مقالات

البهائية وتأويلاتها الباطنية للقرآن الكريم (2 من 2)

بنت البهائية قواعد مبادئها -كغيرها من الفرق الباطنية الغالية- على التأويل الباطني، فأولوا “النبأ العظيم” في قوله تعالى “عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ” [النبأ: 1-5] بأنه ظهور البهاء وظهور دعوته التي سيختلف فيها الناس[1].

بينما تؤولها طائفة الإسماعيلية تأويلا مغايرا، فقال الداعي الإسماعيلي جعفر بن منصور اليمن: “المراد بالنبأ العظيم: صاحب الزمان –الناطق السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق- مستجاب أهل السموات والأرض إذا نزلت بهم نازلة”[2]، وهل كان مشركو مكة مختلفين في أمر علي كرم الله وجهه وأمر البهاء، أم في أمر البعث والجزاء كما دلت على ذلك الآيات التالية من السورة؟ ثم إن هذا التأويل المتناقض للفرق الباطنية يدل على أن كل طائفة تؤول بما شاء لها الهوى، كما يدل على أن البهائية ليست إلا امتدادا للباطنية القدامى، الذين لا يؤمنون بقرآن، ولا سنة، ولا دين، وإنما يتخذون من تأويل النصوص معاول لهدم الإسلام.

وأولوا الخروج في قوله تعالى: “واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب. يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج” [ق: 41-42] فقالوا: إن المراد بالخروج: خروج البهاء[3].

وفي تأويله لآيات من سورة الانفطار قال البهائي أحمد حمدي آل محمد: “إذا السماء انفطرت”: أي سماء الأديان انشقت، “وإذا الكواكب انتثرت” أي رجال الدين لم يبق لهم أثر.

“وإذا البحار فجرت”: أي فتحت القنوات كقناة السويس التي وصلت بين البحرين، “وإذا القبور بعثرت”: أي فتحت قبور الآشوريين، والفراعنة، والكلدانيين، لأجل دراستها[4]. وهذا مخالف لتأويل البهاء نفسه، إذ قال في تأويلها: “إن المقصود هنا سماء الأديان التي ترتفع في كل ظهور، ثم تنشق وتنفطر في الظهور الذي يأتي بعده، أي: أنها تصير باطلة منسوخة”[5]، بينما أولها الداعي الإسماعيلي أحمد حميد الدين الكرماني بقوله:”إذا السماء انفطرت“: قالوا في التفسير أي أهل الظاهر: انشقت، ونقول: أي أهل الباطن تبطل أحكام الشرائع. “وإذا الكواكب انتثرت” أي تبطل مقامات الحدود في دين الله”.

ألا تعطي هذه التأويلات المتناقضة صورة واضحة لمنهج الباطنيين المعوج في التلاعب بآيات القرآن حسب أهوائهم، فليس لتأويلاتهم قواعد ثابتة، أو أصول راسخة، مع زعمهم أنهم يأخذون عن المعصوم، كما أنهم لم يلتزموا بقواعد التفسير أو التأويل التي اتفق عليها العلماء الثقات. ثم إن الآيات السابقة لا تؤيد مدعاهم، فقد افتتحت السورة بتوقيت يوم الحساب بأشراط وعلامات كاختلال نظام العوالم، ثم وعظت المشركين ولفتت أنظارهم إلى ضرورة النظر في الأسباب التي حرفتهم عن التوحيد، وأبطلت دعاوى المشركين المنكرين للبعث والجزاء، وخلصت إلى بيان جزاء الأعمال الصالحة بإيجاز، وأطنبت ببيان جزاء الأعمال الفاجرة، لأن مقام التهويل يقتضي الإطناب فيه، ثم آيسهم من أن يملك أحد لأحد نفعا، أو ضرا، وأن الأمر يومئذ كله لله تعالى، فليس في السورة ما زعموه بتأويلاتهم الباطلة، التي لا سند لها سوى الهوى الآثم، والكذب والافتراء على الله.

ميرزا حسين الملقب بالبهاء

وانظر تأويل البهائية لآيات من سورة التكوير إذ قال البهائي أحمد حمدي آل محمد في تأويلها “إذا الشمس كورت“: أي ذهب ضوؤها. “وإذا النجوم انكدرت“: أي أن الشريعة الإسلامية ذهب زمانها، واستبدلت بشريعة أخرى. “وإذا الجبال سيرت“: أي ظهرت الدساتير الحديثة. “وإذا العشار عطلت“: أي استعيض عنها بالقطارات. “وإذا البحار سجرت“: أي أنشئت فيها البواخر. “وإذا النفوس زوجت“: أي اجتمع اليهود، والنصارى والمجوس على دين واحد فامتزجوا، وهو دين الميرزا حسين الملقب بالبهاء. “وإذا الموؤدة سئلت”: وهي الجنين يسقط هذه الأيام فيموت، فيسأل عنه من قبل القوانين لأنها تمنع الإجهاض. “وإذا الصحف نشرت“: أي كثرت الجرائد والمجلات. “وإذا السماء كشطت”: أي انقشعت الشريعة الإسلامية ولم يعد أحد يستظل بها، وعطلت أحكامها. “وإذا الجحيم سعرت“: لمن عارض البهاء. “وإذا الجنة أزلفت“: أي لأتباعه المؤمنين من البهائيين[6]“.

بينما أولها الداعي الإسماعيلي أحمد حميد الدين الكرماني بقوله:”إذا الشمس كورت” أي: ذهبت آثار شرائع الأنبياء، التي هي كالضوء من الشمس. “وإذا النجوم انكدرت” أي: تسقط مراتب الحدود حتى لا يبقى لها أثر. “وإذا الجبال سيرت” أي: استخدم الجبارين في الأرض، فيكونون كلهم طائعين لصاحب القيامة. “وإذا العشار عطلت” أي: أبطل التعليم بإزالة الحدود من رتبهم.

وإذا الوحوش حشرت” أي: جمع من على وجه الأرض على الطاعة. “وإذا البحار سجرت” أي: أقيمت حدود ظاهر الشريعة، وأعيد ما كان محذوفا منها من كلام المبتدعين والأبالسة، ويكون ذلك في الوقت المعلوم. “وإذا النفوس زوجت” أي: وجمع كل إلى قرينه وشبيهه من المنافقين والمجرمين. “وإذا االموءودة سئلت بأي ذنب قتلت” أي وسئلوا بأي حجة أخر من أخر من حدود الله عن مراتبهم، وقدم عليهم غيرهم. “وإذا السماء كشطت“: أي محي ذكر أئمة الضلال من القلوب، بإبطال دورهم. “وإذا الجحيم سعرت“: أي أقيمت آية وعيد الله للمعاندين لأمره من حجة صاحب القيامة. “وإذا الجنة أزلفت”: أي أقيمت موائد الله للمتقين في الدنيا والآخرة.

وفي الحقيقة لا نجد في هذا التأويل سوى سخافة وهذيان من ورائه نحل ضالة تحارب الإسلام، وتعمل جاهدة للتشويش على عقائد المسلمين. ثم إن الآيات التي حملوها ما لا تحتمل، فقد “ذكر فيها وقت قيام الساعة، وعلامات حضورها، والبعث، والحساب، والجزاء، وإثبات أن القرآن الذي أنذرهم بذلك وكذبوه، هو كتاب من عند الله، وتبرئة النبي صلى الله عليه وسلم من بعض ما وصمه به المشركون، من أنه ينطق بكلام الجن، وذكر ذلك الوقت، والإطناب فيه، أسلوب من أساليب تحقيقه في النفوس، وتصديق من أخبر به”[7].

ويرى البهائيون أن قوله تعالى: “ثم إن علينا بيانه” [سورة القيامة: 19] تصريح من جانب الحق بأن تأويله لا يظهر إلا عن طريق شخص يصطفيه الله للقيام بذلك، وهو البهاء[8]. بينما يستدل البابيون أن المقصود بالآية هو “كتاب البيان المقدس”. فالصحابة الكرام، والتابعون لهم بإحسان، والمفسرون، والفقهاء، والعلماء، والمفكرون، كانوا حسب زعمهم محجوبين عن فهم هذه الآيات على وجهها إلى أن جاءهم هذا البهاء.

ثم إن هذه التأويلات البعيدة الغريبة، لا تدل عليها اللغة، ولا يشهد لها ظاهر الكلام، ولا سياقه كما تبين لنا تعارض وتناقض الفرق الباطنية في تأويل الشيء الواحد، وأن هذه الفرق اتخذت من التأويل الباطني الفاسد خطة منهجية في حربها على الإسلام[9].

وأول البهائي أحمد حمدي الشجرة المباركة في قوله تعالى “يوقد من شجرة مباركة” [النور: 35] بأنها: الميرزا حسين علي، الملقب بالبهاء.

وأول قوله تعالى: “يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة..” [إبراهيم: 27] فقال: الحياة الدنيا: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والآخرة: الإيمان بالميرزا حسين علي اللقب بالبهاء.

وأول قوله تعالى: “والسموات مطويات بيمينه” [سورة الزمر: آية 67] فقال: المقصود بها: الأديان السبعة: البرهمية، والبوذية، والكونفوشيوسية، والزرادشتية، واليهودية، والنصرانية، والإسلام، ثم قال: إنها جميعا مطويات بيمينه، أي بيمين الميرزا حسين[10].

وبعد مقارنة التأويلات البهائية بما سبقها من تأويلات باطنية، نجد أن البهائية تقوم على أطلال الباطنية، وأنهم يهدفون من خلال تأويلاتهم الباطنية الفاسدة لآيات القرآن الكريم هدمه بمعول التأويل المنحرف، بعد أن فشل أسلافهم من غلاة الباطنية في تحريفه، كما حرفت الكتب السابقة.


الهوامش

 [1]  – الحراب في صدر البهاء والباب: ص55

 [2]  – كتاب الكشف: ص 31.

 [3] – الحراب في صدر البهاء والباب، ص 56

 [4] – التبيان والبرهان: ج2/ ص 131.

 [5] – الإيقان: ص 31.

 “[6] ” – التبيان والبرهان: ج2/ ص 120-121.

 [7]  – تفسير التحرير والتنوير، جزء عم: ص 181.

 [8]  – الحجج البهية: ص85. وانظر تركيز الدكتور فلاح الطويل على هذا المعنى – الذي ذهب إليه الجرفادقاني – في كتابه: عالمية القرآن والرمزية فيه، ص 9، 37، 154، وغيرها

 [9]  – المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار : ج3/ ص 313.

 [10]  – التبيان والبرهان: ج2/ ص 100، 137.

البهائية وتأويلاتها الباطنية للقرآن الكريم (1 من 2)

عندما يكون هناك فراغ فكري تصبح الأمة نهبا للتيارات الوافدة عليها من كل حدب وصوب لملء الفراغ، وذلك على حساب عقائد الأمة التي يقوم عليها تراثها الفكري والحضاري، والأمة الإسلامية –بفعل عوامل عديدة لا مجال لبسطها في هذا البحث- عاشت حالة من الفراغ الفكري، سببه الرئيس الجهل بحقائق الإسلام ومبادئه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما مكن لكثير من الفلسفات المادية، والمذاهب الباطنية الهدامة، أن تجد لها مكانا في عقول بعض المسلمين، وتفسد عليهم تصوراتهم وما فيه حياتهم. وكانت البهائية من أبرز هذه المذاهب الخطيرة التي وجدت لها مكانا في ديار المسلمين، ولم تأت بجديد، إنما نبشت ما قبرته الأيام من ضلالات الإسماعيلية وغيرهم من الفرق والطوائف الباطنية الغالية “أي المتطرفة”، إضافة إلى ما ورثته من خرافات ديانة البابية.

الجذور التاريخية للبهائية
البهائية وريثةُ البابية التي تنتسب إلى الباب: علي محمد الشيرازي، والباب لفظة كثيرة التداول في أدبيات الفرق الباطنية، يطلقونها على بعض أركان دعواتهم، فالباب عندهم هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يوجد داخل البناء، فهو إذن واسطة للمعرفة، متخذين من حديث يتردد على ألسنة المسلمين يقول “أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها”[1] سندا لصحة مزاعمهم، ولم تشتهر هذه اللفظة بمثل ما شهرها به علي محمد الشيرازي، الذي أسمى نفسه الباب، وتبعه أناس تلقبوا فيما بعد بالبابية، وكان عدد من اجتمع حوله من كبار تلامذة الرشتي ثمانية عشر شخصا أطلق عليهم لقب أصحاب أو شهداء “حي”[2]، وأمرهم بالانتشار في إيران والعراق يبشرون به وبدعوته، وأوصاهم بكتمان اسمه حتى يظهره هو بنفسه، ثم عاد إلى إيران، وهناك أعلن عن دعوته، واشتهر اسمه، فثار المسلمون عليه، ثم جمع والي شيراز بينه وبين علماء إيران، فناظروه وأظهروا ما في دعوته من ضلال، فاعتقله الوالي في سجن شيراز، ولكن هذا الاعتقال لم يمنعه من الادعاء بأنه يوحى إليه، فقرر الوالي قتله لولا لجوء الباب إلى التقية، فأخفى معتقده وأظهر ما يخالف ذلك، ونفى أنه يزعم أنه واسطة بين الناس والإمام المنتظر، فأطلق الوالي سراحه، ليبدأ الدعوة لمذهبه من جديد، فأمر الشاه ناصر الدين باعتقاله، وفي معتقله ألف الباب كتابه “البيان”، وزعم أنه أوحي إليه به، وأنه ناسخ للقرآن الكريم، فثار عليه العلماء، وأصدر الشاه ناصر الدين أوامره بإعدام الباب، وعلقت جثته في ميدان عام بمدينة تبريز، ثم أخفى أتباعه جثته في تابوت ودفنوه خارج طهران، ثم نبشوا القبر وأخرجوا التابوت حين طلب عباس أفندي الملقب بـغصن الله الأعظم -نجل البهاء- نقل الجثة إلى ثغر “حيفا” في فلسطين حيث تم دفنه هناك[3]، ليصبح المكان فيما بعد قبلة للبابيين، ثم البهائيين، حيث تم دفن جثة بهاء الله بجوار الباب في بهجة الكرمل، على منحدرات جبل الكرمل.[4]

نشأة البهائية

مقر البهائية في حيفا تحت رعاية الكيان الصهيوني

البهائية نحلة ورثت البابية، لتعبد من دون الله “حسين علي بن الميرزا عباس المازنداني”، الملقب “بالبهاء”. عرف البهاء البابية على يد أحد دعاتها في طهران، وأصبح من كبار دعاتها. ولما دبر البابيون مكيدة لاغتيال الشاه ناصر الدين، تبين للحكومة الإيرانية أن للبهاء وإخوانه يدا في تدبير هذه المكيدة الفاشلة، فأودعوهم السجن ريثما يصدر الأمر بالقصاص منهم، إلا أن تدخل القنصل الروسي والسفير الإنجليزي لدى الشاه حال دون ذلك، فصدر الأمر بنفيهم إلى بغداد.

وصرح “بهاء الله” بأنه لم ينج من الأغلال والسلاسل إلا بجهود قنصل الروس، فقال في سورة الهيكل: “يا ملك الروس: ولما كنت في السلاسل والأغلال في سجن طهران نصرني سفيرك”[5].

وكان الباب قد أوصى بخلافته من بعده للميرزا يحيى الملقب بـ”صبح أزل”، وجعل أخاه الميرزا حسين “الملقب ببهاء الله” وكيلا له. وكاد البهاء بدهائه وبمساعدة بعض البابيين فرض زعامته على من تبقى من البابيين لولا حادث ذهب بأمانيه أدراج الرياح، وهو نفي البابيين من بغداد إلى إسطنبول وغيرها من البلاد، وذلك لأنهم يحتفلون في أول شهر المحرم من كل عام هجري بعيد ميلاد الباب، ففي أول المحرم من عام 1379هـ احتفل البابيون بهذا العيد، فاجتمعوا في حديقة تسمى “باغ رضوان”، أي جنة الرضوان، في جو مليء بمظاهر الفرح والسرور، فشق ذلك على الشيعة الإثني عشرية الذين يعتبرون هذا اليوم يوم حزن ومأتم، فاعتبروا فعلهم ذلك ازدراء بهم وبمعتقداتهم، ولولا تدخل الحكومة آنذاك، لفتك الشيعة بالبابيين، فاستقر الرأي على نفيهم من بغداد إلى إسطنبول التي لبثوا فيها أربعة شهور، ثم صدر الأمر بنفيهم إلى “أدرنة” وتسمى عند البهائيين بـ”أرض السر”، وفي أدرنة جهر البهاء بالدعوة إلى نفسه، ولفظ أخاه لفظ النواة، فوقع النزاع بين الشقيقين.

وانقسم البابيون إلى فرقتين: فئة انحازت إلى البهاء وتسمى: “البابية البهائية”، وفئة ظلت على عهدها مع الميرزا يحيى، الملقب بـ”صبح أزل” فسميت بـ”البابية الأزلية”، معتقدة أنه هو خليفة الباب، وأن “البهاء” ليس له من الأمر شيء إلا أنه وكيل الأزل ونائبه، فاحتدم الجدال ورأى “صبح أزل” أن الأمر سيفلت من يده، فدس السم لأخيه في طعامه، ولكنه نجا من هذه المكيدة، فشرع يراسل البابيين يدعوهم إلى اتباعه ويبين لهم أنه هو المنوه عنه في كتب الباب بـ”من يظهره الله”، بل هو الذي أرسله كما أرسل مظاهره من قبل، مثل: زرادشت، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، والباب. ولما أفضى الأمر إلى الجدال فالقتال بين الوكيل والأصيل، خشيت دولة الخلافة أن تضطرم بـ”أدرنة” نيران الفتنة، فاتفقت وسفير الشاه على تغيير منفى القوم، والتفريق بين الأخوين، فنفت “البهاء” ومن تبعه إلى مدينة “عكا” في فلسطين، وسجنتهم في قلعتها، ونفت “صبح أزل” وأتباعه إلى جزيرة قبرص، وسجنتهم في قلعة “فاماغوستا”، ثم أطلقت سراح الأخوين وأتباعهما فيما بعد، على أن لا يغادر أحد منهم منفاه.

عبد البهاء

ثم ادعى كل منهما أنه رسول مستقل، لا خليفة الباب ولا نائبه، وأن الله تعالى قد بعثه رحمة للعالمين بشريعة جديدة، ناسخة لما بين يديها من الشرائع، وجاء كل منهما بكتاب زعم أنه وحي من الله لتصديق دعوته وتكذيب دعوى أخيه، ولم يلبث أن خفت صوت “صبح أزل”، وتفرق عنه أشياعه، وقوي بالتالي أمر “البهاء” وامتد نفوذه، وبعد أن كان يدعي أنه خليفة الباب أصبح يزعم أنه المهدي، ثم ادعى النبوة، فالربوبية والألوهية، إلى أن هلك في ثاني ذي القعدة سنة 1309هـ الموافق لـ28 / 5 / 1892م، فخلفه ولده الأكبر الميرزا عباس، الذي تلقب في حياة والده بـ”غصن الله الأعظم”، وبعد هلاك أبيه بـ”عبد البهاء”، ولم يمض وقت طويل حتى غير عبد البهاء أحكام شريعة أبيه، وادعى النبوة، فالربوبية.

شذرات من أحكام شريعة البهاء
يزعم البهاء كسلفه الباب، أن شريعته ناسخة لما سبقها ولشريعة الباب كذلك، بل أنشأ دينا جديدا هو مزيج عجيب من العقائد السماوية والوضعية، كحل وسط بين الأديان، وكطريقة عملية لإشاعة السلام في الأرض كما يدعي، ففي البهائية آيات من القرآن الكريم، ونصوص من التوراة والإنجيل، واقتباسات من الهندوسية، والكنفوشيوسية، والبوذية. ويؤولون هذه الاقتباسات بما تقتضيه ديانتهم الجديدة، التي وصفوها بأنها لا تنتمي إلى ديانة معينة بالذات، ولا هي فرقة أو مذهب، وإنما هي دعوة إلهية جديدة، من شأنها أن تختم الدورة السابقة أي: الرسالة الإسلامية.

حكم الصلاة في كتاب الأقدس: “قد فرض عليكم الصلاة من أول البلوغ أمرا من لدى الله ربكم، ورب آبائكم الأولين، من كان في نفسه ضعف من المرض أو الهرم، عفا الله عنه فضلا من عنده، إنه لهو الغفور الكريم. ومن لم يجد الماء يذكر خمس مرات بسم الله الأطهر ثم يشرع في العمل، هذا ما حكم به مولى العالمين. وكتب عليكم الصلاة فرادى، قد رفع حكم الجماعة، إلا في صلاة الميت، إنه لهو الآمر الحكيم.”[6].

قبلة البهائيين: “إذا أردتم الصلاة ولوا وجوهكم شطري الأقدس، المقام المقدس- أي عكا- الذي جعله الله مطاف الملأ الأعلى، ومقبل أهل مدائن البقاء، ومصدر الأمر لمن في الأرضين والسموات”[7].

وفرض الحج على الرجال دون النساء، ولهم ثلاث مزارات يقدسونها ويحجون إليها: الأول: في شيراز، وهو المكان الذي ولد فيه الباب. والثاني: في بغداد، وهو المكان الذي جهر فيه البهاء بدعوته. والثالث: في عكا، حيث دفن بعد هلاكه.

وجعل البهاء الصيام تسعة عشر يوما في شهر العلاء، ويكون عيد الفطر عندهم موافقا: لما يسمى بـ”عيد النيروز”.

أما حكم الزكاة عندهم: فقد بينه البهاء في “الأقدس” فقال “والذي يملك مئة مثقال من الذهب، فتسعة عشر مثقالا لله فاطر الأرض والسماء، إياكم يا قوم أن تمنعوا أنفسكم عن هذا الفضل العظيم”[8].

وحرمت البهائية على أتباعها الجهاد، وفرضت على أتباعها الدعوة إلى السلام، وعدم اللجوء إلى الحرب والقتال.


الهوامش

 [1] – حديث مضطرب غير ثابت، كما قال الدار قطني في العلل، وقال البخاري: ليس له وجه صحيح. وقد أسهب العجلوني في الحديث عنه في كشف الخفاء ج1/ ص 213. “رقم: 618”.

 [2] –   الحاء بحساب الجُمَّل تساوي: “8”، والياء تساوي: “10” ويضاف إلى الرقم “18” الباب نفسه فيصبح العدد: “19” فصار هذا الرقم مقدسا عند البابيين والبهائيين. انظر: مسيلمة في مسجد توسان: ص 46. وقراءة في وثائق البهائية: ص 250، 251. والبابية عرض ونقد: ص 62.

 [3] –  انظر: مفتاح باب الأبواب ص 246-247.

 [4]  – انظر: الحراب في صدر البهاء والباب، ص 219.

 [5] – البابية، عرض ونقد، ص 63.

 [6] – انظر: الحِراب في صدر البهاء والباب: ص 272.

 [7] – انظر: الحراب في صدر البهاء والباب، ص 271.

[8] – انظر: الحراب في صدر البهاء والباب: ص 278.

مصادر المعرفة

تعريفات
المعرفة: مصطلح يدل على إدراك صور الأشياء أو صفاتها أو إدراك المعاني المجردة (مثل الصدق والحرية) سواء كان لها وجود موضوعي أو في الذهن فقط.

العلم: حسب تعريف أهل المنطق هو إدراك الشيء أو المعنى على ما هو عليه في الواقع، أي أنه المعرفة الصحيحة التي تتطابق فيه الصورة الذهنية للشيء مع واقع هذا الشيء. أما “العلم” بالاصطلاح الشائع اليوم فهو ترجمة غير دقيقة لكلمة science التي تتعلق بنتائج العلم التجريبي فقط.

الخبرة Experience: هي تراكم المعارف التي يكتسبها الإنسان في حياته عبر نشاطه الذاتي وتفاعله مع عناصر البيئة المحيطة به، فهي مجموع المعارف العملية لكل فرد على حدة، وتعد لدى المدرسة البراغماتية المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية.

اليقين: هو الجزم بأن معرفة الشخص لأمر ما هي مطابقة للواقع قطعا (أي علم) مع وجود الدليل القاطع على ذلك. واليقين يورث الطمأنينة في القلب لأنه لا يحتمل وجود النقيض، وهو ما طلبه إبراهيم عليه السلام عندما قال {رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260].

الاعتقاد: هو الجزم بأن المعرفة مطابقة للواقع قطعا ولكن دون تقديم دليل قاطع، وهذا هو “الإيمان”. وفي حال كون الاعتقاد خاطئا أصلا فهو “اعتقاد فاسد”، ولكنه قد يكون صحيحا بالرغم من عدم تقديم الدليل.

الظن الراجح: هو الذي يكون أقل وثوقية من اليقين، فتتراوح نسبة الوثوق فيه ما بين 99% و51%.

الشك: هو الذي تتساوى فيها الاحتمالات تساوياً تاماً، فلا يكون لبعضها رجحان على بعض، وتكون نسبة الوثوق فيه 50%.

الظن المرجوح: هو الظن الوهمي، ويسمى “وهماً”، وهو ما كانت نسبة الوثوق فيه أقل من 50%، وإذا وصلت النسبة إلى الصفر فهو باطل بيقين.

هل المعرفة ممكنة؟
قبل بحثنا عن المعرفة وأدواتها، يجدر بنا التعرف على آراء الفلاسفة في إمكانية الوصول إلى المعرفة أولا، حيث اختلفت العقول كعادتها في الإجابة عن هذا السؤال إلى درجة تقديم أطروحات في غاية الغرابة.

ربما كان السفسطائيون في اليونان هم أول من شكك في إمكانية تحصيل المعرفة، وكانوا على ثلاثة آراء، هي:

1-  اللاأدرية: هم الذين يشكّون في إمكانية معرفة وجود الأشياء وخواصها، فهم يعتبرون أن التوصل إلى اليقين أمر مستحيل ويقدحون في كون الحواس والعقل مصادر موثوقة للمعرفة، وهكذا يمتنعون عن الجزم بأي شيء.

2- العِنادية: هم الذين يقولون إن أي قضية بديهية أو نظرية لا بد أن يكون هناك ما يعارضها، فيجزمون بأنه لا توجد حقائق في الكون.

3- العِندية: هم الذين أنكروا حقائق الأشياء، وزعموا أنه لا توجد حقيقة موضوعية، فما يراه أي شخص موجوداً فهو عنده موجود، ولا يصبح موجودا عند غيره حتى يراه كذلك، فالوجود والعدم والحق والباطل والمعايير كلها نسبية تتعلق بكل شخص على حدة، وهو ما يلخصه بروتاغوراس بقوله “الإنسان هو معيار كل شيء”.

بيرون

يعد الفيلسوف بيرون من أشهر الشكاك في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، فقد رحل مع جيش الإسكندر الكبير إلى الهند، وتلقى الفلسفة هناك على يد طائفة من الهندوس تسمى “الفلاسفة العراة”، الذين ما زال لهم وجود حتى اليوم في الهند وهم لا يرتدون أي ملابس تستر عوراتهم، ويُعتقد أنه أخذ عنهم بعض آرائهم عن التشكك ثم نقلها إلى اليونان.

رأى بيرون أن جميع الأديان والأساطير من حوله غير مقنعة، فقرر بذلك أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها وأنه ينبغي على الفيلسوف أن يبحث عن الطمأنينة لا الحقيقة، وكي لا يبقى الإنسان بلا عقيدة نصح أتباعه بأن يقبلوا الأساطير السائدة في بلادهم وزمانهم دون اكتراث لمدى صحتها.

انتهى الأمر بفلسفة بيرون إلى السلبية، حيث قرر أن أفضل ما يفعله الإنسان هو أن يقبل الحياة كما هي دون أن يحاول إصلاح العالم، وحتى دون أن يبذل جهدا في تجنب الأخطار ومعالجة الأمراض.

ومع أن النزعة الشكية انتشرت في اليونان وكادت أن تخرب العقول إلا أن الفيلسوف سقراط تمكن من الرد عليهم وتسخيف منهجهم، ثم تصدى لهم من بعده أفلاطون وأرسطو، فأنقذوا بلادهم من السقوط في العدمية، إذ يمكننا أن نتخيل مصير أي مجتمع ينتشر فيه هذا النوع من الشك الذي ينفي اليقين ويجعل المعرفة أمرا مستحيلا، بل ويترك معيار الحكم على الأخلاق والمعارف إلى الفرد ذاته بنسبية مطلقة.

السفسطائية “sophism”
هي حركة فكرية انتشرت في اليونان، وتحديدا في مدينة أثينا، خلال النصف الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، واشتهرت بنقل اهتمامات الفلاسفة من التأمل في القوانين الطبيعية والكونية إلى شؤون الإنسان الأخلاقية والسياسية، حيث كان الإنسان موضع اهتمام الأدباء وليس الفلاسفة، وتزامن ذلك مع قيام حروب دامية بين اليونان والفرس وبين أثينا وإسبرطة، وتزعزع الحكم الديمقراطي الأثيني، وتسلط الأرستقراطيين على الحكم مما جعل الأخلاق والسياسة وحقوق الناس هي القضايا المصيرية التي تستحق اهتمام الفلاسفة.

هنا ظهر فلاسفة الجماعة السفسطائية، وعلى رأسها “بروتاغوراس” و”غورجياس”، الذين سخِروا من الاهتمام بالقضايا الميتافيزيقية (الدينية والأسطورية) وركزوا اهتمامهم على السياسة والفصاحة والنجاح الدنيوي، وأصبح معيار الحق والعدل لديهم مرتبط بمدى قدرة الإنسان على المناظرة والجدل والمواهب الخطابية في إقناع الجماهير.

ميشيل دي مونتين

في القرن السادس عشر، أعاد الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين إحياء مذهب الشك، وكان له أثر كبير في إدخال الشك في فكر الحداثة، حيث تأثر به بعض المفكرين الذين انتهى بهم الحال إلى العدمية، ثم طوّر الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (توفي عام 1777م) فكرة الشك وقال إن المعرفة ليست مؤكدة بل مبنية على تصور الإنسان وإدراكه للأشياء.

استبعد هيوم مفهوم المعرفة الفطرية والمبادئ العقلية (البديهيات) وزعم أنها مكتسبة من العادة والتجربة وليست فطرية، كما أنكر الرابطة الضرورية بين السبب والمسبب (السببية) وحولها إلى رابطة ظاهرية ناتجة عن الألفة والعادة، فيقول مثلا إننا نعتقد بأن قطعة الفحم تشتعل عندما تُلقى في النار لأننا اعتدنا على رؤية ذلك كلما جربناه، ولكن ما الذي يضمن لنا أن التجربة ستنجح في المرة التالية؟

ومن الواضح أن نفي السببية يعني السقوط في نسبية مطلقة واستحالة الوصول إلى معرفة حقيقية أو يقينية، ما دفع بعدد من كبار الفلاسفة للرد على هيوم، وعلى رأسهم الألماني إيمانويل كانط (توفي عام 1804م) الذي يُعتبر اليوم بمثابة المنقذ للعقل الغربي من السقوط في الشك العدمي.

وفي مناقشة طويلة ومعقدة، أقام كانط حجته على أن شكية هيوم لن تؤدي إلى الشك في قيام عالم موضوعي بل إلى زعزعة اعتقادنا بضرورة السببية فقط، فينبغي أن ننطلق من مسلّمة بوجود تعاقب موضوعي بين الحوادث مستقلا عن إدراكاتنا الحسية، ثم نسأل: كيف نميز بين التعاقب في أفكارنا والتعاقب في الحوادث الموضوعية؟

الرد على الشك الفلسفي
وللرد على الشكاك والريبيين، نقتبس بإيجاز من كتاب الدكتور راجح الكردي “نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة” النقاط التالية:

1- ركز الشكاك طعنهم في الحواس كمصدر وحيد للمعرفة وأنها أساس البديهيات، وقد رد عليهم أفلاطون بأن أخطاء الحواس لا يصح الإستناد إليها في إنكار العلم لأنه يمكن تصحيحها، سواء باستخدام حاسة أخرى أو بالتجربة مع العقل والبرهان. كما أنه من الممكن جدا تصحيح أخطاء الحواس والتمييز بين حواس كل شخص على حدة بمنهج عقلي سليم تمحص فيه الحقيقة، فما تقدمه الحواس المختلفة من نتائج قد تكون مختلفة ولكنها ليست متناقضة، بينما يزعم الشكاك أنها متناقضة.

2- اختلاف الآراء جائز ولكن اتفاق الناس على أمور أساسية من البديهيات والمسلمات المعقولة والمبادىء ليس مستحيلا، مثل الاتفاق على الفضائل الأخلاقية والحقائق الرياضية.

3- هناك قضايا تتضح صحتها في العقل بمجرد تصورها بدون برهان، وهي قضايا بديهية أولية ومطلقة، فمن ذا الذي لا يصدق أن الكل أكبر من الجزء؟ ومن الذي يطلب دليلا عليه؟

أما الشك المطلق الذي ينفي إمكانية التعرف على الحقيقة نهائيا، فيردّ عليه الدكتور الكردي بما يلي:

1- إذا أراد الشاك إثبات مذهبه والبرهنة على صحة قوله فهذا يتطلب منه الاعتراف بأنه يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا، وهذا يناقض دعواه بامتناع اليقين.

2- الشاك إما أن يعلم وجوب الشك في كل شيء وهذا يعني أنه يعلم علما يقينيا بأنه ينبغي أن يشك في كل شيء، ويعلم من ثم علما يقينيا بأنه لا ينبغي الشك في كل شيء، وإما أن يعلم علما يقينياً أن مذهبه راجح فقط، فلديه مرجح يأخذ به. وإما أن يعترف بأنه لا يعلم علما يقينيا ولا راجحا وحينئذ فهو لا يضع الشك كمذهب ويقر بالعجز.

3- الشك نفسه يتضمن ثلاث بديهيات يأبى العقل الشك فيها، وهي: وجود الذات المفكرة (ذات الشخص الشاك نفسه فهو يعلم يقينا أنه موجود ويفكر)، وعدم جواز التناقض (لأنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقين وما الإنسان… إلخ، فهو يقر أن اليقين غير الشك وأنه من غير المستطاع أن يجمع بين الإثبات والنفي معا)، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة (فهو يعول على عقله في طرح مذهبه).

لودفيغ فتغنشتاين

يقول الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين إن الشك يستلزم مرجعاً، ما يعني أن الشك المطلق لغو، فهو استخدام خاطئ لكلمة الشك التي يستخدمها الشخص العادي عند المقارنة مع اليقين. وعندما كان يتحدث هيوم عن الشك مستخفاً بوجود العالم المادي وبالمعرفة الإنسانية فهو لم ينتبه إلى أنه قد تعلّم الشك نفسه من لغة الإنسان العادي، وكان عليه أن يستخدم لغة أخرى خاصة لا يفهمها إلا هو بناء على مفهومه المطلق للشك.

الشك المنهجي
إذا كان الشك الفلسفي -الذي تحدثنا عنه أعلاه- مذهبا مستقلا يقوم على إنكار المعرفة فإن الشك المنهجي يجعل من الشك مجرد وسيلة للوصول إلى اليقين، ويتطلب ذلك من الباحث أن يجرد عقله عن كل المعلومات والأفكار والمعارف، وينطلق تدريجيا بالتأمل والتفكير نحو اكتساب الحقائق المجردة.

