مقدمة لخروج الدجال Antichrist والشياطين التي تسير في موكبه.
ويقول مؤرخون ماسون آخرون إن سليمان عليه السلام هو الذي أسس الماسونية أثناء بناء الهيكل، وهو أول أستاذ أعظم.
المحفل الماسوني الأعظم بلندن
وفي كتابه “تاريخ الماسونية العام”، يستعرض الماسوني اللبناني الراحل جرجي زيدان تاريخ الجمعيات السرية القديمة التي يعتبرها الوسيلة الوحيدة لنشر العلم والخير، ثم يزعم أن الماسونية بدأت سنة ٧١٥ق.م على يد الملك الروماني نوما بومبيليوس الذي أسس أخويات للبنّائين وعهد إليهم مهمة بناء روما بهياكلها وأسوارها، ثم توسع نشاطهم وتراكمت خبراتهم الإبداعية مع تناقلهم لأسرار المهنة التي احتفظوا بها لأنفسهم على مر القرون، فالمؤرخ زيدان يشترك مع كافة زملائه الماسون بنسبة أصل الجمعية إلى العاملين في حرفة البناء، إلا أنه كان أكثر تظاهرا بالبراءة في الاعتقاد بأنها لم تكن سوى نقابة أو نادٍ اجتماعي للبنائين، ويعترف آخرون بأن حرفة البناء لم تكن سوى الجزء المعلن من عقائد وعلوم وطقوس الماسون الذين يخلطون الهندسة بالسحر والسياسة.
وتدّعي بعض المحافل الماسونية الكبرى الجهل بأصل الجمعية، فتجعل من تأسيس المحفل الإنجليزي عام 1717 هو نقطة البداية فقط، حيث يقول عوض الخوري في كتابه “تبديد الظلام” -الذي سيأتي ذكره لاحقا- إنه أرسل إلى كبار المحافل رسائل يسألها عن أصل الماسونية، فجاءه الرد من “الشرق المصري الأعظم” بأنهم لا يعرفون شيئا، في حين رد عليه “الشرق الأعظم في لندن” بقوله: “لا شيء عندنا ثابت عن تاريخ تأسيس الماسونية، فجل ما نعرفه هو أنها وجدت عندنا سنة 1717، ولا نعرف تاريخا ثابتا لتأسيسها”، ولكن لم ترد عليه كبرى المحافل العالمية التي طالبها بالتوضيح قبل أن يؤلف كتابه.
ثانيا، الأصل البابلي: بحسب هذه النظرية، يُعتقد أن الماسونية ظهرت في المرحلة التي بدأ فيها كتمان ما جاء فيها التوراة وإعادة كتابتها بعد ادعاء فقدها لطرح النسخة المحرفة المتداولة اليوم، فبعد غزو الملك البابلي نبوخذ نصر للقدس وسبي اليهود واقتيادهم عبيدا إلى بابل سنة 586 ق.م، حاولت نخبة من الأسباط الإسرائيلية الاثني عشر (سلالات أبناء النبي يعقوب) إعادة تشكيل الدين نفسه بتحريفه وبث نقيضه لتضليل البشرية، وذلك بوضع خطة محكمة لمحاربة الوحي وكل الأنبياء الذين سيعيدون إحياءه، واستفادوا في ذلك من تجارب الجمعيات السرية السابقة، فشكلوا جمعيتهم اليهودية السرية الخالصة التي كانت نواة الماسونية الحديثة، وقد حافظت على معظم طقوسها وأسرارها وأهدافها الجوهرية، وعلى رأسها إعادة اليهود إلى القدس وبناء هيكل سليمان.
ثالثا، القوة الخفية: لم نجد هذه الرواية لأصل الماسونية سوى لدى الكاتب اللبناني الراحل عوض الخوري، ففي كتاب “تبديد الظلام أو أصل الماسونية” الذي نشره عام 1926، يصف الخوري نفسه بأنه كاتم أسرار رئيس البرازيل برودنت دي مورايس، وهو ما يقابل اليوم مصطلح أمين السر أو السكرتير، ويقول إن الرئيس البرازيلي دبّر عام 1897 لقاءً يجمع بين الكاتب وتاجر مجوهرات روسي الأصل ويعمل في البرازيل اسمه لوران جورج صموئيل، حيث قدّم لوران للرئيس وثيقة باللغة الفرنسية مترجمة عن مخطوط قديم باللغة العبرية، مطالبا الرئيس بنشرها في أصقاع الأرض ليكتشف الناس حقيقة وأصل الماسونية، فطلب الرئيس من سكرتيره الخوري أن يترجمها إلى العربية لتُنشر أيضا في العالم الإسلامي عن طريق الدولة العثمانية التي كانت مؤسساتها تعاني آنذاك من التغلغل الماسوني، حيث كان الخوري قد هاجر سابقا من لبنان إلى البرازيل ولديه علاقات بالكثير من العرب والمسلمين في أقطار الدولة العثمانية.
