مقالات

هل الأنمي كرتون بريء؟ – للمربين (الجزء الأول)

الجلسة الأولى في دورة حول الأنمي قدمت للأمهات والمربين ثم لليافعين عبر “لقلب حي”. إعداد وتقديم: تسنيم راجح | المصادر: https://bit.ly/3IIfthB 

القيم التربوية الإسلامية مصدر الإشعاع والتألق المعرفي

لا شكّ أنّ التصور الذي يحمله الإنسان ونظام القيم الذي يرتبط به، يترك أثره في سلوكه سلباً أو إيجاباً، وينعكس ذلك الأثر –بطبيعة الحال– على سير المجتمع وبناء الحضارة برمتها، وإن أثر القيم الإسلامية –لضمان تفوق المجتمع ونقائه- ينبغي أن يهيمن على حياتنا الإنسانية؛ حيث إن تلك القيم الشاملة لا تجعل المسلم صادقاً في معاملاته وممارساته الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية، متعاوناً فيها على البرّ والتقوى، عفيفاً معتدلاً في تعامله معها وحسب، ولكنها لتنفذ إلى أعماق نفسه فتغرس فيها رهافة في الحس وشفافية في الذوق والضمير.

أثر القيم الإسلامية في الإنسان

إن أول آثار القيم الإسلامية في الإنسان هي أنها تصوغ الشخصية الإنسانية صياغة ربانية تمس كلّ موطن من مواطنها، وتهز كل وتر من أوتارها، لينخرط الإنسان بكل كيانه وطاقاته في رفع البناء الذي أمره الله برفعه، على هدى من الله.

وإذا كانت القيم التربوية الإسلامية وعلى رأسها القيمة الإيمانية، تترك أثرها في النفس والجسم، طمأنينة وسكينة، فإنّها في ترابط عضوي مع تلك الآثار، تخلف أثرها الواضح في عقل الإنسان المسلم بفضل ذلك النسيج المحكم من الحقائق التشريعات وأنماط السلوك التي يتصل بها كيان المسلم، فنسيج القرآن نفسه، ومعطياته المعجزة، من بدئها حتى منتهاها، في مجال العقيدة والتشريع والسلوك والحقائق العلمية، تمثل نسقاً من المعطيات المعرفية كانت كفيلة، بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها، أن تهز عقل الإنسان وأن تفجر ينابيعه وطاقاته.

إنّ القيم التربوية الإسلامية قد صنعت من الصحابة الذين تشبعوا بها كائنات فذة، تحمل من عناصر القوة والحيوية ما استطاعوا بفضله أن يواجهوا تبعات الحياة ومشاق السير في دروبها الوعرة، فإذا كان المجتمع المسلم نسخة عنهم أو في حقيقته ليس سوى مجموعة الأفراد الذين يسيرون على تعاليم دينهم، فمعنى ذلك أننا بإزاء مجتمع متماسك البنيان، راسخ الأركان، سائر إلى الأمام، مضطرد النمو، لأنّ الإسلام يعتمد في بنائه للمجتمع على أفراد أقوياء النفوس ممتلئين بالعزم والقدرة على الثبات.

ومن هنا نخلص إلى الحقيقة التي يقررها القرآن في قضية التغيير الحضاري، وهي أنّ الإنسان هو الأساس في ذلك التغيير، مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} [الرعد: 11] فسنة البناء والتغيير تمر من خلال جهد البشر وتفاعلاتهم.

تحقيق أهداف القيم الإسلامية

من المؤكد أن تحقيق الأهداف التربوية في المجتمعات  للوصول إلى الإنسان الأخلاقي الذي يحقق الغاية السامية للبناء والنهضة، فلا بد لأجل ذلك أن ترتكز تلك الأهداف التربوية على نسق متين من القيم يتوخى فيها الشمول والتكامل، تتكامل فيه النواحي العقدية، مع النواحي المنهجية، وهذه مع النواحي الأخلاقية كفيلة بإعداد الإنسان الأخلاقي على وعي وبصيرة، وفق الينابيع الدينية الصافية، ولا شك أن طبيعة البناء الثقافي، والنسق القيمي هي التي تحدد استجابة الإنسان لهذه المنظومة، فإن كانت تركز على أبعاد بعينها من الكيان البشري، فإن النقص لا محالة لاحق بتلك النفس، وإن كان الإطار الثقافي متكاملاً وغنيًا بالقيم التربوية التي تمس الكيان الإنساني بأكمله سوف ينعكس ذلك على الإنسان كمالاً وتوازنًا يدفعه للقيام بوظيفته الحضارية.

ومن المؤكد أن القيم الإسلامية هي الأجدر والأكمل والأمثل القادرة على الإشباع لكل حاجات وأشواق الإنسان، لأنها صادرة عن خالق الإنسان الذي يعلم من خلق، وأن العطاء الذي قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية خير دليل على ذلك، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جبل الإنسان بفطرة تؤهله للتشكل وفق الأهداف الخيرة، وقابلية السير في خطها المستقيم، فإن القيم التربوية الإسلامية تكون على أساس المفاهيم والمعاني التي يولد الإنسان بموجبها ولادة ربانية، ويعيش في ظلال طاعة الله، وحمل النفس على تنفيذ مراده في هذا الكون وحقق الغاية السامية.

ومن المؤكد حتما أن الهدف الذي تسعي إليه القيم التربوية الإسلامية هو إحداث وإنشاء هيئة راسخة في نفس الإنسان، بحيث تتجه به نحو العمل الصالح، الذي يشمل كل مكارم الأخلاق، وربما يظهر في بعض الأحيان أن بعض النظم التربوية تضم قيمًا شبيهة بقيم الإسلام، إلا أنها تفتقد الشمول والتكامل والثبات، والقابلية للتطبيق على أرض الواقع ويغلب عليها الجانب النظري لأنها من صنع الإنسان، ولا أجد أجمل بلاغة في نقل المعنى الشمولي للمراد من قول الإمام الشاطبي بأن كليات الشريعة من العدل، والرفق، وسلامة النفوس والأعراض والأموال، وحفظ الدين، والعقل، فإنها لا تتغير، إذ هي الأصول التي بني عليها الدين، وبنيت عليها مصالح الدنيا، ومن ثمة فإنها باقية ما بقي الناس على هذه الأرض، وعليه فحفظ تلك المقاصد لا يتم إلا من خلال تشبع الأفراد بمنظومة من القيم يتصف بالكمال، ويتجلى ذلك بأبهى وأتم صوره في النظام القيمي الإسلامي الذي هو قوام النظام التربوي في الإسلام، وهذا النظام القيمي هو الذي يتشكل منه النظام الاجتماعي الذي يرتبط ارتباطًا كبيرًا بطبيعة التصور الاعتقادي.

التربية وجيل القرآن

ومن المؤكد علميا أن دراسة فاحصة معمقة إلى الإنسان في ظل عصر النبوة، والعصور الزاهية التي عرفتها الحضارة الإسلامية، وجدنا أن الجيل القرآني الذي تربي في رحاب مدرسة النبوة قد أعطي البرهان الكامل على الثبات أمام مطامع الدنيا، فكانوا قمم في العطاء والتضحية، وفي الإخلاص، ونكران الذات، والتعاون، وغيرها من المثل العليا وهذا التجسيد للقيم ظل مستمرًا عبر عصور التاريخ الإسلامي على تفاوت فيما بينها في الإشعاع والتألق، وذلك بمقدار ما كانت تتفاوت في الاقتراب من النبع الصافي لمدرسة النبوة والاغتراف من خيراته وكنوزه.

ومن المؤكد قطعا أن من أعظم ثمار القيم التربوية الإسلامية في البناء الشخصي للإنسان أنها تترك أثرها الواضح في عقل الإنسان المسلم، لأن القرآن الكريم ومعطياته في مجال العقيدة، والتشريع والسلوك تمثل نسقًا من المعطيات المعرفية كفيلة بأن تهز عقل الإنسان، وتتمي طاقاته حتى يولد لديه التشوق المعرفي لكل ما يحيط به من مظاهر الكون، وتحديد دوره ووظيفته في هذا الكون، فالإنسان في العقيدة الإسلامي طاقة حيوية مؤثرة، وهذا ما يفسر لنا ذلك الانطلاق الهائل الذي حققه المسلم في كل ميدان من ميادين الحياة العلمية، وهكذا يتضح لنا أثر البناء الذي تتركه القيم التربوية الإسلامية في الشخصية، بحيث تصوغها صياغة متينة، وتمس كل موطن من مواطنها، حتى ينخرط الإنسان بكل كيانه وطاقاته في تحقيق النهضة البشرية، وخلاصة القول أن القيم التربوية المرتبطة بالدين هي التي تؤدي إلى تحقيق غاية الإنسان وإسعاده في هذه الحياة، وخلاف ذلك، فإنها لا تحقق الغاية المنشودة، بل تؤدي إلى انهيار متسارع في المنظومة المجتمعية والحضارية.

