مقالات

إرهاب الفكر الباطني الحديث

يمكن تعريف الإرهاب على انه استخدام أساليب التخويف والترهيب تجاه شخص أو مجموعة، وهو ما يؤثر على الشخص بأضرار نفسية أو جسدية.

تعتبر الأنساق الفكرية من أهم الأسس التي يبنى عليها وجود وعقل الإنسان وحياته، بل إن الفكر هو الجوهر لكل شيء مدرَك، ويضع له المعنى المتصل بالروح والجسد والحياة والموت، إذ إن فكرة الوجود والحياة محل غموض وحيرة للإنسان، وهنا يحاول العقل أن يجيب عن هذه الحيرة التي يمكن أن نسيمها (حيرة الأسباب)، أي السبب في الحياة والموت والخير والشر والمرض والصحة..إلخ، فالإنسان في رحلة بحث عن معنى وأمل في الحياة.

إن الدين من أهم المنظومات الفكرية التي تنظم حياة الإنسان وتضع منهجية واضحة لفهمه وإدراكه للموجودات، كما أن قوة الحضارة أو الأمة تقاس بقوة عقيدتها سواء كانت دينية أو غيره، ونرى هذا في صفحات التاريخ في نهوض الدول قوة العقيدة وتمسك الناس بها، وسقوطها في بعد الناس عن العقيدة.

فالفكر يعطي المعنى والرؤية للإنسان ليس فقط للحياة ولكن لفهم نفسه كإنسان يتكون من روح وجسد وأعضاء ومشاعر وتاريخ وانتماء، وهذه المكونات تجتمع لتشكل هوية الإنسان، وكلما تطور فكر الإنسان ارتقى في داخله وازداد تقديره لنفسه، وينعكس هذا على فهم المحيط والبيئة ودوره ورسالته في الحياة.

 خوف الإنسان

لكل فكر أو دين أو عقيدة أو أيديولوجية مجموعة من المحرمات التي يعتبر فعلها شنيعًا ويجازى فاعلها ويعاقب عليه حسب تشريعِ كُلٍّ وطرق عقابه، وتعتبر الخطيئة هي السلوك الذي يخرج الإنسان عن الأعراف التي يجب أن يتبعها المجتمع في إطارات محددة في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الاجتماعية والزواج وغير ذلك.

ويعتبر الخوف من الأساليب التي تكون إيجابية في هذه الحالة، حيث إن الخوف من العقاب يشكل حاجزًا وعامل ردع نفسي للإنسان، فلا يسعى للخروج عن الإطار الفكري ويتقصد الحفاظ على الرابط الاجتماعي، وهذا الرادع النفسي –أي الضمير- يعتبر جهاز إنذار يبعد الإنسان عن ارتكاب الأخطاء، وإذا استخدم الإنسان الخوف خارج هذا الإطار، فإنه سيتحول إلى أداة ابتزاز أو جريمة في حق الإنسان، خاصة إذا كان هذا الابتزاز عاطفيًّا وتستغل فيه أساليب التسويق بشكل واسع، وذلك على غرار الأشخاص الذين يدعون أنهم أخصائيون في علوم الطاقة والروحانيات، وأنهم يشكلون أساليب جديدة في معالجة الوعي البشري ومواجهة هموم الإنسان.

ويجب الإشارة هنا إلى أننا نتحدث عن نوع محدد من الدجالين، وهم الذين يدعون أنهم يمارسون قدرات التأثير في الطاقة وأنهم متخصصون في علومها، من خلال المجاهدات الروحانية، وهم بطبيعة الحال ليسوا متخصصين علماء كالأخصائيين النفسيين أو الفيزيائيين.

يدّعي هذا النوع الجديد من الحركات الباطنية أنه يسعى لرفع وعي الناس وإخراجهم من عالم الظلمات إلى عالم النور والوعي من خلال الممارسات الروحانية مثل اليوغا وتنظيف الجسد الأثيري والعديد من المسميات التي تختلف من شخص إلى آخر، إلا أنها جميعها في النهاية تتقابل في بوتقة واحدة، وهي الغنوصيّة الباطنية بشكل معاصر.

زرع الخوف من خلال ممارسة الوعي الروحاني

تحدث الأستاذ أحمد دعدوش في حلقتين في قناة السبيل على اليوتيوب بعنوان الروحانيات الباطنية الجديدة وحركة العصر الجديد والتنمية البشرية وحركة العصر الجديد، المدربون العرب حيث شرح هذا الفكر من المنظور الديني الإسلامي وخطورته على العقيدة الإسلامية، -ولذا أنصح بالرجوع لحلقات الأستاذ أحمد دعدوش- لفهم تاريخ الفكر وجذوره اختصارًا للعديد من النقاط.

وبدوري سأحاول شرح هذا الموضوع من منظور نفسي واجتماعي أكثر لكي يكون لدينا زوايا مختلفة لفهم إيجابيات وسلبيات هذا الفكر الباطني الحديث، ولا شك أن من أهم احتياجات الإنسان هو الغذاء الروحي الذي يجعله في سكينه وطمأنينة، فالروح لها غذاء كما للجسد غذاء من طعام وللعقل غذاء من معرفة وعلم، وإذا اختلف أحد هذه المكونات الرئيسية اختل توازن الإنسان.

بعد ضعف التأثير الديني في العالم العلماني والمادي، أصبح العالم يبحث عن العلوم الروحانية وعلم الطاقة والباطنية والترويج لها في كتب أو معلمين روحانيين أو ممارسين..الخ، مما فتح مجالًا أوسع للدجل والاحتيال على عقول الناس بشكل عصري.

لننظر إلى الأمر من ناحية أخرى، إن زيارة قبور أولياء الله وأصحاب الكرامات والاستغاثة بهم شخصيًّا فيه جهل وابتعاد عن شرع الله، فيجب –بكل تأكيد- النظر إلى هؤلاء المدربين على أنهم دجالون يرتدون ربطات العنق العصرية، بل لعل أحدهم أكثر إقناعًا من شيوخ التصوف، والفرق بين صاحب الكرامة في الصوفية والمدرب الروحاني هو اختلاف الطبقة أو المظهر الاجتماعي، فالأول يتبعه –في الغالب- البسطاء من الناس أما الثاني فيستهدف الأثرياء والمقتدرين.

في أغلب المجتمعات الفقيرة التي ينتشر فيها الجهل نجد سيطرة مفاهيم معينة كقوة العين والسحر والشعوذة، فيحاول الإنسان حماية نفسه بالطلب ممن يرى فيه الكرامة والولاية، ونحن هنا لا ننكر وجود قوة العين والسحر كما أشير إلى ذلك في القرآن والسنة، وإنما ننتقد تضخيم الموضوع وجعله مدخلاً للدجاجلة ليسيطروا على عدد كبير من المساكين، فيشرح لكلٍّ نوع السحر أو العين التي أصابته، ويبين له مدى صعوبته، ويكثر عليه الطلبات التي يحتاجها ليفكّ عنه ذلك الأثر، ادعاءً منه أنه الوسيط بين الشخص والله.

وهنا يتكرر السيناريو ذاته عند المعلمين الروحانيين بطريقتهم الحديثة، فمنصات التواصل مليئة بمثل هؤلاء، حيث يبدأ (الروحاني) بأسئلة بديهية بأسلوب يشعرك أنك حالة نادرة أو عويصة، وبعد ذلك يقنعك بأن عدة مخاوف وأنواع من الصدمات زرعت من الطفولة ومشاعر مرتبطة في الجسد المشاعري ويجب أن يزيلها، وبالطبع فإن كل هذا يحتاج لمبالغ مالية لا تقل عن ١٥٠ دولار كبداية، ومن هنا ندرك كيف يزرع الخوف في داخل الإنسان ويضخمه بطريقة تقنع الشخص أنه يريد حماية المتحدث إليه.

وعندما نغوص في المجتمع العربي والإسلامي نجد أن الموضوع متطور وأكثر تعقيدًا من ذلك، بل إن مثل هذا الشخص يرى نفسه أنه قد صار وسيطًا بين الإنسان والله، فهو يعرف كيف يخرج الذنوب العالقة التي تؤثر على ما يسمونه “كارمة” الإنسان حسب زعمهم وعلاقته بربه، وهذا شيء خطير، فكيف تتسلل هذه الأمور داخل الفكر الإسلامي؟.

إن الملفت للنظر أن هذا الفكر الباطني ليس بحديث البتّة، بل هو عبارة عن انتقال أفكار معينة من حضارات لأخرى، ولكن بشكل مختلف، فينتقل من الهندوسية الهندية، إلى بعض فرق الصوفية والإسماعيلية وغيرها، وهي كذلك الآن تحاول الانتشار في أي مجوعة سواء صغيرة أو كبيرة، ونلاحظ أن الجوهر واحد ولكن الهيكل الخارجي مختلف.

هذه الأفكار هي في جوهرها نافذة جديدة لفهم النفس والروح والحياة في العصر الحديث عند الكثير من الناس في العالم، وقد أصبح هؤلاء المدربين فقهاء وفلاسفة هذا الفكر الباطني، وهذا ما يجعل الأمر أكثر خطورة، فهل الإنسان العصري سيرى رحلة حياته من منظور الوسيلة والغاية والقضاء والقدر أم سيراها في ارتقاء الوعي الباطني والانفصال عن الواقع.

الترويج للفكر الباطني

انتشرت في الآونة الأخيرة مقاطع كثيرة لهؤلاء المدربين على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف ترويج أفكارهم وانتساب أكبر عدد ممكن للدورات التي يقيمونها، ومما يلفت النظر كيفية شرح المواضيع المتعلقة بصورة الإنسان لذاته، فالإنسان لديهم يتكون من عدة أجساد كالجسد الأثيري والمشاعري وغيره، وأن الذنوب تلتصق بجسد محدد وهذه الجلسات التي يروج لها بعضهم تزيل الذنوب بينك وبين الله، وهناك العديد من الأفكار المتشابهة من شخص لآخر، فبعضهم يحسن علاقتك مع الله وبعضهم يفتح لك مسارات كونية تجلب لك الرزق والصحة … الخ.

بكل اختصار فإن هؤلاء المدربين لا يعطون الدواء، لكنهم يجيدون فن الاستفادة من السامع وخداعه، وبالطبع فإنهم سيطلبون الكثير، وكل واحد منهم يريدك أن تتمسك به أكبر فترة ممكنة لكي يستفيد ماليًّا إلى أقصى درجة، بدءًا من ادعاء تخلية المشاعر السلبية وتنظيف الكارما من الذنوب وجلسات إزالة الصدمات وزيادة جذب الرزق وغير ذلك من الأمور الخرافية ولكن بشكل حديث ومنمق، والمغزى من كل ذلك البحث عن المال والشهرة والسلطة.

يمكن اعتبار هذه الخرافات طريقًا لزيادة اضطراب الإنسان العصري وجدانيًّا وعاطفيًّا، وقد قابلت العديد من الحالات التي جعلتني أتأمل أحوالهم، حيث كان أغلب هؤلاء الأشخاص يرددون كلامًا غير مفهوم وكأنه عبارة عن شريط مسجل، إلى جانب أنهم في حالة قلق دائمة رغم أنهم يقنعون أنفسهم بأنهم على ما يرام وهم عكس ذلك، وهذا المشهد يذكرني بمشهد من نوع آخر وهم بعض الغلاة من طرق التصوف الذين يبالغون في العبادات والاذكار بهدف الوصول لحالة معينة من الاتحاد أو النشوة، وهم في هذا يتشابهون مع تعاليم اليوغا التي تريد إيصال الإنسان إلى حالة معينة من الانفصال عن الوجود الحقيقي.

وإذا لاحظنا أماكن انتشار هذه الأفكار الروحانية الحديثة فإنها غالبا ما تكون داخل المجتمعات المتمدنة التي لا تعيش المعاناة الحقيقة وتقتصر على الطبقات المقتدرة والغنية، مثل الدول التي تعاني من إبادات وحروب  فهم يعتقدون أن حدود العالم هي المدينة التي يعيشون فيها.

لا يمكن إنكار أن الإنسان يحاول الوصول للسكينة الداخلية وتنمية الجانب الإيجابي منه روحانيًّا، وهذا شيء مهم جدا، خاصة من خلال الالتزام بالعبادات والفرائض والتعاليم الدينية، ولكن الانغماس في التأملات والانفصال عن الواقع يزيد في إيهام النفس بما لا يتوافق مع الحقيقة.

الوعي الحقيقي

إن بداية الوعي الحقيقي الداخلي تطلق من فهم الإنسان لعيوبه وتصحيحها، وفهم الإنسان لمخاوفه ومحاولة تجاوزها، وفهم الإنسان لمشاعره وأفكاره، ومن أهم مراحل الوعي الخارجي إدراك الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وفهم التاريخ والثقافة والمخاطر الخارجية وتجنبها.

كل هذه الأمور بدورها توجه الإنسان نحو هدفه في الدنيا ومحاولة البحث عن سبل، فالحقيقة أن هذه الحياة تحتاج العمل الدؤوب لا الركون إلى التعاليم الوثنية والتأملات المؤثر سلبًا في درجات الوعي.

ولنضرب مثالاً بسيطًا، فلو أنني أردت بناء بيت ما، فلن يفيدني جميع أصحاب علوم الطاقة والوعي الروحاني بقدر ما سيفيدني المهندسون والعمال المتمرسون في البناء،

في مجتمعنا العربي والإسلامي نرى تقصيرًا كبيرًا من بعض المشايخ الذين ينفصلون عن الواقع ويقصرون مجال نشاطهم بعيدًا عن فهم التغيرات الجارية في الدنيا، إلى جانب فئات أخرى كالأدباء والشعراء والفنانين الذين يركزون على جوانب لا تفيد حياتنا المعاصرة، وإذا أردنا أمة قوية فلا يمكن لمجموعة من العشاق والمكتئبين والمتبتلين أن يقودوها، بل يجب أن تقودها نخبة ممتلئة بالإيمان والتقدم التقني والحضاري وحب الإنجاز.

إن إرهاب الفكر الباطني الحديث يبدأ بطغيان هذه المفاهيم على نظرة الإنسان لذاته ودينه وواقعه وبالتالي ستغير توجهه في الحياة وإدراكه لغايته منها، والإنسان هو الكنز الأهم في الوجود، فهو الذي تبدأ منه الأسرة والأمة والحضارة.

لدينا العديد من المشكلات في الحياة ومتطلبات الحياة في تزايد سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي أو العالمي، ودور الأبطال هنا المبادرة في حل هذه الإشكاليات وليس التبتل والجلوس للوصول لحالة من السكينة والانفصال عن الواقع، رغم أنه لا يمكننا إنكار الجانب العلاجي النفسي والإرشاد النفسي بل هو جانب مهم جدًّا خاصة في عصر المادة ولكن من قبل المختصين وليس صانعي الوهم.

طائفة البهرة.. عقائدهم وعباداتهم (2 من 3)

الحديث عن العقيدة الإسماعيلية ليس سهلا مثل الحديث عن العقائد الثابتة، إذ أن كثيرا من أصول المذهب الإسماعيلي أصبح نظريا فقط، بمجرد أن أصبحت للإسماعيلية دولة سياسية، وتدخلت التنظيمات السياسية في العقيدة، فكيّفتها حسب ما أملته الظروف السياسية.

الآغان خان الرابع
(موقع منظمة آغا خان)

ومن هذه الأصول القول بضرورة وجود إمام معصوم منصوص عليه من نسل محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، والنص على الإمام يكون من الإمام الذي سبقه، ومن الغريب أن أئمة الإسماعيلية أنفسهم لم يحترموا هذا الأصل لا في العصور القديمة ولا في عصرنا الحديث، فالمعز لدين الله الفاطمي نص على ولاية ابنه عبد الله من بعده، ولكن عبد الله توفي في حياة أبيه، فنص المعز مرة أخرى على ولاية ابنه العزيز، فخالف بذلك الأساس الذي قامت عليه الإسماعيلية في أن الإمامة لا تنتقل من أخ إلى أخ، إنما من أب إلى ابن. وفي عصرنا حرم آغاخان الثالث ولديه علي خان وصدر الدين خان من الإمامة، ونص على حفيده كريم وهو الإمام الحالي للطائفة النزارية.

ولا تزال الإمامة هي المحور الذي تدور عليه كل العقائد الإسماعيلية، ذلك أنهم جعلوا ولاية الإمام الركن الأساس لجميع أركان الدين، فدعائم الدين عندهم وعند طائفة البهرة بشقيها هي: الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والولاية. على أن الولاية هي أفضل هذه الدعائم. فإن أطاع الإنسان الله تعالى ورسوله الكريم، وقام بأركان الدين كلها، وعصى الإمام أو كذب به فهو آثم في معصيته، وغير مقبولة منه طاعة الله ورسوله[1].

وحذا البهرة والإسماعيليون عموما حذو الجهمية في نفي أسماء الله تعالى وصفاته، فيقول المفسر الإسماعيلي ضياء الدين السليماني: “الحمد لله المتعالي عن السماء والأسماء، والمتقدس أن يكون له تعالى حد أو رسم”[2].

ويقول حميد الدين الكرماني -أكبر فلاسفة الدعوة الإسماعيلية-: “إن اسم الإلهية لا يقع إلا على المبدع الأول”[3] وهذا المبدع الأول، أو العقل الكلي، هو الذي رمز إليه الله تعالى بالقلم في الآية القرآنية: {ن والقلم وما يسطرون}. وبمعنى آخر: إن ما يقوله المسلمون عن الله سبحانه وتعالى خلعه الإسماعيلية على العقل الكلي، فهو الإله عند الإسماعيلية، وإذا ذكر الله عند الإسماعيلية فالمقصود هو العقل الكلي. إذا عرفنا ذلك، استطعنا أن نقول إنهم لم يأتوا بهذه الآراء الفلسفية عبثا، بل جاؤوا بها لإسباغ صفة خاصة على الإمام، ذلك بأنهم ذهبوا إلى أن العقل الكلي في العالم العلوي يقابله الإمام في العالم الجسماني، ومعنى هذا عندهم أن كل الأسماء والصفات التي خلعت على العقل الكلي، هي أيضا صفات وأسماء للإمام، لأن الإمام مثل للعقل الكلي [انظر مقال الغنوصية].

لذا قال الشاعر الإسماعيلي ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله الفاطمي:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار   …..  فاحكم فأنت الواحد القهار

وقال الشاعر أبو الحسن الأخفش في مدح الآمر بأحكام الله:

بشر في العين إلا أنه …    عن طريق العقل نور وهدى

جل أن تدركه أعيننا   ….   وتعالى أن نراه جسدا

ندرك الأفكار فيه بانيا ….    كاد من إجلاله أن يعبدا

وتعتقد طائفة البهرة كبقية الشيعة أن الإمامة من حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنها اغتصبت منه، ويقولون في إحدى رسائلهم: “إن الأمة لما افتتنت بعد نبيها، وأشهرت كل طائفة منهم سيفها، وقال بعضهم: منا أمير، ومنكم أمير، قال كبيرهم -يقصدون أبا بكر رضي الله عنه- في أول قعوده: وليت عليكم ولست بخيركم.. وقال صاحبه عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى الله شرها. وأقر أبو بكر على نفسه بالشك، فقال: إني وددت لو أني سألت رسول الله لمن هذا الأمر من بعده، والإمام الحق لا يشك في نفسه، ولا يرجع عن أمره، ولا يندم أنه غصب على حقه، بل يثبت مستمرا على شأنه، مفصحا عن محله ومكانه، هاديا مهديا، متبوئا من العصمة مكانا عليا كما فعل علي”[4].

داعي البهرة يلقي درسا على أتباعه
[NoorAlavi/wikimedia]

وتعتقد طائفة البهرة كبقية الإسماعيليين بوجود إمام يعيش في الخفاء ولا يخلو زمان من الأئمة المستترين، بينما يقوم الداعي المطلق بالدعوة العلنية نيابة عن الإمام، والإشراف الروحي على الطائفة، وهو مصدر السلطات التي يحتكم إليها أتباع الطائفة في جميع شئونهم.

ومن الواجبات المحتمة عندهم سجودهم لداعيهم، ومما يؤيد إصرار الداعي على سجود أفراد طائفته له، تلك المرثية التي رثى بها الداعي الحالي لطائفة البهرة الداؤودية  الدكتور محمد برهان الدين والده الداعي السابق (طاهر سيف الدين)  حيث يقول:

سجدت له دأبا وأسجد دائما  ….    لدى قبره مستمتعا للرغائب

وعقيدتهم في الظاهر لا تختلف عن عقائد المسلمين، أما عقيدتهم في الباطن فهي بعيدة كل البعد عن عقيدة أهل السنة والجماعة. فهم مثلا يؤدون الصلاة كما يؤديها المسلمون، وإن كانوا لا يصلونها إلا في “الجامع خانة” وهي أماكن العبادة الخاصة بهم، وقد لاحظت ذلك من خلال مراقبتهم في المسجد النبوي، ومسجد الحسين بالقاهرة، إذ كانوا يأتون للمسجدين بعد صلاة العصر زرافات ووحدانا، وقبيل أذان المغرب يتسللون لواذا، وإذا اضطروا إلى الصلاة مع أهل السنة فإنهم يصلون بنية الإفراد أو الإعادة، ولا يصلون الجماعة إلا بوجود إمام معين من قبل الداعي، كما لا يصلون الجمعة بحجة عدم وجود إمام عادل.

ولهم صلوات عديدة مثل: صلاة ليلة السابع عشر من شهر رجب، وعدد ركعاتها اثنتين وعشرين ركعة، وصلاة ليلة الخامس عشر من شهر شعبان وعدد ركعاتها أربع عشرة ركعة، وصلاة ليلة الثالث والعشرين من رمضان وعدد ركعاتها اثنتي عشرة ركعة، يرددون فيها: يا علياه سبعين مرة، ويا فاطمتاه مئة مرة، ويا حسناه مئة مرة، ويا حسيناه تسعمائة وسبع وتسعين مرة.

ويذهبون إلى مكة لتأدية الحج في موسمه، شأنهم في ذلك شأن جميع المسلمين، ولكنهم يقولون إن الكعبة التي يطوف حولها الحجيج هي رمز للإمام.

ولا يقبل الحج إلا إذا كان بصحبة الداعي أو من ينيبه من الدعاة، وغالبا ما يخالفون أهل السنة والجماعة في وقت الوقوف بعرفة، فإما أن يتقدموا عليهم يوما أو يتأخروا يوما، اعتمادا على حساباتهم الفلكية الخاصة. وإذا لم يتمكن البهرة من الوقوف بعرفة على وفق حساباتهم، فإنهم يقلبون حجهم إلى عمرة.. هذا في الظاهر.. أما في الباطن فهم يؤولون فريضة الحج تأويلا فاسدا كبقية الإسماعيليين. يقول السجستاني (أحد دعاتهم): “حج البيت هو: قصد إمام الزمان، مفترض الطاعة، والغرض من حج البيت معرفة الأئمة، والمراد من الزاد والراحلة في الحج: هو العلوم، ودليل معرفة الإمام. والإحرام هو اعتقاد معرفة الإمام”[5].

أما الصيام فيؤولونه تأويلا باطنيا. يقول الداعي الإسماعيلي السجستاني: “الصوم هو الصمت بين أهل الظاهر، وصوم شهر رمضان هو ستر مرتبة القائم، ومن شهد منكم الشهر فليصمه، أي: من أدرك زمان الإمام فليلزم الصمت”[6].

وكذلك بقية العبادات وإن عملوا بظاهرها أحيانا، فإن هذا العمل مؤقت بظهور القائم، فإذا ظهر القائم “تخلص المؤمنون من الستر والكتمان، وقدروا على كشف مذاهبهم، وجب رفع هذه الشريعة التي هي سمة الستر والكتمان”[7].


الهوامش

[1] – انظر: د. محمد كامل حسين: طائفة الإسماعيلية، ص 147-156. باختصار.

[2] – ضياء الدين السليماني: تفسير مزاج التسنيم، ص/ 5.

[3] – الكرماني: راحة العقل، ص 195.

[4] – الهداية الآمرية في إبطال دعوى النزارية: تصحيح آصف بن علي أصغر فيضي، ص 10-11.

[5] – الداعي الإسماعيلي السجستاني: الإفتخار، ص 149.

[6] – السجستاني: الإفتخار، ص 126-127.

[7] – السجستاني: إثبات النبوات، ص 182.

البهائية وتأويلاتها الباطنية للقرآن الكريم (2 من 2)

بنت البهائية قواعد مبادئها -كغيرها من الفرق الباطنية الغالية- على التأويل الباطني، فأولوا “النبأ العظيم” في قوله تعالى “عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ” [النبأ: 1-5] بأنه ظهور البهاء وظهور دعوته التي سيختلف فيها الناس[1].

بينما تؤولها طائفة الإسماعيلية تأويلا مغايرا، فقال الداعي الإسماعيلي جعفر بن منصور اليمن: “المراد بالنبأ العظيم: صاحب الزمان –الناطق السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق- مستجاب أهل السموات والأرض إذا نزلت بهم نازلة”[2]، وهل كان مشركو مكة مختلفين في أمر علي كرم الله وجهه وأمر البهاء، أم في أمر البعث والجزاء كما دلت على ذلك الآيات التالية من السورة؟ ثم إن هذا التأويل المتناقض للفرق الباطنية يدل على أن كل طائفة تؤول بما شاء لها الهوى، كما يدل على أن البهائية ليست إلا امتدادا للباطنية القدامى، الذين لا يؤمنون بقرآن، ولا سنة، ولا دين، وإنما يتخذون من تأويل النصوص معاول لهدم الإسلام.

وأولوا الخروج في قوله تعالى: “واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب. يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج” [ق: 41-42] فقالوا: إن المراد بالخروج: خروج البهاء[3].

وفي تأويله لآيات من سورة الانفطار قال البهائي أحمد حمدي آل محمد: “إذا السماء انفطرت”: أي سماء الأديان انشقت، “وإذا الكواكب انتثرت” أي رجال الدين لم يبق لهم أثر.

“وإذا البحار فجرت”: أي فتحت القنوات كقناة السويس التي وصلت بين البحرين، “وإذا القبور بعثرت”: أي فتحت قبور الآشوريين، والفراعنة، والكلدانيين، لأجل دراستها[4]. وهذا مخالف لتأويل البهاء نفسه، إذ قال في تأويلها: “إن المقصود هنا سماء الأديان التي ترتفع في كل ظهور، ثم تنشق وتنفطر في الظهور الذي يأتي بعده، أي: أنها تصير باطلة منسوخة”[5]، بينما أولها الداعي الإسماعيلي أحمد حميد الدين الكرماني بقوله:”إذا السماء انفطرت“: قالوا في التفسير أي أهل الظاهر: انشقت، ونقول: أي أهل الباطن تبطل أحكام الشرائع. “وإذا الكواكب انتثرت” أي تبطل مقامات الحدود في دين الله”.

ألا تعطي هذه التأويلات المتناقضة صورة واضحة لمنهج الباطنيين المعوج في التلاعب بآيات القرآن حسب أهوائهم، فليس لتأويلاتهم قواعد ثابتة، أو أصول راسخة، مع زعمهم أنهم يأخذون عن المعصوم، كما أنهم لم يلتزموا بقواعد التفسير أو التأويل التي اتفق عليها العلماء الثقات. ثم إن الآيات السابقة لا تؤيد مدعاهم، فقد افتتحت السورة بتوقيت يوم الحساب بأشراط وعلامات كاختلال نظام العوالم، ثم وعظت المشركين ولفتت أنظارهم إلى ضرورة النظر في الأسباب التي حرفتهم عن التوحيد، وأبطلت دعاوى المشركين المنكرين للبعث والجزاء، وخلصت إلى بيان جزاء الأعمال الصالحة بإيجاز، وأطنبت ببيان جزاء الأعمال الفاجرة، لأن مقام التهويل يقتضي الإطناب فيه، ثم آيسهم من أن يملك أحد لأحد نفعا، أو ضرا، وأن الأمر يومئذ كله لله تعالى، فليس في السورة ما زعموه بتأويلاتهم الباطلة، التي لا سند لها سوى الهوى الآثم، والكذب والافتراء على الله.

ميرزا حسين الملقب بالبهاء

وانظر تأويل البهائية لآيات من سورة التكوير إذ قال البهائي أحمد حمدي آل محمد في تأويلها “إذا الشمس كورت“: أي ذهب ضوؤها. “وإذا النجوم انكدرت“: أي أن الشريعة الإسلامية ذهب زمانها، واستبدلت بشريعة أخرى. “وإذا الجبال سيرت“: أي ظهرت الدساتير الحديثة. “وإذا العشار عطلت“: أي استعيض عنها بالقطارات. “وإذا البحار سجرت“: أي أنشئت فيها البواخر. “وإذا النفوس زوجت“: أي اجتمع اليهود، والنصارى والمجوس على دين واحد فامتزجوا، وهو دين الميرزا حسين الملقب بالبهاء. “وإذا الموؤدة سئلت”: وهي الجنين يسقط هذه الأيام فيموت، فيسأل عنه من قبل القوانين لأنها تمنع الإجهاض. “وإذا الصحف نشرت“: أي كثرت الجرائد والمجلات. “وإذا السماء كشطت”: أي انقشعت الشريعة الإسلامية ولم يعد أحد يستظل بها، وعطلت أحكامها. “وإذا الجحيم سعرت“: لمن عارض البهاء. “وإذا الجنة أزلفت“: أي لأتباعه المؤمنين من البهائيين[6]“.

بينما أولها الداعي الإسماعيلي أحمد حميد الدين الكرماني بقوله:”إذا الشمس كورت” أي: ذهبت آثار شرائع الأنبياء، التي هي كالضوء من الشمس. “وإذا النجوم انكدرت” أي: تسقط مراتب الحدود حتى لا يبقى لها أثر. “وإذا الجبال سيرت” أي: استخدم الجبارين في الأرض، فيكونون كلهم طائعين لصاحب القيامة. “وإذا العشار عطلت” أي: أبطل التعليم بإزالة الحدود من رتبهم.

وإذا الوحوش حشرت” أي: جمع من على وجه الأرض على الطاعة. “وإذا البحار سجرت” أي: أقيمت حدود ظاهر الشريعة، وأعيد ما كان محذوفا منها من كلام المبتدعين والأبالسة، ويكون ذلك في الوقت المعلوم. “وإذا النفوس زوجت” أي: وجمع كل إلى قرينه وشبيهه من المنافقين والمجرمين. “وإذا االموءودة سئلت بأي ذنب قتلت” أي وسئلوا بأي حجة أخر من أخر من حدود الله عن مراتبهم، وقدم عليهم غيرهم. “وإذا السماء كشطت“: أي محي ذكر أئمة الضلال من القلوب، بإبطال دورهم. “وإذا الجحيم سعرت“: أي أقيمت آية وعيد الله للمعاندين لأمره من حجة صاحب القيامة. “وإذا الجنة أزلفت”: أي أقيمت موائد الله للمتقين في الدنيا والآخرة.

وفي الحقيقة لا نجد في هذا التأويل سوى سخافة وهذيان من ورائه نحل ضالة تحارب الإسلام، وتعمل جاهدة للتشويش على عقائد المسلمين. ثم إن الآيات التي حملوها ما لا تحتمل، فقد “ذكر فيها وقت قيام الساعة، وعلامات حضورها، والبعث، والحساب، والجزاء، وإثبات أن القرآن الذي أنذرهم بذلك وكذبوه، هو كتاب من عند الله، وتبرئة النبي صلى الله عليه وسلم من بعض ما وصمه به المشركون، من أنه ينطق بكلام الجن، وذكر ذلك الوقت، والإطناب فيه، أسلوب من أساليب تحقيقه في النفوس، وتصديق من أخبر به”[7].

ويرى البهائيون أن قوله تعالى: “ثم إن علينا بيانه” [سورة القيامة: 19] تصريح من جانب الحق بأن تأويله لا يظهر إلا عن طريق شخص يصطفيه الله للقيام بذلك، وهو البهاء[8]. بينما يستدل البابيون أن المقصود بالآية هو “كتاب البيان المقدس”. فالصحابة الكرام، والتابعون لهم بإحسان، والمفسرون، والفقهاء، والعلماء، والمفكرون، كانوا حسب زعمهم محجوبين عن فهم هذه الآيات على وجهها إلى أن جاءهم هذا البهاء.

ثم إن هذه التأويلات البعيدة الغريبة، لا تدل عليها اللغة، ولا يشهد لها ظاهر الكلام، ولا سياقه كما تبين لنا تعارض وتناقض الفرق الباطنية في تأويل الشيء الواحد، وأن هذه الفرق اتخذت من التأويل الباطني الفاسد خطة منهجية في حربها على الإسلام[9].

وأول البهائي أحمد حمدي الشجرة المباركة في قوله تعالى “يوقد من شجرة مباركة” [النور: 35] بأنها: الميرزا حسين علي، الملقب بالبهاء.

وأول قوله تعالى: “يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة..” [إبراهيم: 27] فقال: الحياة الدنيا: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والآخرة: الإيمان بالميرزا حسين علي اللقب بالبهاء.

وأول قوله تعالى: “والسموات مطويات بيمينه” [سورة الزمر: آية 67] فقال: المقصود بها: الأديان السبعة: البرهمية، والبوذية، والكونفوشيوسية، والزرادشتية، واليهودية، والنصرانية، والإسلام، ثم قال: إنها جميعا مطويات بيمينه، أي بيمين الميرزا حسين[10].

وبعد مقارنة التأويلات البهائية بما سبقها من تأويلات باطنية، نجد أن البهائية تقوم على أطلال الباطنية، وأنهم يهدفون من خلال تأويلاتهم الباطنية الفاسدة لآيات القرآن الكريم هدمه بمعول التأويل المنحرف، بعد أن فشل أسلافهم من غلاة الباطنية في تحريفه، كما حرفت الكتب السابقة.


الهوامش

 [1]  – الحراب في صدر البهاء والباب: ص55

 [2]  – كتاب الكشف: ص 31.

 [3] – الحراب في صدر البهاء والباب، ص 56

 [4] – التبيان والبرهان: ج2/ ص 131.

 [5] – الإيقان: ص 31.

 “[6] ” – التبيان والبرهان: ج2/ ص 120-121.

 [7]  – تفسير التحرير والتنوير، جزء عم: ص 181.

 [8]  – الحجج البهية: ص85. وانظر تركيز الدكتور فلاح الطويل على هذا المعنى – الذي ذهب إليه الجرفادقاني – في كتابه: عالمية القرآن والرمزية فيه، ص 9، 37، 154، وغيرها

 [9]  – المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار : ج3/ ص 313.

 [10]  – التبيان والبرهان: ج2/ ص 100، 137.

البهائية وتأويلاتها الباطنية للقرآن الكريم (1 من 2)

عندما يكون هناك فراغ فكري تصبح الأمة نهبا للتيارات الوافدة عليها من كل حدب وصوب لملء الفراغ، وذلك على حساب عقائد الأمة التي يقوم عليها تراثها الفكري والحضاري، والأمة الإسلامية –بفعل عوامل عديدة لا مجال لبسطها في هذا البحث- عاشت حالة من الفراغ الفكري، سببه الرئيس الجهل بحقائق الإسلام ومبادئه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما مكن لكثير من الفلسفات المادية، والمذاهب الباطنية الهدامة، أن تجد لها مكانا في عقول بعض المسلمين، وتفسد عليهم تصوراتهم وما فيه حياتهم. وكانت البهائية من أبرز هذه المذاهب الخطيرة التي وجدت لها مكانا في ديار المسلمين، ولم تأت بجديد، إنما نبشت ما قبرته الأيام من ضلالات الإسماعيلية وغيرهم من الفرق والطوائف الباطنية الغالية “أي المتطرفة”، إضافة إلى ما ورثته من خرافات ديانة البابية.

الجذور التاريخية للبهائية
البهائية وريثةُ البابية التي تنتسب إلى الباب: علي محمد الشيرازي، والباب لفظة كثيرة التداول في أدبيات الفرق الباطنية، يطلقونها على بعض أركان دعواتهم، فالباب عندهم هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يوجد داخل البناء، فهو إذن واسطة للمعرفة، متخذين من حديث يتردد على ألسنة المسلمين يقول “أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها”[1] سندا لصحة مزاعمهم، ولم تشتهر هذه اللفظة بمثل ما شهرها به علي محمد الشيرازي، الذي أسمى نفسه الباب، وتبعه أناس تلقبوا فيما بعد بالبابية، وكان عدد من اجتمع حوله من كبار تلامذة الرشتي ثمانية عشر شخصا أطلق عليهم لقب أصحاب أو شهداء “حي”[2]، وأمرهم بالانتشار في إيران والعراق يبشرون به وبدعوته، وأوصاهم بكتمان اسمه حتى يظهره هو بنفسه، ثم عاد إلى إيران، وهناك أعلن عن دعوته، واشتهر اسمه، فثار المسلمون عليه، ثم جمع والي شيراز بينه وبين علماء إيران، فناظروه وأظهروا ما في دعوته من ضلال، فاعتقله الوالي في سجن شيراز، ولكن هذا الاعتقال لم يمنعه من الادعاء بأنه يوحى إليه، فقرر الوالي قتله لولا لجوء الباب إلى التقية، فأخفى معتقده وأظهر ما يخالف ذلك، ونفى أنه يزعم أنه واسطة بين الناس والإمام المنتظر، فأطلق الوالي سراحه، ليبدأ الدعوة لمذهبه من جديد، فأمر الشاه ناصر الدين باعتقاله، وفي معتقله ألف الباب كتابه “البيان”، وزعم أنه أوحي إليه به، وأنه ناسخ للقرآن الكريم، فثار عليه العلماء، وأصدر الشاه ناصر الدين أوامره بإعدام الباب، وعلقت جثته في ميدان عام بمدينة تبريز، ثم أخفى أتباعه جثته في تابوت ودفنوه خارج طهران، ثم نبشوا القبر وأخرجوا التابوت حين طلب عباس أفندي الملقب بـغصن الله الأعظم -نجل البهاء- نقل الجثة إلى ثغر “حيفا” في فلسطين حيث تم دفنه هناك[3]، ليصبح المكان فيما بعد قبلة للبابيين، ثم البهائيين، حيث تم دفن جثة بهاء الله بجوار الباب في بهجة الكرمل، على منحدرات جبل الكرمل.[4]

نشأة البهائية

مقر البهائية في حيفا تحت رعاية الكيان الصهيوني

البهائية نحلة ورثت البابية، لتعبد من دون الله “حسين علي بن الميرزا عباس المازنداني”، الملقب “بالبهاء”. عرف البهاء البابية على يد أحد دعاتها في طهران، وأصبح من كبار دعاتها. ولما دبر البابيون مكيدة لاغتيال الشاه ناصر الدين، تبين للحكومة الإيرانية أن للبهاء وإخوانه يدا في تدبير هذه المكيدة الفاشلة، فأودعوهم السجن ريثما يصدر الأمر بالقصاص منهم، إلا أن تدخل القنصل الروسي والسفير الإنجليزي لدى الشاه حال دون ذلك، فصدر الأمر بنفيهم إلى بغداد.