يقول الخوري إنه ترجم الوثيقة إلى العربية تحت إشراف لوران الذي لم يسمح بخروجها من بيته، إلا أنه لم ينشر النسخة العربية عندئذ لسبب لم يذكره، ثم ضاعت منه الترجمة بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى كما يقول، فاسترجع نسخة ثانية من الترجمة كان قد تركها مع لوران، ونشرها أخيرا عام 1926.
وبحسب الكتاب، فإن لوران هو آخر أحفاد اليهود التسعة الذين أسسوا الماسونية في القرن الميلادي الأول، ويقول إن جده صموئيل أخبر ابنه جورج (والد لوران) بأن والد صموئيل الذي يدعى جوناس كان يهوديا واعتنق المسيحية بعد تعلقه بفتاة بروتستانتية تدعى جانيت، وعندما علمت زوجته المسيحية بالمؤامرة التي يتوارها أحفاد المؤسسين التسعة شجعته على نشر الوثيقة.
وتقول جانيت إن العالم كان قد هلك على يد امرأة (حواء حسب الرواية التوراتية) لكن الله يحب أن يكون خلاص العالم على يد امرأة أيضا، وتقصد بذلك نفسها بحرصها على نشر الكتاب وفضح الماسونية اليهودية. ويقول المترجم إنه بالرغم من كونها بروتستانتية، فلم تكن معادية للكاثوليكية والإسلام اللذين تناصبهما الماسونية العداء.
وعندئذ عهِد جوناس وجانيت لابنهما صموئيل -الذي نشأ نصرانيا- بنشر الكتاب، لكن صموئيل نقل المهمة إلى ابنه جورج بعد أن شعر بقرب موته بسبب المرض، ومات صموئيل بعد كشفه عن السر والوصية بأيام قليلة عام 1883. ثم بدأ جورج بترجمة المخطوط العبري إلى الفرنسية، ولم يستطع إكمال المشروع بالترجمة إلى الإنجليزية حيث مات بدوره بعد موت والده بسنة وهو في سن الرابعة والأربعين، إلا أنه كان قد استبق موته بثلاثة أشهر وأوصى ابنه لوران بمتابعة المشروع وترجمة المخطوط إلى الإنجليزية ثم نشر النسختين الفرنسية والإنجليزية حول العالم، وهو ما فعله حسب قوله.
وبحسب الوثيقة، فإن نشأة الماسونية تعود إلى عام 43 للميلاد، أي بعد السبي البابلي بمئات السنين، حيث يقول إن ملك فلسطين الروماني هيرودس أغريباس -وهو ابن هيرودس الأكبر الذي حاول قتل المسيح طفلا- شكّل مع ثمانية رجال يهود جمعية سرية اسمها “القوة الخفية”، وعلى رأسهم حيرام أبيود الذي اقترح الخطة على الملك. وكان هدفهم الوحيد هو القضاء على دعوة المسيح عيسى عليه السلام التي كانت قد أخذت بالانتشار بالرغم من صلبه كما يزعمون، وقد ظلت الجمعية تتوارث سرها الخطير وتمارس التآمر حتى قرر قادتها في منتصف القرن الثامن عشر إعادة تشكيلها وفق طقوس وهيكلية جديدة، وبعد منازعات وصراعات فيما بين القادة أنفسهم تم الاتفاق على تسميتها بالماسونية “فرماسون” أي البناء الحر، وتأسيس هيلكها الأول تحت مسمى محفل إنجلترا الأعظم عام 1717.
ويتضمن الكتاب حوارات مطولة لما جرى بين حيرام أبيود وهيرودس أغريباس منذ بدء التخطيط لتشكيل الجمعية، حيث يتم الاتفاق منذ البداية على أن يظل أمرها سرا لا يعرفه اليهود ولا أحد آخر سوى التسعة المؤسسين، كما لا يُكشف السر إلا للورثة ولمن يترقى في درجات الجمعية إلى أعلى المراتب، ولم يكن يسمح لأعضاء الجمعية بالبوح بسر انتمائهم لها أو وجودها حتى لعائلاتهم، وفي حال الشك بأن أحدا باح بشيء من الأسرار سرعان ما يحكم ثلاثة قضاة من الجمعية بقتله، وينفذون الحكم دون منحه فرصة الدفاع عن نفسه، ومع ذلك فقد قرر جوناس أن يكشف هذا السر بعد نحو سبعة عشر قرنا كما يقول.
ويقول عوض الخوري إن هدف الرئيس البرازيلي من نشر الكتاب هو خدمة الدين المسيحي، ويضيف أن الرئيس قال له أيضا إنه يسعى من نشره بالنسخة العربية في تركيا (العثمانية) لخدمة “الدين المحمدي”، على اعتبار أن اليهودية عدو مشترك لهما.