كيف تحمي أبناءك من الغزو الفكري

لا يخفى على كل ذي لب الانحرافات التي وصل إليها مجتمعاتنا، حيث نرى المثقفين والأطفال والشباب والنساء في جملة ضحايا التطور التكنولوجي، والغزو الرقمي للثقافة والقيم، فقد استطاع عدونا اختراق أفكارنا ومعتقداتنا، فصارت الثقافة الغربية هي الثقافة الغالبة والمسيطرة؛ نظرًا لواقع التجهيل العام الذي نعيشه أمام الغرب في مجالات العلم والتكنولوجيا والسياسية والاقتصاد والعسكرة، ومن ثم نجد بعض المثقفين والنخبويين وبمساعدة الماكينة الإعلامية المحسوبة على العولمة الغربية يحاولون جاهدين إقناع المجتمع العربي بأنه متخلّف في جوهر فكره وتاريخه، بل أنه متخلف في صميم تكوينه، ومن ثَمَّ فلا بدَّ من الانسلاخ عن كل ما يربط المجتمع بماضيه، وإعادة تشكيل المجتمع على الطراز الغربي بحجة تصحيح الموروث الديني، وأن المجتمع العربي عبارة عن طوائف متناحرة!

أسئلة لا بدّ منها!

في خضم هذه الأحداث المؤلمة، ومعترك الأمواج المتلاطمة نرى موجات متصاعدة في الهجوم على القيم، إلى جانب السعي لتجهيل المجتمع والأسرة والطفل في ناحية الأخلاق، بينما كان الحال سابقًا مرتبطًا بالتغيير العسكري وفرض طبائع المحتل وتنظيماته على الأرض المحتلّة وأهلها، فما أسباب لجوء العدو لأساليب حديثة في معركته تجاه أمتنا، وما هو مفهوم حماية الطفل من الغزو الفكري وما سبل مواجهته، وكيف أنقذ ابني من هذا الغزو ذو الأساليب الناعمة، والمدمرة في آثارها ونتائجها؟.

إنّ المتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أنَّ أمتنا انتصرت –وإن طال الزمن- في ردّ الغزوات العسكرية التي حاولت اجتياح أرضها، وأن العدو خسر مادياً ومعنوياً وعسكرياً، وقُتل الكثير من جنوده خلال الحملات المختلفة ضدها منذ مئات السنين، وما حملات المغول والصليبيين عنّا ببعيد مثالاً عن ذلك.

مع كل هذه الخسارات الباهظة، وهذا الإصرار والثبات والانتصار الذي اتصف به المسلمون، ومع ضعف المسلمين وتطوّر قوى الأمم المغلوبة سابقًا، كان لابد من تغيير أساليب العدو واستراتيجياته في المعركة، وكان من أبرزها التغيير الفكري، الذي تزامن مع انتشار الإذاعة والتلفاز، حيث بدأت المعركة تختلف في أساليبها ونعومتها عن سابقاتها الخشنة العسكرية، وأخذت المعركة منحاً فكرياً وأيديولوجياً وثقافياً، وبدأ العدو في دس الأكاذيب والافتراءات لتشويه الثقافة العربية والإسلامية، وإقناع العرب والمسلمون أنهم متخلّفون، وأنّ المنقذ لما يعانيه المسلمون من ضياع هو  اتباع “الحضارة” الغربية بكل ما فيها من تفاصيل، والترويج لها بما يضمن ترسيخها واستمرارها في أذهان أبنائنا، وهنا بدأت المعركة التي استطاع العدو من خلالها دخول بيوتنا وعقولنا كما لم يقدر من قبل.

غزو الأفكار بين المستهدَف وسبل المواجهة

لعلنا نتساءل: ماذا يعني مفهوم حماية الطفل من الغزو الفكري، وما هي السبل لمواجهة هذا الغزو؟

وفي الجواب يجب التنويه إلى أن العدو دفع بأقصى قدراته وإمكانياته وطاقاته ليسيطر على العقول، وأحد أخطر أهداف المعركة هو اختراق عقول أبناء الأمة الإسلامية وعقول شبابها، وذلك إما عبر التلفزيون، أو عبر الألعاب الرقمية، أو وسائل التواصل الاجتماعي، ومن هنا فإنه ليس من المصادفة ظهور عشرات الشركات الإعلامية الترفيهية للأطفال، إلى جانب الألعاب الرقمية على الحواسيب والهواتف النقالة، وإضافة إلى تشويه فطرة الأطفال من خلال المسلسلات والأفلام المخصصة لهم عبر دس السموم فيها، مما سهّل تشويه المفاهيم عندهم، وهدم القيم والأخلاق والثقافة، ونشر الشبهات في عقولهم بمختلف الطرق التي تناسبهم.

إن أثر الإعلام شديد على الأطفال، وقد شهدت وسائل الإعلام في وقتنا الحالي تطورًا ملحوظًا، فلم يعد مقتصراً على المطبوعات الورقية مثل الكتب والمجلات والقصص التي كان استخدامها يقتصر على الكبار والبالغين، ولكنه تطوّر بعد انتشار الإذاعة والتلفاز، ثم تطور مرة أخرى بظهور الإنترنت والأجهزة الذكية، والحواسيب التي انتشرت بشكل سريع وغزت معظم البيوت حول العالم، ولم يعد استعمالها حكرًا على الكبار، بل أصبحت بمتناول الأطفال، وأصبح تأثيرها عليهم يفوق تأثير الأهل.

وقوفًا عند هذا، فإنه لابد أن يكون الأهل على قدر كافي من الوعي بكيفية استخدام هذه الوسائل وخطورتها، وإدراكهم سلبيات استخدام طفلهم لوسائل الإعلام دون مراقبة أو متابعة أسرية، فبعض قنوات الأطفال تسعى للتطبيع مع الشذوذ والترويج لكونه أمرًا طبيعيًّا، وبسبب الفضول عند الطفل للبحث عن هذه المواضيع، فإن ذلك قد يسبب له عدة مشاكل سلوكية، هذا غير أنّ الجلوس لساعات طويلة لطفلك أمام شاشة التلفاز أو الحاسوب أو الهاتف، قد تسبب له أمراضاً نفسية كالتوحد والاكتئاب، إلى جانب تراجع قدراته العقلية، هذا غير الأضرار الجسدية التي تسببها.

حصّن أبناءك ضد الغزو الفكري

تربية الأبناء على أسس سليمة، تكفل لهم حياة متزنة نفسياً وجسدياً لمن أهم واجبات الآباء والأمهات، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ – وذكر منها – وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُم) [أخرجه البخاري في صحيحه برقم2409] فمسؤولية الرّجل عن أهل بيته، التّربية والتّعليم والتّهذيب، وتقويم سلوكهم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6].

وعلى المثل من ذلك فإن مسؤولية المرأة تربية وإصلاح أبنائها وتصويب تصرفاتهم وتصحيح مسارهم في الحياة، فعندما يعلّم الوالد والوالدة أبناءهما القيم، وخصوصاً في السبع سنوات الأولى من حياة الطفل، فإن ذلك أدعى لترسّخها في حياتهم، وكذا في السنوات التالية، حيث يجب على الأب ألّا يعلمه الآداب تلقيناً وحفظاً، وإنما بأن يكون له قدوة وأسوة حسنة، لأن تعليم القيمة يكون بثلاث مكونات، أولها معرفيٌّ، وهذا هو دور التربية الإسلامية، سواء في المدرسة أو المسجد، فالتربية الإسلامية لوحدها لا تربي، وإنما هي المكوّن المعرفي من مكونات القيمة، وثانيها وجداني: وهو أن يعتز الإنسان بقيمته، فيفتخر أنه مسلم، ويشعر بهذا الاعتزاز، فليس الرّقي أن أُدخل عشر كلمات أجنبية في أربع جمل عربية، بل إن الرّقي هو التخلّق بالأخلاق الحسنة والمحافظة على هويتك التي تؤسس لهذه الأخلاق.