وصرح “بهاء الله” بأنه لم ينج من الأغلال والسلاسل إلا بجهود قنصل الروس، فقال في سورة الهيكل: “يا ملك الروس: ولما كنت في السلاسل والأغلال في سجن طهران نصرني سفيرك”[5].

وكان الباب قد أوصى بخلافته من بعده للميرزا يحيى الملقب بـ”صبح أزل”، وجعل أخاه الميرزا حسين “الملقب ببهاء الله” وكيلا له. وكاد البهاء بدهائه وبمساعدة بعض البابيين فرض زعامته على من تبقى من البابيين لولا حادث ذهب بأمانيه أدراج الرياح، وهو نفي البابيين من بغداد إلى إسطنبول وغيرها من البلاد، وذلك لأنهم يحتفلون في أول شهر المحرم من كل عام هجري بعيد ميلاد الباب، ففي أول المحرم من عام 1379هـ احتفل البابيون بهذا العيد، فاجتمعوا في حديقة تسمى “باغ رضوان”، أي جنة الرضوان، في جو مليء بمظاهر الفرح والسرور، فشق ذلك على الشيعة الإثني عشرية الذين يعتبرون هذا اليوم يوم حزن ومأتم، فاعتبروا فعلهم ذلك ازدراء بهم وبمعتقداتهم، ولولا تدخل الحكومة آنذاك، لفتك الشيعة بالبابيين، فاستقر الرأي على نفيهم من بغداد إلى إسطنبول التي لبثوا فيها أربعة شهور، ثم صدر الأمر بنفيهم إلى “أدرنة” وتسمى عند البهائيين بـ”أرض السر”، وفي أدرنة جهر البهاء بالدعوة إلى نفسه، ولفظ أخاه لفظ النواة، فوقع النزاع بين الشقيقين.

وانقسم البابيون إلى فرقتين: فئة انحازت إلى البهاء وتسمى: “البابية البهائية”، وفئة ظلت على عهدها مع الميرزا يحيى، الملقب بـ”صبح أزل” فسميت بـ”البابية الأزلية”، معتقدة أنه هو خليفة الباب، وأن “البهاء” ليس له من الأمر شيء إلا أنه وكيل الأزل ونائبه، فاحتدم الجدال ورأى “صبح أزل” أن الأمر سيفلت من يده، فدس السم لأخيه في طعامه، ولكنه نجا من هذه المكيدة، فشرع يراسل البابيين يدعوهم إلى اتباعه ويبين لهم أنه هو المنوه عنه في كتب الباب بـ”من يظهره الله”، بل هو الذي أرسله كما أرسل مظاهره من قبل، مثل: زرادشت، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، والباب. ولما أفضى الأمر إلى الجدال فالقتال بين الوكيل والأصيل، خشيت دولة الخلافة أن تضطرم بـ”أدرنة” نيران الفتنة، فاتفقت وسفير الشاه على تغيير منفى القوم، والتفريق بين الأخوين، فنفت “البهاء” ومن تبعه إلى مدينة “عكا” في فلسطين، وسجنتهم في قلعتها، ونفت “صبح أزل” وأتباعه إلى جزيرة قبرص، وسجنتهم في قلعة “فاماغوستا”، ثم أطلقت سراح الأخوين وأتباعهما فيما بعد، على أن لا يغادر أحد منهم منفاه.

عبد البهاء

ثم ادعى كل منهما أنه رسول مستقل، لا خليفة الباب ولا نائبه، وأن الله تعالى قد بعثه رحمة للعالمين بشريعة جديدة، ناسخة لما بين يديها من الشرائع، وجاء كل منهما بكتاب زعم أنه وحي من الله لتصديق دعوته وتكذيب دعوى أخيه، ولم يلبث أن خفت صوت “صبح أزل”، وتفرق عنه أشياعه، وقوي بالتالي أمر “البهاء” وامتد نفوذه، وبعد أن كان يدعي أنه خليفة الباب أصبح يزعم أنه المهدي، ثم ادعى النبوة، فالربوبية والألوهية، إلى أن هلك في ثاني ذي القعدة سنة 1309هـ الموافق لـ28 / 5 / 1892م، فخلفه ولده الأكبر الميرزا عباس، الذي تلقب في حياة والده بـ”غصن الله الأعظم”، وبعد هلاك أبيه بـ”عبد البهاء”، ولم يمض وقت طويل حتى غير عبد البهاء أحكام شريعة أبيه، وادعى النبوة، فالربوبية.

شذرات من أحكام شريعة البهاء
يزعم البهاء كسلفه الباب، أن شريعته ناسخة لما سبقها ولشريعة الباب كذلك، بل أنشأ دينا جديدا هو مزيج عجيب من العقائد السماوية والوضعية، كحل وسط بين الأديان، وكطريقة عملية لإشاعة السلام في الأرض كما يدعي، ففي البهائية آيات من القرآن الكريم، ونصوص من التوراة والإنجيل، واقتباسات من الهندوسية، والكنفوشيوسية، والبوذية. ويؤولون هذه الاقتباسات بما تقتضيه ديانتهم الجديدة، التي وصفوها بأنها لا تنتمي إلى ديانة معينة بالذات، ولا هي فرقة أو مذهب، وإنما هي دعوة إلهية جديدة، من شأنها أن تختم الدورة السابقة أي: الرسالة الإسلامية.

حكم الصلاة في كتاب الأقدس: “قد فرض عليكم الصلاة من أول البلوغ أمرا من لدى الله ربكم، ورب آبائكم الأولين، من كان في نفسه ضعف من المرض أو الهرم، عفا الله عنه فضلا من عنده، إنه لهو الغفور الكريم. ومن لم يجد الماء يذكر خمس مرات بسم الله الأطهر ثم يشرع في العمل، هذا ما حكم به مولى العالمين. وكتب عليكم الصلاة فرادى، قد رفع حكم الجماعة، إلا في صلاة الميت، إنه لهو الآمر الحكيم.”[6].

قبلة البهائيين: “إذا أردتم الصلاة ولوا وجوهكم شطري الأقدس، المقام المقدس- أي عكا- الذي جعله الله مطاف الملأ الأعلى، ومقبل أهل مدائن البقاء، ومصدر الأمر لمن في الأرضين والسموات”[7].

وفرض الحج على الرجال دون النساء، ولهم ثلاث مزارات يقدسونها ويحجون إليها: الأول: في شيراز، وهو المكان الذي ولد فيه الباب. والثاني: في بغداد، وهو المكان الذي جهر فيه البهاء بدعوته. والثالث: في عكا، حيث دفن بعد هلاكه.

وجعل البهاء الصيام تسعة عشر يوما في شهر العلاء، ويكون عيد الفطر عندهم موافقا: لما يسمى بـ”عيد النيروز”.

أما حكم الزكاة عندهم: فقد بينه البهاء في “الأقدس” فقال “والذي يملك مئة مثقال من الذهب، فتسعة عشر مثقالا لله فاطر الأرض والسماء، إياكم يا قوم أن تمنعوا أنفسكم عن هذا الفضل العظيم”[8].

وحرمت البهائية على أتباعها الجهاد، وفرضت على أتباعها الدعوة إلى السلام، وعدم اللجوء إلى الحرب والقتال.


الهوامش

 [1] – حديث مضطرب غير ثابت، كما قال الدار قطني في العلل، وقال البخاري: ليس له وجه صحيح. وقد أسهب العجلوني في الحديث عنه في كشف الخفاء ج1/ ص 213. “رقم: 618”.

 [2] –   الحاء بحساب الجُمَّل تساوي: “8”، والياء تساوي: “10” ويضاف إلى الرقم “18” الباب نفسه فيصبح العدد: “19” فصار هذا الرقم مقدسا عند البابيين والبهائيين. انظر: مسيلمة في مسجد توسان: ص 46. وقراءة في وثائق البهائية: ص 250، 251. والبابية عرض ونقد: ص 62.

 [3] –  انظر: مفتاح باب الأبواب ص 246-247.

 [4]  – انظر: الحراب في صدر البهاء والباب، ص 219.

 [5] – البابية، عرض ونقد، ص 63.

 [6] – انظر: الحِراب في صدر البهاء والباب: ص 272.

 [7] – انظر: الحراب في صدر البهاء والباب، ص 271.

[8] – انظر: الحراب في صدر البهاء والباب: ص 278.

الجمعيات السرية

تعود جذور الجمعيات السرية إلى عصور قديمة يصعب تتبعها، حيث يدعي بعض أعضائها اليوم انتسابهم لأنظمة وضعت أصولها منذ ما قبل التاريخ، بل يزعم آخرون -كما سنرى لاحقا- أن أول البشر آدم قد أسس بنفسه أولى جمعياتهم لتكون رديفا لسيرورة حياة البشر، وكأن هناك خطين متوازيين لا ثالث لهما يحكمان التاريخ، وهما مسار الحياة الظاهر بكل صراعاته وتذبذب صعوده وهبوطه، ومسار الأسرار الباطني الخفي الذي لا يزال يحتفظ بأسراره في أيدي “النخبة”.

وبما أننا نتحدث عن جمعيات تقوم على السرية والرمزية، وهي تعترف بذلك وتتشبث به، فنحن إذن أمام مادة غامضة للبحث، فليست هناك مصادر موضوعية أو أكاديمية يمكن الوثوق بها كما هو الحال في أي مادة أخرى تخضع للدراسة، وهذا هو السبب الذي يدفع الكثير من الجامعات لرفض مقترحات الطلاب بتقديم أطروحات علمية تبحث في الجمعيات السرية.

وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يُكتب عن هذه الجمعيات ضرب من التخمين، فالتحريات التي يجريها محققو البحث الجنائي والصحفيون الاستقصائيون لا تختلف كثيرا عن هذا النوع من البحث، حيث يمكن للباحث أن تجتمع لديه خيوط كثيرة تؤدي إلى حقيقة واحدة مهما كانت حريصة على التخفي. والعلم التجريبي نفسه يُسلّم بوجود الإلكترونات ومكونات الذرة الأخرى بالرغم من الاعتراف باستحالة رؤيتها لأنها أصغر حجما من الموجات المرئية، إلا أن آثارها في الواقع تدفعنا للاعتراف بوجودها.

وعليه؛ فإن الآثار التي تتركها بصمات الجمعيات السرية في الدين والفكر والسياسة والإعلام ومسار التاريخ وميادين كثيرة قد تدفعنا للجزم بحقائق ينكرها أتباع تلك الجمعيات.

أما من يؤمن بالوحي القرآني ويعلم أنه منزل من عند الله فسيجد أدلة أخرى تمنحه اليقين ببعض حقائق تلك الجمعيات السرية وأدوارها الخفية.

لماذا اللجوء إلى السرية؟
تتعدد التفسيرات والنظريات التي تحاول فهم طبيعة هذه الجمعيات وسبب لجوئها إلى السرية، وربما يمكننا إجمالها فيما يلي:

مردوخ

1- يزعم كثير من المؤرخين أن هناك فئة من الناس لجأت إلى السرية عبر التاريخ هربا من اضطهاد الأكثرية، وأنها أخفت طقوسها الدينية الخاصة بها لتحظى ببعض الخصوصية دون أن يكون هناك أي بعد تآمري للإضرار بالمجتمع. ومن الأمثلة التي يقدمونها لهذه الرواية لوح طيني اكتشف في بابل بالعراق ويزيد عمره عن أربعة آلاف سنة، وهو يتحدث عن عبادة سرية متفرعة عن العبادة الرسمية للإله مردوخ، حيث يقدم قصة أخرى لصراع الآلهة، ثم يصف طقوسا خاصة لأتباع هذه الجماعة السرية لتمثيل أدوار المسرحية التي تقام في عيد رأس السنة وتُجسد فيها صراعات الآلهة، ويختتم النص المنقوش بعبارة “إن المعاني الخفية لهذه الأفعال لا يجوز أن تقرأ من قبل الذين لم يدخلوا في هذه العبادة رسميا ووفق الطقوس المنصوصة”.

ويبدو أن تفسير هذا النص يختلف بسبب اختلاف المنهج نفسه كما أوضحنا في مقال “البحث في الدين“، فالمنهج الإلحادي الذي لا يعترف بوجود الغيبيات لن يجد في هذه الطقوس سوى تصرفات خرافية، أما من يؤمن بالوحي وبحقيقة وجود الجن والشياطين فسيرجّح ارتباط هذه الطقوس بالسحر.

وينبغي التذكير بأن بعض الطقوس والنصوص السرية قد تكون هي أصلا لب الدين نفسه، وليست مذهبا باطنيا منشقا عنه، أي أن بعض الأديان قائمة بذاتها على جوهر سري خفي، وأن كهنتها يظهرون لأتباعهم ما يريدون إظهاره فقط.

2- يزعم فريق آخر أن هناك فئة من الحكماء كانت تحتكر الحكمة الصحيحة التي لا يقدر العوام على فهمها منذ آلاف السنين، فاضطرت تلك النخبة لإخفاء وترميز علومها لحمايتها من التشويه والتحريف ومن الوقوع في أيدي الأشرار. ونجد تحت هذا الزعم عددا كبيرا من النظريات المتداولة عبر شبكة الإنترنت، ومنها مثلا أن النخبة كانت تحتفظ في حضارتي أطلنطس وراما الأسطوريتين بأسرار تكنولوجية أكثر تطورا مما نشهده اليوم، وكانت تستخدمها للتغلب على الجاذبية والسفر عبر الكواكب ورفع الحجارة العملاقة لبناء الصروح الهائلة مثل الأهرام وتشغيل الآلات بنوع خاص من الطاقة، ويقال إن هذه النخبة رمّزت علومها وأسرارها في طريقة بناء الهياكل والصروح التي بقيت قائمة حتى اليوم في مصر والهند وأمريكا الجنوبية والعراق، كي يتمكن أحفادهم بعد آلاف السنين من استخراج تلك العلوم والاستفادة منها، لا سيما وأن القدماء خافوا عليها من الاندثار بفعل الطوفان الذي حدث في عصر نوح وغيره من الكوارث.

ويجتهد أصحاب هذه النظريات في استخراج الرموز العميقة من تماثيل أبو الهول وإيزيس والمعابد العملاقة ومقارنتها بمعايير هندسية مثل النسبة الذهبية وبغيرها من الحقائق الفلكية والفيزيائية، كما يربطون بعض الاكتشافات المذهلة التي توصل إليها القدماء بكائنات فضائية يفترضون أنها هبطت إلى الأرض وأنها هي ذاتها كائنات الأنوناكي التي ذُكرت في الأساطير العراقية. ويذهب البعض إلى افتراض أنها كائنات من الزواحف نصف البشرية التي ما زالت تعيش على الأرض وتدير العالم في الخفاء، بينما لا يقدم أصحاب هذه النظريات أية أدلة علمية تربط “المشاهدات” المزعومة والروايات ببعضها.

مانلي هول

ويجدر بالذكر أن كبار المؤلفين المنتسبين إلى الماسونية وغيرها من الجمعيات السرية بدأوا بطرح هذه النظرية في وسائل الإعلام والأوساط الثقافية منذ بدايات القرن العشرين، وهو طرح يتزايد بثه باستمرار مع تزايد الانفتاح في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات الحالية، حيث بات من الصعب إخفاء أسرار تلك الجمعيات ومخططاتها، ولا سيما بعد نشر عدة كتب رصينة ألفها منشقون عن الجمعيات أو صحفيون تسللوا إلى محافلها وفضحوا ما يجري فيها، فلم تعد ملاحقة هؤلاء وقتلهم سياسة مجدية كما كانت في الماضي، فبدأت تلك الجمعيات بفتح أبواب محافلها أمام كاميرات الصحفيين لتصوير بعض طقوسها، مع الاعتراف بأن التصوير لا يطال كل ما يجري هناك وأن السرية ما زالت قائمة جزئيا، كما نشط منتسبوها في نشر الكتب والأفلام الوثائقية والسينمائية التي تزعم أن الماسونية وأمثالها لم تعد سرية كما كانت، وطرحوا فيها ما يزعمون أنه حقيقة تلك الأسرار التي احتفظوا بها آلاف السنين. ويعد الماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي هول من أوائل المؤلفين في هذا الباب عندما نشر كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” عام 1928، حيث زعم فيه أنه كشف كل ما كان يخفى عن الناس من “الحكمة” المتوارثة منذ عصور سحيقة، وهو كتاب مليء بالمغالطات التي لا تستند إلى دليل، وفيه الكثير أيضا من المزاعم التي لا يمكن لأحد إثباتها، فضلا عما فيه من إخفاء وتضليل لحقيقة الماسونية.

سلسلة أفلام “كنز وطني” من إنتاج شركة ديزني تعد من أهم محاولات هوليود الأخيرة لتلميع صورة الماسونية

ومن مظاهر هذه الحملة أيضا تحويل الجمعيات السرية إلى مادة للترفيه في أفلام هوليود، بحيث تُنزع عنها تهمة التآمر والخبث تحت وقع الكوميديا السوداء، بحيث يصبح أي ربط بين عوالم السر وبين التآمر مجرد خضوع “للفكر التآمري” وانعكاس لعقدة البارانويا ضد عدو وهمي.

ولكي تثمر هذه الحملة، كان لا بد من ضخ تلك الكتب والأفلام بأعداد لا تحصى، ففي كل عام تصدر عن دور النشر عشرات الكتب التي تزعم كشف المزيد من الأسرار والخفايا عن تلك الجمعيات، فضلا عن خلط الحق بالباطل، ما أدى في النهاية إلى نفور الكثيرين من الاطلاع على تلك المعلومات واعتبارها مجرد لغو لا يثمر أي نتيجة مفيدة.

3- ومن أسباب العمل السري أيضا اضطرار الحركات المقاومة للمحتل أو المعارضة للحكم إلى التخفي لحمايتها من القمع، فالهدف في هذه الحالة سياسي لا ديني، ومن الأمثلة المشهورة في العصر الحديث لهذه الحركات الجمعيات القومية الكاثوليكية الأيرلندية التي نشأت في القرن الثامن عشر لمقاومة حكم الأقلية البروتستانتية، كما نشأت على شاكلتها جميعات إيطالية قومية في أوائل القرن التاسع عشر لمقاومة السيطرة الأسبانية والنمساوية التي دامت نحو 250 سنة، لكن الجمعيات الإيطالية سرعان ما اندمجت بجميعات الكاربوناري وصارت جزءا من الماسونية، فلم تعد مجرد حركات ثورية لمقاومة المحتل بل تم تحريكها لأهداف الماسونية العالمية نفسها.

4- يرى فريق آخر أن ظهور الجمعيات السرية يعود أصلا إلى أسباب نفسية واجتماعية فقط، فالإنسان يسعى إلى التمرد على الطبيعة بالبحث في عالم المجهول السحري، وينجذب تلقائيا إلى التنجيم والباراسيكولوجي والتصوف، وقد يجد في رموز وطقوس الجمعيات الغامضة ما يشبع نهمه هذا.

ويقول أرسطو إن مغزى ممارسة الطقوس السرية لا يكمن في تعلم شيء ما فقط بل في مكابدة تجربة التغيير، ويعلق المؤلف نورمان ماكنزي في كتاب “الجمعيات السرية” عليه بالقول إن التغيير ليس مجرد رقي روحي ونشوة بل يُفهم على أنه بعث جديد، حيث يتم تجسيده في مسرحيات شعائرية يلعب فيها العضو الجديد دور المشارك والمشاهد، وهكذا يشعر العضو بأن السرية تمنحه طريقة تجعله استثنائيا ومختلفا عن عوام الناس، وأن لديه من الذكاء والحكمة ما يجعله في طبقة الصفوة. وهذا التفسير قد يصح فيما يتعلق بدوافع الأعضاء في الانتساب لتلك الجمعيات، ولكنه لا يبرر ظهور تلك الجمعيات أصلا، فقد يكون العضو المبتدئ مغررا به فعلا لكن القادة ليسوا كذلك بالضرورة.

ويرى هذا الفريق أن الذين يفشلون في التعامل مع العصر الحديث، بما فيه من مظاهر الاغتراب والقلق نتيجة الصراعات السياسية والتطور المتسارع، يلجؤون إلى اتهام الجمعيات السرية بوضع المؤامرات وتنفيذها.

ويتماشى هذا التفسير مع المنهج الإلحادي لدراسة الأديان [انظر مقال البحث في الدين]، فهو ينطلق من مبدأ استبعاد الجانب الروحي الغيبي من البحث، ويحاول إعادة كل ما يراه في نشاط الجمعيات السرية أو في ما ينسب إليها من مؤامرات إلى عوامل طبيعية واجتماعية لاإرادية، وكأن تلك الجمعيات مفعول بها وليست فاعلا لأي شيء يذكر. ونجد لهذه الفكرة أساسا لدى منظري الماركسية والرأسمالية على حد سواء، فهناك قانون حتمي لصراع الطبقات لدى الماركسيين، وقانون مماثل لدى النيوليبراليين يؤدي إلى صراع الحضارات، وهناك أيضا “يد خفية” تحرك المجتمع والاقتصاد نحو نهاية محتومة حسب الرؤية الرأسمالية الكلاسيكية، وليس للإنسان -فضلا عن الجمعيات السرية- دور في تغيير هذا الحراك أو تحريك مساره، حسب رأيهم.

عبد الوهاب المسيري
(موقع المسيري)

وهذا التفسير هو السائد اليوم في الساحة الثقافية الغربية، وهو الذي يتلقى الدعم إعلاميا وأكاديميا حول العالم، وصار له أتباع كثر في العالم الإسلامي خلال العقود الأخيرة، ويُعد المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أحد أبرز منظريه، فهو ينفي عن الحركات السرية أي بعد ديني تآمري، ويكاد ينفي أي تأثير لها على أرض الواقع، بل يرى أنها نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي والسياسي، ويتجاوز دراسة الجانب الخفي لهذه الجمعيات إلى دراسة “الفكر التآمري” لدى من يقرون بوجود مؤامرة حقيقية في مشروع تلك الجمعيات، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون وهما في خيال الناس، كما هو حال الدين نفسه الذي يعتبره الملحدون واللادينيون مجرد وهم وليس له أي وجود موضوعي، وقد ظل المسيري متمسكا بقناعته بعد انتقاله من الماركسية إلى الإسلام، وتابعه في ذلك كثير من الإسلاميين الذين باتوا يبثون هذه الأفكار بقوة في الساحة الثقافية، وفي غلاف إسلامي أحيانا. [انظر كتاب اليد الخفية].

5- أخيرا، هناك فريق لا ينكر وجود الفكر التآمري، ويقر بأن المبالغة في ربط الأحداث بالجمعيات السرية ليس صائبا في كل مرة، كما يرى أن العديد من الجمعيات وُجدت لمقاومة العدو أو المحتل، أو لأهداف إنسانية أو بدوافع نفسية واجتماعية. لكن هذا كله لا يغطي الجمعيات السرية كلها، بل جانبا منها فقط.

ويستتند هذا الرأي إلى اعترافات كثير من المنشقين عن المحافل السرية، وتسريبات المتسللين إلى داخلها، مع ربط الحوادث التاريخية بما وضعه مؤرخون وشهود عيان على مجريات الأحداث، ولا سيما في القرون الثلاثة الأخيرة. كما يجد هذا الرأي ما يدعمه في نصوص الوحي القرآني، وهو ما يعطيه درجة اليقين ويغنيه عن الاكتفاء بالجدل الفلسفي لمن يؤمن بالوحي.

وتتفرع عن هذا الرأي نظريات تحتمل النظر والنقد كغيرها، لكن إطارها العام يربط غالبا النزوع إلى السرية مع المبادئ المعلنة الخارجة عن تعاليم الوحي بعالم السحر، فالسحرة كانوا طوال التاريخ أكثر الناس انطواءً وبعدا عن المجتمع، ولا يخفى ارتباط أنشطتهم بالأذى والشر والتآمر. ولا ينكر منظرو فك الرموز السرية المعاصرون الجانب السحري في علومهم، بالرغم من التلاعب في تقديم التفسيرات والمبررات.

وقد أوضحنا في مقالات “الإنسان والدين” و”الوثنية” و”الباطنية” تفرع التاريخ الإنساني إلى مسارات موازية لمسار الوحي. وبالعودة إلى إحدى روايات التأويل فقد بدأ السحر في وقت مبكر من عمر البشرية، وذلك في عصر النبي إدريس، وتزامن مع الجنوح عن سبيل الوحي كما يقول الحديث القدسي الذي رواه مسلم “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم”، وسنجد في هذا المقال وفي مقالات “القبالاه” و”فرسان الهيكل” و”الماسونية” مزيدا من التفاصيل عن هذا الارتباط.

تاريخ الجمعيات السرية
يقول المؤرخ الماسوني الراحل جرجي زيدان (1861- 1914) في بداية كتابه “تاريخ الماسونية العام” إن هناك أقوالا كثيرة بخصوص نشأة جمعية الماسونية المعاصرة، فبالرغم من إقرار أتباعها بأنها خرجت في القرن الثامن عشر من عباءة جمعية الصليب الوردي التي تأسست سنة ١٦١٦، إلا أن الجذور تعود إلى ما هو أقدم بكثير، فهناك من يعود بتاريخها إلى الحروب الصليبية، وآخرون تتبعوها إلى القرن الثامن قبل الميلاد في اليونان، وآخرون قالوا إنها نشأت في هيكل سليمان، وفئة قالت إن منشأها يعود إلى بدايات الكهانة المصرية والهندية، وهكذا إلى أن زعم البعض أن مؤسسها هو آدم نفسه، وأن الخالق هو الذي أسَّسها في جنة عدن، وأن الجنة كانت أول محفل ماسوني، ويعلق زيدان على ذلك بقوله إنها أقوال مبنية على الوهم.

جرجي زيدان

كان زيدان يعمل في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة، وقد رافق القوات الإنجليزية التي حاولت قمع ثورة المهدي في السودان، فهو عضو أصيل في الحملة الدعائية للماسونية التي بدأت في أواخر القرن الماضي بمحاولة إقناع الناس بأن الحركات السرية قد تخلت عن سريتها المريبة وكشفت تاريخها وحقائقها للناس. لذا لا يمكننا الوثوق بمحاولة نفيه للعلاقة بين الماسونية والحركات السرية القديمة التي أرّخ لها في كتابه.

يصف زيدان في كتابه طقوس قبول المنتسب إلى “جمعية إيزيس السرية” في مصر القديمة، حيث يتحقق الكهنة من أهليته للالتحاق بهم وحفظ أسرارهم، ثم “يسومونه عند القَبول مشقات عظيمة تختلف بين تخويف وتهديد”، فإذا اجتازها بدأت مراسم الاستقبال، فيحقق معه كاهن يحمل اسم الإله أوزيريس، وبعد الانتهاء منه ينتقل العضو الجديد إلى قائد متنكر على رأسه غطاء كرأس الكلب، فيذهب به في دهاليز مظلمة إلى مجرى مائي، فيسقيه كأسا من “ماء النسيان” لينسلخ عن كل ماضيه ويبدأ حياته عضوا في الجمعية من جديد. وبعد انتهاء المزيد من الفعاليات الاحتفالية يبدأ تلقينه “الأسرار المقدسة”.

ويقول زيدان إن أول من نقل أسرار الجمعيات السرية إلى أوروبا هو أورفيوس الذي كان عضوا في الجمعية الإيزيسية بمصر، ثم عاد إلى بلاده في منطقة تراسيا (بلغاريا ورومانيا بأوروبا الشرقية حاليا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ونشر تعاليمها هناك. وبعد وفاته أسس تلاميذه “مجمع إلوسينيا” في إلوسيس باليونان، وابتكروا لأنفسهم طرقا جديدة في مراسم قبول الأعضاء بما فيها من أساليب غسل الأدمغة بالترهيب والتهديد، حيث يُمرر العضو الجديد على مواقع مليئة بالوحوش والأفاعي وحمم النيران والأصوات المخيفة بمراحل مدروسة، ويُزرع في عقله أن هذا هو الجحيم أو صورة عنه، ثم يُنقل إلى موقع يملؤه النور والأمان ليستقبله الكاهن ويلقنه الأسرار في أجواء احتفالية، وكأنه بلغ بذلك الجنة.

ويُطلب من العضو الجديد قبل خوض التجربة المرعبة أن يغتسل أولا بالماء والدم، وأن يقدِّم ثورا أو كبشا كأضحية، فإذا نجح في قبول عقيدتهم تم تعميده بالماء كما يُعمد المسيحيون اليوم في الكنائس، ومنحوه اسما جديدا سريا يُعرف به في مجتمعه الصغير بعيدا عن حياته الطبيعية، وهذه الطقوس تدل بوضوح على الخلفية الشيطانية لهذه الجمعية، فهي لا تختلف كثيرا عما يمارس في طقوس عبادة الشيطان المعلنة في عصرنا الحديث، وهو أمر لا يذكره زيدان.

ويقول زيدان إن تعاليم هذا المجمع انتشرت في سائر المدن القديمة مثل فينيقية (لبنان) والهند ومصر وسوريا واليونان وغيرها، حتى قيل إنها أصلٌ لجميع تعاليم المجامع السرية القديمة في العالم، مؤكدا أن حيرام ملك صور كان أحد كبار الكهنة فيها.

ويضيف زيدان أن هذه التعاليم انتشرت أيضا في المجتمع اليهودي عندما بُعث المسيح بينهم في فلسطين، فكان أتباعها يُعرفون باسم طائفة الأسينيين، إذ نجد في رؤيا يوحنا بالإصحاح الثاني (عدد ١٧) من الكتاب المقدس قوله “فَلْيسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن الخفي، وأهبه حصاة بيضاء منقوشا عليها اسم جديد لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه”، في دلالة إلى مراسم قبول العضو في مجمع الإلوسينيا حيث يُكتب اسمه السري على قطعة حجر يحتفظ بها حتى موته، وكأن مفاهيم الجمعيات السرية تسربت أيضا إلى الكتب السماوية التي تم تحريفها لاحقا.

ويُسهب زيدان في إظهار أتباع هذه الطائفة بمظهر المتقشفين المنقطعين عن الدنيا وملذاتها، وكأنهم مجموعة من الناسكين الزاهدين المنقطعين لاكتشاف المعرفة، فضلا عما يتمتعون به -حسب زعمه- من أخلاق راقية وتضحيات عظيمة فيما بينهم.

وما زالت طقوس العبادة الإلوسيسية السرية ماثلة حتى يومنا هذا بوضوح على جدران “فيلا الأسرار” Pompeii Villa of Mysteries في مدينة بومبي الإيطالية، حيث طمرت تحت الرماد منذ ثوران البركان المفاجئ قبل الميلاد بنحو ثمانين عاما لتبقى محفوظة حتى تُكتشف في عصرنا الحديث، إذ يبدو أن العبادة السرية لإله الخمر والنشوة “ديونيسوس” كانت مسيطرة على المنطقة، لا سيما وأن اقتصاد بومبي كان قائما على الدعارة، حيث تقدم لنا آثارها المحفوظة بدقة تثير الدهشة صورة واضحة عن تغلغل الجنس في حياة الناس إلى أقصى درجة.

فيلا الأسرار التي طمرها الرماد لأكثر من ألفي سنة، وهي تبدو اليوم في حالة جيدة بل تفاجؤنا أيضا بطرازها المعماري الذي لا يختلف كثيرا عن العمارة الحديثة، بل مازالت جدران الفيلا تشرح بالرسوم الملونة طقوس انضمام امرأة إلى عبادة ديونيسوس السرية (ElfQrin)
منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن

الهرمسية
تحدثنا بإيجاز في مقال “الباطنية” عن النظريات التي تحاول كشف حقيقة شخصية هرمس وما ينسب إليها من مؤلفات وعلوم، وهي شخصية بالغ الباحثون في تعظيمها حتى قال فرانسيس باريت في كتابه “سيرة تاريخية قديمة”: “إذا كان الإله قد تجسّد فعليا في هيئة إنسان، فلم يكن ذلك سوى بشخص هرمس”، وقلنا إنه من الراجح أن تكون تلك الشخصية صورة محرفة عن شخصية النبي إدريس عليه السلام، بعد أن نُسبت إليه تراكمات من العلوم والخرافات والفلسفات الوثنية والسحرية.

أفرد الماسوني مانلي هول في كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” فصلا لتعاليم هرمس التي تحتل مكانة مهمة لدى الماسون، وقال إن البعض يعتبر أن هرمس هو ذاته الإله الإغريقي هرمز Hermes، وأنه هو نفسه الإله المصري تحوت Thoth أو توتي Tuti، الذي كان إله القمر أيضا، حيث رُسم على هيئة رأس طائر أبو منجل مع قرص وهلال القمر، وبما أنه دين باطني غنوصي سري، فقد أطلق عليه الكهنة -في الصيغة المعلنة للناس- إله الحكمة والأبجدية والزمن، بينما كان له وجه آخر في المعابد السرية والطقوس الخفية.

عصا هرمس

وبحسب كتاب مانلي هول، احتوى “كتاب تحوت” المقدس على الإجراءات السرية التي يمكن من خلالها “إعادة إصلاح البشرية”، وهو كتاب يصعب فك رموزه الهيروغليفية الغريبة, إلا أنه يمنح مستخدميه القادرين على فهمه “قوة غير محدودة على الأرواح العلوية والسفلية”، حيث يمكنهم تضخيم وعيهم البشري ورؤية الكائنات الخالدة  Immortals والدخول إلى حضرة الآلهة الأسمى، وبما أن هول ماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين؛ فهو لا يعترف لعامة القراء بأن هذه الطقوس ليست سوى أعمال سحرية لاستحضار الشياطين.

أحد مؤلفات الشيطاني المعروف أليستر كراولي عن أسرار تحوت

ويضيف هول أن هناك أسطورة تقول إن “كتاب تحوت” كان في صندوق ذهبي في الحرم الداخلي للمعبد، ولا يمكن لأحد الوصول إليه سوى الأستاذ الأعظم، ويقول أيضا إن ذلك المعبد قد أزيل وتشتت أعضاؤه، إلا أن كتابهم هذا مازال محفوظا حتى اليوم، ويكتفي بالقول “لا يمكن تقديم أي معلومة إضافية للعالم حاليا، ولكن يجب الانتباه إلى أن الخلافة الرسولية المتسلسلة من عهد الأستاذ الأعظم الذي انتسب على يد هرمس شخصيا مازالت مستمرة حتى اليوم، ويمكن للأشخاص المميزين والملائمين لخدمة الخالدين [أي الشياطين] أن يجدوا هذا المخطوط النفيس الذي لا يقدر بثمن إذا اجتهدوا في البحث عنه بإخلاص”.

قارة أطلانطس
ينسب مؤرخو الجمعيات السرية أصول الكثير من “الحكمة” السرية إلى قارة أطلانطس المفقودة، وهي جزيرة هائلة الحجم ورد ذكرها في كتاب “محاورة تيماوس” للفليسلوف اليوناني أفلاطون، حيث زعم أن الفيلسوف سولون الذي مات قبله بنحو 150 عاما، أي في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، سمع قصة القارة المندثرة من كهنة مصر ثم نقلها إلى اليونان شفهيا، وكان أفلاطون أول من وثقها لتبقى محفوظة إلى عصرنا الحالي.

أفلاطون

وبحسب هذه الرواية، فإن أطلانطس كانت جزيرة بحجم شمال أفريقيا وآسيا الصغرى، وتقع خلف “أعمدة هرقل” أي مضيق جبل طارق، فهي تحتل مكانا كبيرا من المحيط الأطلسي، وكانت قد اندثرت قبل الميلاد بنحو 9500 سنة، حيث كانت أشبه بالجنة على الأرض، ففيها من الحضارة والخيرات ما يحلم به كل إنسان، ثم بدأ ملوكها بالطمع في احتلال بلاد أخرى، فاحتلوا شمال أفريقيا، ثم هاجموا مصر وأثينا (اليونان)، وكانت نهاية تلك الحضارة بسلسلة من الزلازل والفيضانات التي أغرقت القارة كلها في البحر. [حضارات مفقودة، ص 17- 20].

ومما يهمنا من هذه الأسطورة أنه كان يحكم أطلانطس عشرة ملوك، وهم يمثلون مثلث “تيتراكتيس” الذي ترسم فيه عشر نقاط، وهو المثلث الذي قدّسه فيثاغورس بعد اقتباسه من مدرسة القبّالاه السحرية كما سيمر بنا لاحقا. وتضيف الأسطورة أنه كان في وسط أطلانطس معبد ديانة الحكمة هرمي الشكل، الذي يقع على هضبة مرتفعة في وسط مدينة البوابات الذهبية، ويقول أتباع الجمعيات السرية إنه أصل المعابد والهياكل والمحافل التي انتشرت لاحقا في قارات العالم من أمريكا الجنوبية مرورا بمصر إلى الهند.

ومن اللافت أن أفلاطون لم يوضح ما إذا كانت القصة خيالية أم حقيقة، كما أنه أسهب في رواية تفاصيلها دون ذكر مغزاها، وذلك على غير المعتاد في محاوراته الفلسفية، ما دفع البعض للاعتقاد بأنه كان يتحدث عن قصة حقيقية وليس من أجل ضرب الأمثلة الفلسفية. وسواء كانت قصة حقيقية أم خرافة، فقد وجد أتباع الجماعات السرية في القارة المندثرة فرصة لإلصاق جميع علومهم وأسرارهم وأكاذيبهم بأصل حضاري عريق، ما ينفي عنهم تهم الاتصال بالشياطين والاقتباس منهم.

لكن قصة أفلاطون تواجه تحديات كثيرة، فالمفترض أن سكان أطلانطس أنشأوا حضارة في غاية التقدم قبل 11500 سنة من يومنا هذا، مع أن أقدم الآثار المحفوظة لنشوء الحضارة لا يمتد إلى ما هو أبعد من حضارات العراق التي بدأت قبل نحو خمسة آلاف سنة، وبما أن جميع التنقيبات والأبحاث الجيولوجية لم تسفر عن أي أثر لها، فهناك من افترض أن أفلاطون كان يتحدث عن جزيرة كريت اليونانية وليس عن موقع في المحيط الأطلسي، كما قدم باحثون معاصرون عشرات التأويلات المختلفة لموقع أطلانطس المحتمل. ولا ننسى أن المؤرخين اعتقدوا طوال قرون أن طروادة لم تكن سوى مملكة خيالية وردت في أشعار هوميروس، إلى أن اكتشفت آثارها فعلا في شمال غرب تركيا عام 1871، وكذلك الحال مع الحضارة المينوية التي كان يعتقد أنها أسطورية حتى وجدت آثارها في كريت.

