احرص على ما ينفعك
يقف الإنسان أمام وسائل الإعلام مُتابعاً لما يحدث في هذا العالم، فكم حصد الوباء من أرواح، وكم هُجّر أشخاصٌ من أوطانهم، وما آخر الكوارث التي حصلت، وماذا عن أخبار الإلحاد والعالم الغربيّ الذي تنتكس فطرته شيئاً فشيئاً، ماذا عن التفاهة المنتشرة في مواقع التواصل، وعن ضياع الأجيال، ماذا عن الحروب، ثُمّ يتساءل، ما الذي عليّ فعلُه؟
في البداية لابُدّ أن نعلم بأنّنا نعيش على هذه الأرض لمدةٍ محدودة، وبأنّ مدة الإقامة ستنتهي مهما طالت، والله تعالى قد وزّع الابتلاءات على البشر، كُلٌّ حسبما يُطيقُه، وقد أعلَمَنا في كتابه بوضوح بأنّه تعالى لا يُكلّف نفساً إلا وسعها، ونتيجة الامتحان في تمايز الناس ما بين صابرٍ وشاكر، وساخطٍ وغافل.
مِمّا لا شكَ فيه، أنّ المسلم يهتم لأمر إخوانه المستضعفين، ويهتم لأمر أُمته في صلاحها وفسادها، ومن واجبه أنه لو كان يستطيع المساعدة أو الإصلاح بقدر استطاعته أن يفعل ما يستطيعه، وإن لم يستطع فعليه أن يتذكرهم في دعاءه.
ثُمّ ماذا بعد؟
بعد ذلك عليه أن يتذكّر الحقيقة التي تقول: إنّ كل بلاءٍ يقع بالمسلمين، ليس في قدرتك رفعه؛ فإنّ الله لن يسألك إن لم ترفعه[1].
وهنا، نستحضر قصة آل ياسر في بداية دعوة الإسلام، حيث كان المسلمون قلّة قليلة، يُخفونَ إسلامهم عن المشركين، قال جابر رضي الله عنه: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمّار وأهله وهم يعذَّبون فقال: (أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ، وَآلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ) [أخرجه الحاكم في المستدرك برقم: 5666]، والشاهد هنا بأنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد أرجَأ أمرهم إلى الآخرة، فلم يكن حال المسلمين آنذاك يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكذا أمرُ بلال بن رباح، وسؤال الصحابة للرسول -عليه الصلاة والسلام- ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصرُ لنا؟
ففي الحديث: عنْ أبي عبدِاللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ قَالَ: (شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟
فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) [أخرجه البخاري في صحيحه برقم: 6943]
فالرسول -عليه الصلاة والسلام- هنا يأمرهم بالصبر، ويُكرر على مسامعهم حقيقة البلاء في الدنيا، وحقيقة عدم بقاء الدُنيا على حالٍ واحد، حيث تتعاقب الأحوال مع مرور السنين، والأهم من ذلك أنّهم لم يتوقفوا عن العمل ولم يتراجعوا عن دينهم وعن الدعوة إليه رغم القلّة والضعف، ورغم أنّهم غرباءٌ بين الناس، والغربة مع الخوف ومع رؤية الإنسان للطريق الطويل المُظلم الذي لا يرى النور في آخره، كُلُّ هذا قد يُقعِد الإنسان عن العمل، ورُبّما يُقعِده عن الدعاء، وقد يدفعه للهرب بالاتجّاه والطريق المُعاكس للحق، حتى يدفع عن نفسه الشعور بالغربة، فيذهب إلى السراب يحسبه ماءً يروي به عَطشَه، حتى إذا جاءَهُ لم يجدهُ شيئاً.
هروبٌ إلى الله أم هروبٌ إلى الوهم؟
وسط هذه الظروف وأنواع البلاء المختلفة في الدين والدنيا، تتعدّدُ طرق هروب البشر، ما بين هاربٍ إلى الحقّ وهاربٍ إلى الباطل، إلا أنّ طريق الحقّ واحد، وطرق الباطل كثيرةٌ مُتعدّدة.
خُلق الإنسان وهو يُدرك بفطرته أنّ الدنيا هي ليست دار المقام، ففي داخله شيءٌ يُخبره أنّ هذا المكان لا يمكن تحصيل السعادة الكاملة فيه، وبأنه لابُدّ من الكدر والهمّ فيه، ومن هذا المُنطلَق، يبدأ الإنسان رحلته في الهروب.