عندما تعلّم الأم ابنتها وضع الحجاب، -والحجاب في وصفه الماديّ قطعة قماش- فإنها تصف لها مغزاه ومصدره، فالعبرة الكبرى من ارتداء الحجاب في الوجدان، أن يكون هذا الحجاب رمزاً للعفة، وأنه أمرٌ إلهي لا يختلف عن الأمر بالصلاة والصيام، وأن الفتاة المسلم تفخر به وتعتز بارتدائه، فمن ذا يستحي من أداء أمر ربه، والذي يقتل هذا الوجدان، هو الإرغام والإكراه والتعنيف، عندما تجبر ابنتك على ارتداء الحجاب غصباً، وبالتالي تجعل ابنتك تكره هذه القيمة

أما المكوّن الثالث فهو المكوّن السلوكي، وهذا الجانب هو الذي تظهر فيه القيمة، فالقيمة هنا تترجم إلى سلوك ظاهري، ويتصل هذا الجانب بممارسة القيمة أو السلوك الفعلي، والقيم بناء على هذا التصور تقف كمتغير وسيط أو كمتغير مرشد للسلوك أو الفعل.

ولحماية طفلك وصونه عن التأثر بما يدمّر مستقبله وأفكاره ومعتقداته، لابد من عدة أمور، مثل: تنظيم وقت دراسة طفلك ومساعدته في ذلك، وتخصيص وقت محدد يوميًا، لمشاهدة التلفاز أو ممارسة الألعاب الإلكترونية، ومتابعة ما يلعبه الطفل ودراسة الألعاب (دراسة فكرية وتربوية) ومراقبة ما يشاهده سواء على التلفاز أو على مواقع التواصل، فالكثير من البرامج المخصصة للأطفال تعتبر الأشد تأثيراً على الطفل، باعتبارها تخاطب الطفل بلغته، وتواكب تطلعاته العاطفية والنفسية والعقلية، وهي تسبق الأبوين والأسرة في ذلك.

إلى جانب ذلك فإني أهمس في أذنك قائلاً لك: اقترب من ولدك وامنحه شعور الثقة والأمان وحاوره حول محتوى أي شيء يشاهده، ووضّح له الخطأ والصواب واعمل على ترسيخ المعتقدات والقيم والأخلاق لديه، واعمل على تنمية هوايات طفلك وساعده في ممارستها، بتسجيله في النوادي المخصصة لها كنادي سباحة، أو نادي كرة سلة وغيرها من النشاطات الحركية بعيدًا عن وسائل الإعلام، فإن لم تقم أنت بذلك سيقوم هو بمفرده، ولربما تكون اختياراته خاطئة وكارثية.

وبما أن الأبناء ليسوا منعزلين في عالم مثالي، فلا بد للأبوين من أن يعرفوا من هم أصدقاء ولدهم، وأن يسعى للتقريب بينه وبين الأولاد الصالحين قبل أن يختار هو لنفسه، فقد لا يتقن حسن الاختيار، ويبتلى بأصحاب سوء يؤثرون عليه بشكل سلبي، ويهدون ما تقوم أنت ببنائه في التربية والتعليم.

وأخيراً، أقول للسادة الآباء والأمهات: إنّ العدو وضع أقصى إمكانياته في هذه المعركة الخطيرة، ولم يدخر جهداً في هذا، فلنكون نحن على قدر المسؤولية ولنحوّل هذه الأسلحة إلى أدوات نافعة ومفيدة، فما يقوم به من زخم إعلامي خطيرٌ جداً على الأطفال والكبار والنساء وجميع أفراد المجتمع، فقد وصل الأمر لأن نجد أبناءنا ينجرفون مع تيار التغريب دون وعي أو إدراك، فهم يقلّدون مشاهير الغرب حتى في تسريحة الشعر واللباس، وكأننا نعيش الزمان الذي تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (لتتَّبعنَّ سَننَ من كانَ قبلَكم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ حتَّى لو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه. قالوا: اليَهودُ والنَّصارى؟ قالَ: فمَن) [البخاري في صحيحه 3456]

علينا أن نتقي الله في أبنائنا، ولنعمل على تجنيبهم مواطن السوء وقرناء السوء، وأن نغرس في أنفسهم حب المعالي، وأن نكون لهم الأسوة الحسنة، ليعتزوا بهويتهم الإسلامية وانتمائهم ويفخروا في ذلك، ولنربيهم على مائدة القرآن ليكونوا جيل النصر المنشود، الذي بواسطته تحرر الأوطان، ويُحمى به الدين والعرض والمال، ولن يحصل ذلك إلا بتحمّل المسؤولية وتربية الأولاد على حب الله وحب رسوله والمؤمنين.

عندما تتحول التربية إلى تجارة

“درّب طفلك كالكلاب” “train your baby like a dog” هذه البداية المؤلمة كانت عنوانًا مزعجًا لبرنامج عرض منذ سنوات على قناة بريطانية، إلا أن عرضه قد توقف بسبب الانتقادات الشديدة الموجّهة له، وقد أعادت قناة ألمانية رسمية شراءه وبدأت عرضه في عام 2021.

هذا العنوان ليس لجذب المشاهد فقط وإنما يصف محتواه بدقة، حيث تقوم مدربة البرنامج والتي هي مدربة كلاب في الواقع، بتحسين سلوك الأطفال باستخدام طرق تدريب الكلاب معتمدة مبدأ “لوحة مفاتيح” يُضغط عليه من قِبلها بعد كل فعل جيد يقوم به الطفل ثم تتم مكافأته بقطعة من الحلوى، وعندما سئلت عن كفائتها لممارسة هكذا عمل، أجابت بأنها حصلت شهادة في تدريب الكلاب سلوكيًّا، حيث إنها –أي الكلاب- تشبه في دماغها دماغ الطفل الإنسان إلى حد ما، إلى جانب قراءتها العديد من الكتب في التربية وتأليف كتب خاصة بالأطفال.

إن الأغرب من هذا كله هو وجود أهلٍ خاضوا هذه التجربة إلى جانب طبيب مختص بالعلاج النفسي يساعد المدربة من خلف شاشة الكترونية، حيث يُقيّم النتائج بحسب ما يُنقل له، ليُقرّ في النهاية بنجاح هذه الطريقة، في خطوة لا يمكن وصفها بأقل من أنها تخلٍّ عن الأمانة المهنيّة.

تحكّم الشبكات والإعلام

في مثل هكذا وضع علينا أن لا نستغرب من رؤية هكذا برامج على شاشاتنا بعد مدة، فالإعلام الفاسد لا يهمه سوى ملء جيوبه بالأموال، ويبدأ الأمر عند وجود قبول لانتشار آراء وأفكار غير المختصين، وتدخلهم في أمور التربية مع غياب المساءلة والمحاسبة بل مع تمجيد الجمهور والإعلام لهم، حيث يصلون لجمهورهم باعتمادهم أسهل وأسرع طريق هو المنصات والشبكات الالكترونية.

تقوم هذه البرامج في جزء كبير منها على الإيهام، سواء بجمال الصورة والكلام أو بأنهم غيّروا حياة كثير من الناس من خلال مشروعهم التجاري، الذي بدأ بعرض تجربة شخصية في التربية ثم ما لبث أن تحول إلى مشروع رائد، هو الذي أوجد ثورة في عالم التربية وأنقذ الطفل من براثن جهل الوالدين والأسلاف.

يستمدون شرعيتهم كلما خَفَت ضوئهم قليلا عن طريق استقطاب المختصين، الذين تفطّن بعد ذلك بعض منهم لخداع هذه المنصات فتخلى عنها بل وحذر منها، وبعضٌ آخر ممن ساندوها وسَحَرهم بريق الشهرة والمال، أو اندفعوا إليها عن حسن نية، فساهموا في تضليل الناس وكانوا تقريبا كالطبيب السابق ذكره المُصفّق لمدربة الكلاب.

ما مؤهلات مُربّي الفضاء الافتراضي؟

من الأفضل أن نسأل أنفسنا هذا السؤال عند التعرض لكل من يقدم نفسه بأي لقب يخص التربية ويعرض منصة لها، ولا مشكلة في عرض التجارب الشخصية، أو أن يساهم غير المختص بأفكار في التربية من واقع تجربته وخبرته، ولكن أن تبقى الأمور ضمن هذا النطاق لا أن تتحول لمشروع يتكلّم في كل ما يخص الطفل من صحة جسدية ونفسية وسلوكية، بل ويسعى لتنميط حلول معينة لمشاكل الطفل المعقدة التي تحتاج لأطباء متخصصين.