فرنسيس بيكون

في عام 1626، وضع الفيلسوف الإنجليزي المعروف فرانسيس بيكون كتابه “أطلانطس الجديدة”، وكان من أواخر مؤلفاته التي جعلت منه مؤسسا للعلم الحديث في الغرب، وفي العالم كله بحكم التبعية. وما يتداوله العالم بعد نحو أربعمئة سنة أن الكتاب كان يتضمن نبوءة فلسفية بريئة للعالم الحديث القائم على العلم، لكن بيكون كان في رأي بعض المؤرخين الأستاذ الأعظم للماسونية في عصره، ولم يكن هذا الكتاب سوى البيان الختامي الذي قدّم فيه رؤيته لنموذج الدول التي ستُدار من قبل محافل الجمعيات السرية كما كان الحال في أطلانطس، وذلك تحت مسميات العلم والحضارة. [انظر صفحة Occult theories about Francis Bacon في موسوعة ويكيبيديا]

في عام 1882، طرح الأميركي من أصل إيرلندي إغناطيوس دونيلي كتابه “أطلانطس: العالم العتيق”، وقدم فيه أدلة كثيرة تدعم نظريته في صحة وجود أطلانطس، وزعم أن عددا قليلا من سكانها استطاعوا النجاة بالسفن ونقلوا أسرار تلك الحضارة المتقدمة إلى العالم. وقد أطلق دونيلي بذلك موضة الاهتمام العالمي بهذه الأسطورة، وربما كان أول من نقلها من عالم الخيال إلى الأوساط الجادة لتداعب أحلام الكثيرين، كما تأثر بالكتاب العديد من السياسيين، حتى تحمس رئيس وزراء بريطانيا ويليام غلادستون لجمع المال وتمويل حملة استكشافية للعثور على مكان أطلانطس. وما زال الكثيرون يبجلون دونيلي حتى اليوم على اعتبار أنه كان باحثا مجتهدا ومخلصا لنظريته، ولكن معظمهم لا يعرفون أنه كان ماسونيا عتيدا، وأنه كان يمهد كما يبدو لإقناع عامة الناس بأن أطلانطس هي أصل حضارات العالم كله، وأن المنظمات السرية الموجودة اليوم هي الوريث الوحيد لأسرار الحضارة.

وفي عام 1924 بدأ الباحث الأسكتلندي لويس سبينس بنشر سلسلة كتب عن أطلانطس، حيث يرى البعض أن كتاباته كانت أفضل ما كتب علميا بشأن أطلانطس، وعلى أساسها افترض الكثيرون أن جزر أزور البرتغالية هي من بقايا القارة المفقودة، وما يزال حتى اليوم مئات الناشطين والمهتمين يتناقلون عبر الإنترنت نظريات تتحدث عن اكتشاف أهرام ضخمة في عمق المحيط،  لا سيما قرب أزور وفي مثلث برمودا، ويقولون إن الحكومات الغربية تتعمد إخفاء هذه الحقيقة لتحتكر لنفسها أسرار أطلانطس التي لا يعرفها سوى كبار أعضاء الجمعيات السرية، وهي ادعاءات غير مؤكدة ولا يمكن التحقق منها.

ويجدر بالذكر أن عددا من الباحثين في خفايا الجمعيات السرية يؤكدون أن نخبة جمعية “المتنورين” (الإلوميناتي)، وهي جمعية منبثقة عن الماسونية، يعتقدون أنهم أسلاف ملوك وكهنة أطلانطس، أي أنهم من نتاج تزاوج الآلهة مع البشر، ويُعتقد أن فيلم “أطلانطس: الإمبراطورية المفقودة” الذي أنتجته شركة والت ديزني عام 2001 كان يتضمن هذه الفكرة رمزيا، لا سيما وأن ديزني نفسه (توفي عام 1966) كان على الأرجح ماسونيا من الدرجة الثالثة والثلاثين، ولا يزال في داخل مدينته الترفيهية بولاية فلوريدا “ديزني لاند” نادٍ مغلق يحمل اسم “33”، ولا يُسمح بالانضمام إليه إلا للنخبة وبعد دراسة طلب الانضمام التي قد تستغرق عشر سنوات.

المدرسة الفيثاغورية
ربما لا يوجد أحد في العالم لم يسمع باسم العالم اليوناني فيثاغورس، فنظرياته الرياضية والهندسية تُلقن لطلاب المرحلة الابتدائية حول العالم، ولا يكاد معظم الناس يعرفون عنه شيئا أكثر من ذلك، وقد يفاجأ القارئ عندما يعلم أن فيثاغورس الذي ولد قبل الميلاد بنحو ستمئة سنة كان من أهم أقطاب الجمعيات السرية في التاريخ.

اشتهر فيثاغورس بنظرية حملت اسمه في الهندسة، لكن الوثائق التاريخية تشير إلى استخدام مثلثات قائمة بأضلاع أطوالها أعداد صحيحة في بابل قبل فيثاغورس بأكثر من ألف سنة، كما استخدم المصريون القدماء النظرية قبله أثناء عمليات البناء وتقسيم الأراضي.

ويجدر بالذكر أن بعض العلماء المعاصرين يؤكدون أنهم اكتشفوا ثغرات وأخطاء في النظرية المنسوبة لفيثاغورس.

تمثال فيثاغورس بمتحف الفاتيكان

يحظى فيثاغورس اليوم بمكانة عظيمة في مؤلفات الماسون، كما في كتاب مانلي هول، حيث نجد فيه تأريخا لحياته ابتداءً بقصة ولادته التي زعم أنها جاءت بنبوءة عندما قالت كاهنة معبد أبولو لوالديه إنهما سيرزقان بطفل، وإنه سيكون أعظم الرجال جمالا وحكمة، وسيساهم كثيرا في نفع البشرية. كما ينقل عن جودفري هيغينز ما سماه بأوجه التشابهة بين ولادة وحياة فيثاغورس وتاريخ حياة يسوع المسيح، ما دفع البعض لتسمية فيثاغورس بابن الإله أبولو، بل ظن البعض أن الإله حلّ فيه وتجسد.

ويجدر بالذكر هنا أن مؤرخي حياة فيثاغورس قد وضعوا الأساطير عن حياته وشخصية بعد ولادة المسيح بمدة ليست بالقصيرة مع أن فيثاغورس مات قبل ذلك بنحو خمسة قرون، فالذين كتبوا قصة فيثاغورس هم الذين اقتبسوا النبوءة من قصة المسيح، والذين حرّفوا دين المسيح عيسى بن مريم اقتبسوا في المقابل من الفيثاغورية أسطورة الحلولية والتجسد.

يقول المؤرخ والفيلسوف برتراند رَسل في كتابه “تاريخ الفلسفة الغربية” عن فيثاغورس إنه كان من أهم من شهدت الدنيا من رجال من الناحية العقلية، ويضيف “لست أعلم عن رجل آخر كان له من التأثير في نطاق الفكر ما كان لفيثاغورس، وأقول ذلك لأن ما قد يبدو لك أفلاطونيا، ستجده عند التحليل فيثاغوريا في جوهره… ولولاه لما فكر المسيحيون في المسيح على أنه الكلمة”.

ويتضح الأثر الذي تركه فيثاغورس عندما نعلم أن أفلاطون كان معجبا للغاية بأفكاره، ويقال إنه دفع مبلغا كبيرا مقابل الحصول على مخطوطات فيثاغورس التي نجت من التلف، حتى قال أرسطو (تلميذ أفلاطون) إن جمهورية أفلاطون المثالية (اليوتوبيا) لم تكن سوى ترجمة لأفكار فيثاغورس.

يقول المؤرخ الإغريقي ديوجينس ليرتيوس إن فيثاغورس كان يزعم أمام طلابه وأتباعه أن روحه تناسخت خمس مرات، وأنه يتذكر جيدا الحيوات التي عاشها قبل أن يلتقي بهم، ففي الحياة الأولى كان أثاليدس ابن إله الحرب، وفي الثانية كان يوفوربس أحد أبطال حرب طروادة، وفي الثالثة كان هيرموتيموس رسول آلهة الأولمب، ويبدو أنه تواضع في ما قبل الأخيرة فجعل نفسه صيادا عاديا، ثم تجسد على هيئة المعلم فيثاغورس.

ومن الطريف أن نجد هذه المزاعم لدى معلمين آخرين في الجمعيات السرية على مر العصور، ومنهم اليهودي الإيطالي كاجيلوسترو الذي ابتكر طقس ممفيس المصري لصالح المحافل الماسونية وكان له دور في إشعال الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، حيث كان يزعم أن روحه تناسخت عدة مرات، وأنه كان في إحداها صديقا ليسوع المسيح نفسه، وأن حياته الأخيرة امتدت أكثر من ثلاثمئة سنة.

ووفقا للماسوني هول، اكتسب فيثاغورس القدر المستطاع من المعرفة التي كانت متوفرة في اليونان، وانتسب لجمعية الإلوسيسية السرية التي تحدثنا عنها، ثم بدأ رحلاته لاكتساب المزيد من الأسرار، فتتلمذ على يد حاخامات اليهود القبّاليين، ثم سافر إلى مصر، وبعد محاولات عدة سُمح له بالانتساب إلى جمعية إيزيس السرية بمدينة طيبة، ثم توجه إلى سورية وبلاد الفينيقيين (لبنان) وانضم إلى جمعية أدونيس وتلقى أسرارها، وعبر بعد ذلك وادي الفرات ليتعلم أسرار الكلدانيين والبابليين.

ولم يكتف بذلك، فرحل إلى بلاد فارس والهند، حيث بقي هناك عدة سنوات للاطلاع على أسرار البراهمة والمجوس، وبعد نحو ثلاثين سنة من الترحال والتعلم عاد إلى أوروبا وأنشأ مدرسة في مدينة كروتونا (جنوب إيطاليا) التي كانت تحت حكم الإغريق، وأعلن عن فتح الباب لتعليم الرياضيات والهندسة والفلسفة، بينما كانت مدرسته في الباطن بمثابة الجمعية التي تتلخص فيها كل أسرار وطلاسم وطقوس الجمعيات السرية.

وضع فيثاغورس أصول تشكيل الجمعيات السرية التي ما زالت متبعة حتى اليوم، لذا يدين له أتباع الماسونية والصليب الوردي بالفضل، حيث قسّم منتسبي جمعيته إلى ثلاث درجات، بحيث لا يعلم أعضاء كل درجة شيئا عن التي تليها، فلكل منها طقوس وأسرار لا يعلم بها زملاؤهم الآخرون.

يقول مانلي هول إن فيثاغورس كان يتمتع بقدرات خارقة، فذكر أنه كان يزعم قدرته على التنبؤ بالمستقبل، ورجّح أنه كان قادرا على تنويم الناس والحيوانات، وعلى التغلغل إلى عقول الحيوانات لإقناعها بما يريد، وعلى رؤية الأشياء من مسافة بعيدة.

أما الدرجة الأولى فكانت علنية ومكشوفة، كما هو حال الدرجات الأولى من الماسونية اليوم، والتي تُفتح أبوابها للصحافة ويجاهر أعضاؤها بالانتساب لها ويُعلن أن أنشطتها تقتصر على المجال الخيري الإنساني، وكان طلاب هذه الدرجة يجلسون في أماكن مفتوحة للاستماع إلى محاضرات عامة دون مناقشة، حيث كان فيثاغورس يعلمهم أن الحقيقة في أعماقها رياضية وأن العدد هو أساس كل شيء، فلكل عدد معنى رمزي باطني، وبشكل يتطابق تقريبا مع فلسفة القبالاه اليهودية.

كراولي في زي جماعته “الفجر الذهبي”

وبعد خمس سنوات من الانتظام في تلك الدرجة يختار الأساتذة بعناية من يستحق الترقية إلى الدرجة الثانية، وهناك يفتح لهم باب المناقشة والتلقي ولكن داخل محافل سرية. ثم يتم اختيار الصفوة من هؤلاء للترقية إلى الدرجة الثالثة لتلقي الأسرار الخاصة، حيث يكتشفون آنذاك أن المعرفة لا تتعلق فقط بأسرار الهندسة والأعداد، بل هناك عقيدة كاملة بشأن الوجود والإله والموت وما بعده، وهي العقيدة الشيطانية المطابقة للقبالاه.

وقد أقر كبار مؤسسي الحركات الباطنية القبّالية والجمعيات الشيطانية الحديثة في الغرب باقتباس فيثاغورس من القبالاه، ومنهم الإنجليزي ماك غريغور ميثرز الذي شارك عرّاب الحركات الشيطانية الحديثة أليستر كراولي في تأسيس جمعية الفجر الذهبي، وذلك في كتابه “القبالاه بدون حجاب” The Kabbalah Unveiled.

ويمكن القول إن طقوس الجمعيات المندثرة حول العالم قد تم حفظها على يد فيثاغورس، حيث انتشرت عن طريقه تلك الطقوس في أنحاء أوروبا، فوصلت إلى شمالها حوالي عام 50 قبل الميلاد عندما تمرد الكاهن “سيغ” على الرومان وأخذ يدعو القبائل الهمجية الإسكندنافية إلى اتباعه، وخلط كما يبدو دينهم الوثني الذي يعبد الإله “أودن” بطقوس الجمعيات السرية، ثم أصبح بنفسه المعبود “أودن”.

وبعد بعثة النبي عيسى عليه السلام وسعي زعماء بني إسرائيل لإفشال دعوته ومحاولة صلبه وملاحقة أتباعه [انظر مقال المسيحية]، نجح اليهودي شاؤول (بولس) في تحريف رسالته التوحيدية إلى دين وثني زاعما أن عيسى إلهاً تجسد ليفدي الناس بنفسه ويغسل خطيئتهم، ولم يكتب لهذا الدين النجاح سوى بالعمل السري التقليدي كما هو حال جمعيات الإلوسيسية.

القوة الخفية
أوضحنا في مقال “الماسونية” تفاصيل جمعية سرية حملت اسم “القوة الخفية” وتم تأسيسها في عام 43م على يد ملك القدس اليهودي هيرودس أغريباس، وذلك بهدف قمع الدعوة المسيحية التي أخذت بالانتشار. وذكرنا أن هذه القصة لم نجدها سوى في كتاب “تبديد الظلام” الذي يقول مترجمه عوض الخوري إنه ليس سوى ترجمة لوثيقة عبرية يورثها مؤسسو الجمعية التسعة لأبنائهم، حتى قرر آخرهم، ويدعى جوناس، أن يكشف السر في القرن التاسع عشر.

لا يمكننا الجزم بصحة الرواية لعدم وجود مصدر آخر يؤكدها، لكن الثابت تاريخيا أن كلا من اليهود وأتباع المسيح انتهجوا العمل السري في محاربة بعضهم.

وفي عام 330 بعد الميلاد، تبنى الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول نسخة معدلة من مسيحية بولس، وتم بذلك تأسيس الدين المسيحي القائم حتى اليوم [انظر مقال المسيحية]، وانتهى بذلك عهد السرية المسيحية، لكن طقوس العبادات الشيطانية القبّالية ظلت متوارثة داخل الجمعيات السرية في أوروبا لأكثر من سبعة قرون، إلى أن تغلغلت في الفاتيكان ولعبت دورا في إشعال الحروب الصليبية أملا في الوصول إلى هدفها النهائي وهو إنشاء هيكل سليمان في القدس، وهو ما عملت عليه بنشاط جمعية فرسان الهيكل التي أفردنا لها مقالا خاصا.

وبالرغم من نجاح فرسان الهيكل في الوصول إلى القدس والحفر تحت المسجد الأقصى، إلا أن صحوة المسلمين واستعادتهم للقدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ/1187م أفشلت المشروع، كما تصدت الكاثوليكية مجددا للجمعية بعد افتضاح خلفيتها الشيطانية، وتم تشتيتها في أوروبا لتنشأ عنها جمعيات الصليب الوردي والماسونية ومحافل المتنورين، التي كان لها دور كبير في إعادة صياغة المشهد السياسي الغربي عبر المساهمة في إشعال الثورة الفرنسية عام 1789 وما تلاها من انقلابات دامية على الأنظمة الإقطاعية الملكية المتحالفة مع الكنيسة. ثم أعادت النخب الفكرية المرتبطة بالجمعيات السرية صياغة المناهج الفكرية في الغرب، ولاحقا في معظم أنحاء العالم بفعل العولمة، فمعظم النظريات العلمانية بأطيافها المختلفة -وحتى المتضاربة- كُتبت على أيدي كبار الماسون، وكبار مؤسسي النهضة العلمية مثل ليوناردو دافينشي وجوردانو برونو وإسحق نيوتن وفرانسيس بيكون كانوا أقطابا في الجمعيات السرية.

ضرورة أم مؤامرة؟
ذكرنا سابقا أن المؤلفين الماسون حرصوا على تقديم صورة زائفة عن جمعياتهم السرية، واكتفوا بكشف ما يناسب توجهاتهم فقط، ومنهم جرجي زيدان الذي يقول “ولا نظن أحدا يجادلنا في احتياج البشر لمثل هذه الجمعيات السرية، وفي أن العلم لا ينمو وينتشر إلا بواسطتها، على أننا لا نحتاج إلى شديد عناء في إقناعهم إذا أصروا على الجدال؛ كيف لا وإن من أشهر الأديان الحديثة المتدينة لها أكبر دول الأعصر الأخيرة ما لم يَنمُ وينتشر إلا باتباعه خطة تلكم الجماعات من التعاليم والتبشير سرا”. [تاريخ الماسونية العام، ص 21].

ويصدق زيدان عندما يطبق كلامه هذا على دين عائلته المسيحي الذي وضعه بولس وانتشر في الخفاء قبل أن يتبناه قسطنطين، حيث يرى زيدان في هذه السرية فضيلةً للمسيحية، كما يصدق كلامه عندما يُنظر إلى الحضارة الغربية (الموصوفة بالعلم) على أنها الحق، ليبرر بذلك انتهاج العمل السري أولا، ويزعم طهارة تلك الجمعيات السرية ثانيا.

  • في مثل هذا الكهف الواقع في أخدود سحيق بالأناضول كان المسيحيون الأوائل يقيمون كنائسهم السرية هربا من السلطة الوثنية

  • سقف الكنيسة داخل الكهف

لكن الأنبياء جميعا كانوا يجهرون بدعوة التوحيد بالرغم من كل ما كانوا يعانونه من أذى بسبب ذلك، وعندما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قريش لم يؤمر بالجهر مباشرة حتى تتكون من حوله نواة للدعوة، فظل يدعو أقاربه ومن يتوسم فيهم الخير ثلاث سنوات، ولم يؤمن به طوال تلك المدة أكثر من أربعين شخصا، ثم أمره الوحي بتبليغ الدعوة لعشيرته: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، فبدأت الدعوة الجهرية واشتد عليهم العذاب.

ومن الواضح أن مرحلة الدعوة “السرية” تلك لم تمتد لأكثر من ثلاث سنوات، ولم يتخللها إنشاء جمعية تراتبية ولا أداء طقوس سرية، ولم يترك النبي حتى مماته أي تعليمات سرية خاصة بالنخبة دون عوام الناس. وكل ما ظهر بعد ذلك من الفلسفة وعلم الكلام والتصوف فهو من العلوم الطارئة على الوحي الواضح الجلي، وليس من صلب الإسلام ولا من أصول دعوته [انظر مقال نبوة محمد].

في المقابل، لا يقدم أنصار الجمعيات السرية أي مبرر مقنع لمنهجهم السري، بالرغم من اجتهادهم الواضح في كتبهم وأفلامهم لإقناع العالم ببراءتهم، فإذا كان أسلافهم مضطرون للتخفي في القرون السابقة هربا من الاضطهاد، فقد زالت اليوم أسباب التكتم وأصبحت جمعياتهم شرعية في معظم دول العالم، ومع ذلك فإن أنشطتهم لاتزال تدار في الخفاء، ومازالوا يعترفون بذلك مع عجزهم عن تقديم أي توضيح يستحق التصديق.

يُنسب إلى الفيلسوف الرومانى ناتالاس قوله إن «الأشياء الحسنة تسعى للانتشار والانفتاح، أما الآثام فتتستر وراء حجاب السر والكتمان»، ومع ذلك فلسنا نتهم الجمعيات السرية بالإثم لمجرد كونها سرية، بل لأن الحقائق التاريخية والمعاصرة تؤكد أنها لم تكن سوى مراكز لتكريس عبودية الأتباع وغسل أدمغتهم ثم توظيفهم لتحقيق مصالح النخبة المسيطرة، كما كانت على مر التاريخ المكان المثالي لاجتذاب الموهوبين ثم توجيههم بأساليب الترغيب والترهيب لبث الأفكار الهدامة وقلب أنظمة الحكم ومواجهة أنصار الوحي، وسنبين في مقالات أخرى المزيد من الأدلة، وهذا لا يغني بطبيعة الحال عن الاطلاع على الكتب المتخصصة في هذا المجال.


أهم المراجع

عبد الوهاب المسيري، اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، دار الشروق، القاهرة، 1998.

مجموعة مؤلفين، الجمعيات السرية، تحرير نورمان ماكنزي، ترجمة إبراهيم محمد، دار الشروق، القاهرة، 1999.

جرجي زيدان، تاريخ الماسونية العام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013.

عوض الخوري، تبديد الظلام أو أصل الماسونية، بدون ناشر، 2002.

عبد المجيد همّو، الماسونية والمنظمات السرية: ماذا فعلت ومن خدمت؟، دار صفحات، دمشق، الطبعة الخامسة، 2009.

عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار أم البنين، بدون تاريخ.

برتراند رَسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2010.

ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.

محمد العزب موسى، حضارات مفقودة، الدار المصرية اللبنانية، 2000.

فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.

بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.

Manly P. Hall, The Secret Teachings of All Ages, H. S. Crocker Company Inc., San Francisco, 1928.

مصادر المعرفة

تعريفات
المعرفة: مصطلح يدل على إدراك صور الأشياء أو صفاتها أو إدراك المعاني المجردة (مثل الصدق والحرية) سواء كان لها وجود موضوعي أو في الذهن فقط.

العلم: حسب تعريف أهل المنطق هو إدراك الشيء أو المعنى على ما هو عليه في الواقع، أي أنه المعرفة الصحيحة التي تتطابق فيه الصورة الذهنية للشيء مع واقع هذا الشيء. أما “العلم” بالاصطلاح الشائع اليوم فهو ترجمة غير دقيقة لكلمة science التي تتعلق بنتائج العلم التجريبي فقط.

الخبرة Experience: هي تراكم المعارف التي يكتسبها الإنسان في حياته عبر نشاطه الذاتي وتفاعله مع عناصر البيئة المحيطة به، فهي مجموع المعارف العملية لكل فرد على حدة، وتعد لدى المدرسة البراغماتية المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية.

اليقين: هو الجزم بأن معرفة الشخص لأمر ما هي مطابقة للواقع قطعا (أي علم) مع وجود الدليل القاطع على ذلك. واليقين يورث الطمأنينة في القلب لأنه لا يحتمل وجود النقيض، وهو ما طلبه إبراهيم عليه السلام عندما قال {رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260].

الاعتقاد: هو الجزم بأن المعرفة مطابقة للواقع قطعا ولكن دون تقديم دليل قاطع، وهذا هو “الإيمان”. وفي حال كون الاعتقاد خاطئا أصلا فهو “اعتقاد فاسد”، ولكنه قد يكون صحيحا بالرغم من عدم تقديم الدليل.

الظن الراجح: هو الذي يكون أقل وثوقية من اليقين، فتتراوح نسبة الوثوق فيه ما بين 99% و51%.

الشك: هو الذي تتساوى فيها الاحتمالات تساوياً تاماً، فلا يكون لبعضها رجحان على بعض، وتكون نسبة الوثوق فيه 50%.

الظن المرجوح: هو الظن الوهمي، ويسمى “وهماً”، وهو ما كانت نسبة الوثوق فيه أقل من 50%، وإذا وصلت النسبة إلى الصفر فهو باطل بيقين.

هل المعرفة ممكنة؟
قبل بحثنا عن المعرفة وأدواتها، يجدر بنا التعرف على آراء الفلاسفة في إمكانية الوصول إلى المعرفة أولا، حيث اختلفت العقول كعادتها في الإجابة عن هذا السؤال إلى درجة تقديم أطروحات في غاية الغرابة.

ربما كان السفسطائيون في اليونان هم أول من شكك في إمكانية تحصيل المعرفة، وكانوا على ثلاثة آراء، هي:

1-  اللاأدرية: هم الذين يشكّون في إمكانية معرفة وجود الأشياء وخواصها، فهم يعتبرون أن التوصل إلى اليقين أمر مستحيل ويقدحون في كون الحواس والعقل مصادر موثوقة للمعرفة، وهكذا يمتنعون عن الجزم بأي شيء.

2- العِنادية: هم الذين يقولون إن أي قضية بديهية أو نظرية لا بد أن يكون هناك ما يعارضها، فيجزمون بأنه لا توجد حقائق في الكون.

3- العِندية: هم الذين أنكروا حقائق الأشياء، وزعموا أنه لا توجد حقيقة موضوعية، فما يراه أي شخص موجوداً فهو عنده موجود، ولا يصبح موجودا عند غيره حتى يراه كذلك، فالوجود والعدم والحق والباطل والمعايير كلها نسبية تتعلق بكل شخص على حدة، وهو ما يلخصه بروتاغوراس بقوله “الإنسان هو معيار كل شيء”.

بيرون

يعد الفيلسوف بيرون من أشهر الشكاك في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، فقد رحل مع جيش الإسكندر الكبير إلى الهند، وتلقى الفلسفة هناك على يد طائفة من الهندوس تسمى “الفلاسفة العراة”، الذين ما زال لهم وجود حتى اليوم في الهند وهم لا يرتدون أي ملابس تستر عوراتهم، ويُعتقد أنه أخذ عنهم بعض آرائهم عن التشكك ثم نقلها إلى اليونان.

رأى بيرون أن جميع الأديان والأساطير من حوله غير مقنعة، فقرر بذلك أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها وأنه ينبغي على الفيلسوف أن يبحث عن الطمأنينة لا الحقيقة، وكي لا يبقى الإنسان بلا عقيدة نصح أتباعه بأن يقبلوا الأساطير السائدة في بلادهم وزمانهم دون اكتراث لمدى صحتها.

انتهى الأمر بفلسفة بيرون إلى السلبية، حيث قرر أن أفضل ما يفعله الإنسان هو أن يقبل الحياة كما هي دون أن يحاول إصلاح العالم، وحتى دون أن يبذل جهدا في تجنب الأخطار ومعالجة الأمراض.

ومع أن النزعة الشكية انتشرت في اليونان وكادت أن تخرب العقول إلا أن الفيلسوف سقراط تمكن من الرد عليهم وتسخيف منهجهم، ثم تصدى لهم من بعده أفلاطون وأرسطو، فأنقذوا بلادهم من السقوط في العدمية، إذ يمكننا أن نتخيل مصير أي مجتمع ينتشر فيه هذا النوع من الشك الذي ينفي اليقين ويجعل المعرفة أمرا مستحيلا، بل ويترك معيار الحكم على الأخلاق والمعارف إلى الفرد ذاته بنسبية مطلقة.

السفسطائية “sophism”
هي حركة فكرية انتشرت في اليونان، وتحديدا في مدينة أثينا، خلال النصف الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، واشتهرت بنقل اهتمامات الفلاسفة من التأمل في القوانين الطبيعية والكونية إلى شؤون الإنسان الأخلاقية والسياسية، حيث كان الإنسان موضع اهتمام الأدباء وليس الفلاسفة، وتزامن ذلك مع قيام حروب دامية بين اليونان والفرس وبين أثينا وإسبرطة، وتزعزع الحكم الديمقراطي الأثيني، وتسلط الأرستقراطيين على الحكم مما جعل الأخلاق والسياسة وحقوق الناس هي القضايا المصيرية التي تستحق اهتمام الفلاسفة.

هنا ظهر فلاسفة الجماعة السفسطائية، وعلى رأسها “بروتاغوراس” و”غورجياس”، الذين سخِروا من الاهتمام بالقضايا الميتافيزيقية (الدينية والأسطورية) وركزوا اهتمامهم على السياسة والفصاحة والنجاح الدنيوي، وأصبح معيار الحق والعدل لديهم مرتبط بمدى قدرة الإنسان على المناظرة والجدل والمواهب الخطابية في إقناع الجماهير.

ميشيل دي مونتين

في القرن السادس عشر، أعاد الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين إحياء مذهب الشك، وكان له أثر كبير في إدخال الشك في فكر الحداثة، حيث تأثر به بعض المفكرين الذين انتهى بهم الحال إلى العدمية، ثم طوّر الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (توفي عام 1777م) فكرة الشك وقال إن المعرفة ليست مؤكدة بل مبنية على تصور الإنسان وإدراكه للأشياء.

استبعد هيوم مفهوم المعرفة الفطرية والمبادئ العقلية (البديهيات) وزعم أنها مكتسبة من العادة والتجربة وليست فطرية، كما أنكر الرابطة الضرورية بين السبب والمسبب (السببية) وحولها إلى رابطة ظاهرية ناتجة عن الألفة والعادة، فيقول مثلا إننا نعتقد بأن قطعة الفحم تشتعل عندما تُلقى في النار لأننا اعتدنا على رؤية ذلك كلما جربناه، ولكن ما الذي يضمن لنا أن التجربة ستنجح في المرة التالية؟

ومن الواضح أن نفي السببية يعني السقوط في نسبية مطلقة واستحالة الوصول إلى معرفة حقيقية أو يقينية، ما دفع بعدد من كبار الفلاسفة للرد على هيوم، وعلى رأسهم الألماني إيمانويل كانط (توفي عام 1804م) الذي يُعتبر اليوم بمثابة المنقذ للعقل الغربي من السقوط في الشك العدمي.

وفي مناقشة طويلة ومعقدة، أقام كانط حجته على أن شكية هيوم لن تؤدي إلى الشك في قيام عالم موضوعي بل إلى زعزعة اعتقادنا بضرورة السببية فقط، فينبغي أن ننطلق من مسلّمة بوجود تعاقب موضوعي بين الحوادث مستقلا عن إدراكاتنا الحسية، ثم نسأل: كيف نميز بين التعاقب في أفكارنا والتعاقب في الحوادث الموضوعية؟

الرد على الشك الفلسفي
وللرد على الشكاك والريبيين، نقتبس بإيجاز من كتاب الدكتور راجح الكردي “نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة” النقاط التالية:

1- ركز الشكاك طعنهم في الحواس كمصدر وحيد للمعرفة وأنها أساس البديهيات، وقد رد عليهم أفلاطون بأن أخطاء الحواس لا يصح الإستناد إليها في إنكار العلم لأنه يمكن تصحيحها، سواء باستخدام حاسة أخرى أو بالتجربة مع العقل والبرهان. كما أنه من الممكن جدا تصحيح أخطاء الحواس والتمييز بين حواس كل شخص على حدة بمنهج عقلي سليم تمحص فيه الحقيقة، فما تقدمه الحواس المختلفة من نتائج قد تكون مختلفة ولكنها ليست متناقضة، بينما يزعم الشكاك أنها متناقضة.

2- اختلاف الآراء جائز ولكن اتفاق الناس على أمور أساسية من البديهيات والمسلمات المعقولة والمبادىء ليس مستحيلا، مثل الاتفاق على الفضائل الأخلاقية والحقائق الرياضية.

3- هناك قضايا تتضح صحتها في العقل بمجرد تصورها بدون برهان، وهي قضايا بديهية أولية ومطلقة، فمن ذا الذي لا يصدق أن الكل أكبر من الجزء؟ ومن الذي يطلب دليلا عليه؟

أما الشك المطلق الذي ينفي إمكانية التعرف على الحقيقة نهائيا، فيردّ عليه الدكتور الكردي بما يلي:

1- إذا أراد الشاك إثبات مذهبه والبرهنة على صحة قوله فهذا يتطلب منه الاعتراف بأنه يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا، وهذا يناقض دعواه بامتناع اليقين.

2- الشاك إما أن يعلم وجوب الشك في كل شيء وهذا يعني أنه يعلم علما يقينيا بأنه ينبغي أن يشك في كل شيء، ويعلم من ثم علما يقينيا بأنه لا ينبغي الشك في كل شيء، وإما أن يعلم علما يقينياً أن مذهبه راجح فقط، فلديه مرجح يأخذ به. وإما أن يعترف بأنه لا يعلم علما يقينيا ولا راجحا وحينئذ فهو لا يضع الشك كمذهب ويقر بالعجز.

3- الشك نفسه يتضمن ثلاث بديهيات يأبى العقل الشك فيها، وهي: وجود الذات المفكرة (ذات الشخص الشاك نفسه فهو يعلم يقينا أنه موجود ويفكر)، وعدم جواز التناقض (لأنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقين وما الإنسان… إلخ، فهو يقر أن اليقين غير الشك وأنه من غير المستطاع أن يجمع بين الإثبات والنفي معا)، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة (فهو يعول على عقله في طرح مذهبه).

لودفيغ فتغنشتاين

يقول الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين إن الشك يستلزم مرجعاً، ما يعني أن الشك المطلق لغو، فهو استخدام خاطئ لكلمة الشك التي يستخدمها الشخص العادي عند المقارنة مع اليقين. وعندما كان يتحدث هيوم عن الشك مستخفاً بوجود العالم المادي وبالمعرفة الإنسانية فهو لم ينتبه إلى أنه قد تعلّم الشك نفسه من لغة الإنسان العادي، وكان عليه أن يستخدم لغة أخرى خاصة لا يفهمها إلا هو بناء على مفهومه المطلق للشك.

الشك المنهجي
إذا كان الشك الفلسفي -الذي تحدثنا عنه أعلاه- مذهبا مستقلا يقوم على إنكار المعرفة فإن الشك المنهجي يجعل من الشك مجرد وسيلة للوصول إلى اليقين، ويتطلب ذلك من الباحث أن يجرد عقله عن كل المعلومات والأفكار والمعارف، وينطلق تدريجيا بالتأمل والتفكير نحو اكتساب الحقائق المجردة.

أرسطو

أوصى أرسطو (توفي عام 322ق.م) في وقت مبكر بضرورة الشك المنهجي، وقال إن هناك علاقة ضرورية بين الشك والمعرفة الصحيحة، لأن المعرفة التي تعقب الشك أقرب إلى الصواب.

كان أبو حامد الغزالي (حجة الإسلام المتوفى عام 1111م) أيضا من رواد هذا الشك، ففي كتاب “المنقذ من الضلال” تحدث عن تجربته مع الشك عندما بدأ بالشك في الحواس لعدم قدرتها على كشف الكثير من مظاهر الزيغ، ثم أخذ يشك في العقل نفسه إزاء نتيجة خوضه في المناظرات الفكرية العميقة مع شتى التيارات الفكرية السائدة، حتى وصل به الأمر إلى المرض النفسي والجسدي (الاكتئاب)، حيث كان يعاني من صعوبة في الكلام وفقدان الشهية للطعام، واستمر على هذا الحال ستة أشھر، ولم ينته إلا بعد أن قذف الله في صدره نور الحقيقة، فاستعاد عقله الثقة بالبديهيات والحقائق الأولى، ورجع إليه إيمانه بالمحسوسات والمعقولات. وقد دفعته هذه التجربة إلى الميل نحو الكشف الصوفي بعد أن كان من المؤيدين للمنهج العقلاني، لكن الأرجح أنه تخلى عن المنهج الصوفي في المرحلة الأخيرة من حياته.

في القرن السابع عشر سار الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت على خطا الغزالي، وقال إنه ينبغي علينا أن نطرح كل ما في داخل عقلنا من معارف، ونشك في جميع طرق العلم وأساليبه، حتى نصل إلى العقل مجردا خالصا. وقد مارس بنفسه هذا النهج في التأمل وطرح الاعتقاد بوجود كل شيء، حتى وصل إلى حقيقة واحدة يجب الإيمان بها وهي أنه يفكر، واستنتج منها المقولة الأولى للمعرفة “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، ثم استنتج من تلك الحقيقة حقيقة وجود الله وبقية الحقائق الأخرى.

طبيعة المعرفة
بعد الانتهاء من نقض الشك الفلسفي المطلق، والاعتقاد بإمكانية المعرفة واليقين، تفرعت مذاهب الفلاسفة في طبيعة معرفة الإنسان للأشياء وكيفية إدراكه لها إلى تيارين رئيسين، ثم حاول البعض إنشاء تيار توفيقي ثالث، ونوجزها بما يلي:

1- الواقعية: هو تيار يشمل مذاهب عديدة، وتعتقد جميعها بوجود عالم خارجي للموضوعات (الأشياء) مستقل عن الذات العارفة (الإنسان)، فمعرفة العقل للأشياء مطابقة للاشياء كما هي في الواقع، وهذا يعني أن المعرفة هي الصورة المنعكسة للعالم الخارجي في العقل.

ومن مذاهب هذا التيار الاعتقاد بصحة إدراك الحواس بشكل تام، وهو ما ثبت خطؤه بالتجربة، فالحواس قد تكون خادعة أحيانا مثل خدعة السراب.

ومن مذاهبه أيضا الواقعية النقدية التي تخفف من غلو الاعتقاد بصحة مدركات الحواس وترى أن المعرفة ليست مطابقة لهذه المدركات بل هي صورة معدلة في العقل، وهذا هو مذهب “الوضعية” الذي يرفع من قيمة العلم التجريبي ويجعل الفكر مجرد انعكاس للوجود المادي.

2- المثالية: أصحاب هذا التيار لا يرون وجودا إلا للفكر وتصوراته، فالمادة والأشياء كلها تابعة لما يفكر به العقل، ولا وجود للشيء إذا لم يدركه العقل، حتى أصبح العالم الموضوعي لدى بعضهم مجرد أفكار وخواطر، وهو تطرف غير منطقي وتنكره التجربة، فهناك أشياء موجودة في الكون ولا يدركها أي عقل، وهناك أشياء كانت موجودة منذ ملايين السنين ولم تُدرك إلا في وقت متأخر، ما دفعهم إلى القول إن تلك الأشياء كانت موجودة في “عقل إلهي” ثم استقبلها العقل البشري منه.

إيمانويل كانط

3- التيار النقدي: وضع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط مذهبا نقديا للتوفيق بين الواقعية والمثالية، فميز بين الظواهر العقلية السابقة على التجربة وبين الظواهر التي تكتسب بالحواس، وقال إن المعرفة لا تكتسب إلا بالحس والعقل معا، فنحن لا نعرف الأشياء كما هي بل كما تظهر لنا فقط، ومعرفتها تتم عبر نقلها بالحواس إلى الذهن ثم مطابقتها للمقولات والمبادئ العقلية.

منذ بداية القرن التاسع عشر، أصبح مذهب كانط بمثابة المرجع الأساسي للفكر الغربي، حيث أعاد للعقل بعض التوازن باتخاذه موقفا وسطيا والاعتقاد بوجود مبادئ فطرية وضرورية في العقل، لكن مذهبه لم يتمكن من إلغاء النظرة الوضعية لأنه جعل استخدام المبادئ الفطرية في غير المحسوس أمراً مستحيلاً، مما جعل إدراك العقل للحقائق الجزئية بمثابة حقيقة كلية، فقد ميّز كانط بين ما أسماه بالعقل النظري والعقل العملي، وأنكر قدرة العقل النظري (الخالص) على الوصول إلى “معرفة راسخة للحق العلوي”، فالعقل حسب رأيه لا ينتج معرفة ما لم يتصل بالأشياء المادية والتجارب الحسية التي تمدُّه بالمادة والمضمون عبر قوة الفهم، ومع ذلك فقد رأى كانط أنه لا بد من الاعتقاد بوجود إله ويوم آخر لتأسيس فعل أخلاقي.