وبما أن هذه الرواية لا تملك أي شاهد آخر سوى شخص اسمه لوران، فلا يمكن التحقق من صحتها حتى لو بدت منطقية، مع أن لدينا شكوكا عديدة، فكيف تجرأ لوران على تحدي هذه الجمعية ونشر سرها الذي ظل خفيا مدة طويلة بالرغم من خطورتها، حيث لا يبدو في التفاصيل التي ذكرها الخوري أن هناك أي خطر أو تهديد فضلا عن اتخاذ إجراءات للحذر، كما يبدو أن الرواية تجعل من الكاثوليكية العدو الأساسي لليهود بل سببا لنشأة الماسونية كلها، ومع أننا نقر بهذا العداء إلا أنه في رأينا لا يقدم تفسيرا شاملا ووافيا.
ونحن نرجح أن التأسيس كان أثناء السبي البابلي، ولا نستبعد أن تكون جمعية القوة الخفية قد وجدت فعلا عام 43م، إلا أنها قد لا تكون هي الأصل.
مانلي هول
تاريخ الماسونية تعرضنا في مقال الجمعيات السرية إلى توارث تلك الجمعيات علوم السحر والقبالاه على مر القرون منذ ما قبل التاريخ، ويقر كبار المؤرخين الماسون بالإرث الذي ورثوه عن تلك الجمعيات، ويعتبرون أنها كانت بمثابة الجامعات التي تحتفظ بأهم أسرار الوجود من الاندثار والتحريف.
يقول الماسوني الكندي الذي بلغ الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي بي هول إن “العديد من المفكرين الكبار في العصور القديمة كانوا منتسبين إلى الجمعيات والأخويات السرية التي تمارس طقوسا غريبة وغامضة، وكان البعض منها قاسيا جدا”، ويعتبر أن العبادات الوثنية الباطنية لكل من إيزيس وسبازيوس وسيبيل وباخوس وإلوسيس من أهم الأمثلة على الإرث العقائدي الذي ورثته الماسونية.
يرى هول أن معظم الجمعيات السرية في العالم القديم كانت فلسفية ودينية، ثم بدأت في العصور الوسطى بالاهتمام بالسياسة، وأن هذا الاهتمام ظل قائما حسب قوله في الجمعيات السرية الحديثة في الغرب، فجميع المؤلفين الماسون ينفون عن أسلافهم القدماء أي طموح سياسي فضلا عن التآمر، لكن بعضهم -مثل هول- يقر بالدور السياسي للماسونية حديثا فيما يصر آخرون على النفي.
ويبدو أن هناك فترة انقطاع بين الجمعيات السرية الناشطة تحت غطاء الوثنيات القديمة وبين ظهور فرسان الهيكل في القرون الوسطى إبان الحروب الصليبية، وقد أشرنا في مقال “فرسان الهيكل” إلى أنهم كانوا الجمعية الأم للماسونية في أوربا، وهو ما يؤكده الكثير من الماسون حاليا مثل الباحثَين كرستوفر نايت وروبرت لوماس في كتابهما الشهير “مفتاح حيرام”.
ويبدو أن تاريخ أسلاف فرسان الهيكل والماسون في فترة الانقطاع تلك مازال غير موثق من قبل المؤرخين الماسون، وهي الفترة التي شهدت صعود الإسلام وتوسع دولته على حساب أقوى الإمبراطوريات في العالم، حيث لم يشهد التاريخ انتشارا لأي دين سابق أو لاحق بمثل تلك السرعة والاندفاع.
وإذا كانت الماسونية هي وليدة فكرة واحدة تتنوع أشكالها ومسمياتها عبر التاريخ منذ وضعها على يد محرفي التوراة وواضعي أسس القبالاه الشيطانية، فلا نستبعد أن تنسب إليها المؤامرات اليهودية والحركات الباطنية التي ولدت داخل جسد الدولة الإسلامية، بدءا من محاولات قتل يهود المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، ببناء مسجد الضرار وتسميم الطعام، ومرورا بالفتن التي اشتعلت بين كبار الصحابة في عصر الخلافة الراشدة، وعلى رأسها محاولات اليهودي عبد الله بن سبأ وجماعته في تحريف الإسلام وبث بذور الباطنية فيه، [انظر مقال الإسماعيلية]، ووصولا إلى الفتن الكبرى التي قادتها حركة الحشاشين وتأسيس دولة باطنية كبرى كادت أن تقضي على الدولة العباسية، وهي دولة العبيديين الفاطميين.
فيثاغورس
ويبدو أن الجمعيات السرية المشكلة على طريقة فيثاغورس وتعاليمه كانت قد وجدت لها قبل ذلك موطئ قدم في قلب الدولة العباسية، حيث ينقل محمد الزعبي (الذي انشق عن الماسونية) نصا عن برهان الدين البقاعي يقول فيه إن قوما برئاسة شخص قرطبي يدعى محمد بن مسرة كانوا يلتقون بمكان يدعونه نادي فيثاغور، ويعلق الزعبي بقوله إنه كان يسمع داخل المحافل كلمة فيثاغور دون أن يدرك معناها حتى اطلع على هذا النص [الماسونية في العراء، ص 303].