بعض الناس يظنون أنّ النجاة تكون بتحصيل المال، أو بالهجرة إلى إحدى دول الأحلام، حيث اللذة التي لا تنتهي والانفتاح والأموال، ثمّ إن رحلوا إليها لا يلبثون إلا أن يعلموا بأنّها لم تُحقّق لهم فردوساً أرضيًّا كما ظنّوا فيعاودون الركض والهرب ويطلبون المزيد، يريدون رفع سقف اللذة، إلا أنه مهما ارتفع لا يجدون شيئاً يشفي مرادهم، إن هو إلا سرابٌ وغمٌّ وخوفٌ من فقدان الدنيا يؤرّقُ مضاجعهم.
وبعض الناس يهربون للشهرة ومواقع التواصل، وكذا حالهُم كحال مَن في المثال الأوّل، وليس بالضرورة أن تكون طُرق الهروب مُكلفةً كهذه، بل لعلّ كثيراً من الناس يهربون إلى إدمانٍ مجانيّ، يظنّونه هيّناً، وهو في حقيقته خطيرٌ جداً.
الهروب إلى السجائر، أو إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو إباحية المقاطع الفاحشة، الهروب إلى الأفلام والمسلسلات ومجالس اللغو، أو إلى عيادات التجميل، إلى الألعاب الإلكترونيّة والأسواق، اللجوء إلى الأغاني، الإمعان في الاستهلاك والتعلّق بالبشر، يدمنون ذلك كله ويطلبون المزيد والمزيد منها، فلا تزيدهم إلا خوفاً من فقدان اللذّة، ولا تزيدهم إلا تعاسة حتى وإن كان ظاهرها السعادة، وطُرق الباطل لا تنتهي كما أسلفنا.
ولأنّ الإنسان بفطرته يبحث عن الجنّة، فالطريق الحقيقيُّ للوصول إليها واحدٌ فقط، جاء الرُسُل فوجّهوا البشر إليه، وهو طريق العمل والتعب والمُجاهدة، مُجاهدة النفس عِلماً وعملاً، عملٌ مستمرٌ يشمل أعمال القلوب والجوارح من خلال الطاعات وترك المعاصي بعد العلم بما لا يسع المسلم جهله من الدين، جدولٌ يوميٌّ يضعه الإنسان لنفسه فيه أقلّ القليل مِمّا ينبغي للمسلم فعله، وحينما يُردّد الأذكار يُدرك معانيها فلا ينسى الهدف من وجوده في الدنيا، ولا ينسى أنّهُ سيُحاسب عن كلّ دقيقة تمضي من وقته، وعن جميع تفاصيل عمله وعِلمه وماله وأهله ودوائره القريبة، وعن أمره بالمعروف وإنكاره للمُنكر ولو بقلبه.
يقول الله تعالى على لسان نبيّه: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: ١٥٣]
هذه هي معركة الإنسان الحقيقيّة، سواء أَخرَج من تحت الأنقاض فاقداً أهله، أم دخل السجن مظلوماً، أم عاش حياةً مطمئنةً آمنة، أم عاش في أوضاعٍ اقتصاديّةٍ سيئة، فمعركة الإنسان أينما كان، في أن يختار طريق الهروب الصحيح، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: ٥٠].
الزم ثغرك
يقول عليه الصلاة والسلام: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها) [أخرجه الإمام أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرَد]، من هنا نعلم بأنّ الله سيُحاسبنا على أدوارنا وأعمالنا، حتى وإن كانت الدنيا في أسوأ الأحوال، فحين تقوم القيامة أيختار الإنسان البكاء والتوجُّع على الأطفال الجرحى في الحروب في منشورٍ ما، ثُمّ يُغلق التطبيق لينتقل إلى مشاهدة فيلم، يحسبُه مُهدّئاً، أم يدعو للضعفاء في الأرض ثمّ ينتقل إلى معركته الحقيقيّة وميدان عَمله؟ أم هل يستمر بالشكوى من القرارات الظالمة من المسؤولين ومن سوء الأوضاع الاقتصاديّة، ثُمّ يهرب إلى سجائره، ويسوّغ هروبه؟ أم يترك أمر الظلم والظالمين لِله ويمضي في طريق الحقّ رغم جميع الظروف؟