ينطلق هؤلاء المربون الافتراضيون من إطلاق ألقاب على أنفسهم، ثم الترويج لمشاريعهم التي لا تعتمد على خلفية علمية أو دراسية وإنما على ازدياد أعداد المتابعين كما يوضّح لنا هذا الفيديو (أم بنكهة الفاشينيستا) الذي يلخص الكثير مما يمكن أن يقال في حقهم.

سأحاول الحديث عن المفاهيم التي يحاولون تصديرها إلينا والتي تؤدي لخلل في سوية النشء والأطفال، فلا أرى مشاريعهم أقل خطرًا عن أي خطر يهدد الأمة، فأبناء اليوم هم حاضرها ومستقبلها، خاصة عندما بدأت بعض نتائج اتّباعهم أفكارهم وأساليبهم تظهر للعلَن، وبدأت الأمهات يشتكين من التشوه الذي طرأ على شخصية أطفالهم.

نظام مونتيسوري .. صنم جديدٌ في عالم التربية!

ثمة مدارس عديدة في التربية يُسوّق لها، ولكن لنتحدث أولا باختصار عن المبدأ الغالب اعتماده من قبل المنصات التربوية لجذب المشاهدين، إنه النظام الذي أسسته “ماريا مونتيسوري” وبات شهيرًا على مختلف الأصعدة في العالم، فما هو؟

يعتمد نظام ماريا مونتيسوري على الاستقلالية والحرية التامة للطفل في اختيار ما يتعلم بعيدا عن ممارسة الضغوطات التقليدية في التعليم، فالطفل والإنسان بحسب ماريا يخضع لأربع مراحل تطورية تبدأ من شهوره الأولى حتى سن الرابعة والعشرين، فإن تُرك لحريته وفطرته في حب التعلم أن يختار ما يريد فإن أفكاره ستتطور خاصة مع وجود البيئة المناسبة الداعمة له، والتي ستحقق أفضل النتائج في بناء إنسان متميز.

بالرغم من وجود أفكار مميزة في هذا النظام يستحق النظر فيها والاستفادة منها، إلا أنه قد استغِلّ من قبل كثيرين من مروجي البرامج التربوية غير المتخصصين، إلى جانب أنّ هذا النظام نفسه لا يخلو من السلبيات، ونتائج اتباعه لا تختلف كثيرًا عن نتائج اتباع الطريقة التقليدية في التعليم، كما أنه نظام لا يناسب جميع الأطفال، فبعض الأطفال يميلون لاتباع القوانين والقواعد المحددة، علاوة على أن بعض أطفال منهج “مونيتسوري” يجدون صعوبة في الانخراط بالمجتمع والالتزام بجو العمل التقليدي لاعتيادهم على الحرية التامة التي تلقّوها في صفوفهم الدرسيّة.

إلى جانب ذلك فإن مواده التعليمية ورياض الأطفال والمدارس المعنية باتباع هذا المنهج مرتفعة الثمن مقارنة برسوم المدارس التقليدية، وأهم من هذا أنها لا تتطرق لتعزيز الجانب الديني في حياة الطفل البتّة، ومن ثمّ فإنه ليس من الإنصاف وصفه بأنه النظام الأمثل في التربية، والحض على بذل الأموال لتعلّم مبادئه واتباع منهجه، طبعًا هذا إن كان ما يُطبّق حقًّا هو نظام المونتيسوري!

صورة تعبر عن أسلوب مونتيسوري في التربية

دسّ السمّ في العسل!

لنعد لبعض المفاهيم المحيّرة التي تعرضها برامج الفضاء الافتراضي في التربية، مثل: “الحب غير المشروط” و”تقبّل الطفل كما هو”، وهنا يجب التأكيد على أن هذا المفهوم عامّ يحتاج لتفصيل، فإن كان المقصود ألا نشترط الحب للطفل بتحقيقه أمورًا دنيوية، كأن يقال له “أحبك إذا حصّلت أعلى الدرجات الدراسية” وأن نتقبله كما هو بما فيه من ضعف ومرض ونقص لا يد له فيه، فهذا من الصواب، أما ما يرمون إليه من حب الولد وتقبُّله على شتى أحواله وإن ألحد وارتكب الكبائر والمعاصي، وتَركه في ضلاله لأنه حر في اختيار طريقه، فهذا أمر غير ممكن التحقق.

لا يمكن للمرء أن يكره فلذة كبده إلا أنه من الطبيعي أن يكره أفعالهم السيئة، فالولد العاصي أو الكافر أو العاق يجعل والديه من أشقى الناس، وحريٌّ بالوالدين نصح أبنائهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن، والدعاء لهم بالهداية والصلاح، فإن أصروا على الباطل وجب نهيهم وزجرهم بحسب الفعل وشدته.

لنا في قصص القرآن عبر لا تنتهي، فعندما أصرّ وَلدُ نوح عليه السلام على بقائه مع القوم الكافرين رغم دعوة أبيه له ليرافقهم في رحلة النجاة، إلا أن إصراره قاده إلى أن يبتلعه الطوفان، عندها لجأ الوالد المكلوم لربه فكان سؤالا واعتذارًا يملأه التأدب مع الله والتسليم له، يسوق الله تعالى الموقف في القرآن: }وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ ]هود:45-47[ لقد كان جواب الله تعالى حاسمًا، “إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ” والسبب معصيته الواضحة لأبيه وربّه.

هناك معنى مشابه لهذا نلتمسه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) [أخرجه الشيخان[، فرغم أن حب الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة ابنته كان كبيرا، حتى قال فيها: (إن فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما أذاها).] أخرجه البخاري في صحيحه[ إلا أنه أعلمنا بحديثه أن حب الوالد للولد لا يعني السكوت عن الحق وقبول الخطأ والكفر والعصيان منه بل إن محاولة تصحيح أخطائه ومحاسبته مما يصبّ في مصلحته.

وإذا ما أتينا إلى أهم المبادئ التي ينادي بها مربّو الفضائيات وبرامجها الافتراضية، فإنها تتلخص بفصل الدين عن التربية بحجة صعوبة تعلم الدين والقرآن منذ الصغر، إلا أننا لا نرى منهم موقفًا من تعلم اللغات والجغرافيا والعلوم المختلفة في سنوات الطفل الأولى، بل إن هذا –بحسب تسويغاتهم- مما ينمي مداركه، وهذا لسان حالهم: دع طفلك يستمتع بطفولته وسيتعلم الصلاة عندما يكبر، ودع الفتاة ترتدي ما تشاء من الملابس الكاشفة بعمر صغير وستقرر مستقبلاً -إن أرادت- ارتداء الحجاب، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ولكن هل يعقل أن يأتي الطفل من نفسه عندما يكبر ويبدأ بالصلاة؟ فالإنسان بطبعه يعتاد ما ألفه وتربّى عليه في الصغر، ومن الصعب تغييره عند الكبر إلا أن يشاء الله، ولن يلتزم بأوامر ربه من نفسه إلا إن تشرب حب الله وعرفه منذ نعومة أظفاره وألف سماع القرآن والحشمة والآداب الإسلامية واعتاد عليها حتى أصبحت من طبعه.

إلى جانب هذا المبدأ فإنهم ينادون بمنح الأولاد الحرية المطلقة بمعناها الفاسد، فتشمل حرية الدين والمعتقد والملبس والتصرف في الجسد، وقول: إن أبناءنا أحرار فهذا يعني أن لهم أن يختاروا من أمور الدنيا ما يريدون مالم يتعارض مع الدين، وليس لنا إجبارهم على ما لا يطيقون، إلا أن الحريات الأخرى يَخُطُّ ملامحها الدين، فتشمل العبودية لله وحده واتباع شريعته، وأما الجسد والروح ملك له تعالى ماهي إلا أمانة لدينا فحرّم الله قتل النفس، والجسد جعل الله له حقًّا بحفظه وستره ولو كان لنا حرية التصرف فيهما لكانت هذه الأفعال مباحة، وهذا واجب الأهل بتبليغ أبنائهم رسالة ربهم ثم الهدى يكون من الله، وليس إعطاء الحرية المطلقة من دون تبليغ وتعريف بعظمة خالقهم وجلاله تعريفا كاملاً.