أرسطو

أوصى أرسطو (توفي عام 322ق.م) في وقت مبكر بضرورة الشك المنهجي، وقال إن هناك علاقة ضرورية بين الشك والمعرفة الصحيحة، لأن المعرفة التي تعقب الشك أقرب إلى الصواب.

كان أبو حامد الغزالي (حجة الإسلام المتوفى عام 1111م) أيضا من رواد هذا الشك، ففي كتاب “المنقذ من الضلال” تحدث عن تجربته مع الشك عندما بدأ بالشك في الحواس لعدم قدرتها على كشف الكثير من مظاهر الزيغ، ثم أخذ يشك في العقل نفسه إزاء نتيجة خوضه في المناظرات الفكرية العميقة مع شتى التيارات الفكرية السائدة، حتى وصل به الأمر إلى المرض النفسي والجسدي (الاكتئاب)، حيث كان يعاني من صعوبة في الكلام وفقدان الشهية للطعام، واستمر على هذا الحال ستة أشھر، ولم ينته إلا بعد أن قذف الله في صدره نور الحقيقة، فاستعاد عقله الثقة بالبديهيات والحقائق الأولى، ورجع إليه إيمانه بالمحسوسات والمعقولات. وقد دفعته هذه التجربة إلى الميل نحو الكشف الصوفي بعد أن كان من المؤيدين للمنهج العقلاني، لكن الأرجح أنه تخلى عن المنهج الصوفي في المرحلة الأخيرة من حياته.

في القرن السابع عشر سار الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت على خطا الغزالي، وقال إنه ينبغي علينا أن نطرح كل ما في داخل عقلنا من معارف، ونشك في جميع طرق العلم وأساليبه، حتى نصل إلى العقل مجردا خالصا. وقد مارس بنفسه هذا النهج في التأمل وطرح الاعتقاد بوجود كل شيء، حتى وصل إلى حقيقة واحدة يجب الإيمان بها وهي أنه يفكر، واستنتج منها المقولة الأولى للمعرفة “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، ثم استنتج من تلك الحقيقة حقيقة وجود الله وبقية الحقائق الأخرى.

طبيعة المعرفة
بعد الانتهاء من نقض الشك الفلسفي المطلق، والاعتقاد بإمكانية المعرفة واليقين، تفرعت مذاهب الفلاسفة في طبيعة معرفة الإنسان للأشياء وكيفية إدراكه لها إلى تيارين رئيسين، ثم حاول البعض إنشاء تيار توفيقي ثالث، ونوجزها بما يلي:

1- الواقعية: هو تيار يشمل مذاهب عديدة، وتعتقد جميعها بوجود عالم خارجي للموضوعات (الأشياء) مستقل عن الذات العارفة (الإنسان)، فمعرفة العقل للأشياء مطابقة للاشياء كما هي في الواقع، وهذا يعني أن المعرفة هي الصورة المنعكسة للعالم الخارجي في العقل.

ومن مذاهب هذا التيار الاعتقاد بصحة إدراك الحواس بشكل تام، وهو ما ثبت خطؤه بالتجربة، فالحواس قد تكون خادعة أحيانا مثل خدعة السراب.

ومن مذاهبه أيضا الواقعية النقدية التي تخفف من غلو الاعتقاد بصحة مدركات الحواس وترى أن المعرفة ليست مطابقة لهذه المدركات بل هي صورة معدلة في العقل، وهذا هو مذهب “الوضعية” الذي يرفع من قيمة العلم التجريبي ويجعل الفكر مجرد انعكاس للوجود المادي.

2- المثالية: أصحاب هذا التيار لا يرون وجودا إلا للفكر وتصوراته، فالمادة والأشياء كلها تابعة لما يفكر به العقل، ولا وجود للشيء إذا لم يدركه العقل، حتى أصبح العالم الموضوعي لدى بعضهم مجرد أفكار وخواطر، وهو تطرف غير منطقي وتنكره التجربة، فهناك أشياء موجودة في الكون ولا يدركها أي عقل، وهناك أشياء كانت موجودة منذ ملايين السنين ولم تُدرك إلا في وقت متأخر، ما دفعهم إلى القول إن تلك الأشياء كانت موجودة في “عقل إلهي” ثم استقبلها العقل البشري منه.

إيمانويل كانط

3- التيار النقدي: وضع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط مذهبا نقديا للتوفيق بين الواقعية والمثالية، فميز بين الظواهر العقلية السابقة على التجربة وبين الظواهر التي تكتسب بالحواس، وقال إن المعرفة لا تكتسب إلا بالحس والعقل معا، فنحن لا نعرف الأشياء كما هي بل كما تظهر لنا فقط، ومعرفتها تتم عبر نقلها بالحواس إلى الذهن ثم مطابقتها للمقولات والمبادئ العقلية.

منذ بداية القرن التاسع عشر، أصبح مذهب كانط بمثابة المرجع الأساسي للفكر الغربي، حيث أعاد للعقل بعض التوازن باتخاذه موقفا وسطيا والاعتقاد بوجود مبادئ فطرية وضرورية في العقل، لكن مذهبه لم يتمكن من إلغاء النظرة الوضعية لأنه جعل استخدام المبادئ الفطرية في غير المحسوس أمراً مستحيلاً، مما جعل إدراك العقل للحقائق الجزئية بمثابة حقيقة كلية، فقد ميّز كانط بين ما أسماه بالعقل النظري والعقل العملي، وأنكر قدرة العقل النظري (الخالص) على الوصول إلى “معرفة راسخة للحق العلوي”، فالعقل حسب رأيه لا ينتج معرفة ما لم يتصل بالأشياء المادية والتجارب الحسية التي تمدُّه بالمادة والمضمون عبر قوة الفهم، ومع ذلك فقد رأى كانط أنه لا بد من الاعتقاد بوجود إله ويوم آخر لتأسيس فعل أخلاقي.

وهذا يعني أن كانط لم يكن متوازنا ووسطيا بالفعل، بل أعطى المادة قيمة أكبر ولم يعترف بقيمة المبادئ الفطرية العقلية إلا بشكل تابع للمادة، حتى لم يجد مبررا لوجود الإله إلا من حيث الضرورة لتبرير الأخلاق، وهكذا أصبح الدين في العقل الغربي مسألة نفسية ذاتية خارجة عن مفهوم الحقائق، وأصبحت الوقائع تابعة لمصلحة الإنسان بدلاً من اعتماد العقل للبحث عن حقائق الأشياء [انظر مقال البراغماتية].

والمفارقة أن العقل الغربي الوضعي، الذي يعتقد أن المعرفة الدينية تحتاج إلى إيمان غيبي غير عقلاني، لا ينتبه إلى أن معرفته الوضعية المادية ليست أقل غيبية، فهو يجزم بمرجعية المادة وحدها دون برهان مع أنها مجرد خيار واحد من بين خيارات أخرى ممكنة.

ويجدر بالذكر أن المذاهب الحداثية كلها فقدت الكثير من بريقها في القرن العشرين مع ظهور تيارات ما بعد الحداثة وفيزياء الكم، بما فيها المذهب النقدي لكانط، حيث أدرك الكثيرون أن الأسس التي صاغت المعرفة الغربية نشأت داخل حركة تاريخية متأثرة بتسلط الكنيسة السياسي ومحاربتها للعلم، وهناك اعتقاد شائع اليوم بين فلاسفة العلم والعلماء التجريبيين أن المعرفة الكلية مستحيلة، وأن المعرفة العلمية المادية ليست يقينية.

مصادر المعرفة

بعد استعادة الإنسان ثقته بإمكانية التوصل إلى المعرفة، سيجد نفسه أمام عدة تيارات فكرية يؤمن كل منها بأولوية أحد المصادر أو الوسائل المؤدية للمعرفة، فهناك من يرى أن المعرفة لا تتحقق إلا بوسيلة واحدة، وهناك من يؤمن بمصادر أخرى غير أنه يثق بواحدة منها للتوصل إلى اليقين.

وسنتحدث فيما يلي عن خمسة مصادر رئيسة للمعرفة، وهي الإلهام والحدس والكشف، العقل، الحس، الإجماع، والوحي. ويجدر بالذكر أن مدارس الفلسفة الحداثية وما بعد الحداثية والعلماء التجريبيون لا يعترفون بالوحي والكشف، دون أن يمنع ذلك عشرات الملايين في الغرب من التمسك بإيمانهم بالوحي المسيحي-اليهودي وبالكشف على الطريقة الباطنية الغنوصية. وسنستعرض فيما موجزا لهذه المصادر الخمسة.

المصدر الأول: الإلهام والحدس

الإلهام هو ما يلقيه الإله في الروع، وبحسب المتصوفة فهو الإيقاع في القلب من العلم غير القائم على الاستدلال، أما أتباع المذاهب الباطنية الغنوصية الذين يؤمنون بوجود ما يسمى بالعقل الفعال، مثل ابن سينا، فيقولون إن الإلهام هو ما يلقيه العقل الفعال في نفس الإنسان المؤيدة بشدة الصفاء.

وحدوث الإلهام يسمى بالإشراق والكشف والذوق لدى المتصوفة، أما الجزء البشري الذي يحدث فيه هذا الإشراق فيسمونه بالبصيرة، وهو يرى حقائق الأشياء وبواطنها كما يرى البصر ظواهر الأشياء المادية.

أما الحدس فهو الانتقال السريع للذهن من المبادئ إلى المطالب، ويعرّفه ديكارت بأنه عمل عقلي يدرك به الذهن حقيقة ما بشكل تام وبزمن واحد، أي بدون تدرج في الاستدلال، فهذا النوع من المعرفة يحصل تلقائيا في الذهن بمجرد تصور أمر ما ودون استدلال منطقي، ويضرب أهل المنطق على ذلك مثالا بقولهم إن مجرد رؤية أحدنا لشعاع ضوء يتسلل من ثقب في جدار يدفع الذهن للاعتقاد مباشرة بأن هناك مصدرا للضوء وراءه دون تفكير ولا تأمل.

هنري برغسون

أما الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (توفي عام 1941م) فقد وضع مذهبا فلسفيا جديدا في القرن العشرين على مفهوم الحدس، معتبرا أن الحدس عند الإنسان يشبه الغريزة عند الحيوان، وهو أمر لا يمكن التعبير عنه بالكلمات بل يجب تذوقه ومعايشته واختباره من قبل كل شخص على حدة حتى يكتسب به المعرفة. وبما أنه فيلسوف غربي من أصل يهودي فلم يكن ميالا إلى الإيمان بالإله المجرَّد بالرغم من أفكاره التي تبدو صوفية للوهلة الأولى، بل جعل الحدس معرفة منبثقة من داخل الإنسان وليست مصدرا للمعرفة التي تهبط عليه من الإله.

كان هنري برغسون يرى أن الحياة انطلقت من خزان كبير وانتشرت بين الكواكب، ثم اتخذت أشكالا متنوعة على شكل مادي، ومن الواضح أن هذه الفكرة الميتافيزيقية (الغيبية) لتفسير نشوء الكون والحياة لا يؤيدها أي دليل.

يضع برغسون المادة والحياة في موقعين متقابلين، فالحياة انطلاق وحرية، والمادة سكون وخضوع للقوانين الفيزيائية، وكلما اكتسب الشيء قدرا أكبر من الحياة كان أسمى، وهو ما يفسر سمو الإنسان على بقية الموجودات، وهو يختلف عن التطوريين (أتباع نظرية داروين) في أن لكل كائن حي قدره الخاص من الحياة والمادة منذ البداية، وإذا كان الحيوان يمتلك غريزة للتوصل إلى معرفته الخاصة فإن الإنسان يمتلك عقلا بالمقابل، كما يمتلك أيضا وجدانا أو بصيرة يتوصل بها إلى الحدس الذي هو أسمى أنواع المعرفة.

يضع برغسون أيضا الزمان والمكان في موقعين متقابلين، فالزمان متغير وحر، والمكان جامد ومقيد. والزمان هو الواقع الحقيقي وهو الحياة، وبما أن الكائنات الحية تعيش في حالة صيرورة دائمة بالانتقال من حال إلى آخر فإن علاقتها بالزمان هي “الديمومة”.

والتغير المستمر للأحياء هو حالة من التطور الخلاق، وهذه الحياة المبدعة هي الإله نفسه برأيه، فهي التي توجد الأشياء وتتابع تتطورها، وهي نفسها في حالة تطور. أما المعرفة الحقيقية لهذا الواقع الحي المتطور فهي الحدس، لأن العقل لا يستطيع أن يدرك الحياة بخصوصيتها، وعلى كل حي أن يندمج مع الحياة الباطنة ليتوصل إلى هذه المعرفة اليقينية المطلقة.

ويرى بعض المفكرين أن برغسون لم يأت بجديد، وأنه أعاد صياغة الباطنية اليهودية (القبالاه) في صورة جديدة تناسب العصر، وأنه تأثر أيضا بكل من أفلاطون وديكارت ومالبرانش وباسكال [مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ج. بنروبي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 176].

ويبدو أن طغيان الاتجاه المادي في القرن التاسع عشر على الفكر الغربي كان له أكبر الأثر في جنوح برغسون نحو الحدس، ليضع فلسفة معاصرة تعيد الاعتبار للروح، إلا أنه تطرف أيضا في اتجاهه الروحي كتطرف الوضعيين في المادية، فألغى الواقع العملي وقلل من شأن المعرفة العقلية المجردة، كما أن فلسفته لا تعدو قدر الفلسفات الغربية الأخرى في تناولها للقضايا الميتافيزيقية (الغيبية)، فالحدس ليس سوى جزء من الإنسان ومحدود بدائرتي المكان والزمان كمحدودية الإنسان نفسه، ولن يستطيع تجاوزهما حتى في خياله.

من جهة أخرى، يرى الباطنيون أن الحدس هو قبول الإلهام الذي يلقيه العقل الفعال في النفس، ويرى المتصوفة أن الحدس (الكشف) لا يتم إلا بعد رياضة روحية ومجاهدة نفس بطرق مدروسة وممنهجة، وهو ما اقتبسوه كما يبدو من الديانات الباطنية كالهندوسية والبوذية، أما عند الفلاسفة العقليين فالحدس والإلهام مصطلحان لشيء واحد، وهو حسب رأيهم المعرفة المباشرة دون استدلال وتجربة.

ويؤمن الباطنيون والمتصوفة بأن البصيرة لا تعمل عملها باكتساف المعرفة (سواء من الإله أو العقل الفعال أو الحقيقة الكونية) إلا بعد الاعتقاد بأن الجانب المادي من الإنسان هو عائق للروح والبصيرة، كما يعتقدون أن الحواس والعقل لا تتوصل إلا إلى حد معين من المعرفة لا يمكنها تجاوزه، وأن الحقائق لا تُكتسب إلا بالحدس والإلهام بعد القضاء على المادية. وقد يختلف الباطني مع المتصوف في الطريقة لكن الهدف واحد.

هل يكفي الحدس للمعرفة؟
سنناقش في مقال “الصوفية” مبدأ الإلهام كمصدر رئيس للمعرفة في مجال العقائد والشرائع لدى المتصوفة المسلمين، ونكتفي هنا بتوضيح ما يراه ابن تيمية من أن الإلهام مصدر معتبر، وأن إنكار كونه طريقا من طرق المعرفة هو خطأ يماثل خطأ الذين جعلوا طريقا شرعيا على الإطلاق، فيقول إن مذهب السنة الوسطي هو أن يكون الإلهام في الأحكام الشرعية محصورا بما لم تأت فيه أدلة شرعية نقلية أو عقلية، فيكون الإلهام هنا من باب الترجيح والفهم المنضبطين بالقواعد المتفق عليها [فتاوى ابن تيمية 10/473]، وهذا الفهم هو ما تؤيده حوادث الإلهام التي وقعت للصحابة والتابعين، وتدخل فيه الكرامات التي لا تخالف النص.

أما أهم الانتقادات الموجهة للحدس والإلهام كمصدر للمعرفة فنوجزها في النقاط التالية:

1- البصيرة لدى الإشراقيين ليست سوى إحدى ملَكات الإنسان، فهي محدودة القدرة والمدى ولا يمكن بأي حال أن تحصر العلوم بها.

2- حتى في حال عدم اعتماد البصيرة مصدرا وحيدا، والاكتفاء بالقول إنها المصدر الرئيس للمعرفة، فليس هناك أي ضمان لسلامة البصيرة من الزيغ والضلال، فالمعرفة المستفادة من الكشف تخص صاحبها فقط ولا يمكنه شرحها ولا نقلها للآخرين فضلا عن إثباته صحتها لهم.

3- يعترف كبار الإشراقيين بأن إلهاماتهم جاءت متاثرة بثقافتهم العامة، فكان فلاسفة الإشراق في اليونان ومصر يرون في مكاشفاتهم ما يؤيد أساطيرهم الوثنية، وهو ما حدث أيضا لفلاسفة الإشراق المسلمين (مثل الفارابي وابن سينا) الذين كانوا يشاهدون ما يسمى بالعقول العشرة التي اقتبسوها من نظرية الفيض اليونانية [انظر مقال الباطنية]، بينما يرى المتصوفة المسلمون ما يوافق عقيدتهم أثناء استغراقهم في الذكر، فلو كانت البصيرة مجردة عن هوى النفس وتأثيرات الثقافة كان ينبغي ألا ترى إلا الحقيقة المجردة التي يشترك فيها كل البشر.

4- ليس هناك أي ضمان عقلي أو نقلي أو حتى كشفي يثبت لنا أن ما يستقر في نفس الإنسان من مكاشفات هو من مصدر موثوق، سواء كان إلهًا أو حقيقة كونية أو الزمان الحيوي (لدى برغسون) أو حتى خيال الإنسان وأوهامه، فما الذي يمنع أن تكون الجهة التي تتصل بالعقل الباطن للإنسان هي شيطان خبيث؟

وفي الإسلام نصوص صريحة تحذر من اللبس الذي قد يحدث لدى البعض في الخلط بين الإلهام الرباني ووساوس الشياطين وأوهام العقل الباطن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم “الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة” [صحيح البخاري: 8/72، صحيح مسلم 4/1773]، وسيأتي تفصيل هذا النقد في ظل المفهوم الإسلامي ضمن مقال “الصوفية“.

ديفيد آيك بين أنصاره

5- بدأت تظهر في العقود الأخيرة ادعاءات كثيرة من قبل شخصيات باطنية غربية تزعم أنها تتصل بالتخاطر مع كائنات فضائية، وأقيمت بناء على هذه المزاعم أديان ومذاهب وتيارات فكرية يتبعها الملايين من الناس، ومن أهم المنظّرين لهذه الفكرة البريطاني ديفيد آيك الذي زعم في كتابه “السر الأكبر” وجود كائنات فضائية من الزواحف العاقلة تعيش تحت قشرة الأرض وأنها تسيطر على البشر بطرق عدة، وقال إن الكثير من تفاصيل هبوط الكائنات إلى الأرض قد تلقاه بالإشراق الباطني الذي يتلقاه منها مباشرة، ودون أن يقدم أي دليل على صحة وجود هذا الإشراق الذي لم يختبره أحد سواه، ودون أن يثبت لنفسه -فضلا عن غيره- أن تلك الإشراقات التي يتلقاها صحيحة وصادقة فعلا وليست من قِبل شياطين يعبثون به.

المصدر الثاني: العقل

يصنف العقل لدى الفلاسفة القدماء إلى صنفين: الأول غريزي، وهو الملَكة التي يعلم بها الإنسان الضروريات، فهو غريزة تمتلك علوما أولية أو مبادئ ثابتة. أما الثاني فهو مُكتسب، وهو الذي يفهم به الإنسان ويفكر.

ويتفق الفلاسفة الحداثيون مع هذا التصنيف، فيقول الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند إن العقل ينقسم إلى عقل منشئ وعقل مُنشأ، فالأول قوة فطرية تجريدية ثابتة، أما الثاني فيتكون على يد الأول بعد إعداد طويل، وبتراكم الحقائق المكتسبة والمقولات التي كرسها الاستعمال والقيم المقبولة من قبل المجتمع. [المعجم الفلسفي: 2/87].

إسبينوزا

وبحسب اعتبار بعض الفلاسفة لأولوية العقل، ظهر المذهب العقلي الذي وُجد داخل الكثير من الأديان، ففي المسيحية واليهودية يؤمن العقليون -مثل سبينوزا وشتراوس- بأن العقل مقياس لحقائق الوحي، في مقابل أتباع مذهب خوارق الطبيعة الذين يرون أن حقائق الوحي لا يمكن عرضها على العقل لأنها ليست في متناوله. وفي الإسلام نجد أيضا أن المعتزلة والفلاسفة يصرون على بناء عقيدة قائمة على العقل ورفض ما يرونه مناقضا له مما يرد في الوحي من نصوص، بينما يقول أهل الحديث وعلماء الكلام إن النقل أولى من العقل عند التعارض، كما يؤكد من تخصص منهم في العقائد أنه ليس هناك تعارض أصلا، وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه المشهور “درء تعارض العقل والنقل”.

أما أتباع المذهب العقلي من العلمانيين فلا يلتفتون إلى الوحي، ويجعلون المفاضلة بين العقل والحس والحدس فقط، بحيث يكون العقل هو الأولى باليقين، أو يكون هو المصدر الوحيد للمعرفة.

وعند دراسة أقوال ومناقشات هذه المذاهب، نرى أن مفهوم العقليين للعقل ليس خاصا بالعقل الغريزي بل يتعلق بالعقل المكتسب، فهو عقل تشكل في ظل التأثيرات الثقافية لكل عصر، حيث نرى أن العقليين داخل الأديان اليهودية والمسيحية والإسلامية متأثرين بالمنطق اليوناني وفلسفته العقلية، بينما يتشكل عقل المعاصرين بما أحدثته الثورة العلمية من اكتشافات.

الأوليات العقلية
تنقسم الأوليات إلى قسمين، الأول هو التصورات: وهي الإدراكات البسيطة مثل اللون والحرارة، والمركبة مثل تصور جبل من ذهب. والثاني هو التصديقات: وهي الإدركات التي تنطوي على حكم، أي تتضمن نسبة بين طرفين، مثل قولنا إن النار محرقة.

ويؤمن بعض أتباع المذهب العقلي بأن الأصول الأولى للمعرفة تعود كلها إلى التصورات، بينما يؤمن آخرون من العقليين بأنها تعود للتصديقات، حيث يرى الفريق الآخر أن التصورات قد تكون مجرد خواطر ووساوس وليست مبادئ أولية.

ويقول الفلاسفة إن العقل مفطور على أربعة مبادئ أولية، تنبثق منها المبادئ الأخرى، وهي:
1- مبدأ الهوية: الشيء لا يكون غيره، وبلغة المنطق يقال “ما هو هو، وما ليس هو ليس هو”.

2- مبدأ عدم التناقض: الشيء الواحد لا يمكن أن يكون وألا يكون في وقت واحد.

3- مبدأ نفي الثالث (الوسط المرفوع): أي شيء هو إما (أ) أو ليس (أ) ولا يمكن أن يكون لا هذا ولا ذاك، فمثلا إما أن يكون العدد زوجيا أو فرديا ولا يمكن أن يكون إلا أحدهما.

4- مبدأ العلية: لا يمكن أن يحدث شيء دون علة محددة، سواء كانت علة واحدة كافية للتفسير أو بالاشتراك مع علل أخرى.

تتصف المبادئ الأولية بصفتين رئيستين هما:
1- الفطرية: فالعقل البشري يولد وهي مفطور عليها، وقد تغيب عنه بفعل التربية أو الغفلة أو لقلة الذكاء، لكن تذكير العقل بها يساعد على استحضارها والتيقن بصحتها، وهذا يستلزم أيضا أن تكون بدهية فهي بارزة في العقل دون مقدمات وبراهين، ويصفها بعض الفلاسفة أيضا بأنها قبلية وأولية لأنها لا تحتاج إلى تجربة تؤكدها.

2- العمومية: حيث يرى العقليون أن تلك المبادئ معروفة لدى كل العقول، فكان ديكارت يقول إن العقل أحسن الأشياء توزعا بين الناس بالتساوي، حتى جعل معيار الحقيقة هو وضوحها في الذهن، وهو ما قاله أيضا بعض علماء الكلام المسلمين من الأشاعرة والمعتزلة، لكن آخرين يرون أن الناس يتفاوتون في العقول، فيقول الغزالي “أما الأصل وهو الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده” [إحياء علوم الدين 1/88]، ويرى ابن تيمية أيضا أن المبادئ الفطرية قد تضمر في العقل بسبب تفاوت الناس في قوة الذهن مثل تفاوتهم في قوة البدن.
ويمكن القول إن هذا التفاوت لا يعني أن المبادئ نفسها نسبية في دلالتها على الحقيقة بل من حيث صلة الناس بها، وذلك نظرا لتفاوت قدراتهم العقلية وغفلة بعضهم، فلا يمكن لعقل سليم أن ينكر مثلا أن النقيضين لا يجتمعان.

هل يكفي العقل وحده؟
اختلفت آراء العقليين بحسب الثقافة السائدة على مر العصور، فعندما سادت ثقافة الباطنية في الهند وفارس وبعض المناطق اليونانية كان الكهنة يزعمون عدم الحاجة للوحي، على اعتبار أن العقل الذي يتلقى الفيض من الإله (الحقيقة الكونية بحسب مفهومهم) في غنى عن تلقي المعرفة نفسها بالوحي المباشر على يد الأنبياء، وتأثر بهذا المفهوم الفلاسفة العقليون الذين نشأوا في البيئة نفسها، كما لحق بهم بعض فلاسفة الإسلام مثل الطبيب الرازي المتوفى عام 313هـ.

ومن الأمثلة المشهورة لهذا المنهج في البيئة الإسلامية، رواية “حي بن يقظان” للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، التي تحكي قصة طفل ينشأ وحيدا في جزيرة نائية، حيث يبدأ بالتأمل في ذاته وفي الكون والحقائق الوجودية دون تربية ولا توجيه، فيصل إلى المعرفة بعقله دون حاجة للوحي.

وعندما بدأت ترجمة الفلسفة اليونانية العقلية وشبيهتها الإسلامية إلى اللغات الأوروبية ظهرت أفكار مماثلة لدى الأوروبيين، فاعتبر سبينوزا أن العقل أوثق من الوحي لأن دلائل صدقه متضمنة فيه بينما يحتاج الوحي إلى المعجزة لإثبات صدقه، كما سار لايبنتز على نفس النهج، وحاول الاثنان في القرن السابع عشر إقامة دين جديد تحت مسمى دين الطبيعة، بحيث يُحتكم فيه إلى العقل دون الوحي، ثم دعم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط هذا التوجه في القرن التاسع عشر.

ديكارت

ويبدو أن الفلاسفة العقليين في عصر النهضة الأوروبية كانوا يسعون إلى رد الاعتبار للعقل ضمن صراعهم مع كهنوت الكاثوليكية من جانب، وضمن صراعهم أيضا مع فلاسفة المذهب الحسي، ولكن ديكارت نفسه (وهو رائد هذا المذهب) اعترف بأن هناك حقائق ميتافزيقية (غيبية) لا يمكن للعقل الخوض فيها، ثم جاء أتباعه من بعده ليحصروا المعرفة في العقل وحده.

لم يكن هناك فصل آنذاك بين الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والطب، ما سمح للعقليين بمنح العقل تلك المنزلة العالية، لكن الكثير من الدراسات الاجتماعية التي ظهرت في القرن العشرين أكدت أن الفطرة لا يمكن أن تبقى مصونة عن الزيف بعد وقوعها تحت تأثير الوراثة والبيئة [محمد تقي الأميني، عصر الإلحاد، ص74]، فمن شبه المستحيل التوصل إلى نتائج عقلية مجردة في العلوم الضرورية التي تقوم على الأوليات العقلية (الفطرة)، وهو ما يؤكده الفليسوف الألماني كولبه بقوله “إنه من الصعب أن نضع حدا فاصلا بين الأحكام الأولية للعقل وبين الأحكام المكتسبة من التجربة”.

وصعوبة تجرد العقل البشري تنبع من طبيعة الإنسان، حيث يستحيل عليه التحول إلى آلة صماء كأجهزة الحاسوب المبرمجة على التسلسل المنطقي، فالتداخل بين العقل والنفس هو جوهر الإنسان منذ بدء خلقه.

كما أن وضع منهج معرفي متكامل للعقل من خلال العقل نفسه أمر متعذر، فلا يمكن للآلة أن تدرك ذاتها والمؤثرات المحيطة بها على وجه التمام، وأن تحدد بدقة حدود قدراتها ومنتهاها، ثم تضع منهجا يضبط عملها ويصحح مسارها فيه دون حاجة لمرشد خارجي. لذا اضطر ديكارت منذ بداية وضعه لمنهج المعرفة العقلي أن يسلّم بوجود إله خالق ومرشد كخطوة ضرورية وتلقائية بعد تسليمه بالحقيقة الأولى، وهي أن يعقل ذاته، وكأن العقل لا يستطيع أن يخطو خطوته الثانية دون مصدر علوي يستند عليه.

نتيجة لذلك، تعاني جميع المناهج العقلية من عيوب ونواقص لا تزال تظهر عمليا بعد إخضاعها للتطبيق، ومن أبرزها منطق أرسطو الذي تعرض للنقد على يد عدد من كبار العلماء المسلمين قبل أن يُنقد لاحقا في أوروبا، ومن أبرزهم ابن تيمية الذي أبرز في كتابه “الرد على المنطقيين” عجز المنطق عن التوصل إلى حقائق يقينية في الميتافيزيقيا، فالاستدلال بالقياس ينطلق من المقدمة الكلية إلى النتائج، مع أن الكلي لا يدل إلا على القدر المشترك من الأشياء الكلية، بينما تكون قضايا العقيدة معيّنة ولا يمكن للقياس الكلي أن يدل عليها.

ومن عيوب المنطق أيضا “قياس الغائب على الشاهد”، فمن خلال البحث في العلة المشتركة بينهما يمكن فقط للعقل أن يستنتج الحقائق، وهذا يؤدي إلى قياس الإله على الإنسان، وهو افتراض غير مبرر أصلا. يقول ابن تيمية إنه لا يجوز أن يدخل الإله مع غيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، وعندما فعل علماء الكلام والفلاسفة ذلك تناقضت أدلتهم ولم تبلغ اليقين.

وهذا القصور في المنهج، وفي الأداة نفسها (العقل)، تظهر آثاره في كل الفلسفات العقلية التي بحثت في الإلهيات والميافيزيقيا بلا استثناء، بل نجده واضحا أيضا في المدارس العقلية التي نشأت داخل الأديان، سواء لدى علماء الكلام (المتكلمين) والفلاسفة المسلمين أو لدى فلاسفة اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، حتى تراجع بعضهم عن التزام المنهج العقلي كله في الإلهيات بعد أن بلغ غايته في البحث والتبحر، مثل الرازي والآمدي والشهرستاني والغزالي.

ويُنقل عن أفضل الدين الخونجي (توفي عام 646هـ) قوله “أموت وما عرفت شيئا”، كما ينقل عن معاصره شمس الدين الخسروشاهي أنه قال عند موته “والله ما أدري ما أعتقد”، وقد سبقهما بذلك سقراط عندما قال “لا أعرف سوى شيء واحد، وهو أني لا أعرف شيئا” [العقيدة الطحاوية، ص 227-228].

ومع ذلك، فلا نقول إن العقل أداة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة، بل ينبغي التفريق بين وجود حقائق العقيدة وبين كنهها وتفاصيلها وما هي عليه، فالعقل قادر على إثبات وجود الحقائق الكبرى والبرهنة عليها، لكن التخبط يبدأ عندما يخوض في محاولة تعقل الكيفيات التي تكون عليها الحقائق الغيبية لأنها غائبة عنه وعن الحواس، ولا يستطيع النفاذ إلى عوالمها المفارقة للزمان والمكان مهما اشتط به الخيال، لذا قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أثبت للناس وجود الخالق وصفاته “تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا” [صححه الألباني]، وهذا ليس حَجرا على العقل بل حفظ له من الخوض في ما لا يقدر عليه.

أبيقور

المصدر الثالث: الحس والتجربة

يفرق علماء المنطق بين القضايا الحسية التي يجزم العقل بوجودها لمجرد تصورها، مثل وجود الشمس عند الإحساس بحرارتها أو رؤية ضيائها، وبين القضايا التجريبية التي يدخل فيها الحس ولكنها تتطلب المزيد من الملاحظة والتجربة.

والمذهب الحسي في الفلسفة هو الذي يقول أتباعه إن المعرفة محصورة بما تتلقاه الحواس الخمس، فكل التصورات العقلية مقتبسة من المعلومات التي تقدمها له الحواس، أما المنهج التجريبي فيقول أصحابه إن التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة من خلال توظيف المدرَكات الحسية في التجربة، ومن المعلوم أن التجربة تتطلب تدخل الباحث في الموضوع لاختباره ولا تكتفي بالملاحظة.

ابتدأ التيار الحسي بالظهور في اليونان على يد أبيقور خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ووافقه على ذلك الرواقيون الذين حصروا المعرفة بالحس مع أنهم لم ينفوا فاعلية العقل تماما.

وفي أوروبا، تأثر الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون (توفي عام 1349م) بأفكار الحسن بن الهيثم وابن رشد بعد ترجمتها، وحاول نقل المنهج العلمي التجريبي عن ابن الهيثم (توفي عام 1040م) رغم رفض الكنيسة له، ثم تبنى هذا الاتجاه من بعده فرانسيس بيكون.

فرنسيس بيكون

ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (توفي عام 1704م) من رواد المذهب الحسي، حيث انطلق في وضع نظريته للمعرفة دون الالتفات إلى ما أقره ديكارت ومعظم الفلاسفة من ثنائية النفس والجسم، وأنكر وجود الفطرة والأوليات العقلية بناء على ملاحظته لتنوع الخبرات البشرية، فقال إن ما هو فطري لدى البعض ليس كذلك لدى البعض الآخر، وهكذا أخذ يبحث في انعكاس المعرفة على الذهن من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات، وانتهى إلى القول إن العقل البشري يولد كصفحة بيضاء خالية من أي علامات موروثة أو فطرية، ثم تكتب عليها الخبرة التجريبية ما تتلقاه من المعرفة من خلال الحواس.

ظهر ديفيد هيوم بعد وفاة لوك ليأخذ المذهب الحسي إلى غايته القصوى، فأنكر فاعلية العقل تماما حتى وصل إلى الشك كما ذكرنا في موضع سابق من هذا المقال، فبعد أن كان لوك يعترف بأن للعقل دور في المضاهاة والجمع والتجريد للمعرفة التي يتلقاها عن الحس لم يقر هيوم بأي دور للعقل بل جعه مجرد موطن للانفعالات الحسية.

ديفيد هيوم

وفي أواخر القرن الثامن عشر، وضع أوغست كونت الفلسفة الوضعية على أساس الثقة المطلقة بالعلم التجريبي، فقد ساد في تلك المرحلة الاعتقاد بأن الإنسان بلغ ذروة التقدم مع تكاثر الاختراعات والاكتشافات بأسرع وتيرة عرفها التاريخ، ما دفع بأنصار هذا المذهب إلى الاعتقاد بأن العلم التجريبي هو المصدر المعرفي الوحيد الذي سيجيب على كل الأسئلة.