كما يقول الزعبي إن نوادي الجمعيات السرية العباسية كانت تقوم بطقوس التكريس المعروفة اليوم مع بعض التعديلات، حيث يبدأ التكريس بقراءة آيات من القرآن الكريم للتضليل، ثم تتابع الطقوس الشيطانية مع تهديد المنتسب الجديد بالقتل إن كشف أسرار الجماعة [الماسونية في العراء، ص 336]، ولعل كتابَي ألف ليلة وليلة ورسائل إخوان الصفا -اللذين لا يُعرف مؤلفوهما يقينا- هما من أوضح الأمثلة الباقية إلى اليوم على نشاط الجمعيات السرية وتغلغلها في الجسد الإسلامي آنذاك.
ويعتقد البعض أن أسلاف الماسون كانوا حاضرين داخل الدولة الإسلامية على شكل جمعيات حرفية للبناء، وهو اعتقاد يدعمه اعتراف الماسون بنسبة جمعيات البنّائين عبر التاريخ لجمعيتهم، حيث يقال إن المهندسين الماسون كانوا يستوطنون القسطنطينية تحت حماية البيزنطيين، وعندما أراد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بناء المساجد الضخمة في دمشق والقدس والمدينة المنورة استدعى هؤلاء البنائين الكبار لتشييد تلك المباني العملاقة مقابل مكافآت مجزية، ثم تغلغل البناؤون في المنطقة أكثر على يد العباسيين عندما عهد إليهم أبو جعفر المنصور مهمة تشييد عاصمته بغداد، فأرسل إلى عماله في الكوفة وواسط والبصرة يطلب منهم إمداه بالبنائين والمهندسين، ومع أن ابن الأثير الذي يذكر هذه الرواية في كتابه “الكامل في التاريخ” لا يوثق سوى اسمي الحجاج بن أرطاة وأبي حنيفة لتخطيط بغداد وإنشائها، لكن المؤرخين الماسون مثل جرجي زيدان يؤكدون أن الماسون كانوا حاضرين آنذاك، لا سيما وأن ابن الأثير يقول “ومن عادة البنائين إذا اتفقوا على بناء بلدة أو سور أو معبد يجعلون منازلهم من الخشب بجوار البناء، يقيمون فيه للطعام والرقاد والاجتماعات السرية ومحاسبة العمال، وكانوا لا يسمحون لأحد أن يدخل عليهم أو يطلع على أعمالهم، وذلك حتى يتم البناء فينصرفون بعد أن ينال كل منهم حقوقه، ويضيف أن رسولا من ملك الروم جاء بغداد وطاف فيها مع ربيع، فقال له ربيع كيف رأيتها؟ فقال رأيت بناءً حسناً إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة، فأخرجهم ربيع خشية أن يكون فيهم جواسيس، ويقول أيضا “كان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاري بحبتين”.
واستنتج البعض من كلام ابن الأثير أن طبيعة عمل البنائين السرية وعدم السماح للغرباء بالانضمام إليهم ترجح أنهم كانوا بالفعل أتباع جمعية سرية تحتفظ بأسرار بناء الهياكل والصروح الضخمة، كما يقول زيدان إن استخدام ابن الأثير لفظ “أستاذ” يذكرنا بلقب الأستاذية لدى الماسون، وإن لفظ الروزكاري ربما كان معربا لكلمة “روزيكروشن” أي الصليب الوردي [جمعية سرية سنأتي على ذكرها لاحقا]، مع أن ابن الأثير تتوفي عام 1233 أي قبل مولد مؤسسها المفترض كريستيان روسنكروز. لكن باحثين آخرين يقولون إن روزكار كلمة فارسية تعني الدنيا أو الزمان، ما يعني أن الروزكاري قد يكون هو الشخص العامي في مقابل الأستاذ.
وبالعودة إلى مقال “فرسان الهيكل“، فقد ذكرنا جانبا من تاريخ سلالات بني إسرائيل التي يعتقد أنها هاجرت إلى أوروبا واحتفظت بما تراه أنه حق تاريخي لها في “الملك الإلهي”، على اعتبار أن الإله وعدها بالسيادة على العالم، فدبرت تلك العائلات مخططا طويل الأمد للتغلغل في العائلات الحاكمة وصولا إلى نجاحها في السيطرة على معظم أوربا الغربية مع مطلع القرن العاشر الميلادي، وهو ما يؤكده كتاب “المُلك الإلهي” للمؤلفين الثلاثة غراهام سيمانز وتيم والاس ميرفي وماريلين هوبكنز. وقد ربطنا في المقال المذكور بين هذا التغلغل الخفي وبين إطلاق شرارة الحروب الصليبية عن طريق السيطرة على الفاتيكان، للوصول إلى القدس تحت غطاء الكاثوليكية، ثم تأسيس جماعة فرسان الهيكل لتحقيق أهداف النخبة الإسرائيلية المتحدرة من سبط يهوذا.