لا تنتظر مقابلًا من أطفالك

هذا مبدأ آخر من أهم المبادئ التي يغرسونها في عقول الأطفال والمشاهدين، ما عليك إلا أن تقوم –أيها الأبوين- بواجبكم تجاه الأولاد، ثم دعوهم لحياتهم الخاصة!.

هل من الصواب أن نعلم الطفل ألا يهتم بوالديه، وأن يهتم بنفسه فقط؟ وهل يوجد مقابل سيكفي حق الوالدين مع ما لاقوه من مشقة في التربية؟ وأين حقهم من أبنائهم الذي شرعه الله لهم؟ ألم يذكر الله فضل الوالدين في القرآن وفي أكثر من موضع وكرمهم ونبيه بأحاديثه حتى كان فضل البقاء معهما أولى من الجهاد:}فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا{ ]الإسراء:23،24[.

إن طاعة الوالدين واجبة فيما لا معصية فيه للخالق، وعلى الأولاد بِرّهم، بل إن عقوقهم من أكبر الكبائر، ويجب عليهم مساعدة والديهم بالخدمة والمال إن لم يكونوا قادرين على هذا بأنفسهم، أو أن يستأجروا من يقوم على خدمتهم، والولد الصالح كالصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها بعد الموت.

إن كل تلك المفاهيم توصلنا للمفهوم الأخير وهو “تنميط التربية”، فنرى التركيز الغالب على قشور التربية، لكن مبادئها الحقيقية تغيب، وهي التي تركز على بناء إنسان صالح قوي وسوي لا ينصب تركيزه على نفسه فقط، وبعيدًا عن الضعف والهشاشة النفسية أمام كل عارض يطرأ عليه، بل يعلم أنه جزء من منظومة ومجتمع فيه اختلافات كثيرة له ما له وعليه ما عليه.

هذه التربية المهمّة مغيبة عن برامج التلفاز والفضاء الافتراضي، تلك التربية التي لا تحتاج إلى أموال وقصور وطعام باهظ، التي جعلت من خرج من رحم المعاناة والحروب بطلًا، ومن مريض الجسد عبقريًّا ملهِمًا مبدِعًا، وكم من معلم ومربٍ كان تأثيره بالأجيال من خلال كلامه وعلمه فقط.

إنّ من أخطر المصائب أن تتحول التربية إلى تجارة تتغير مبادئها بحسب السوق وما يطلبه الجمهور، فيُهتم ببيعها وتسويقها لجمال صورتها وكلماتها كما هو الحال مع البضاعة، إما من أجل الشهرة والإعجابات، أو من أجل المال بعيدًا عن محتواها التي تُفرغ منه، فالأولى النظر لهذه المشاريع بعين ناقدة ممحّصة ومحلّلة، وأن نتبع التحليل والنقد بالإصرار على تربية أبنائنا بما يجعلهم مليئين بالعلم والإيمان والأخلاق من الداخل والخارج، ولتكن أفضل مدرسة تربوية نتبعها تلك التي يكون أساسها شريعة ربنا وهدي نبيه.


مصادر للاستزادة:

<a href=”https://www.freepik.com/vectors/background”>Background vector created by vectorpouch – http://www.freepik.com</a&gt;

صناعة المربي.. المهمة الأصعب والأهم!

أثرُ القراءة وضرورتها للأمة، لا بد أننا سمعنا الكثير عن هذه المقولة، ولربما توقفنا كثيرًا عند قوله تعالى: {اقرأ} [العلق: 1] ونودّ لو أنّنا من أهلها.

لابد هنا أن أذكر أنني حتى الأمس كنت أقول: ليت أجيالنا الصاعدة تقرأ، فلو أنها تعمقت في ذلك لتغير بهم حال الأمة وهذا حق لا يختلف عليه المهتمّون.

لكن التأمل في حالنا كأفراد من الأمة والناجحين منها مقارنة بالخاملين المقصرين، وحتى الناجحين من غير أمتنا يجعلنا نقف على أمر وراء القراءة أو تعلّم العلوم.

فكم من قراء نهِمين تفلّتوا؟ وكم حملة شهادات عليا لا يحسنون التفكير؟!

ذلك يقودنا إلى أن العلم وحده الذي اتسعت رقعته وتعددت مساراته وفتحت أبوابه مشرعة للجميع في زمننا هذا لا يصنع إنسانا مسؤولًا متعقّلا يدرك المعاني ويديرها في نفسه وعقله حتى يتخلق بأفضلها ويصيغ بها نفسه حتى تتربى وتتزكى وتتطهّر.

غياب المربي وأزمتنا الكبرى
إن الأزمة الكبرى التي قد تكون تسببت في كثير من الخلل هي أزمة المربّي الذي غفل عن معنى التربية الحقيقة ولم يمتلك أدواتها وكلنا ذلك الشخص إلا من رحم ربي.

تلك المهمة العظيمة والمسلك الأهم في الأمم، هي التي خرّجت أجيالًا صالحة في تاريخنا منذ عهد المربي الأول وحتى يومنا هذا، فإذا غاب المربّي أو اهتزّت وظيفته حدث الخلل في البناء التي ترقى به الأمم وتتفوّق به على غيرها.

لذلك كان السلف يرون أن من اعتمد على الكتاب وحده كثر خطؤه ويرون أن مصاحبة العلماء والفقهاء هي من تصنع العالم أو المفكر، لأنه يتربّى من أفعالهم ويأخذ من تصوراتهم، وتنقش في قلبه طريقتهم في القراءة والتعلم والسؤال والرد ومخاطبة الناس والتعامل معهم وفى قضاء الأوقات والأحوال.

صورة تعبر عن المربي قديمًا

وإذا كان عالم اليوم يسحب دور المربّي شيئا فشيئا ليكون التلقّي من أجهزة صماء لا تملك حسًّا ولا فهمًا لكنها تحمل أفكار الدنيا على سعتها واختلاطها وتشعبها، فإن الأهمية تزداد ليكون لدينا في مواجهة ذلك المربّي الجامد إنسان رباني يدرك قيمة الإنسان ودوره ومهمته في الحياة ويريد أن يعيده إليه.

ولا ريب أن هناك من فَقَدَ المربّي، لكن الله حفظه ورباه ووجهة الوجهة الصحيحة ووجد من خلال بحثه وقراءاته وتعلمه طريقه الذي يتزكّى به ويصبح إنسانًا على ما يحب الله ويرضى، لكن هذا النموذج ليس هو السائد، وليس هو ما يحدث في الغالب، بل الغالب الذي نرى عليه ناشئتنا أنهم أحوج ما يكونون إلى من يأخذ بأيديهم إما من الداخل إذا رزقوا آباء مربّين، وإمّا من خارجه ممّن يدركون هذه الحاجة وفرّغوا أنفسهم لها.

مهمة المربّي
إن مهمّة المربّي لا تتلخّص في تعليم بعض الآداب أو إصلاح بعض خلل السلوك فحسب، بل في إنها تصنع عقلًا مفكرًا ونفسا حريصة على التزكّي..

إنها تعلّم ذلك النشء الصغير أن يستثمر ما وهبه الله من نعم وأولها نعمة العقل، لتدفعه حين يقرأ لأن يفهم ويبحث عن غايات ما وراء اللفظ من المعنى، وتحثّه على أن يستخرج مما يحفظ من القرآن رسالة ربه إليه، فيعتاد أن يأخذ الحياة بقوة، وأن يكون على وعي بكل ما يمر من الخارج إلى عقله، فيمسك به ويتمهّل في تمريره إلى عقله حتى يدرك ما له وما عليه ويجتهد في حماية نفسه وعقله من كل ما يرِد إليه من كلامٍ وصوَرٍ وثقافات وفنون متنوعة يتلبس فيها الحق بالباطل.

والمربّي الحق ليس هو الذي يلقي –فقط- على أسماع طلّابه بين حين وآخر ما يقدر عليه من النصائح والتوجيهات والتكليفات المتعددة الجوانب، بل إنه مع ذلك صاحب رؤية يبصر بها أحوال من يربيه، منذ يكون برعمًا في بستان ناضر متعدد الألوان يسقى بماء واحد، فتراه جنديًّا في معركة اليقظة والوعي، فيقوم بمهمته في السقي والتعهد والرعاية والتدريب وإكساب المهارة والقوة، لا يترك يده حتى يضع الصغير يده على يده ويودعه للقيام بدور مماثل..