وكذلك نقول في أوضاعنا الفكرية والسلوكية، عندما يتعرض الإنسان لانتكاسة الواقع والسلوك والفطرة، هل الواجب عليه أن يبقى في صراعٍ مع نفسه وقَلقٍ مستمر مِمّا يحُلّ من إشكالاتٍ في تفكير الشباب وعقائدهم وضياعهم لأوقاتهم، مع يأسٍ ودون عملٍ حقيقيّ في إصلاح نفسه، أم يحاول الإصلاح بقدر ما يستطيع وقد هدأَت نفسُه، وعَلِمَ أنّ هداية القلوب وإصلاح الأمم بيد الله، ويبدأ من مجاهدة النفس أولاً؟
لعل الأغلب يقول: نعم، لابُدّ أن من الانتقال إلى ميدان العمل، وهنا لا ندعو إلى عدم الاهتمام بشأن المسلمين، بل على العكس، يتألّمُ الإنسان لألمِ أخيه المُسلم، ويتألّم الإنسان لسوء الأحوال إجمالاً في بلاد المسلمين، لكنّنا الآن لا نملك حكمًا إسلاميًّا عادلاً صحيحاً في أغلب بقاع العالم، بل إن الواقع يقول إنّنا في حالة ضعف، وهنا لا يملك المسلم سوى أن يبذل بقدر استطاعته من السعي لتنمية فكره ووعيه ودعم نهضة الأمة وإن بعمله اليومي المستقيم إلى جانب اللجوء والدعاء، مع التسليم والإذعان بحقيقة توزيع البلاء على الناس من قِبَل الله تعالى، وبحقيقة أنّ الأُمم تضعف وتقوى ولا تبقى على حال، لأنّ الله هو الأعلمُ بما يحتمله عباده، وبما يُصلحُ به عِباده، وبأنّ هذه سُنّة الحياة.
أقتبس ههنا للأستاذ أحمد سالم إحدى نصائحه الثمينة، يقول: “إذا لم تُضع واجباً أوجبه الله عليك ينصرون به أو يخفف عنهم البلاء تخفيفاً حقيقياً فلا بأس عليك، ووالهم بقلبك ودعائك وواسهم بما تستطيع، ولا تنصرف عن غاياتك التي اخترتها لتخدم بها دينك.
وإني والله شهدت في العشرين سنة الأخيرة أناساً ينتقلون هكذا من حادثة إلى حادثة لا هم يؤثرون في تلك الوقائع تأثيراً ملموساً يقابل أوقاتهم وجهودهم التي ينفقونها، ولا هم صنعوا شيئاً حقيقياً في التحديات القريبة منهم التي كانوا مؤهلين بالفعل للتغيير والإصلاح فيها.
إياك أن يدخل لك واحد من الناس من هذا الباب فيلفتك عن عملك لدين الله فيما تحسن وبما تحسن فيحيلك إلى ثرثار تجعجع بلا طحين، لا أنت رفعت البلاء ولا أنت عملت لدين الله صالحة تقرب الناس إلى ربهم وتقربك إلى رضاه.”[2]
ولنا أن نزيد هنا ونقول أيضاً حتى الدوائر القريبة من أهلٍ وأصحاب، من بعد نُصح الإنسان لهم ومحاولاته المستمرة في الإصلاح بكافّة الطُرُق وبكُلّ ما يستطيع، وبالدعاء بعد بذل الأسباب؛ لن يُسألَ بعدها عن النتيجة، فالإنسان مسؤولٌ عن السعي فقط، ولا يملك أحدٌ قلوب العِباد، بل إنّ معركة كل إنسان الحقيقيّة تبدأ من تزكيته لنفسه.
والآيات التي تدور حول إصلاح النفس وتزكيتها أوّلاً كثيرة، نورِدُ بعضها ههنا، كقوله تعالى: {منِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥] وقوله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: ٦] وقوله جل في علاه: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام: ١٠٤].
فلا بُدّ إذن للإنسان أن يلزمَ ثغره مهما تغيرت الظروف وتعاقبت، ولا يهرب إلا باتجّاه الحقّ بعيداً عن الباطل.
مهما بدَت صور الباطل أسهل وأجمل وألذّ، ومهما حاول الأعداء من الجنّ والإنس تزيينها، فليعلم الإنسان أنّها راحةٌ كاذبة، ولذّةٌ مؤقتة، بل إنها تحمل ألماً شديداً في طيّاتها، وليتأكّد كذلك بأنّ طريق الحقّ وإن بدا صعباً، وإن كان يبعث الشعور بالغربة ففيه الراحة الحقيقيّة، وفيه اللذّة التي لا تنتهي ولا تموت “فأريحوا أنفُسكُم بالتعب”[3].
[1] . من جملة ما نشره أ. أحمد سالم، على قناته في تيلغرام.
[2] من منشورات أ. أحمد سالم في قناته على تيلغرام.
[3] مقولة للدكتورعبد الرحمن ذاكر الهاشمي.