ألبرت بايك
ويقول الأستاذ الأعظم للماسونية في القرن التاسع عشر الجنرال الأمريكي ألبرت بايك في كتابه “الأخلاق والعقيدة” Morals & Dogma إن هدف فرسان الهيكل الظاهر كان حماية الحجاج الكاثوليك إبان الحروب الصليبية، لكن هدفهم الحقيقي الذي انخرطوا من أجله في الحروب هو العمل على إعادة بناء هيكل سليمان باسم الكاثوليكية، ليحكم بنو إسرائيل من خلاله كل الشعوب، ومن ثم كانوا يسعون لاحقا إلى إزالة الكاثوليكية وتأسيس عالم جديد له ديانة جديدة تستمد عقائدها من “التقاليد المسيحية الأولى والنقية” التي يمثلها يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) [818 -Morals and Dogma, 817].
ومن المتداول بين الباحثين أن الحركات الغنوصية تعتبر القديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) أبًا روحيًا لها، حيث يُقدم في صورة أسطورية تجعله من أساتذة أسرار القبّالاه.
ويقول بايك إنه حين كان دي مولاي -أحد مؤسسي فرسان الهيكل- ينتظر حكم الإعدام في السجن عام 1310م؛ أمر بتكوين أربعة محافل مركزية في نابولي وإدنبره وستوكهولم وباريس، ثم انشطرت المنظمة إلى عشرات الجمعيات السرية والمنظمات الخفية وجماعات السحر والشعوذة، وتحولت مقاطعة لانجدوك جنوب فرنسا -وهي معقل فرسان الهيكل- إلى مأوى للملحدين والمهرطقين والقبّاليين والوثنيين، مضيفا أن الماسونية الاسكتلندية هي الوريث الأقدم لفرسان الهيكل والامتداد الشرعي لها [Morals and Dogma, 821].
وهذا يعني أن فرسان الهيكل -وجماعة فرسان مالطة أيضا- كانت هي حلقة الوصل بين النشأة الأولى للمخطط الإسرائيلي الذي نشأ على الأرجح إبان السبي البابلي، وبين الجمعيات السرية التي تشكلت في القرون الوسطى قبل ظهور الماسونية رسميا في القرن الثامن عشر.
ومن أهم تلك الجمعيات جمعية الصليب الوردي “روزيكروشن” التي تأسست في ألمانيا عندما نُشر بيانان حول أفكارها عامي 1614 و1615، ونُسب تأسيسها إلى شخص قد يكون خياليا ويدعى كريستيان روسنكروز، حيث يقال إنه قام برحلة قبل نحو 130 عاما إلى العالم الإسلامي، من المغرب وشمال أفريقيا مرورا بتركيا العثمانية إلى بلاد فارس، لتلقي العلوم الباطنية والهرمسية وأسرار القبالاه والسحر، ويقر معظم المؤرخين بأن هذه الجمعية احتفظت بأسرار الجمعيات السرية حتى انتقلت إلى الماسونية.
نشأة الجمعية يقول جرجي زيدان إن “البنائين الأحرار” تابعوا انتشارهم في أوربا تحت رعاية الملوك، إلى أن اجتمعوا في مؤتمر بمدينة يورك الإنجليزية سنة 926 برعاية الملك إدوين الذي انتُخب أستاذا أعظم، وتم إقرار لوائح لتنظيم عملهم لتكون أول دستور ناظم لهم، وأصبحت يورك عاصمة البنائين.
ويتابع زيدان ربط تطور أخويات البنائين بتطور البناء طوال القرون الوسطى، وصولا إلى مرحلة “الماسونية الرمزية” التي انتقلت من صناعة البناء إلى “الفضيلة والعلم” –حسب قوله- مع الحفاظ على أدوات البناء وقوانينه كرموز لمعان تتعلق بالعمران البشري وليس المادي، وذلك مع إعلان لائحة قوانين لندن سنة 1717، وفي 24 يونيو من السنة نفسها –وهو عيد القديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى)- اجتمع الماسون وانتخبوا أنطوني ساير أستاذًا أعظم لهم، وبدأت بذلك الماسونية الرمزية بطقوسها ورموزها ودرجاتها التي لم تعد مقتصرة على البنائين، لكن المؤرخين من خارج الماسونية يؤكدون أن اختيار هذا التاريخ كان للتغطية على أهداف الجمعية المعادية للأديان، فاليهود أصلا يعادون النبي يحيى، وأسلافهم سعوا في قتله على يد الملك هيرودس.