الأمر إذن يحتاج لتهيئة وإعداد وتدريب مستمر، حتى يكون المربي على قدر تلك المسؤولية الملقاة على عاتقه، فيرى بعين قلبه ما يحتاجه النشء، ويتمعّن في الحال التي هو عليها من الخلل، فيبحث في صيدليات الوعي والأمة عن العلاج، ويصنع التركيب الأقرب للنفع والوقاية والسداد، ويقدمه مشفقا راجيا أن ينفع الله به ويقبل منه.

مشكلة ضعف المربين
نشأت أجيال منا تظن أنها قد أحسنت صنعًا، وأن لديها من الوعي والفهم ما يحميها من السقوط والغفلة، فلما حان وقت الاختبار وتتابعت رياح السموم ومن قبلها طرقات الإنذار، وجدنا أنفسا في هشاشة بالغة وقلوبنا مائلة تملؤها صيحات الفزع التي لا نملك لها ردا.

بدأ الكبار يبحثون عن أسباب ضعفهم وخذلانهم وعجزهم، فإذا هي صفات وطبائع درجوا عليها ولم ينتبهوا لآثارها، فراح بعضهم يحاول ويسقط ويقوم ويجاهد مع نفسه، وسلّم آخرون لواقعهم وحالهم فلم يراجعوا أنفسهم، ولم يكلّفوها عناء المجاهدة التي لا تكاد تثمر في الكبر إلا قليلا. أما أولئك الواقفون على الثغر فهم وإن عرفوا خطر مواقعهم إلا أن أثر التخليط القابع زمانا في أوعيتهم لا يزال يندفع مرة بعد أخرى، وتظل المجاهدة المدفوعة بالصبر الجميل هي وحدها الأمل المرجو..

فصاحبها بين مد وجزر خلال رحلته لإصلاح نفسه ومن يعول، والتوفيق والهداية للخير من الله، وإنما نمنّي أنفسنا ونرجو الله، ومن ثمّ كانت الوقاية خيرًا من العلاج، وكذلك فإن إعداد النفس إعدادا أصيلا لتكون ربانا يوجه ويشير ويعلم خير من إهمالها، بل إن ذلك يضيّق دائرة الأخطاء ويحمي من آثارها التي قد تقيم في نفوس الأبناء زمنا طويلا.

ليست الأخطاء وحدها منبع الخطر في رحلة البناء والتربية وإنما الغفلة التي ترافق الإنسان، فقد تذهل النفس التي لم تأخذ بحظها من التزكية والفهم والقراءة الواعية عن الشر وعن خداع النفس، فتظن الشر خيرا، أو تظن النصرة فيما يجلب الذلة، وهكذا تتغير الوجهة دون انتباه أو إشارة فارقة.

المربون الذين تحتاجهم الأمة
إننا حين نتحدث عن المربين فإنما نعني أولئك الذين لهم أنفسا قوية تملك نفسها عند الغضب، فلا يخرجها ذلك عن هيبتها ووقارها وعن قيمها ومبادئها التي تدعو لها، ومن يقفون مع كل حدث وقفة صادقة يقرؤون ما وراءه، ويعرفون بم يتزودون له، ومن لديهم القدرة على التفاعل مع الأحداث والمواقف وإدارتها، وفقا لرؤية واضحة يسعون إليها ولفكر ثابت ينتمون إليه.

إننا في حاجة ماسة لمربين يحسنون التعامل مع الطفل من أول يوم يطأ فيه أرض الحياة، يعرفون مهمتهم ويقدرونها حق قدرها، وإن غفلوا أو سهوا قليلا عادوا وتذكروا، لأننا الآن صرنا نبحث عن معالجين ومعدّلي سلوك يصلحون ما أفسدناه في سنوات التعهد الأولى.

المربي وطلابه

ولا نعني بالمربين الآباء والأمهات، بل إن الأمة في حاجة إلى طائفة كبيرة من المربيّن في كل موقع يرتاده الطفل والناشئ، فإذا فُقِد المربي الأب أو المربية الأم وَجَدَ من يأخذ بيده في المسجد أو الشارع أو المركز التعليمي أو غير ذلك

صناعة المربي أملٌ جديد
ليس الأمر بالهيّن ولكنه ليس مستحيلًا أيضًا، ثمة جهود من هنا وهناك تسهِم في تلك الصناعة وتمد المربي بما غاب عنه من أساسيات، لكن القصد أن يتحول هذا الأمر إلى مشروع أمة، وأن ينطلق مربو الأمة من نبع واحد، يروون صغار الأمة وأبناءها، فيشب النشء على غاية واحدة وإن تعددت الوسائل، ويكبرون بروح واحدة وإن اختلفت المشارب والأذواق، بل يمنحهم الاختلاف المحمود قوة وثراء وقدرة على خوض معارك الأمة وأنواء الحياة بما أُشرِبوا من معانٍ متدفقة، وبما أُنضِجوا من تجارب غنية صنعوها بأنفسهم.

إننا وإن كنا نرى واقعًا غارقا في التحديات إلا أن التعامل الجاد مع ذلك الواقع هو الذي يرسم المستقبل، فكما ألجأت تلك التحدّيات إقامة برامج تصنع محاورين وأخرى تبني اليقين الصادق وأخرى تضع البناء المنهجي لطلب العلم بالتدرّج نصب أعينها، فكذلك ينبغي على أهل التخصص والهمّ أن يتهيّؤوا ببرامج تصنع المربي وتهيئه منذ اللحظة الأولى لأداء هذا الدور بحب وهمٍّ أصيل..

 نريد أن تكون الوجهة واحدة، وإن اختلفت الوسائل، وتعددت الخطط، التي تقدّر تنوّع البيئات واختلاف الشخصيات وتعدّد أنماطها واتساع محيطها الحالي، نرغب أن توضع أسس البناء وتوجَّه ما يتبقى من جدران ومداخل، وأن يأتي المربّي بعد ذلك ليفتح النوافذ ويُطلِع تلامذته وأبناءه على يراه من خير فيأخذ قبسًا ويهديه للآخرين.

 

عندما يتطرّف اللُّطف

بعد أن طغت الثقافة الليبرالية العلمانية وصار الناس يحتكمون إلى قيم الحداثة والمدنية ويحاكمون الدّين وفقاً لمبادئها صار من الطبيعي أن نسمع كلَّ يوم صيحاتٍ في شتى مجالات العلم والفكر والحياة تنادي بأفكار جديدة وتطلع بفُهومٍ مبتكرة لم يكن لمن قبلنا قدرة على الوصول إليها وأنّى لهم وهم المحتكمون لشرع الله والمنقادون لثقافةٍ يحكمها الإله؟!!

واستدراكاً على ما سبق لا يُفهم من كلامنا أنّا نقدّس القديم ونستنكر الحديث فمعيارنا في أي حكم هو ما يقودنا إليه العقل السليم المستنير بالوحي والمسترشد بالتجارب والمتّكل على أصول المنطق الصحيح.

وليس المجال التربوي ببعيدٍ عن تلك الفُهوم المبتدعة بل لعلّه أكثر مجال قال فيه من لا يعرف وهرف فيه مقدّماً تجاربه وظنونه وتخميناته أو متعته. ولست ها هنا من المختصين ولا أدّعي، لكنّ مسألةً استطارت فيها التربية الحديثة تطرّفاً في اللطف المقابل للعنف الممنوع عن الأطفال؛ إذ وصلت إلى عقيدة الإيمان بالله ففصّلتها على مقاس الطفل كما يدّعون استحثّت في عقلي الناقد أسئلةً شتّى أضعها بين أيديكم لعلها تجد صدى في قلوب مؤمنة بالله وعقول غيورة على دينه.

الله محبة
يرى أبناء الاتجاه الحديث في التربية أن القيمة العليا التي ينبغي أن تزرع في قلب الطفل تجاه الله هي “الحب” فأن يحب الله الطفل متوسلاً بنعمائه التي طالما غمرنا بها وبرحمته التي تشملنا وبفضله الذي يسعنا يعني أن يتعلق قلبه بالله فيمضي في الحياة على سبيل الله.. ولا نماري في صحة هذا الكلام جزئياً؛ لكنّ تحول هذه الفكرة إلى معيارٍ مقدس تحتكم إليه كلُّ فكرة أخرى تُقدّم للطفل عن الله؛ إذ صار كثيرٌ من التربويين ينصحون بتغييب فكرة النار عن الطفل كي لا يخاف وينفر من الإله (الكيوت) الذي يريدون صنعه لأطفالهم إذ لا يمكن للإله المحبوب أن يعذب أحدا في النار بل لديه جنة تسع المخلوقات جميعاً! هذا التحوّل هو الدافع إلى هذه المقاربة التي تريد انتقاد الفكرة التي وصلت بأصحابها إلى القول بعدم تحفيظ الطفل أياً من آيات الله التي تصف عذابه أو ناره.