وهذا يعني أن كانط لم يكن متوازنا ووسطيا بالفعل، بل أعطى المادة قيمة أكبر ولم يعترف بقيمة المبادئ الفطرية العقلية إلا بشكل تابع للمادة، حتى لم يجد مبررا لوجود الإله إلا من حيث الضرورة لتبرير الأخلاق، وهكذا أصبح الدين في العقل الغربي مسألة نفسية ذاتية خارجة عن مفهوم الحقائق، وأصبحت الوقائع تابعة لمصلحة الإنسان بدلاً من اعتماد العقل للبحث عن حقائق الأشياء [انظر مقال البراغماتية].

والمفارقة أن العقل الغربي الوضعي، الذي يعتقد أن المعرفة الدينية تحتاج إلى إيمان غيبي غير عقلاني، لا ينتبه إلى أن معرفته الوضعية المادية ليست أقل غيبية، فهو يجزم بمرجعية المادة وحدها دون برهان مع أنها مجرد خيار واحد من بين خيارات أخرى ممكنة.

ويجدر بالذكر أن المذاهب الحداثية كلها فقدت الكثير من بريقها في القرن العشرين مع ظهور تيارات ما بعد الحداثة وفيزياء الكم، بما فيها المذهب النقدي لكانط، حيث أدرك الكثيرون أن الأسس التي صاغت المعرفة الغربية نشأت داخل حركة تاريخية متأثرة بتسلط الكنيسة السياسي ومحاربتها للعلم، وهناك اعتقاد شائع اليوم بين فلاسفة العلم والعلماء التجريبيين أن المعرفة الكلية مستحيلة، وأن المعرفة العلمية المادية ليست يقينية.

مصادر المعرفة

بعد استعادة الإنسان ثقته بإمكانية التوصل إلى المعرفة، سيجد نفسه أمام عدة تيارات فكرية يؤمن كل منها بأولوية أحد المصادر أو الوسائل المؤدية للمعرفة، فهناك من يرى أن المعرفة لا تتحقق إلا بوسيلة واحدة، وهناك من يؤمن بمصادر أخرى غير أنه يثق بواحدة منها للتوصل إلى اليقين.

وسنتحدث فيما يلي عن خمسة مصادر رئيسة للمعرفة، وهي الإلهام والحدس والكشف، العقل، الحس، الإجماع، والوحي. ويجدر بالذكر أن مدارس الفلسفة الحداثية وما بعد الحداثية والعلماء التجريبيون لا يعترفون بالوحي والكشف، دون أن يمنع ذلك عشرات الملايين في الغرب من التمسك بإيمانهم بالوحي المسيحي-اليهودي وبالكشف على الطريقة الباطنية الغنوصية. وسنستعرض فيما موجزا لهذه المصادر الخمسة.

المصدر الأول: الإلهام والحدس

الإلهام هو ما يلقيه الإله في الروع، وبحسب المتصوفة فهو الإيقاع في القلب من العلم غير القائم على الاستدلال، أما أتباع المذاهب الباطنية الغنوصية الذين يؤمنون بوجود ما يسمى بالعقل الفعال، مثل ابن سينا، فيقولون إن الإلهام هو ما يلقيه العقل الفعال في نفس الإنسان المؤيدة بشدة الصفاء.

وحدوث الإلهام يسمى بالإشراق والكشف والذوق لدى المتصوفة، أما الجزء البشري الذي يحدث فيه هذا الإشراق فيسمونه بالبصيرة، وهو يرى حقائق الأشياء وبواطنها كما يرى البصر ظواهر الأشياء المادية.

أما الحدس فهو الانتقال السريع للذهن من المبادئ إلى المطالب، ويعرّفه ديكارت بأنه عمل عقلي يدرك به الذهن حقيقة ما بشكل تام وبزمن واحد، أي بدون تدرج في الاستدلال، فهذا النوع من المعرفة يحصل تلقائيا في الذهن بمجرد تصور أمر ما ودون استدلال منطقي، ويضرب أهل المنطق على ذلك مثالا بقولهم إن مجرد رؤية أحدنا لشعاع ضوء يتسلل من ثقب في جدار يدفع الذهن للاعتقاد مباشرة بأن هناك مصدرا للضوء وراءه دون تفكير ولا تأمل.

هنري برغسون

أما الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (توفي عام 1941م) فقد وضع مذهبا فلسفيا جديدا في القرن العشرين على مفهوم الحدس، معتبرا أن الحدس عند الإنسان يشبه الغريزة عند الحيوان، وهو أمر لا يمكن التعبير عنه بالكلمات بل يجب تذوقه ومعايشته واختباره من قبل كل شخص على حدة حتى يكتسب به المعرفة. وبما أنه فيلسوف غربي من أصل يهودي فلم يكن ميالا إلى الإيمان بالإله المجرَّد بالرغم من أفكاره التي تبدو صوفية للوهلة الأولى، بل جعل الحدس معرفة منبثقة من داخل الإنسان وليست مصدرا للمعرفة التي تهبط عليه من الإله.

كان هنري برغسون يرى أن الحياة انطلقت من خزان كبير وانتشرت بين الكواكب، ثم اتخذت أشكالا متنوعة على شكل مادي، ومن الواضح أن هذه الفكرة الميتافيزيقية (الغيبية) لتفسير نشوء الكون والحياة لا يؤيدها أي دليل.

يضع برغسون المادة والحياة في موقعين متقابلين، فالحياة انطلاق وحرية، والمادة سكون وخضوع للقوانين الفيزيائية، وكلما اكتسب الشيء قدرا أكبر من الحياة كان أسمى، وهو ما يفسر سمو الإنسان على بقية الموجودات، وهو يختلف عن التطوريين (أتباع نظرية داروين) في أن لكل كائن حي قدره الخاص من الحياة والمادة منذ البداية، وإذا كان الحيوان يمتلك غريزة للتوصل إلى معرفته الخاصة فإن الإنسان يمتلك عقلا بالمقابل، كما يمتلك أيضا وجدانا أو بصيرة يتوصل بها إلى الحدس الذي هو أسمى أنواع المعرفة.

يضع برغسون أيضا الزمان والمكان في موقعين متقابلين، فالزمان متغير وحر، والمكان جامد ومقيد. والزمان هو الواقع الحقيقي وهو الحياة، وبما أن الكائنات الحية تعيش في حالة صيرورة دائمة بالانتقال من حال إلى آخر فإن علاقتها بالزمان هي “الديمومة”.

والتغير المستمر للأحياء هو حالة من التطور الخلاق، وهذه الحياة المبدعة هي الإله نفسه برأيه، فهي التي توجد الأشياء وتتابع تتطورها، وهي نفسها في حالة تطور. أما المعرفة الحقيقية لهذا الواقع الحي المتطور فهي الحدس، لأن العقل لا يستطيع أن يدرك الحياة بخصوصيتها، وعلى كل حي أن يندمج مع الحياة الباطنة ليتوصل إلى هذه المعرفة اليقينية المطلقة.

ويرى بعض المفكرين أن برغسون لم يأت بجديد، وأنه أعاد صياغة الباطنية اليهودية (القبالاه) في صورة جديدة تناسب العصر، وأنه تأثر أيضا بكل من أفلاطون وديكارت ومالبرانش وباسكال [مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ج. بنروبي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 176].

ويبدو أن طغيان الاتجاه المادي في القرن التاسع عشر على الفكر الغربي كان له أكبر الأثر في جنوح برغسون نحو الحدس، ليضع فلسفة معاصرة تعيد الاعتبار للروح، إلا أنه تطرف أيضا في اتجاهه الروحي كتطرف الوضعيين في المادية، فألغى الواقع العملي وقلل من شأن المعرفة العقلية المجردة، كما أن فلسفته لا تعدو قدر الفلسفات الغربية الأخرى في تناولها للقضايا الميتافيزيقية (الغيبية)، فالحدس ليس سوى جزء من الإنسان ومحدود بدائرتي المكان والزمان كمحدودية الإنسان نفسه، ولن يستطيع تجاوزهما حتى في خياله.

من جهة أخرى، يرى الباطنيون أن الحدس هو قبول الإلهام الذي يلقيه العقل الفعال في النفس، ويرى المتصوفة أن الحدس (الكشف) لا يتم إلا بعد رياضة روحية ومجاهدة نفس بطرق مدروسة وممنهجة، وهو ما اقتبسوه كما يبدو من الديانات الباطنية كالهندوسية والبوذية، أما عند الفلاسفة العقليين فالحدس والإلهام مصطلحان لشيء واحد، وهو حسب رأيهم المعرفة المباشرة دون استدلال وتجربة.

ويؤمن الباطنيون والمتصوفة بأن البصيرة لا تعمل عملها باكتساف المعرفة (سواء من الإله أو العقل الفعال أو الحقيقة الكونية) إلا بعد الاعتقاد بأن الجانب المادي من الإنسان هو عائق للروح والبصيرة، كما يعتقدون أن الحواس والعقل لا تتوصل إلا إلى حد معين من المعرفة لا يمكنها تجاوزه، وأن الحقائق لا تُكتسب إلا بالحدس والإلهام بعد القضاء على المادية. وقد يختلف الباطني مع المتصوف في الطريقة لكن الهدف واحد.

هل يكفي الحدس للمعرفة؟
سنناقش في مقال “الصوفية” مبدأ الإلهام كمصدر رئيس للمعرفة في مجال العقائد والشرائع لدى المتصوفة المسلمين، ونكتفي هنا بتوضيح ما يراه ابن تيمية من أن الإلهام مصدر معتبر، وأن إنكار كونه طريقا من طرق المعرفة هو خطأ يماثل خطأ الذين جعلوا طريقا شرعيا على الإطلاق، فيقول إن مذهب السنة الوسطي هو أن يكون الإلهام في الأحكام الشرعية محصورا بما لم تأت فيه أدلة شرعية نقلية أو عقلية، فيكون الإلهام هنا من باب الترجيح والفهم المنضبطين بالقواعد المتفق عليها [فتاوى ابن تيمية 10/473]، وهذا الفهم هو ما تؤيده حوادث الإلهام التي وقعت للصحابة والتابعين، وتدخل فيه الكرامات التي لا تخالف النص.

أما أهم الانتقادات الموجهة للحدس والإلهام كمصدر للمعرفة فنوجزها في النقاط التالية:

1- البصيرة لدى الإشراقيين ليست سوى إحدى ملَكات الإنسان، فهي محدودة القدرة والمدى ولا يمكن بأي حال أن تحصر العلوم بها.

2- حتى في حال عدم اعتماد البصيرة مصدرا وحيدا، والاكتفاء بالقول إنها المصدر الرئيس للمعرفة، فليس هناك أي ضمان لسلامة البصيرة من الزيغ والضلال، فالمعرفة المستفادة من الكشف تخص صاحبها فقط ولا يمكنه شرحها ولا نقلها للآخرين فضلا عن إثباته صحتها لهم.

3- يعترف كبار الإشراقيين بأن إلهاماتهم جاءت متاثرة بثقافتهم العامة، فكان فلاسفة الإشراق في اليونان ومصر يرون في مكاشفاتهم ما يؤيد أساطيرهم الوثنية، وهو ما حدث أيضا لفلاسفة الإشراق المسلمين (مثل الفارابي وابن سينا) الذين كانوا يشاهدون ما يسمى بالعقول العشرة التي اقتبسوها من نظرية الفيض اليونانية [انظر مقال الباطنية]، بينما يرى المتصوفة المسلمون ما يوافق عقيدتهم أثناء استغراقهم في الذكر، فلو كانت البصيرة مجردة عن هوى النفس وتأثيرات الثقافة كان ينبغي ألا ترى إلا الحقيقة المجردة التي يشترك فيها كل البشر.

4- ليس هناك أي ضمان عقلي أو نقلي أو حتى كشفي يثبت لنا أن ما يستقر في نفس الإنسان من مكاشفات هو من مصدر موثوق، سواء كان إلهًا أو حقيقة كونية أو الزمان الحيوي (لدى برغسون) أو حتى خيال الإنسان وأوهامه، فما الذي يمنع أن تكون الجهة التي تتصل بالعقل الباطن للإنسان هي شيطان خبيث؟

وفي الإسلام نصوص صريحة تحذر من اللبس الذي قد يحدث لدى البعض في الخلط بين الإلهام الرباني ووساوس الشياطين وأوهام العقل الباطن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم “الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة” [صحيح البخاري: 8/72، صحيح مسلم 4/1773]، وسيأتي تفصيل هذا النقد في ظل المفهوم الإسلامي ضمن مقال “الصوفية“.

ديفيد آيك بين أنصاره

5- بدأت تظهر في العقود الأخيرة ادعاءات كثيرة من قبل شخصيات باطنية غربية تزعم أنها تتصل بالتخاطر مع كائنات فضائية، وأقيمت بناء على هذه المزاعم أديان ومذاهب وتيارات فكرية يتبعها الملايين من الناس، ومن أهم المنظّرين لهذه الفكرة البريطاني ديفيد آيك الذي زعم في كتابه “السر الأكبر” وجود كائنات فضائية من الزواحف العاقلة تعيش تحت قشرة الأرض وأنها تسيطر على البشر بطرق عدة، وقال إن الكثير من تفاصيل هبوط الكائنات إلى الأرض قد تلقاه بالإشراق الباطني الذي يتلقاه منها مباشرة، ودون أن يقدم أي دليل على صحة وجود هذا الإشراق الذي لم يختبره أحد سواه، ودون أن يثبت لنفسه -فضلا عن غيره- أن تلك الإشراقات التي يتلقاها صحيحة وصادقة فعلا وليست من قِبل شياطين يعبثون به.

المصدر الثاني: العقل

يصنف العقل لدى الفلاسفة القدماء إلى صنفين: الأول غريزي، وهو الملَكة التي يعلم بها الإنسان الضروريات، فهو غريزة تمتلك علوما أولية أو مبادئ ثابتة. أما الثاني فهو مُكتسب، وهو الذي يفهم به الإنسان ويفكر.

ويتفق الفلاسفة الحداثيون مع هذا التصنيف، فيقول الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند إن العقل ينقسم إلى عقل منشئ وعقل مُنشأ، فالأول قوة فطرية تجريدية ثابتة، أما الثاني فيتكون على يد الأول بعد إعداد طويل، وبتراكم الحقائق المكتسبة والمقولات التي كرسها الاستعمال والقيم المقبولة من قبل المجتمع. [المعجم الفلسفي: 2/87].

إسبينوزا

وبحسب اعتبار بعض الفلاسفة لأولوية العقل، ظهر المذهب العقلي الذي وُجد داخل الكثير من الأديان، ففي المسيحية واليهودية يؤمن العقليون -مثل سبينوزا وشتراوس- بأن العقل مقياس لحقائق الوحي، في مقابل أتباع مذهب خوارق الطبيعة الذين يرون أن حقائق الوحي لا يمكن عرضها على العقل لأنها ليست في متناوله. وفي الإسلام نجد أيضا أن المعتزلة والفلاسفة يصرون على بناء عقيدة قائمة على العقل ورفض ما يرونه مناقضا له مما يرد في الوحي من نصوص، بينما يقول أهل الحديث وعلماء الكلام إن النقل أولى من العقل عند التعارض، كما يؤكد من تخصص منهم في العقائد أنه ليس هناك تعارض أصلا، وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه المشهور “درء تعارض العقل والنقل”.

أما أتباع المذهب العقلي من العلمانيين فلا يلتفتون إلى الوحي، ويجعلون المفاضلة بين العقل والحس والحدس فقط، بحيث يكون العقل هو الأولى باليقين، أو يكون هو المصدر الوحيد للمعرفة.

وعند دراسة أقوال ومناقشات هذه المذاهب، نرى أن مفهوم العقليين للعقل ليس خاصا بالعقل الغريزي بل يتعلق بالعقل المكتسب، فهو عقل تشكل في ظل التأثيرات الثقافية لكل عصر، حيث نرى أن العقليين داخل الأديان اليهودية والمسيحية والإسلامية متأثرين بالمنطق اليوناني وفلسفته العقلية، بينما يتشكل عقل المعاصرين بما أحدثته الثورة العلمية من اكتشافات.

الأوليات العقلية
تنقسم الأوليات إلى قسمين، الأول هو التصورات: وهي الإدراكات البسيطة مثل اللون والحرارة، والمركبة مثل تصور جبل من ذهب. والثاني هو التصديقات: وهي الإدركات التي تنطوي على حكم، أي تتضمن نسبة بين طرفين، مثل قولنا إن النار محرقة.

ويؤمن بعض أتباع المذهب العقلي بأن الأصول الأولى للمعرفة تعود كلها إلى التصورات، بينما يؤمن آخرون من العقليين بأنها تعود للتصديقات، حيث يرى الفريق الآخر أن التصورات قد تكون مجرد خواطر ووساوس وليست مبادئ أولية.

ويقول الفلاسفة إن العقل مفطور على أربعة مبادئ أولية، تنبثق منها المبادئ الأخرى، وهي:
1- مبدأ الهوية: الشيء لا يكون غيره، وبلغة المنطق يقال “ما هو هو، وما ليس هو ليس هو”.

2- مبدأ عدم التناقض: الشيء الواحد لا يمكن أن يكون وألا يكون في وقت واحد.

3- مبدأ نفي الثالث (الوسط المرفوع): أي شيء هو إما (أ) أو ليس (أ) ولا يمكن أن يكون لا هذا ولا ذاك، فمثلا إما أن يكون العدد زوجيا أو فرديا ولا يمكن أن يكون إلا أحدهما.

4- مبدأ العلية: لا يمكن أن يحدث شيء دون علة محددة، سواء كانت علة واحدة كافية للتفسير أو بالاشتراك مع علل أخرى.

تتصف المبادئ الأولية بصفتين رئيستين هما:
1- الفطرية: فالعقل البشري يولد وهي مفطور عليها، وقد تغيب عنه بفعل التربية أو الغفلة أو لقلة الذكاء، لكن تذكير العقل بها يساعد على استحضارها والتيقن بصحتها، وهذا يستلزم أيضا أن تكون بدهية فهي بارزة في العقل دون مقدمات وبراهين، ويصفها بعض الفلاسفة أيضا بأنها قبلية وأولية لأنها لا تحتاج إلى تجربة تؤكدها.

2- العمومية: حيث يرى العقليون أن تلك المبادئ معروفة لدى كل العقول، فكان ديكارت يقول إن العقل أحسن الأشياء توزعا بين الناس بالتساوي، حتى جعل معيار الحقيقة هو وضوحها في الذهن، وهو ما قاله أيضا بعض علماء الكلام المسلمين من الأشاعرة والمعتزلة، لكن آخرين يرون أن الناس يتفاوتون في العقول، فيقول الغزالي “أما الأصل وهو الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده” [إحياء علوم الدين 1/88]، ويرى ابن تيمية أيضا أن المبادئ الفطرية قد تضمر في العقل بسبب تفاوت الناس في قوة الذهن مثل تفاوتهم في قوة البدن.
ويمكن القول إن هذا التفاوت لا يعني أن المبادئ نفسها نسبية في دلالتها على الحقيقة بل من حيث صلة الناس بها، وذلك نظرا لتفاوت قدراتهم العقلية وغفلة بعضهم، فلا يمكن لعقل سليم أن ينكر مثلا أن النقيضين لا يجتمعان.

هل يكفي العقل وحده؟
اختلفت آراء العقليين بحسب الثقافة السائدة على مر العصور، فعندما سادت ثقافة الباطنية في الهند وفارس وبعض المناطق اليونانية كان الكهنة يزعمون عدم الحاجة للوحي، على اعتبار أن العقل الذي يتلقى الفيض من الإله (الحقيقة الكونية بحسب مفهومهم) في غنى عن تلقي المعرفة نفسها بالوحي المباشر على يد الأنبياء، وتأثر بهذا المفهوم الفلاسفة العقليون الذين نشأوا في البيئة نفسها، كما لحق بهم بعض فلاسفة الإسلام مثل الطبيب الرازي المتوفى عام 313هـ.

ومن الأمثلة المشهورة لهذا المنهج في البيئة الإسلامية، رواية “حي بن يقظان” للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، التي تحكي قصة طفل ينشأ وحيدا في جزيرة نائية، حيث يبدأ بالتأمل في ذاته وفي الكون والحقائق الوجودية دون تربية ولا توجيه، فيصل إلى المعرفة بعقله دون حاجة للوحي.

وعندما بدأت ترجمة الفلسفة اليونانية العقلية وشبيهتها الإسلامية إلى اللغات الأوروبية ظهرت أفكار مماثلة لدى الأوروبيين، فاعتبر سبينوزا أن العقل أوثق من الوحي لأن دلائل صدقه متضمنة فيه بينما يحتاج الوحي إلى المعجزة لإثبات صدقه، كما سار لايبنتز على نفس النهج، وحاول الاثنان في القرن السابع عشر إقامة دين جديد تحت مسمى دين الطبيعة، بحيث يُحتكم فيه إلى العقل دون الوحي، ثم دعم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط هذا التوجه في القرن التاسع عشر.

ديكارت

ويبدو أن الفلاسفة العقليين في عصر النهضة الأوروبية كانوا يسعون إلى رد الاعتبار للعقل ضمن صراعهم مع كهنوت الكاثوليكية من جانب، وضمن صراعهم أيضا مع فلاسفة المذهب الحسي، ولكن ديكارت نفسه (وهو رائد هذا المذهب) اعترف بأن هناك حقائق ميتافزيقية (غيبية) لا يمكن للعقل الخوض فيها، ثم جاء أتباعه من بعده ليحصروا المعرفة في العقل وحده.

لم يكن هناك فصل آنذاك بين الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والطب، ما سمح للعقليين بمنح العقل تلك المنزلة العالية، لكن الكثير من الدراسات الاجتماعية التي ظهرت في القرن العشرين أكدت أن الفطرة لا يمكن أن تبقى مصونة عن الزيف بعد وقوعها تحت تأثير الوراثة والبيئة [محمد تقي الأميني، عصر الإلحاد، ص74]، فمن شبه المستحيل التوصل إلى نتائج عقلية مجردة في العلوم الضرورية التي تقوم على الأوليات العقلية (الفطرة)، وهو ما يؤكده الفليسوف الألماني كولبه بقوله “إنه من الصعب أن نضع حدا فاصلا بين الأحكام الأولية للعقل وبين الأحكام المكتسبة من التجربة”.

وصعوبة تجرد العقل البشري تنبع من طبيعة الإنسان، حيث يستحيل عليه التحول إلى آلة صماء كأجهزة الحاسوب المبرمجة على التسلسل المنطقي، فالتداخل بين العقل والنفس هو جوهر الإنسان منذ بدء خلقه.

كما أن وضع منهج معرفي متكامل للعقل من خلال العقل نفسه أمر متعذر، فلا يمكن للآلة أن تدرك ذاتها والمؤثرات المحيطة بها على وجه التمام، وأن تحدد بدقة حدود قدراتها ومنتهاها، ثم تضع منهجا يضبط عملها ويصحح مسارها فيه دون حاجة لمرشد خارجي. لذا اضطر ديكارت منذ بداية وضعه لمنهج المعرفة العقلي أن يسلّم بوجود إله خالق ومرشد كخطوة ضرورية وتلقائية بعد تسليمه بالحقيقة الأولى، وهي أن يعقل ذاته، وكأن العقل لا يستطيع أن يخطو خطوته الثانية دون مصدر علوي يستند عليه.

نتيجة لذلك، تعاني جميع المناهج العقلية من عيوب ونواقص لا تزال تظهر عمليا بعد إخضاعها للتطبيق، ومن أبرزها منطق أرسطو الذي تعرض للنقد على يد عدد من كبار العلماء المسلمين قبل أن يُنقد لاحقا في أوروبا، ومن أبرزهم ابن تيمية الذي أبرز في كتابه “الرد على المنطقيين” عجز المنطق عن التوصل إلى حقائق يقينية في الميتافيزيقيا، فالاستدلال بالقياس ينطلق من المقدمة الكلية إلى النتائج، مع أن الكلي لا يدل إلا على القدر المشترك من الأشياء الكلية، بينما تكون قضايا العقيدة معيّنة ولا يمكن للقياس الكلي أن يدل عليها.

ومن عيوب المنطق أيضا “قياس الغائب على الشاهد”، فمن خلال البحث في العلة المشتركة بينهما يمكن فقط للعقل أن يستنتج الحقائق، وهذا يؤدي إلى قياس الإله على الإنسان، وهو افتراض غير مبرر أصلا. يقول ابن تيمية إنه لا يجوز أن يدخل الإله مع غيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، وعندما فعل علماء الكلام والفلاسفة ذلك تناقضت أدلتهم ولم تبلغ اليقين.

وهذا القصور في المنهج، وفي الأداة نفسها (العقل)، تظهر آثاره في كل الفلسفات العقلية التي بحثت في الإلهيات والميافيزيقيا بلا استثناء، بل نجده واضحا أيضا في المدارس العقلية التي نشأت داخل الأديان، سواء لدى علماء الكلام (المتكلمين) والفلاسفة المسلمين أو لدى فلاسفة اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، حتى تراجع بعضهم عن التزام المنهج العقلي كله في الإلهيات بعد أن بلغ غايته في البحث والتبحر، مثل الرازي والآمدي والشهرستاني والغزالي.

ويُنقل عن أفضل الدين الخونجي (توفي عام 646هـ) قوله “أموت وما عرفت شيئا”، كما ينقل عن معاصره شمس الدين الخسروشاهي أنه قال عند موته “والله ما أدري ما أعتقد”، وقد سبقهما بذلك سقراط عندما قال “لا أعرف سوى شيء واحد، وهو أني لا أعرف شيئا” [العقيدة الطحاوية، ص 227-228].

ومع ذلك، فلا نقول إن العقل أداة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة، بل ينبغي التفريق بين وجود حقائق العقيدة وبين كنهها وتفاصيلها وما هي عليه، فالعقل قادر على إثبات وجود الحقائق الكبرى والبرهنة عليها، لكن التخبط يبدأ عندما يخوض في محاولة تعقل الكيفيات التي تكون عليها الحقائق الغيبية لأنها غائبة عنه وعن الحواس، ولا يستطيع النفاذ إلى عوالمها المفارقة للزمان والمكان مهما اشتط به الخيال، لذا قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أثبت للناس وجود الخالق وصفاته “تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا” [صححه الألباني]، وهذا ليس حَجرا على العقل بل حفظ له من الخوض في ما لا يقدر عليه.

أبيقور

المصدر الثالث: الحس والتجربة

يفرق علماء المنطق بين القضايا الحسية التي يجزم العقل بوجودها لمجرد تصورها، مثل وجود الشمس عند الإحساس بحرارتها أو رؤية ضيائها، وبين القضايا التجريبية التي يدخل فيها الحس ولكنها تتطلب المزيد من الملاحظة والتجربة.

والمذهب الحسي في الفلسفة هو الذي يقول أتباعه إن المعرفة محصورة بما تتلقاه الحواس الخمس، فكل التصورات العقلية مقتبسة من المعلومات التي تقدمها له الحواس، أما المنهج التجريبي فيقول أصحابه إن التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة من خلال توظيف المدرَكات الحسية في التجربة، ومن المعلوم أن التجربة تتطلب تدخل الباحث في الموضوع لاختباره ولا تكتفي بالملاحظة.

ابتدأ التيار الحسي بالظهور في اليونان على يد أبيقور خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ووافقه على ذلك الرواقيون الذين حصروا المعرفة بالحس مع أنهم لم ينفوا فاعلية العقل تماما.

وفي أوروبا، تأثر الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون (توفي عام 1349م) بأفكار الحسن بن الهيثم وابن رشد بعد ترجمتها، وحاول نقل المنهج العلمي التجريبي عن ابن الهيثم (توفي عام 1040م) رغم رفض الكنيسة له، ثم تبنى هذا الاتجاه من بعده فرانسيس بيكون.

فرنسيس بيكون

ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (توفي عام 1704م) من رواد المذهب الحسي، حيث انطلق في وضع نظريته للمعرفة دون الالتفات إلى ما أقره ديكارت ومعظم الفلاسفة من ثنائية النفس والجسم، وأنكر وجود الفطرة والأوليات العقلية بناء على ملاحظته لتنوع الخبرات البشرية، فقال إن ما هو فطري لدى البعض ليس كذلك لدى البعض الآخر، وهكذا أخذ يبحث في انعكاس المعرفة على الذهن من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات، وانتهى إلى القول إن العقل البشري يولد كصفحة بيضاء خالية من أي علامات موروثة أو فطرية، ثم تكتب عليها الخبرة التجريبية ما تتلقاه من المعرفة من خلال الحواس.

ظهر ديفيد هيوم بعد وفاة لوك ليأخذ المذهب الحسي إلى غايته القصوى، فأنكر فاعلية العقل تماما حتى وصل إلى الشك كما ذكرنا في موضع سابق من هذا المقال، فبعد أن كان لوك يعترف بأن للعقل دور في المضاهاة والجمع والتجريد للمعرفة التي يتلقاها عن الحس لم يقر هيوم بأي دور للعقل بل جعه مجرد موطن للانفعالات الحسية.

ديفيد هيوم

وفي أواخر القرن الثامن عشر، وضع أوغست كونت الفلسفة الوضعية على أساس الثقة المطلقة بالعلم التجريبي، فقد ساد في تلك المرحلة الاعتقاد بأن الإنسان بلغ ذروة التقدم مع تكاثر الاختراعات والاكتشافات بأسرع وتيرة عرفها التاريخ، ما دفع بأنصار هذا المذهب إلى الاعتقاد بأن العلم التجريبي هو المصدر المعرفي الوحيد الذي سيجيب على كل الأسئلة.

تصور كونت أن البشرية تطورت طوال تاريخها عبر ثلاث مراحل، الأولى هي المرحلة اللاهوتية التي كان الإنسان يفسر فيها ظواهر الطبيعة بإعادتها إلى موجودات غيبية، سواء كانت إلهاً واحدا أو عدة آلهة، والثانية هي المرحلة الميتافيزيقية التي صار الإنسان يتوهم فيها وجود علل ذاتية داخل الظواهر بدلا من الآلهة، وفي المرحلة الثالثة صار الإنسان يفسر كل شيء بمنطق العلم التجريبي.

وقد رد كثير من الفلاسفة على هذه النظرية بأنها مجردة من البرهان التجريبي أصلا، فهي ليست سوى رواية ميتافيزيقية لتطور المجتمعات البشرية، واستقراء التاريخ يثبت عكسها، فالأوضاع الثلاثة التي تخيل أنها مراحل متعاقبة ما زالت قائمة حتى اليوم، وكانت متعايشة أيضا في مراحل قديمة من التاريخ.

تفسير مبدأ العلية والاستقراء
يقول العقليون إن السببية (العلية) مبدأ فطري كلي، فهو موجود في العقل بالفطرة ويمكن تعميمه على كل التجارب والأحداث في الكون بحيث يجزم العقل بأن لكل حادثة سببا ولكل معلول علة، لكن الحسيين انقسموا في تفسير العلة إلى ثلاثة اتجاهات، هي:

1- اتجاه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل الذي آمن بمبدأ السببية والعلية إلا أنه ردّه إلى الحس والتجربة بدلا من العقل، فرأى أن الإنسان يتعلم من التجربة أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها أسباب وعلل، واعتبر هذا الارتباط ضروريا مع أن الضرورة لا ينبغي أن تكون إلا بالعقل، وهو يرفض منح العقل أي فاعلية. وقد وافقته الفلسفة الماركسية المادية في هذا التفسير.

2- الاتجاه الذي أخذ به فلاسفة الوضعية المنطقية يرى أن تعميم الاستقراء لا يعطي حكما يقينيا، فتكرار التجربة والحوادث لا يتجاوز دوره تقديم احتمال بالوصول إلى النتيجة المطلوبة، مثل احتراق الخشب كلما تعرض للنار.

3- رأي هيوم الذي ينفي أي قيمة موضوعية للاستقراء، والذي يعتبر أن الربط بين العلة والمعلول مجرد انطباع نفسي ناشئ عن العادة دون أي ضرورة، فالسببية بين النار واحتراق الخشب ليست ضرورية ولا حتمية بل موجودة داخل نفوسنا بسبب تكرار العادة. وقد سبقه الغزالي إلى القول بهذا الرأي، كما أخذ به علماء النفس في المدرسة السلوكية الحديثة.

هل تكفي الحواس والتجربة مصدرا للمعرفة؟
لا يمكن لنا أن نسلّم للتجريبيين بحصر مصدر تصورات العقل كلها بالحس والتجربة، فقد يتصور الذهن تصورات مفارقة للمادة تماما مثل الوحدة والكثرة، لكن هذا لا يعني بالمقابل أنها تصورات عقلية محضة، لأنها ليست من البديهيات، بل هي نتيجة لتفاعل الحس والعقل.

ويظهر خلل الحسية التجريبية أكثر في مجال الميتافيزيقيا والأخلاق، فقد رد أصحاب هذا المذهب كل الأخلاق إلى التجربة وحاولوا دراستها سلوكيا كما يدرس العالم المخبري أي ظاهرة طبيعية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم تفسير مقنع، فالشكاك هيوم اعتبر أن الأحكام الأخلاقية لا تعبر عن حقيقة موضوعية بل تنشأ عن مشاعر الاستحسان والاستياء، ودون أن يقدم تفسيرا مقنعا لأصل هذه المشاعر. وعندما حاول الماركسيون ربط الأخلاق بالاقتصاد والصراع الطبقي داسوا على قيم العدالة تماما وحوّلوا الإنسان إلى جزء مسحوق في آلة المجتمع الجارفة.

جون لوك

ويبدو أن جون لوك قد وضع كل أتباع المذهب العقلي في خانة واحدة واعتقد أنهم يرون المبادئ العقلية صورة عن عالم المُثل الخيالي الذي تخيله أفلاطون، حيث كان الأخير يفترض أن الإنسان يحتاج فقط إلى تذكر الحقائق بعد ولادته لأنها موجودة كلها في عقله، لكن معظم العقليين كانوا يعترفون بدور الإدراكات الحسية بعد أن تعود إلى الأصول الثابتة في العقل، لتتحول إلى معرفة علمية.

من جهة ثانية، ينتقد التجريبيون الخطأ الذي يقع فيه بعض العقليين عندما يخلطون بين العقل الغريزي والعقل المكتسب (سبق توضيحهما)، وهو الخطأ الذي بدأ في اليونان وانتقل إلى الكثير من المتكلمين والفلاسفة المسلمين عندما اعتبر كل منهم أن مذهبه هو العقيدة الصحيحة التي يتوافق فيها العقل والنقل. وإذا كان هؤلاء قد ظنوا أن العقل كله غريزي فقد رد عليهم التجريبيون باتخاذ الموقف المعاكس والقول بأن العقل كله مكتسب، ومن ثم فهو يتأثر بالبيئة والمشاعر والخواطر النفسية، ولا يستحق أن يكون مصدرا للمعرفة. والواقع أن كلا الرأيين تطرف في موقفه.

ومن نتائج هذا التطرف المادي المتصاعد حتى بداية القرن العشرين، ساد في الغرب الاعتقاد بأن الإنسان نفسه ليس سوى مادة متطورة، فبعد أن وضعت الحسية التجريبية في عصر النهضة الإنسان بمركز الكون ليحتل موقع الإله نفسه، انزلق الإنسان المادي تدريجيا تحت ضغط الاكتشاف المتزايد لأسرار الكون المادي، لتصبح المادة هي الأساس والمركز، ويتحول الإنسان إلى موضوع تافه وهامشي، حتى ظهرت مدارس ما بعد الحداثة التي أنكرت كل مصادر المعرفة العقلية والحسية وأعلنت نهاية المدارس الفلسفية الكبرى والعودة إلى شك السفسطة، وهي نتيجة طبيعية لتفكيك الإنسان وتشييئه (تحويله إلى شيء مادي).

واللافت أن الحسيين والتجريبيين في عصر النهضة كانوا يؤمنون بالميتافيزيقا وبوجود الله، بل كان بعضهم من رجال الدين مثل جورج باركلي (توفي عام 1753)، إلا أن حصرهم للمعرفة بالحواس فتح الباب أمام الوضعيين والماركسيين إلى حصر الوجود كله بالمادة، وإذا كان موقف الحسيين الأوائل مجرد افتراض فلسفي ولم يرق إلى درجة العلم؛ فلن يجد الوضعيون والماركسيون والماديون دليلا علميا على إنكار وجود الغيبيات [انظر مقال “وجود الله“].

هل يجيب العلم التجريبي على كل الأسئلة؟

أينشتاين

شهدت بداية القرن العشرين ثورات علمية هائلة، ومن أبرزها نظرية النسبية لألبرت أينشتاين، ثم مجموعة نظريات شكلت مفهوما جديدا للفيزياء تحت مسمى الكمّ (كوانتم)، فضلا عن التطور في الطب وعلوم الأحياء، وكان لهذه الفتوحات وآثارها العملية التكنولوجية دور كبير في ظهور العالِم التجريبي في صورة خارقة وكأنه الوحيد القادر على الإجابة على الأسئلة الوجودية بدلا من الفلاسفة، فضلا عن “رجال الدين”، لذا طالب العالم الفرنسي المعروف لويس باستور السلطات برعاية المؤسسات العلمية بصفتها “مؤسسات مقدسة” وقال إنها ستكون “معابد المستقبل”، كما وافقه على ذلك الفيلسوف الفرنسي ليكومت دي نوي عندما قال “إن ثقة الناس بعلماء الطبيعة اليوم هي ثقتهم بالكهنة في العهد القديم” [دي نوي، مصير الإنسان، 1967، ص275].

يقول الفيزيائي البريطاني المعاصر ستيفن هوكنغ في كتابه التصميم العظيم “الفلسفة ماتت… وعلماء الطبيعة باتوا هم حملة شعلة الاكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة” [ص 13]، ويقول الفيزيائي الأميركي لورنس كراوس “إن الفلسفة حقل يذكرني للأسف بالنكتة القديمة لوودي آلن (ممثل كوميدي): أولئك الذين لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يدرّسون، والذين لا يستطيعون أن يدرّسوا يدرّسون الرياضة”.

وبالرغم من إنكار الكثير من العلماء -الذين يحظون بالاحتفاء الإعلامي- أهمية الفلسفة وتنديدهم بها، فإن نظرياتهم الكبرى تقوم أساسا على مواقف أيديولوجية مفلسفة. فعلى سبيل المثال، يقول الفلكي البريطاني كارل ساغان في افتتاحية برنامجه “الكون” Cosmos -الذي حقق أعلى نسب المشاهدات بدعم من شبكة بي.بي.سي- إنه “لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد شيء سوى الكون (أي المادة فقط)”، وهذا تعبير فلسفي وليس تصريحا علميا، فليس في وسع العلم التجريبي أصلا أن يجري تجربة مادية تنفي وجود عوالم أو كائنات غير مادية طالما أنها لا تخضع لأدواته، ومقولة ساغان هي تعبير صريح عن جوهر الفلسفة الطبيعية، والتي يعرّفها ستيرلنغ لامبرت بأنها موقف فلسفي ومنهج تجريبي يعتبر أن الوجود محكوم بعوامل عشوائية داخل نظام شامل في الطبيعة.