قاعة المحفل الإنجليزي الأعظم
ويرى الكثيرون أن التأسيس العلني للمحفل الماسوني الأول في لندن عام 1717 كان مجرد إشهار للخلايا الماسونية النائمة، حيث طُلب آنذاك من كل المحافل الصغيرة إحضار ما لديها من وثائق لتكون في يد المحفل الرئيس، وبعد ثمان سنوات أعلن الإيرلنديون بدورهم تأسيس المحفل الكبير في دبلن، ثم أعلن الاسكتلنديون عن محفلهم عام 1773، وفي الوقت نفسه خرجت مئات المحافل الفرنسية عن صمتها وانتشرت في المجتمع كالنار في الهشيم.
في عام 1723 كتب جيمس أندرسون أول دستور للماسونية، وعندما أصبح بنيامين فرانكلين (أحد مؤسسي الولايات المتحدة) أستاذا أعظم للماسونية في بنسلفانيا عام 1734 أعاد طباعته مضيفا إليه طقوسا جديدة ومرتبة ثالثة تدعى الخبير بعد مرتبتي المبتدئ وأهل الصنعة، وجاء الدستور في 40 صفحة تتضمن تاريخ الماسونية، وفي أواخر القرن التاسع عشر أعاد الجنرال الأمريكي والأستاذ الأعظم للطقس الاسكتلندي ألبرت بايك كتابة الكثير من الطقوس الماسونية المعتمدة حتى اليوم.
جورج واشنطن يضع “حجر أساس واشنطن” في احتفال ماسوني رسمي كأول حجر في مبنى الكونغرس، حيث تأسست العاصمة الأمريكية على الأسس الماسونية منذ نشأة الدولة
الانضمام للجمعية تذكر المراجع الماسونية أنه يمكن لأي شخص الانضمام إلى المحافل وفق ثلاثة شروط، وهي أن يبلغ من العمر 21 عام على الأقل، وأن يكون مؤمنا بوجود إله دون اكتراث للعبادة التي يختارها، وأن يتحلى بأخلاق عالية.
وتنصح بعض المواقع الماسونية من يريد الانضمام بأن يبحث عن علامة “2B1Ask1” -وهي تعني إذا أردت أن تكون أحدهم فاسأل أحدهم- حيث يُطبع هذا الشعار على بعض القمصان والقبعات ويرتديها الماسون في تجمعات عامة لجذب الأعضاء الجدد ممن قرأوا عن معنى الشعار ويبحثون عنه فعليا.
وتقول تلك المواقع إنه إذا لم يحصل الباحث على هذا الشعار فليحاول الاتصال بأقرب محفل ماسوني إلى البلد الذي يقيم فيه ويسأله عن كيفية التقدم للعضوية. ومن المعروف أن معظم الدول الغربية ودولا أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تحتضن محافل رسمية معلنة ويمكن العثور على عناوينها عبر الإنترنت بسهولة.
على سبيل المثال، الرابط التالي ينقلك إلى صفحة على موقع “معهد ماساشوستس للتكنولوجيا”، الذي يعد أهم جامعة في العالم للتقنية، وهي تشرح كيفية الانضمام للماسونية، مع إبرازها على أنها جمعية أخوية للأشخاص الطيبين فقط! http://web.mit.edu/dryfoo/Masonry/how-to.html
تضيف المواقع الماسونية أن المحفل سيستقبل طلب الانضمام ويجري المقابلة مع المتقدم، ثم سيتحرى الماسون عن حياته وسلوكه، ليتحققوا من أخلاقه الحسنة، وفي حال الموافقة يدفع المتقدم رسوما بسيطة ويتم التكريس والبدء بالارتقاء في درجات الماسونية.
في المقابل، هناك مراجع تقول إنه من المستحيل الانضمام للماسونية عبر التقدم بطلب الانضمام، فالمحافل هي التي تبادر بمراسلة من يتم ترشيحهم من قبل بعض الأعضاء لتدعوهم للانضمام وإغرائهم بأن يكونوا من نخبة المجتمع.
ويبدو أن لكل محفل سياسته، فبعض المحافل لا تقبل الطلبات وتهملها والبعض الآخر يدرسها بعناية ويقبل بعض المتقدمين، كما أن بعض المنظمات الأخرى المنضوية تحت لواء الماسونية -والتي سيرد ذكرها لاحقا- تأخذ شكل النوادي الاجتماعية النخبوية وليس الجمعيات السرية، وهي بالفعل لا تقبل طلبات الانضمام بل تراسل من تراهم من نخبة المجتمع ولديهم القابلية لخدمة أهدافها، ولكل من هذه النوادي شريحة ما تسعى لاستقطابها، مثل نخبة رجال الأعمال والنخبة الأكاديمية ونجوم الفن والرياضة، وما شابه ذلك.