تصور كونت أن البشرية تطورت طوال تاريخها عبر ثلاث مراحل، الأولى هي المرحلة اللاهوتية التي كان الإنسان يفسر فيها ظواهر الطبيعة بإعادتها إلى موجودات غيبية، سواء كانت إلهاً واحدا أو عدة آلهة، والثانية هي المرحلة الميتافيزيقية التي صار الإنسان يتوهم فيها وجود علل ذاتية داخل الظواهر بدلا من الآلهة، وفي المرحلة الثالثة صار الإنسان يفسر كل شيء بمنطق العلم التجريبي.

وقد رد كثير من الفلاسفة على هذه النظرية بأنها مجردة من البرهان التجريبي أصلا، فهي ليست سوى رواية ميتافيزيقية لتطور المجتمعات البشرية، واستقراء التاريخ يثبت عكسها، فالأوضاع الثلاثة التي تخيل أنها مراحل متعاقبة ما زالت قائمة حتى اليوم، وكانت متعايشة أيضا في مراحل قديمة من التاريخ.

تفسير مبدأ العلية والاستقراء
يقول العقليون إن السببية (العلية) مبدأ فطري كلي، فهو موجود في العقل بالفطرة ويمكن تعميمه على كل التجارب والأحداث في الكون بحيث يجزم العقل بأن لكل حادثة سببا ولكل معلول علة، لكن الحسيين انقسموا في تفسير العلة إلى ثلاثة اتجاهات، هي:

1- اتجاه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل الذي آمن بمبدأ السببية والعلية إلا أنه ردّه إلى الحس والتجربة بدلا من العقل، فرأى أن الإنسان يتعلم من التجربة أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها أسباب وعلل، واعتبر هذا الارتباط ضروريا مع أن الضرورة لا ينبغي أن تكون إلا بالعقل، وهو يرفض منح العقل أي فاعلية. وقد وافقته الفلسفة الماركسية المادية في هذا التفسير.

2- الاتجاه الذي أخذ به فلاسفة الوضعية المنطقية يرى أن تعميم الاستقراء لا يعطي حكما يقينيا، فتكرار التجربة والحوادث لا يتجاوز دوره تقديم احتمال بالوصول إلى النتيجة المطلوبة، مثل احتراق الخشب كلما تعرض للنار.

3- رأي هيوم الذي ينفي أي قيمة موضوعية للاستقراء، والذي يعتبر أن الربط بين العلة والمعلول مجرد انطباع نفسي ناشئ عن العادة دون أي ضرورة، فالسببية بين النار واحتراق الخشب ليست ضرورية ولا حتمية بل موجودة داخل نفوسنا بسبب تكرار العادة. وقد سبقه الغزالي إلى القول بهذا الرأي، كما أخذ به علماء النفس في المدرسة السلوكية الحديثة.

هل تكفي الحواس والتجربة مصدرا للمعرفة؟
لا يمكن لنا أن نسلّم للتجريبيين بحصر مصدر تصورات العقل كلها بالحس والتجربة، فقد يتصور الذهن تصورات مفارقة للمادة تماما مثل الوحدة والكثرة، لكن هذا لا يعني بالمقابل أنها تصورات عقلية محضة، لأنها ليست من البديهيات، بل هي نتيجة لتفاعل الحس والعقل.

ويظهر خلل الحسية التجريبية أكثر في مجال الميتافيزيقيا والأخلاق، فقد رد أصحاب هذا المذهب كل الأخلاق إلى التجربة وحاولوا دراستها سلوكيا كما يدرس العالم المخبري أي ظاهرة طبيعية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم تفسير مقنع، فالشكاك هيوم اعتبر أن الأحكام الأخلاقية لا تعبر عن حقيقة موضوعية بل تنشأ عن مشاعر الاستحسان والاستياء، ودون أن يقدم تفسيرا مقنعا لأصل هذه المشاعر. وعندما حاول الماركسيون ربط الأخلاق بالاقتصاد والصراع الطبقي داسوا على قيم العدالة تماما وحوّلوا الإنسان إلى جزء مسحوق في آلة المجتمع الجارفة.

جون لوك

ويبدو أن جون لوك قد وضع كل أتباع المذهب العقلي في خانة واحدة واعتقد أنهم يرون المبادئ العقلية صورة عن عالم المُثل الخيالي الذي تخيله أفلاطون، حيث كان الأخير يفترض أن الإنسان يحتاج فقط إلى تذكر الحقائق بعد ولادته لأنها موجودة كلها في عقله، لكن معظم العقليين كانوا يعترفون بدور الإدراكات الحسية بعد أن تعود إلى الأصول الثابتة في العقل، لتتحول إلى معرفة علمية.

من جهة ثانية، ينتقد التجريبيون الخطأ الذي يقع فيه بعض العقليين عندما يخلطون بين العقل الغريزي والعقل المكتسب (سبق توضيحهما)، وهو الخطأ الذي بدأ في اليونان وانتقل إلى الكثير من المتكلمين والفلاسفة المسلمين عندما اعتبر كل منهم أن مذهبه هو العقيدة الصحيحة التي يتوافق فيها العقل والنقل. وإذا كان هؤلاء قد ظنوا أن العقل كله غريزي فقد رد عليهم التجريبيون باتخاذ الموقف المعاكس والقول بأن العقل كله مكتسب، ومن ثم فهو يتأثر بالبيئة والمشاعر والخواطر النفسية، ولا يستحق أن يكون مصدرا للمعرفة. والواقع أن كلا الرأيين تطرف في موقفه.

ومن نتائج هذا التطرف المادي المتصاعد حتى بداية القرن العشرين، ساد في الغرب الاعتقاد بأن الإنسان نفسه ليس سوى مادة متطورة، فبعد أن وضعت الحسية التجريبية في عصر النهضة الإنسان بمركز الكون ليحتل موقع الإله نفسه، انزلق الإنسان المادي تدريجيا تحت ضغط الاكتشاف المتزايد لأسرار الكون المادي، لتصبح المادة هي الأساس والمركز، ويتحول الإنسان إلى موضوع تافه وهامشي، حتى ظهرت مدارس ما بعد الحداثة التي أنكرت كل مصادر المعرفة العقلية والحسية وأعلنت نهاية المدارس الفلسفية الكبرى والعودة إلى شك السفسطة، وهي نتيجة طبيعية لتفكيك الإنسان وتشييئه (تحويله إلى شيء مادي).

واللافت أن الحسيين والتجريبيين في عصر النهضة كانوا يؤمنون بالميتافيزيقا وبوجود الله، بل كان بعضهم من رجال الدين مثل جورج باركلي (توفي عام 1753)، إلا أن حصرهم للمعرفة بالحواس فتح الباب أمام الوضعيين والماركسيين إلى حصر الوجود كله بالمادة، وإذا كان موقف الحسيين الأوائل مجرد افتراض فلسفي ولم يرق إلى درجة العلم؛ فلن يجد الوضعيون والماركسيون والماديون دليلا علميا على إنكار وجود الغيبيات [انظر مقال “وجود الله“].

هل يجيب العلم التجريبي على كل الأسئلة؟

أينشتاين

شهدت بداية القرن العشرين ثورات علمية هائلة، ومن أبرزها نظرية النسبية لألبرت أينشتاين، ثم مجموعة نظريات شكلت مفهوما جديدا للفيزياء تحت مسمى الكمّ (كوانتم)، فضلا عن التطور في الطب وعلوم الأحياء، وكان لهذه الفتوحات وآثارها العملية التكنولوجية دور كبير في ظهور العالِم التجريبي في صورة خارقة وكأنه الوحيد القادر على الإجابة على الأسئلة الوجودية بدلا من الفلاسفة، فضلا عن “رجال الدين”، لذا طالب العالم الفرنسي المعروف لويس باستور السلطات برعاية المؤسسات العلمية بصفتها “مؤسسات مقدسة” وقال إنها ستكون “معابد المستقبل”، كما وافقه على ذلك الفيلسوف الفرنسي ليكومت دي نوي عندما قال “إن ثقة الناس بعلماء الطبيعة اليوم هي ثقتهم بالكهنة في العهد القديم” [دي نوي، مصير الإنسان، 1967، ص275].

يقول الفيزيائي البريطاني المعاصر ستيفن هوكنغ في كتابه التصميم العظيم “الفلسفة ماتت… وعلماء الطبيعة باتوا هم حملة شعلة الاكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة” [ص 13]، ويقول الفيزيائي الأميركي لورنس كراوس “إن الفلسفة حقل يذكرني للأسف بالنكتة القديمة لوودي آلن (ممثل كوميدي): أولئك الذين لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يدرّسون، والذين لا يستطيعون أن يدرّسوا يدرّسون الرياضة”.

وبالرغم من إنكار الكثير من العلماء -الذين يحظون بالاحتفاء الإعلامي- أهمية الفلسفة وتنديدهم بها، فإن نظرياتهم الكبرى تقوم أساسا على مواقف أيديولوجية مفلسفة. فعلى سبيل المثال، يقول الفلكي البريطاني كارل ساغان في افتتاحية برنامجه “الكون” Cosmos -الذي حقق أعلى نسب المشاهدات بدعم من شبكة بي.بي.سي- إنه “لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد شيء سوى الكون (أي المادة فقط)”، وهذا تعبير فلسفي وليس تصريحا علميا، فليس في وسع العلم التجريبي أصلا أن يجري تجربة مادية تنفي وجود عوالم أو كائنات غير مادية طالما أنها لا تخضع لأدواته، ومقولة ساغان هي تعبير صريح عن جوهر الفلسفة الطبيعية، والتي يعرّفها ستيرلنغ لامبرت بأنها موقف فلسفي ومنهج تجريبي يعتبر أن الوجود محكوم بعوامل عشوائية داخل نظام شامل في الطبيعة.

يقول عالم الوراثة في جامعة هارفارد ريتشارد ليونتن إن “استعدادنا لقبول المزاعم العلمية التي تخالف الحس السليم هو مفتاح فهم الصراع الحقيقي بين العلم وما هو ميتافيزيقي (غيبي)، فنحن نميل إلى صف العلم رغم ما يشوب بعض أفكاره من عبث… والمجتمع العلمي يتسامح مع القصص التي تُقبل دون برهان لأننا ملتزمون مسبقا بالفلسفة المادية، فمناهج العلم لا تجبرنا على قبول تفسير مادي للعالم بل التزامنا البديهي بالمادية هو الذي يجبرنا على إنتاج تفسيرات مادية مهما كانت مناقضة للحدس” [العلم ووجود الله، ص 62].، وليس هناك ما هو أوضح من هذا الاعتراف بتعصب العلماء الماديين للفلسفة المادية على أساس أيديولوجي بحت.

هوكنغ

ومن نتائج تبني هذه الفلسفة -المنكرة للتفلسف أصلا- أن التصورات الفلسفية للكثير من العلماء التجريبيين لم تعد تجد أي حرج في خرق المنطق، وهو ما يؤكده الاقتباس السابق عن ليونتن نفسه، كما يقول هوكنغ “إن الكثير من المفاهيم العلمية الحديثة تخالف المنطق السليم المبني على التجربة اليومية، أما طبيعة الكون فتكشف عن نفسها من خلال عجائب التكنولوجيا” [التصميم العظيم، ص 15]، كما يكرر الفيزيائي ميشيو كاكو في صفحات عدة من كتابه “فيزياء المستحيل” أن نظرية الكم تغير قوانين العقل الأساسية، وإلى درجة إسقاط مفهوم المستحيل من الوجود.

ويأتي الإشكال أولا من خرق نظرية النسبية لما هو مألوف ومعتاد، فقد كان يُعتقد أن الزمن ثابت كوني لا يتأثر بأي عامل من العوامل، لكن المعادلات الرياضية أثبتت أن سرعة الضوء هي الثابتة وأن الزمن نسبي، فعندما يتحرك جسم ما بسرعة كبيرة جدا فإن الزمن الخاص به يتمدد (يتباطأ)، فمثلا تقيس الساعة الموضوعة على صاروخ خارق السرعة مدة زمنية أقصر مما تقيسه ساعة أخرى على الأرض مثلا، وهذا أمر لم يكن ليخطر على بال أحد، وقد أثبتته التجارب العملية بالفعل.

ونتيجة لذلك بدأ كتّاب الخيال العلمي بالتجرؤ على خرق المنطق وطرح رؤى خيالية، فظهرت روايات السفر عبر الزمن كنوع من الخيال ثم لحق بهم الفيزيائيون النظريون (فئة من العلماء تدرس الآثار الفلسفية للعلم) على اعتبار أن الرياضيات لا تنكر تلك التخيلات، وظهرت معضلات فلسفية في العديد من الكتب العلمية “الرصينة” لتتساءل ما الذي سيحدث إذا عاد شخص بالزمن إلى الوراء وقتل والده مثلا، فهذا يعني أنه لن يُخلق أصلا، ثم ظهرت نظريات عدة لمناقشة هذه المشكلة دون أن ينتبه كثير من العلماء إلى التناقض العقلي في هذه العودة إلى الماضي.

والحقيقة أن نظرية النسبية العامة ليست معنية بما هو أبعد من دراسة تباطؤ مرور الزمن على اﻟﺠسم اﻟﻤتحرك بالنسبة ﻟﺠسم آخر ثابت، وهي لا تتعلق بالبنية اﻟﻤادية ﻟلجسم اﻟﻤتحرك كما هو اﻟﺤال ﻓﻲ نظرية الكم، ومن ثمّ فإن “منحنى الزمكان” ليس أكثر من مفهوم مثاﻟﻲ تخيلي، وتعبير “انحنائه” لا يعني أكثر من انحناء مسار حركة الجسم مع تمدد الزمن اﻟﻤقاس عليه بالنسبة إﻟﻰ ﻤراقب خارجه، وحتى ﻓﻲ حال انغلاق منحنى الزمكان فهذا لا يعني أن يدخل اﻟﺠسم ﻓﻲ مرحلة زمنية سابقة، بل غاية الأمر أن يعود للتحرك ﻓﻲ خط سيره من النقطة التي انغلق عندها اﻟﻤسار مع الاستمرار ﻓﻲ تباطؤ تغير حركته إﻟﻰ درجة الانعدام والدخول ﻓﻲ حالة “التفردية اﻟﻤركزية” التي لا يمكن اختبارها ﺗﺠريبياً، فضلاً عن ثبوت استحالة تحقق هذا الانغلاق فيزيائياً.

وعندما ظهرت فيزياء الكم التي تدرس أبسط عناصر الوجود على المستوى دون الذري (مكونات الذرة) كان فهمها أكثر صعوبة، لكن غموضها المشابه لغموض النسبية دفع بعض العلماء للمضي في وضع المزيد من السيناريوهات الخيالية. فيقول جون ويلر “إذا لم تكن حائرا إزاء مكانيكا الكم فإنك لم تفهمها”، ويؤيده روجر بينروس بقوله إن “ميكانيكا الكم لا معنى لها إطلاقا”، كما يقول ريتشارد فينمان “يمكن القول بثقة إنه لا أحد على الإطلاق يمكنه أن يفهم فيزياء الكم”.

ومن الأمثلة التي يطرحها الفيزيائيون لنقض المنطق العقلي أن تجارب فيزياء الكم أثبتت إمكانية وجود الإلكترون في مكانين في وقت واحد، وهذا يخالف بوضوح أحد أهم مبادئ العقل الأولية. وأن الإلكترونات والفوتونات وغيرها من المكونات تبدي سلوكا مغايرا في التجارب، فتبدو أحيانا في صورة جسيمات بينما تظهر على أنها موجات في أحيان أخرى.

والجواب أنه لم يثبت أصلا أن الإلكترون يوجد فعلا في مكانين معا كما هو حال الأجسام التي نعرفها، بل تظهر التجارب أن هذا الكائن الذي لا يُمكن أن يُرى بأي مجهر حتى الآن (لأنه أصغر من الموجة الضوئية) والذي يبدي سلوكا متقلبا بين الجسيمات والموجات يترك أثرا في مكانين معا، كما أن فيزياء الكم تنص وفقا لنظرية عدم التأكد على أنه لا يمكن فصل عملية المشاهدة عن سلوك المُشاهَد، فالإلكترون يتأثر برصدنا له أثناء خضوعه للتجربة ولا يقدم لنا سلوكا طبيعيا، فلسنا متأكدين إذن من حقيقة نقضه للمنطق عندما نرصد سلوكه العجيب.

ومن المغالطات التي نتجت عن سوء فهم فيزياء الكم وجود تعارض بين السببية وميكانيكا الكم، والحقيقة أن السببية موجودة أيضا في العالم دون الذري، لكن الجسيمات الذرية لا تقدم ردود الفعل المتوقعة دائما بل يكون سلوكها قائما ضمن احتمالات الدوال الموجية، حيث يقول الفيزيائي الألماني ماكس بورن في كتابه “ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻁﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ” إن فيزياء الكم لا تنقض السببية بل الحتمية فقط، أي أن كل الموجودات –حتى دون الذرية- تخضع للسببية والاطراد .

ويبدو أن تزامن الفتوحات العلمية وظهور نتائجها التكنولوجية مع سقوط النظريات الفلسفية الكبرى في عالم ما بعد الحداثة قد شجع العلماء على تجاوز لعب دور الفلاسفة إلى النكوص للسفسطة والشكوكية العدمية، حتى دعا كثير منهم إلى اعتبار صورة العالم عند الإنسان العادي صورة وهمية، مثل قول العالم البريطاني آرثر إدينغتون إن تصور الرجل العادي للمنضدة يختلف عن تصور العالِم لها، فالأول يراها جسما له لون وملمس وشكل وصلابة وثبات مكاني وديمومة زمنية، بينما يراها العالِم مجموعة ذرات بينها خلاء وتصدر عنها شحنات كهربية خاطفة. لكن الخلط بين اللغة التي تستخدم استخداما سليمًا للتعبير عن الأشياء التي نتعامل معها وبين اللغة المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية لن يؤدي سوى إلى الفوضى.

ومن الأمثلة المشهورة على القصور الفلسفي لدى بعض كبار الفيزيائيين، نذكر النظرية التي طرحها النمساوي إرفين شرودنغر لقطة نضعها (فرضيا) في صندوق مغلق، ومعها عداد غايغر (لحساب الإشعاع) وكمية من مادة مشعة، بحيث يكون احتمال تحلل ذرة واحدة خلال ساعة ممكنا وغير مؤكد، فإذا تحللت الذرة سيطرق عداد غايغر مطرقة تكسر زجاجة تحتوي غازا خانقا فيقتل القطة، ويقول شرودنغر إننا لن نعرف وضع القطة حتى نفتح الصندوق بعد ساعة، وهي قبل ذلك من وجهة نظر ميكانيكا الكم تعتبر في حالة مركبة من الحياة والموت، أي أنها تجمع حالتين متناقضتين.

وكان شرودنغر يقصد بهذا المثال السخرية من اعتقاد بعض علماء الفيزياء النظرية أنه يقدم “دليلا” على اجتماع النقيضين، فهذه ليست سوى سفسطة.

رسم توضيحي لتجربة قطة شرودنغر (Dhatfield)

يقول أليستر راي في كتابه “فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟” إن القارئ عندما يقرأ أن فيزياء الكوانتم تقول بأن القطة نصف حية ونصف ميتة، سيستنتج أن هذه سخافة تافهة، وسيلقي بالكتاب وينسى كل هذا الجنون. والحقيقة أن استعارة المصطلحات والمفاهيم من عالم ما دون الذرة لضرب الأمثلة على العالم المحسوس هو أصل المشكلة، فالفيزيائي بالكاد يستطيع أن يرصد آثار سلوك الجسيمات غير المرئية فتبدو له في لحظة ما وكأنها تجمع نقيضين، ولكن هذا لا يعني أنها كذلك في الحقيقة [فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟، مركز براهين، ص 126].

ويسعى بعض فلاسفة العلم المعاصرين اليوم إلى تبني اتجاه يدعى بالأداتية، يطالبون من خلاله بإعادة النظر ﻓﻲ الكثير من التصورات العلمية الناشئة عن نقل المفاهيم الرياضية اﻟﻤجردة إلى الحقائق المتشخصة على أرض الواقع، مثل تخيل “نسيج الزمكان” على هيئة حقيقية يمكن لها أن تنحني وتتداخل.

وبالنتيجة، إذا حاولنا الإجابة على سؤال هذه الفقرة “هل يجيب العلم على كل الأسئلة؟” فسنوجز الجواب بنقطتين:

النقطة الأولى: الملاحظة العلمية ليست مستقلة، حيث أثبت العالم فرنسي بيير دويم أن التجربة الفيزيائية ليست مجرد ملاحظة، بل هي أيضا تأويل للظاهرة التي تدرسها، ويقول مؤلف “نظريات العلم” آلان شالمرز إن ما يلاحظه العالِم يتوقف في جانب كبير منه على تجربته الماضية ومعارفه [شالمرز، نظريات العلم، دار توبقال، ص 36]. كما أن وضع الفرضيات لتأويل الظواهر الفيزيائية يخضع بدوره في الكثير من الأحيان لخلفية الباحث وتوقعاته. فعلى سبيل المثال، كان الفيزيائي ماكس بورن يقر بأن ما أنجزه في حقل اكتشافات المكونات الذرية كان مجرد تعميمات فلسفية لا فيزيائية، وما زالت الفرضيات المعتمدة اليوم لفهم عالم الذرة غير مثبتة تجريبيا إلا أنها مقبولة كأحد التأويلات الممكنة، والأمر ذاته ينطبق على نظرية التطور الدارويني.

والاستقراء مبدأ فطري، وتبريره فطري، لكن تحديد لحظة الانتقال من الخاص إلى العام قابل للخطأ، والكثير من العلماء المعاصرين يرفضون ذلك بسبب سوء فهمهم لمعنى الفطرة، فغالبية كتب فلسفة العلوم لا تناقش التبرير الفطري أصلا، فهو أمر مستبعد من العلم المادي التجريبي، وهو خلل في مفهوم “المعقولية” أو التأسيس لها. [الإجماع الإنساني، ص 139].

ويقول جون هوت “عند نقطة معينة في سلسلة التحقق من كل فرضية، لا بد من قفزة إيمانية تُعد مكونا أساسيا في العملية، وعنصر الثقة هو عنصر أساسي في كل بحث بشري عن الحقيقة، وإن وجدت نفسك تشك فيما قلتُه الآن فهذا لأنك في هذه اللحظة بالذات تثق في عقلك بما يكفي للتعبير عن شكك في كلامي، فلا يمكنك التخلص من الثقة في عقلك حتى عندما تساورك الشكوك، وأنت لا تطرح أسئلتك النقدية إلا لأنك تؤمن بأن الحق يستحق البحث، فالإيمان بهذا المعنى، وليس بمعنى الخيال الجامح، يكمن في جذور كل دين حقيقي، وكذلك في جذور العلم… وهذا يؤكد أن محاولات الإلحاد الجديد لتخليص الوعي البشري من الإيمان هي مجرد محاولة عبثية” [العلم ووجود الله، ص 107].

وبما أن العلم التجريبي قائم على الملاحظة والتجريب والاستقراء ثم تعميم النتائج على الظواهر الكونية، فهو إذن قائم على الاحتمال، حيث لا يمكن للعالِم أن يجزم بأن الشمس ستشرق غدا كما كانت تشرق كل يوم، ويقول بول ديفيز إن التقدم العلمي يتطلب “فعلا إيمانيا” للاعتقاد بوجود انتظام في الطبيعة، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي روجر تريغ “من أجل أن يتولى العلم مهمة تقديم التفسيرات لجميع الأشياء فنحن بحاجة إلى ما يبرر لنا الوثوق بالعلم” [Rationality and Science, p. 9].

“مع أن التزوير مخالف لأهداف العلم كنشاط ثقافي، إلا أنه متوطن بنيويًا في العلم المؤسس لمجتمعاتنا المعاصرة”.
أستاذة علم الاجتماع دينا فينشتاين.

كما يؤكد مبدأ “عدم اليقين” للفيزيائي فيرنر هايزنبرغ استحالة الحصول على نتائج دقيقة مئة بالمئة عند دراسة خاصيتين معا لشيء واحد من بين جملة خواص كمومية، أي أن معرفتنا للعالم ستبقى منقوصة حتما.

وبالرغم من جنوح خيال ميشيو كاكو في كتابه “فيزياء المستحيل” نحو ما يشبه تأليه العقل البشري، فإنه يعترف بأن “نظرية الكم مبنية على رمال من المصادفة والحظ والاحتمالات، وأنها لا تعطي أجوبة محددة” [العلم ووجود الله، ص276].

يعتبر الكثير من العلماء اليوم أن العلم هو الطريق الوحيد للحق وأنه قادر على تفسير كل شيء، وهذا ليس سوى موقف أيديولوجي مسبق اصطلح الفلاسفة المعاصرون على تسميته بالمذهب العلمي scientism، فليس هناك دليل علمي يثبت أن الوجود مادي بحت وأن التجربة هي المصدر الوحيد لاكتشافه.

يقول الفيلسوف البريطاني برتراند رَسل إن كل ما لا يمكن للعلم اكتشافه لا يمكن للبشرية أن تعرفه، وهذه عبارة متناقضة، فكيف عرف رَسل ذلك طالما أن عبارته ليست مثبتة علميا أصلا؟ ما يعني أنها ليست صحيحة بناءً على موقفه نفسه [العلم ووجود الله، ص106].

النقطة الثانية: حتى إذا اعتبرنا أن الرياضيات هي المصدر العلمي الموثوق للأجوبة على الأسئلة الوجودية، طالما أن الملاحظة الفيزيائية ليست نزيهة بالمطلق، فقد أثبت النمساوي كيرت غودل في عام 1931م أن هناك مقولات صادقة في الرياضيات لا يمكن البرهنة عليها، فعلى سبيل المثال ما زالت حدسية غولدباخ الموضوعة منذ عام 1742م غير مبرهنة، وبات الرياضيون يؤمنون اليوم بأن حلم فيثاغورس بفهم العالم كله عبر الأرقام والحساب مستحيل.

واستنتج الأمريكي المعاصر فريمان دايسون من نظرية “عدم الاكتمال” لغودل أن عالم الفيزياء والفلك غير قابلين للاكتمال أيضا، فمهما ابتعدنا في المستقبل فسيكون هناك دائما أشياء جديدة تحدث ومعلومات ترد وعوالم جديدة تُكتشف. ويلخص الفلكي جون بارو هذه الحقيقة بقوله إن العلم مبني على الرياضيات، ولا يمكن للرياضيات أن تكتشف الحقيقة كلها، فلا يمكن للعلم أن يكتشف الحقائق كلها.

لذلك اقتنع هوكنغ أخيرا باستحالة اكتشاف “نظرية كل شيء” التي تجمع النسبية مع الكم وتلخص كل ظواهر الوجود في معادلة واحدة، فالأمر لا يتعلق بنقص الأدوات وضيق الوقت فقط، بل لأن الملاحِظ (الباحث) سيظل أبدا جزءا من الكون نفسه ومن موضوع البحث، ولن يصبح “إلهاً” منفصلا عن الكون ليكتشفه على حقيقته التامة.

يقول البروفسور بيتر مدوّر في كتابه “نصائح لعالم شاب”: إن أسرع طريقة يسيء بها العالِم إلى سمعته هي أن يصرح بكل جرأة ودون مبرر بأن العلم يعرف أو سيكتشف قريبا الأجوبة على كل الأسئلة، وأن الأسئلة التي لا تقبل الأجوبة العلمية هي أسئلة زائفة وساذجة… لكن محدودية العلم تتضح في عجزه عن الإجابة على الأسئلة البدائية الوجودية، مثل البحث في كيفية بدء الخلق وغاية الوجود ومغزى الحياة. [Advice To A Young  Scientist, harper & row, 1979, p. 31].

ويقول في كتابه “حدود العلم”: من المحتمل أن هناك أسئلة يعجز العلم عن تقديم إجابات عنها نظرا لمحدوديته، كما لا يمكن لأي تطور علمي متوقع أن يؤهله لذلك. إنها الأسئلة التي يطرحها الأطفال، والأسئلة النهائية لكارل بوبر، ولدي أيضا أسئلة من قبيل: كيف بدأت الأشياء، لماذا نحن موجودون هنا؟ من أي شيء تم خلقنا؟ ما هي غاية الحياة؟… فليس في وسع العلم أن يجيب على اسئلة تتعلق ببدايات الأشياء ونهاياتها، والذي يجيب عليها هو الميتافيزيقيا والأدب والدين. [The Limits of Science, Oxford, 1984, p. 60].


المصدر الرابع: الإجماع
ربما لا تعتبر الكثير من المراجع الإجماع الإنساني بمثابة مصدر مستقل للمعرفة، إلا أننا ارتأينا تخصيصه كمصدر على أساس بعض الأبحاث الحديثة التي تعطي المجتمع دورا جوهريا في بلورة المعطيات الحسية والنفسية التي يتلقاها الإنسان منذ طفولته لتتحول إلى معرفة.

اهتم المفكر الإسلامي ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي بالمعنى الاجتماعي لتعريف “العادة الإنسانية الصحيحة”، فكان يرى أن تصحيحها يستند إلى انتشارها بين كافة المجتمعات البشرية، وكونها عادة نفسية واجتماعية أصيلة في البشر، فضلا عن تعبيرها عن حاجة ضرورية.

وعندما أعاد هيوم نشر فلسفة الشك السفسطائية في القرن الثامن عشر الميلادي، تصدى له الفيلسوف الأسكتلندي توماس ريد وأكد أن إجماع الأمم من العامة والمتعلمين ينبغي أن يكون له على الأقل سلطان كبير، إلا إذا استطعنا أن نثبت وجود تحيز ما من العموم لإجماع ما، فالأصل في الإجماع أن يكون مبررا بنفسه وأن المشكك هو الذي ينبغي أن يثبت وجود التحيز.

واعتبر ريد أن خصائص المشتركات الإنسانية هي: الإدراك بالحدس، الميل النفسي للتصديق بها في بنية الإنسان، الشعور بالحيرة عند الشك فيها، وأن تكون ضرورية للتعامل مع العالم بنجاح.

وأيضا تصدى كانط لشكية هيوم كما أسلفنا أعلاه، ورأى أن التعاقب الموضوعي ناشئ عن مبدأ عقلي أولي، فأعطى بذلك لما أسماه بالعقل الفعال دورا جوهريا في المعرفة.

وفي بداية القرن العشرين أحيا الفيلسوف البريطاني جورج مور فلسفة ريد وانتصر للفطرة السليمة، كما تصدى لمن يشكك بوجود العالم الخارجي بمناقشات شهيرة، ومن أشهر ردوده عليهم: حين أرفع يدي إلى أعلى وأقول: هذه يد، ثم أرفع يدي الأخرى وأقول: هذه يد أخرى، فبذلك أكون قد برهنت على وجود العالم الخارجي.

جون سيرل (FranksValli)

ثم أصدر الفيلسوف الأمريكي جون سيرل كتاب “العقل واللغة والمجتمع” الذي يعد من أهم الكتب المتخصصة في الانتصار لموقف الإنسان العادي، وقال فيه إن معيار المواقف التلقائية هو الثبات البشري العام على التمسك بها خلال التاريخ الطويل المليء بالدواعي الكاشفة للحقيقة، فطالما أن هذه القضايا لم تُكذب مطلقا فهذه قيمة موضوعية، كما اعتبر أن المواقف التلقائية سابقة على أي رؤية ذوقية فهي تتمتع بالكثير من الموضوعية.

ويعد الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين (توفي عام 1951م) من أهم المفكرين الذين لفتوا النظر إلى أهمية المجتمع في تكوين المعرفة من خلال دراساته في اللغة، وقد أكدت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة نظريته، فكان ينكر إمكان تمييز المعطيات الحسية والحالات النفسية دون ربط مجتمعي لكل حالة بلفظ معين، فالإنسان يتعرف على نفسه وعلى العالم من خلال علاقة إشارية موضوعية، ومن المستحيل عليه أن ينشئ لغة خاصة به من خلال المعطيات الحسية. والمعيار الأصلي هو الجماعة لا الذات، فالجماعة توفر له المعرفة الصحيحة بعلاقات واضحة ورمزية بشكل أفضل بكثير من المعيار الفردي الذي يفهم به الطفل الوليد قبل أن يتعلم اللغة، .

لودفيغ فتغنشتاين

وبحسب فتغنشتاين فنحن نتصور الألم من خلال اللغة، وبدون لغة سنتألم دون وعي بالألم. وبالخلاصة فلا يمكن الحديث عن أي “معقولية للعالم” بدون قواعد معيارية نكتسبها من الجماعة، ولا يمكن لأحد أن ينشئ لغة خاصة به (استبطان) دون استناد إلى معايير عامة يفهمها الناس.

ويقول فيلسوف العلم الأميركي المعاصر إرنست ناغل إن اللغة التي نستخدمها لوصف تجاربنا المباشرة هي اللغة المعتادة للتواصل الاجتماعي، فتطابق المباني اللغوية الأساسية في كافة المجتمعات مع اختلاف التجارب والمناخ والمعتقدات يبرهن على أن هناك بنية إنسانية عامة.

وهذا يعني أن المجتمع هو الذي يحدد شروط معرفتنا، ويوجه حواسنا منذ طفولتنا لنرى العالم كما نراه، والحاجة النفسية العميقة (الفطرية) هي التي تدفع الطفل للمسارعة في اتباع القواعد الإنسانية العامة وتعلم طرق التصنيف الإنساني والإيمان باطراد الحوادث. وقد لخص ناغل شروط تحقق الفطرة في نقطتين: أن تكون شرطا للعبة الجماعة البشرية، وأن تعبر عن حاجة اجتماعية ونفسية.

ويستنتج العالم البريطاني “ألفرد جول آير” أن حواس الإنسان ليست خاصة به بل محكومة بالتجربة الجماعية العامة، ولذلك لا نقول عن شيء إنه قابل للإدراك إلا إذا كان من الممكن وصفه من خلال مجموعة أشخاص على الأقل [The problem of knowledge, p.85].

وبناء على هذه المعطيات الحديثة، يمكن أن نجري بعض التعديلات على نظرية كانط بشأن “العقل الفعال” التي تعرضنا لها سابقا، فقد كان يرى أن المبدأ الكلي الضروري لا يصدر عن حس خالص أو معطيات حسية بل هو من طبيعة العقل الإنساني الفردي، والتجارب الحديثة تثبت أن القاعدة لا يمكن أن تنشأ من عقل واحد ولو كان فعالا، وأن الطفل لا يكتسب اللغة من ذاته بل في إطار اجتماعي تقبله الغريزة بمجرد الاحتكاك بالقواعد.

ومن الخطأ الخلط بين مغالطة الاحتكام إلى الأكثرية [انظر مقال المغالطات المنطقية] وبين استنباط البنية الطبيعية لإدراك البشر من خلال اتفاقهم الفطري رغم اختلاف الظروف والعادات بين المجتمعات.

المصدر الخامس: الوحي

يعرّف ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” الوحي بأنه أصل يدل على إلقاء علم من أحد لغيره، وقيّده البعض بأنه خفي وسريع. ونجد في القرآن الكريم صورا للوحي لا تتقيد بالمعنى الديني، فهو يشمل الإلهام الغريزي للحيوان: {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: 67]، والإلهام الفطري للإنسان: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7]، والإشارة السريعة من شخص لأشخاص آخرين: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا} [مريم: 11]، ووسوسة الشياطين: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121].