يقول عالم الوراثة في جامعة هارفارد ريتشارد ليونتن إن “استعدادنا لقبول المزاعم العلمية التي تخالف الحس السليم هو مفتاح فهم الصراع الحقيقي بين العلم وما هو ميتافيزيقي (غيبي)، فنحن نميل إلى صف العلم رغم ما يشوب بعض أفكاره من عبث… والمجتمع العلمي يتسامح مع القصص التي تُقبل دون برهان لأننا ملتزمون مسبقا بالفلسفة المادية، فمناهج العلم لا تجبرنا على قبول تفسير مادي للعالم بل التزامنا البديهي بالمادية هو الذي يجبرنا على إنتاج تفسيرات مادية مهما كانت مناقضة للحدس” [العلم ووجود الله، ص 62].، وليس هناك ما هو أوضح من هذا الاعتراف بتعصب العلماء الماديين للفلسفة المادية على أساس أيديولوجي بحت.

هوكنغ

ومن نتائج تبني هذه الفلسفة -المنكرة للتفلسف أصلا- أن التصورات الفلسفية للكثير من العلماء التجريبيين لم تعد تجد أي حرج في خرق المنطق، وهو ما يؤكده الاقتباس السابق عن ليونتن نفسه، كما يقول هوكنغ “إن الكثير من المفاهيم العلمية الحديثة تخالف المنطق السليم المبني على التجربة اليومية، أما طبيعة الكون فتكشف عن نفسها من خلال عجائب التكنولوجيا” [التصميم العظيم، ص 15]، كما يكرر الفيزيائي ميشيو كاكو في صفحات عدة من كتابه “فيزياء المستحيل” أن نظرية الكم تغير قوانين العقل الأساسية، وإلى درجة إسقاط مفهوم المستحيل من الوجود.

ويأتي الإشكال أولا من خرق نظرية النسبية لما هو مألوف ومعتاد، فقد كان يُعتقد أن الزمن ثابت كوني لا يتأثر بأي عامل من العوامل، لكن المعادلات الرياضية أثبتت أن سرعة الضوء هي الثابتة وأن الزمن نسبي، فعندما يتحرك جسم ما بسرعة كبيرة جدا فإن الزمن الخاص به يتمدد (يتباطأ)، فمثلا تقيس الساعة الموضوعة على صاروخ خارق السرعة مدة زمنية أقصر مما تقيسه ساعة أخرى على الأرض مثلا، وهذا أمر لم يكن ليخطر على بال أحد، وقد أثبتته التجارب العملية بالفعل.

ونتيجة لذلك بدأ كتّاب الخيال العلمي بالتجرؤ على خرق المنطق وطرح رؤى خيالية، فظهرت روايات السفر عبر الزمن كنوع من الخيال ثم لحق بهم الفيزيائيون النظريون (فئة من العلماء تدرس الآثار الفلسفية للعلم) على اعتبار أن الرياضيات لا تنكر تلك التخيلات، وظهرت معضلات فلسفية في العديد من الكتب العلمية “الرصينة” لتتساءل ما الذي سيحدث إذا عاد شخص بالزمن إلى الوراء وقتل والده مثلا، فهذا يعني أنه لن يُخلق أصلا، ثم ظهرت نظريات عدة لمناقشة هذه المشكلة دون أن ينتبه كثير من العلماء إلى التناقض العقلي في هذه العودة إلى الماضي.

والحقيقة أن نظرية النسبية العامة ليست معنية بما هو أبعد من دراسة تباطؤ مرور الزمن على اﻟﺠسم اﻟﻤتحرك بالنسبة ﻟﺠسم آخر ثابت، وهي لا تتعلق بالبنية اﻟﻤادية ﻟلجسم اﻟﻤتحرك كما هو اﻟﺤال ﻓﻲ نظرية الكم، ومن ثمّ فإن “منحنى الزمكان” ليس أكثر من مفهوم مثاﻟﻲ تخيلي، وتعبير “انحنائه” لا يعني أكثر من انحناء مسار حركة الجسم مع تمدد الزمن اﻟﻤقاس عليه بالنسبة إﻟﻰ ﻤراقب خارجه، وحتى ﻓﻲ حال انغلاق منحنى الزمكان فهذا لا يعني أن يدخل اﻟﺠسم ﻓﻲ مرحلة زمنية سابقة، بل غاية الأمر أن يعود للتحرك ﻓﻲ خط سيره من النقطة التي انغلق عندها اﻟﻤسار مع الاستمرار ﻓﻲ تباطؤ تغير حركته إﻟﻰ درجة الانعدام والدخول ﻓﻲ حالة “التفردية اﻟﻤركزية” التي لا يمكن اختبارها ﺗﺠريبياً، فضلاً عن ثبوت استحالة تحقق هذا الانغلاق فيزيائياً.

وعندما ظهرت فيزياء الكم التي تدرس أبسط عناصر الوجود على المستوى دون الذري (مكونات الذرة) كان فهمها أكثر صعوبة، لكن غموضها المشابه لغموض النسبية دفع بعض العلماء للمضي في وضع المزيد من السيناريوهات الخيالية. فيقول جون ويلر “إذا لم تكن حائرا إزاء مكانيكا الكم فإنك لم تفهمها”، ويؤيده روجر بينروس بقوله إن “ميكانيكا الكم لا معنى لها إطلاقا”، كما يقول ريتشارد فينمان “يمكن القول بثقة إنه لا أحد على الإطلاق يمكنه أن يفهم فيزياء الكم”.

ومن الأمثلة التي يطرحها الفيزيائيون لنقض المنطق العقلي أن تجارب فيزياء الكم أثبتت إمكانية وجود الإلكترون في مكانين في وقت واحد، وهذا يخالف بوضوح أحد أهم مبادئ العقل الأولية. وأن الإلكترونات والفوتونات وغيرها من المكونات تبدي سلوكا مغايرا في التجارب، فتبدو أحيانا في صورة جسيمات بينما تظهر على أنها موجات في أحيان أخرى.

والجواب أنه لم يثبت أصلا أن الإلكترون يوجد فعلا في مكانين معا كما هو حال الأجسام التي نعرفها، بل تظهر التجارب أن هذا الكائن الذي لا يُمكن أن يُرى بأي مجهر حتى الآن (لأنه أصغر من الموجة الضوئية) والذي يبدي سلوكا متقلبا بين الجسيمات والموجات يترك أثرا في مكانين معا، كما أن فيزياء الكم تنص وفقا لنظرية عدم التأكد على أنه لا يمكن فصل عملية المشاهدة عن سلوك المُشاهَد، فالإلكترون يتأثر برصدنا له أثناء خضوعه للتجربة ولا يقدم لنا سلوكا طبيعيا، فلسنا متأكدين إذن من حقيقة نقضه للمنطق عندما نرصد سلوكه العجيب.

ومن المغالطات التي نتجت عن سوء فهم فيزياء الكم وجود تعارض بين السببية وميكانيكا الكم، والحقيقة أن السببية موجودة أيضا في العالم دون الذري، لكن الجسيمات الذرية لا تقدم ردود الفعل المتوقعة دائما بل يكون سلوكها قائما ضمن احتمالات الدوال الموجية، حيث يقول الفيزيائي الألماني ماكس بورن في كتابه “ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻁﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ” إن فيزياء الكم لا تنقض السببية بل الحتمية فقط، أي أن كل الموجودات –حتى دون الذرية- تخضع للسببية والاطراد .

ويبدو أن تزامن الفتوحات العلمية وظهور نتائجها التكنولوجية مع سقوط النظريات الفلسفية الكبرى في عالم ما بعد الحداثة قد شجع العلماء على تجاوز لعب دور الفلاسفة إلى النكوص للسفسطة والشكوكية العدمية، حتى دعا كثير منهم إلى اعتبار صورة العالم عند الإنسان العادي صورة وهمية، مثل قول العالم البريطاني آرثر إدينغتون إن تصور الرجل العادي للمنضدة يختلف عن تصور العالِم لها، فالأول يراها جسما له لون وملمس وشكل وصلابة وثبات مكاني وديمومة زمنية، بينما يراها العالِم مجموعة ذرات بينها خلاء وتصدر عنها شحنات كهربية خاطفة. لكن الخلط بين اللغة التي تستخدم استخداما سليمًا للتعبير عن الأشياء التي نتعامل معها وبين اللغة المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية لن يؤدي سوى إلى الفوضى.

ومن الأمثلة المشهورة على القصور الفلسفي لدى بعض كبار الفيزيائيين، نذكر النظرية التي طرحها النمساوي إرفين شرودنغر لقطة نضعها (فرضيا) في صندوق مغلق، ومعها عداد غايغر (لحساب الإشعاع) وكمية من مادة مشعة، بحيث يكون احتمال تحلل ذرة واحدة خلال ساعة ممكنا وغير مؤكد، فإذا تحللت الذرة سيطرق عداد غايغر مطرقة تكسر زجاجة تحتوي غازا خانقا فيقتل القطة، ويقول شرودنغر إننا لن نعرف وضع القطة حتى نفتح الصندوق بعد ساعة، وهي قبل ذلك من وجهة نظر ميكانيكا الكم تعتبر في حالة مركبة من الحياة والموت، أي أنها تجمع حالتين متناقضتين.

وكان شرودنغر يقصد بهذا المثال السخرية من اعتقاد بعض علماء الفيزياء النظرية أنه يقدم “دليلا” على اجتماع النقيضين، فهذه ليست سوى سفسطة.

رسم توضيحي لتجربة قطة شرودنغر (Dhatfield)

يقول أليستر راي في كتابه “فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟” إن القارئ عندما يقرأ أن فيزياء الكوانتم تقول بأن القطة نصف حية ونصف ميتة، سيستنتج أن هذه سخافة تافهة، وسيلقي بالكتاب وينسى كل هذا الجنون. والحقيقة أن استعارة المصطلحات والمفاهيم من عالم ما دون الذرة لضرب الأمثلة على العالم المحسوس هو أصل المشكلة، فالفيزيائي بالكاد يستطيع أن يرصد آثار سلوك الجسيمات غير المرئية فتبدو له في لحظة ما وكأنها تجمع نقيضين، ولكن هذا لا يعني أنها كذلك في الحقيقة [فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟، مركز براهين، ص 126].

ويسعى بعض فلاسفة العلم المعاصرين اليوم إلى تبني اتجاه يدعى بالأداتية، يطالبون من خلاله بإعادة النظر ﻓﻲ الكثير من التصورات العلمية الناشئة عن نقل المفاهيم الرياضية اﻟﻤجردة إلى الحقائق المتشخصة على أرض الواقع، مثل تخيل “نسيج الزمكان” على هيئة حقيقية يمكن لها أن تنحني وتتداخل.

وبالنتيجة، إذا حاولنا الإجابة على سؤال هذه الفقرة “هل يجيب العلم على كل الأسئلة؟” فسنوجز الجواب بنقطتين:

النقطة الأولى: الملاحظة العلمية ليست مستقلة، حيث أثبت العالم فرنسي بيير دويم أن التجربة الفيزيائية ليست مجرد ملاحظة، بل هي أيضا تأويل للظاهرة التي تدرسها، ويقول مؤلف “نظريات العلم” آلان شالمرز إن ما يلاحظه العالِم يتوقف في جانب كبير منه على تجربته الماضية ومعارفه [شالمرز، نظريات العلم، دار توبقال، ص 36]. كما أن وضع الفرضيات لتأويل الظواهر الفيزيائية يخضع بدوره في الكثير من الأحيان لخلفية الباحث وتوقعاته. فعلى سبيل المثال، كان الفيزيائي ماكس بورن يقر بأن ما أنجزه في حقل اكتشافات المكونات الذرية كان مجرد تعميمات فلسفية لا فيزيائية، وما زالت الفرضيات المعتمدة اليوم لفهم عالم الذرة غير مثبتة تجريبيا إلا أنها مقبولة كأحد التأويلات الممكنة، والأمر ذاته ينطبق على نظرية التطور الدارويني.

والاستقراء مبدأ فطري، وتبريره فطري، لكن تحديد لحظة الانتقال من الخاص إلى العام قابل للخطأ، والكثير من العلماء المعاصرين يرفضون ذلك بسبب سوء فهمهم لمعنى الفطرة، فغالبية كتب فلسفة العلوم لا تناقش التبرير الفطري أصلا، فهو أمر مستبعد من العلم المادي التجريبي، وهو خلل في مفهوم “المعقولية” أو التأسيس لها. [الإجماع الإنساني، ص 139].

ويقول جون هوت “عند نقطة معينة في سلسلة التحقق من كل فرضية، لا بد من قفزة إيمانية تُعد مكونا أساسيا في العملية، وعنصر الثقة هو عنصر أساسي في كل بحث بشري عن الحقيقة، وإن وجدت نفسك تشك فيما قلتُه الآن فهذا لأنك في هذه اللحظة بالذات تثق في عقلك بما يكفي للتعبير عن شكك في كلامي، فلا يمكنك التخلص من الثقة في عقلك حتى عندما تساورك الشكوك، وأنت لا تطرح أسئلتك النقدية إلا لأنك تؤمن بأن الحق يستحق البحث، فالإيمان بهذا المعنى، وليس بمعنى الخيال الجامح، يكمن في جذور كل دين حقيقي، وكذلك في جذور العلم… وهذا يؤكد أن محاولات الإلحاد الجديد لتخليص الوعي البشري من الإيمان هي مجرد محاولة عبثية” [العلم ووجود الله، ص 107].

وبما أن العلم التجريبي قائم على الملاحظة والتجريب والاستقراء ثم تعميم النتائج على الظواهر الكونية، فهو إذن قائم على الاحتمال، حيث لا يمكن للعالِم أن يجزم بأن الشمس ستشرق غدا كما كانت تشرق كل يوم، ويقول بول ديفيز إن التقدم العلمي يتطلب “فعلا إيمانيا” للاعتقاد بوجود انتظام في الطبيعة، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي روجر تريغ “من أجل أن يتولى العلم مهمة تقديم التفسيرات لجميع الأشياء فنحن بحاجة إلى ما يبرر لنا الوثوق بالعلم” [Rationality and Science, p. 9].

“مع أن التزوير مخالف لأهداف العلم كنشاط ثقافي، إلا أنه متوطن بنيويًا في العلم المؤسس لمجتمعاتنا المعاصرة”.
أستاذة علم الاجتماع دينا فينشتاين.

كما يؤكد مبدأ “عدم اليقين” للفيزيائي فيرنر هايزنبرغ استحالة الحصول على نتائج دقيقة مئة بالمئة عند دراسة خاصيتين معا لشيء واحد من بين جملة خواص كمومية، أي أن معرفتنا للعالم ستبقى منقوصة حتما.

وبالرغم من جنوح خيال ميشيو كاكو في كتابه “فيزياء المستحيل” نحو ما يشبه تأليه العقل البشري، فإنه يعترف بأن “نظرية الكم مبنية على رمال من المصادفة والحظ والاحتمالات، وأنها لا تعطي أجوبة محددة” [العلم ووجود الله، ص276].

يعتبر الكثير من العلماء اليوم أن العلم هو الطريق الوحيد للحق وأنه قادر على تفسير كل شيء، وهذا ليس سوى موقف أيديولوجي مسبق اصطلح الفلاسفة المعاصرون على تسميته بالمذهب العلمي scientism، فليس هناك دليل علمي يثبت أن الوجود مادي بحت وأن التجربة هي المصدر الوحيد لاكتشافه.

يقول الفيلسوف البريطاني برتراند رَسل إن كل ما لا يمكن للعلم اكتشافه لا يمكن للبشرية أن تعرفه، وهذه عبارة متناقضة، فكيف عرف رَسل ذلك طالما أن عبارته ليست مثبتة علميا أصلا؟ ما يعني أنها ليست صحيحة بناءً على موقفه نفسه [العلم ووجود الله، ص106].

النقطة الثانية: حتى إذا اعتبرنا أن الرياضيات هي المصدر العلمي الموثوق للأجوبة على الأسئلة الوجودية، طالما أن الملاحظة الفيزيائية ليست نزيهة بالمطلق، فقد أثبت النمساوي كيرت غودل في عام 1931م أن هناك مقولات صادقة في الرياضيات لا يمكن البرهنة عليها، فعلى سبيل المثال ما زالت حدسية غولدباخ الموضوعة منذ عام 1742م غير مبرهنة، وبات الرياضيون يؤمنون اليوم بأن حلم فيثاغورس بفهم العالم كله عبر الأرقام والحساب مستحيل.

واستنتج الأمريكي المعاصر فريمان دايسون من نظرية “عدم الاكتمال” لغودل أن عالم الفيزياء والفلك غير قابلين للاكتمال أيضا، فمهما ابتعدنا في المستقبل فسيكون هناك دائما أشياء جديدة تحدث ومعلومات ترد وعوالم جديدة تُكتشف. ويلخص الفلكي جون بارو هذه الحقيقة بقوله إن العلم مبني على الرياضيات، ولا يمكن للرياضيات أن تكتشف الحقيقة كلها، فلا يمكن للعلم أن يكتشف الحقائق كلها.

لذلك اقتنع هوكنغ أخيرا باستحالة اكتشاف “نظرية كل شيء” التي تجمع النسبية مع الكم وتلخص كل ظواهر الوجود في معادلة واحدة، فالأمر لا يتعلق بنقص الأدوات وضيق الوقت فقط، بل لأن الملاحِظ (الباحث) سيظل أبدا جزءا من الكون نفسه ومن موضوع البحث، ولن يصبح “إلهاً” منفصلا عن الكون ليكتشفه على حقيقته التامة.

يقول البروفسور بيتر مدوّر في كتابه “نصائح لعالم شاب”: إن أسرع طريقة يسيء بها العالِم إلى سمعته هي أن يصرح بكل جرأة ودون مبرر بأن العلم يعرف أو سيكتشف قريبا الأجوبة على كل الأسئلة، وأن الأسئلة التي لا تقبل الأجوبة العلمية هي أسئلة زائفة وساذجة… لكن محدودية العلم تتضح في عجزه عن الإجابة على الأسئلة البدائية الوجودية، مثل البحث في كيفية بدء الخلق وغاية الوجود ومغزى الحياة. [Advice To A Young  Scientist, harper & row, 1979, p. 31].

ويقول في كتابه “حدود العلم”: من المحتمل أن هناك أسئلة يعجز العلم عن تقديم إجابات عنها نظرا لمحدوديته، كما لا يمكن لأي تطور علمي متوقع أن يؤهله لذلك. إنها الأسئلة التي يطرحها الأطفال، والأسئلة النهائية لكارل بوبر، ولدي أيضا أسئلة من قبيل: كيف بدأت الأشياء، لماذا نحن موجودون هنا؟ من أي شيء تم خلقنا؟ ما هي غاية الحياة؟… فليس في وسع العلم أن يجيب على اسئلة تتعلق ببدايات الأشياء ونهاياتها، والذي يجيب عليها هو الميتافيزيقيا والأدب والدين. [The Limits of Science, Oxford, 1984, p. 60].


المصدر الرابع: الإجماع
ربما لا تعتبر الكثير من المراجع الإجماع الإنساني بمثابة مصدر مستقل للمعرفة، إلا أننا ارتأينا تخصيصه كمصدر على أساس بعض الأبحاث الحديثة التي تعطي المجتمع دورا جوهريا في بلورة المعطيات الحسية والنفسية التي يتلقاها الإنسان منذ طفولته لتتحول إلى معرفة.

اهتم المفكر الإسلامي ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي بالمعنى الاجتماعي لتعريف “العادة الإنسانية الصحيحة”، فكان يرى أن تصحيحها يستند إلى انتشارها بين كافة المجتمعات البشرية، وكونها عادة نفسية واجتماعية أصيلة في البشر، فضلا عن تعبيرها عن حاجة ضرورية.

وعندما أعاد هيوم نشر فلسفة الشك السفسطائية في القرن الثامن عشر الميلادي، تصدى له الفيلسوف الأسكتلندي توماس ريد وأكد أن إجماع الأمم من العامة والمتعلمين ينبغي أن يكون له على الأقل سلطان كبير، إلا إذا استطعنا أن نثبت وجود تحيز ما من العموم لإجماع ما، فالأصل في الإجماع أن يكون مبررا بنفسه وأن المشكك هو الذي ينبغي أن يثبت وجود التحيز.

واعتبر ريد أن خصائص المشتركات الإنسانية هي: الإدراك بالحدس، الميل النفسي للتصديق بها في بنية الإنسان، الشعور بالحيرة عند الشك فيها، وأن تكون ضرورية للتعامل مع العالم بنجاح.

وأيضا تصدى كانط لشكية هيوم كما أسلفنا أعلاه، ورأى أن التعاقب الموضوعي ناشئ عن مبدأ عقلي أولي، فأعطى بذلك لما أسماه بالعقل الفعال دورا جوهريا في المعرفة.

وفي بداية القرن العشرين أحيا الفيلسوف البريطاني جورج مور فلسفة ريد وانتصر للفطرة السليمة، كما تصدى لمن يشكك بوجود العالم الخارجي بمناقشات شهيرة، ومن أشهر ردوده عليهم: حين أرفع يدي إلى أعلى وأقول: هذه يد، ثم أرفع يدي الأخرى وأقول: هذه يد أخرى، فبذلك أكون قد برهنت على وجود العالم الخارجي.

جون سيرل (FranksValli)

ثم أصدر الفيلسوف الأمريكي جون سيرل كتاب “العقل واللغة والمجتمع” الذي يعد من أهم الكتب المتخصصة في الانتصار لموقف الإنسان العادي، وقال فيه إن معيار المواقف التلقائية هو الثبات البشري العام على التمسك بها خلال التاريخ الطويل المليء بالدواعي الكاشفة للحقيقة، فطالما أن هذه القضايا لم تُكذب مطلقا فهذه قيمة موضوعية، كما اعتبر أن المواقف التلقائية سابقة على أي رؤية ذوقية فهي تتمتع بالكثير من الموضوعية.

ويعد الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين (توفي عام 1951م) من أهم المفكرين الذين لفتوا النظر إلى أهمية المجتمع في تكوين المعرفة من خلال دراساته في اللغة، وقد أكدت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة نظريته، فكان ينكر إمكان تمييز المعطيات الحسية والحالات النفسية دون ربط مجتمعي لكل حالة بلفظ معين، فالإنسان يتعرف على نفسه وعلى العالم من خلال علاقة إشارية موضوعية، ومن المستحيل عليه أن ينشئ لغة خاصة به من خلال المعطيات الحسية. والمعيار الأصلي هو الجماعة لا الذات، فالجماعة توفر له المعرفة الصحيحة بعلاقات واضحة ورمزية بشكل أفضل بكثير من المعيار الفردي الذي يفهم به الطفل الوليد قبل أن يتعلم اللغة، .

لودفيغ فتغنشتاين

وبحسب فتغنشتاين فنحن نتصور الألم من خلال اللغة، وبدون لغة سنتألم دون وعي بالألم. وبالخلاصة فلا يمكن الحديث عن أي “معقولية للعالم” بدون قواعد معيارية نكتسبها من الجماعة، ولا يمكن لأحد أن ينشئ لغة خاصة به (استبطان) دون استناد إلى معايير عامة يفهمها الناس.

ويقول فيلسوف العلم الأميركي المعاصر إرنست ناغل إن اللغة التي نستخدمها لوصف تجاربنا المباشرة هي اللغة المعتادة للتواصل الاجتماعي، فتطابق المباني اللغوية الأساسية في كافة المجتمعات مع اختلاف التجارب والمناخ والمعتقدات يبرهن على أن هناك بنية إنسانية عامة.

وهذا يعني أن المجتمع هو الذي يحدد شروط معرفتنا، ويوجه حواسنا منذ طفولتنا لنرى العالم كما نراه، والحاجة النفسية العميقة (الفطرية) هي التي تدفع الطفل للمسارعة في اتباع القواعد الإنسانية العامة وتعلم طرق التصنيف الإنساني والإيمان باطراد الحوادث. وقد لخص ناغل شروط تحقق الفطرة في نقطتين: أن تكون شرطا للعبة الجماعة البشرية، وأن تعبر عن حاجة اجتماعية ونفسية.

ويستنتج العالم البريطاني “ألفرد جول آير” أن حواس الإنسان ليست خاصة به بل محكومة بالتجربة الجماعية العامة، ولذلك لا نقول عن شيء إنه قابل للإدراك إلا إذا كان من الممكن وصفه من خلال مجموعة أشخاص على الأقل [The problem of knowledge, p.85].

وبناء على هذه المعطيات الحديثة، يمكن أن نجري بعض التعديلات على نظرية كانط بشأن “العقل الفعال” التي تعرضنا لها سابقا، فقد كان يرى أن المبدأ الكلي الضروري لا يصدر عن حس خالص أو معطيات حسية بل هو من طبيعة العقل الإنساني الفردي، والتجارب الحديثة تثبت أن القاعدة لا يمكن أن تنشأ من عقل واحد ولو كان فعالا، وأن الطفل لا يكتسب اللغة من ذاته بل في إطار اجتماعي تقبله الغريزة بمجرد الاحتكاك بالقواعد.

ومن الخطأ الخلط بين مغالطة الاحتكام إلى الأكثرية [انظر مقال المغالطات المنطقية] وبين استنباط البنية الطبيعية لإدراك البشر من خلال اتفاقهم الفطري رغم اختلاف الظروف والعادات بين المجتمعات.

المصدر الخامس: الوحي

يعرّف ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” الوحي بأنه أصل يدل على إلقاء علم من أحد لغيره، وقيّده البعض بأنه خفي وسريع. ونجد في القرآن الكريم صورا للوحي لا تتقيد بالمعنى الديني، فهو يشمل الإلهام الغريزي للحيوان: {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: 67]، والإلهام الفطري للإنسان: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7]، والإشارة السريعة من شخص لأشخاص آخرين: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا} [مريم: 11]، ووسوسة الشياطين: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121].

لكن المقصود بالوحي هنا هو الذي يوحي به الله إلى أنبيائه ورسله: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به} [الأنعام: 19]، وهو الوسيلة التي أبلغ الله بها رسله برسالتهم وطالبهم بتبليغها للناس: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163].

وإذا تجاوز الإنسان مرحلة الشك وآمن بوجود الله، سواء عن طريق العقل أو الكشف، أو بالتحقق من صدق الأنبياء ومعجزاتهم، فمن البدهي أن يعتبر الوحي الإلهي أعلى درجات مصادر المعرفة، وأن يعتبر كل ما يصدر عنه بمثابة العلم اليقيني. وبما أننا ما نزال في بداية طريق البحث عن الحقيقة فسنؤجل الحديث عن ضرورة اللجوء إلى الوحي بعد أن نتحقق من وجود الله أولاً، ثم سنتعرض في مقال “نبوة محمد” وما يليه لتفاصيل هذا المصدر المعرفي.

وما يهمنا بالدرجة الأولى في مصدرية الوحي للمعرفة هو الجانب الميتافيزيقي، فبعد أن ثبت لنا عجز العقل عن الخوض في عوالم الغيب، وعدم امتلاكنا لأي برهان يضمن صدور المكاشفات الحدسية -بشأن الغيبيات- عن مصدر موثوق، واستحالة التوصل إلى العالم الغيبي بالحواس لأنه مفارق للحس أصلا، وعجز التجربة والرياضيات عن الإحاطة بحقائق الكون المادي نفسه فضلا عن العالم الغيبي، فلن يبقى لدينا سوى اللجوء إلى الوحي بعد التحقق من صدق نسبته إلى الله.

ويجدر بالذكر أن الوحي بوصفه مصدرا للمعرفة يُصنف لدى علماء المسلمين تحت باب أوسع هو النقليات أو الخبريات، والذي يشمل كلا من: الخبر الصادق القطعي المثبت بالتواتر (القرآن الكريم والسنة والأخبار المتواترة)، والخبر الظني (روايات التاريخ والأحاديث التي لم تبلغ درجة التواتر)، والأساطير.

أما الفلاسفة المنكرين للوحي فيعتدون بمصدرية الخبر عندما تتحقق شروط الثقة في نقل الرواية، وإلا فلا قيمة لعلم التاريخ ولكل ما يصل إلينا من معارف وأخبار غابت عن حواسنا. فعلى سبيل المثال لا يمكن لأحد في العالم أن يرى بعينه كل مدن العالم بما فيها من سكان ومنازل وأسواق، إلا أنه يصدّق بوجود أي منها إذا تواترت الأخبار التي يتداولها الناس بوجود تلك المدينة ولو كانت في أقصى أصقاع الأرض ويصعب عليه التحقق شخصيا من وجودها.

ولم يخل تاريخ الفلسفة من منكري قيمة النقل، فالتيار السفسطائي الشكي في اليونان ممثلا بغورجياس كان يرى أنه لا يمكن معرفة شيء، وإن أمكن فلا يمكن نقل المعرفة للآخرين.

تمثال زيوس كبير الآلهة اليونانية

مواقف الفلاسفة من الوحي
إذا اعتبرنا اليونان مهداً للفلسفة، فسنبدأ عرضنا التاريخي من مواقف فلاسفتها تجاه الوحي، وسيأتي ذكر نشأة الأديان والأساطير هناك في مقال الوثنية، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن ما وصلنا من تراث فلاسفة اليونان قد لا يدل في الظاهر على أن الوحي بلغهم في ظل سيادة الأساطير على المشهد، ولذلك لم يصلنا من تراثهم الفلسفي شيء عن البحث في مسألة الوحي، سواء في المرحلة العقلانية الأولى على يد طاليس وأنكسيماندر، أو في مرحلة السفسطة، أو حتى في مرحلة سقراط ومن بعده ممن أعادوا الاعتبار للعقل، وذلك بالرغم من إيمانهم بوجود إله خالق من منطلق الضرورة العقلية. لكن التحقيق يرجح أن الأساطير الإغريقية نفسها لم تكن سوى تحريف لرسالة الوحي، حتى انقلبت الملائكة إلى آلهة تسكن جبل الأوليمب، ومع ذلك فالأثر الباقي في تراث الفلاسفة يبدو خاليا من آثار الوحي لأنه لم يبق لديهم منه شيء.

وقد أدى افتقار الإغريق للوحي إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية، فيقال إن سقراط ناقش مع مجموعة من أتباع فيثاغورس قضية خلود النفس البشرية، حيث حاولوا أن يدافعوا عن نظريتهم في التناسخ انطلاقا من خلفيتهم الباطنية، فاثبت لهم سقراط تهافت النظرية، فاقترحوا القول بخلودها بعد موت الجسد، فناقشهم أيضا في هذا الطرح ولم يتمكنوا من البرهنة عليه، وعندئذ سكت الجميع برهة، وقال أحدهم ويدعى سيمياس إن العلم بحقائق هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا، ومن الجبن اليأس في البحث حتى الوصول إلى آخر حدود العقل، وإذا لم نستوثق من الحق فعلينا أن نكتشف الدليل الأقوى ما دام أنه لا سبيل لنا إلى بلوغ اليقين بالوحي الإلهي [يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص91].

وعندما انتشرت المسيحية في أوروبا، رأى قسم من الفلاسفة أن الفلسفة والدين متغايران ولا يمكن جمعهما، وأن الدين لا يُعتنق إلا بالإيمان الأعمى دون تعقل، بينما رأى غالبية فلاسفة القرون الوسطى أن الوحي والعقل كلاهما من الله فلا يمكن أن يتعارضا، وقالوا إن ما جاء في الأناجيل من غيبيات لا يمكن للعقل أن يدركه بنفسه، فعليه أن يصدّق به كما جاء في تلك الكتب.

وفي القرن الثالث عشر بدأت فلسفة أرسطو العقلانية بالانتشار، واستفاد منها القديس الإيطالي توما الأكويني في محاولة إثبات ما جاء في الأناجيل بالمنطق، ثم ظهر من الفلاسفة من يقدم العقل على النقل ويرى أنه في حال تعارضهما فلا بد أن يكون العقل هو الأولى، ومن هؤلاء جون سكوت وآلان ديليل. وعندما انطلق عصر النهضة في القرن الرابع عشر كان الفلاسفة قد حسموا أمرهم في الفصل بين الفلسفة واللاهوت، واعتبروا أن “الوحي” مناقض للعقل ولا يدعمه الدليل العلمي.

ويجدر بالذكر هنا أن الوحي الذي كان موضع البحث لم يكن هو إنجيل عيسى عليه السلام، بل مجموعة الأناجيل الأربعة التي أقرها مجمع نيقية في القرن الرابع الميلادي، وقد فقد فلاسفة عصر النهضة الثقة بها عندما شرعوا في نقدها تاريخيا وتبين لهم احتواؤها على الكثير من التناقضات، فضلا عن عدم وجود أي دليل على صحة نسبتها إلى عيسى نفسه [انظر مقال المسيحية]، لذا أقر بعض الفلاسفة في القرن السابع عشر وما بعده -مثل سبينوزا- بأن هناك وحيا نزل بالفعل على النبيين موسى وعيسى عليهما السلام إلا أن الكتاب المقدس المعترف به من قبل الكنيسة ليس سوى نسخة محرفة، بينما قرر فلاسفة نزعة “التنوير” التخلي عن الإيمان بالوحي والاكتفاء بمصدرية العقل أو الحس أو الحدس.

ومن الواضح أن نقد فلاسفة الغرب للوحي صادر عن اعتقادهم بأنه يقتصر فقط على الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، بينما لا يكاد يتعرض أحدهم للقرآن في بحثه، وقد وضعوا الأديان كلها في سلة واحدة من خلال منظورهم للدين من زاوية تراثهم اليهودي-المسيحي فقط، ولم يميزوا بين القرآن وغيره لانطلاقهم في دراسته -إن فعلوا- من أبحاث المستشرقين الذين أقر معظمهم أن القرآن ليس وحيا إلهيا أصلا.

وفيما يتعلق بالإسلام، فسنبحث في مقال مستقل مرجعية الوحي الإسلامي ومصداقية نسبته إلى الله، ونكتفي هنا في سياق العرض التاريخي بالإشارة إلى أن مواقف فلاسفة الإسلام من مصدرية الوحي للمعرفة تنوعت كتنوع المواقف في أوروبا، فكان المعتزلة يحاولون إثبات حقائق الوحي بأدوات المنطق مع تقديم العقل عند “التعارض” مع النقل، بينما كان الأشاعرة يستخدمون الأدوات نفسها لإثبات عدم التعارض، كما وضع ابن رشد كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لإثبات توافق العقل والنقل من خلال مفهومه الخاص للعقل والذي يقتصر على المنطق الأرسطي، ثم وضع ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي كتاب “درء تعارض العقل والنقل” ليثبت أيضا عدم التعارض، ولكن دون قصر العقل على فلسفة أرسطو.


أهم المراجع
برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1967.

يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي.

عبد الرحمن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، دمشق، 1993.

عبد الرحمن الزنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي: دراسة نقدية في ضوء الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.

علي سامي نشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.

محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلو المصرية، 1949.

ميشيو كاكو، فيزياء المستحيل، ترجمة سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أبريل 2013.

رضا زيدان، الإجماع الإنساني، مركز براهين، 2017.

لؤي صافي، إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى النظرة التكاملية، دار الفكر، دمشق، 1998.

طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012.

راجح الكردي، نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.

جون لينوكس، العلم ووجود الله، ترجمة ماريانا كتكوت، الناشر خدمة كريدولوغوس، 2015.

عبد الله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، مركز تكوين، 2014.

عبد الرحمن الحاج، مقال “أزمة المعرفة في سياق الحداثة”، موقع إسلام أونلاين، 23 نوفمبر 2002.

إسماعيل عرفة، مقال “خائنو الحقيقة.. كيف يخدع علماء الطبيعة الجماهير؟”، موقع ميدان، 2 سبتمبر 2017.

J. Ayer, The Problem of Knowledge, Penguin, New York, 1956.

Sterling Lamprecht, The Metaphysics of Naturalism, Appleton Century Crofts, New York, 1960.

Roger Trigg, Rationality and Science, Oxford: Blackwell, 1993.

http://www.almasalik.com

فرسان الهيكل

فرسان الهيكل هو اختصار لاسم أول منظمة عسكرية وأشهرها في تاريخ أوروبا، وهي المنظمة الأم التي كانت كل المنظمات العسكرية في تاريخ أوربا فرعاً منها أو تقليداً لها، واسمها الكامل هو “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان” The Poor Fellow Soldiers of Christ and of Temple of Solomon، ولا توجد معلومات موثقة عن نشأة المنظمة ولا بداية تكوينها، وكل الذين أرخوا لفرسان الهيكل لجأوا إلى مصدر وحيد كُتب بعد سبعين سنة من إنشائها على يد وليَم الصوري. وقبل أن نستعرض نشأة المنظمة وتطورها وصولا إلى أفولها وتفتتها إلى عشرات المنظمات السرية القائمة حتى اليوم، يجدر بنا الحديث عن الجذور التاريخية التي تعود إلى بني إسرائيل.

رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)

الجذور الإسرائيلية
يقول مؤرخون إن هيكل سليمان في بيت المقدس كان يضم مدرستين إحداهما للصبيان والأخرى للفتيات، وكانت الأولى تخرج كهنة الهيكل والربانيين والأحبار ليكونوا صفوة المجتمع اليهودي، وكانوا يُختارون من العائلات الثابت انحدارها من سبط لاوي المتحدر من هارون، بينما يختص سبط يهوذا المتحدر من داوود بالمُلك.

وعندما هدم الإمبراطور الروماني فسباسيان الهيكل سنة ٧٠ تفرق رؤساء السبطين وأسرهم ومن تبعهم في أرجاء الأرض، واستقر عدد كبير منهم في أوربا الغربية. وكانت تقاليدهم تقتضي الاندماج في المجتمعات الأخرى والتظاهر باتباع الدين السائد وإخفاء أنسابهم الحقيقية، بخلاف عوام اليهود ممن يعلنون أنسابهم ويمارسون شعائرهم.

وطوال قرون حرص سبط المُلك وسبط الكهانة على التوغل في المجتمعات والصعود إلى قمتها، فأحد فروع أسر الملك الإلهي صار هو صلب الأسرة السكسونية الحاكمة في إنجلترا، كما امتزج فرع آخر مع الأسرة الميروفنجية التي حكمت فرنسا مابين القرنين الخامس والثامن الميلاديين، بينما وصل فرع آل سيتوارت إلى عرش اسكتلندا.

ومن هذه الأسر أيضا آل سان كلير التي حكمت نورماندي شمال غرب فرنسا، وتزاوج أبناؤها مع أسر الملك الإلهي الأخرى في فرنسا وهي شومو وجيزور وكونت وكونت شامبان وبلْوا وبولون.

ووفقا لكتاب “المُلك الإلهي” Rex Deus الصادر عام 2000 للمؤلفين الثلاثة غراهام سيمانز وتيم والاس ميرفي وماريلين هوبكنز، فإن مجموعة أسر الملك الإلهي كانت قد سيطرت على معظم أوربا الغربية مع مطلع القرن العاشر الميلادي بتغلغلها في الأسر الحاكمة، وهو أمر لم يلاحظه معظم المؤرخين التقليديين.