وحسب شهادة أحد الأصدقاء العرب، وهو من نخبة المجتمع سياسيا واجتماعيا، فقد تلقى بالفعل رسالة دعوة من المحفل العربي الوحيد في المنطقة والموجود في لبنان، دون أن يبادر بنفسه بالاتصال بأي عضو ماسوني.
أما طقوس الانضمام والتكريس فقد ذُكرت في مراجع عديدة، ونسبها المؤلفون لأعضاء منشقين عن الماسونية ممن تحدثوا عما جربوه بأنفسهم. وأهم ما فيها أن الطقوس مليئة بالرموز التي تحمل معاني محتملة, بحيث لا يفهم العضو الجديد من ظاهرها سوى أنه مقبل على الانضمام لأخوية عالمية يحرص أعضاؤها على حماية بعضهم وحفظ أسرارهم الخيّرة وتكريس أنفسهم لصالح المعرفة والعلم وخدمة المجتمع، ثم يأتي التهديد بالقتل في حالة الانشقاق أو كشف الأسرار، وهو ما يُبرر بأنه مجرد حرص على المواثيق والعهود المقطوعة فيما بينهم وليس تهديدا على شاكلة ما تفعله العصابات الإجرامية.
ومن أهم المراجع التي وصفت تلك الطقوس كتاب “السر المصون في شيعة الفرمسون” لرجل الدين اليسوعي اللبناني الراحل الأب لويس شيخو.
الجزء الأول من الفيلم الوثائقي “حركة الماسونية” ضمن برنامج “سري للغاية”: في مطلع هذا الفيلم، تم تجسيد طقوس الانضمام بمشهد درامي. علما بأن المراجع الماسونية تنكر هذه الطقوس وتزعم أنها اتهامات باطلة وممنهجة (مؤامرة) ضدها.
الرموز والعقائد يتضمن شعار الماسونية الأساسي صورة رمزية لمسطرة المعماري (الزاوية) بالتقاطع مع فرجار، وهي في معناها الظاهر من أدوات البناء، لكنها قد ترمز إلى علاقة الخالق بالمخلوق، وهي الرمزية التي يُشار إليها في النجمة السداسية التي اتخذها اليهود شعارا وأسموها نجمة داوود على اعتبار أنها ترمز إلى اتحاد الكهنوت مع رجال الدولة، وذلك من خلال سيطرة سلالة داوود على الحكم باتحادها مع الكهنة من سلالة هارون.
وتمثل الزاوية العنصر الثابت وهي أداة تحديد استقامة وصحة قائمية الحجر، أما الفرجار فيمثل العنصر المتحرك الذي يؤكد على ملكة الفكر وتحكمه بالمادة. وفي الدرجة الأولى توضع الزاوية فوق الفرجار الذي ما زال المريد يتعلم كيفية استعماله لصقل نفسه، وفي الدرجة الثانية يتداخل الاثنان ببعضهما، أما في الدرجة الثالثة فيوضع الفرجار فوق الزاوية.
ويتوسط الشعار حرف G الذي يزعم بعض الماسون أنه الحرف الأول من كلمة “God” أي الإله، كما يزعم البعض الآخر أنها أول حرف من كلمة هندسة Geometry، ولكن يذهب باحثون إلى أنه الحرف الأول من كلمة “Gematria” وهي تعني مجموعة القوانين التي وضعها أحبار اليهود لتفسير التوراة سنة 200 قبل الميلاد، أو ربما تكون دلالة على كلمة غنوصية Gnosticism وهي عقائد باطنية حلولية تداخلت مع أديان كثيرة بما فيها المسيحية واليهودية.
وتُستخدم أدوات البناء الأخرى لمعان رمزية مماثلة، حيث يمسك الأستاذ باليد اليسرى الإزميل الذي يُستخدم لنحت الحجر كرمز لاتخاذ القرار، كما يمسك باليمنى المطرقة كرمز للسلطة وتنفيذ القرار.
العمودان على مئزر ماسوني
أما العمودان اللذان لا يخلو منهما أي محفل فيرمزان إلى عمودين يزعم اليهود أن المهندس حيرام أنشأهما عند بوابة هيكل سليمان، حيث ورد ذكرهما في التوراة المحرفة تحت اسم ياكين (الملك الإسرائيلي الذي أسره نبوخذ نصر وقاده إلى بابل) وبوعز (أحد أجداد داوود)، ويقف مراقبا المحفل أمام كل منهما.