تناقضاتٌ صادمة:
تقدم هذه الفكرة سلسلة تناقضات قد تنفر الطفل من الله بدل أن تحببه إليه وذلك من خلال أنها:

* ترسم في ذهن الطفل صورة الإله (الكيوت) فإذا كبر أو اطلع بطريقة أو بأخرى على فكرة النار والعقاب والحساب وقع في صدمة أهم دعائمها تردد الأم وخوفها من اطلاع طفلها على هذه الحقيقة التي تجعله ينفر مما تخجل أمه ربما من إظهاره له!

* تقدم للطفل صورة الإله الضعيف إذ إننا لا نعيش في عالم تسوده العدالة ويحكمه السلام بل نعيش في عالم يسوده الظلم ويحكمه الطغيان، وبدل أن نقنع الطفل بالعدالة الإلهية التي تقتص من الظالم في الآخرة، إذا هي لم تفعل ذلك في الدنيا، فإن علينا كما يقول اللطف المتطرف أن نقدم له تلك الصورة الناقصة عن الله؛ فهو الذي خلق هذا الشر المستطير وترك كل هذا الظلم يطغى، ثم لم يقدم ميزانه كفة الحساب والعقاب لتستوي قيمة العدالة في الكون تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

كيف يمكن أن نخفي حقيقة العدالة الإلهية عن طفل لا يجد أبرد على قلبه من لجوئه إلى جبار السموات والأرض كي يقتص ممن هدم دياره وشرد أهله وقتل أباه أو أمه أو كل عائلته؟ كيف نخبئ حقيقة القدرة الإلهية عن طفل لا يجد أقوى من سهام المظلوم يرسلها دعوات على من سرق سعادته وشتت شمل نفسه؟! كيف يمكن للطفل أن يحب إلهاً لا يقيم العدالة ويعطي كل ذي حق حقه؟!

* تغفل هذه النظرة أهمية الخوف من الله الذي يمثّل رادعاً قوياً للنفس الإنسانية عن ارتكاب المعاصي ولولاه لوقع ابن آدم في بحر لجيٍّ من الخطايا.. ولأجل إخفاء هذه العقيدة يعمد أصحاب هذه الفكرة إلى كتم آيات العذاب ظناً منهم أنهم بذلك يجمّلون صورة الله في عيون أطفالهم، وينسى هؤلاء أن أجيالاً من الرعيل الأول كانوا يُستحفظون القرآن الكريم كاملاً بترغيبه وترهيبه، وكثيرٌ منهم يُتمُّ ذلك في السابعة أو الثامنة من عمره فلا تزداد قلوبهم المؤمنة إلا إيماناً، ولا تزداد نفوسهم المصدّقة إلا تعظيماً، فهل الهدف غرس العقيدة أو تضييعها؟

 كما يغفلون عن أن ميزان الترغيب والترهيب في القرآن الكريم دقيق يأخذ النفس الإنسانية بالتربية السليمة حتى تبلغ التسليم الذي بلغه الأنبياء الذين لم يكتفوا بالحب بل كانوا كما قال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء: 90].

ويربكني أن أفكر أننا قد نربي جيلاً كاملاً بدون عقيدة الخوف من الله فنُصدم بقلوبٍ متمرّدة لا تعظّم الإله ولا تخشاه، وتتطرّف في اللطف ميوعةً أو في الضلال استهتاراً.

أجل، ليس من الصحيح ترهيب الطفل من الله وتخويفه من الاحتراق بالنار على كل صغيرة وكبيرة، لكنّ إلغاء هذه العقيدة وكتم آياتها في المقابل ليس صحيحاً، بل إنّه لا يليق في تعريف الطفل على جبار السموات والأرض.

فليعرف أبناءنا الله يحبّونه كما أحبّهم واختارهم مسلمين، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ولنغرس في قلوبهم الرغبة والرهبة فلا يميلوا إلى أي طرف حائرين، وليرَ أبناؤنا في عيوننا تعظيم الله ومحبته، وفي سلوكنا الخوف من الله وتجنب محارمه، فيكسبوا هذه العقيدة الصحيحة التي جاء بها الأنبياء جميعاً؛ ملّة أبينا إبراهيم هوسمّانا مسلمين.

يا بنيّ اركب معنا.. أبٌ كريم وابن كافر

أمواج عاتية صاخبة تضرب بقاع الأرض، رعبٌ ووجلٌ يزلزلان القلوب، وسفينة نجاة واحدة تشق وجه الماء. هناك كان الأب العطوف على ظهر المركب يدعو الله وحده ويوجه المسير لما رأى فلذة كبده في الماء يبحث عن أيّة بارقة أمل يتعلق بها. ناداه مشفقاً ملهوفاً ليركب معهم ولا يصيبه ما أصاب الكافرين فيهلك معهم في الدنيا والآخرة، فكان رد الصبي الغافل أن سيلجأ لجبل يحميه، رد الأب سريعاً راجياً لابنه النجاة. لكن قضاء الله أسكت الولد العاق وغيبه الموج القاتل إلى غير رجعةٍ أبدا.

قصةٌ مهولة تدور أحداثها أمامنا في سورة هود كأننا نشاهدها صوتاً وصورة [1]. كلنا قرأ القصة وتأثر بها، لكنني لم ألمس العواطف العميقة فيها حقاً إلا بعدما رزقني الله نعمة الأمومة وأحسست بالمسؤولية العظيمة الملقاة على كاهلي ممزوجة بمشاعر الحب والشفقة والرأفة التي يودعها الله تبارك وتعالى فينا. فهمت لوعة نوح عليه السلام لما علم أن ابنه هلك مع الكافرين واختار لنفسه سبيلهم إلى آخر لحظة.

نوح، أحد أولي العزم من الرسل الذي مكث يدعو قومه تسعمئة وخمسين سنة لا يكل ولا يمل ولا يدع درباً للدعوة إلا سلكه، يفجع بابنه لا يؤمن به ولا يوقن بالله حتى وهو يرى عذابه الموعود بعينيه،{قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43].

كيف يمكن ذلك؟ هل يعقل أن يكفر ابن النبي الذي اصطفاه الله لرسالته وأيده بوحيه؟ في القصة دروس عظيمة وعبر للتأمل قد تشق على النفس لأول وهلة، لكنها سرعان ما تولد سكينة وطمأنينة تنسجم مع حقيقة الإيمان والعبودية لله جلَّ وعلا.

إنهم أبناؤنا
تعلمنا قصة نوح عليه السلام مبدأً أساسياً ومهماً في التربية وهو انفصال الابن عن والديه عملاً وتوجهاً، وتحمله لمسؤولية اختياراته ونفسه أمام ربه سبحانه وتعالى، فكُفر ابن نوح عليه السلام لا يعكس بأي حال نقصاً في تدين نوح أو التزامه بما أمره مولاه تعالى، إنما هو كافرٌ اختار لنفسه درباً لم يملك أبوه إنقاذه منه.

طفل صغير محاط بملابس والدته كناية عن التربية الوقائيةكثيراً ما يدخل الآباء والأمهات دون إدراك منهم متاهة اجتماعية مرسومةً لهم تنتهي بتوطين نفوسهم على خدعة أن أبناءهم ملكٌ شخصي لهم لا يحق لهم الانفصال عنهم أبداً. ولهذا شواهد كثيرة، تبدأ منذ الطفولة لما تجبر الأم صغارها على ارتداء ما يعجبها من الثياب، وتصرّ على مساعدتهم في كل صغيرةٍ وكبيرة من شؤونهم. وكذلك يستمر الحال ويتفاقم حتى تصير مسؤوليات الأبناء كلها ملقاة على عاتق الأم ويغيب حق نفسها عليها. قد تواسي نفسها بأنها مثال للتفاني وبأن أبناءها سيردوا لها الجميل لاحقاً، لكن عظم هذه الأخطاء يظهر بعد سنين حين تتحول هذه الأم التي كانت المشفقة الحنون إلى أم زوجٍ أو زوجة شديدة الغيرة لا تستطيع أن ترى سعادة لأبنائها بعيداً عنها، كأن زواجهم صدمها بحقيقة أنهم ليسوا جزءاً منها!