ونتيجة لهذا النفوذ نجحت الأسرة الميروفنجية في التغلغل إلى داخل الكنيسة الكاثوليكية وصولا إلى تعيين ستة بابوات من أصول ميروفنجية، كان أولهم البابا سلفستر الثاني سنة ٩٩٩، وآخرهم هو أوربان الثاني الذي أعلن بدء الحروب الصليبية عام 1096 باسم الكاثوليكية، وذلك بعد استكمال خطة حشد أوربا المسيحية وراء أسر الملك الإلهي التي تجري فيها الدماء الإسرائيلية.

هوج دي بايان

تشكيل المنظمة
مع وصول الصليبيين إلى الأراضي المقدسة وسيطرتهم على بيت المقدس، انتقلت خطة أسر الملك الإلهي إلى المرحلة التالية، ففي سنة ١١١٨ سافر إلى القدس تسعة فرسان من السلالة الإسرائيلية وعلى رأسهم هوج دي بايان وأندريه دي مونتبارد، والتقوا بالملك بلدوين الثاني الأخ الأصغر لأول ملوك مملكة أورشليم اللاتينية الصليبية جودفروا دي بويون وخلفه عليها، وأسفر اللقاء عن تكوين منظمة فرسان الهيكل تحت مسمى “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان”.

وكان الهدف المعلن للمنظمة هو حراسة طرق الحج المسيحية من سواحل يافا إلى أورشليم وحماية الحجاج المسيحيين القادمين من أوربا من قطّاع الطرق.

وذهب بعض الباحثين إلى أن هذا الهدف لم يكن سوى غطاء لأهدافهم الحقيقية، وذلك لسببين، الأول هو أن تأمين طرق الحج الطويلة من يافا إلى أورشليم مهمة يستحيل أن يقوم بها تسعة فرسان في الأربعينيات من العمر، والثاني أنهم جعلوا مقر قيادتهم في المسجد الأقصى وليس على طريق الحج كما يُفترض.

فبعد استيلاء الصليبيين على القدس وتحويلها إلى مملكة أورشليم اللاتينية، حوّلوا المسجد الأقصى إلى “هيكل الرب”، وفي السنوات العشر الأولى من عمر المنظمة لم تفعل شيئا له علاقة بالمهمة التي ادعتها بل كانت مشغولة فقط بالحفر والتنقيب تحت المسجد الأقصى، حيث اكتشف الكابتن البريطاني وارين في سنة ١٨٦٧ الأنفاق التي حفرها فرسان الهيكل وفيها بعض آثارهم من تروس وصلبان.

دي كليرفو

في مجمع طروادة سنة ١١٢٩ م تمكن برنارد دي كليرفو -كبير مستشاري البابا وابن أخ مونتبارد- من الحصول على اعتراف الكنيسة بفرسان الهيكل. وبما أن الكنيسة لم تكن تقبل فكرة أن يكون الرهبان مقاتلين، فقد كتب دي كليرفو عدة رسائل ومقالات، كان أشهرها رسالة كتبها سنة ١١٣٥ بعنوان “في مدح فرسان الهيكل” ووصف فيها فارس الهيكل بأنه “فارس لا يعرف الخوف الطريق إلى قلبه، وما يحرسه ويقوم على حمايته آمن ومصون، قوة الإيمان تحرس روحه، كما أن الحديد يحمي جسده، ولأن سلاحه في جسده وفي روحه معاً، فلا خوف يعتريه ولا يتمكن منه إنسان”.

وفي سنة ١١٣٩ تمكن دي كليرفو من استصدار مرسوم بابوي من البابا الجديد إنوسنت الثاني يمنح فرسان الهيكل حق المرور عبر حدود الممالك والإمارات الأوربية كافة بحرية تامة ودون دفع ضرائب عبور، كما استثناهم من الالتزام بالقوانين المحلية في كل أوربا، بحيث لا يخضع فرسان الهيكل إلا لأستاذهم الأعظم، بينما لا يخضع هو سوى للبابا نفسه. وهي امتيازات لم يحصل عليها أحد في كل أوربا.

وهكذا انهالت على المنظمة العطايا والهبات من النبلاء والملوك، فبعد انتهاء الفرسان التسعة من حفرياتهم تحت المسجد الأقصى وحصولهم على الشرعية عادوا إلى فرنسا سنة ١١٢٩، ثم رحل الأستاذ الأعظم دي بايان ومعه دي مونتبارد إلى إنجلترا ثم اسكتلندا، فحصلوا من آل سنكلير على أرض واسعة تحولت لاحقا إلى مقر قيادة.

ارتبط تكوين فرسان الهيكل ثم صعودهم بالحروب الصليبية، فهي التي جلبت لهم الشرعية وأجبرت الكنيسة الكاثوليكية على غض الطرف عن الجمع بين الرهبنة والقتال. ونظرا لكفاءتهم في القتال فقد أصبحت المنظمة القوة الأولى في مملكة أورشليم الصليبية، ففارس الهيكل الذي يجمع بين الرهبنة والفروسية يتصف بصفات لا يناظره فيها أي جندي آخر، كقوة البنية والتدريب العالي والتسليح الجيد.

ويُقسِم الفارس ألا يفر من القتال أو يخرج من الميدان إلا بإذن قائده أو إذا واجهه ثلاثة مقاتلين معاً على الأقل، والموت في الميدان هو أسمى صور الموت عنده. كما كانت خيول فرسان الهيكل مدربة على أجواء القتال، وكانت كتائبهم أشبه بقوات الصاعقة في الجيوش الحديثة، حيث تساند الجيوش الكبيرة بأعداد قليلة تنقض على العدو في سرعة خاطفة لخلخلة الصفوف.

القوة الاقتصادية

كنيسة تابعة لفرسان الهيكل في لندن وتبدو كالقلعة

مع الوقت طور فرسان الهيكل مهاراتهم ليصبح استثمار الأموال وإدارة المزارع وتربية الخيول وإقراض الأموال والتجارة من أبرز أنشطتهم، بل تقدمت على القتال الذي صار واجهة الفرسان لجلب الشرعية فقط .

كان النبلاء المتجهون إلى الأرض المقدسة للمشاركة في الحروب يتغيبون سنوات طويلة، فيضعون ثروتهم كلها تحت سيطرة فرسان الهيكل لحمايتها، فإذا مات أو لم يعد نقلوها إلى ورثته أو إلى المنظمة إن رغب في ذلك، ويقال إن ملك فرنسا فيليب أوجست أودع ثروة التاج الفرنسي بمقر فرسان الهيكل في باريس وفوضه في إدارة الأملاك الملكية، وطوال فترة غيابه كانت عوائد إدارة هذه الثروة تذهب إليهم.

وأقام فرسان الهيكل شبكة بنكية داخل أوربا، وبينها وبين الأرض المقدسة وعبر الطرق الممتدة بينهما، فإذا أراد أوربي الحج ذهب إلى أقرب مقر لهم ليودع أموالا تغطي تكاليف الرحلة ويأخذ ما يشبه الصك ليقدمه عند كل مرحلة في رحلته إلى مقر لفرسان الهيكل فيمنحوه ما يشاء من مال، وقد أكسبت هذه التقنية فرسان الهيكل قوة سياسية ونفوذاً اقتصادياً حتى انخرطوا في تمويل التجارة ونقل البضائع، فأنشأوا أسطولاً حربياً تجارياً يتكون من ثماني عشر سفينة، ولم تكن أي دولة أوربية في حينه تملك أسطولاً بمثل سرعته وكفاءته.

صار الفرسان بمثابة شركات متعددة القوميات وعابرة للبحار تستثمر أموال الأمراء والنبلاء وتدير أراضي الإقطاعيين وتؤجر ما تمتلكه من أراض للمزارعين، وبعد خمسين عاماً من تكوينها صارت قوتها الاقتصادية تفوق قوة دول غرب أوربا مجتمعة.

وكان من أبرز أنشطة فرسان الهيكل الإقراض بالربا، حيث التفّوا على حكم الكنيسة بتحريم الربا عبر تسميته بالأجرة بدلا من الفائدة، واضطرت الكنيسة للتغاضي عن الأمر لحاجتها إلى تمويل الجيوش، فمنذ النصف الثاني للقرن الثاني عشر أصبحت المنظمة هي الممول الأبرز للحملات الصليبية.

وفي عام 1200 زاد البابا إنوسنت الثالث من قوتهم بإصدار مرسوم ينص على عدم خضوع الأفراد والأموال والبضائع داخل مقرات فرسان الهيكل ومنازلهم للقوانين المحلية الأوروبية.

إحدى قلاع فرسان الهيكل بالبرتغال
(DanielFeliciano)

وبالإضافة إلى قوتهم الاقتصادية، كان فرسان الهيكل أعظم البنائين في القرون الوسطى، فشيدوا لمنظمتهم خمسة عشر ألف مقر خلال قرنين، وكانت مقراتهم تتضمن مزارع وطواحين وحظائر خيول وكنائس وأديرة وحصونا، ومن أشهر آثارهم قلعة صفد في فلسطين.

وكان إنوسنت الثاني قد سمح لهم سنة 1139 ببناء كنائس خاصة بهم لا تخضع لسيطرة الأبرشيات والأسقفيات المحلية، فكثفوا عملية البناء، واختاروا لمقراتهم مواقع مرتفعة للإطلال على طرق الحج والتجارة، وابتدعوا تصميما جديدا للكنائس هو الطراز الدائري القوطي، والذي تعمدوا فيه محاكاة تصميم هيكل سليمان.

وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر تمايز البناؤون في أوربا إلى ثلاث طوائف، الأولى هي أبناء الأب سوبيس التي تتولى بناء الكنائس على الطراز الروماني، والثانية أبناء ميتر جاك المختصة بتشييد القناطر والجسور، أما الثالثة وهي المرتبطة بفرسان الهيكل فاسمها أبناء سليمان، وكانت تهتم ببناء الكنائس والأديرة الضخمة على نمط العمارة القوطية، وهي تنسب نفسها للنبي سليمان بن داوود باني الهيكل، وقد وضع فرسان الهيكل في عام 1145 لائحة قواعد تنظم شؤون الحياة اليومية لأبناء سليمان، بما فيها طريقة الأكل والنوم والثياب، فهي تجعل من بناء الكنائس رسالة خالدة ولها طقوس وشروط ونمط حياة خاص، وكانت هذه الطائفة هي بذرة الماسونية كما سنرى لاحقا.

العلاقة بالباطنيين
يقول ول ديورانت في موسوعة “قصة الحضارة” إن الإسماعيليين استخدموا أعضاء جماعاتهم السرية في التجسس والدسائس السياسية، ثم انتقلت طقوسهم إلى بيت المقدس وأوربا، وكان لها أكبر الأثر في أنظمة فرسان الهيكل ومنظمة النور البافارية (إلوميناتي)، وغيرها من الجماعات السرية التي قامت في العالم الغربي، كما كان لها أكبر الأثر أيضًا في طقوسها وملابسها.

أما مؤلف كتاب “تاريخ الماسونية” كلافل –وهو من أقطاب الماسونية- فيؤكد أن منظمة فرسان الهيكل كانت على علاقة وثيقة بالإسماعيلية [ويقصد جماعة الحشاشين تحديداً]، فكلاهما اختارتا اللونين الأحمر والأبيض شعارًا لهما، واتبعتا النظام نفسه والمراتب نفسها، فكانت مراتب الفدائيين والرفاق والدعاة تقابل المراتب نفسها لدى فرسان الهيكل وهي المبتدئ والمنتهي والفارس، كما تآمرت المنظمتان على “هدم الدين” الذي تظاهرت باعتناقه، وشيدتا الحصون العديدة للاحتماء بها.

ويتفق معه الباحثان الماسونيان كرستوفر نايت وروبرت لوماس في كتابهما الشهير “مفتاح حيرام” بتأكيدهما على أن أصل الماسونية يرجع إلى فرسان الهيكل.

وتحدث مؤرخون عدة في الشرق والغرب عن زيارة قام بها دي مونتبارد إلى قلعة شيخ الجبل سنان بن سلمان ليتلقى على يديه أصول العمل السري والاغتيالات، ما دفعهم إلى القول إن الحشاشين الإسماعيليين لعبوا دورا جوهريا في تطوير أنظمة الجمعيات السرية لتصل إلى وضعها الحالي في العصر الحديث.


الأفول
كانت موقعة حطين سنة 1187 التي كسرت الممالك الصليبية هي بداية أفول الفرسان، حيث ارتكب الأستاذ الأعظم للمنظمة جيرار دي ريدفورد أخطاء فادحة، إذ خرج بثمانين من نخبة فرسانه لمباغتة صلاح الدين الأيوبي قائد جيوش المسلمين، لكن هذا الأخير أحاط بهم وقضى عليهم، فأخطأ دي ريدفورد مجددا واستسلم ليقع أسيرا مخالفا دستور الفرسان، ثم أطلق سراحه بعد حطين بفدية باهظة.

يؤكد مؤرخون أوروبيون أن صلاح الدين أطلق سراح معظم الأسرى بعد حطين باستثناء فرسان الهيكل وفرسان مالطة، ويرى الأستاذ بجامعة نونتنغهام ديفيد نيكول في كتابه “حطين 1187” أن إعدامهم لم يكن عملاً قاسياً إذا ما أخذ بعين الإعتبار أن صلاح الدين يعلم استعداد هؤلاء الفرسان للموت بشكل دائم، فكان القضاء عليهم وعدم القبول بالفدية وسيلة ناجعة للقضاء على القوة الضاربة للصليبيين.

حاول فرسان الهيكل دفع أوروبا إلى معركة أخرى مع صلاح الدين لاستعادة القدس، لا سيما بعد سقوط إمارة صفد التي كانت تضم أمنع قلاع فرسان الهيكل، وانضم الفرسان إلى الحملة الصليبية الثالثة التي يقودها ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد وملك فرنسا فيليب الثاني، لكن الصليبيين عجزوا عن استعادة القدس بالرغم من محاولاتهم المتكررة، فركزوا جهودهم على المدن الثلاث المتبقية لديهم وهي أنطاكية وطرابلس وصور، ونجحوا أخيرا في السيطرة على ميناء عكا عام 1191.

وبعد قرن كامل من احتلال الصليبيين لعكا، فتحها المسلمون المماليك عام 1292، وسقطت بذلك آخر قلاع فرسان الهيكل في الشرق الإسلامي، فنقل أستاذهم الأعظم جاك دي مولاي مقر قيادتهم إلى جزيرة قبرص، وقام بجولات واسعة في أوربا لتحريض البابا والملوك على شن حملة صليبية جديدة ففشل، لكنه تمكن من الحفاظ على امتيازات منظمته.

حاول فرسان الهيكل عام 1300 استعادة طرطوس على الساحل السوري، فنقلوا أسطولهم إلى جزيرة أرواد، لكن المماليك طردوهم منها بعد سنتين. ومن حينها صارت فرسان الهيكل منظمة عسكرية بلا هدف وجيشاً بلا معركة، ولم يعد في حوزتها سوى السيطرة المالية والنفوذ الاقتصادي.

وفي سنة 1305 صعد البابا كليمنت الخامس إلى الفاتيكان، وبناء على رغبة ملك فرنسا فيليب الرابع طلب من جاك دي مولاي وفولك دي فيلاريه الأستاذ الأعظم لفرسان مالطة الحضور إلى فرنسا لمناقشة دمج المنظمتين، وعندما وصل دي مولاي بدأ التحقيق معه باتهامات فيليب الرابع له بالهرطقة وممارسة السحر والخروج عن المسيحية، حيث أكد الملك أنه تمكن من اختراق منظمته باثني عشر جاسوساً تحققوا من تلك الاتهامات.

أمر فيليب الرابع باعتقال دي مولاي مع سبعين من قياداته، فاعترفوا تحت التعذيب بالاتهامات، وخلال السنوات الخمس التالية اعتقل مئة وخمسة وثلاثون آخرون واعترفوا جميعاً.

إحراق بعض فرسان الهيكل بالنار

أصدر البابا مرسوماً باعتقال فرسان الهيكل في كل أوربا ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم والتحفظ عليها، وفي عام 1310 أمر فيليب الرابع بإحراق أربعة وأربعين فارساً منهم أحياء وعلناً في باريس، وقرر البابا حل المنظمة وتحويل ممتلكاتها إلى منظمة فرسان مالطة.

وفي السنة نفسها انتهت اللجنة التي كونها البابا لمتابعة قضية فرسان الهيكل وتقديم تقرير عن المنظمة وممارساتها، وكانت النتيجة هي الحكم على دي مولاي بالإعدام على الخازوق عام 1314.

وانتهت بذلك (ظاهريا) قصة الصعود الاستثنائي لأحد أكثر التنظيمات العسكرية نفوذاً، والتي نجحت خلال قرنين فقط من السيطرة على أكثر من 900 مستوطنة، وامتلاك عشرات القلاع والحصون، فضلا عن ابتكارها لأحدث أساليب التسليح والتخطيط العسكري والأعمال المصرفية والنقل والزراعة والتجارة، والتي كان لها فضل في تطور المجتمع الغربي لاحقاً.

منظمة فرسان مالطة
ما زالت هذه المنظمة قائمة حتى اليوم، بل تحولت إلى دولة ذات سيادة ومعترف بها من قبل المجتمع الدولي، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي ليس لها وجود جغرافي على الأرض ولا حدود، بل هي منظمة تتخذ من قصر مالطة بمدينة روما مقرا لها، وأعضاؤها الذين يعيشون في شتى أنحاء العالم هم مواطنوها.

الأسد (يسار) يُمنح الوشاح الأحمر لإعلان قبوله عضوا ومواطنا في منظمة ودولة فرسان مالطة عام 2008

وكما هو حال الجمعيات السرية القائمة اليوم، فإنها تزعم أن نشاطها يقتصر على الأعمال الخيرية والطبية، حيث تدير مئات المستشفيات وتساعد في عمليات الإنقاذ والإسعاف في أكثر من 120 دولة حول العالم، إلا أنها تعلن أيضا أن هدفها الأساسي هو حماية الحق المسيحي في الحج إلى القدس، وهو الهدف الظاهري الذي أنشئت من أجله إبان الحروب الصليبية.

وتضم قوائم أعضاء المنظمة عددا من كبار السياسيين والمتنفذين في العالم، مثل رونالد ريغان وتوني بلير والملكة إليزابيث، إضافة إلى عدد من المسؤولين العرب، مثل رئيس النظام السوري بشار الأسد.

وقد أنتجت قناة الجزيرة في عام 2008 فيلما وثائقيا يبحث في علاقة دولة فرسان مالطة بعمليات عسكرية قذرة في العالم الإسلامي، وأهمها المشاركة في غزو العراق عبر شركة “بلاك ووتر” الأمنية.


اتهامات خطيرة
هناك ثلاثة أنواع من التهم التي وجهت لفرسان الهيكل وهي:

1- الهرطقة: إهانة المسيح وإنكار ألوهيته، البصق على الصليب والتبول فوقه، احتقار القداس ورجال الكنيسة، وإنكار المقدسات.

2- الجرائم الأخلاقية: الشذوذ الجنسي الجماعي والمنظم، وابتكار طقوس للترقي داخل المنظمة تتضمن ممارسة الشذوذ وتقبيل أعضاء التناسل.

3- الوثنية: عبادة رأس حجري لكبش ذي قرون اسمه بافوميت، عبادة وثن العذراء السوداء، وعبادة وثن لساحرة على شكل قطة سوداء.

بافوميت بريشة إليفاس ليفاي

وهذه الأفعال كانت تمارس في سرية تامة، فلم يكن للمنظمة سجلات علنية بل تحفظ كل أوراقها داخل كنائسها وقلاعها بسرية بالغة.

انقسم المؤرخون بشأن هذه الاتهامات إلى قسمين، الأول يرى أنه تم تلفيقها لفرسان الهيكل بعد أن حقد عليهم الملوك لتزايد قوتهم، وأن اعترافهم جاء تحت التعذيب.

أما الفريق الثاني فيرى أنها منظمة مهرطقة غايتها القضاء على المسيحية، حيث اعترف الفرسان بالتهم كلها في دول أخرى غير فرنسا دون تعذيب، بل كان بعضهم في حماية ملوك إنجلترا وإسبانيا والبرتغال ومع ذلك اعترفوا بالهرطقة والشذوذ الجنسي وهي جرائم تستحق الإعدام في أوربا البابوية.

كما أن عبادة أوثان محددة هي ليست من ذلك النوع من التهم الذى يختلقه أحد ويقر به تحت وطأة تعذيب، فهذه تهم لم يقر بها أحد غيرهم، وكان يمكنهم أن ينكروها بعد اعترافهم بما هو أخطر من الهرطقة والشذوذ.

ما هو معبودهم؟
تعددت النظريات لتفسير رمزية بافوميت، فرأى البعض أن هذه الرأس الحجرية ترمز لرأس يوحنا المعمدان (النبي يحيى) التي قطعها هيرود، فكان فرسان الهيكل يرون أن يوحنا المعمدان هو المسيّا الحقيقي وأن عيسى المسيح نبي كذاب. وقال آخرون إن الفرسان عثروا حقا على رأس يوحنا المعمدان في الحملة الصليبية الرابعة، بينما ذهب رأي ثالث إلى أن رأس بافوميت ترمز إلى رأس دي بايان مؤسس فرسان الهيكل، كما فسره آخرون بأنه يرمز إلى أزموديوس الجني الحارس الذي ساعد سليمان في بناء الهيكل.

رسم لطقس عبادة بافوميت التي اقتبسها الماسون من فرسان الهيكل أورده الماسوني الفرنسي ليو تاكسيل في كتاب نشره عام 1884 لفضحهم

أما هوج شونفيلد فقام بتحليل كلمة بافوميت Baphomet وفقا لشفرة أتباش اليهودية القديمة واستنبط أنها تعني كلمة صوفيا Sophia، أي ربة الحكمة الإغريقية وكل ربات الحكمة الأخريات ومنهن إيزيس المصرية، ويدل على ذلك أن فرسان الهيكل قدسوا رموزا وأفكارا مصرية قديمة تختلط بالتقاليد اليهودية.

وتشير الرسوم والتماثيل إلى تشابه رأس بافوميت مع “كبش مِندِس” الذي كان يُعبد في مصر وبابل على أنه تمثيل للشيطان إبليس، حيث قالوا إن إبليس دخل الجنة في جلد أفعى ليشجع الإنسان (آدم وحواء) على اكتساب المعرفة بالأكل من الشجرة، وإن إبليس عندما يهبط إلى الأرض فإنه يتجسد في هيئة كبش له قرون.

وكانت الأساطير المصرية تقول إن إيزيس تعلمت السحر من والدها “سِب”، فجسدها الكهنة في صورة امرأة لها تاج على هيئة قرنين تتوسطهما الشمس. وإذا أعدنا قراءة هذه الرمزية في ظل الوحي الإسلامي فسنجد تطابقا عجيبا مع الأحاديث النبوية التي تحظر على المسلمين الصلاة في وقتي الشروق والغروب لأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان، مما يقوي اعتقادنا بأن إيزيس هي إحدى تجسدات الشيطان نفسه.

وتقول أساطير الفراعنة إن “حورس” الذي يُصور على هيئة صقر قد نتج عن تزاوج إيزيس مع أخيها أوزيريس، وإنه سعى للانتقام من جده “سب” الذي قتل أباه، فأصيبت إحدى عينيه ليبقى أعوراً بعين واحدة تمثل الشمس [انظر مقال الوثنية].

ولا نجد لهذه الأساطير في مناهج البحث الغربية تأويلات أبعد من الربط فيما بينها وفي ضوء ما قاله كتبة الأساطير نفسها، كما لا نجد لدى المؤرخين والفقهاء المسلمين في القرون الماضية سوى محاولات لفهم ما رواه لهم أهل الكتاب بعد إخفاء وتحريف الكثير، وذلك قبل أن تُكتشف في العصر الحديث الكثير من الأساطير إبان الفتوحات الكبيرة في استخراج الآثار واكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية.

كما نجد تشابها كبيرا بين حورس ذي العين الواحدة وبين الأعور الدجال الذي ورد ذكره فيه الحديث النبوي لدى المسلمين: {لم يُبعث نبي قبلي إلا حذر قومه من الدجال الكذاب} [رواه أحمد].

ويمكن القول إن إيزيس المصرية تحل أيضا سر العذراء السوداء، فهي تُجسد بتمثال لسيدة سوداء تحمل بين يديها رضيعًا أسود، لكن الكاثوليك في أوروبا كانوا يظنون أن فرسان الهيكل أرادوا بذلك تحقير العذراء والمسيح، وظل هذا الاعتقاد سائداً حتى القرن الثامن عشر عندما اكتشف باحثون في الآثار المصرية أن العذراء السوداء ليست سوى أم الحكمة والمعرفة ومصدر الخصوبة (إيزيس) وهي تحمل وليدها حورس، وهو الرأي الذي دافع عنه المؤرخ إيان بيغ والبروفيسور ستيفان بينكو، كما أثبته بالوثائق والصور المؤلفان لين بيكنيت وكلايف برنس في كتابهما المنشور عام 1994 “كفن تورينو: صورة من؟ كشف الحقيقة الصادمة”.

واحد من بين نحو 180 تمثالا للعذراء السوداء المتبقية حتى اليوم في فرنسا

ورجح باحثون -ومنهم إيان بيغ في كتابه “وثن العذراء السوداء”- أن دي كليرفو هو الذي ابتكر هذه العبادة عندما نظم مئتين وثمانين أنشودة، يتضمن كثير منها مقولة مأخوة من نشيد الأنشاد التوراتي تقول “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم” [1: 5-6]، وهي عبارة تم نقشها على كثير من تماثيل العذراء السوداء، وما زال نحو خمسمئة تمثال منها قائما وتؤدى عندها طقوس العبادة المسيحية في كنائس أوروبا.

بناء على ما سبق، يمكن القول إن العقيدة التي كان يخفيها فرسان الهيكل وكل من تبعهم لاحقا في الجمعيات السرية المتعددة هي قريبة جدا من الديانة المانوية الفارسية القديمة، والتي تدور حول ثنائية الآلهة، بحيث يكون الشيطان نداً للإله وأجدر منه بالعبادة والتعظيم، لذا نرى في بعض طقوسهم رموزا تبدو على النقيض من الطقوس الدينية للكاثوليكية، كالقداس الأسود والعذراء السوداء. ونظرا لممارسة الجمعيات السرية في درجاتها العليا طقوس السحر والاتصال بالشياطين فلا يُستبعد أن تتلقى “مكافأتها” من الشياطين بمزيد من النفوذ والملذات.

ولادة الجمعيات السرية
لم يكن عدد المعتقلين والمحاكَمين سوى بضع مئات، بينما يقدر باحثون أن عدد الفرسان كان يتراوح ما بين 20 و50 ألفا، وقد اختفوا فور إعلان حل المنظمة، كما اختفت جميع وثائقهم وبياناتهم المالية وحتى ثرواتهم سفن أسطولهم.

قرر باحثون أن فرسان الهيكل انضموا إلى فرسان مالطة، بينما رأى آخرون أنهم اختفوا في جبال الألب السويسرية كما اندمج بعضهم في الحياة المدنية بدول أخرى وخصوصا اسكتلندا التي كانت خارج سلطة البابا، أما في البرتغال فاحتفظوا بكيانهم بعد تغيير اسمه إلى فرسان المسيح وظل قائما حتى أواخر القرن السادس عشر، وقد ساهمت هذه المنظمة في حركة الكشوف الجغرافية التي انطلقت من إسبانيا والبرتغال، فكان منهم هنري الملاح وفاسكو دي غاما، كما أبحر كريستوفر كولمبوس على متن سفن تحمل شعارهم لاكتشاف أميركا، وهو يحمل أحلاما توراتية لاستعادة أورشليم وبناء الهيكل بعد اكتشاف العالم الجديد ونهب ثرواته.

“أصول الماسونية تعود إلى عهد الحملة الصليبية الأولى، والذي أسسها في فلسطين هو أول ملوك أورشليم جودفروا دى بويون”. [كتاب الجمعيات السرية والحركات الخفية للمؤرخة نستا وبستر، نقلا عن نشرة أصدرها لمؤرخ الماسوني شيفالييه دي باراج عام 1747].

أما مؤرخو الماسونية والجمعيات السرية فيقولون إن محافل الماسون -التي كانت في الأصل أماكن لتجمع البنائين- أصبحت ملاذاً مثالياً لفرسان الهيكل، فهي الفرع الوحيد من المنظمة الذي نجا من الحل والتدمير والملاحقة، وهكذا بدأت نشأة الماسونية على يد فرسان الهيكل.

ويقول الأستاذ الأعظم للماسونية في القرن التاسع عشر الجنرال الأمريكي ألبرت بايك في كتابه “عقيدة الطقس الأسكتلندي القديم وآدابه” المنشور عام 1872: “إن هدف فرسان الهيكل الظاهر الذي أسبغ عليهم الشرعية ومنحهم الهبات وأكسبهم السلطة كان حماية الحجاج الكاثوليك، لكن الهدف الحقيقي الذي انخرطوا من أجله في الحملات الصليبية هو العمل على إعادة بناء هيكل سليمان كما وصفه النبي حزقيال وصفاً مفصلاً في السفر المسمى باسمه، فالهيكل حين يعاد بناؤه باسم الكاثوليكية وتحت راياتها سيكون قبلة العالم ومركز ومصدر أمنه وسلامه، وسيحكم بنو إسرائيل من خلاله كل الشعوب”.

ألبرت بايك

أما الهدف الثاني كما يقول بايك فهو إزالة الكاثوليكية وتأسيس عالم جديد له ديانة جديدة تستمد عقائدها من “التقاليد المسيحية الأولى والنقية” التي يمثلها يوحنا المعمدان. فالقديس يوحنا هو الأب الروحي لكل الحركات الغنوصية التي تؤمن بأن خلاص البشر في المعرفة والأفكار وليس في مطلق الإيمان، وهي الحركات التي يمتزج فيها نموذج يوحنا المعمدان بالتراث الشفوي اليهودي الباطني وما يحويه من معارف وأسرار القبّالاه، وفقا لكتاب بايك.

ويضيف بايك أنه كانت توجد في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى طائفة من المسيحيين من أتباع يوحنا وكانت تعرف التاريخ الحقيقي للمسيح والتقاليد اليهودية وروايات التلمود والقبالاه، وهي طائفة تعارض كنيسة القديس بطرس ومسيحها (عيسى) المتمثلة في الفاتيكان.

وتعد هذه الكنيسة سرية للغاية، ويقودها أحبار عظام يتسلسلون إلى يوحنا المعمدان، وفي زمن الحروب الصليبية كان الحبر الأعظم لها يدعى ثيوكليتس، وقد تعرف على دي بايان وأطلعه على أسرار كنيسته ونصّبه خلفاً له على رئاسة الطائفة، وهذا اعتراف من بايك بأن منظمة فرسان الهيكل لم تكن سوى واجهة مسيحية لكنيسة تعادي الكاثوليكية نفسها وتنتسب إلى يوحنا وتؤمن بعقيدة غنوصية قبالية يهودية.

ويقول بايك إنه حين كان دي مولاي ينتظر حكم الإعدام في السجن أمر بتكوين أربعة محافل مركزية، الأول في نابولي لقيادة فرسان الهيكل في شرق أوروبا، والثاني في إدنبره من أجل قيادتهم في غربها، والثالث في ستوكهولم لفرسان الشمال، والرابع في باريس لفرسان الجنوب .كما انشطرت المنظمة إلى عشرات الجمعيات السرية والمنظمات الخفية وجماعات السحر والشعوذة، وتحولت مقاطعة لانجدوك جنوب فرنسا -وهي معقل فرسان الهيكل- إلى مأوى للملحدين والمهرطقين واليهود والوثنيين. ويؤكد بايك أن الماسونية الاسكتلندية هي الوريث الأقدم لفرسان الهيكل والامتداد الشرعي لها.

وكان من أبرز الجماعات الإلحادية والشيطانية التي نشطت في مناطق نفوذ فرسان الهيكل جماعة “الألبيين”، والتي حكمت عليها الفاتيكان عام 1139 بالهرطقة وبدأت بمطاردتها، ثم انضمت إلى الجمعيات السرية المشابهة التي انبثقت عن فرسان الهيكل بعد حلّها.

بيل كلينتون كان عضوا في تنظيم دي مولاي الدولي أثناء شبابه (demolay.org)

وتوجد في أوربا والقارة الأمريكية اليوم عشرات المنظمات السرية التي تقول إنها وريثة فرسان الهيكل، وكثير منها تضع في اسمها الهيكل أو فرسانه أو اسم أحد أساتذة فرسان الهيكل العظام، كما تحاكي في تنظيمها ودرجاتها ورموزها وطقوسها فرسان الهيكل.

ومن أهم هذه المنظمات تنظيم دي مولاي الدولي المخصص للشباب في الولايات المتحدة، الذي كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون من أعضائه [حسب موقع المنظمة]، ومنظمة فرسان الهيكل الاسكتلندية، وعصبة فرسان الهيكل الاسكتلندية، ومنظمة هيكل الشمس، ومنظمة دير صهيون التي سيأتي ذكرها بالتفصيل لاحقاً.

ومن أكثر المنظمات انتشارا اليوم “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” OSMTH، وهي تؤكد أنها امتداد لفرسان الهيكل وأن دي مولاي عهد بالأستاذية إلى يوهانس لارمينيوس ثم توالى الأساتذة العظام دون انقطاع، إلى أن أخرجها الماسوني الفرنسي برنارد ريموند فابري بالابرا إلى النور سنة ١٨٠٤، وأن نابليون بونابرت كان أباً روحياً لها. وفي سنة 2001 اعترفت الأمم المتحدة بهذا التنظيم كمنظمة عاملة من أجل السلام ووضعتها في قائمة الجمعيات المدنية التي تحظى باستشارة منظمات الأمم المتحدة لها في الأزمات وتفويضها في فض النزاعات. بينما تعلن المنظمة أنها تهدف إلى الحفاظ على الأراضي المقدسة في أورشليم وحولها، وإجراء البحوث الأثرية، ودعم السلام. وكثيرا ما يتم إرسال وفودها تحت غطاء الشرعية الدولية من الأمم المتحدة إلى أماكن النزاعات في العالم الإسلامي.

كتاب أصدره “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” عام 2017 بمناسبة “مرور خمسمئة عام على التأسيس”.

منظمة دير صهيون
طبقاً للوثائق السرية التي نشرها الفرنسي بيير بلانتار في ستينيات القرن العشرين فإن جذور دير صهيون تعود إلى جمعية سرية غنوصية لا يعرف تاريخها، حيث أسسها رجل اسمه أورمس ومزج فيها المسيحية مع الوثنية، ثم أعيد بناؤها -حسب بلانتار- سنة 1070 عندما اجتمع عدة رهبان في إيطاليا لتأسيس منظمة سرية اسمها دير أورفال، وشاركوا بأنفسهم في الحملة الصليبية الأولى. وبعد سقوط بيت المقدس في يد الصليبين ساهموا في انتخاب دي بويون ليكون أول ملوك مملكة أورشليم الصليبية، لأنه سليل الأسرة الميروفنجية المتحدرة من الملك داوود.

وفي السنة نفسها أسس هؤلاء الرهبان ديرًا في جبل صهيون حسب رواية بلانتار، وكانت مهمتهم الأولى هي البحث عن كنز هيكل سليمان الذي نهبه الرومان أثناء اجتياحهم أورشليم إبان ثورة اليهود عليهم سنة 70م، ثم إعادة تكوين الأسرة الميروفنجية وإعادتها إلى حكم فرنسا وصولا إلى حكم أوروبا كلها، وكانت منظمة فرسان الهيكل جناحاً عسكرياً لدير صهيون طوال مائة عام تقريباً.

اصطدم ملك فرنسا فيليب الثاني مع ملك إنجلترا هنري الثاني عام 1188 في معركة عند قلعة جيزور بفرنسا في صراع على شرعية الحكم، حيث تنافس كلاهما على أحقية تمثيل السلالة الميروفنجية، وكان النصر من نصيب فيليب الثاني، لكن المعركة تسببت بانشقاق فرسان الهيكل المؤيدة للإنجليز عن دير صهيون المنحازة للفرنسيين، وهكذا اندثرت آثار الجمعية السرية وظلت خفية ثمانية قرون كاملة، وفقا لمزاعم بلانتار.

وفي عام 1989 نشر بلانتار قائمة بأسماء أساتذة دير صهيون العظام، زاعما أنه كان هو نفسه أستاذها الأعظم ما بين عامي 1981 و1984، كما ادعى أن كلا من إسحق نيوتن وروبرت بويل وكيجان كوكتو وليوناردو دافنشي وفيكتور هوغو كانوا في القائمة، واشتهرت هذا الجمعية باسم أخوية صهيون (أخوية سيون)، ولا سيما بعد ظهورها مؤخرا في الرواية الشهيرة “شفرة دافنشي” للبريطاني دان براون، والتي تحولت إلى فيلم هوليودي.

وبعكس المنظمات التي انحدرت من فرسان الهيكل أو زعمت أنها هي فرسان الهيكل أو أحد فروعها، فقد قدمت دير صهيون نفسها على أنها هي الأصل وأن فرسان الهيكل فرع منها. ويعد بلانتار هو المصدر الوحيد لهذه الوثائق والمعلومات، ما دفع الكثيرين للتشكيك فيها، حيث يقول المؤرخ أحمد دراج في كتابه “وثائق دير صهيون بالقدس الشريف” إن المراجع الأوروبية تجمع على أن بناء دير صهيون في القدس لم يتم إلا بعد أن اشترى ملك صقلية روبرت أنجو المنطقة من السلطان محمد بن قلاوون عام 1335، كما أن وجود الدير هناك لا يعني بالضرورة ارتباطه بجمعية سرية.


أهم المراجع
بهاء الأمير، اليهود والحركات السرية في الحروب الصليبية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2012.

ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة وتحقيق سهيل محمد ديب، مؤسسة الرسالة، 2002.

محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار الهلال، 1925.

أحمد دراج، وثائق دير صهيون بالقدس الشريف، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1968.

Charles G. Addison, The History of the Knights Templar, Longman, Brown Green, London, 1842.

Nesta Webster, Secret societies and submersive movements, Boswell Publishing Co. Lltd, London, 1924.

Christopher Knight and Robert Lomas, The Hiram Key, The Century Books, 1996.

Albert Pike, Morals and dogma of the Ancient and Accepted Scottish Rite of Freemasonry, published by the authority of The Supreme Council of the thirty third degree, Charleston, 1871.

M.p. Hall, The secret teachings of all ages, H.S. Crocker Company, San Francisco, 1928.

David Nicolle, Hattin 1187: Saladin’s Greatest Victory, Osprey Publishing, 1993.

حركة العصر الجديد

تعد حركة العصر الجديد امتدادا حديثا لمذاهب الباطنية (الغنوصية) التي تغلغلت في العديد من الأديان والفلسفات الشرقية من الهندوسية والبوذية والطاوية والأفلاطونية الجديدة، وكذلك في الطوائف الباطنية التي ظهرت من داخل الأديان السماوية مثل القبالاه اليهودية والغنوصية المسيحية والتصوف الفلسفي والإسماعيلية الإسلامية.