ويستحضر الماسون ذكرى حيرام الذي يقال إنه كان من أهم بنائي الهيكل، ويلقب بابن الأرملة، لذا يسمون أنفسهم بأبناء الأرملة، ويمثلون طقوس قتله على يد ثلاثة من البنائين الذين حاولوا أن ينتزعوا منه “الأسرار المقدسة لمرتبته المهنية الأعلى” فرفض. وتقول التوراة التي بين يدي اليهود اليوم “أرسل الملك سليمان فأخذ حيرام من صور وهو ابن أرملة من سبط نفتالي وأبوه رجل من صور صانع نحاس، وكان ممتلئًا حكمة وفهمًا ومعرفة في عمل كلِّ صنعة من النحاس”، وتدعي الأسطورة أن سليمان نفسه أوحى بفكرة قتله لأن حيرام أحب زوجته بلقيس، فالأساطير اليهودية لم تترك نبيا من أنبياء بني إسرائيل إلا وألصقت به تهمة شنيعة، ومع ذلك فقد أبقت على قداسته.
وبحسب كتاب “تبديد الظلام” الذي يروي قصة جمعية “القوة الخفية”، فإن حيرام الذي يقدسه الماسون ليس سوى شخص اسمه حيرام أبيود، وهو الذي أوحى للملك هيرودس أغريباس بفكرة الجمعية، وقد كان ابن أرملة يهودية فأطلق عليه الملك لقب ابن الأرملة، وصار اللقب شعارا لأعضاء الجمعية، ثم قُتل حيرام أبيود في جنوب لبنان دون أن يُعرف قاتله، فزعم زملاءه من مؤسسي الجمعية الآخرين أن هذا الاسم يعود إلى المهندس الذي صمم الهيكل واحتفظ بأسراره بنائه.
رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)
ويُعد المحفل Lodge بمثابة المعبد أو مقر الاجتماعات الذي يجتمع فيه الماسون، وهو يرمز لهيكل سليمان الذي يُعد النموذج الأعلى لمباني الماسون، حيث جاء في موسوعة الحركة الماسونية [طبعة فيلادلفيا 1906] أن “كل محفل هو في الحقيقة والواجب رمز للهيكل اليهودي وكل رئيس يعتلي كرسيه يمثل ملكا من ملوك اليهود وفي كل ماسوني تتمثل شخصية العامل اليهودي”. وينعقد الاجتماع في المحفل بما لا يقل عن سبعة ضباط يتولون مهام إدارة الاجتماع، وهم يرتدون مآزر وقفازات وقلادات خاصة بحسب درجاتهم.
ويسمى المحفل الرئيسي بالشرق الأعظم، وهناك عدة شروق عظمى حول العالم، فالمحافل كلها تجعل صدارتها في اتجاه المشرق، لأنهم يتجهون في طقوسهم باتجاه مشرق الشمس كما هو حال العبادات الشيطانية.
ويصرح الماسون في بياناتهم وخطاباتهم المعلنة والمتداولة بين الفئات الدنيا بمصطلحات تقديس “المهندس الأعظم للكون” على اعتبار أنه الإله الذي يؤمن به جميع أعضاء المنظمة على اختلاف أديانهم، لكن الباحثين في خفايا الماسونية يؤكدون أن الدرجات العليا لا تؤمن سوى بعقائد القبالاه، وأن هذا المهندس ليس إلا الشيطان “بافوميت” أو “لوسيفر” (حامل النور) الذي يُرجح المؤرخون أن فرسان الهيكل مارسوا عبادته بانتظام.
وتعد “العين التي ترى كل شيء” All Seeing Eye من أهم رموز الماسونية وأكثرها انتشاراً، ويزعمون أنها ترمز إلى عين المهندس الأعظم أو عين الكون العظيمة، كما يقول بعض مؤلفيهم إنها عين البصيرة، وهي تقابل العين الثالثة (شاكرا) لدى ممارسي رياضات التأمل واستجلاب الطاقة، ورُبطت تشريحيا في مصر واليونان بالغدة الصنوبرية الواقعة في تجويف الدماغ، حيث اعتبرها بعض الفلاسفة نقطة الوصل بين عوالم المعرفة، فالمتأمِّل يعمل على تشغيلها لبلوغ الاستنارة واستقبال المعرفة الكشفية العرفانية (الإلهام) في حين تبقى خاملة لدى عامة الناس، لذا يعمد الهندوس إلى رسم نقطة حمراء في وسط الجبهة لتحريض هذه الغدة على العمل.
أما أكبر قادة الماسونية في القرن التاسع عشر “ألبرت بايك” فيقول في كتابه “الأخلاق والعقيدة” إن العين كانت ترمز في العقائد الوثنية القديمة إلى عبادة الشمس، واعتُبرت في مصر رمزا للخالق أوزوريس [Morals and Dogma, 15].
ويشير المؤلف “رالف إبرسون” في كتابه “النظام العالمي الجديد” إلى أن العين ترمز لتوغل الماسونية في كل فئات المجتمع وقدرتها على مراقبته ومعاقبة من يفشي أسرارها.
ويرى بعض الباحثين في القبالاه والسحر أن هذه العين ليست سوى العين الشمال للشيطان، مشيرين إلى أنه لا يستخدم سوى العين الشمال واليد الشمال، وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه مسلم أن “الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله”.