لكن المقصود بالوحي هنا هو الذي يوحي به الله إلى أنبيائه ورسله: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به} [الأنعام: 19]، وهو الوسيلة التي أبلغ الله بها رسله برسالتهم وطالبهم بتبليغها للناس: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163].

وإذا تجاوز الإنسان مرحلة الشك وآمن بوجود الله، سواء عن طريق العقل أو الكشف، أو بالتحقق من صدق الأنبياء ومعجزاتهم، فمن البدهي أن يعتبر الوحي الإلهي أعلى درجات مصادر المعرفة، وأن يعتبر كل ما يصدر عنه بمثابة العلم اليقيني. وبما أننا ما نزال في بداية طريق البحث عن الحقيقة فسنؤجل الحديث عن ضرورة اللجوء إلى الوحي بعد أن نتحقق من وجود الله أولاً، ثم سنتعرض في مقال “نبوة محمد” وما يليه لتفاصيل هذا المصدر المعرفي.

وما يهمنا بالدرجة الأولى في مصدرية الوحي للمعرفة هو الجانب الميتافيزيقي، فبعد أن ثبت لنا عجز العقل عن الخوض في عوالم الغيب، وعدم امتلاكنا لأي برهان يضمن صدور المكاشفات الحدسية -بشأن الغيبيات- عن مصدر موثوق، واستحالة التوصل إلى العالم الغيبي بالحواس لأنه مفارق للحس أصلا، وعجز التجربة والرياضيات عن الإحاطة بحقائق الكون المادي نفسه فضلا عن العالم الغيبي، فلن يبقى لدينا سوى اللجوء إلى الوحي بعد التحقق من صدق نسبته إلى الله.

ويجدر بالذكر أن الوحي بوصفه مصدرا للمعرفة يُصنف لدى علماء المسلمين تحت باب أوسع هو النقليات أو الخبريات، والذي يشمل كلا من: الخبر الصادق القطعي المثبت بالتواتر (القرآن الكريم والسنة والأخبار المتواترة)، والخبر الظني (روايات التاريخ والأحاديث التي لم تبلغ درجة التواتر)، والأساطير.

أما الفلاسفة المنكرين للوحي فيعتدون بمصدرية الخبر عندما تتحقق شروط الثقة في نقل الرواية، وإلا فلا قيمة لعلم التاريخ ولكل ما يصل إلينا من معارف وأخبار غابت عن حواسنا. فعلى سبيل المثال لا يمكن لأحد في العالم أن يرى بعينه كل مدن العالم بما فيها من سكان ومنازل وأسواق، إلا أنه يصدّق بوجود أي منها إذا تواترت الأخبار التي يتداولها الناس بوجود تلك المدينة ولو كانت في أقصى أصقاع الأرض ويصعب عليه التحقق شخصيا من وجودها.

ولم يخل تاريخ الفلسفة من منكري قيمة النقل، فالتيار السفسطائي الشكي في اليونان ممثلا بغورجياس كان يرى أنه لا يمكن معرفة شيء، وإن أمكن فلا يمكن نقل المعرفة للآخرين.

تمثال زيوس كبير الآلهة اليونانية

مواقف الفلاسفة من الوحي
إذا اعتبرنا اليونان مهداً للفلسفة، فسنبدأ عرضنا التاريخي من مواقف فلاسفتها تجاه الوحي، وسيأتي ذكر نشأة الأديان والأساطير هناك في مقال الوثنية، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن ما وصلنا من تراث فلاسفة اليونان قد لا يدل في الظاهر على أن الوحي بلغهم في ظل سيادة الأساطير على المشهد، ولذلك لم يصلنا من تراثهم الفلسفي شيء عن البحث في مسألة الوحي، سواء في المرحلة العقلانية الأولى على يد طاليس وأنكسيماندر، أو في مرحلة السفسطة، أو حتى في مرحلة سقراط ومن بعده ممن أعادوا الاعتبار للعقل، وذلك بالرغم من إيمانهم بوجود إله خالق من منطلق الضرورة العقلية. لكن التحقيق يرجح أن الأساطير الإغريقية نفسها لم تكن سوى تحريف لرسالة الوحي، حتى انقلبت الملائكة إلى آلهة تسكن جبل الأوليمب، ومع ذلك فالأثر الباقي في تراث الفلاسفة يبدو خاليا من آثار الوحي لأنه لم يبق لديهم منه شيء.

وقد أدى افتقار الإغريق للوحي إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية، فيقال إن سقراط ناقش مع مجموعة من أتباع فيثاغورس قضية خلود النفس البشرية، حيث حاولوا أن يدافعوا عن نظريتهم في التناسخ انطلاقا من خلفيتهم الباطنية، فاثبت لهم سقراط تهافت النظرية، فاقترحوا القول بخلودها بعد موت الجسد، فناقشهم أيضا في هذا الطرح ولم يتمكنوا من البرهنة عليه، وعندئذ سكت الجميع برهة، وقال أحدهم ويدعى سيمياس إن العلم بحقائق هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا، ومن الجبن اليأس في البحث حتى الوصول إلى آخر حدود العقل، وإذا لم نستوثق من الحق فعلينا أن نكتشف الدليل الأقوى ما دام أنه لا سبيل لنا إلى بلوغ اليقين بالوحي الإلهي [يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص91].

وعندما انتشرت المسيحية في أوروبا، رأى قسم من الفلاسفة أن الفلسفة والدين متغايران ولا يمكن جمعهما، وأن الدين لا يُعتنق إلا بالإيمان الأعمى دون تعقل، بينما رأى غالبية فلاسفة القرون الوسطى أن الوحي والعقل كلاهما من الله فلا يمكن أن يتعارضا، وقالوا إن ما جاء في الأناجيل من غيبيات لا يمكن للعقل أن يدركه بنفسه، فعليه أن يصدّق به كما جاء في تلك الكتب.

وفي القرن الثالث عشر بدأت فلسفة أرسطو العقلانية بالانتشار، واستفاد منها القديس الإيطالي توما الأكويني في محاولة إثبات ما جاء في الأناجيل بالمنطق، ثم ظهر من الفلاسفة من يقدم العقل على النقل ويرى أنه في حال تعارضهما فلا بد أن يكون العقل هو الأولى، ومن هؤلاء جون سكوت وآلان ديليل. وعندما انطلق عصر النهضة في القرن الرابع عشر كان الفلاسفة قد حسموا أمرهم في الفصل بين الفلسفة واللاهوت، واعتبروا أن “الوحي” مناقض للعقل ولا يدعمه الدليل العلمي.

ويجدر بالذكر هنا أن الوحي الذي كان موضع البحث لم يكن هو إنجيل عيسى عليه السلام، بل مجموعة الأناجيل الأربعة التي أقرها مجمع نيقية في القرن الرابع الميلادي، وقد فقد فلاسفة عصر النهضة الثقة بها عندما شرعوا في نقدها تاريخيا وتبين لهم احتواؤها على الكثير من التناقضات، فضلا عن عدم وجود أي دليل على صحة نسبتها إلى عيسى نفسه [انظر مقال المسيحية]، لذا أقر بعض الفلاسفة في القرن السابع عشر وما بعده -مثل سبينوزا- بأن هناك وحيا نزل بالفعل على النبيين موسى وعيسى عليهما السلام إلا أن الكتاب المقدس المعترف به من قبل الكنيسة ليس سوى نسخة محرفة، بينما قرر فلاسفة نزعة “التنوير” التخلي عن الإيمان بالوحي والاكتفاء بمصدرية العقل أو الحس أو الحدس.

ومن الواضح أن نقد فلاسفة الغرب للوحي صادر عن اعتقادهم بأنه يقتصر فقط على الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، بينما لا يكاد يتعرض أحدهم للقرآن في بحثه، وقد وضعوا الأديان كلها في سلة واحدة من خلال منظورهم للدين من زاوية تراثهم اليهودي-المسيحي فقط، ولم يميزوا بين القرآن وغيره لانطلاقهم في دراسته -إن فعلوا- من أبحاث المستشرقين الذين أقر معظمهم أن القرآن ليس وحيا إلهيا أصلا.

وفيما يتعلق بالإسلام، فسنبحث في مقال مستقل مرجعية الوحي الإسلامي ومصداقية نسبته إلى الله، ونكتفي هنا في سياق العرض التاريخي بالإشارة إلى أن مواقف فلاسفة الإسلام من مصدرية الوحي للمعرفة تنوعت كتنوع المواقف في أوروبا، فكان المعتزلة يحاولون إثبات حقائق الوحي بأدوات المنطق مع تقديم العقل عند “التعارض” مع النقل، بينما كان الأشاعرة يستخدمون الأدوات نفسها لإثبات عدم التعارض، كما وضع ابن رشد كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لإثبات توافق العقل والنقل من خلال مفهومه الخاص للعقل والذي يقتصر على المنطق الأرسطي، ثم وضع ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي كتاب “درء تعارض العقل والنقل” ليثبت أيضا عدم التعارض، ولكن دون قصر العقل على فلسفة أرسطو.


أهم المراجع
برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1967.

يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي.

عبد الرحمن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، دمشق، 1993.

عبد الرحمن الزنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي: دراسة نقدية في ضوء الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.

علي سامي نشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.

محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلو المصرية، 1949.

ميشيو كاكو، فيزياء المستحيل، ترجمة سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أبريل 2013.

رضا زيدان، الإجماع الإنساني، مركز براهين، 2017.

لؤي صافي، إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى النظرة التكاملية، دار الفكر، دمشق، 1998.

طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012.

راجح الكردي، نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.

جون لينوكس، العلم ووجود الله، ترجمة ماريانا كتكوت، الناشر خدمة كريدولوغوس، 2015.

عبد الله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، مركز تكوين، 2014.

عبد الرحمن الحاج، مقال “أزمة المعرفة في سياق الحداثة”، موقع إسلام أونلاين، 23 نوفمبر 2002.

إسماعيل عرفة، مقال “خائنو الحقيقة.. كيف يخدع علماء الطبيعة الجماهير؟”، موقع ميدان، 2 سبتمبر 2017.

J. Ayer, The Problem of Knowledge, Penguin, New York, 1956.

Sterling Lamprecht, The Metaphysics of Naturalism, Appleton Century Crofts, New York, 1960.

Roger Trigg, Rationality and Science, Oxford: Blackwell, 1993.

http://www.almasalik.com

حركة العصر الجديد

تعد حركة العصر الجديد امتدادا حديثا لمذاهب الباطنية (الغنوصية) التي تغلغلت في العديد من الأديان والفلسفات الشرقية من الهندوسية والبوذية والطاوية والأفلاطونية الجديدة، وكذلك في الطوائف الباطنية التي ظهرت من داخل الأديان السماوية مثل القبالاه اليهودية والغنوصية المسيحية والتصوف الفلسفي والإسماعيلية الإسلامية.

ولئن كانت جذور فكر الحركة تعود إلى تلك الجذور البعيدة، إلا أن نشأتها باعتبارها حركة معاصرة تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عندما تبنى عدد من مفكري الغرب الفكر الباطني للتمرد على الدين النصراني، ومحاولة لتفسير طبيعة الإنسان والخلاص بطريقة أخرى تركز على “الغنوص والحكمة” كنموذج للخلاص الفردي بدلا من انتظار مخلص كوني مبعوث من مصدر خارجي (المسيح حسب اعتقادهم).

أنشأ هؤلاء المفكرون أربع حركات دينية متزامنة تبنت الأصول الفلسفية الباطنية وأسهمت فيما بعد بنشوء حركة العصر الجديد ، وفيما يلي تعريف بهذه الحركات:

1- حركة “الفلسفة المتعالية” Transcendentalism: وتُعد أول حركة فكرية في أمريكا الشمالية تتأثر بالديانات الشرقية وتعتمد على ترجمات الكتب الهندوسية المقدسة، وتقوم على أربع أفكار أساسية هي: أن العلاقة بين الإله والإنسان والكون هي علاقة وحدة الوجود، وأن المعرفة الحدسية الداخلية التي تأتي من خارج نطاق الفكر والحواس عن طريق (العرفان الغنوصي) مقدسة لكونها فيض من العقل المقدس، وأن للإنسان قدرات كامنة غير محدودة تمكنه من التعامل مع العالم الغيبي، وأن التناغم مع الطبيعة هو طريقة الحياة الفضلى. ويعد “رالف إمرسون” المتوفى عام 1882م الشخصية القيادية لهذه الحركة التي وصلت ذروة انتشارها في أربعينات القرن التاسع عشر.

2- حركة “الفكر الجديد” New Thought: ظهرت على يد فينياس كويمبي المتوفى عام 1866، وهي امتداد لفلسفة فرانز مزمر الطبيب الألماني النمساوي الذي اشتهر بالعلاج الروحي الجماعي وفق ما أسماه التنويم المغناطيسي، معتقدا بوجود طاقة حيوية تتسبب بالشفاء والسعادة، فمزج فينياس هذه الفكرة مع الفلسفة المثالية التي تعتبر العقل أصل الحقيقة.

3- حركة الأرواحية Spiritualism: في القرن الثامن عشر الميلادي اهتم عالم الجيولوجيا السويدي إيمانويل سويدنبرغ بالتعامل مع الأرواح –بحسب الاعتقاد الباطني- وحاول تفسير الغيبيات كالموت والجنة والنار تفسيرًا يجمع بين الدين والعلم حسب ادعائه، محاولا تفسير الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى تفسيرا باطنيا، حيث اعتقد أن الجنة والنار حالات وعي ذهنية يمكن الوصول إليها من خلال “السفر خارج الجسد” وحالات “التأمل الروحاني”، وانتشرت من خلاله جلسات استحضار الأرواح.

4- جمعية الحكمة الإلهية “الثيوصوفيا” Theosophy: أسستها في نيويورك سيدة من أصل روسي تدعى هلينا بلافاتسكي (توفيت عام 1891م)، وقالت إنها تهدف إلى اكتشاف القوانين التي تحكم الكون والقوى الكامنة في الإنسان، والدعوة إلى الأخوة الكونية بتناغم الإنسان مع الكون، ودراسة الأديان والفلسفة والعلوم دراسة مقارنة.

“اتحاد العصر الجديد” كان يعقد اجتماعات لمناقشة القضايا السياسية خلال السبعينات

واعتبرت أن “دين الحكمة” أو “الفلسفة الباطنية” هو أصل كل الأديان، وأن الإسلام واليهودية والنصرانية لم تكن سوى تحريفات لهذا الدين من قبل الأنبياء والحكماء الذين أرادوا تبسيط الحكمة للعامة، فأعلنت أنها تريد تدريب الناس على الوصول إلى العرفان (الغنوص) بأنفسهم، وزعمت أنها أخرجت إلى العلن أسرار المذاهب الباطنية التي كانت ممنوعة على العوام، وهي ليست سوى تعاليم القبالاه السحرية.

وقد مهدت هذه الحركات الباطنية الأربعة بمعتقداتها وممارساتها ومطبوعاتها لظهور حركة العصر الجديد “New Age Movement” في ستينات القرن العشرين، وكانت البداية في معهد “إيسالن” بأمريكا الشمالية المختص بالفكر الباطني، والذي أجرى أكثر من عشرة آلاف دراسة للفرضيات في القدرات الكامنة خلال العقود الماضية، استنادًا إلى المبادئ الباطنية.

ومن أهم أسباب إقبال الغربيين على الطوائف الروحانية الشرقية أنها قدمت لهم روحانيات خالية من أي التزامات أخلاقية أو شرعية، فبعد تخليهم عن الدين النصراني لم تعد لديهم رغبة في التقيد بالضوابط الأخلاقية التي تردع شهواتهم، إضافة إلى رغبة كثير من الغربيين في التلاعب بالوعي دون تعاطي العقاقير بعد ثبوت أضرار المخدرات، إذ دلت الإحصاءات على أن 96,4٪ من أتباع الطوائف الروحانية الشرقية سبق لهم استخدام المخدرات قبل انضمامهم إليها. [The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill].

أهم روافد حركة العصر الجديد

في العصر الجديد تصبح جميع الأديان متساوية وتؤدي إلى نتيجة واحدة لأنها تُجرد من عقائدها الأصلية

أهم المبادئ والمعتقدات

من خلال ملاحظة برامج الحركة وفحص أدبياتها نجد أن الوصول إلى الإشراق والعرفان الباطني هو غايتها، أما الطريق المؤدي إلى ذلك فيعتمد على ثلاث أفكار رئيسة، هي:

1- الكل واحد (وحدة الوجود)، فكل شيء هو الإله والإله هو كل شيء، على اختلاف تصوراتهم عن الإله وحقيقته وأسمائه، والتي تتراوح بين المطلق والكلي والوعي الكلي والعقل الكلي والطاو والقوة العظمى وغيرها، وهذا يعني أن كل ما هو موجود إنما هو انطباع لذلك الكلي وتجلٍ له فليس في الوجود شيء غيره، وهي فكرة مأخوذة من فلسفات شرقية عدة مثل الطاوية والهندوسية والبوذية وعدة طوائف غنوصية، ثم تبناها بعض أقطاب التصوف الفلسفي مع أنها تتناقض جوهريا مع الإسلام.

2- الإنسان هو الإله أو جزء من الإله (تأليه الإنسان)، وهذه الفكرة نتيجة للفكرة السابقة، فعندما يتوحد الإنسان مع “المطلق” يتأله الإنسان نفسه.

3- الإنسان لا يموت وإنما يستمر في الحياة من خلال التقمص والتناسخ، أي بانتقال الروح بعد الموت من جسد بشري إلى كائن أعلى للتنعم أو أدنى للتعذّب، وذلك بدلا من دخول الجنة أو النار، ويستمر التناسخ حتى تتطهّر النفس فتنعتق من تكرار المولد. وتعود هذه الفكرة إلى الطاويين وقدماء الفراعنة واليونانيِّين والفرس قبل أن يستوردها فلاسفة الهند ثم بعض المتصوفة والباطنيين الدروز.

4- الإنسان يخلق واقعه الخاص وقيمه ومعتقداته ويحقق مراده من خلال حالات الوعي المتغيرة التي يدخل فيها، وهو بذلك لا يحتاج إلى الوحي للإجابة على الأسئلة الكبرى التي يقدمها الدين، كما أن الإنسان هو الذي يخلق بزعمهم محيط حياته ويتحكم بمستقبله وصحته وسعادته عن طريق قوة عقله الباطن.

وبالعودة إلى ما ذكرناه عن رؤية بلافاتسكي للأديان السماوية، فإن حركة العصر الجديد تؤمن أيضا بوحدة الأديان، لأن الباطنيين يرون أن جوهر دين الحكمة هو ما ينص عليه المنقول الباطني في جميع الأديان، فيزعمون أن الغيبيات من قبيل الإله (المعبود في الأديان السماوية) والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر هي أمور لا تتعدى كونها تصورات ذهنية بحتة قد تفيد من يعتقد بها، إلا أنه ليس لها في الواقع حقيقة ثابتة، بل ذكرها الأنبياء ليسهل فهمها من قبل العامة، وهم يزعمون أنهم بدؤوا بنشر الحقيقة التي ظلت مخفية عن العامة طيلة قرون وكانت خاصة بالنخبة، ما يزيد من تشوق عامة الناس للاستماع إلى مروّجي هذه الحركة.

تعتمد جمعيات العصر الجديد على الأساليب المتبعة في كل الحركات السرية من حيث التدرج الهرمي في طريق المعرفة، بحيث لا يرتقي العضو إلا بعد استيعابه لقدر ما من المعلومات السرية، وإثبات اقتناعه بها وتقبّله لتصديق ما سيأتي بعدها. لذا فهي تعلن في الظاهر أن الغيبيات ليست سوى تصورات ذهنية خرافية، كي يجنح جميع المؤمنين بهذه الحركات إلى الإلحاد واللادينية، لكن العضو الذي يترقى إلى أعلى المراتب تُكشف له في النهاية حقيقة الإيمان بالشياطين وعبادة إبليس نفسه.

فيلم “لوسي” الذي أنتجته هوليود عام 2014 يقوم على فكرة عدم استخدامنا لأكثر من عُشر طاقتنا العقلية

وتستمد حركة العصر الجديد بعض أفكارها أيضا من العقائد الهرمسية Hermticum، وهي اعتقادات مسجلة في كتابات ورسائل مشكوك في مصادرها تعود إلى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، وفيها تلفيق بين الفلسفات الأورفية والفيثاغورية والأفلاطونية والرواقية والفيزياء الأرسطية والتنجيم الكلداني، وتكوّن في مجموعها معرفة خاصة يزعمون أنها وصلتهم عن وحي إشراقي، وهي تقر بوجود إله لا يمكن وصفه ولا معرفته، ويصفونه أحيانا بأنه الكون نفسه أو الإنسان، كما يرون أن النفوس الإنسانية هي أرواح هبطت من الأفلاك السماوية ويمكنها التحرر والعودة إلى هناك عبر قوة المعرفة (الغنوص). ونجد أن الكثير من تطبيقات حركة العصر الجديد تعتمد منهج الهرمسية دون أن تذكرها بصراحة، مثل بعض برامج الماكروبيوتيك والهونا والفونغ شوي.

ونظرا لاعتقادهم بتعظيم الذات الإنسانية وتأليهها، فإن الكثير من برامجهم التدريبية وكتبهم تدور حول القدرات الخارقة المزعومة للإنسان، وقد يستندون في ذلك إلى معلومات غير مؤكدة علميا، مثل القول بأن 90% من قدرات العقل البشري لا يتم استخدامها مدى الحياة، ومع ذلك فإن خطابهم التحفيزي يستقطب اهتمام الكثير من الناس عبر إقناعهم بوجود قدرات كامنة تنتظر الاكتشاف والتفعيل.

يظهر تأثير الصوفية اليهودية الباطنية (القبالاه) في جميع الحركات الباطنية الحديثة، فالقبالاه تبني أساس فلسفتها على تأليه الإنسان باعتبار أنه فاض عن الإله ويمكنه الاتحاد به، فالإنسان إذن يمتلك قدرات كامنة خارقة تحتاج إلى من يبحث عنها وينميها ويطلقها من القمقم.
كما يزعم القبّاليون أن أسرار “الحكمة” التي نُقلت إليهم بالسر عن الأنبياء هي الحقيقة الوحيدة لجوهر العالم، وأن ظاهر الوحي المذكور في التوراة ليس سوى غطاء للحقيقة الكامنة في باطنه.

في هذا الكتاب الذي يسوّقه معهد إيسالن على موقعه يشرح قصة انطلاقته واستمراره على مدى أكثر من خمسة عقود في ظل تراجع إيمان الأمريكيين بالأديان

طرق النشر والتطبيق

بدأت حركة العصر الجديد بالظهور في الغرب وتشكلت بما يتناسب مع متطلبات الناس هناك، فتم تصميم برامجها بعناية وربطها بمجالات الحياة المختلفة كالصحة والرياضة وتطوير الذات والعلاج وهندسة الديكور وتصميم المنازل وغيرها؛ لتوافق احتياجات معظم الناس بما يحقق الانتشار، وسرعان ما انتشرت في أنحاء أمريكا ثم وصلت إلى بريطانيا وبقية أوربا، وفي بداية القرن الميلادي الحالي تغلغلت في البلاد الإسلامية تحت ستار الطب البديل والتدريب المعتمد بنظام المستويات المتعددة.

ولا يزال معهد إيسالن (المذكور سابقا) يطور أبحاثه، ويغيّر إطار أفكاره بما يوافق متطلبات الناس، حيث يعيد اليوم دمج الفكر الإلحادي مع عقائد الحلول والاتحاد بدلا من الإلحاد المادي لتناسب اعتقاد الناس المؤمنين بوجود إله، كما يتبنى المعهد أبحاثا في المؤثرات الغيبية ضمن ممارسات الأديان الشرقية ووثنيات القبائل البدائية في أستراليا وغيرها، حيث تُنشر النتائج على أنها أبحاث علمية، حتى أصبح أتباع الحركة يعتقدون بأن الممارسات الخرافية والسحرية تتمتع بصبغة العلم التجريبي الرصين، ومع أن العلماء والجامعات ترفض هذه الأبحاث إلا أن الاتجاه العام في الغرب بدأ بتقبل الروحانيات والاعتراف بتأثيرها ووجودها ومحاولة فهمها علميا، وتساهم عولمة وسائل الإعلام وسهولة الولوج إلى شبكة الإنترنت في نشر تلك الأفكار.

ويمكن القول إن انتشار معتقدات حركة العصر الجديد يعود إلى غناها بالروحانيات الغامضة التي جاءت لتروي الجفاف الروحي عند أصحاب الأديان المحرفة والملحدين في الغرب، ولا سيما في فترة الستينات من القرن العشرين التي شهدت تضخم الرأسمالية المتسارع والمفاجئ على حساب العقل والروح، وتسارع وتيرة الاستهلاك إلى درجة إفراغ الإنسانية من قيمها الروحية، فضلا عن انهيار القيم الأخلاقية وشيوع العدمية والفلسفة الوجودية بعد ما رآه العالم من دمار في الحربين العالميتين وإبان الحرب الأمريكية على فييتنام وكوريا الشمالية، فانتشرت في الوقت نفسه موضة “الهيبيز” مع ما لازمها مع انحلال أخلاقي غير مسبوق. وبما أن روحانيات العصر الجديد لم تكن تلزم الشباب الغربي بأي عبادات دينية أو مناقشة أي عقائد يريدون الاقتناع بها فضلا عن أن تلزمهم بضوابط أخلاقية تحد من شهواتهم، فقد كانت الخيار الأنسب لكل من يبحث عما يملأ به فراغه الروحي.

ومع انتشار الفوضى وسقوط العديد من المجتمعات المسلمة في الحروب والعنف في السنوات الأخيرة، بدأت بعض برامج حركة العصر الجديد بإعادة انتشارها مجددا في أوساط الشباب، حيث يقدمها أصحابها تحت مسميات متنوعة من البرامج التدريبية، والتي تختلط بنسب مختلفة مع أمور أخرى مثل تنمية المهارات وفنون الإدارة والعلاجات البديلة، ونجد لها أثرا واضحا في دورات البرمجة اللغوية العصبية والتفكير الإيجابي والعلاج بخط الزمن، وفي جلسات التنفس التحوّلي والتأمل الارتقائي والاسترخاء وشحن الطاقة وقانون الجذب.

يرصد الباحث السويسري باتريك هايني في كتابه “إسلام السوق” -الصادر عام 2005- مظاهر محاولة أسلمة مفاهيم العصر الجديد تحت مسميات جديدة، وعبر مداخل التنمية البشرية وإدارة الأعمال وعلم النفس، ويرى أن من أهم خصائص هذه الظاهرة الانفتاح على العالم على حساب الهوية، وشيوع النزعة الفرادنية وسيولة المبادئ، والتخلي عن المبادئ الكبرى التي كانت تشغل الحركات الإسلامية مثل إحياء الخلافة والحاكمية.

البرامج التدريبية

فيما يلي تعريف موجز بأشهر عناوين البرامج التدريبية والاستشفائية التي تغلغلت فيها أفكار حركة العصر الجديد وبطرق خفية قد لا ينتبه لها معظم الناس، بما فيهم المؤمنون بالأديان السماوية:

1- الطاقة: وهي مسمى واحد يشمل مفاهيم متعددة في الفلسفات الشرقية القديمة، مثل كي ki وتشي chi-Qi وطاو Tao وماكرو Macro وبرانا Prana ومانا Mana، أما في برامج العصر الجديد فأصبحت تحمل أسماء إضافية مثل “قوة الحياة” و”الطاقة الكونية”، وهي مجرد فكرة فلسفية لا علاقة لها بالطاقة الفيزيائية التي يتم قياس آثارها بالعلم التجريبي، فالمؤمنون بها يعتقدون أنها قوة عظمى تقابل الاعتقاد بالإله عند أتباع الديانات السماوية.

وهي أول ما ينبغي أن يؤمن المتدرب به، وبأهميته وقوته، ويمارس كيفية الشعور به، واستمداده، وفعل ما يساعد على تدفقه في جسده، واتحاده به، ويتجنب ما يبعده عنه.

الين واليانغ

وتشتمل جميع البرامج المقدمة باسم الطاقة على نسب متفاوتة من أصول الفلسفة الباطنية، حيث يتم في بعضها شرح الغنوصية الشرقية على أنها حقائق كونية تفسر أصل الكون ونشأته وانقسامه لثنائيات عظيمة يسمونها (ين/يانغ)، وأنها مؤثرة في كل جوانب الحياة، ثم تُصاغ الدورات التدريبية في العلاقات الاجتماعية والإدارة والعلاج الجسدي والنفسي على أساس التوازن بين الين واليانغ.

ويظهر أثر هذه الفلسفات أيضا في نظرية “الأجسام السبعة”، والتي يتم خلالها إقناع المتدربين بوجود سبعة أجسام لكل الكائنات، ومنها الإنسان. أولها الجسم البدني، وأهمها الأثيري الذي تنفذ من خلاله الطاقة الكونية للأجسام الأخرى وتمنحها السعادة والصحة، كما يتم التدريب من خلال الدورات المختصة بهذه النظرية على تقوية “الحاسة السادسة” لاكتساب قدرات خارقة في التأثير والعلم، وغير ذلك من الممارسات التي تتقاطع مع السحر والمقتبسة من القبالاه اليهودية.

رسم من مطلع القرن التاسع عشر لتوزع الشاكرات على الجسد

وتقدم برامج الطاقة التدريبية تمارين تزعم أنها تفتح منافذ الطاقة (الشاكرات) Chakras في أجساد المتدربين، بهدف الحصول على كميات أكبر من طاقة قوة الحياة، أو الاتحاد بها، ومن ذلك التدرب على تمارين وترانيم ووضعيات خاصة هي في حقيقتها عبادات وطقوس وثنية وشيطانية، بالرغم من أنها تُقدم في إطار منفصل عن الدين من دون أن ينتبه لذلك كثير من الناس، وكثيرا ما تتقاطع مع تدريبات اليوغا.

ومن الملاحظ أن تقديم هذه الفلسفة باسم “الطاقة” الذي يشتبه بالمصطلح العلمي المعروف في العلوم الطبيعية جعل المتدربين يعتقدون أنها علم لا ديناً وثنياً، كما أن الكثير من الناس ينجذبون إليها لأنهم يرون في الشرق الآسيوي تقدماً بمجالات الصحة والطب البديل.

2- التنفس التحولي والعميق Transformational Breathing: هو برنامج تدريبي أو علاجي يهدف إلى تجميع “طاقة البرانا الكونية” واستشعار تدفقها في الجسم، للدخول في حالة من الاسترخاء العميق والنشوة، ويعد أحد طرق التنويم للدخول في حالات الوعي المغيّرة وإطلاق قدرات “اللاوعي”، عبر التواصل مع “العقل الكلي” أو “اللاوعي الجمعي”.

ويعتبر المدربون هذه الحالة بداية التغيير والانطلاق والفتح، وهي تقابل ما يُعرف عند البوذيين والهندوس باسم “النرفانا”، وعند المتصوفة بـ”الفناء”، بينما يسميها بعض المروجين المعاصرين من المسلمين بحالة “الخشوع”.

3- التأمل الارتقائي والتجاوزي Trancsendental Meditation: يعود أصل هذا البرنامج إلى مذهب مهاريشي ماهيش (انظر مقال الهندوسية والبوذية)، ويهدف إلى الاسترخاء الكامل والدخول في حالة من اللاوعي والنشوة “النرفانا”، وفق طرق محددة من تركيز النظر في الأشكال والرموز وترديد الترانيم أو الاستماع إليها، إلى جانب الالتزام بتعليمات محددة في الطعام واللباس والكلام.

باندلر

4- البرمجة اللغوية العصبية Neuro Linguistic Programming: وضع أسس هذا الفن الباحثان الأمريكيان جون غريندر وريتشارد باندلر، وبدعم وتنظير من غريغوري بيتسون (توفي عام 1980م) أحد أبرز الباحثين في معهد إيسالن والذي عاش على المبادئ البوذية في أمريكا، كما اعتمد المؤسسان على ثلاثة من المتأثرين بالباطنية، وهم ميلتون إريكسون (توفي عام 1980م) الذي تميز في التدريب على تقنيات الخروج من العقل إلى “حالات الوعي المتغيرة” تطبيقاً مباشراً لبوذية زن، وفرتز بيرلز (توفي عام 1970م) أحد الباحثين في معهد إيسالن المهتمين بفلسفة “وحدة الوجود”، وفرجينيا ساتير (توفيت عام 1988م) المعالجة التي عملت بمعهد إيسالن وأسست أحد أكبر مراكز حركة العصر الجديد في أمريكا ويدعى مركز آفانتا.

وتتضمن البرامج التدريبية لهذا الفن خليطا من العلوم والفلسفات الهادفة لإعادة صياغة صورة الواقع في الذهن بحيث تنعكس على تصرّفاته، وهي برامج انتقائية تجمع نظرياتها من علم النفس السلوكي والمعرفي وفنون الإدارة وغيرها؛ لذلك تشمل بعض التمارين النفسية أو العلاجية الصحيحة، غير أنها تحتوي كذلك على فرضيات غير مثبتة ونظريات مرفوضة علمياً بينما تُقدم على أنها حقائق علمية. كما تكمن خطورتها في تسريب بعض مفاهيم الفلسفة الباطنية، وإقناع المتدربين بالإمكانات غير المحدودة التي يمكن تحصيلها عن طريق العقل الباطن، وتدريبهم على الدخول في حالة اللاوعي لإحداث التغيير الإيجابي في النفس من دون قيود العقل.

5- الماكروبيوتيك Macrobiotics: هو فلسفة باطنية تقدم في شكل برامج للتثقيف الصحي والعلاج البديل، وتُشرح فيها بشكل صريح فلسفة الحياة بالاعتماد على الإيمان بالطاقة الكونية، وضرورة إعادة نظم الحياة والمأكل والملبس والرياضة وتصميم المنزل بما يوصل إلى التناغم مع الطاقة الكونية والوصول للسمو الروحي والشفاء الجسدي.

يصف هنري تينك في مجلة لوموند [العدد مارس/آذار 2000] حركة العصر الجديد بأنها أفكار ضبابية تخلط مخلفات الروحية الباطنية القديمة مع الطرق الحديثة في التركيز والاسترخاء وشحن طاقة الإنسان، وتضعها جميعا في إطار وثني معاصر، مع إبقاء فكرة الإله غامضة وفتح الباب لتقبّل وجود كائنات غيبية غير مرئية مثل الأرواح والأشباح والكائنات الفضائية. ونضيف على هذه القائمة الشياطين من عالم الجن.

وتركز المستويات الأولى من برامجها على الغذاء عبر مفاهيم الطاقة الكونية وثنائية الين واليانغ، وما يتعلق بذلك من اعتماد خصائص غيبية للأطعمة مثل ربط الخواص الروحانية المزعومة للنبات بروحانيات مماثلة للكواكب، وهي أفكار كانت تُعرف قبل قرون بأنها داخلة في باب السحر لكنها تُقدم اليوم على أنها علم. ثم تترقى برامج الماكروبيوتيك التدريبية ليتعمق المتدرب في الفلسفة الباطنية بشمولها ويمارس تطبيقاتها في كل مجالات حياته، بهدف استجلاب الطاقة الكونية لتحقيق الصحة والسعادة.