ولئن كانت جذور فكر الحركة تعود إلى تلك الجذور البعيدة، إلا أن نشأتها باعتبارها حركة معاصرة تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عندما تبنى عدد من مفكري الغرب الفكر الباطني للتمرد على الدين النصراني، ومحاولة لتفسير طبيعة الإنسان والخلاص بطريقة أخرى تركز على “الغنوص والحكمة” كنموذج للخلاص الفردي بدلا من انتظار مخلص كوني مبعوث من مصدر خارجي (المسيح حسب اعتقادهم).

أنشأ هؤلاء المفكرون أربع حركات دينية متزامنة تبنت الأصول الفلسفية الباطنية وأسهمت فيما بعد بنشوء حركة العصر الجديد ، وفيما يلي تعريف بهذه الحركات:

1- حركة “الفلسفة المتعالية” Transcendentalism: وتُعد أول حركة فكرية في أمريكا الشمالية تتأثر بالديانات الشرقية وتعتمد على ترجمات الكتب الهندوسية المقدسة، وتقوم على أربع أفكار أساسية هي: أن العلاقة بين الإله والإنسان والكون هي علاقة وحدة الوجود، وأن المعرفة الحدسية الداخلية التي تأتي من خارج نطاق الفكر والحواس عن طريق (العرفان الغنوصي) مقدسة لكونها فيض من العقل المقدس، وأن للإنسان قدرات كامنة غير محدودة تمكنه من التعامل مع العالم الغيبي، وأن التناغم مع الطبيعة هو طريقة الحياة الفضلى. ويعد “رالف إمرسون” المتوفى عام 1803م الشخصية القيادية لهذه الحركة التي وصلت ذروة انتشارها في أربعينيات القرن التاسع عشر.

2- حركة “الفكر الجديد” New Thought: ظهرت على يد فينياس كويمبي المتوفى عام 1866، وهي امتداد لفلسفة فرانز مزمر الطبيب الألماني النمساوي الذي اشتهر بالعلاج الروحي الجماعي وفق ما أسماه التنويم المغناطيسي، معتقدا بوجود طاقة حيوية تتسبب بالشفاء والسعادة، فمزج فينياس هذه الفكرة مع الفلسفة المثالية التي تعتبر العقل أصل الحقيقة.

3- حركة الأرواحية Spiritualism: في القرن الثامن عشر الميلادي اهتم عالم الجيولوجيا السويدي إيمانويل سويدنبرغ بالتعامل مع الأرواح –بحسب الاعتقاد الباطني- وحاول تفسير الغيبيات كالموت والجنة والنار تفسيرًا يجمع بين الدين والعلم حسب ادعائه، محاولا تفسير الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى تفسيرا باطنيا، حيث اعتقد أن الجنة والنار حالات وعي ذهنية يمكن الوصول إليها من خلال “السفر خارج الجسد” وحالات “التأمل الروحاني”، وانتشرت من خلاله جلسات استحضار الأرواح.

4- جمعية الحكمة الإلهية “الثيوصوفيا” Theosophy: أسستها في نيويورك سيدة من أصل روسي تدعى هلينا بلافاتسكي (توفيت عام 1891م)، وقالت إنها تهدف إلى اكتشاف القوانين التي تحكم الكون والقوى الكامنة في الإنسان، والدعوة إلى الأخوة الكونية بتناغم الإنسان مع الكون، ودراسة الأديان والفلسفة والعلوم دراسة مقارنة.

“اتحاد العصر الجديد” كان يعقد اجتماعات لمناقشة القضايا السياسية خلال السبعينات

واعتبرت أن “دين الحكمة” أو “الفلسفة الباطنية” هو أصل كل الأديان، وأن الإسلام واليهودية والنصرانية لم تكن سوى تحريفات لهذا الدين من قبل الأنبياء والحكماء الذين أرادوا تبسيط الحكمة للعامة، فأعلنت أنها تريد تدريب الناس على الوصول إلى العرفان (الغنوص) بأنفسهم، وزعمت أنها أخرجت إلى العلن أسرار المذاهب الباطنية التي كانت ممنوعة على العوام، وهي ليست سوى تعاليم القبالاه السحرية.

وقد مهدت هذه الحركات الباطنية الأربعة بمعتقداتها وممارساتها ومطبوعاتها لظهور حركة العصر الجديد “New Age Movement” في ستينيات القرن العشرين، وكانت البداية في معهد “إيسالن” بأمريكا الشمالية المختص بالفكر الباطني، والذي أجرى أكثر من عشرة آلاف دراسة للفرضيات في القدرات الكامنة خلال الأربعين سنة الماضية، استنادا إلى المبادئ الباطنية.

ومن أهم أسباب إقبال الغربيين على الطوائف الروحانية الشرقية أنها قدمت لهم روحانيات خالية من أي التزامات أخلاقية أو شرعية، فبعد تخليهم عن الدين النصراني لم تعد لديهم رغبة في التقيد بالضوابط الأخلاقية التي تردع شهواتهم، إضافة إلى رغبة كثير من الغربيين في التلاعب بالوعي دون تعاطي العقاقير بعد ثبوت أضرار المخدرات، إذ دلت الإحصاءات على أن 96,4٪ من أتباع الطوائف الروحانية الشرقية سبق لهم استخدام المخدرات قبل انضمامهم إليها. [The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill].

أهم روافد حركة العصر الجديد

في العصر الجديد تصبح جميع الأديان متساوية وتؤدي إلى نتيجة واحدة لأنها تُجرد من عقائدها الأصلية

أهم المبادئ والمعتقدات

من خلال ملاحظة برامج الحركة وفحص أدبياتها نجد أن الوصول إلى الإشراق والعرفان الباطني هو غايتها، أما الطريق المؤدي إلى ذلك فيعتمد على ثلاث أفكار رئيسة، هي:

1- الكل واحد (وحدة الوجود)، فكل شيء هو الإله والإله هو كل شيء، على اختلاف تصوراتهم عن الإله وحقيقته وأسمائه، والتي تتراوح بين المطلق والكلي والوعي الكلي والعقل الكلي والطاو والقوة العظمى وغيرها، وهذا يعني أن كل ما هو موجود إنما هو انطباع لذلك الكلي وتجلٍ له فليس في الوجود شيء غيره، وهي فكرة مأخوذة من فلسفات شرقية عدة مثل الطاوية والهندوسية والبوذية وعدة طوائف غنوصية، ثم تبناها بعض أقطاب التصوف الفلسفي مع أنها تتناقض جوهريا مع الإسلام.

2- الإنسان هو الإله أو جزء من الإله (تأليه الإنسان)، وهذه الفكرة نتيجة للفكرة السابقة، فعندما يتوحد الإنسان مع “المطلق” يتأله الإنسان نفسه.

3- الإنسان لا يموت وإنما يستمر في الحياة من خلال التقمص والتناسخ، أي بانتقال الروح بعد الموت من جسد بشري إلى كائن أعلى للتنعم أو أدنى للتعذّب، وذلك بدلا من دخول الجنة أو النار، ويستمر التناسخ حتى تتطهّر النفس فتنعتق من تكرار المولد. وتعود هذه الفكرة إلى الطاويين وقدماء الفراعنة واليونانيِّن والفرس قبل أن يستوردها فلاسفة الهند ثم بعض المتصوفة والباطنيين الدروز.

4- الإنسان يخلق واقعه الخاص وقيمه ومعتقداته ويحقق مراده خلال حالات الوعي المغيرة التي يدخل فيها، وهو بذلك لا يحتاج إلى الوحي للإجابة على الأسئلة الكبرى التي يقدمها الدين، كما أن الإنسان هو الذي يخلق بزعمهم محيط حياته ويتحكم بمستقبله وصحته وسعادته عن طريق قوة عقله الباطن.

وبالعودة إلى ما ذكرناه عن رؤية بلافاتسكي للأديان السماوية، فإن حركة العصر الجديد تؤمن أيضا بوحدة الأديان، لأن الباطنيين يرون أن جوهر دين الحكمة هو ما ينص عليه المنقول الباطني في جميع الأديان، فيزعمون أن الغيبيات من قبيل الإله (المعبود في الأديان السماوية) والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر هي أمور لا تتعدى كونها تصورات ذهنية بحتة قد تفيد من يعتقد بها، إلا أنه ليس لها في الواقع حقيقة ثابتة، بل ذكرها الأنبياء ليسهل فهمها من قبل العامة، وهم يزعمون أنهم بدؤوا بنشر الحقيقة التي ظلت مخفية عن العامة طيلة قرون وكانت خاصة بالنخبة، ما يزيد من تشوق عامة الناس للاستماع إلى مروّجي هذه الحركة.

تعتمد جمعيات العصر الجديد على الأساليب المتبعة في كل الحركات السرية من حيث التدرج الهرمي في طريق المعرفة، بحيث لا يرتقي العضو إلا بعد استيعابه لقدر ما من المعلومات السرية، وإثبات اقتناعه بها وتقبّله لتصديق ما سيأتي بعدها. لذا فهي تعلن في الظاهر أن الغيبيات ليس سوى تصورات ذهنية خرافية، كي يجنح جميع المؤمنين بهذه الحركات إلى الإلحاد واللادينية، لكن العضو الذي يترقى إلى أعلى المراتب تُكشف له في النهاية حقيقة الإيمان بالشياطين وعبادة إبليس نفسه.

فيلم “لوسي” الذي أنتجته هوليود عام 2014 يقوم على فكرة عدم استخدامنا لأكثر من عُشر طاقتنا العقلية

وتستمد حركة العصر الجديد بعض أفكارها أيضا من العقائد الهرمسية Hermticum، وهي اعتقادات مسجلة في كتابات ورسائل مشكوك في مصادرها تعود إلى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، وفيها تلفيق بين الفلسفات الأورفية والفيثاغورية والأفلاطونية والرواقية والفيزياء الأرسطية والتنجيم الكلداني، وتكوّن في مجموعها معرفة خاصة يزعمون أنها وصلتهم عن وحي إشراقي، وهي تقر بوجود إله لا يمكن وصفه ولا معرفته، ويصفونه أحيانا بأنه الكون نفسه أو الإنسان، كما يرون أن النفوس الإنسانية هي أرواح هبطت من الأفلاك السماوية ويمكنها التحرر والعودة إلى هناك عبر قوة المعرفة (الغنوص). ونجد أن الكثير من تطبيقات حركة العصر الجديد تعتمد منهج الهرمسية دون أن تذكرها بصراحة، مثل بعض برامج الماكروبيوتيك والهونا والفونغ شوي.

ونظرا لاعتقادهم بتعظيم الذات الإنسانية وتأليهها، فإن الكثير من برامجهم التدريبية وكتبهم تدور حول القدرات الخارقة المزعومة للإنسان، وقد يستندون في ذلك إلى معلومات غير مؤكدة علميا، مثل القول بأن 90% من قدرات العقل البشري لا يتم استخدامها مدى الحياة، ومع ذلك فإن خطابهم التحفيزي يستقطب اهتمام الكثير من الناس عبر إقناعهم بوجود قدرات كامنة تنتظر الاكتشاف والتفعيل.

يظهر تأثير الصوفية اليهودية الباطنية (القبالاه) في جميع الحركات الباطنية الحديثة، فالقبالاه تبني أساس فلسفتها على تأليه الإنسان باعتبار أنه فاض عن الإله ويمكنه الاتحاد به، فالإنسان إذن يمتلك قدرات كامنة خارقة تحتاج إلى من يبحث عنها وينميها ويطلقها من القمقم.
كما يزعم القبّاليون أن أسرار “الحكمة” التي نُقلت إليهم بالسر عن الأنبياء هي الحقيقة الوحيدة لجوهر العالم، وأن ظاهر الوحي المذكور في التوراة ليس سوى غطاء للحقيقة الكامنة في باطنه.

في هذا الكتاب الذي يسوّقه معهد إيسالن على موقعه يشرح قصة انطلاقته واستمراره على مدى أكثر من خمسة عقود في ظل تراجع إيمان الأمريكيين بالأديان

طرق النشر والتطبيق

بدأت حركة العصر الجديد بالظهور في الغرب وتشكلت بما يتناسب مع متطلبات الناس هناك، فتم تصميم برامجها بعناية وربطها بمجالات الحياة المختلفة كالصحة والرياضة وتطوير الذات والعلاج وهندسة الديكور وتصميم المنازل وغيرها؛ لتوافق احتياجات معظم الناس بما يحقق الانتشار، وسرعان ما انتشرت في أنحاء أمريكا ثم وصلت إلى بريطانيا وبقية أوربا، وفي بداية القرن الميلادي الحالي تغلغلت في البلاد الإسلامية تحت ستار الطب البديل والتدريب المعتمد بنظام المستويات المتعددة.

ولا يزال معهد إيسالن (المذكور سابقا) يطور أبحاثه، ويغيّر إطار أفكاره بما يوافق متطلبات الناس، حيث يعيد اليوم دمج الفكر الإلحادي مع عقائد الحلول والاتحاد بدلا من الإلحاد المحض لتناسب اعتقاد الناس المؤمنين بوجود إله، كما يتبنى المعهد أبحاثا في المؤثرات الغيبية ضمن ممارسات الأديان الشرقية ووثنيات القبائل البدائية في أستراليا وغيرها، حيث تُنشر النتائج على أنها أبحاث علمية، حتى أصبح أتباع الحركة يعتقدون بأن الممارسات الخرافية والسحرية تتمتع بصبغة العلم التجريبي الرصين، ومع أن العلماء والجامعات ترفض هذه الأبحاث إلا أن الاتجاه العام في الغرب بدأ بتقبل الروحانيات والاعتراف بتأثيرها ووجودها ومحاولة فهمها علميا، وتساهم عولمة وسائل الإعلام وسهولة الولوج إلى شبكة الإنترنت في نشر تلك الأفكار.

ويمكن القول إن انتشار معتقدات حركة العصر الجديد يعود إلى غناها بالروحانيات الغامضة التي جاءت لتروي الجفاف الروحي عند أصحاب الأديان المحرفة والملحدين في الغرب، ولا سيما في فترة الستينيات من القرن العشرين التي شهدت تضخم الرأسمالية المتسارع والمفاجئ على حساب العقل والروح، وتسارع وتيرة الاستهلاك إلى درجة إفراغ الإنسانية من قيمها الروحية، فضلا عن انهيار القيم الأخلاقية وشيوع العدمية والفلسفة الوجودية بعد ما رآه العالم من دمار في الحربين العالميتين وإبان الحرب الأمريكية على فييتنام وكوريا الشمالية، فانتشرت في الوقت نفسه موضة “الهيبيز” مع ما لازمها مع انحلال أخلاقي غير مسبوق. وبما أن روحانيات العصر الجديد لم تكن تلزم الشباب الغربي بأي عبادات دينية أو مناقشة أي عقائد يريدون الاقتناع بها فضلا عن أن تلزمهم بضوابط أخلاقية تحد من شهواتهم، فقد كانت الخيار الأنسب لكل من يبحث عما يملأ به فراغه الروحي.

ومع انتشار الفوضى وسقوط العديد من المجتمعات المسلمة في الحروب والعنف في السنوات الأخيرة، بدأت بعض برامج حركة العصر الجديد بإعادة انتشارها مجددا في أوساط الشباب، حيث يقدمها أصحابها تحت مسميات متنوعة من البرامج التدريبية، والتي تختلط بنسب مختلفة مع أمور أخرى مثل تنمية المهارات وفنون الإدارة والعلاجات البديلة، ونجد لها أثرا واضحا في دورات البرمجة اللغوية العصبية والتفكير الإيجابي والعلاج بخط الزمن، وفي جلسات التنفس التحوّلي والتأمل الارتقائي والاسترخاء وشحن الطاقة وقانون الجذب.

يرصد الباحث السويسري باتريك هايني في كتابه “إسلام السوق” مظاهر محاولة أسلمة مفاهيم العصر الجديد تحت مسميات جديدة، وعبر مداخل التنمية البشرية وإدارة الأعمال وعلم النفس، ويرى أن من أهم خصائص هذه الظاهرة الانفتاح على العالم على حساب الهوية، وشيوع النزعة الفرادنية وسيولة المبادئ، والتخلي عن المبادئ الكبرى التي كانت تشغل الحركات الإسلامية مثل إحياء الخلافة والحاكمية.

البرامج التدريبية

فيما يلي تعريف موجز بأشهر عناوين البرامج التدريبية والاستشفائية التي تغلغلت فيها أفكار حركة العصر الجديد وبطرق خفية قد لا ينتبه لها معظم الناس، بما فيهم المؤمنون بالأديان السماوية:

1- الطاقة: وهي مسمى واحد يشمل مفاهيم متعددة في الفلسفات الشرقية القديمة، مثل كي ki وتشي chi-Qi وطاو Tao وماكرو Macro وبرانا Prana ومانا Mana، أما في برامج العصر الجديد فأصبحت تحمل أسماء إضافية مثل “قوة الحياة” و”الطاقة الكونية”، وهي مجرد فكرة فلسفية لا علاقة لها بالطاقة الفيزيائية التي يتم قياس آثارها بالعلم التجريبي، فالمؤمنون بها يعتقدون أنها قوة عظمى تقابل الاعتقاد بالإله عند أتباع الديانات السماوية.

وهي أول ما ينبغي أن يؤمن المتدرب به، وبأهميته وقوته، ويمارس كيفية الشعور به، واستمداده، وفعل ما يساعد على تدفقه في جسده، واتحاده به، ويتجنب ما يبعده عنه.

الين واليانغ

وتشتمل جميع البرامج المقدمة باسم الطاقة على نسب متفاوتة من أصول الفلسفة الباطنية، حيث يتم في بعضها شرح الغنوصية الشرقية على أنها حقائق كونية تفسر أصل الكون ونشأته وانقسامه لثنائيات عظيمة يسمونها (ين/يانغ)، وأنها مؤثرة في كل جوانب الحياة، ثم تُصاغ الدورات التدريبية في العلاقات الاجتماعية والإدارة والعلاج الجسدي والنفسي على أساس التوازن بين الين واليانغ.

ويظهر أثر هذه الفلسفات أيضا في نظرية “الأجسام السبعة”، والتي يتم خلالها إقناع المتدربين بوجود سبعة أجسام لكل الكائنات، ومنها الإنسان. أولها الجسم البدني، وأهمها الأثيري الذي تنفذ من خلاله الطاقة الكونية للأجسام الأخرى وتمنحها السعادة والصحة، كما يتم التدريب من خلال الدورات المختصة بهذه النظرية على تقوية “الحاسة السادسة” لاكتساب قدرات خارقة في التأثير والعلم، وغير ذلك من الممارسات التي تتقاطع مع السحر والمقتبسة من القبالاه اليهودية.

رسم من مطلع القرن التاسع عشر لتوزع الشاكرات على الجسد

وتقدم برامج الطاقة التدريبية تمارين تزعم أنها تفتح منافذ الطاقة (الشاكرات) Chakras في أجساد المتدربين، بهدف الحصول على كميات أكبر من طاقة قوة الحياة، أو الاتحاد بها، ومن ذلك التدرب على تمارين وترانيم ووضعيات خاصة هي في حقيقتها عبادات وطقوس وثنية وشيطانية، بالرغم من أنها تُقدم في إطار منفصل عن الدين دون أن ينتبه كثير من الناس، وكثيرا ما تتقاطع مع تدريبات اليوغا.

ومن الملاحظ أن تقديم هذه الفلسفة باسم “الطاقة” الذي يشتبه بالمصطلح العلمي المعروف في العلوم الطبيعية جعل المتدربين يعتقدون أنها علم لا ديناً وثنياً، كما أن الكثير من الناس ينجذبون إليها لأنهم يرون في الشرق الآسيوي تقدماً بمجالات الصحة والطب البديل.

2- التنفس التحولي والعميق Transformational Breathing: هو برنامج تدريبي أو علاجي يهدف إلى تجميع “طاقة البرانا الكونية” واستشعار تدفقها في الجسم، للدخول في حالة من الاسترخاء العميق والنشوة، ويعد أحد طرق التنويم للدخول في حالات الوعي المغيّرة وإطلاق قدرات “اللاوعي”، عبر التواصل مع “العقل الكلي” أو “اللاوعي الجمعي”.

ويعتبر المدربون هذه الحالة بداية التغيير والانطلاق والفتح، وهي تقابل ما يُعرف عند البوذيين والهندوس باسم “النرفانا”، وعند المتصوفة بـ”الفناء”، بينما يسميها بعض المروجين المعاصرين من المسلمين بحالة “الخشوع”.

3- التأمل الارتقائي والتجاوزي Trancsendental Meditation: يعود أصل هذا البرنامج إلى مذهب مهاريشي ماهيش (انظر مقال الهندوسية والبوذية)، ويهدف إلى الاسترخاء الكامل والدخول في حالة من اللاوعي والنشوة “النرفانا”، وفق طرق محددة من تركيز النظر في الأشكال والرموز وترديد الترانيم أو الاستماع إليها، إلى جانب الالتزام بتعليمات محددة في الطعام واللباس والكلام.

باندلر

4- البرمجة اللغوية العصبية Neuro Linguistic Programming: وضع أسس هذا الفن الباحثان الأمريكيان جون غريندر وريتشارد باندلر، وبدعم وتنظير من غريغوري بيتسون (توفي عام 1980م) أحد أبرز الباحثين في معهد إيسالن والذي عاش على المبادئ البوذية في أمريكا، كما اعتمد المؤسسان على ثلاثة من المتأثرين بالباطنية، وهم ميلتون إريكسون (توفي عام 1980م) الذي تميز في التدريب على تقنيات الخروج من العقل إلى “حالات الوعي المغيرة” تطبيقاً مباشراً لبوذية زن، وفرتز بيرلز (توفي عام 1970م) أحد الباحثين في معهد إيسالن المهتمين بفلسفة “وحدة الوجود”، وفرجينيا ساتير (توفيت عام 1988م) المعالجة التي عملت بمعهد إيسالن وأسست أحد أكبر مراكز حركة العصر الجديد في أمريكا ويدعى مركز آفانتا.

وتتضمن البرامج التدريبية لهذا الفن خليطا من العلوم والفلسفات الهادفة لإعادة صياغة صورة الواقع في الذهن بحيث تنعكس على تصرّفاته، وهي برامج انتقائية تجمع نظرياتها من علم النفس السلوكي والمعرفي وفنون الإدارة وغيرها؛ لذلك تشمل بعض التمارين النفسية أو العلاجية الصحيحة، غير أنها تحتوي كذلك على فرضيات غير مثبتة ونظريات مرفوضة علمياً بينما تُقدم على أنها حقائق علمية. كما تكمن خطورتها في تسريب بعض مفاهيم الفلسفة الباطنية، وإقناع المتدربين بالإمكانات غير المحدودة التي يمكن تحصيلها عن طريق العقل الباطن “اللاوعي”، وتدريبهم على الدخول في حالة اللاوعي لإحداث التغيير الإيجابي في النفس دون قيود العقل.

5- الماكروبيوتيك Macrobiotics: هو فلسفة باطنية تقدم في شكل برامج للتثقيف الصحي والعلاج البديل، وتُشرح فيها بشكل صريح فلسفة الحياة بالاعتماد على الإيمان بالطاقة الكونية، وضرورة إعادة نظم الحياة والمأكل والملبس والرياضة وتصميم المنزل بما يوصل إلى التناغم مع الطاقة الكونية والوصول للسمو الروحي والشفاء الجسدي.

يصف هنري تينك في مجلة لوموند [العدد مارس/آذار 2000] حركة العصر الجديد بأنها أفكار ضبابية تخلط مخلفات الروحية الباطنية القديمة مع الطرق الحديثة في التركيز والاسترخاء وشحن طاقة الإنسان، وتضعها جميعا في إطار وثني معاصر، مع إبقاء فكرة الإله غامضة وفتح الباب لتقبّل وجود كائنات غيبية غير مرئية مثل الأرواح والأشباح والكائنات الفضائية. ونضيف على هذه القائمة الشياطين من عالم الجن.

وتركز المستويات الأولى من برامجها على الغذاء عبر مفاهيم الطاقة الكونية وثنائية الين واليانغ، وما يتعلق بذلك من اعتماد خصائص غيبية للأطعمة مثل ربط الخواص الروحانية المزعومة للنبات بروحانيات مماثلة للكواكب، وهي أفكار كانت تُعرف قبل قرون بأنها داخلة في باب السحر لكنها تُقدم اليوم على أنها علم. ثم تترقى برامج الماكروبيوتيك التدريبية ليتعمق المتدرب في الفلسفة الباطنية بشمولها ويمارس تطبيقاتها في كل مجالات حياته، بهدف استجلاب الطاقة الكونية لتحقيق الصحة والسعادة.

______________________________________________

أهم المراجع

– Historical Dictionary of New Age Movements ,Michael York.

– New Age encyclopedia, Belinda Whitworth.

– The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill.

-Christian Responses to the New Age Movement, John A. Saliba.

– Taoism: Growth of a Religion, Isabelle Robinet.

اليوغا

اعتبر كثير من الفلاسفة القدماء أن العناصر الخمسة التي تتكون منها كل المواد في العالم (الماء، النار، الأرض، الهواء، السماء “الأثير”) أو (الماء، النار، التراب، المعدن، الخشب) تتحرك باستمرار وبتناغم دائري داخل الجسم، ففسيولوجيا الجسم الإنساني ليست سوى صورة مطابقة للكون، ولذا أكد حكماء اليوغا على ضرورة معرفة هذه العناصر داخل الجسم والعمل بها.

وطريقة تفكيرهم هذه تفترض أن كل ما يوجد في الخارج له ما يقابله في الداخل؛ أي أن كل عنصر من العالم الروحي يجب أن يكون له صداه في العالم المادي، وهذا يفسر إمكانية وجود تطور روحي يتم من خلال الجسم.

انتشرت الدعوة إلى اليوغا في بعض البلاد الإسلامية وغيرها، وأقام بعض دعاتها مجموعات ومدارس لتعليمها، وألفوا أو ترجموا في سبيل نشرها والدعوة إليها العديد من المؤلفات. فكثير من الناس يعتقد أن اليوغا ليس لها أساس في الديانتين الهندوسية والبوذية، أو أنها غير متعلقة بهما، وأنها ليست سوى رياضة تعتمد على التأمل والتفكير، لكي توصلهم إلى الراحة النفسية والفكرية والجسدية، ويتجاهلون بذلك الأسس الثمانية التي وضعها الحكيمان باتنجالي وسوامي شيفاناندا، وغيرهما من الحكماء الهنود سواء من الهندوس أوالبوذيين.

ولمعرفة المزيد عن اليوغا والتحقق من كونها مجرد تمارين رياضية روحية أم شعائر تعبدية فلسفية، ينبغي أن نتعرف على نشأتها وعلاقتها بالديانات الأخرى.

التعريف والنشأة
نشأت اليوغا في وادي السند (شمال الهند وباكستان حاليا) خلال الفترة 3300 –1700 قبل الميلاد، وهي مستمدة من جذور كلمة “يوغ” السنسكريتية التي تتألف من عدة معان، منها المراقبة والعبودية لأنَّها تخلّص النفس من قيود الجسد والعبودية للشهوات.

تمثال لبوذا في حالة تأمل

وفي الأدبيات البوذية، يستخدم مصطلح “التأمل” بدلا من “يوغا”، إلا أن مصطلح “يوغا” أصبح شائعا حول العالم، ولم يعد من السهل اعتماد مصطلح آخر بنفس المعنى .

واليوغا هي طريق لتسهيل الاتحاد بالنفس الكلية، عن طريق رياضة روحية وجسدية، أو عن طريق القرابين. وتذهب اليوغا إلى أنَّه لا تكفي حياة واحدة لإدراك هذا الاتحاد، فحسب مبدأ “الكارما” قد تتطلب أفعال الإنسان السيئة ولادات متتالية في صور إنسانية أو حيوانية [انظر مقال الهندوسية والبوذية].

فاليوغا تعني تجميع القوى وتركيزها وممارسة التمارين العملية التي تؤدي إلى الاتصال بين الروح والآلهة. وبما أن نظام اليوغا يضع التأمل في محور تعليمه وممارسته، فهو يولي أهمية بالغة لكل طرق الخلاص التي ترتكز على التأمل والاستغراق.

يقوم محتوى الخلاص على تطهير الروح تطهيرا كاملا من كل الأدناس الأرضية، بحيث تكتشف ذاتها في شكلها الصافي، أو توضع في حالة تمكّنها من أن تعيش مع المطلق (الإله) وتصل إلى الاتحاد به. وهذه الحالة التي تتجاوز الوجود الأرضي تجاوزاً “لامتناهيا” تعجز الكلمات البشرية عن وصفها.

وفي الخلاصة، يمكن القول إن اليوغا هي مجموعة من الشعائر الروحية القديمة التي نشأت في الهند، وإنها كمصطلح عام في الهندوسية تشير إلى منهج عملي وممارسات محددة تجمع بين التصوف والزهد والتأمل، وهي تسعى للحصول على خبرة روحية خاصة وفهم عميق جداً للحقائق الكبرى في الوجود والتحكم الواعي في الكثير من مناحي الحياة.

أهم طرق اليوغا
تتنوع طرق ومدارس اليوغا المعتمدة حاليا، وهي أشبه ما تكون بالمدارس والمذاهب في الديانات، وتعود في الأصل إلى يوغا ساتراس التي أسسها الحكيم باتنجالي. وتعتمد هذه المدارس على الجانبين الفكري والعملي، حيث يهتم الأول منهما بالتحرر الروحي دون أن يشترط الإيمان المطلق، بل يحذر المعلمون منه. أما الجانب العملي فيتضمن التمارين البدنية والتحكم بالتنفس، بالإضافة إلى الفنون الأخرى، وفيما يلي موجز عن طرق اليوغا الأساسية الأربعة:

1– بهاكتي يوغا: تؤكد هذه الطريقة على استثمار المحبة للوصول إلى حالة الكمال الروحي من خلال عبادة الإله مباشرة، وذلك بتنقية العقل وتكرار اسم الإله وذكر صفاته العديدة مثل راما وكريشنا، وذلك من خلال شعائر تسمى “جابا”.

2– غنانا يوغا: تهتم هذه الطريقة بطرح الأسئلة الفلسفية الوجودية والإجابة عليها من المنظور البوذي، حيث تحاول الإجابة على أسئلة من قبيل: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ كيف وُجِدت ولماذا؟ وإلى أين أمضي؟ ومن خلال سلوك هذا الطريق العقلاني والتجرد عن كل أنواع التعلق المادي في الحياة يحاول الممارس الحصول على الخلاص الروحي واكتشاف المُطلق والتوحد به.

وحسب الفلسفة البوذية فإن المطلق يحمل صفات الإله نفسه، فهو العلة التي لا علَّة لها، وهو كُلي القدرة والمعرفة والحضور، لذا فهو يتجلى للإنسان في صور ثلاث، هي المادة (صفة الحضور الكلِّي)، الطاقة (صفة القدرة الكلِّية)، والوعي (صفة المعرفة الكلِّية)، ومن خلال هذه الصفات يحاول الممارس إدراك المطلق بالتأمل في باطنه هو.

وتتضمن هذه العقيدة أيضا الاعتقاد بنظرية الفيض التي نجدها عند الأفلاطونية الحديثة، والتي تقول إن الوجود كله ليس سوى فيضًا من المطلق وصدورًا عنه وتجليًا له، فالإله لا يخلق مباشرة بل يفيض. كما نجد في هذه العقيدة فكرة وحدة الوجود التي يعتقد صاحبها أن بإمكانه الاتحاد بالمطلق (الإله)، ولا يتحقق هذا الاتحاد إلا بعد التخلص من الأنانيات الفردية (الأنا) التي تعد مؤقتة وغير حقيقية، والتأمل في جوهر الإنسان وهو النفس (أتمان)، والارتباط بالأتمان الجماعية الموجودة في كل الأشخاص وفي النفس الأزلية للإله. [انظر مقال الباطنية].

3- كارما يوغا: تركز هذه الطريقة على الجانب العملي من الحياة، فالتوازن العقلي والتخلص من الأنانية الفردية والاتحاد بالمطلق هي أهداف لا تتحقق سوى بالعمل، ولا يقصد بالعمل هنا المهنة التي يُكسب بها الرزق، بل العمل لأجل الحياة، فينبغي على الممارس أن يعمل من أجل العمل وحده دون التفات إلى ما سيجنيه من ثمار.

4- راجا يوغا: وتعني “اليوغا الملكية”، وهي أرقى الطرق وأكثرها تعلقا بالعقائد والأساطير البوذية، حيث تهتم بتحصيل الحقائق الروحية من خلال التأملات والسيطرة على الأفكار والأفعال ومقاومة الغرائز واعتبار العقل سلطانا على الحواس. وغالباً ما تعرف هذه الطريقة باسم “اليوغا سوترا”، ويسعى الممارس لها إلى الوصول للمعرفة الذاتية ومعرفة الإله والحقيقة المطلقة.

وتعود هذه الطريقة إلى الحكيم باتنجالي الذي يعد المؤسس الأول لليوغا، حيث وضع قبل 2300 سنة خطوات ثمانية يجب على كل تلميذ ومعلم التقيد بها لتنقية جسمه وعقله والسير بهما في طريق الاستنارة، ويمكننا اختصارها كالآتي:

1- ياما (المحرمات)، وتتضمن خمس خطوات هي: عدم العنف، الصدق، عدم الاشتهاء، العفة، عدم السرقة.

2- نياما (الأوامر)، وتتضمن: نظافة الهيئة والعقل، القناعة، التقشف، محاسبة النفس، الاستسلام لله.

3- أسانا (هيئات الجسم)، ويصفها الحكيم باتنجالي بأنها الوقفات أو الوضعيات المستخدمة لجلسات التأمل، وهي تساعد على توفير الطاقة والعلاج من الأمراض والمرونة، وقد اشتقت منها الرياضات الأخرى، وتتضمن 84 وضعية تهدف إلى فتح الطاقة الكامنة تحت العمود الفقري والملتفة على هيئة أفعى.

4- براناياما (السيطرة على التنفس)، وتهدف إلى دعم قوة الحياة أو الطاقة الحيوية (البرانا).

5- براتياهارا (التجريد): وهي بداية التدرب على انسحاب الحواس من إدراك الأجسام الخارجية عبر السيطرة على العقل والتركيز على الحساسية الفائقة للعقل لجميع ما يحيط به.

ونستنج من الأسس الخمس السابقة أنها أسس خارجية، تهتم بالوضع الخارجي للجسم كتنظيفه وتعويده على التقشف وتدريبه على مساعدة الجزءالأصعب وهو الجسم الداخلي، وهو ما يأتي في الأسس الثلاث التالية التي تتطلب قوة التركيز وشدة التأمل، وتتطلب أيضا الاتصال الكلي بمكون الكون، ونلخصها فيما يلي:

1- دارانا (التركيز): هي الخطوة الأولى لتركيز الاهتمام بشيء معين، كضوء شمعة مثلا أو تمثال، ويتم عن طريق العين الثالثة.

2- دايانا (التأمل): تدعى هذه المرحلة بالتأمل الصامد، حيث يحاول المتدرب أن يوسع دائرة وعيه وحساسية عقله، فيتأمل في الطبيعة والكون كله وليس شيئا واحدا فقط.

3- سامادي (الاتصال بالإله)، وهي المرحلة الأخيرة التي يصل بها المتأمل إلى التحرر أو الوحدانية، وتتطلب دمج الوعي بموضوع التأمل، بما يحقق السيطرة التامة على العقل والجسم والروح.

من خلال ما سبق وعلى الرغم من أن اليوغا تُقدّم في كثير من النوادي الصحية والمستشفيات في العالم -ومنها بلاد المسلمين- على أنها رياضة للجسد واللياقة، ومع أن المدربين يحاولون غالبا قطع الصلة بين الفلسفة التي تقوم عليها اليوغا وبين حركاتها الرياضية، إلا أنها ليست مجرد رياضة يمكن لأي شخص ممارستها، حتى وإن بدت كذلك في مراحلها الأولى، بل تتضمن شعائر دينية تتوجه إلى الفكر والعقل من خلال الاعتقاد والتأمل والتركيز.

اليوغا والهندوسية
تهدف الشعائر الهندوسية إلى الاتحاد بالإله المطلق (براهمان)، وغايتها السموّ بالعقل والروح إلى حالة من السعادة القصوى، وذلك بإبعاد المرء نفسه عن الشهوات الجسدية والمادية وإنقاذه من كل النوازع الأرضية حتى يصل إلى حالة من القداسة والصلاح تسمى “الموكشا”.

ويتطلب الوصول إلى هذه الحالة الالتزام بالصلاة وترتيل الأناشيد المقدسة (مانترات) والتأمل الروحي، مع الصوم عن الطعام والشراب والكلام والجماع، والتركيز الذهني على شيء معيّن دون تشتت التفكير بالأمور المادية والدنيوية والجسدية العديدة. ويُسمى الناسك الممارس لليوغا بالقديس “المهاتما”، أو صاحب الروح الصالحة أو الروح الكبيرة.

لذلك يركز الهندوس اهتمامهم على النفس لأن النفس في معتقدهم يمكن أن ترقى إلى الكمال، أما البدن فسِمته النقص، ولكي يحقق الجسد درجة ما من التطهير ينبغي عليه أن يستغل وجود الروح فيه، ولهذا قالوا بحرق البدن بعد الموت، والموت عندهم نهاية لا تجدّد لها. ومع أن النفس عند الهندوس كاملة إلا أنها لا تخلد كجوهر مستقل، وإنما يتم خلاصها عن طريق ممارسة اليوغا، والتي تتضمن القسوة على البدن وتدريب النفس على الصبر والثبات.

ويصل المرء في ممارسة اليوغا إلى المشاعر والأحاسيس الداخلية في الأعماق للتخلص من الضغوط العصبية والنفسية، وإلى الالتحام الكامل بين العقل والجسد. والهدف بطبيعة الحال هو الوصول إلى حالة من السموّ الروحي والصفاء الذهني، بعيداً عن التأثيرات النفسية والعصبية اليومية، لذا تمارَس اليوم كعلاج لأمراض نفسية من قبل بعض الأطباء النفسيين في الغرب.

يؤمن الهندوس بوجود طاقة أزلية اسمها “برانا”، وهي منبثقة عن الأصل الأول للوجود “براهمان”، لكنها ليست مخلوقة بل هي قديمة بلا بداية. وبما أن الهندوسية دين حلولي يؤمن بحلول الإله (المطلق) في الكون والإنسان فإن البرانا بمثابة روح هذا المطلق التي تسري في الكون. وعليه فإن دور اليوغا يتلخص في استجلاب هذه الطاقة وشحن الجسد والنفس بها.

اليوغا والبوذية
ظهرت البوذية كمذهب تصحيحي في إطار الديانة البراهمية بدعوتها لنبذ الطبقية مع بعض التعديلات العقائدية، وهي تعتمد أيضا على اليوغا لإخضاع الإنسان لنظام تعبدي يحقق له تحرير النفس من الارتباطات الجسدية والمادية وبلوغ “الاستنارة”.