لا أقول هنا أن كل الأمهات كذلك، لكن غياب معاني الإيمان وإعطاء النفس حقها وتجديد النية لله في العمل  والتجرد له يؤدي لهذه العاقبة مع الأسف. فمهمات التربية عظيمة ومجهدةٌ فعلاً، وقد ترى الأم نتيجتها في حياتها وقد لا تراها، فهي في ذلك تعمل وتجدُّ مبتغية وجه الله والدار الآخرة، لا منتظرة من أبنائها حمداً ولا شكوراً. فهم في نظرها أمانة من الله عندها وفرصة لتستكثر من الخير لآخرتها عند من لا يضيع عنده مثقال ذرة.

إضافة إلى ذلك، فإن إمساك النفس عن التدخل في مهمات الأبناء وتصويبهم على الدوام قد يكون أصعب من العمل نفسه، خصوصاً مع ما عوّدنا عليه مجتمعنا وما صدرته لنا وسائل الإعلام من صور نمطية وتوقعات خيالية سواء عن دورنا التربوي أو عن حقوقنا على أبنائنا. فكثير من الآباء والأمهات يستثقلون ترك الابن يدرس بمفرده ويجد نتيجة عمله في الامتحان ويفضلون الإشراف بنفسهم على تدريسه ليكون الأول بين زملائه.

ومن المؤكد أن الأم ليست وحدها من تقع في هذا الخطأ، فكم من آباء عاقبوا أبناءهم بـ”الغضب” والطرد لما رفضوا دخول التخصص الذي أرادوا أو الزواج ممن اختاروا.

وأشبِّه هذا الخطأ التربوي بالمتاهة الاجتماعية لأن دخولها سهل لا يتطلب جهداً، إنما مجرد اتباع التيار، لكن النجاة منها تحتاج تحليلاً لما يدور فينا من أفكار وما تسبب في تكوينها على مر السنين إلى أن صرنا على ما نحن عليه اليوم. فكم من رسائل وصور تراكمت فينا حتى رسخت مبادئ وتوقعات مغلوطة صارت جزءاً من فكرنا وسلوكنا دون أن ندرك. وفي هذا المعنى يقول د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي أنه ينبغي أن نعي ما يردنا من مدخلات، ومن الضروري أن لا نترك مفاتيحنا في يد أهل الإعلام أو الإنترنت أو المجالس اليومية أو غيرهم، وذلك بتدريب النفس على مهارة التوقف والتفكير والعقل والتدبر [2].

ابن ضال لوالدين مستقيمين
قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].

أب وابنه يتبادلان أطراف الحديث وقت الغروبفرغم أهمية ما ذكرت من إعطاء النفس حقها وإمساكها في بعض المواضع عن تقويم خيارات الأبناء لتتدرب على انفصالهم عنها وتنمي استقلاليتهم وتحملهم لمسؤولية خياراتهم، فإن ذلك لا يعني أن على الأبوين أن ينسحبا من حياة أبنائهم ويتركا لهم الحرية المطلقة في كل الأمور، بل المراد تحقيق التوازن بين الإشراف والانسحاب. ومن المهم كذلك تأصيل المرجعية الحق في نفوس الأبناء ليعلموا ما العمل الذي يرضي الله وفيه سعةٌ للاختيار مما لا يرضيه تبارك وتعالى. يقول د. ابراهيم الخليفي أن علينا تعليم أبنائنا أنهم في كل لحظة مخيرين ليتعلموا مقارنة البدائل و تمييز الحق واختيار الفاضل ولو كان مراً على المفضول ولو كان حلواً [3].

ولذلك خطوات تبدأ بوعي الأبناء بحقيقة الوجود فهم ولدوا ليخلدوا بين انتقالات من ذر لرحم لدنيا لبرزخ لآخرة، وأن أمامهم في هذا الخلود السرمدي فرصةً قصيرةً ذهبية للعمل يتبعها الجزاء. والعدة للعمل هي معرفة ما يرضي الله سبحانه وتعالى وبناء الخيارات عليه [3].

والمهمة تختلف بحسب المرحلة العمرية للابن، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كخ كخ، ارم بها، أما علمتَ أنَّا لا نأكل الصدقة” [متفق عليه]، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الحسن بن علي بنفسه ويصوب له سلوكه برفق ولين وهو بعد طفلٌ صغير.

أما إن كان الأبوان قائمين بما عليهما تجاه نفسهما وأبناءهما ثم كتب الله لأحد هؤلاء الأبناء الضلال فهذا لا يطعن في الوالدين البتة. ولعل ذلك من أهم الدروس المستفادة من قصة نوح عليه السلام مع ابنه الكافر، فضلال الولد لا يدل على تقصير والده. وللدكتور إياد القنيبي كلمة طيبة في هذا المعنى يقول فيها إن الشيطان قد يأتينا من باب الصدق ومحاسبة النفس في حال النوازل حتى يجرنا إلى الإحباط واليأس [4].

إن انحرف ابنك أو ابنتك فلتحاسب نفسك ولتراجع سلوكك وتربيتك له ولتدارك الأمر ولتصلح فيما تبقى، لكن لا تشعر بالفشل أو القلق فتصير غير قادر على التعامل بحكمة مع هذا الابن أو إخوته. ورغم صعوبة تقبل فكرة أن ابناً لك قد يكون ممن لم يشأ الله أن يهديهم, تذكر{إِنَّكَ لَا تَهدِي مَن أَحبَبت} [القصص:56]، فاخضع لإرادة الله واقبل أن له سبحانه قدراً نافذاً قدّره قبل خلق الخلائق [4].

كلهم آتيه يوم القيامة فرداً
شخص يقف وحيدًاورغم ثقل وصعوبة حقيقة الأمر على الآباء والأمهات الحريصين على نفع أبنائهم، إلا أنها تبعث في النفس راحة وطمأنينة إلى عدل المولى سبحانه ورحمته بنا. فكلنا محاسبٌ عن نفسه مسؤول عن ذاته فقط، والله يملك هدايتنا وحسابنا جميعاً، فإن أدى المرء ما عليه أمام مولاه، كان أجره على العمل لا على نتيجته. يقول تبارك وتعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] فأعمالنا ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول، وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة [5]، ولم تذكر الآية نتيجة العمل أو ثمرته. فالمجاهد يثاب بخوضه غمار المعركة لوجه الله انتصر على العدو أم لم ينتصر، وقد قال سيد قطب رحمه الله: “الدعاة إلى الله أجراء عند الله أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا وقبضوا الأجر المعلوم، وليس عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير فذلك شأن صاحب الأمر ولا شأن الأجير” [6]. وسبحان الله كم يبعث الاستسلام له من راحة في النفس فهو سبحانه المتحكم بالخلق مالك نواصيهم، يضل من يشاء ويهدي من يشاء، و{مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ} [فصلت: 41].

ولذا كان رد نوح عليه السلام استسلاماً لإرادة مولاه سبحانه وانقياداً لقضائه لما علم حقيقة الأمر فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]. فيعلم العبد بذلك حده ومنتهى قدرته.

فلله الحمد كم في كتابه الكريم من عبر وفوائد، نسأل الله أن نكون ممن يعيها وينتفع بها. جعلنا الله أن نكون من أهل القرآن العالمين بمعانيه العاملين بما فيه، إنه قريب مجيب، بيده الخير وإليه يرجع الأمر كله سبحانه رب العالمين.


المصادر:

[1] سيد قطب، في ظلال القرآن

[2] د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي، مقالة بعنوان: ألف باء العلوم – الحلقة الثانية: موجز فقه التفكير والعقل / الجزء الأول. موقع مركز مكاني.

https://makany.world/

[3] د. ابراهيم الخليفي، مادة مرئية بعنوان: موسوعة الأسرة – كيف نعلم أبناءنا تحمل المسئولية https://www.youtube.com/watch?v=Wv6LOzJqneU

[4] د. إياد القنيبي، مادة مرئية بعنوان: ابني الضال مشروع حياتي. https://www.youtube.com/watch?v=PKMvQc-LUeU

[5] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم

[6] سيد قطب، معالم في الطريق