______________________________________________

أهم المراجع

– Historical Dictionary of New Age Movements ,Michael York.

– New Age encyclopedia, Belinda Whitworth.

– The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill.

-Christian Responses to the New Age Movement, John A. Saliba.

– Taoism: Growth of a Religion, Isabelle Robinet.

اليوغا

اعتبر كثير من الفلاسفة القدماء أن العناصر الخمسة التي تتكون منها كل المواد في العالم (الماء، النار، الأرض، الهواء، السماء “الأثير”) أو (الماء، النار، التراب، المعدن، الخشب) تتحرك باستمرار وبتناغم دائري داخل الجسم، ففسيولوجيا الجسم الإنساني ليست سوى صورة مطابقة للكون، ولذا أكد حكماء اليوغا على ضرورة معرفة هذه العناصر داخل الجسم والعمل بها.

وطريقة تفكيرهم هذه تفترض أن كل ما يوجد في الخارج له ما يقابله في الداخل؛ أي أن كل عنصر من العالم الروحي يجب أن يكون له صداه في العالم المادي، وهذا يفسر إمكانية وجود تطور روحي يتم من خلال الجسم.

انتشرت الدعوة إلى اليوغا في بعض البلاد الإسلامية وغيرها، وأقام بعض دعاتها مجموعات ومدارس لتعليمها، وألفوا أو ترجموا في سبيل نشرها والدعوة إليها العديد من المؤلفات. فكثير من الناس يعتقد أن اليوغا ليس لها أساس في الديانتين الهندوسية والبوذية، أو أنها غير متعلقة بهما، وأنها ليست سوى رياضة تعتمد على التأمل والتفكير، لكي توصلهم إلى الراحة النفسية والفكرية والجسدية، ويتجاهلون بذلك الأسس الثمانية التي وضعها الحكيمان باتنجالي وسوامي شيفاناندا، وغيرهما من الحكماء الهنود سواء من الهندوس أوالبوذيين.

ولمعرفة المزيد عن اليوغا والتحقق من كونها مجرد تمارين رياضية روحية أم شعائر تعبدية فلسفية، ينبغي أن نتعرف على نشأتها وعلاقتها بالديانات الأخرى.

التعريف والنشأة
نشأت اليوغا في وادي السند (شمال الهند وباكستان حاليا) خلال الفترة 3300 –1700 قبل الميلاد، وهي مستمدة من جذور كلمة “يوغ” السنسكريتية التي تتألف من عدة معان، منها المراقبة والعبودية لأنَّها تخلّص النفس من قيود الجسد والعبودية للشهوات.

تمثال لبوذا في حالة تأمل

وفي الأدبيات البوذية، يستخدم مصطلح “التأمل” بدلا من “يوغا”، إلا أن مصطلح “يوغا” أصبح شائعا حول العالم، ولم يعد من السهل اعتماد مصطلح آخر بنفس المعنى .

واليوغا هي طريق لتسهيل الاتحاد بالنفس الكلية، عن طريق رياضة روحية وجسدية، أو عن طريق القرابين. وتذهب اليوغا إلى أنَّه لا تكفي حياة واحدة لإدراك هذا الاتحاد، فحسب مبدأ “الكارما” قد تتطلب أفعال الإنسان السيئة ولادات متتالية في صور إنسانية أو حيوانية [انظر مقال الهندوسية والبوذية].

فاليوغا تعني تجميع القوى وتركيزها وممارسة التمارين العملية التي تؤدي إلى الاتصال بين الروح والآلهة. وبما أن نظام اليوغا يضع التأمل في محور تعليمه وممارسته، فهو يولي أهمية بالغة لكل طرق الخلاص التي ترتكز على التأمل والاستغراق.

يقوم محتوى الخلاص على تطهير الروح تطهيرا كاملا من كل الأدناس الأرضية، بحيث تكتشف ذاتها في شكلها الصافي، أو توضع في حالة تمكّنها من أن تعيش مع المطلق (الإله) وتصل إلى الاتحاد به. وهذه الحالة التي تتجاوز الوجود الأرضي تجاوزاً “لامتناهيا” تعجز الكلمات البشرية عن وصفها.

وفي الخلاصة، يمكن القول إن اليوغا هي مجموعة من الشعائر الروحية القديمة التي نشأت في الهند، وإنها كمصطلح عام في الهندوسية تشير إلى منهج عملي وممارسات محددة تجمع بين التصوف والزهد والتأمل، وهي تسعى للحصول على خبرة روحية خاصة وفهم عميق جداً للحقائق الكبرى في الوجود والتحكم الواعي في الكثير من مناحي الحياة.

أهم طرق اليوغا
تتنوع طرق ومدارس اليوغا المعتمدة حاليا، وهي أشبه ما تكون بالمدارس والمذاهب في الديانات، وتعود في الأصل إلى يوغا ساتراس التي أسسها الحكيم باتنجالي. وتعتمد هذه المدارس على الجانبين الفكري والعملي، حيث يهتم الأول منهما بالتحرر الروحي دون أن يشترط الإيمان المطلق، بل يحذر المعلمون منه. أما الجانب العملي فيتضمن التمارين البدنية والتحكم بالتنفس، بالإضافة إلى الفنون الأخرى، وفيما يلي موجز عن طرق اليوغا الأساسية الأربعة:

1– بهاكتي يوغا: تؤكد هذه الطريقة على استثمار المحبة للوصول إلى حالة الكمال الروحي من خلال عبادة الإله مباشرة، وذلك بتنقية العقل وتكرار اسم الإله وذكر صفاته العديدة مثل راما وكريشنا، وذلك من خلال شعائر تسمى “جابا”.

2– غنانا يوغا: تهتم هذه الطريقة بطرح الأسئلة الفلسفية الوجودية والإجابة عليها من المنظور البوذي، حيث تحاول الإجابة على أسئلة من قبيل: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ كيف وُجِدت ولماذا؟ وإلى أين أمضي؟ ومن خلال سلوك هذا الطريق العقلاني والتجرد عن كل أنواع التعلق المادي في الحياة يحاول الممارس الحصول على الخلاص الروحي واكتشاف المُطلق والتوحد به.

وحسب الفلسفة البوذية فإن المطلق يحمل صفات الإله نفسه، فهو العلة التي لا علَّة لها، وهو كُلي القدرة والمعرفة والحضور، لذا فهو يتجلى للإنسان في صور ثلاث، هي المادة (صفة الحضور الكلِّي)، الطاقة (صفة القدرة الكلِّية)، والوعي (صفة المعرفة الكلِّية)، ومن خلال هذه الصفات يحاول الممارس إدراك المطلق بالتأمل في باطنه هو.

وتتضمن هذه العقيدة أيضا الاعتقاد بنظرية الفيض التي نجدها عند الأفلاطونية الحديثة، والتي تقول إن الوجود كله ليس سوى فيضًا من المطلق وصدورًا عنه وتجليًا له، فالإله لا يخلق مباشرة بل يفيض. كما نجد في هذه العقيدة فكرة وحدة الوجود التي يعتقد صاحبها أن بإمكانه الاتحاد بالمطلق (الإله)، ولا يتحقق هذا الاتحاد إلا بعد التخلص من الأنانيات الفردية (الأنا) التي تعد مؤقتة وغير حقيقية، والتأمل في جوهر الإنسان وهو النفس (أتمان)، والارتباط بالأتمان الجماعية الموجودة في كل الأشخاص وفي النفس الأزلية للإله. [انظر مقال الباطنية].

3- كارما يوغا: تركز هذه الطريقة على الجانب العملي من الحياة، فالتوازن العقلي والتخلص من الأنانية الفردية والاتحاد بالمطلق هي أهداف لا تتحقق سوى بالعمل، ولا يقصد بالعمل هنا المهنة التي يُكسب بها الرزق، بل العمل لأجل الحياة، فينبغي على الممارس أن يعمل من أجل العمل وحده دون التفات إلى ما سيجنيه من ثمار.

4- راجا يوغا: وتعني “اليوغا الملكية”، وهي أرقى الطرق وأكثرها تعلقا بالعقائد والأساطير البوذية، حيث تهتم بتحصيل الحقائق الروحية من خلال التأملات والسيطرة على الأفكار والأفعال ومقاومة الغرائز واعتبار العقل سلطانا على الحواس. وغالباً ما تعرف هذه الطريقة باسم “اليوغا سوترا”، ويسعى الممارس لها إلى الوصول للمعرفة الذاتية ومعرفة الإله والحقيقة المطلقة.

وتعود هذه الطريقة إلى الحكيم باتنجالي الذي يعد المؤسس الأول لليوغا، حيث وضع قبل 2300 سنة خطوات ثمانية يجب على كل تلميذ ومعلم التقيد بها لتنقية جسمه وعقله والسير بهما في طريق الاستنارة، ويمكننا اختصارها كالآتي:

1- ياما (المحرمات)، وتتضمن خمس خطوات هي: عدم العنف، الصدق، عدم الاشتهاء، العفة، عدم السرقة.

2- نياما (الأوامر)، وتتضمن: نظافة الهيئة والعقل، القناعة، التقشف، محاسبة النفس، الاستسلام لله.

3- أسانا (هيئات الجسم)، ويصفها الحكيم باتنجالي بأنها الوقفات أو الوضعيات المستخدمة لجلسات التأمل، وهي تساعد على توفير الطاقة والعلاج من الأمراض والمرونة، وقد اشتقت منها الرياضات الأخرى، وتتضمن 84 وضعية تهدف إلى فتح الطاقة الكامنة تحت العمود الفقري والملتفة على هيئة أفعى.

4- براناياما (السيطرة على التنفس)، وتهدف إلى دعم قوة الحياة أو الطاقة الحيوية (البرانا).

5- براتياهارا (التجريد): وهي بداية التدرب على انسحاب الحواس من إدراك الأجسام الخارجية عبر السيطرة على العقل والتركيز على الحساسية الفائقة للعقل لجميع ما يحيط به.

ونستنج من الأسس الخمس السابقة أنها أسس خارجية، تهتم بالوضع الخارجي للجسم كتنظيفه وتعويده على التقشف وتدريبه على مساعدة الجزءالأصعب وهو الجسم الداخلي، وهو ما يأتي في الأسس الثلاث التالية التي تتطلب قوة التركيز وشدة التأمل، وتتطلب أيضا الاتصال الكلي بمكون الكون، ونلخصها فيما يلي:

1- دارانا (التركيز): هي الخطوة الأولى لتركيز الاهتمام بشيء معين، كضوء شمعة مثلا أو تمثال، ويتم عن طريق العين الثالثة.

2- دايانا (التأمل): تدعى هذه المرحلة بالتأمل الصامد، حيث يحاول المتدرب أن يوسع دائرة وعيه وحساسية عقله، فيتأمل في الطبيعة والكون كله وليس شيئا واحدا فقط.

3- سامادي (الاتصال بالإله)، وهي المرحلة الأخيرة التي يصل بها المتأمل إلى التحرر أو الوحدانية، وتتطلب دمج الوعي بموضوع التأمل، بما يحقق السيطرة التامة على العقل والجسم والروح.

من خلال ما سبق وعلى الرغم من أن اليوغا تُقدّم في كثير من النوادي الصحية والمستشفيات في العالم -ومنها بلاد المسلمين- على أنها رياضة للجسد واللياقة، ومع أن المدربين يحاولون غالبا قطع الصلة بين الفلسفة التي تقوم عليها اليوغا وبين حركاتها الرياضية، إلا أنها ليست مجرد رياضة يمكن لأي شخص ممارستها، حتى وإن بدت كذلك في مراحلها الأولى، بل تتضمن شعائر دينية تتوجه إلى الفكر والعقل من خلال الاعتقاد والتأمل والتركيز.

اليوغا والهندوسية
تهدف الشعائر الهندوسية إلى الاتحاد بالإله المطلق (براهمان)، وغايتها السموّ بالعقل والروح إلى حالة من السعادة القصوى، وذلك بإبعاد المرء نفسه عن الشهوات الجسدية والمادية وإنقاذه من كل النوازع الأرضية حتى يصل إلى حالة من القداسة والصلاح تسمى “الموكشا”.

ويتطلب الوصول إلى هذه الحالة الالتزام بالصلاة وترتيل الأناشيد المقدسة (مانترات) والتأمل الروحي، مع الصوم عن الطعام والشراب والكلام والجماع، والتركيز الذهني على شيء معيّن دون تشتت التفكير بالأمور المادية والدنيوية والجسدية العديدة. ويُسمى الناسك الممارس لليوغا بالقديس “المهاتما”، أو صاحب الروح الصالحة أو الروح الكبيرة.

لذلك يركز الهندوس اهتمامهم على النفس لأن النفس في معتقدهم يمكن أن ترقى إلى الكمال، أما البدن فسِمته النقص، ولكي يحقق الجسد درجة ما من التطهير ينبغي عليه أن يستغل وجود الروح فيه، ولهذا قالوا بحرق البدن بعد الموت، والموت عندهم نهاية لا تجدّد لها. ومع أن النفس عند الهندوس كاملة إلا أنها لا تخلد كجوهر مستقل، وإنما يتم خلاصها عن طريق ممارسة اليوغا، والتي تتضمن القسوة على البدن وتدريب النفس على الصبر والثبات.

ويصل المرء في ممارسة اليوغا إلى المشاعر والأحاسيس الداخلية في الأعماق للتخلص من الضغوط العصبية والنفسية، وإلى الالتحام الكامل بين العقل والجسد. والهدف بطبيعة الحال هو الوصول إلى حالة من السموّ الروحي والصفاء الذهني، بعيداً عن التأثيرات النفسية والعصبية اليومية، لذا تمارَس اليوم كعلاج لأمراض نفسية من قبل بعض الأطباء النفسيين في الغرب.

يؤمن الهندوس بوجود طاقة أزلية اسمها “برانا”، وهي منبثقة عن الأصل الأول للوجود “براهمان”، لكنها ليست مخلوقة بل هي قديمة بلا بداية. وبما أن الهندوسية دين حلولي يؤمن بحلول الإله (المطلق) في الكون والإنسان فإن البرانا بمثابة روح هذا المطلق التي تسري في الكون. وعليه فإن دور اليوغا يتلخص في استجلاب هذه الطاقة وشحن الجسد والنفس بها.

اليوغا والبوذية
ظهرت البوذية كمذهب تصحيحي في إطار الديانة البراهمية بدعوتها لنبذ الطبقية مع بعض التعديلات العقائدية، وهي تعتمد أيضا على اليوغا لإخضاع الإنسان لنظام تعبدي يحقق له تحرير النفس من الارتباطات الجسدية والمادية وبلوغ “الاستنارة”.

وتؤكد سيرة حياة مؤسس البوذية سيذهارتاغوتاما (بوذا) أنه درس اليوغا على يد الرهبان البراهمة كجزء من المقرر الفلسفي المفروض على التلاميذ، وذلك في الفترة التي قضاها في جبال الهمالايا قبل أن يصبح معلما، ويعتقد أنه صاغ مبادئ اليوغا على طريقته الخاصة قبل ظهور كتاب “بْهاغافاد غيتا” الذي يعد من أقدس الكتب الفيدية لدى الهندوس.

ويمكن القول إن اليوغا هي الجسر الذي يربط بين الهندوسية (الديانة الأم) والبوذية التي انشقت عنها في القرن السادس قبل الميلاد، بالرغم من وجود عوامل مشتركة أخرى بينهما، مثل مبدأ عدم العنف (أهيمسا) ومبدأ التركيز والاستنارة.

وتظهر في منطقة التيبت الصينية آثار اليوغا البوذية بوضوح أكبر، وذلك لتأثير التانترا الهندوسية -التي تتلخص في عبادة شاكتي (التجسد الأنثوي للآلهة)- على التقاليد هناك، ونجد آثار هذه الشعائر في السيطرة على النظام الخاص بالنبضات القلبية والحركات الجسدية التي تتضمن 108 وضعيات جسدية، وتستعمل هذه الأساليب اليوم من قبل الرياضيين للسيطرة على العقل، وكذلك في بعض الرياضات الروحية في الغرب، وحتى في جلسات تحضير الأرواح والسحر والشعوذة وعبادة الشيطان، ولا سيما تلك التي تدمج الأفعال الجنسية بالتأمل.

لا تتضمن البوذية شعائر للصلاة والتعبد كما في الهندوسية، ولكنها تحتوي على خمسة أنواع من التأمل التي يمكن أن تحل محلها، وهي:

1 ـ ميتاـ بهافتا (التأمل في الحب): وهو التأمل في الكائنات والدعوة إلى سعادتها.

2 ـ كاروناـ بهافاتا (التأمل في الشفقة): وهو المشاركة في حزن الآخرين.

3 ـ موديتاـ بهافاتا (التأمل في الفرح): وهو التأمل الذي يبهج الآخرين بالمشاركة في ما يفرحهم.

4 ـ أسوبهاـ بهافاتا (التأمل في المدنسات): وهو التأمل في أهوال المرض والموت.

5 ـ أبكاـ بهافاتا (التأمل في الهدوء): وهو التأمل في المتناقضات مثل الخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض.

تتطلب جلسات التأمل من الممارس أن يجلس وساقاه مضمومتان ومثنيتان، بحيث يكون الظهر منتصباً والرأس مرفوعاً ومحاطاً بهالة التفكير، وأن يبحث عن نقطة معيّنة ليركز فيها.

وتتلخص مراحل التأمل خلال الجلسة في البدء بتحقيق درجة كافية من الثقة عبر التحرر من الجسد، ثم بلوغ الصحوة بالتحرر من الرغبات والغرائز وتمني الخير لجميع الكائنات، ثم الاستغراق والتخلص من الألم وصولا إلى تعطيل الإحساس، ومع نجاحه في تنظيم التنفس والانفصال عن كل الأشياء باستثناء التنفس يحقق العقل سيطرته على الحواس، فتتركز الأفكار والحواس كلها في نقطة واحدة بما يسمح للممارس –حسب معتقدات اليوغا- العودة للماضي لاسترجاع الذكريات أو الإبحار في المستقبل للتنبؤ وغير ذلك.

وتسمى حالة الاستغراق والتحرر التام بالنيرفانا التي تقابل الموكشا لدى الهندوسية، وهي تعني التحرر من دائرة الحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت. ويهدف الممارس من خلالها للوصول إلى ولادة ثانية، وذلك عبر كبت شهواته الجسدية وغرائزه النفسية والتخلص من آلامه ومعاناته في الحياة اليومية.

وتعود هذه الفكرة إلى أسطورة التناسخ في الديانة البوذية، والتي ترى أن روح الإنسان تتناسخ منذ ولادته وحتى موته، وأنه لا بد من التحرر الكامل من كل المعوقات لتحرير العقل والروح والوصول بهما إلى الحقيقة والاستنارة، وبذلك ينجح الإنسان في كسر قيود التناسخ.

اليوغا والطاوية والكونفوشية
تعد الطاوية (أو التاوية) بمثابة الوعاء للأديان والأساطير التي تراكمت في الصين على مدى قرون، وقد أعاد جمع وترتيب أصولها الفيلسوف لاوتسي في القرن السادس قبل الميلاد، ثم التقى به الفيلسوف كونفوشيوس وتلقى عنه الكثير من مبادئه قبل أن يضع فلسفته الكونفوشية الرائجة حتى اليوم في من الصين وأجزاء من  كوريا واليابان وفيتنام.

وتلتقي الطاوية والكونفوشية مع الهندوسية والبوذية (الهنديتان) في الكثير من المبادئ العقائدية، إلا أن الأديان والفلسفات الصينية تميل أكثر إلى الاهتمام بالجوانب الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.

وكما تؤمن الهندوسية والبوذية بأن المطلق الأزلي براهمان صدرت عنه بالفيض والتأمل بيضة أو زهرة لوتس ثم خرجت منه بقية الآلهة وكل الموجودات، فإن الطاوية ترى أيضا أن الأصل المطلق (طاو) انبثقت عنه “بيضة كونية”، ثم انقسمت إلى نصفين، فتكونت الأرض من نصفها السفلي الثقيل المظلم (ين)، وتكونت السماء من نصفها العلوي الخفيف المضيء (يانغ)، ثم تشكل بينهما الإنسان الأول بان كو.

الين واليانغ

وتركز الطاوية جل اهتمامها على التوازن الافتراضي بين الين واليانغ، كما تزعم أن الطاقة الكونية “برانا” أو “تشي” ما زالت سارية في الكون كما تسري الروح في الجسد، ولكي تستمر حياة الإنسان فإن على الجسم أن يمتلك البرانا أو التشي، وإلا فإن أي نقص سيؤدي إلى خلل في توازن النقيضين الين واليانغ ومن ثم إصابة الإنسان بالأمراض الجسدية والنفسية.

يقول تشوا كوك سوي في كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” إن هناك ثلاثة مصادر رئيسية لطاقة الحياة، وهي طاقة الحياة الشمسية التي يمكن الحصول عليها عبر التعرض لأشعة الشمس، وطاقة الحياة الهوائية التي يمكن امتصاصها من الهواء عن طريق الرئتين، وطاقة الحياة الأرضية الموجودة في باطن الأرض وتُمتص عن طريق باطن القدم بالمشي دون حذاء. ووفقا للطب الحديث فإن هذه الافتراضات لا يدعمها أي دليل.

يقوم الطب الصيني التقليدي على فكرة إعادة التوازن الطبيعي للين واليانغ إلى الجسم، ويعتقد ممارسوه أن الوخز بالإبر الصينية يساعد على تفعيل مسارات الطاقة (شاكرات) التي تمر بالجسد وفقا لخريطة محددة، كما يعتقدون أن كل التمارين الرياضية والأدوية والأطعمة الصحية تستمد منفعتها من خلال علاقتها بالطاقة وبتوازن الضدين، وما زال الصينيون حتى اليوم عاجزين عن تقديم أدلة علمية على ارتباط هذه العوامل بالطاقة الكونية التي لم يثبت وجودها علميا.

لذا تُصنف تطبيقات الطاوية ومثيلاتها على أنها “علوم زائفة” حتى لو كانت نتائجها سليمة، لأن ربط النتائج المحسوسة بمسببات غيبية مزعومة هو مجرد افتراض وهمي لا يدعمه أي دليل حسي ولا عقلي ولا نقلي (وحي محفوظ مصدره الإله).

ومن أهم هذه التطبيقات المنتشرة اليوم الريكي والبرانا والبرانيك هيلنغ والتشي كونغ والتاي تشي والفانغ شوي والماكروبيوتك، وهي جميعا تلتقي مع اليوغا في الاعتقاد بوجود طاقة كونية انبثقت عن الإله الأول (براهمان) أو (طاو).

ويجب الانتباه إلى أنه لا يصح تفسير أي تغير محسوس (المرض أو الشفاء) بوجود عامل غيبي مفترض (طاقة كونية أو ين ويانغ) عندما تغيب العوامل الحسية، لأن احتمالات هذا التفسير مفتوحة بلا ضوابط، فعلى سبيل المثال إذا لم نستطع إيجاد سبب محسوس لألم أصاب أحدنا في يده، فيمكن لأي كاهن أن يزعم أن هناك وحشا خفيا يعضّ على هذه اليد بأنيابه، وإذا قام هذا الكاهن بطقوس لطرد الوحش المزعوم ثم زال الألم لسبب نجهله كما نجهل سبب الألم نفسه؛ فهذا لا يعني أن الوحش الخفي كان موجودا بالفعل وأن طقوس الكاهن كانت ناجعة. فعالم الغيبيات لا يمكن الحكم عليها إلا بمصدر مفارق، وهو الوحي الذي تثبت الأدلة الحسية والعقلية أنه صحيح وموحى به من الإله.

يستهل تشوا كوك سُوي مؤسس البرانيك هيلنغ كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” بقوله “أنت ممتلئ بأفكار وآراء مسبقة. لكي تتعلم، عليك أن تفرغ كأسك”. وهذا يعني أن تعلم فلسفات الطاقة لا ينجح سوى بتجريد المتعلم من عقيدته الدينية وقواعده العلمية أولا، لأن هذه الفلسفات تقوم على مسلّمات باطنية لا تقبل النقاش ولا يُستدل عليها بعقل ولا نقل، كما أنه لا يمكن الجمع بينها وبين الإيمان بعقائد أخرى.

الماكروبيوتك
هو أسلوب في تناول الطعام وطريقة الحياة يقوم على فلسفة الين واليانغ والعقائد الهندوسية والطاوية، وبما أن هذه الأديان تحرّم تناول اللحوم (انظر مقال الهندوسية والبوذية) لاعتقادها بأن الحيوانات تحمل أرواح الموتى، فإن الماكروبيوتك يحاول تقديم أسلوب المعيشة النباتي في إطار صحي، مع أن الطب الحديث يؤكد أن الاكتفاء بالمصادر النباتية لا يكفي لصحة الإنسان ونموه.

يصنف معلمو الماكروبيوتك كل النباتات والأطعمة من حيث كونها أقرب إلى الين أو اليانغ، ويطالبون مريديهم بموازنة الطعام وفقا لهذا التصنيف الغيبي على افتراض أنه الأكثر موائمة للطبيعة، ويرتبط هذا التصنيف بالقدر الذي يحتويه الطعام من الدسم والكثافة والحلاوة، وبالمكان الذي تنمو فيه النباتات من حيث الحرارة والبرودة، ومع أنهم لا ينصحون بتناول اللحوم إلا أنهم يصنفونها وفقا للبيئة التي تعيش فيها، أو حتى وفقا للارتفاع الذي تحلق فيه الطيور، وهذه العوامل كلها ليس لها علاقة بالعلم.

ومع أن بعض الأنظمة الغذائية التي يقدمها مدربو الماكروبيوتك تحقق فوائد معينة، ولا سيما في مجال الحمية وتخفيف الوزن، مما يكسبها رواجا لدى النجوم ومعجبيهم، إلا أن الجهات العلمية المعتمدة في أمريكا الشمالية وأوروبا تحذر من خطورة هذه الأنظمة ولا سيما على صحة الأطفال والنساء الحوامل والمرضى.

اليوغا والعبادات الشيطانية
سبق أن أوضحنا في مقالات القبالاه والباطنية والهندوسية والبوذية التداخل بين هذه الأديان وعبادة الشيطان، وبما أن اليوغا تتقاطع مع تلك الأديان في العقيدة والسلوك فهي في كثير من جوانبها ليست سوى إحدى وسائل الاتصال بين الإنسان والشياطين.

فعلى سبيل المثال، يعد تمرين “سوريا ناماسكارا” أحد أشهر التمارين التي عولمتها اليوغا في أنحاء العالم، وهو يعني باللغة السنسكريتية “تحية الشمس بثمانية أعضاء”، حيث يؤدي المتدرب عند شروق الشمس وغروبها حركات ووضعيات يلامس فيها الأرض بقدميه وركبتيه ويديه وصدره وجبهته، وهي تشبه طقوس عبادة الشمس في بعض الوثنيات القديمة.

وفي الإسلام، نهى النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن أداء الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، مع أن الصلاة الإسلامية تؤدى لله وحده، والسبب كما في الحديث النبوي أن الشمس “تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار”، وقد فسر علماء مسلمون ذلك -مثل النووي وابن قتيبة- بأن الشيطان يدنو من الشمس أو يقف في جهتها عند هذا الوقت فيسجد له أتباع تلك الديانات بسجودهم للشمس.

(yogasuggestion.com)

وكما هو حال طقوس القبالاه التي تسعى لما تسميه بالاستنارة، وهو الاتصال بحامل الضوء “لوسيفر” (الشيطان)، فإن الاستنارة التي يصل إليها الكثير من محترفي اليوغا ليست سوى اتصال بالشياطين، وكثيرا ما يحدث ذلك دون أن يعلموا بأن له علاقة بعالم الشياطين، ولا سيما من قبل الممارسين الذين يؤمنون بالأديان السماوية. ففي كتاب “معجزات الشفاء البْراني” يقول المعلم العالمي تشوا كوك سوي إن “أصحاب الجلاء البصري” يمكنهم أن يروا بأعينهم عمودا من نور، وإن الأشخاص الروحيين الذين مارسوا التأمل لمدة أطول يمكن أن يشعروا بأنهم غُمروا بنور يحير أبصارهم من شدة ضيائه، حسب تعبيره.

كتب سوي تحظى بترويج كبير في المكتبات العربية

وهناك الكثير من التجارب التي تعرض لها ممارسون مسلمون ومتدينون وقالوا إنهم بلغوا فيها درجة الاستنارة ورؤية الضوء الغامر، بل ورؤية كائنات شفافة (أرواح المعلمين كما يزعمون)، وهي ليست سوى كائنات شيطانية. ففي العقيدة الإسلامية لا يمكن لأرواح الموتى أن تعود إلى الدنيا للتواصل مع البشر الأحياء في عالم اليقظة، كما لا يمكن لروح الشخص الحي أن تفارقه بشكل إرادي -كما يزعم أصحاب نظرية الإسقاط النجمي- وأن تتجول في أي عالم كان.

يقول تشوا كوك سوي “إن هذا الشعور شائع عند معظم ممارسي اليوغا المتطورين والقديسين والصالحين في جميع الأديان”، وهذا يعني أنه لا يهم الانتماء الديني طالما كانت اليوغا توحد الجميع تدريجيا تحت مظلة وحدة الأديان وتمييعها، حيث يضيف الكاتب نفسه “مثل النحل حينما يجمع العسل من مختلف الأزهار، فإن الرجل الحكيم يقبل جوهر الكتب المقدسة المختلفة، ويرى الخير فقط في كل الديانات”.

وبينما تسعى حركات العصر الجديد إلى تهيئة العقول والنفوس للعصر الذي يتجلى فيه لوسيفر كما تقول مؤسسة جمعية الثيوصوفيا “الحكمة الإلهية” هيلينا بلافاتسكي [انظر مقالَي الجمعيات السرية والهندوسية والبوذية]، فإن اليوغا هي إحدى الوسائل الأكثر نجاحا في الانتشار العالمي. وهذا ما يبشر به تشوا كوك سوي عندما يتنبأ قائلا “في المستقبل القريب سيكون المعالجون وملائكة الشفاء أكثر فعالية وتعاونية لإحداث الشفاء الخارق أو المدهش و على أوسع نطاق”، وينقل عن غوستاف سترومبرغ قوله “سيأتي الزمن الذي ينجز العلم فيه التقدم الهائل، ليس بسبب تحسن الأدوات المساعدة على الاكتشاف وقياس الأشياء، بل بسبب وجود أشخاص قليلين يملكون تحت سيطرتهم قوى روحية كبيرة، والتي نادرا ما تكون في الوقت الحالي مستخدمة. وخلال عدة قرون، فإن فن الشفاء الروحي سيتطور بشكل متزايد وسينتشر استخدامه على مستوى الكون”.

ويمكن أن نرى في العالم الإسلامي بوضوح سرعة انتشار اليوغا خلال السنوات القليلة الماضية، حتى أصبح الكثير من المتدينين والمحجبات يمارسونه في الحدائق العامة ويتباهون به وكأنه أحد مظاهر الانفتاح، حيث أضيفت إلى اليوغا بعض التعديلات والمصطلحات في أساليب التطبيق، بل وصل الأمر بالبعض إلى محاولة تأصيله إسلاميا.

وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر 2014 بالإجماع على اعتبار 21 يونيو من كل عام يوما دوليا لليوغا.


أهم المراجع
تشوا كوك سوي، معجزات الشفاء البراني: كتاب عملي للشفاء بالطاقة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2009.

تشوا كوك سوي، المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2014.

ميشيو كوشي، أسلوب الماكروبيوتك، مكتبة جرير، الرياض، 2003.

هيفاء بنت ناصر الرشيد، التطبيقات المعاصرة لفلسفة الاستشفاء الشرقية (رسالة ماجستير).

أحمد شلبي، أديان الهند الكبرى، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.

حميد فوزي، عالم الأديان بين الأسطورة والحقيقة، دار حطين للدراسات والترجمة، 1993.

عادل تيودور خوري، مدخل إلى الأديان الخمسة الكبرى، المكتبة البولسية، بيروت، 2005.

ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، دار الجيل، 2010.

Patanjali, The Yoga Aphorisms, An interpretation by William Q. Judge, The Theosophy Company, Los Angeles, 1973.

Gabriel Monod-Herzen, Le Yoga et les yoga, Éditions du Rocher, Monaco, 1978.

التصوف

يعد التَّصوف تجربة خاصة وفريدة في تاريخ الفكر الإسلامي، وقد تلونت بكثير من المجاهدات والشطحات والرموز والأسرار. لذا يتطلب فهمنا له إلى تذوق ومعاناة وتجربة، فللصوفية نظرتهم الخاصة لطبيعة الإنسان والمعرفة والعلم والعالم والروح والنفس والأخلاق والآداب، وهو أمر يستدعي الكثير من الحذر والدقة أثناء الدراسة لتوخي الموضوعية.

تعريف التصوف
نشأ خلاف كبير حول اشتقاق كلمة التصوف، وأرجح تلك الآراء هي التي ترجع نسبة الكلمة إلى الصوف الذي كان فيما يبدو زياً خاصًا فضَّله أوائل الصوفية ليناسب حياة التقشف، ثم أصبح اسم التصوف يُطلق على من يسلك منهجهم.

المسجد النبوي

وهناك من يرى أنه مشتق من “أهل الصفَّة” الذين انقطعوا للعبادة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الاشتقاق اللغوي لا يسمح بذلك، كما رأى البعض أنه مشتق من الصَّفاء، أو من الصَّف الأول بين يدي الله تعالى.

وقيل هو نسبة إلى قبيلة “صوفة” التي كانت تجير الحاج وتخدم الكعبة، أو إلى كلمة “صوفيا” اليونانية التي تعني الحكمة، أو إلى “الصوفة” (الخرقة) للدلالة على التذلل بين يدي الله.

والرأي الأول هو الأرجح، وهو اختيار أعلامهم، لأنه حكم على الظاهر وهو أولى.

يصعب تقديم تعريف جامع مانع للتصوف، فالصوفية يختلفون في تعريفه أكثر من اختلافهم في أصله واشتقاقه، نظرًا لطبيعته ذاتها، ولاختلاف التجربة الوجدانية الخاصة بكل صوفي، حتى قال السهروردي في كتاب “عوارف المعارف” إن تعريفات مشايخ التصوف زادت عن ألف قول.

نشأة التصوف
لم يكن التصوف موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويرى القشيري وابن الجوزي أن هذا الاسم اشتُهر قبل مرور قرنين على الهجرة، بينما حدد ابن تيمية نشأته بدقة أكبر عندما قال إنه ظهر في زمن التابعي الحسن البصري، وإن أول من سمي بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي (توفي عام 150هـ).

وفي عهد النبي وأصحابه كانت النسبة إلى الإيمان والإسلام، ثم ظهر اسم زاهد وعابد، ثم ظهر اسم صوفي. وهكذا فالتصوف يزيد على الزهد، بل هو اسم للزهد المتطور بعد القرون التي شهد لها النبي بالخير.

ويمكن القول إن الزهد بحالته الفطرية هو جزء أصيل من كل الرسالات التي جاء بها الأنبياء، وقد كان واضحا بطبيعة الحال في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي سلوكه وسلوك أصحابه وأجيال السلف الأولى، لكن التصوف لم يبدأ بالتشكل إلا في القرن الهجري الثاني، ثم تبعه التصوف الفلسفي في القرن الرابع ليكتمل نضوجه في القرنين السادس والسابع.

موكب صوفي يتجول في القاهرة عام 1870م

يقول كثير من المؤرخين المسلمين، مثل الطبري وابن سعد والجوزجاني والبلاذري، إن هناك محاولات كثيرة قام بها المنافقون والزنادقة واليهود من أجل دس عقائد وثنية وباطنية في صلب الإسلام منذ بداية الرسالة المحمدية، إلا أنها لم تظهر على السطح بوضوح إلا بعد انتهاء أجيال السلف الثلاثة الأولى (الصحابة والتابعين وتابعي التابعين)، بينما كان مجال “الروحانيات” أرضا خصبة للتأثر بالأفكار الباطنية القادمة من شرق ووسط آسيا كما هو حال المجال العقلاني-الكلامي الذي تأثر بفلسفة اليونان.

في منتصف القرن الثاني بدأت مفاهيم الزهد بالتحول إلى سلوك صوفي على شاكلة الرهبنة المسيحية، وظهر ما يسمى بالخانقاه الذي يشبه الصومعة المسيحية التي ينقطع الناس فيه للعبادة، وساعد على تقبل الأمر انتشار ظاهرة الاستبداد والظلم وإقبال الناس على الدنيا -بحسب ابن خلدون- قياسا إلى ما كان عليه السلف، مما دفع الزهاد إلى العزلة، بينما يرى آخرون أن التصوف جاء رد فعل على انتشار البدع، أو بسبب تغلغل المؤثرات الأجنبية.

ورأى معظم المستشرقين أن التصوف الإسلامي مستمد من مصدر واحد، فذهب فون كريمر ودُوزي إلى أن أصله هو فلسفة الفيدانتا الهندوسية، بينما رأى مركس أن أصله الفلسفة الأفلاطونية الجديدة [انظر مقال الباطنية]، وقال الأستاذ برون إنه فارسي مجوسي وهو نتيجة لرد فعل أحدثه “ثوران العقل” ضد الدين الإسلامي الفاتح.

أما بروكلمان فرأى أن الصراع الحربي بين الحكام وكذا الصراع المذهبي بين الفرق، دفعا بأصحاب النفوس الأكثر صفاء إلى الفرار بأنفسهم من الجدل متأثرين بالرهبنة النصرانية، وفسَّر المستشرق الفرنسي ماسنيون منشأ النزوع إلى التصوف بأنه ثورة الضمير على ما يصيب الإنسان من مظالم الآخرين ومن ظلم الإنسان نفسه، في حين كان الأستاذ رينولد نيكولسون أكثر اعتدالا واعترف بأن التصوف الإسلامي ظاهرة معقدة، ورأى أنه كان وليد الإسلام ذاته ونتيجة لازمة لفكرة الإسلام عن الله.

ويعقب الأستاذ أبو العلا عفيفي على هذا التضارب بقوله إن الذي دعا المستشرقين إليه هو قصرهم النظر على ناحية خاصة من التصوف دون النواحي الأخرى وملاحظتهم لبعض جهات الشبه بين التصوف والأحوال التي قالوا إنه مستمد منها، ناسين أو متناسين أن العقلية الإسلامية هضمت كل ما وصل إليها من عناصر الفلسفة والتصوف واستخلصت لنفسها فلسفة وتصوفا خاصين [كتاب التصوف الفلسفي في الإسلام].

وعلى أي حال، لا ينبغي أن نطبق قاعدة الأثر والتأثير على نحو مطلق، فقد أوضحنا في مقال “المغالطات المنطقية” أن وقوع حدث ما بعد حدث آخر لا يعني بالضرورة أن الأول لا بد أن يكون سببا للتالي، فهذه تسمى بالمغالطة البَعدية، وهي تُرتكب كثيرا عندما يحاول أحدهم إثبات أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم تلقى شعائر الإسلام وقصص الأمم السابقة عن أهل الكتاب وكهنة الأديان الأخرى لمجرد التشابه، فهذه مغالطة من حيث عدم ثبوت الارتباط والتلقي، ولأن النبي نفسه أكد أن المصدر واحد وهو الوحي، وأن كهنة الأديان السابقة هم الذين حرفوا الأصل الواحد وتركوه مشوّها.

حضرة الذكر الصوفي

لكن هذه المعادلة لا تطبق على ما أحدثه التصوف الفلسفي في الإسلام، فالتشابه هنا ظاهر بين ما ابتُدع في الدين بعد وفاة خاتم الأنبياء وبين الأساطير التي طرأت على رسالة الأنبياء السابقين وما جاءت به الفلسفات الباطنية والشيطانية، وهذا التشابه لا يمكن أن يكون ناشئا عن مصدر واحد هو الوحي، فقد أوضح النبي كل تعاليم الوحي واختتمه قبل موته كما أكدت الآية القرآنية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3].

وهذا يضعنا أمام خيارين إزاء التشابه، فإما أن يكون ناتجا عن تجربة روحية واحدة، وهذا لا نستبعد حدوثه في بعض طقوس التصوف، وإما أن تكون البدع التي ظهرت أخيرا مقتبسة عن السابقة عليها، ولا سيما عندما تتكاثر نقاط التشابه في المصطلحات والمقدمات والنتائج حتى تكاد تتطابق كما سنرى لاحقا، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحذو ناس من أمته حذو الأمم السابقة، وتحديدا اليهود والنصارى، وهم أقرب الأمم إلى أمته وأوضحهم تحريفا، فقال “لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!” [صحيح البخاري: 3269].

مراحل التصوف
1ـ مرحلة النشأة: تميز فيها التصوف بالبساطة وغلبت عليه نزعة عملية، حيث مال الصوفية آنذاك إلى الزهد والنسك، وشملت هذه المرحلة القرنين الأول والثاني ومنتصف القرن الثالث الهجري، وأشهر أعلامها الحسن البصري وإبراهيم بن أدهم ورابعة العدوية.

2ـ مرحلة النضج والتربية: امتدت من القرن الثالث حتى الخامس، وتوجه أصحابها إلى بناء فلسفة روحية، فعرضوا للكشف عن أحوال النفس وعوَّلوا على الذوق والعرفان، ومن أشهرهم المحاسبي وذو النون المصري والبسطامي والجنيد وأخيرا الغزالي.

3ـ مرحلة الازدهار الفكري: امتدت خلال القرنين السادس والسابع، وفيها اتضحت سمات التصوف الفلسفية، ومن أبرز رموزه السهروردي المقتول ومحيي الدين بن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود، وابن سبعين القائل بالوحدة المطلقة.

4ـ مرحلة التصوف السني العملي: حاول أنصار هذه المرحلة العودة لتعاليم القرآن والسنة ورفض النظريات الفلسفية، وبدأت هذه المرحلة بفترة فتور وتقليد ما بين القرنين التاسع والحادي عشر، ثم أعقبتها نهضة امتدت إلى يومنا الحالي.

يمكننا التمييز بين المجالات الروحية التالية:

1- الزهد: هو الجانب التطبيقي العملي الذي يعيشه المسلم التقي، متمثلا في إعراضه عن الملذات وإقباله على خالقه.

2- التصوف الطُّرقي: هو منهج سلوكي لمجاهدة النفس ورياضتها (ترويضها) وفق خطوات تنتقل بالنفس بين الأحوال والمقامات، وصولا إلى ما يسمى مقام الشهود أو الفناء، ليدرك بذلك المريد عن طريق الوجد والكشف ما لا يدركه عقله من المعرفة.

3- التصوف الفلسفي: هو الجانب النظري (الفكري) الذي يحاول تبرير وتفسير المقامات والأحوال والأسرار الصوفية.

الطرق الصوفية
وضع أئمة الصوفية في القرن الثالث الهجري أسس الطريق الذي يجب على “السالك” أو “المريد” أن يقطعه ببطء وجهد حتى يصل إلى حالة الشهود والفناء وتنكشف له الحقائق الإلهية، وسنوضح خطوات هذا الطريق لاحقا، حيث تحول الزهد إلى علم مستقل له مصطلحاته الخاصة مثل الأحوال والمنازل والمقامات، والصحو والسكْر، والتفريد والتجريد، والفناء والبقاء، والوجد والكشف.

واتفق كبار الصوفية على أن المريد لن يصل إلى الفناء ويحقق تمام المعرفة إلا بتحقيق إنكاره لذاته، وأصبحوا يسمون الصوفي الذي يصل إلى هذه الدرجة بالعارف، ويميزونه عن الزاهد نفسه، فضلا عن بقية الناس.

بوذا في حالة النرفانا
(wikimedia/Jean-PierreDalbéra)

كان أبو يزيد البسطامي من كبار مؤسسي هذه المرحلة، وهو فارسي من بلدة بسطام في خراسان، وكان جده سروشان مجوسيا (زرادشتيا) فأسلم [الأعلام للزركلي، 3/235]، فكان فيما يبدو متأثرا بما انتشر في بلاد فارس من أفكار الهندوس، حتى قيل إنه نقل عن الهنود رياضة مراقبة الأنفاس، والتي تشبه بعض ما يردده مدربو التنمية البشرية اليوم من تدريبات التنفس. ويعتقد المستشرق نيكولسون أن البسطامي هو أول من أدخل فكرة الفناء في الإسلام، وهي تعني الاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق، وبمعنى آخر هي الاتحاد بالله تعالى، وكأنها النسخة الإسلامية المعدلة عن “الموكشا” الهندوسية أو “النرفانا” البوذية [انظر أيضا مقال اليوغا]، وكذلك عن “الدفيقوت” لدى القبالاه اليهودية، ومما يرجح وصول هذه الفكرة الباطنية إلى الصوفية من الهند -سواء عن طريق البسطامي أو ذي النون المصري أو غيرهما- أنها ظهرت لدى المتصوفة في الشرق قبل أن يعرفها متصوفة مصر والمغرب [عفيفي، التصوف الفلسفي في الإسلام].

في بدايات القرن الخامس الهجري كان التصوف قد أصبح رائجا وله جماعات وأتباع، فوضع الشيخ الصوفي أبو عبد الرحمن السلمي كتاب طبقات الصوفية وقال في مقدمته “أحببت أن أجمع في سير متأخري الأولياء كتاباً أسميه طبقات الصوفية، أجعله على خمس طبقات من أئمة القوم ومشايخهم وعلمائهم، فأذكُر في كل طبقة عشرين شيخا”، وقد انتقد ابن تيمية مؤلفات السلمي وقال إن فيها “من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خيرة له، وبعض الناس توقف في روايته” [ مجموع الفتاوى 1/ 578 ].

في الوقت نفسه انتقل التصوف إلى مرحلة المأسسة على يد المتصوف الفارسي محمد أحمد الميهمي الذي كان تلميذا للسلمي، حيث وضع أول هيكل تنظيمي للطرق الصوفية بجعله متسلسلاً عن طريق الوراثة، وبنى خاناً بجوار منزله للمتصوفة، ففتح بذلك الباب أمام كبار مشايخ الصوفية ليؤسس كل منهم طريقة خاصة به، بحيث تحمل اسمه وتستمر قيادتها في سلالته آلاف السنين.

بدأ انتشار الفكرة في إيران نفسها، ثم امتدت باتجاه الغرب إلى أبعد نقطة في العالم الإسلامي مرورا بالعراق والشام، ومن أشهر الطرق التي نُسبت لمؤسسيها وما زالت قائمة حتى اليوم الشاذلية والنقشبندية والرفاعية والدسوقية والتجانية والجيلانية، وهناك فرق فرعية أنشأها شيوخ من داخل فرق أخرى.

يقول الجرجاني في كتاب التعريفات إن المتصوفة يعرّفون الطريقة بأنها السيرة المختصة بالسالكين إلى الله من قطع المنازل والترقي في المقامات، فهم يرون أن لكل شيخ عارف طريقته الخاصة في التزكية والتربية التي ألزم نفسه بها حتى وصل إلى معرفة الله بالكشف والإشراق، ويصرّ المتصوفة على أن هذه الطرق مقتبسة دائما من الكتاب والسنة وفقا لاجتهاد صاحبها الذي حملت اسمه.

وبحسب موسوعة ويكيبيديا والعديد من المواقع الصوفية الإلكترونية، يُرجع بعض المتصوفة فكرة إنشاء الطرق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بقولهم إنه كان يخصّ كل صحابي بوِرْد يتفق مع درجته وأحواله، فأعطى علي بن أبي طالب الذكر بالنفي والإثبات وهو “لا إله إلا الله”، بينما أعطى أبا بكر الصديق الذكر بالاسم المفرد (الله)، ثم أخذ عنهما التابعون هاتين الطريقتين “البكرية والعلوية”، حتى تطورت لاحقا إلى عشرات الفرق، وهذه الرواية لا أصل لها.

لوحة تعود إلى القرن السابع عشر الميلادي تمثل حالة الاتحاد والانجذاب الصوفي

الاتحاد هو صعود الإنسان بروحه عبر المجاهدة إلى مقام الله حتى تتحد روحه معه، فيصير الاثنان في كيان واحد، ومع أن المتصوفة يستخدمون فقط كلمة الفناء في الله إلا أنها تعني الاتحاد به.

أما الحلول فهو نزول الإله وحلوله في مخلوقاته، لتكون مظهرا من مظاهره وامتدادا لوجوده. وقد يحل بشخص ما (مثل المسيح أو إمام الشيعة أو ولي الصوفية) أو يحل بمخلوقاته كلها.

فالاتحاد هو صعود الإنسان من عالم المادة إلى عالم الملكوت، بينما الحلول هو نزول الإله إلى عالم المخلوقات. وكلاهما يتناقضان مع الإسلام والتوحيد وصريح الوحي، وهما مقتبسان من عقائد الباطنية التي أوضحناها سابقا.

قال ابن خلدون: “إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والاتحاد كما أشرنا إليه، وملأوا الصحف منه، مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره، وتبعهم ابن عربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف، وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم” [المقدمة، ص 473].

واللافت أنه لم يسلم معتدلو الصوفية وكبار علمائهم المتأخرين من القول بالفناء، حتى لو لم يقصدوا به الاتحاد صراحة، حيث قال أبو حامد الغزالي أثناء شرحه لعقيدة التوحيد “موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث أنه كثير، بل من حيث أنه واحد، وهذه الغاية القصوى في التوحيد” [إحياء علوم الدين، 4/230].

كان الشيخ أبو حامد الغزالي الطوسي (توفي عام 505هـ) من المتبحرين في الفقه وأصوله وفي علوم الفلسفة والكلام، ولُقب بحجة الإسلام بعد مبارزته لكبار الفلاسفة في عصره عبر كتابَي “مقاصد الفلاسفة” و”تهافت الفلاسفة”، كما يعد من أبرز علماء السنة الذين تصدوا لمواجهة موجة المد الباطني الغنوصي التي تسربت للثقافة الإسلامية على يد الفرس والترجمات اليونانية، فوضع كتابَي “فضائح الباطنية” و”القسطاس المستقيم”.

لكن اللافت في حياة هذا العالم العبقري أنه بعد بلوغه أعلى درجات الإبداع الفكري انتهى إلى مرحلة من الشك، فاعتزل التدريس والمناظرة، كما اعتزل مناهج علم الكلام (التي تستخدم المنطق والعقل في الدفاع عن العقيدة)، واكتشف أن الكشف الصوفي هو المنهج الأسلم للحقيقة، وشرح تجربته الشخصية هذه في كتابه “المنقذ من الضلال”، ثم صار محسوبا على الصوفية في كتابه المشهور “إحياء علوم الدين”، بل يتهمه البعض بأنه صار ضحية للغنوصية نفسها التي كان قد ردّ عليها، لا سيما عندما اتُهم بوضع كتب باطنية مثل “مشكاة الأنوار” و”معارج القدس” و”المضنون به على غير أهله”.

يرى الدكتور علي سامي النشار أن الغزالي بريء من هذه التهمة، وأن ابن الجوزي كان مخطئا عندما اتهمه بأنه “باع الفقه بالتصوف”، فالغزالي كان يخوض في كل المدارس الفكرية وهو متمسك بالسنة، كما يرى الكثيرون أنه حتى في حال ثبوت ميل الغزالي إلى التصوف في مرحلة العزلة التي مر بها فقد انتهى به الأمر بالعودة إلى السنة والتبحر في علوم الحديث، حتى مات رحمه الله وكتاب صحيح البخاري على صدره. [نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ص 211].

وفي عام 1960م أصدر الفيلسوف المصري عبد الرحمن البدوي كتابا أسماه “مؤلفات الغزالي”، تناول فيه 457 مصنفا يُنسب إلى الغزالي، ووجد فيه أن هناك 48 مصنفا قد نُسب للغزالي زورا، فضلا عن عشرات الكتب مجهولة الهوية أو التي تم التشكيك بنسبتها للغزالي، ومنها تلك الكتب الباطنية.

كما وضع الدكتور مشهد العلاف عام 2002 كتابا اسمه “كتُب الإمام الغزالي: الثابت منها والمنحول”، وقال فيه إن الكتب الباطنية ليست للغزالي.

والخلاصة أن الغزالي عندما مال إلى التصوف كان يرى أنه منهج آخر مخالف لمنهج الباطنية، وفقا لما ذكره في كتابه “المنقذ من الضلال”، وأنه بالرغم من مخالفته الجزئية لمنهج السنة خلال مرحلة العزلة التي مرّ بها فقد عاد إليه رحمه الله في آخر حياته.

مؤسسات التصوف
يتميز الصوفية عن غيرهم في مجال إعداد المريد (المتعلم) وتربيته، ولهم الفضل في إنشاء مؤسسات تعبدية وتربوية كبرى، ومن أهمها:

خانقاه في أصفهان الإيرانية
(wikimedia/Zereshk)

1ـ الخوانق: كلمة فارسية يراد بها الدور التي يسكنها الصوفية، وتجري عليها الأرزاق ويشرف عليها الشيوخ، ويتم فيها التفرغ للعبادة والذكر، لكن اسمها تغير لاحقا إلى “التكايا” التي خصصت لإقامة الدراويش.

2- الربط: هي بيوت الجهاد والعلم، أخذت اسمها من المرابطة في سبيل الله، كما تعني خدمة الغير تطوعاً بغير أجر؛ ليروض المريد نفسه على حب الخير والتواضع.

3ـ الخلاوي: ما تزال حتى يومنا هذا تلعب دورا تربويا في عدد من الدول الإسلامية، وخاصة السودان ودول جنوب الصحراء الكبرى.

ويلزم الصوفي نفسه في هذه المؤسسات بمنهج متكامل من العبادات (كالأدعية والأوراد)، والسلوكيات (كخشونة الأكل والملبس)، والرياضات النفسية (كالتواضع والخشية).

غاية التصوف
أوضحنا في مقال “الباطنية” أن الباطنية تيار فكري موغل في القدم، وأنه تسلل إلى معظم -وربما كل- الأديان وأنشأ في داخلها مذاهب وأديانا مستقلة، وكما هو حال الطوائف الإسماعيلية التي تطورت في قلب المذهب الشيعي، الذي نشأ بدوره داخل الإسلام، فإن التصوف تشكل أيضا بفعل التأثير الباطني، ولكن داخل المذهب السني.

يشترك الباطنيون في المعتقد الأساسي مهما كان دينهم الذي ينتمون إليه، ويؤمنون بأن المعرفة الباطنية “الغنوص” هي غاية الإنسان، وأن الوصول إليها يتم بالإشراق (الحدس).

وربما تكون نسخة التوراة التي كتبت أثناء السبي البابلي لبني إسرائيل هي أقدم النصوص المتوفرة اليوم لتحريف قصة الخلق على النحو الذي يجعل المعرفة هي السر الذي أخفاه الإله الخالق (أدوناي) عن الإنسان (آدم وحواء)، حيث سارع إبليس إلى مساعدة الإنسان وأخبره أن الإله حرّم عليه الأكل من “شجرة المعرفة” في الجنة كي لا يصل إلى الحقائق السرية التي ترتقي به إلى مراتب الآلهة، وهو ما دفع الباطنية اليهودية (القبالاه) إلى تأليه إبليس (لوسيفر).

تعد هذه القصة المحرفة -والتي تتناقض مع قصة الخلق الحقيقية الموضحة في القرآن- الأساس الذي انبثقت منه المذاهب والفلسفات الباطنية، فعقائد الاتحاد والفناء والحلول ووحدة الوجود ونظرية الفيض تعد من نتائج هذا التحريف، وقد لا يؤمن المعتقدون بهذه العقائد بالأصل المحرف لقصة الخلق بعد أن أصبحت الأفكار الوليدة منفصلة عن العقيدة الأم وقادرة على التغلغل بشكل منفرد في الأديان الأخرى وتوليد المذاهب الباطنية المتعددة، وهذا ما اتضح لنا في دراستنا للهندوسية والبوذية والمسيحية والإسماعيلية.

وعندما ندرس التصوف الإسلامي، سواء الفلسفي منه أو المعتدل، نجد أثرا واضحا -وأحيانا يكون طفيفا- للأصل الباطني المحرف، وذلك في مجالين رئيسين هما:

1- نظرية المعرفة (طريقة الحصول على المعرفة والحقائق)، حيث يرى كبار المتصوفة أن للمعرفة نوعين، فهناك معرفة استدلالية عن العقل النظري، فيُعرف بها وجود الله وصفاته، سواء من خلال التأمل في الحقائق أو بتدبر الوحي ويطلق على هذا النوع “العلم”.

وهناك معرفة خاصة، يعرف فيها الصوفي العارف حقائق الصفات والتدبير والأسرار، ولا تكون عن طريق العقل بل بالإلهام، وتسمى “العلم اللدني”.

وقد يطلق المتصوفة على الأول اسم “العلم”، وعلى الثاني “المعرفة”، فالعلم يؤتى بالكسب والتعلم، وهو ما جاء في الحديث الضعيف: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، أما المعرفة فتتحقق لمن يسلك طريق المجاهدة والتصوف، ويستدلون على ذلك بحديث روي فيه أن الرسول قال لحارثة كيف أصبحت؟ فقال أصبحت مؤمنا حقا، قال بم ذلك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا وسهرت الليل وظمئت النهار وكأني أرى عرش ربي وأرى الجنة والنار، فقال النبي يا حارثة “عرفت فالزم”. وهذا الحديث يتفاوت تخريج العلماء له بين الباطل والضعيف جدا.

وبالرغم من عدم ثبوت المعرفة بهذا المعنى الكشفي في نصوص القرآن والسنة، فقد جعلها المتصوفة أعلى من العلم نفسه، ورأوا أنها لا تتحقق إلا لمن يسلك طريقهم، بل جعلوا منها غاية الإنسان وهدفه الأسمى.

قال أبو على الدقاق “المعرفة توجب السكينة في القلب، كما أن العلم يوجب السكون ، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته ” [الرسالة القشيرية، ص312].

2- الغاية من الوجود: ينص القرآن الكريم على أن غاية خلق الإنسان هي عبادة الله، فيقول تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، لكن المتصوفة جعلوا المعرفة نفسها هي الغاية، وهي مفهوم يشمل محبة الله وإشراق نوره على القلب، كما يشمل أيضا الاتحاد بالله (الفناء) عند غلاة المتصوفة.

وينتشر في كتب الصوفية حديث قدسي ينسب إلى الله تعالى القول: “كنت كنزاً لا أُعرف، فأحببت أن أُعرف فخلقت خلقاً فعرّفتهم بي فعرفوني”، وكأن غاية الخلق كله هي أن يُعرف الله من قبل خلقه، لكن هذا الحديث موضوع مكذوب كما يقول العجلوني، وينقل ذلك عن ابن تيمية والزركشي وابن حجر والسيوطي وغيرهم [كشف الخفاء: رقم 2016].

يقول ابن خلدون عن المتصوفة “ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة” [المقدمة، ص585].

وحتى معتدلو الصوفية الذين لم يقولوا بالاتحاد والحلول جعلوا المعرفة هي الغاية، ومنهم الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي قال “الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد” [فتوح الغيب، ص171].

ومن المعاصرين الشيخ محمد سعيد البوطي الذي قال في سياق إجابته على إحدى الفتاوى “القصد من السلوك إنما هو المحافظة على القلب السليم, وإحاطتُه بذلك المنهج النبوي القويم للوصول إلى المأمول الأسمى وهو المعرفة، على ميزان قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)” [موقع نسيم الشام، الفتوى رقم 46686].

الكشف والعقل
قلل معظم الصوفية من شأن الدليل العقلي والنقلي في مقابل الكشف والوجد والذوق، فالإلهام في عرفهم هو مصدر المعرفة الحقيقية التي يستبعد معها إمكان الخطأ، حتى وصل الأمر بالغلاة منهم إلى التخلي عن العلم الشرعي نفسه، ونصحوا مريديهم بالاجتهاد في كشف الحجب لا جمع الكتب، فشاعت بينهم مقولة “دع علم الورق وعليك بعلم الخِرق”.

والإلهام كما يرونه هو حصول المعرفة بغير أسباب ولا اكتساب، إذ يهجم على القلب كأنه ألقي فيه، فلا يدري العبد كيف حصل له ومن أين حصل، وبالغ بعضهم عندما عدَّ الكشف أصلاً زائداً على الكتاب والسنة، يمكن أن تثبت به عقائد غيبية لم ترد فيهما، وهو الذي قاد إلى اعتقاد العصمة في المشايخ (الأولياء).

ومن أخطر الأمور التي تسربت إلى التصوف من الأديان الباطنية ما ذهب إليه بعضهم من التحلل من التكاليف الشرعية، بدعوى أن الأوامر والنواهي رسوم العوام، وأن هدف التكاليف حصول المعرفة في القلب، فإذا حصلت فلا ضرورة لها، واحتجوا بقوله تعالى {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99] ففسروا اليقين بالعلم وقالوا إذا حصل العلم سقطت العبادة، لكن عقلاء الصوفية ردوا بشدة على هذا الغلو فقال الجنيد إن من يسرق ويزني أحسن حالاً من هؤلاء.

وعموماً فإن هذه المعرفة الوجدانية لا يمكن إقامة دليل عليها، لأنها نتاج تجربة فردية وربما تكون في كثير من مراحلها خارج حدود الزمان والمكان، ومن ثم لو ثبتت العلوم بالإلهام لا يبقى للتفكير العقلي والعلم التجريبي أي معنى، وحتى لو كان صحيحا فهو حجة باطنة تخص صاحبها ولا يمكن إلزام الآخرين بها، فلا توجد ضوابط تحكم المعرفة الإلهامية بحيث يعرف صحتها من بطلانها، ولا يمكن أن يعرف صاحبها نفسه ما إذا كانت إلهاما من الله أو وسوسة من الشيطان، ولو صدّق كل امرئ بما ادعى لما ثبت حق ولا بطل باطل.

التأويل الباطني
يرى المتصوفة أن للنص ظاهرا وباطنا، سواء كان نصا قرآنيا أو حديثا شريفا أو من أقوال شيوخهم التي يسمونها بالفتوحات، ومن هذا المنطلق ظهر ما يسمى بالتفسير الإشاري، وهو أحد أشكال التأويلات الباطنية للقرآن الكريم، حيث يرى أصحابه أن للقرآن معنى باطنا خفيا لا يظهر لعامة الناس، ولا حتى لعلماء الشريعة، وإنما يظهر لخاصتهم ممن فتح الله قلوبهم بعد المجاهدة وفقا لطرقهم المعروفة، ويعتبرون هذا العلم من العلم “الوهبي” و”اللدنّي”، أي أنه هبة من الله ومن لدنه مباشرة (بالكشف والإلهام)، فهو ليس علما كسبيا كالذي يكتسبه علماء الشريعة بالدراسة والتعلم.

وقد شرح الشيخ الصوفي سهل التستري هذا التفسير بقوله “ما من آية في القرآن إلا ولها أربعة معان، ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم، والحد حلالها وحرامها، والمطلع إشراف القلب على المراد بها فقهاً من الله عز وجل، فالعلم الظاهر علم عام، والفهم لباطنه والمراد به خاص”.

وربما بالغ بعض المتصوفة في هذا التفسير حتى أصبح لكل كلمة في القرآن معنى آخر خفي، وهم غالبا يبحثون في ذلك عن معاني تتعلق بالجانب الروحي وتزكية النفس. وأتاحوا بذلك -ربما عن غير قصد من قبل البعض- الفرصة لتمييع النص القرآني وإعادة تأويله بما يوافق هوى أصحاب البدع والخرافات والأفكار المستوردة.

ويعد الشيخ العراقي محمود الألوسي من أعظم العلماء الذين كتبوا في التفسير الإشاري، وذلك في كتابه الضخم “روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسَّبع المثاني” الذي وضعه في القرن الثالث عشر الهجري (العصر العثماني)، فكان يورد فيه تفسير الآيات حسب الظاهر، ثم يشير إلى بعض المعاني الخفية التي تستنبط بطريق الرمز والإشارة.

ويؤكد بعض العلماء أن أصحاب هذا النوع من التفسير لم يكونوا يدّعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه، فسمّوها إشارات ولم يسموها معاني. لذا قال ابن تيمية إن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح فهي مقبولة، وإن كانت تحريفا للكلام عن مواضعه وتأويلا له على غير تأويله فهي من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية [انظر مقال الإسماعيلية]. أما تلميذه ابن القيم فقال إن كان المراد بتلك الإشارات أنها هي مراد الله فهي غلط، وإن أراد أصحابها أنهم يقولون بها عن طريق الإشارة والقياس فكلامهم مقبول بشرط ألا تناقض الإشارة المعنى الظاهر للآية، وأن يكون معناها صحيحا في نفسه، وأن يكون في اللفظ إشعار به، وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم.

الولاية
للولاية معان عديدة، لكن المقصود بها هنا صفة أطلقها القرآن الكريم على فئة من الناس، فقال {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63]، أي أن أولياء الله هم الذي يجمعون صفتي الإيمان والتقوى، فيحققون الإيمان قولا وعملا، ويجمعون معه أنواع القربات والطاعات ويتجنبون المعاصي والذنوب.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه” [رواه البخاري]، وصفة الولي في هذا الحديث الصحيح تنطبق على من يتقرب إلى الله بالفرائض ويكثر من النوافل، حتى يصل إلى مرتبة الإحسان التي وصفها حديث آخر يقول “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، وعند هذه الدرجة من القرب إلى الله تصبح جوارح الولي كلها مسخرة لإرضاء الله، ويصبح دعاؤه مجابا.

ويمكننا أن نقول إن كبار الصحابة كانوا يجسدون بسلوكهم هذا المعنى العملي لأولياء الله، حيث يقول عنهم الشوكاني في تفسيره: “فإذا لم يكونوا رأس الأولياء، وصفوة الأتقياء، فليس لله أولياء ولا أتقياء ولا بررة ولا أصفياء” [تفسير الشوكاني: 5/288].

ومن المعروف أن كبار الصحابة كانوا يساهمون في بناء المجتمع والدولة ويلتمسون رزقهم بالتجارة والزراعة والحرف اليدوية كأي عضو آخر في المجتمع، ولم يتميز أحدهم بأي سمة من سمات الكهنوتية والرهبنة المعروفة في الأديان الأخرى.

لذا يرى ابن تيمية في رسالة “الصوفية والفقراء” أن الأولياء هم المؤمنين المتقين، “سواء سُمِّي أحدهم فقيهًا أو عالمًا أو تاجرًا أو جنديًّا أو صانعًا أو أميرًا أو حاكمًا أو غير ذلك”، ويؤكد في كتابه “الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان” أنه “ليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور والمباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحًا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفر إذا كان مباحًا… فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزرَّاع”.

لكن واضعي نظريات التصوف الفلسفي كان لهم رأي آخر، فمع أن الآيات والأحاديث التي ذكرت الولاية لم تعطها أي بعد آخر يفوق ما ذكرناه، إلا أن الاعتقاد بالمعنى الباطني الخفي للنص منحهم فرصة لتمرير عقيدة الحلول من باب التأويل، فجعلوا الولاية مرتبة تفوق مراتب البشر –بما فيهم الأنبياء عند بعض الغلاة- والأصل في ذلك هو عقيدة وحدة الوجود (اتحاد الإله بالكون والإنسان في أصل واحد) وعقيدة الحلول، حيث يقول القطب الصوفي محمود أبو الفيض المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف إن “الولاية عبارة عن تولي الحق سبحانه وتعالى عبده بظهور أسمائه وصفاته عليه علماً وعيناً وحالاً وأثر لذة وتصرفاً”، ويضيف أن الولي الذي يصل إلى أعلى مراتب الفناء “لا يرى في نظره غير فعل الفاعل الحقيقي وهو الله”.

ومع أن حديث “فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به…” لا يؤدي إلى معنى الحلول الذي يتعارض جذريا مع عقيدة الإسلام، بل يستخدم الحديث ألفاظا مجازية لتوضيح فكرة موالاة الله لعباده الصالحين، إلا أن التصوف الفلسفي استغل هذا اللفظ الظاهري لتأويله باطنيا بما يؤدي إلى حلول الإله في الإنسان واتحادهما معا، حتى يتمتع الولي بجزء من صفات الإله ويصبح من أنصاف الآلهة، وعلى النحو الذي نجده في الهندوسية والقبالاه وغيرهما من الوثنيات الباطنية، مع أننا لا نجد نصا صحيحا واحدا يؤكد أن أحدا من الصحابة أو التابعين قد فهم المعنى المجازي للحديث السابق بهذه الطريقة.

وكما فعل الشيعة في توظيف نظرية الإمامة عبر منح الأئمة (من سلالة النبي) صفات تكاد تشبه صفات الأنبياء، وربما تزيد عنها عند بعض الغلاة، فقد جعل بعض الصوفية من الانتساب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ميزة كبيرة تسهّل على الإنسان اكتساب صفة الولاية، حتى ادعى الكثيرون عبر التاريخ الانتساب إلى النبي لهذه الغاية، ومن الملاحظ أن معظم أقطاب الصوفية ومشايخها -وربما كلهم- يفخرون بنسبهم الممتد إلى النبي.

يعد المتصوف محمد بن علي بن الحسن الترمذي (يلقب بالحكيم وهو ليس عالم الحديث محمد بن عيسى الترمذي مؤلف سنن الترمذي) أول من وضع أصول الولاية في الفكر الصوفي، وذلك عبر سلسلة من الكتب كان أولها “خاتم الأولياء” في أواخر القرن الثالث الهجري، فقال فيه إن هناك طريقين للولاية، الأول هو طريق الصدق والجهد والعبادة عبر أداء الواجبات والنوافل، والثاني هو طريق المنَّة والوَهْب والعبودية، ومع أن الأحاديث والآيات المذكورة أعلاه لا تصف إلا الطريق الأول فقط؛ فقد جعل بعض المتصوفة الطريق الثاني (الذي لا أصل له) هو الأساس، ما فتح الباب أمام العوام والجهلة، وحتى الفسّاق، لادعاء الولاية واجتذاب الأتباع، بل أصبح المصابون بأمراض عقلية من أهل الولاية باعتبارهم “مجاذيب”، أي أن الله جذبهم إليه وأسقط عنهم التكاليف، حيث نرى اليوم في الزوايا الصوفية عددا من هؤلاء المرضى الفقراء الذين وجدوا لهم مأوى هناك بينما يعتقد كثير من العوام أنهم ليسوا سوى أولياء صالحين يُتبرك بهم.

ابتدع المتصوف الترمذي أيضا نظرية جديدة في مفهوم الولاية، فقال إن نبوَّة الأنبياء ورسالة الرسل لهما نهاية وحدّ في هذه الدنيا؛ وتتوافق نهايتهما مع نهاية العالم ورجوع مخلوقاته إلى خالقها، أما صفة الولاية فهي أبدية، مستخدما التأويل الباطني لكلمة “الولي” التي أطلقها الله أيضا على نفسه بقوله {الله ولي الذين آمنوا} حيث لم يصف الله نفسه بالنبوة في المقابل، وهذه مغالطة واضحة فالولاية مصطلح لغوي يعني المحبة والنصرة، وإذا كانت تُطلق على الخالق والعبد بمعنيين مختلفين فهذا لا يعطي المصطلح نفسه أي ميزة عن مصطلحات أخرى، وإلا وجب التأمل أيضا في استخدام القرآن لكلمة الولاية في معنى الشر عندما تحدث عن “أولياء الشيطان”. ومع ذلك فلم يزعم الترمذي أن الولي أفضل من النبي؛ بل جعل صفة الولاية في شخص النبي صفة أبدية بينما تنتهي صفة نبوته بانتهاء العالم، لكن هذا التمييز والتأويل الباطني فتح الباب لمن جاء بعد الترمذي كي يصل به الحال إلى تقديم الولي على النبي، كما فعل غلاة الشيعة ممن قدموا الأئمة على الأنبياء.

تطورت نظرية الولاية في القرن الرابع الهجري على يد أبي بكر الكتاني الذي ابتكر فكرة مراتب الأولياء، فجعلهم على درجات هي: النقباء والنجباء والبدلاء والأخيار والعمد والغوث والسياحون، وفي أواخر القرن جعل أبو طالب المكي الولاية في ثلاث مراتب هي الأقطاب والأوتاد والأبدال، ثم وضع علي بن عثمان الهجويري مرتبة الغوث فوق القطب في كتابه “كشف المحجوب”.

في القرن الخامس الهجري، حاول الشيخ القشيري في كتابه “الرسالة” أن يجنب التصوف الكثير من الخرافات والبدع، وكان حريصا على أن يُظهر الولي في صفة العابد الزاهد دون مبالغة، ونقل عن السُّلمي قوله “نهايات الأولياء بدايات الأنبياء”، إلا أنه رأى أن من شرط الولاية أن يكون الولي محفوظًا، كما أنه من شرط النبي أن يكون معصومًا، وهذا الادعاء لا دليل عليه.

وفي القرن التالي، وضع محيي الدين بن عربي -الملقب بالشيخ الأكبر والمتوفى عام 638هـ الموافق 1240م- نظاما متكاملا لمفهوم التصوف الفلسفي للولاية، مبتدئا بالحديث عما أسماه “الحقيقة المحمدية”، وهي حسب رأيه النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء، وهي أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود، وهي الصورة الكاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه حقائق الوجود، والمشكاة التي يستقي منها الأنبياء والأولياء العلم الباطن.

 فكرة “الحقيقة المحمدية” تكاد تتطابق مع مفهوم وضعه الشيعة قبل ابن عربي هو “النور المحمدي”، وهي تشبه أيضا فكرة مركزية المسيح في العالم وأزليته حسب عقيدة المسيحيين، وتبدو مقتبسة من فلسفة القبالاه التي تحدثت عن “الإنسان الكامل” المتجسد في آدم عليه السلام “آدم قدمون”، حيث كان جسمه يعكس التجليات النورانية العشرة (سفيروت).

وفي كتابه المعروف “ختم الولاية”، حدد ابن عربي نظاما هيكليا لمراتب الأولياء، وبشكل يذكّرنا بدرجات الترقي في الجمعيات السرية، مستندا في ذلك بالدرجة الأولى إلى مشاهداته الكشفية الوجدانية حسب قوله، كما وضع ابن عربي أجوبة على الأسئلة المائة والسبعة والخمسين التي وضعها الترمذي لتحديد مفهوم الولاية وصفاتها في كتابه “الفتوحات المكية”، وأهم هذه الأسئلة: كم عدد منازل الأولياء؟ أين منازل أهل القُربة؟ من الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة؟ ما سبب الخاتم وما معناه؟ أين مقام الأنبياء من الأولياء؟

حدد ابن عربي في كتاب “الفتوحات المكية” نحو ثمانين مرتبة من مراتب الأولياء والمتصوفة، ثلاثون منها محفوظة برجال يتقيدون في كل زمان بعدد مخصوص، وعلى رأس الأولياء هناك قطب غوث واحد يتسيد أولياء العالم في زمانه، ولم يكتف ابن عربي بهذا بل عدد خمسة وعشرين قطبا من آدم وحتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

تحدث ابن عربي أيضا عن “الأوتاد الأربعة” يتولى كل منهم ربع العالم بحيث يحفظ الله بهم سكان الأرض، ثم يأتي في المرتبة التالية سبعة أبدال يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، وكل بدل منهم “على قدم” نبي من الأنبياء، مع افتراض أن كل نبي من أولئك الأنبياء يسكن في إحدى السموات السبع. ثم يليهم اثنا عشر نقيبًا على عدد بروج الفلك، فيتمتع كل واحد منهم بخاصية برج ما (وفقا للعقائد الهرمسية التي تعطي الكواكب وظائف تشبه الملائكة). وبعد النقباء يأتي ثمانية نجباء، ثم الحواريون، ثم الرجبيون، وهم أربعون شخصًا في كل زمان.

وبعد نحو قرنين من ابتكار الترمذي فكرة “ختم الولاية” دون أن يوضح من هو خاتم الأولياء، جاء محيي الدين ابن عربي ليطرح نظرية أوسع ويحاول الإجابة على السؤال، فقال إن هناك ختما يختم الله به الولاية على الإطلاق على يد عيسى عليه السلام، لأنه سينزل في آخر الزمان وارثًا خاتمًا، وأضاف أن هناك ختما آخر يختم الله به الولاية المحمدية، ثم قال إنه التقى بشخص في فاس هو خاتم الولاية المحمدية، غير أن ابن عربي أعلن لاحقا أنه هو نفسه خاتم الولاية المحمدية متحدثا عن رؤى بشرته بذلك في المنام، بحسب ما ينقل عنه المستشرق ميشيل شودكيفِتش في كتابه “خاتم الأولياء: النبوة والولاية في مذهب ابن عربي”.

وبعد أن استعرض شودكيفِتش مؤلَّفات الصوفية ممن جاء بعد ابن عربي، وجد أن كل جماعة كانت تزعم أن شيخها هو خاتم الولاية المحمدية، بينما ما زال تلامذة ابن عربي يؤكدون أن شيخهم هو الخاتم.

ولا ينكر المتصوفة أن كل هذه الألقاب والدرجات لا أصل لها في القرآن والسنة، فهي تُنسب إلى الشيوخ الذين ادعوا تلقي هذه النظريات عن طريق الكشف، ويستثنى فقط لفظ “الأبدال” الذي جاء في حديث منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو “إن فيهم -يعني أهل الشام- الأبدال أربعين رجلا، كلما مات رجل أبدله الله مكانه رجلا”، ويرجح ابن تيمية في الجزء الحادي عشر من مجموع الفتاوى أن هذا ليس من كلام النبي، فالإيمان كان بالحجاز وباليمن قبل فتوح الشام، ومع إقراره بالأحاديث التي ذكرت فضائل الشام وأهلها إلا أنه يتساءل: كيف يعتقد أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل الخلق كانوا في أهل الشام‏ فقط؟‏

ولا نستبعد أن يكون أصل نظرية الولاية مقتبسا من “الأفلاطونية الجديدة” التي طورت نظرية الفيض، وهي النظرية التي نجدها بوضوح لدى القبالاه، وهي تفترض انبثاق الإنسان عن الإله وإمكانية ارتقاء الإنسان للاتحاد به، وهو ما نجده أيضا في الهندوسية والبوذية، فالصفات التي يكتسبها الولي بعد بلوغه درجات الأبدال والأقطاب تشبه كثيرا صفات الإنسان “المستنير” لدى تلك الوثنيات الباطنية، وهي تشبه أيضا صفات آلهة الأولمب في الميثولوجيا اليونانية التي تتخيل وجود آلهة على هيئة البشر ولديهم شهوات ونزوات وصراعات، إلا أنهم خارقون وخالدون ويسيّرون شؤون العالم [انظر مقال الوثنية].

الديوان الصوفي العالمي
تعد القرون الثلاثة الأخيرة من أكثر المراحل التي شهد فيها العالم الإسلامي تراجعا حضاريا وفكريا، وذلك بالتوازي مع صعود المنظومات الأسطورية لكافة الطوائف المنتسبة للإسلام، ومنها التصوف، لذا وجد البعض في هذه البيئة مجالا أوسع لطرح نظريات باطنية لا تكاد تستند إلى أي أصل قرآني، ومنهم أحمد بن مبارك السلجماسي المغربي (المتوفى عام 1743) الذي تتلمذ على يد شيخ يدعى عبد العزيز الدباغ، وهو رجل أمي قيل إنه تلقى الكشف والعلم اللدني دون تعلم ولا طلب فصار من كبار الأولياء، وقد وضع السلجماسي كتاب “الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز” قائلا إنه جمع فيه أهم مأثورات شيخه.

ومن أهم ما ورد فيه أن هناك ديواناً (مجلس أو مؤتمر) للأقطاب والأوتاد وسائر صنوف الأولياء ينعقد كل ليلة في غار حراء، حيث يتصدره القطب الغوث (وهو الدباغ نفسه)، ويجلس عن يمينه أربعة أقطاب على مذهب مالك بن أنس (لأن الدباغ كان مالكيا)، وثلاثة أقطاب عن يساره واحد من كل مذهب، وقد يحضر الجلسة بعض الأموات الذين لا يُعرف أنهم مجرد أرواح بلا أجساد إلا بالنظر إلى انعدام ظلهم، ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يحضر جلسات هذا الديوان أحيانا، وقد “يحضر معه أزواجه الطاهرات وأكابر صحابته الأكرمين”، كما يحضر الجلسة في ليلة القدر عدد من الأنبياء والملأ الأعلى من الملائكة.

ويضيف أن لغة أهل الديوان هي السريانية لأنها لغة الملائكة، وأنهم “لا يتكلمون العربية إلا إذا حضر النبي صلى الله عليه وسلم أدباً معه”، ويقول أيضا إن الغوث قد يغيب أحيانا عن بعض الاجتماعات فيقع الخلاف بين الحاضرين إلى درجة أن يقتل بعضهم بعضاً.

أما هدف الاجتماع فهو أن يتفق الأولياء على “ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد… ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية وحتى في الحجب السبعين وحتى في عالم الرقَّا وهو ما فوق الحجب السبعين.. إلخ”، وكأن الأولياء بذلك هم نسخة عن آلهة الميثولوجيات القديمة.

تقديم الولي على النبي
كما هو حال غلاة الشيعة الذين قدموا الأئمة على الأنبياء في بعض الصفات، فقد بلغ الغلو ببعض المتصوفة إلى رفع مقام الأولياء بالطريقة نفسها، واعتقدوا أن الأنبياء يكتفون بعلم الظاهر (الوحي والشريعة) بينما يختص الأولياء بعلم الباطن الذي يقتبسونه بالكشف والإلهام، وقد رفض المتصوفة المعتدلة هذا الغلو.

ومن أهم المبررات التي يقدمونها لهذا الاعتقاد قصة النبي موسى عليه السلام مع الخضر الذي يعتبرونه من الأولياء، حيث وصفته الآية بأنه من عباد الله {فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} [الكهف: 65]، ويقولون إن النبي موسى عليه السلام لم يستطع إدراك الحقيقة الباطنية وراء الأحداث التي مرت بهما، بينما أدركها الخضر بعلمه اللدني.

لكن الفخر الرازي يقول في تفسيره إن غالبية المفسرين من أهل السنة يرجحون أن الخضر كان نبيا وليس مجرد ولي، وهذا ظاهر في قول الخضر عندما برر أفعاله {وما فعلته عن أمري}، فقد فعلها بأمر الله الذي يتحقق بطريق الوحي، إذ لا تُعرف أوامر الله ونواهيه إلا بالوحي، ولا سيما قتل الأنفس وتعييب سفن الناس بخرقها، فهذا العدوان على الأنفس والأموال لا يجوز إلا بالوحي من الله، حيث حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي بقوله {قل إنما أنذركم بالوحي} [الأنبياء: 45].

ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي إن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص في أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، وهو أيضا ما يدل عليه تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله {هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت رشدا} [الكهف: 66]، فالأصل أن يتبع الولي النبي وليس العكس، لكن موسى والخضر عليهما السلام كانا نبيين ولديهما علم من الغيب، وقد كشف الله للخضر بعض الحقائق التي حجبها عن موسى ليبين له وللناس من بعده أن العلم لا يكون كله عند نبي واحد حتى لو كان هو أعظم الأنبياء على الأرض في عصره. [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: 4/172، 173].

وإذا كانت نبوة الأنبياء تثبت بنزول الوحي المُعجز عليهم وبتحقق المعجزات على أيديهم؛ فإن ولاية الولي أمر محتمل لا يثبت مهما كان صاحبها صالحا، فإذا زعم أحد أنه وليّ ولديه علم لدنّي يأمره بأعمال تخالف الشريعة (مثل قتل النفس وإغراق السفينة) فلا يعقل أن نصدقه، وإلا أصبح الشرع عرضة للعبث على يد كل دجال طالما كان قادرا على التمثل الظاهري بصفات الأولياء من الصلاح والزهد.

نظرا لأهمية الخضر عليه السلام لدى المتصوفة، فقد زعموا أن الله مدّ في عمره إلى آخر الزمان، ما فتح الباب أمام ظهور حكايات اجتماع المشايخ بالخضر وتلقيهم الأسرار عنه، ثم أضاف البعض فكرة امتداد حياة النبيين إدريس وإلياس عليهما السلام، وهذه من أساطير بني إسرائيل والقبالاه التي تزعم أنهما هرمس وإيليا [انظر مقال الباطنية].
ومع أن بعض علماء المسلمين ذهبوا إلى التصديق بالمرويات التي تحدثت عن استمرار حياة الخضر، إلا أن ابن الجوزي أثبت في كتابه “عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر” أن كل تلك النصوص المرفوعة لم تكن سوى أكاذيب موضوعة، وهو ما أثبته أيضا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في الجزء الثاني من كتابه أضواء البيان.

لذا قال ابن القيم إن العلم اللدني لا يعدو كونه فهما للكتاب والسنة بما لا يخالفهما، وهو ثمرة العبودية ومتابعة النبي، كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه (وهو من أولى الناس بالولاية) عندما سئل هل عندكم شيء مما ليس في القرآن أو ما ليس عند الناس؟ فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يُعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة، قيل وما في الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر” [صحيح البخاري: 6517].

كما قال عمر بن الخطاب في كتاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: والفهم الفهم فيما أدلي إليك، فالفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه، يعرف به ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره، مع استوائهما في حفظه، وفهم أصل معناه. [مدارج السالكين 3/382].

ملازمة الشيخ
يرى المتصوفة أن سبيل الدين غامضة وأن سبل الشيطان كثيرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، والشيخ عندهم ليس مجرد معلم بل هو أيضا معنى مجرد (صورة مثالية) يجب على المريد أن يتمثله ويطبع نفسه عليه، وبدون ذلك لا يكون المريد صادقاً في سلوكه، فلا يظفر بالوصول مهما بذل جهده في الطاعات.

ومن المبالغات الواردة على ألسنة بعض المشايخ أن أهمية الشيخ للمريد كأهمية الوضوء للصلاة، وهم كعادتهم يستخدمون نصوصا وقواعد فقهية بمعان أخرى باطنية لتبرير قناعاتهم، فبرروا ضرورة التعلم على يد الشيخ بالقاعدة الفقهية المشهورة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.

ويشترط الصوفية أن يتخذ المريد شيخاً واحداً لا يحيد عنه، حتى قال ابن عربي “فكما أنه لم يكن وجود العالم بين إلهين ولا المكلف بين رسولين، ولا امرأة بين زوجين، فكذلك المريد لا يكون بين شيخين” [الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية: 1/ 65].

وبالغ بعض الصوفية كثيراً في الشروط التي أوجبوها على المريد نحو شيخه، حتى أصبحت قيوداً على حريته وعقله، ويبدو أن الإفراط في طاعة المريد للشيخ والتسليم له باطناً وظاهراً ينبع من حرص شيوخهم على تأصيل مفهوم “عصمة الشيخ”، حتى زعموا أن “النبي معصوم والولي محفوظ”، ولم يقدموا فرقا بين العصمة والحفظ إلا في اللفظ، مع أن القشيري -وهو كبار الصوفية- حذر من الاعتقاد بعصمة المشايخ.

يظهر التأثير الهندوسي-البوذي في التصوف من خلال مراقبة مظاهر تبرك المتصوفة بشيوخهم واستحضارهم لهم في أذهانهم أثناء الذكر، حيث يستحضر البوذيون معلمهم بوذا أثناء ترتيل صلواتهم ويقولون في بدايتها “نستحضرك أيها القديس المستنير”.

ويظهر التأثير أيضا في لبس المريد الخرقة والمرقعة على يد الشيخ حتى يتميز بها عن بقية الناس، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المسلم لباسا يشتهر به، فجاء في الحديث الذي حسنه السيوطي والألباني “من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة، ثم يلهب فيه النار” [أخرجه أبو داود وابن ماجه].

ولتثبيت طاعة المريد للشيخ وضمان سيطرة المشايخ على أتباعهم، وضعوا شروطا لا أصل لها في الإسلام، ومنها:

أ- عدم مخالفة الشيخ  بالقلب والجوارح مطلقاً، فشعار بعضهم “كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي مغسله”، ومع أن القشيري أنكر عصمة المشايخ فقد طالب المريدين بالطاعة العمياء، فيقول “وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير عليه، لأن خلاف المريد في ابتداء حاله دليل على جميع عمره”، ويقول أيضاً “ومن شرطه أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه” [رسالة القشيري، ص182]، بل يقول السهروردي “أدب المريد مع الشيخ أن يكون مسلوب الاختيار لا يتصرف في نفسه وماله إلا بمراجعة الشيخ وأمره” [العوارف، ص403]. ومن لم ير خطأ الشيخ أحسن من صوابه لم ينتفع به، وعليه أن يحذر “من سؤال لمَ، وعلام، ولأي شيء؟ [جواهر المعاني للتيجاني، 2/ 185] بل يطيع المريد شيخه ويتلقى منه كل شيء دون سؤال ولا فهم، حتى وصل الأمر بهم إلى اعتبار أن الشيخ “كعبة” المريد ولا يحصل له مدد وفيض إلا بواسطته [الأنوار القدسية 2/ 82، 84، 103]، وهذه الشروط لا تناسب دينا ربى أتباعه على الاستيثاق وعدم اتباع الظن والرجم بالغيب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا معصوم إلا الأنبياء.

ب ـ لا يجوز للمريد أن ينكر شيئاً على شيخه أبدا ولو ملك الدليل، بل لا يجوز أن يظن فيه خلاف الخير والحق، وبرروا ذلك بأنه قد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن، فيجب التسليم والصمت مهما فعل، وتنبع هذه المغالطة من عقيدتهم الباطنية التي تجعل لكل ظاهر باطنا قد يكون نقيضه، وهو أمر يفتح أبوابا لارتكاب الجرائم والفواحش، فقد يكون الشيخ دجالا أصلا وهو يفعل ما يحلو له دون أن يجرؤ المريدون على الاستنكار بذريعة عدم فهمهم لحقيقة أفعاله.

ج ـ أن يحفظ شيخه في غيبته كحفظه في حضوره، وأن يلاحظه بقلبه في جميع أموره سفرا وحضرا ليحوز بركته، وأن يرى كل بركة حصلت له في الدنيا والآخرة هي ببركة الشيخ، وألا يكتم على شيخه شيئاً من الأحوال والخواطر والكشوفات والكرامات، كما لا يشير على شيخه برأي حتى إذا استشاره، بل يردّ الأمر إلى شيخه اعتقادا منه أنه أعلم منه بالأمور وغني عن استشارته، وإنما استشاره تحببا ما لم تقم القرائن الواضحة على خلاف ذلك، وألا يجالس من كان يكره شيخه، وعليه أن يحب من يحبه، وأن يصبر على جفوة شيخه وإعراضه عنه، وألا يتصرف تصرفا من سفر أو زواج أو أي أمر مهم إلا بإذنه، ولم يقتصر الأمر على حال الشيخ في حياته، بل تعدى ذلك إلى ما بعد الموت، فمن زار شيخاً في قبره عليه ألا يعتقد أنه ميت لا يسمعه، بل يعتقد بحياته البرزخية لينال بركته [الأنوار القدسية 1/161].

ووصل الحال بالبعض إلى الاعتقاد بأن الشيوخ الكبار قد يُظهرون بعض المنكرات والفواحش -التي هي حسب زعمهم تصورات خيالية يراها غيرهم حقيقة- لكي يُخفوا عن الناس كونهم من الأولياء تواضعًا، وهذا ليس إلا من تلبيس إبليس عليهم، فهو أيضا من أبواب الخداع التي يمكن أن يمارس بها الدجالون الفواحش ويبررونها للجهلة، ويردّ عليهم ابن تيمية بقوله إن الأنبياء فقط يجب لهم الإيمان والطاعة فيما يخبرون به ويأمرون، أما غيرهم ولو كانوا أولياء فيُعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما خالف رُد [الفرقان، ص31].

الكرامات
ذكرنا في مقال “نبوة محمد” أنه ليس هناك مانع عقلي من وقوع الخوارق التي تخالف العادة، فإذا منح الله هذه القدرة لأنبيائه كي يثبتوا نبوتهم فلا مانع شرعي وعقائدي أيضا من أن يمنحها تعالى لبعض عباده الصالحين، وهذه الخوارق تسمى معجزات في حال وقوعها على يد الأنبياء، بينما تسمى كرامات إذا حصلت لشخص مؤمن، وقد ثبت في الأحاديث وقوع الكرامات لعدد من الصحابة، وكانت إما لحاجة أو حُجّة في الدين، مثل دعوة مستجابة أو تكثير طعام أو عدم احتراق بالنار، ولم يُذكر أنها حدثت بتكلف أو طلب أو حرص من أحدهم، بل حدثت إكراماً لهم من الله أو استجابة لدعاء يرون فيه مصلحة ما، ويقول الإمام الشاطبي إن “طلب الكرامات ليس عليه دليل، بل الدليل خلاف ذلك فإن ما غيّب عن الإنسان ولا هو من التكاليف لا يطالب به” [الموافقات: 2/283]، وكان ابن تيمية يقول إن الوليّ يستحي من الكرامة كما تستحي العذراء من دم حيضها، أي أن الأولى به أن يخفي ما يكرمه الله به من كرامات حياءً من الله بدلاً من التباهي بها.

كما كان الصوفي الكبير السريّ السقطي يقول “لو أن واحداً دخل بستاناً فيه أشجار كثيرة، وعلى كل شجرة طير يقول له بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله، ولم يخف أنه مكر، لكان ممكوراً به” [بستان العارفين للنووي: 1/ 66]، أي أن الولي الحقيقي إذا تعرض لكرامة فإنه يشك في نفسه ويعتبر أنها امتحان من الله له، فلا يتباهى بالكرامة فضلا عن أن يصدّق في قرارة نفسه أنه يستحقها.

لكن التصوف الفلسفي جعل الكرامة عنصرا أساسيا في نظريته للولاية، فلا يصل المرء لدرجة الولاية إلا بعد ظهور الكرامات على يديه. وأصبحت الكرامات في عصور الانحطاط والجهل تُطلب بالرياضات النفسية والمجاهدات كما يطلبها ممارسو اليوغا وطقوس القبالاه الشاقة. وافترض منظرو التصوف الفلسفي أيضا أن الله يسخر للولي أجزاء معينة من العوالم الأرضية والسماوية والغيبية، فالكرامة لم تعد بذلك حدثا عارضا كما كانت تحدث المعجزات للأنبياء أنفسهم، بل أصبح الولي كائنا خارقا يتصرف في الكون تلقائيا بأسلوبه الخاص والمفارق للعادات وقوانين الفيزياء، وهو يفعل ذلك بثقة تامة وبيقين دائم بأن قوانين العالم المادية ستُخرق على يديه في كل مرة، وهذا ما تعِدُ به القبالاه من ينتسب إليها.

ومع امتداد الزمن وقلة العلم في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، ولا سيما في الدول التي يحكمها الاستبداد وفي الأرياف النائية، أصبحت الكرامات جزءا أصيلا من الأساطير الشعبية (الفولكلور) التي تروى عن الأبطال الخارقين، وما زالت هذه الحكايات تروى إلى اليوم عن أفعال تتناقض مع الدين والعقل والأخلاق، بينما يمارس آخرون السحر والشعوذة والدجل تحت مسمى الكرامات للسيطرة على العوام والتكسب من أرزاقهم.

في القرن السابع الهجري، وضع عبد الرحمن بن عمر الجوبري كتابا تحت عنوان “المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار” وذكر فيه تفاصيل مئات الحيل والخدع التي كان المنتسبون للصوفية في عصره يخدعون بها الناس للظهور في مظهر الأولياء الصالحين، وهي تشبه تماماً ألعاب الخفة التي يقدمها محترفو العروض الترفيهية، ومنها مثلا دهن اليد بمسحوق يؤخذ من دهون الضفادع فتشكل طبقة عازلة يمكن بها إشعال اليد بالنار دون أن تتأذى.

تهذيب النفس
يسعى المتصوف إلى تهذيب نفسه وتطهير قلبه من الرذائل والخطرات الشيطانية، حتى يرى نفسه “كأنه محل للأرجاس ومقامه دائما تحت أقدام الناس”، حسب وصف عبد الوهاب الشعراني في كتاب الأنوار القدسية، وللوصول إلى ذلك يتبع المريد عدة وسائل، وسنذكر فيما يلي موجزا لأهم خمسة منها، وهي الخلوة والمجاهدة والرهبنة والذكر والتوكل:

الخلوة والانقطاع عن الخلق، حتى تظاهر بعضهم بالخرس والجنون كي ينفر الناس عنه فلا ينشغل عن ربه، فحُمل مرارا إلى المارستان (مشفى الأمراض العقلية)، كما أقام بعضهم مدة طويلة وحيدًا في الصحراء وخرائب العمران كي لا يختلط بالناس.

فالعزلة عندهم طريق للأنس بالله؛ وهي ضرورية أيضاً لتحقق الكشف، ولتحقيق بعض الصفات الحميدة، والعزلة جسدية لا معنوية؛ وعلى السالك (أي المريد) أن يعتقد باعتزاله عن الخلق سلامة الناس من شره وليس العكس، بل يستصغر نفسه ويتواضع.

ويرى بعضهم أن هناك قدرا من العزلة مفروض وواجب، ويستشهدون بالحديث النبوي “من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه” [رواه أحمد]، مع أن الحديث لا يتضمن أي أمر شرعي.

وفي ميزان الشرع، قد تؤدي العزلة إلى ترك الواجبات الشرعية والسنن مثل حضور الجنائز وصلاة الجماعة، ويقول ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر “كم فوتت العزلة عِلما يصلح به أصل الدين، وكم أوقعت في بليَّة هلك بها الدين، إنما عزلة العالم عن الشر فحسب”.

والعزلة المشروعة التي استحسنها بعض السلف هي ترك فضول الصحبة (أي مبالغة الاختلاط بالناس) وليس مفارقتهم مطلقاً، فالعزلة بالمعنى الصوفي لا يجوز أن تكون قاعدة عامة، وإنما هي تدريب تربوي يلجأ إليه الفرد بين الحين والآخر دون أن يقاطع المجتمع ويتخلى عن واجباته ويقصر في حقوق الآخرين.

ويقول الحديث النبوي “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” [أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن].

أما اعتزال الفتن والبيئة السيئة فهو أمر آخر، حيث نصح بها النبي صلى الله عليه وسلم باعتزال الفتنة عندما يصعب اتقاء شرها، فقال “يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن” [البخاري: 19]، وعلق ابن حجر العسقلاني بقوله إن الحديث يدل على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، ونقل عن جمهور السلف أن الاختلاط أولى من العزلة، وهو ما أكد عليه النووي أيضا بقوله إن المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى.

وفي كتابه “تلبيس إبليس”، تساءل ابن الجوزي كيف يتأكد الصوفي الذي يعزل نفسه عن الناس فترة طويلة ويحرم نفسه من الطعام أنه لن يصاب بالماليخوليا (مرض عقلي)؟ وأن ما يسمعه من كلام باطني -والذي يعتقد الصوفي أنه هاتف إلهي خاص به- ليس سوى هواجس نفسية أو وساوس شيطانية؟ خصوصا وأن الصوفي الذي يمارس هذه الخلوة لا يسلك سنة النبي في ترويض النفس، وقد قال صلى الله عليه وسلم “من رغب عن سنتي فليس مني” [رواه البخاري ومسلم].

مجاهدة النفس للحد من شهواتها، وهذا مسلك جيد في التربية غير أنه بلغ تجاوز إزالة المرض حتى كاد أن يزيل النفس ويمحو أثرها ويعطل طاقاتها، فنجد في كتب بعض أئمة الصوفية قصصا عجيبة من هذا المبالغات، ومنها ما أورده الغزالي في “إحياء علوم الدين” عن رجل كلَّم امرأة فضعفت نفسه ووضع يده عليها، وعندما ندم وأراد أن يعاقب نفسه وضع يده في النار حتى يبست، ورجل آخر نظر إلى محاسن امرأة، فعاقب نفسه بضرب عينه بيده حتى عميت.

وشدد ابن الجوزي على أنه لا يجوز للإنسان أن يفعل بنفسه ذلك، فالمعاقبة تكون بالامتناع عن المباح حتى تتأدب النفس وليس بفعل الحرام وهو إيذاء الجسد، فمن يشدد على نفسه من غير ضرورة لا بد أن يصل إلى الابتداع؛ لأن الشرع لم يصل بتكاليفه الواجبة إلى درجة تعذيب النفس.

لذا انتقد ابن عطاء الله السكندري هذا الغلو عند الصوفية وقال “لم تأت الشرائع بمنع الملاذ للعباد، وكيف وهي مخلوقة من أجلهم؟” [التنوير في إسقاط التدبير، ص41].

ومن مجاهداتهم أيضاً التحقق بالفقر، وهو من مقامات الزهد التي لا تكتفي بالجانب الروحي المتمثل بالافتقار إلى الله وإنما تشمل الجانب المادي؛ فيرون أن الصوفي الحق كلما ازداد فقراً ازداد قرباً من الله؛ بل جعله أبو محمد رويم والسُهروردي أساس التصوف نفسه.

وقد وُجد هذا الترغيب في الفقر لدى أديان أخرى مثل المسيحية، إلا أنه بعيد عن منهج الإسلام ولا يمثل حقيقة الزهد المشروع؛ حيث أودع الله في النفس غريزة حب المال لكي يتحقق صلاح الدنيا وإعمار الأرض، ولو كبت الناس كلهم هذا الدافع تعطلت مصالح الفرد والجماعة، وقد أرشد الله الإنسان إلى ما فيه خيره، فقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

والإسلام لا يحارب الغنى وإنما يأمر بتسخير المال لمرضاة الله، والتمتع به مادام مباحاً لا يشغل عن الطاعة، فقال تعالى {قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٢].

لذا قال ابن تيمية إن الزهد المشروع هو”ترك كل شيء لا ينفع في الدار الآخرة، وثقة القلب بما عند الله، وترك ما لا يستعان به على طاعة الله من مال ومطعم”، وعندما سئل أحمد بن حنبل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدا؟ قال: نعم بشرط ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت.

3- الرهبنة: نظر بعض الصوفية إلى الزواج على أنه شأن دنيوي يشغل عن التقرب إلى الله، فقال أبو سليمان الداراني “من تزوج فقد ركن إلى الدنيا”، وبعضهم استند في ذلك إلى الحديث الموضوع “خيركم بعد المئتين رجل خفيف الحاذ، قيل يارسول الله: وما الخفيف الحاذ؟ قال: الذي لا أهل له ولا ولد”.

وقد خفف بعض الصوفية من هذا الغلو، فالغزالي لم يدع إلى ترك الزواج مطلقاً وإنما إلى تأخيره في حق المريد المبتدئ، أما الذي لا يقدر على التعفف فالنكاح في حقه أولى لتسكين الشهوة كما يقول في كتاب الإحياء.

لكن النبي أنكر على من ترك الزواج بدافع الانقطاع للعبادة بقوله: “من رغب عن سنتي فليس مني” [صحيح البخاري: 5063]، فالزواج ليس علاجا لتطهير النفس من الرذائل بل هو عامل مهم في تزكية النفس وإصلاح المجتمع، والتزكية لا تتحقق بتضييق مسالك الفطرة وإماتة الغرائز نهائيا، فليس مقصود الشرع قمع الشهوات وإنما تهذيبها، فحذر النبي من تشدَّد في الدين وأرهق نفسه بقوله “هلك المتنطعون” [صحيح مسلم: 2670].

لوحة تعود إلى القرن التاسع عشر لصوفي من شمال أفريقيا يحمل سبحة

4- الذكر: إذا كانت العبادة قاسما مشتركا بين المسلمين فالمتصوفة تميزوا بالذكر، فهو عمدة الطريق إلى الله عندهم، وهو أول خطوة على طريق المحبة، فمن أحب غيره تذكره وردد اسمه.

والذكر عندهم باللسان والقلب، والدراويش يمارسونه جماعيا وعلنيا، ويتعلمونه عن طريق شيخ حي أو على يد الخضر (وهو نبي يزعمون أنه ما زال حيا ويتصل بكبار شيوخهم)، ويعتقدون أن الوِرْد نصيب يومي من الذكر يقرؤه المريد ويتعاهد نفسه عليه كأنه فرض، ولكل طريقة صوفية تقريبا ورد خاص أو مجموعة أوراد، وربما يؤمن بعضهم أن النبي نفسه قد أعطى الورد لشيخهم، كما يردد البعض أورادا يعتقدون أنها تعود للنبي بسند متصل أو إلى الخليفة الأول أبي بكر حيث علمه النبي الذكر بالقلب عندما كانا في الغار.

وقد يستخدمون السبحة لعد مرات الذكر، غير أن الصوفي الصادق لا يستخدمها كي لا تشغله عن ربه، وهو لا يبتدئ بالذكر إلا بعد أفعال تمهيدية، فيجلس على هيئة مخصوصة، ويستدعي صورة شيخه أمام عينيه، وغايته أن يصل إلى نقطة يتحد فيها الذكر والذاكر والمذكور، فيحقق بذلك “المشاهدة” وتصبح حقيقة الذكر هي نسيان الذكر نفسه والوصول إلى صمت تام، فيصير كل عضو من أعضائه قلبا يذكر الله.

وهناك أسلوب آخر يرتبط بالذكر، وهو تأمل كلمة “الله” المكتوبة في قلب الصوفي، إلى أن يصبح محوطا بالحقيقة النورانية لحرف الهاء، الذي هو على شكل حلقة (ه)، ومنهم من يكرر عبارة “لا إله إلا الله” بإيقاع وحركات معينة يمكن أن تستدعي حالة من السكْر (الغياب عن الوعي) ثم يستمر اختصار كلمة الله؛ فلا يبقى منها إلا حرفها الأخير “الهاء”، وتشكل بالفتح “هَـ” مع الالتفات إلى الكتف الأيسر، ثم بالضم “هُـ” مع الالتفات للأيمن، ثم بالكسر “هِـ” مع انحناء القامة، وفي الغالب يشكّلون حلقة ذكر جماعي حول الشيخ (القطب) واضعا كل واحد منهم يده اليمنى على اليد اليسرى لمجاوره، ويرددون معا الشهادة بعيون مغلقة حتى تختزل في حرف الهاء.

ولم يؤْثَر عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة شيء من هذه الشعائر، فالنبي كان يذكر الله “على كل أحيانه” [صحيح مسلم: 373]، وإذا قارنا هذه الشعائر بما ذكرناه من عبادات وطقوس في مقالَي الهندوسية واليوغا فسنجد الكثير من وجوه التشابه.

تتشابه طقوس بعض جلسات الذكر الصوفية “الحضرة” بطقوس الوثنيات الشرقية، حيث يمارس البوذيون جلسات صلاة (أو ذكر) جماعية تبدأ بترديد الراهب للأناشيد المقدسة (مانترات) بصوت ملحن، ثم يرددها الجالسون في حلقات محيطة به أو في صفوف أمامه بشكل جماعي مع التمايل.

كما تتشابه نظرية التصوف في التأمل بكلمة “الله” مع نظرية القبالاه اليهودية في ذكر كلمة “عين صوف”، وهي التي اقتبستها أيضا الهندوسية في تأمل كهنتها لكلمة “أوم”.

5- التوكل: مع أنه من المبادئ المعروفة في الإسلام إلا أن للصوفية تفسيرهم الخاص له، فهو عندهم ترك تدبير النفس وانخلاع من الحول والقوة، والاستسلام لجريان القضاء في الأحكام، ولا يصح إلا بإسقاط التدبير مع الله والاختيار، حتى لا يعتمد الصوفي على مطر في خروج زرع، ولا على غيم في نزول مطر.

وهذا الفهم يؤدي إلى ترك الأسباب، حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى التعطل وانتظار الرزق بلا عمل، وترك المريض بلا طبيب ولا دواء، مع أن الحديث النبوي يقول “تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع معه شفاء إلا الهرم” [مسند ابن أبي شيبة: 23883].

ويُعتقد أن مبدأ السياحة في الصحراء بدون حمل الزاد والمتاع، مع التبذل في المظهر (الدروشة)، قد اقتبسه المتصوفة من رهبان الهندوسية والبوذية، فبعضهم يعتبرونه نوعا من التوكل المطلق على الإله ويعرّضون أنفسهم للهلاك جوعا وعطشا في البراري تعذيبا للنفس، ويظنون أنهم يحققون بذلك كمال التوكل على الرازق، مع أنهم لا يمتنعون عن أخذ الرزق من الناس بدون طلب، وهذا يتعارض مع مفهوم التوكل والعمل الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله “اعقلها وتوكل”، بل يعتقد بعض الصوفية أن الادخار والاكتساب أيضا أمور لا تتناسب مع كمال التوكل.

ووصل الحال بهم إلى الإعراض عن التعلم معتقدين أن العلم يأتي عن طريق الكشف، مع أن كل الصحابة كانوا يطلبون العلم على يد النبي، ثم جاء التابعون ليتعلموا منهم، ولم يتلق أحد منهم العلم بقلبه وهو يعتزل الناس.

علاقة التصوف الفلسفي بالسحر
أوضحنا في مقال “الهندوسية والبوذية” أن القبالاه والهرمسية كانتا من أهم المؤثرات الباطنية الشيطانية التي تسللت إلى الهندوسية وأدت إلى ظهور مذاهب أكثر باطنية من الأصل الهندوسي الباطني، مثل مذهب الفيدانتا الذي يتوجه بالعبادة إلى الشيطان نفسه. وهذه الجرثومة تسللت أيضا إلى الجسد الإسلامي عن طريق العديد من المذاهب والفرق، ومنها التصوف الفلسفي، فمن خلال ما سمي بعلوم الحروف والأسماء والدوائر نجح أساتذة السحر بإقحام طلاسمهم في التصوف تحت غطاء ديني بحت، وبطريقة مازالت متداولة حتى اليوم في الكثير من المناطق التي يسودها الجهل، حيث يلبس الساحر زي المتصوف العارف بالله وبأسرار التأويل، فيختلط على العوام الدينُ مع نقيضه كما اختلط لدى الأمم السابقة الوحي بالسحر، مع الفارق المتمثل بأن أصل القرآن محفوظ من الضياع بوعد إلهي متحقق.

يصعب تتبع بداية هذا التغلغل الشيطاني في التصوف، حيث نجد لدى الكثير من كبرى الطرق الصوفية نصوصا سحرية مدسوسة على كبار شيوخها، وهي في معظمها توسلات بأسماء الشياطين باللغة السريانية. ويقول محمود المراكبي في كتابه “العقائد الصوفية في ضوء الكتاب والسنة” إنك إذا سألت أي صوفي عن الأسماء السريانية المنتشرة في ورده الذي تلقاه عن شيخه فسيقول لك إنها لغة الملائكة، وهو يعتقد أنه يتوسل بها إلى الله بأسماء سريانية أو يستغيث بأحد الملائكة دون أن يعلم أنها أسماء شياطين.

ويرصد المراكبي نصوصا سحرية كثيرة في أوراد كبرى الطرق المعروفة، ونذكر منها هذه الأمثلة:

1- وِرد منسوب للشيخ عبد القادر الجيلاني: “وأسألك الوصول بالسر الذي تدهش منه العقول، فهو من قربه ذاهل، أيتنوخ، يا ملوخ، باي، وامن أي وامن، مهباش الذي له ملك السموات والأرض”.

2- ورد “الحزب الكبير” المنسوب للشيخ الدسوقي: “اللهم آمني من كل خوف، وهم وغم، وكرب كدكد كردد كردد كردد كرده كرده كرده ده ده ده ده ده الله رب العزة”.

3- أوراد عديدة ذكرها محمد عثمان عبده البرهاني في كتابه “تبرئة الذمة في نصح الأمة”, ومنها: “أحمى حميثاً أطمى طميثاً، (وكان الله قوياً عزيزاً) “، وأيضا” “بها بها بهيا بهيا بهيا بهيات بهيات بهيات القديم الأزلي، يخضع لي كل من يراني…”.

4- ينقل المراكبي عن أحمد بن عياد في كتابه “المفاخر العلية في المآثر الشاذلية” أشهر الألفاظ السريانية التي تُكتب في دائرة وتوضع على رأس المريد كالتميمة لتحفظه، وهذه الألفاظ هي: طهور وبدعق ومحببه وصوره وسقفاطيس وسقاطيم، ويزعم أن هذه أسماء الله التي لا يعرفها إلا العارفون. ومن الأدعية التي ينصح المريدين بترديدها سبعين مرة: “أسألك اللهم يا من هو أحُونُ أَدُمَّ حَمَّ هَاءُ آمين افعل لي كذا وكذا”.

5- أما أكثر هذه الطرق تطرفا فهي الطريقة الخلوتية العونية، حيث قطعت شوطا أبعد وصرّحت بأنها تتصل بالشياطين، ولكن دون التصريح بأنها ضرب من السحر والشرك بل على اعتبار أن أسرارها هي جزء من “الحكمة” المنسوبة كذبا إلى النبي سليمان عليه السلام، والتي يقولون إنه تمكن عبرها من التحكم بالمردة والشياطين. وتتضمن هذه الطريقة برنامجا للخلوة يبذل فيه المريد الكثير من الجهد عبر سبع مراحل، وفي أوراد كل منها تظهر الأسماء السريانية بوضوح، ويتضمن ورد المرحلة السابعة وحده ثمانين اسما سريانيا للشياطين ويسمى “البرهتية”.

يعد القطب أحمد بن علي البوني -الذي عاش في الجزائر خلال القرن الهجري السابع- أحد زعماء هذه المرحلة، حيث بث في كتابيه “شمس المعارف الكبرى” و”منبع أصول الحكمة” الكثير من الطلاسم والأسرار التي كانت حكرا على السحرة، فصاغها في صورة أدعية وأحجبة تتداخل فيها أسماء الله الحسنى والآيات القرآنية بالتعاويذ الشيطانية السريانية، وكان ينسب هذه الأسرار تارة إلى علوم الحكماء والفلاسفة، وتارة أخرى إلى سليمان عليه الصلاة والسلام (كما فعل سحرة القبالاه)، كما أطلق على الشياطين أحيانا وصف خدم الحروف والكواكب لإقناع القارئ بأنهم ملائكة، بينما تجرأ في أحيان أخرى على التصريح بأن الخدم من الجن، ولكن مع الزعم بأن الاتصال بهم لا يعدو كونه طقوسا روحانية مارسها النبي سليمان نفسه.

تطور أسلوب البوني في القرن الثامن الهجري على يد الفارسي فضل الله نعيمي الأسترآبادي، الذي سمي بمؤسس “الصوفية الحروفية”، ويعد كتاب الأزل (جويدان نما) من أهم مؤلفاته التي تحاول البحث في “الطاقة” المفترضة للحروف، وبشكل يتقاطع تقريبا مع فلسفة القبالاه، وتأثر به الشاعر عماد الدين نسيمي الذي كان يقرض الشعر بالفارسية والتركية، حيث وضع كتاب “مقدمة الحقائق” شارحا فيه العقيدة الحروفية القائمة على وحدة الوجود وتأليه الإنسان، ودعا فيه إلى معرفة الإنسان من حيث كونه محلا لتجليات أسرار الكون.

مازال الخلط بين التصوف والسحر قائما حتى اليوم دون أن ينتبه له ملايين العوام من المسلمين، حيث نرى الأسماء السريانية للشياطين وهي تتسلل إلى كتب كبار الصوفية المشهود لهم بالتقوى والعلم, ومنهم على سبيل المثال الشيخ الطبيب مفتي سورية الأسبق محمد أبو اليسر عابدين (توفي عام 1981)، فقد أورد في كتابه “الأوراد الدائمة” الوِرد التالي: “يا تمخيثا يا تماخيثا يا مشطبا يا بطرشيثا يا شليخوثا يا مثلخوثا يا صمد كافيا آهيا شراهيا أدوناي أصباؤت آل شدّاي، يا مجلي عظيم الأمور لا إله إلا هو الحي القيوم…” [ص 122-123].

وهذا الخلط هو نفسه الذي أدى بأتباع الأديان السابقة إلى الانحراف، فالسحرة اليهود (القباليون) زعموا أيضا أن السحر الذي بين أيديهم ليس سوى التراث السرّي للنبي سليمان الذي انكشف لهم بعد موته كما تقول الآية: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102]، والآية نفسها توضح أن سليمان لا يمكن أن يكفر ويتوسل للشياطين.

وحتى اليوم تباع كتب البوني وغيرها من كتب السحر على الأرصفة في الدول العربية، كما أصبحت الطلاسم وطقوس السحر مشاعًا على الإنترنت لمن يريد أن يجرب، وقد يندفع الكثير من الشباب إلى التجريب بدافع الفضول، أو لاكتساب قدرات خارقة، أو للانتقام من أشخاص يكرهونهم وللتأثير في قلوب أشخاص يسعون إلى محبتهم، دون أن يعلموا أنهم يمارسون السحر ويتصلون بالشياطين ويخرجون من دائرة الإسلام.

نتائج الانحراف
كما هو الحال في أي تحريف أو تحوير لتعليمات الوحي، فإن البداية تكون ببدعة صغيرة لها مبرراتها، ثم ما تلبث زاوية الافتراق عن خط الوحي أن تتسع مع مرور الزمن ليصبح المسار بعيدا للغاية عن الطريق المستقيم، وهذا ما كان يحدث في الأمم السابقة التي انحرفت عن رسالات الأنبياء، وكانت البداية عندما أقنع إبليس البشر الأوائل بصناعة التماثيل تكريما لأمواتهم، ثم جاء إلى أبنائهم وأحفادهم ليقنعهم بأن يعبدوها.

وكما استعرضنا في هذا المقال، فإن بعض الطرق الصوفية التي بدأت بالاقتباس من الأديان الوثنية والباطنية رياضات الزهد والتقشف لتزكية النفس، انتهى بها الحال على يد بعض أقطاب التصوف الفلسفي إلى دين آخر، حتى أصبح التصوف مدخلا لعبادة الشيطان بدلا من العكس.

بكتاش ولي

التقى الشاعر نسيمي في الأناضول بالحاج بكتاش ولي، فأخذ عنه بكتاش فلسفته الحروفية وأسس الطريقة البكتاشية (البكداشية) التي تمزج بين التشيع العلوي والتصوف الفلسفي، وهي مستمرة إلى اليوم ويتبعها أكثر من عشرة ملايين كردي في جنوب تركيا، ويعترف قادتها بأنها طائفة خارجة عن الإسلام ويسعون إلى اعتراف حكومة تركيا بطائفتهم على أنها دين مستقل، كما يتبعها عدد غير معروف في ألبانيا، وهي كبقية الأديان الباطنية تكتم أسرارها عن أتباعها ولا تكشفها إلا لمن ينخرط في سلك الكهنوت أكثر من ألف يوم.

واليوم توجد في بعض الدول الغربية زوايا صوفية تقدم عروضا موسيقية وحفلات للرقص على الطريقة المولوية، وقد يرتادها أشخاص غربيون يسمون أنفسهم “صوفيين” على اعتبار أن الصوفية حسب فهمهم دينا مستقلا، أو هي على الأقل إحدى تقليعات “حركة العصر الجديد” التي تتيح للمرء أن يمارس طقوسا روحية دون التزام بدين محدد. ومع أن بعض الغربيين يعتنقون الإسلام بالفعل من باب الصوفية، ويحسُن إسلامهم، إلا أن البعض الآخر لا يرى في الأمر سوى رياضة روحية يتذوق فيها الموسيقى والشعر ويستمتع بالرقص والتأمل، قياسا على ممارسة آخرين لتمارين اليوغا والتاي تشي.

علاوة على ذلك، أصبح بعض شيوخ الطرق الصوفية من كبار الأثرياء والمتنفذين، كما هو حال زعماء الطوائف الدينية المتجاوزة للحدود والعابرة للقارات، فيطوفون العالم بطائرات خاصة ويقطنون مزارع وقصورا فخمة ويديرون شبكات مالية وإعلامية كبيرة، ويتهافت عليهم الأتباع للتبرك وهم يجلسون على العروش ويتصرفون كالملوك، ويتدخلون في تفاصيل حياة أتباعهم بعد إقناعهم بأن كل ما يقوله الشيوخ صحيحا لصلته المباشرة بالله، بل يتدخلون أحيانا في السياسة لترجيح كفة حزب ما أو إسقاطه، وهذا كله يتناقض مع جوهر التصوف القائم على الزهد والتواضع.

كان ضريح الشيخ الجيلاني في بغداد يتلقى من تبرعات الزائرين كل سنة ما يفوق نفقة الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين، وذكر المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي أن سدنة الأضرحة في مصر كانوا من أغنى الناس في المجتمع. [زكريا بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، ص 129].

هذا النمط من التصوف لعب أيضا دورا سيئا للغاية في تثبيط همم الناس عن الجهاد والمقاومة عبر التاريخ، بالرغم من وجود نماذج مشرفة لجهاد المتصوف كما سنذكر لاحقا، ومن الأمثلة على ذلك ما يُذكر من انتقادات في حق الإمام أبي حامد الغزالي الذي عاصر احتلال الصليبيين للقدس دون أن ينتفض أو يحرض الناس على الجهاد أو يترك أثرا لذلك في كتبه ومؤلفاته، لذلك قال ابن تيمية عن المتصوفة في كتاب الاستقامة: “وأما الجهاد فالغالب عليهم أنهم أبعد عنه من غيرهم” [1/268].

وبالفكر نفسه تم توطيد الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي بعد قضائه على الدولة العثمانية، فالتصوف الطرقي كان قد بلغ آنذاك أكثر مراحله انحطاطا، حيث شاعت عقيدة التواكل ومهادنة الظلمة، ما سمح للمحتلين باستغلال بعض شيوخ الطرق لتثبيط همم الناس عن المقاومة، مثل بعض شيوخ الطريقة الأحمدية الكتانية في المغرب، والطرق التجانية والعليوية والشاذلية والقادرية في الجزائر، والطريقة البريلوية في الهند، والطريقتان السعيدية والبدرية في سورية، بل تصدى بعض الشيوخ لمن أراد مقاومة المحتلين، وقدموا الولاء والطاعة للمحتل الأوروبي بصفته الحاكم المتغلب الذي يجب الانصياع لسلطته.

عبد القادر الجزائري أصبح من أقطاب الماسونية بعد نفيه إلى الشام

أما الشيخ عبد القادر الجزائري فتولى في بداية الأمر قيادة شعبه إلى الجهاد ضد الفرنسيين طيلة سبعة عشر عاماً؛ ثم استسلم وسلم نفسه إلى الفرنسيين الذين نفوه إلى دمشق وخصصوا له راتبا ومنزلا فخما حتى مات.

وفي العصر الحالي، يحظى العديد من كبار شيوخ الطرق الصوفية بحفاوة الاستقبال في جولاتهم بالدول الغربية، بل يقيم بعضهم هناك ويتمتع بتسهيلات كبيرة في تأسيس المراكز والمدارس والزوايا، مثل الشيخ هشام قباني الذي أسس عام 1997 “المجلس الأعلى الإسلامي في أمريكا”، وهو تلميذ شيخ الطريقة النقشبندية ناظم الحقاني المقيم بقبرص.

وقد عقد مركز “نيكسون” بالولايات المتحدة في عام 2003 مؤتمرا عن “فهم الصوفية والدور الذي ستلعبه في رسم السياسة الأمريكية”، وشارك فيه كبار المنظرين لليمين المتطرف مثل برنارد لويس، كما أوصى تقرير مؤسسة “راند” للأبحاث الاستراتيجية في الولايات المتحدة عام 2007 بدعم الحركات الصوفية في العالم الإسلامي، وذلك بعد أن “فشلت” الاستراتيجية العسكرية في السيطرة على العراق وأفغانستان.

يقول المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري إن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية، ومن أكثر الكتب انتشاراً الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين بن عربي وأشعار جلال الدين الرومي.

ويضيف “وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية. فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي” [مقال الإسلام والغرب، موقع الجزيرة نت، 26/12/2004].

ومن الواضح أن الصوفية التي يدعمها الغرب ليست هي الصوفية السنية المعتدلة التي خرّجت خيرة المجاهدين على مر القرون، بل هي الصوفية الفلسفية الطُّرقية التي تنصح أتباعها بتجنب السياسة، وتنشر في نفوسهم عقلية التواكل والضعف والولاء للحاكم المتغلب حتى لو كان ظالما.

لذا يقول المستشرق الفرنسي المسلم يونس إريك جوفروا إن الأنظمة العربية (المتحالفة مع الغرب) عملت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة “الظاهرة الإسلامية”. ويقول المستشرق اليهودي البريطاني برنارد لويس إن الغرب يسعى إلى المصالحة مع “التصوف الإسلامي” ودعمه لكي يملأ الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصاء الدين عن قضايا السياسة والاقتصاد [نوفل بن إبراهيم، موقع الصوفية].

بين الغلو والاعتدال
بالعودة إلى ما أوضحناه بشأن نشأة التصوف، فقد كان الزهد منضبطا بالكتاب والسنة وقيود الشرع في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي بأنها خير القرون (الصحابة والتابعون وتابعو التابعين)، ومع أن الانحراف بدأ بالظهور على الأرجح في عصر البسطامي (القرن الثالث الهجري) إلا أن التصوف المعتدل ظل قائما لدى الكثيرين ممن جاؤوا بعده، فحتى ابن تيمية الذي شدد على نقد البدع أقر بأن الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبا سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي والجنيد بن محمد كانوا من المتمسكين بالسنة، بل رأى أيضا أن عددا من المتأخرين كانوا كذلك مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ حماد والشيخ أبي البيان [مجموع الفتاوى: 10/517].

جامع الجيلاني في بغداد

لكن الجدل يظل مع ذلك دائرا بين المتخصصين بشأن بعض الأعلام الكبار، فالجنيد مثلا كان عالما بالحديث والفقه ولم يجعل الأولوية للكشف والإلهام، وينسب إليه قوله “علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا”، وقال أيضا “الطريق إِلَى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لسنته”.

ومع ذلك، يرى آخرون أن للجنيد رحمه الله آراءً وأحوالا مثيرة للريبة، فقد قال الشعراني في كتاب اليواقيت والجواهر إن الجنيد “كان يستر كلام أهل الطريق عمن ليس منهم وكان يستتر بالفقه والإفتاء على مذهب أبي ثور، وكان إذا تكلم في مذهب القوم أغلق باب داره وجعل مفتاحه تحت وركه” [اليواقيت والجواهر: 2/93]، كما يقال إن الجنيد عاتب الشبلي بقوله “نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا ثم خبأناه في السراديب فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ” [التعرف لمذهب التصوف للكلاباذي، ص165]، وكأن التصوف كان علما سريا يستره المتصوفة كما يفعل أقطاب الجمعيات السرية.

وبما أن التحقق من صحة هذه الاتهامات ليس مهمة سهلة فالأسلم عدم التسليم بها، وهو ما ينبغي أن نفعله بحق كل شيوخ المتصوفة الذين لم تثبت صحة نسبة الآراء الشاذة لهم، مثل محيي الدين بن عربي الذي يصعب حتى الآن التحقق من مسؤوليته عن كل ما جاء في كتبه من أقوال كفرية تتعلق بوحدة الوجود، إلا أن هذا قد لا يبرئه من قضايا إشكالية أخرى مثل رفع مقام الأولياء إلى درجات لا تتوافق مع صريح القرآن والسنة، وغير ذلك من الأفكار المقتبسة عن الباطنيات الشرقية. لذا نجد أن تقييم الإسلاميين له يتفاوت بين اعتباره القطب الغوث والشيخ الأكبر وبين تكفيره، ولعل الأسلم أن نترك أمره لله مع التحذير مما جاء في كتبه (سواء صحت نسبتها له أم لا) من شذوذ وكفر.

يضاف إلى ما سبق، أن الصوفية المعتدلة تنأى بنفسها عن نظريات التصوف الفلسفي التي أودت بأصحابها في هوة الشرك ووحدة الوجود والحلول، لكن هذا الاعتدال لا يخلو أحيانا من التأويل، فهو يتمسك بالسنة في السلوك إلا أنه يفارقها في الغايات، وكثيرا ما يأخذ بالأحاديث الضعيفة والموضوعة لتتوافق مع تأويله الخاص، فقد لا يعتقد المتصوف المعتدل بالاتحاد بالإله وبنظرية الفيض غير أنه يعتقد -كما أسلفنا- أن غاية العبادة هي المعرفة، أي إشراق النور الإلهي على روحه، وهذا الفناء ليس سوى شكل ملطف للحلول والاتحاد، وهو تأويل متعسف للآيات التي تصف الله بالنور وتصف الهداية بالاستنارة.

يحاجج كثير من المتصوفة بأن شطحات شيوخهم التي تتضمن تصريحا بالحلول والاتحاد وما يخرج عن ملة الإسلام هي مجرد فلتات لسان نطقوا بها في حالة سكْر (الفناء)، ومنها مثلا المقولة المنسوبة إلى البسطامي: “رفعني الله فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زينّي بوحدانيتك وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك” [اللمع، ص 382]. وما زال الخلاف حول هذه الشطحات وتأويلاتها يحتل مساحة كبيرة من النقاشات المذهبية الإسلامية، ونرى أنه ينبغي الاتفاق على المبادئ العامة التالية:

1- الحلول والاتحاد عقيدتان كفريتان.
2- الصحابة والتابعون كانوا من أكثر الناس زهدا، ومع ذلك لم يقعوا في حالة السكْر وفقدان الوعي، وهم ليسوا معصومين، فالسكْر إذن ليس ضروريا لبلوغ أعلى درجات القرب من الله.
3- حتى إذا افترضنا أن السكْر حالة وجدانية خارجة عن إرادة المريد والعارف، فإن فكرة الفناء التي أدت إليها هي فكرة قائمة على عقيدة غنوصية باطنية، وإنكار المتصوفة إيمانهم بأصل الفكرة قد يبرئهم من الكفر إلا أنه لا يمنع توصلهم إلى نفس النتيجة التي يصل إليها المعتقدون بالحلول والاتحاد.

يتذرع المتصوفة أيضا بأن علومهم وفلسفتهم ليست موجهة لغير المتخصصين، ومن ثم فلا يحق لأحد من خارج دائرتهم الخوض فيها وانتقادها، وهذا حق من حيث المبدأ فلا ينبغي لغير المختص في أي علم أن ينقده قبل أن يفهم أدواته ويتمكن منها، لكن التمكن من النقد لا يتعلق لدى المتصوفة بسعة الاطلاع والفهم، بل بالكشف والاستعداد النفسي، فمهما تبحر الباحث في العلم فلن يكون أهلا للنقد في رأيهم ما لم ينخرط في سلك التصوف نفسه، أي أنه لا يمكن للباحث أن يتحقق من صحة ومطابقة أسرارهم للوحي إلا بعد أن يعتنقها.

وهذا يجعل من التصوف عقيدة مغلقة على نفسها، بحيث يصبح نقدها مستحيلا، لأن الحجة قائمة على مغالطة منطقية (المغالطة الدائرية أو الدور)، فلا يحق للباحث أن ينتقد إلا من الداخل، ولن يدخل هذا المجال حتى يؤمن به ويسلّم لأهله وينبذ النقد!

وهذه المغالطة يرتكبها أتباع الوثنيات الباطنية التي جاء الإسلام ليحاربها أصلا، فرجال الدين والكهنة في الهندوسية والبوذية والمجوسية والقبالاه وقادة الجمعيات السرية يردّون على منتقديهم بأن فهم دينهم وعقائدهم مستحيل من الخارج.

وعلى سبيل المثال، ينسب واضعو كتاب “البهاغافاد غيتا” الهندوسي إلى الإله كريشنا قوله “لا داعي لشرح هذا العلم الخفي لغير المرتاضين في الحياة أو غير المتتيمين، أو غير المنشغلين بالخدمة التتيمية، ولا لمن يحسدني”، [الإنشاد 18، الآية 67]، أي أن الباحث لن يفهم عقائدهم الباطنية طالما كان لا يؤمن بها، ما يقطع الطريق على كل النقاد من خارج المؤسسة الكهنوتية.

وإذا كانت هناك مآخذ على بعض المتصوفة بشأن سوء فهمهم للتوكل وموقفهم السلبي من المحتلين والطغاة، فقد انبرى شيوخ آخرون للجهاد ضد الاحتلال الأوروبي وحرضوا عليه، ومنهم شيوخ الطريقة التجانية في السودان والسنغال، وشيوخ الطريقة السنوسية الذين جاهدوا الاحتلال الإيطالي في ليبيا وعلى رأسهم عمر المختار، وكذلك العديد من رموز المقاومة مثل الشيخ عبد الكريم الخطابي في المغرب والشيخ عز الدين القسام في فلسطين، وفي السنوات الأخيرة انبرى أتباع الطريقة النقشبندية لمقاومة الروس في داغستان والشيشان، كما فعل زملاؤهم في العراق ضد الغزو الأميركي.

وبالرغم من الانتقادات التي أشرنا إليها بشأن عدم اتخاذ الغزالي موقفا من الاحتلال الصليبي، إلا أن مؤسس الطريقة القادرية الشيخ عبد القادر الجيلاني استفاد لاحقا من تراث الغزالي وحوّله إلى منهج مبسط لإعداد جيل كامل من المريدين علمياً وروحياً واجتماعياً في رباط المدرسة القادرية ببغداد، والذين تحولوا لاحقا إلى القوة الضاربة في جيوش نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي التي حررت البلاد من الاحتلال الصليبي. وما كانت هذه الجهود لتثمر لولا الاتصالات التي فتحها الجيلاني مع كبار شيوخ الصوفية في المغرب والشام ومصر، الذين أحيوا روح الجهاد في الأمة بعد أن تمكن الوهن والإحباط من نفوس الناس.

التعصب عدو الحقيقة
من الملفت أن ابن تيمية كان من المتأثرين بالمنهج التربوي الذي تركه الشيخ الجيلاني، فكانت لابن تيمية كتابات كثيرة وغزيرة في إنصاف الصالحين من المتصوفة وفي نقد الغلاة منهم بآن واحد. وكذلك كان تلميذه ابن القيم في إنكاره على البدع المستوردة تحت مسمى التصوف بالرغم من ثنائه على من التزم من المتصوفة بمنهج السنة. وقد كتب الشيخان مؤلفات ورسائل مفيدة في التزكية و”الروحانيات” مما يجعلهما من الأئمة في هذا الباب.

أما ما نراه اليوم من صراع سلفي-صوفي ففيه الكثير من مظاهر المذهبية والتحزب والتعصب، وقد كان علماء القرون السابقة أكثر حرصا على التزام الأدب في نقدهم لما سقط فيه بعض المتصوفة من هفوات، والتمسوا لبعضهم العذر بعدم تبحرهم في علم الحديث ليميزوا الحق من الباطل، وبأن فقدهم للثقة بالفلسفة العقلية دفعهم إلى المبالغة في تقدير دور الإشراق والكشف.

وكما ذكرنا في مقال “مصادر المعرفة“، فهناك خلاف كبير بين منهجين أساسيين لنظرية المعرفة، وهذا الخلاف ما زال يفرق البشر منذ آلاف السنين إلى أديان وتيارات ومذاهب فرعية داخل الدين الواحد، فأتباع المنهج العقلاني (الفلاسفة وعلماء الكلام) يضعون العقل والمنطق أولا، وأتباع المنهج الحدسي (المتصوفة والباطنية) يقدمون الجانب العاطفي النفسي ويرون أن الكشف والإشراق هو الأصح.

وأوضحنا أن سلوك الطريق الأسلم يقتضي الجمع بين مصادر المعرفة من قلب وحس وعقل للتوصل إلى حقائق لا تتضارب ولا يُستغنى فيها عن أي من تلك المصادر، لذا فإن استغناء المعرفة الصوفية في بعض حقائقها عن العقل أو الحس -وربما النقل أحيانا- هو أمر محفوف بالمخاطر أصلا، ولن تنشأ عنه سوى معرفة قاصرة ومنهج أعوج.

وإذا كانت غاية المتصوف هي القرب من الله، وليس الاتحاد والفناء والمعرفة، فإن الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون كان ولا يزال كافيا لتحقيق الغاية، ودون وقوع في الشطحات التي يتبرأ منها معتدلو الصوفية، فما الداعي إذن للبحث عن طرق أخرى في فلسفات باطنية محفوفة بالمخاطر؟

وإذا كان المريد يخشى مغبة الانغلاق العقلي في حال الاكتفاء بما جاء في السنة من طرق التربية والمجاهدة والتزكية، فما هي الفضيلة التي يرجوها من الانفتاح المحض؟ فالعاقل هو الذي لا يجعل من الانفتاح هدفا بذاته بل وسيلةً لتحقيق الغاية، وهي القرب من الله كما أسلفنا، وإذا كان الاكتفاء بالسنة انغلاقا يضر بالعقل فهذا لا يعني سوى أن الانفتاح على تجارب أخرى، وضعها العقل البشري أو وسوست بها الشياطين، هو أكثر كمالا، أو على الأقل هو إكمال للسنة التي ستغدو بذلك ناقصة، وهذا يتناقض مع جوهر الإيمان.

 قال النبي صلى الله عليه وسلم “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم” [صحيح البخاري: 6889].
فالنبي أخبر بما وقع فعلا في أمته من انقسام إلى فرق وتيارات ومذاهب، كما حدث في الأمم السابقة التي أرسل الله لها أنبياءه بالوحي الموافق للفطرة والعقل، فتغلغلت فيها الفلسفات الباطنية والوثنية والشيطانية، حتى ضاع الأصل وتبدّل على يد الكهنة، فاختلطت على عوامّهم الفلسفة بالوحي، بينما لا يزال الوحي في أمة خاتم الأنبياء محفوظا لا يضيع، وهم أولى الناس باتباعه ونبذ ما سواه.

ونختتم بما قاله ابن تيمية في الجزء الحادي عشر من مجموع الفتاوى حيث قال “طائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام. وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم, والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطىء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وقد انتسب إليهم من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم”.


أهم المراجع
شهاب الدين السهروردي، عوارف المعارف، دار المعارف، مصر، 1993.

محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، دار الكتب العربية الكبرى، 1329هـ.

أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دارالمعرفة، بيروت، بدون تاريخ.

عبد الوهاب الشعراني، الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، دار المعارف، بيروت.

عبد الوهاب الشعراني، اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1378هـ.

أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ.

أبو الوفا التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة، مصر، الطبعة الثالثة.

ابن تيمية، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، مكتبة المعارف، الرياض، 1982.

ابن الجوزي، تلبيس إبليس، مكتبة النور الإسلامي، الإسماعيلية، بدون تاريخ.

ابن الجوزي، صيد الخاطر، دار القلم، دمشق، 2004.

هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة حسن مروة وحسن قبيسي، دار عويدات، بيروت، بدون تاريخ.

آنا ماري شميل، الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، ترجمة محمد السيد وزميله، منشورات الجمل، 2006.

محمد مصطفى حلمي، الحياة الروحية في الإسلام، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

محمد كمال جعفر وحسن الشافعي، في الفلسفة مدخل وتاريخ، مكتبة دار العروبة، 1981.

علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف, 1995.

محمود المراكبي، العقائد الصوفية في ضوء الكتاب والسنة، 1996.

علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العلمية والعقدية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، دار الرسالة، مكة المكرمة.

رينولد نيكولسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة وتحقيق: أبو العلا عفيفي، 1969.

كريم المحروس، بحث “التصوف الفلسفي.. الوافد الجديد على مناهج الحوزات الدينية”، مجلة البصائر، العدد 41، السنة 18، 1428هـ/ 2007م.

أكرم علي حمدان، بحث “الجانب الصوفي في تفسير روح المعاني”، مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد 14، يونيو 2006.

أبو العلا عفيفي، مقال “التصوف الفلسفي في الإسلام”، مجلة الرسالة، العدد 196، 1937.

نوفل بن إبراهيم، مقال “التصوف الفرنكوأمريكي الجديد في المغرب”، موقع الصوفية، 13-9-2008، http://www.alsoufia.com/main/articles.aspx?article_no=2633

سعاد الحكيم، مقال “خاتم الأولياء: النبوة والولاية في مذهب ابن عربي”، موقع معابر، http://maaber.50megs.com/ibn_arabi/ibnarabi_5.htm

Michel Chodkiewicz, Le Sceau des saints : Prophétie et sainteté dans la doctrine d’Ibn ‘Arabī, Bibliothèque des sciences humaines, Éditions Gallimard, Paris, 1986.