وتؤكد سيرة حياة مؤسس البوذية سيذهارتاغوتاما (بوذا) أنه درس اليوغا على يد الرهبان البراهمة كجزء من المقرر الفلسفي المفروض على التلاميذ، وذلك في الفترة التي قضاها في جبال الهمالايا قبل أن يصبح معلما، ويعتقد أنه صاغ مبادئ اليوغا على طريقته الخاصة قبل ظهور كتاب “بْهاغافاد غيتا” الذي يعد من أقدس الكتب الفيدية لدى الهندوس.

ويمكن القول إن اليوغا هي الجسر الذي يربط بين الهندوسية (الديانة الأم) والبوذية التي انشقت عنها في القرن السادس قبل الميلاد، بالرغم من وجود عوامل مشتركة أخرى بينهما، مثل مبدأ عدم العنف (أهيمسا) ومبدأ التركيز والاستنارة.

وتظهر في منطقة التيبت الصينية آثار اليوغا البوذية بوضوح أكبر، وذلك لتأثير التانترا الهندوسية -التي تتلخص في عبادة شاكتي (التجسد الأنثوي للآلهة)- على التقاليد هناك، ونجد آثار هذه الشعائر في السيطرة على النظام الخاص بالنبضات القلبية والحركات الجسدية التي تتضمن 108 وضعيات جسدية، وتستعمل هذه الأساليب اليوم من قبل الرياضيين للسيطرة على العقل، وكذلك في بعض الرياضات الروحية في الغرب، وحتى في جلسات تحضير الأرواح والسحر والشعوذة وعبادة الشيطان، ولا سيما تلك التي تدمج الأفعال الجنسية بالتأمل.

لا تتضمن البوذية شعائر للصلاة والتعبد كما في الهندوسية، ولكنها تحتوي على خمسة أنواع من التأمل التي يمكن أن تحل محلها، وهي:

1 ـ ميتاـ بهافتا (التأمل في الحب): وهو التأمل في الكائنات والدعوة إلى سعادتها.

2 ـ كاروناـ بهافاتا (التأمل في الشفقة): وهو المشاركة في حزن الآخرين.

3 ـ موديتاـ بهافاتا (التأمل في الفرح): وهو التأمل الذي يبهج الآخرين بالمشاركة في ما يفرحهم.

4 ـ أسوبهاـ بهافاتا (التأمل في المدنسات): وهو التأمل في أهوال المرض والموت.

5 ـ أبكاـ بهافاتا (التأمل في الهدوء): وهو التأمل في المتناقضات مثل الخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض.

تتطلب جلسات التأمل من الممارس أن يجلس وساقاه مضمومتان ومثنيتان، بحيث يكون الظهر منتصباً والرأس مرفوعاً ومحاطاً بهالة التفكير، وأن يبحث عن نقطة معيّنة ليركز فيها.

وتتلخص مراحل التأمل خلال الجلسة في البدء بتحقيق درجة كافية من الثقة عبر التحرر من الجسد، ثم بلوغ الصحوة بالتحرر من الرغبات والغرائز وتمني الخير لجميع الكائنات، ثم الاستغراق والتخلص من الألم وصولا إلى تعطيل الإحساس، ومع نجاحه في تنظيم التنفس والانفصال عن كل الأشياء باستثناء التنفس يحقق العقل سيطرته على الحواس، فتتركز الأفكار والحواس كلها في نقطة واحدة بما يسمح للممارس –حسب معتقدات اليوغا- العودة للماضي لاسترجاع الذكريات أو الإبحار في المستقبل للتنبؤ وغير ذلك.

وتسمى حالة الاستغراق والتحرر التام بالنيرفانا التي تقابل الموكشا لدى الهندوسية، وهي تعني التحرر من دائرة الحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت. ويهدف الممارس من خلالها للوصول إلى ولادة ثانية، وذلك عبر كبت شهواته الجسدية وغرائزه النفسية والتخلص من آلامه ومعاناته في الحياة اليومية.

وتعود هذه الفكرة إلى أسطورة التناسخ في الديانة البوذية، والتي ترى أن روح الإنسان تتناسخ منذ ولادته وحتى موته، وأنه لا بد من التحرر الكامل من كل المعوقات لتحرير العقل والروح والوصول بهما إلى الحقيقة والاستنارة، وبذلك ينجح الإنسان في كسر قيود التناسخ.

اليوغا والطاوية والكونفوشية
تعد الطاوية (أو التاوية) بمثابة الوعاء للأديان والأساطير التي تراكمت في الصين على مدى قرون، وقد أعاد جمع وترتيب أصولها الفيلسوف لاوتسي في القرن السادس قبل الميلاد، ثم التقى به الفيلسوف كونفوشيوس وتلقى عنه الكثير من مبادئه قبل أن يضع فلسفته الكونفوشية الرائجة حتى اليوم في من الصين وأجزاء من  كوريا واليابان وفيتنام.

وتلتقي الطاوية والكونفوشية مع الهندوسية والبوذية (الهنديتان) في الكثير من المبادئ العقائدية، إلا أن الأديان والفلسفات الصينية تميل أكثر إلى الاهتمام بالجوانب الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.

وكما تؤمن الهندوسية والبوذية بأن المطلق الأزلي براهمان صدرت عنه بالفيض والتأمل بيضة أو زهرة لوتس ثم خرجت منه بقية الآلهة وكل الموجودات، فإن الطاوية ترى أيضا أن الأصل المطلق (طاو) انبثقت عنه “بيضة كونية”، ثم انقسمت إلى نصفين، فتكونت الأرض من نصفها السفلي الثقيل المظلم (ين)، وتكونت السماء من نصفها العلوي الخفيف المضيء (يانغ)، ثم تشكل بينهما الإنسان الأول بان كو.

الين واليانغ

وتركز الطاوية جل اهتمامها على التوازن الافتراضي بين الين واليانغ، كما تزعم أن الطاقة الكونية “برانا” أو “تشي” ما زالت سارية في الكون كما تسري الروح في الجسد، ولكي تستمر حياة الإنسان فإن على الجسم أن يمتلك البرانا أو التشي، وإلا فإن أي نقص سيؤدي إلى خلل في توازن النقيضين الين واليانغ ومن ثم إصابة الإنسان بالأمراض الجسدية والنفسية.

يقول تشوا كوك سوي في كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” إن هناك ثلاثة مصادر رئيسية لطاقة الحياة، وهي طاقة الحياة الشمسية التي يمكن الحصول عليها عبر التعرض لأشعة الشمس، وطاقة الحياة الهوائية التي يمكن امتصاصها من الهواء عن طريق الرئتين، وطاقة الحياة الأرضية الموجودة في باطن الأرض وتُمتص عن طريق باطن القدم بالمشي دون حذاء. ووفقا للطب الحديث فإن هذه الافتراضات لا يدعمها أي دليل.

يقوم الطب الصيني التقليدي على فكرة إعادة التوازن الطبيعي للين واليانغ إلى الجسم، ويعتقد ممارسوه أن الوخز بالإبر الصينية يساعد على تفعيل مسارات الطاقة (شاكرات) التي تمر بالجسد وفقا لخريطة محددة، كما يعتقدون أن كل التمارين الرياضية والأدوية والأطعمة الصحية تستمد منفعتها من خلال علاقتها بالطاقة وبتوازن الضدين، وما زال الصينيون حتى اليوم عاجزين عن تقديم أدلة علمية على ارتباط هذه العوامل بالطاقة الكونية التي لم يثبت وجودها علميا.

لذا تُصنف تطبيقات الطاوية ومثيلاتها على أنها “علوم زائفة” حتى لو كانت نتائجها سليمة، لأن ربط النتائج المحسوسة بمسببات غيبية مزعومة هو مجرد افتراض وهمي لا يدعمه أي دليل حسي ولا عقلي ولا نقلي (وحي محفوظ مصدره الإله).

ومن أهم هذه التطبيقات المنتشرة اليوم الريكي والبرانا والبرانيك هيلنغ والتشي كونغ والتاي تشي والفانغ شوي والماكروبيوتك، وهي جميعا تلتقي مع اليوغا في الاعتقاد بوجود طاقة كونية انبثقت عن الإله الأول (براهمان) أو (طاو).

ويجب الانتباه إلى أنه لا يصح تفسير أي تغير محسوس (المرض أو الشفاء) بوجود عامل غيبي مفترض (طاقة كونية أو ين ويانغ) عندما تغيب العوامل الحسية، لأن احتمالات هذا التفسير مفتوحة بلا ضوابط، فعلى سبيل المثال إذا لم نستطع إيجاد سبب محسوس لألم أصاب أحدنا في يده، فيمكن لأي كاهن أن يزعم أن هناك وحشا خفيا يعضّ على هذه اليد بأنيابه، وإذا قام هذا الكاهن بطقوس لطرد الوحش المزعوم ثم زال الألم لسبب نجهله كما نجهل سبب الألم نفسه؛ فهذا لا يعني أن الوحش الخفي كان موجودا بالفعل وأن طقوس الكاهن كانت ناجعة. فعالم الغيبيات لا يمكن الحكم عليها إلا بمصدر مفارق، وهو الوحي الذي تثبت الأدلة الحسية والعقلية أنه صحيح وموحى به من الإله.

يستهل تشوا كوك سُوي مؤسس البرانيك هيلنغ كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” بقوله “أنت ممتلئ بأفكار وآراء مسبقة. لكي تتعلم، عليك أن تفرغ كأسك”. وهذا يعني أن تعلم فلسفات الطاقة لا ينجح سوى بتجريد المتعلم من عقيدته الدينية وقواعده العلمية أولا، لأن هذه الفلسفات تقوم على مسلّمات باطنية لا تقبل النقاش ولا يُستدل عليها بعقل ولا نقل، كما أنه لا يمكن الجمع بينها وبين الإيمان بعقائد أخرى.

الماكروبيوتك
هو أسلوب في تناول الطعام وطريقة الحياة يقوم على فلسفة الين واليانغ والعقائد الهندوسية والطاوية، وبما أن هذه الأديان تحرّم تناول اللحوم (انظر مقال الهندوسية والبوذية) لاعتقادها بأن الحيوانات تحمل أرواح الموتى، فإن الماكروبيوتك يحاول تقديم أسلوب المعيشة النباتي في إطار صحي، مع أن الطب الحديث يؤكد أن الاكتفاء بالمصادر النباتية لا يكفي لصحة الإنسان ونموه.

يصنف معلمو الماكروبيوتك كل النباتات والأطعمة من حيث كونها أقرب إلى الين أو اليانغ، ويطالبون مريديهم بموازنة الطعام وفقا لهذا التصنيف الغيبي على افتراض أنه الأكثر موائمة للطبيعة، ويرتبط هذا التصنيف بالقدر الذي يحتويه الطعام من الدسم والكثافة والحلاوة، وبالمكان الذي تنمو فيه النباتات من حيث الحرارة والبرودة، ومع أنهم لا ينصحون بتناول اللحوم إلا أنهم يصنفونها وفقا للبيئة التي تعيش فيها، أو حتى وفقا للارتفاع الذي تحلق فيه الطيور، وهذه العوامل كلها ليس لها علاقة بالعلم.

ومع أن بعض الأنظمة الغذائية التي يقدمها مدربو الماكروبيوتك تحقق فوائد معينة، ولا سيما في مجال الحمية وتخفيف الوزن، مما يكسبها رواجا لدى النجوم ومعجبيهم، إلا أن الجهات العلمية المعتمدة في أمريكا الشمالية وأوروبا تحذر من خطورة هذه الأنظمة ولا سيما على صحة الأطفال والنساء الحوامل والمرضى.

اليوغا والعبادات الشيطانية
سبق أن أوضحنا في مقالات القبالاه والباطنية والهندوسية والبوذية التداخل بين هذه الأديان وعبادة الشيطان، وبما أن اليوغا تتقاطع مع تلك الأديان في العقيدة والسلوك فهي في كثير من جوانبها ليست سوى إحدى وسائل الاتصال بين الإنسان والشياطين.

فعلى سبيل المثال، يعد تمرين “سوريا ناماسكارا” أحد أشهر التمارين التي عولمتها اليوغا في أنحاء العالم، وهو يعني باللغة السنسكريتية “تحية الشمس بثمانية أعضاء”، حيث يؤدي المتدرب عند شروق الشمس وغروبها حركات ووضعيات يلامس فيها الأرض بقدميه وركبتيه ويديه وصدره وجبهته، وهي تشبه طقوس عبادة الشمس في بعض الوثنيات القديمة.

وفي الإسلام، نهى النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن أداء الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، مع أن الصلاة الإسلامية تؤدى لله وحده، والسبب كما في الحديث النبوي أن الشمس “تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار”، وقد فسر علماء مسلمون ذلك -مثل النووي وابن قتيبة- بأن الشيطان يدنو من الشمس أو يقف في جهتها عند هذا الوقت فيسجد له أتباع تلك الديانات بسجودهم للشمس.

(yogasuggestion.com)

وكما هو حال طقوس القبالاه التي تسعى لما تسميه بالاستنارة، وهو الاتصال بحامل الضوء “لوسيفر” (الشيطان)، فإن الاستنارة التي يصل إليها الكثير من محترفي اليوغا ليست سوى اتصال بالشياطين، وكثيرا ما يحدث ذلك دون أن يعلموا بأن له علاقة بعالم الشياطين، ولا سيما من قبل الممارسين الذين يؤمنون بالأديان السماوية. ففي كتاب “معجزات الشفاء البْراني” يقول المعلم العالمي تشوا كوك سوي إن “أصحاب الجلاء البصري” يمكنهم أن يروا بأعينهم عمودا من نور، وإن الأشخاص الروحيين الذين مارسوا التأمل لمدة أطول يمكن أن يشعروا بأنهم غُمروا بنور يحير أبصارهم من شدة ضيائه، حسب تعبيره.

كتب سوي تحظى بترويج كبير في المكتبات العربية

وهناك الكثير من التجارب التي تعرض لها ممارسون مسلمون ومتدينون وقالوا إنهم بلغوا فيها درجة الاستنارة ورؤية الضوء الغامر، بل ورؤية كائنات شفافة (أرواح المعلمين كما يزعمون)، وهي ليست سوى كائنات شيطانية. ففي العقيدة الإسلامية لا يمكن لأرواح الموتى أن تعود إلى الدنيا للتواصل مع البشر الأحياء في عالم اليقظة، كما لا يمكن لروح الشخص الحي أن تفارقه بشكل إرادي -كما يزعم أصحاب نظرية الإسقاط النجمي- وأن تتجول في أي عالم كان.

يقول تشوا كوك سوي “إن هذا الشعور شائع عند معظم ممارسي اليوغا المتطورين والقديسين والصالحين في جميع الأديان”، وهذا يعني أنه لا يهم الانتماء الديني طالما كانت اليوغا توحد الجميع تدريجيا تحت مظلة وحدة الأديان وتمييعها، حيث يضيف الكاتب نفسه “مثل النحل حينما يجمع العسل من مختلف الأزهار، فإن الرجل الحكيم يقبل جوهر الكتب المقدسة المختلفة، ويرى الخير فقط في كل الديانات”.

وبينما تسعى حركات العصر الجديد إلى تهيئة العقول والنفوس للعصر الذي يتجلى فيه لوسيفر كما تقول مؤسسة جمعية الثيوصوفيا “الحكمة الإلهية” هيلينا بلافاتسكي [انظر مقالَي الجمعيات السرية والهندوسية والبوذية]، فإن اليوغا هي إحدى الوسائل الأكثر نجاحا في الانتشار العالمي. وهذا ما يبشر به تشوا كوك سوي عندما يتنبأ قائلا “في المستقبل القريب سيكون المعالجون وملائكة الشفاء أكثر فعالية وتعاونية لإحداث الشفاء الخارق أو المدهش و على أوسع نطاق”، وينقل عن غوستاف سترومبرغ قوله “سيأتي الزمن الذي ينجز العلم فيه التقدم الهائل، ليس بسبب تحسن الأدوات المساعدة على الاكتشاف وقياس الأشياء، بل بسبب وجود أشخاص قليلين يملكون تحت سيطرتهم قوى روحية كبيرة، والتي نادرا ما تكون في الوقت الحالي مستخدمة. وخلال عدة قرون، فإن فن الشفاء الروحي سيتطور بشكل متزايد وسينتشر استخدامه على مستوى الكون”.

ويمكن أن نرى في العالم الإسلامي بوضوح سرعة انتشار اليوغا خلال السنوات القليلة الماضية، حتى أصبح الكثير من المتدينين والمحجبات يمارسونه في الحدائق العامة ويتباهون به وكأنه أحد مظاهر الانفتاح، حيث أضيفت إلى اليوغا بعض التعديلات والمصطلحات في أساليب التطبيق، بل وصل الأمر بالبعض إلى محاولة تأصيله إسلاميا.

وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر 2014 بالإجماع على اعتبار 21 يونيو من كل عام يوما دوليا لليوغا.


أهم المراجع
تشوا كوك سوي، معجزات الشفاء البراني: كتاب عملي للشفاء بالطاقة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2009.

تشوا كوك سوي، المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2014.

ميشيو كوشي، أسلوب الماكروبيوتك، مكتبة جرير، الرياض، 2003.

هيفاء بنت ناصر الرشيد، التطبيقات المعاصرة لفلسفة الاستشفاء الشرقية (رسالة ماجستير).

أحمد شلبي، أديان الهند الكبرى، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.

حميد فوزي، عالم الأديان بين الأسطورة والحقيقة، دار حطين للدراسات والترجمة، 1993.

عادل تيودور خوري، مدخل إلى الأديان الخمسة الكبرى، المكتبة البولسية، بيروت، 2005.

ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، دار الجيل، 2010.

Patanjali, The Yoga Aphorisms, An interpretation by William Q. Judge, The Theosophy Company, Los Angeles, 1973.

Gabriel Monod-Herzen, Le Yoga et les yoga, Éditions du Rocher, Monaco, 1978.

الوثنية وتعدد الآلهة

استعرضنا في مقال “الإنسان والدين” رواية الوحي والنظريات اللادينية لنشأة الدين، وأوضحنا أن الرواية الثانية تنطلق من منظور إلحادي في تفسيرها لنشوء كل العقائد والجوانب الروحية والشعائر والممارسات السحرية في حياة البشر، وسنتابع في هذا المقال تطور هذه العقائد والعبادات من منظوري الوحي والنظريات اللادينية بعد نشوء الحضارة وظهور الكتابة والتاريخ.

ولا بد لنا من مراجعة الفارق بين الروايتين والخلل في المنهج، حيث لا نجد في أي كتاب علمي حديث وصفا “علميا” يمكن الركون إليه عن نشأة الدين، والسبب ببساطة يعود إلى أن العلماء يبنون نظرياتهم بهذا الشأن على أساس من التخمين، فلم يترك لنا البشر الأوائل أي أثر مكتوب عن نشأة معتقداتهم، بل تركوا وراءهم وصفا أدبيا لأساطيرهم على هيئة ملاحم أدبية، بجانب ما بقي من المعابد والتماثيل والصور (الأوثان) التي كانوا يقدسونها، أما تفسير نشوء المعتقد نفسه ودوافعه فليس هناك أي دليل تاريخي عليه.

تعود هذه المشكلة إلى المنهج العلمي نفسه، حيث تقوم جميع الأبحاث العلمانية في نشأة الأديان ومقارنتها -وهي الأبحاث التي توسم وحدها بأنها علمية- على فكرة مفادها أن “العلم” يقتضي عدم البناء على أي نص ديني، ويمكن أن تُقبل هذه القاعدة طالما كان العلم التجريبي يبحث في أمور مجردة، بحيث يتوصل العلماء من كل الأديان على نتائج التجربة العلمية، إلا أن المشكلة تبدأ عندما يصر الباحث على اعتبار العلم التجريبي مصدرا وحيدا للمعرفة في كل شيء وأنه لا وجود للحقيقة إلا في إطار المادة والتجربة، ففي حال غياب أي معلومة علمية تجريبية عن نشأة الإنسان الأول ومعتقداته لن يكون “العلم” مفيدا ولا قادرا على تقديم أي جواب سوى التخمين، والمشكلة لا تكمن في التخمين فقط بل في افتراض أن أي تفسيرات غيبية لنشوء الكون والحياة والدين هي غير مقبولة طالما أنه لا يستطيع اختبارها بأدواته المحدودة، والمؤسف أن تصر المؤسسات العلمية حول العالم على منح “العلم” هذا الدور التخميني والمضي فيه إلى أبعد مدى، حتى باتت كتب الأكاديميين الكبار تخلط بين العلم والفلسفة.

انطلقت الأبحاث العلمانية لنشأة الدين من نظرية التطور (الداروينية) باعتبارها التفسير “العلمي” الوحيد لنشأة الإنسان [انظر مقال “وجود الله“]، وعليه فإن نظريات نشوء الدين تدور حول رغبة الإنسان الأولى في اكتشاف العالم والبحث عن أجوبة شافية للأسئلة الوجودية الكبرى وتفسير الظواهر الطبيعية، دون تطرق لاحتمال أن يكون هذا الإنسان قد خُلق من قبل إله واعٍ وأنه منحه المعارف الأولى منذ وجوده على الأرض ليتمكن من العيش وإعمار الأرض.

إدوارد تايلور

هيمنت أفكار الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور التطورية على الفكر الأنثروبولوجي خلال القرن التاسع عشر، فكان يزعم أن “الإحيائية” Animisme هي الشكل الأولي الوحيد للدين الذي تطور عبر العصور خلافا لباقي الأشكال الأخرى، وصار شائعا لدى الباحثين في الأديان تفسير كل ما يتجمع لديهم من معلومات عن حياة المجتمعات غير الغربية –التي سموها بالشعوب البدائية- من منطلق التطور.

في الوقت نفسه، زعم جيمس فريزر أن الدين تطور مع ظهور الزراعة في عصور ما قبل التاريخ، وأن البشر تطوروا بتطور عقولهم عبر ثلاث مراحل، هي السحر البدائي ثم الدين وصولا إلى العلم. ووافقه في ذلك أوغست كونت وفريدريك هيغل، أما إميل دوركهايم فرأى أن الدين نشأ بتقديس القبائل “البدائية” لما يسمى بالطوطم، وهو رمز (أيقونة) حيواني كان يُشكل هوية القبائل ويحظى باحترامها، وتلاقى معظم الباحثين الغربيين على الإيمان بالتطور الدارويني في المجال الديني سواء عن طريق الصدفة أو بالحتمية الاجتماعية.

طوطم

تفترض تلك الأبحاث أن السحر هو الأصل، وأن الإنسان “البدائي” حاول السيطرة على الطبيعة عبر ادعاء حصوله على قوى السحر والشعوذة، ثم قرر بعد قرون من الفشل أن يتجه إلى الدين ويعبد الإله أو الآلهة المتعددة ليسترضيها. لكن هذا الزعم لا تسعفه الأدلة التاريخية لأن السحر والدين يعيشان جنبا إلى جنب في ظل الجماعات القديمة والحديثة، فالفارق بينهما في الوظيفة وطبيعة النظم وليس في التسلسل التاريخي. كما أن السحر نقيض الدين، فهو يتضمن الجانب العقائدي والشعائري لعبادة الشياطين في مقابل عبادة الإله أو الآلهة الوثنية، وليس هناك أي دليل تاريخي يؤكد فرضيات أسبقية السحر على الدين أو حتى يفسر نشوء السحر عن غريزة السيطرة أو الحاجة إليها في ظل غياب الدين.

كما أثبت روبرت شميت تهافت نظرية الطوطمية لدى دوركهايم، فهناك أمم عديدة لم تعرف شيئا عن الطوطم [The Making of Religion, 95]، بينما اكتشف جيمس فريزر وأندرو لانغ أن الطوطمية كانت تمثل منظومة اقتصادية مدنية وقومية وليست ذات بعد ديني. [العودة إلى الإيمان، 183].

وبحسب الرواية الإسلامية (الوحي) فإن الدين الحق الذي يقوم على عبادة الله هو الأصل منذ بدء البشرية في نسل آدم، أما ظهور السحر والأديان الوثنية فكان بعد عدة أجيال، ويقول ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم إن ظهور الملَكين هاروت وماروت -اللذين نسب إليهما القرآن تعليم السحر للناس- كان في زمن النبي إدريس، وهو أول الأنبياء بعد آدم، أي أن السحر أقدم من الوثنية نفسها، وهذا الرأي يتشابه جزئيا مع الرواية اليهودية -التي نعتبرها محرفة عن الوحي الأصلي- فهي تتهم الملائكة بارتكاب الخطيئة ومعصية الرب والسقوط إلى الأرض في زمن إدريس (أخنوخ) أيضا. ومع أن هناك الكثير من الروايات الإسرائيلية التي تداولها المفسرون عن حقيقة هاروت وماروت، وهي قصص أسطورية لا يدعمها دليل، ومع أن القرطبي استبعد أن يكونا من الملائكة أصلا ورأى أنهما شيطانين، فإن ما يهمنا هنا هو أن تعلم بعض الناس للسحر كان متزامنا مع نشوء العبادات الوثنية والأديان المحرفة، أو متقدما عليها بفترة وجيزة، ولكنه لم يكن متقدما على الدين الأصلي وهو عبادة الله.

 يقول ستيفن لانغدن في كتابه “الميثولوجيا الساميّة”: إن تاريخ الحضارة القديمة تزامن مع تدهور التوحيد إلى الوثنية والاعتقاد بالأرواح والأشباح، وهذا يشكل انحطاطًا للإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
[Semitic Mythology].

ونظرًا لسيطرة الفكر الغربي بمدارسه المتعددة على العلوم الاجتماعية في أنحاء العالم، بما فيها العالم الإسلامي، فقد تغلغلت في عقول الكثير من العرب فكرة تطور الأديان التوحيدية عن الوثنية والأرواحية، وليس العكس، بل حاول بعضهم إيجاد طريقة ما للجمع بين هذه الفكرة مع الإسلام بالرغم من التناقض الجلي، وسيتبين لنا في ثنايا المقال بطلان هذه الفكرة وتناقضها مع الكثير من الأبحاث التي صدرت في القرن العشرين، حيث نستعرض أهم المحطات التاريخية لظهور العبادات الوثنية (تعدد الآلهة) بعد الانتقال المفترض للمجتمع الإنساني من النظام البدوي والعشائري إلى نظام المدن وتشكل الدول والحضارات، وما رافق ذلك من ظهور المؤسسة الدينية الوثنية (الكهنوت) وتحالفها مع المؤسسة السياسية الملكية. 

يقول الباحث آرثر كوستانس في كتابه “سلسلة أوراق المدخل”: مع اكتشافنا لألواح أثرية أقدم، ومع تقدم كفاءتنا في فك الرموز، تغيرت فكرتنا عن الوثنية القديمة، واستبدلنا بها تصورا آخر هو الترتيب الهرمي للأرواح التي يحتل قمتها كائن مطلق.
كما يرى أن نظرية التطور مبنية على اعتقاد مُسبق بأن الإنسان يرقى بتفكيره مع مرور الزمن، بينما تثبت الآثار أن ما حدث كان تدهورا وليس تطورا.
[The Doorway Papers Series, 3- 34].

 

يقول الباحث الألماني فيلهيلم شميدت في كتابه “أصل ونمو الدين” إن زعم هربرت سبنسر بأن البشر الأوائل قدسوا آباءهم وأجدادهم ثم عبدوهم وفق تراتب هرمي حتى ظهرت الآلهة والأديان هو تصور خاطئ، فالعالَم القديم كانت لديه صورة نقية عن الإله الواحد، ومع تقدم الحضارات زادت فكرة الإله تعقيدا حيث نُسبت له الزوجة، ثم تعددت الآلهة، حيث لم توجد عبادة الأسلاف في الكثير من قبائل وسط أفريقيا وجنوب شرق أستراليا وغرب أمريكا.
[The Origin And Growth of Religion, 61].

ستونهنج في بريطانيا من أشهر الأنصاب الميغاليثية

 

المعابد الأولى
ذكرنا في مقال “الإنسان والدين” أن الآثار المتبقية في تركيا ومصر والشام وأوروبا الغربية والشمالية ترجح ظهور المعابد الأولى على هيئة كتل صخرية ضخمة أطلق عليها اسم “الأنصاب الميغاليثية”، وهي تعود إلى العصر الحجري الحديث (النيوليت)، أي ما بين 9000 و4500 قبل الميلاد، ويُعتقد أنها كانت مخصصة لعبادة أرواح الموتى.

وفي عام 1994، اكتُشف موقع “غوبكلي تيبي” بولاية أورفة جنوب تركيا، وهو يضم 20 معبدا، ويعد أقدم معبد مكتشف حتى اليوم، ويعود تاريخ بنائه إلى ما قبل 12 ألف سنة تقريبا، ومازالت حجارته تحتفظ بنقوش لأشخاص ونساء عاريات وحيوانات أسطورية وبرية. [gobeklitepe.info].

تعود كل تلك المعابد إلى العصر الحجري الذي لم يترك لنا نصوصا مكتوبة عن تاريخها وعقائدها، لكن النقوش تؤكد أن الوثنية بدأت بتقديس الآباء والأجداد، وهو ما يتوافق مع ما جاء في الوحي الإسلامي، حيث أشرنا في مقال “الإنسان والدين” إلى أن بداية الانحراف عن عبادة الله كانت مع إيحاء الشيطان إلى الناس بصناعة أنصاب تحمل أسماء آبائهم الصالحين دون أن تُعبد، ثم جاءت أجيال أخرى فعبدتها.

وإذا كانت بقايا المعابد الأولى لا تكشف لنا شيئاً عن مساجد يُعبد فيها الله وحده دون وثنية ولا شرك، فهذا لا يعني أن الوثنية سابقة على التوحيد والوحي بالضرورة، فليس هناك ما يمنع تاريخياً ولا عقلياً أن تكون آثار المساجد الأولى قد اندثرت أو دُمرت عمداً، وأن المعابد الوثنية التي اهتم بها الطغاة والكهنة هي التي كُتب لها البقاء.

ويرى مؤرخون مسلمون -مثل القرطبي وابن حجر وابن الجوزي- أن آدم (أول البشر) كان قد بنى بنفسه أول المعابد على الأرض، وهو المسجد الحرام في مكة، فكان بذلك سابقاً على كل المعابد الوثنية، واستندوا بذلك إلى الحديث الصحيح الذي قال فيه أبو ذر: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال صلى الله عليه وسلم “المسجد الحرام”، قال ثم أي؟ قال “المسجد الأقصى”، قال كم كان بينهما؟ قال “أربعون سنة” [البخاري: 3366، ومسلم: 520]. لكن أثر المسجد الحرام اندثر عدة أجيال، حتى أرشد الوحي إبراهيم إلى مكانه فأعاد بناءه.

قائمة ملوك سومر

 

بلاد الرافدين
بالعودة إلى بلاد الرافدين (العراق) التي ينسب إليها التاريخ المدوَّن أول الحضارات البشرية، نجد لوحا طينيا يدعى “قائمة ملوك سومر” وهو يقول إن أول الملوك بعد الطوفان كان يسمى “جشور”، وهو الذي أنشأ مدينة كيش (تل الأحيمر حالياً) في منطقة بين دجلة والفرات، لكن الباحث العراقي خزعل الماجدي يقول في كتابه “أصول الناصورائية المندائية في آريدو وسومر” إن الناصورائيين (المندائيين) أسّسوا أول مدينة في التاريخ وهي إريدو (تل أبو شهرين حالياً)، وهناك ظهر أول معبد في التاريخ (أي بعد العصر الحجري)، وكان لعبادة الإله (إيا)، ونجد في كتاب المندائيين المقدس “الكتاب العظيم” أن صفاته لا تكاد تختلف عن صفات الله المذكور في القرآن، ومنها على سبيل المثال العظيم، القديم، ملك النور، رب العوالم قاطبة، ذو الحول الشامل، الرؤوف التواب، الغفور الرحيم، العزيز الحكيم، البصير، الذي على كل شيء قدير. لكن السومريين الذين ورثوا مدينة إريدو لاحقاً حوّلوا هذا الإله إلى “إنكي”، والذي يجسد إبليس نفسه كما سنرى.

لا نجد في “قائمة ملوك سومر” اسم النمرود، إلا أنه ورد في نصوص أخرى، وأهمها الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل المتبقيان اليوم) الذي يقول إنه ابن كوش بن حام بن نوح، ويضيف أنه أول من أسس مملكة في تاريخ البشرية بتأسيسه مملكة بابل، وأنه كان طاغية جبارا كافرا بالله، كما يربط التلمود (كتاب يتضمن شروح التوراة) بين النمرود والملك إمرافيل الذي كان حاكما في عصر النبي إبراهيم، وفي القصص الشعبية التي جمعها مؤرخون في العصر الإسلامي نجد توجها عاما للاعتقاد بأن النمرود هو أول جبار في الأرض وأول من ادعى الألوهية، ويقول بعضهم إنه رأى حلما أوّله الكهنة والمنجمون بأنه سيولد ولد في قومه ويكون هلاكك على يديه، فأمر بذبح كل من يولد في تلك السنة، لكن إبراهيم نجى عندما نجحت والدته في إخفائه حتى كبر وتحدى النمرود، وعندما فشل الملك في محاججته بالعقل أمر بحرق إبراهيم بالنار، لكن المعجزة اقتضت ألا تمسه النار بسوء، وهي معجزة أكدها القرآن الكريم.

بقايا بناء يقال إنه بيت إبراهيم في أور (Aziz1005)

لا يذكر القرآن أيضا اسم النمرود، إلا أنه يورد بإيجاز المحاججة بين إبراهيم وملك جبار يدعي الألوهية [سورة البقرة: 258]، كما يذكر أن إبراهيم حاجج قومه في ألوهية الشمس والقمر [سورة الأنعام: 74- 79]، وسنذكر لاحقا أن السومريين والبابليين عبدوهما تحت مسمى شمش ونانا، وقد ذكرنا في حديث نبوي سابق أن بين نوح وإبراهيم عشرة قرون (مع احتمال أن يكون معنى القرن هو الجيل وليس مئة سنة)، وهذا يوافق ما ورد في التوراة عن كون إبراهيم العاشر في شجرة النسب من جده نوح.

نستنتج مما سبق أن إبراهيم بُعث في وقت مبكر من عمر الحضارة ببلاد الرافدين التي بدأت بالتشكل بعد الطوفان، وأنه حاول إعادة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك والوثنية، وقام في سبيل ذلك برحلات طويلة انطلاقا من مدينة أور بجنوب العراق ومرورا بحرّان في جنوب تركيا ثم إلى مصر ومكة التي أعاد فيها بناء الكعبة التي بناها آدم (أول مسجد ومعبد على الإطلاق)، وانتهاء بفلسطين التي توفي فيها، حيث لم يجد سوى التحدي والصدّ من الملوك والجبابرة.

وقد تبع ظهور السومريين نشوء حضارات مماثلة في مناطق متفرقة من العراق، وهي الأكادية والبابلية والكلدانية والآشورية، وظهرت فيها جميعا أساطير وثنية على يد الكهنة المتواطئين مع الملوك وبطرق متشابهة.

بحسب القرآن الكريم، يخاطب الله المسلمين من أتباع آخر الأنبياء محمد بقوله {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج: 78]، ما يعني أن الإسلام كان ملة الأنبياء جميعا، وأن أتباع آخر الأنبياء سيشهدون على الناس يوم القيامة بأن ملة الإسلام كانت واحدة وأنها بقيت محفوظة حتى النهاية بالرغم من سعي الطغاة لتشويهها.

بالعودة إلى الأساطير التي نشأت في بلاد ما بين النهرين بعد الطوفان، نجد أن قصة الخلق وعقيدة الألوهية والإيمان بالغيبيات تختلف بحسب اختلاف المكان والزمان، وأيضا بحسب فهمنا المعاصر لما تركته تلك الحضارات من تاريخ مدون على الطين، فنجد تفسيرات وقراءات متعددة يصعب معها الجزم بما كانت عليه عقيدة العراقيين القدماء، إلا أننا نجد في تلك الأساطير نقاطا مشتركة وكأنها تقتبس من مصدر واحد، كما يبدو أن الحضارة المنتصرة كانت تضيف وتعدّل على أساطير الحضارة المندثرة، حتى وصلت إلينا أساطيرهم على هيئة تراكمية.

وبحسب الوحي الإسلامي، كان الإله الواحد موجودا وحده قبل وجود أي شيء آخر معه، ثم خلق الماء والعرش، ثم بدأ خلق الكون، ففي حديث رواه البخاري في صحيحه دخل ناس من أهل اليمن على النبي فقالوا “جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان”، فقال “كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض…”، كما تقول الآية في سورة هود {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7].

لكن المندائية أجرت كما يبدو تعديلاً طفيفاً على قصة الخلق، ففي نص التكوين من كتاب “الكنز العظيم” نجد أن الإله كان موجوداً في الأزل وكان الكون (الثمرة العظيمة) متداخلا بعضه مع بعض (الأثير بداخل الأثير)، وبأمر الإله تكونت المانات العظيمة وانتشر بريقها بما يشبه الانفجار العظيم للكون، فتكونت آلاف مؤلفة من الثمار بلا نهاية (المجرات)  وملايين الملايين من المواطن بلا عدد (الكواكب)، وهذا يعني أن الكون كان موجوداً في بذرته الأولى مع الإله في الأزل وأنه تشكل لاحقاً بأمر الإله وتوسع إلى ما لا نهاية. [mandaeannetwork.com].

وإذا كان السومريون هم ورثة المندائيين -كما يقول خزعل الماجدي- فقد أجروا تعديلاً آخر، إذ يبدو أن الذي وضع أسطورة الخلق السومرية أراد تحريف رواية الوحي فدمج الإله الخالق بالماء وجعله بداية الوجود، ثم افترض أن المخلوقات انبثقت منه مباشرة عبر مراحل متتالية. وقد أثرت أسطورة الخلق هذه على معظم الأساطير اللاحقة حول العالم، لا سيما من حيث ابتكار مفهوم تعدد الآلهة، حيث لم تعد الوثنية هنا مقتصرة على تقديس أرواح الموتى كما كان في الأقوام السابقة، بل تغلغلت الوثنية إلى قصة الخلق نفسها وجعلت للإله شركاء في كل شيء.

وبإيجاز، زعم مخترع أسطورة الخلق السومرية أن الوجود كان يقتصر على حالة غير مفهومة من العماء المائي الذي يسمى “نمو”، فهناك ماء ولكنه غير متشكل وغير مادي، وفي لحظة ما انبثق عنه إله السماء المذكر “آن” وإلهة الأرض المؤنثة “كي”، ومن زواجهما نتج الإله إنليل الذي أصبح رئيس مجمع الآلهة. أما البابليون فزعموا أن البداية كانت مع الأب أبسو والأم تعامة والابن ممو، وأنهم أنجبوا سبعة من الآلهة الأقل شأنا أو أنصاف الآلهة (الأنوناكي)، الذين أنجبوا بدورهم جيلا آخر يدعى “الإيجيجي”، ثم تم خلق السماء والكواكب والأرض وبدأت حياة الحيوانات والنباتات.

تقول ملحمة أتراحاسيس، وهي نص بابلي يعود تاريخه تقريبا إلى عام 1700 ق.م، إن الأنوناكي الذين في السماء حمَّلوا عبء العمل على عاتق الإيجيجي الذين في الأرض، مثل حفر نهري دجلة والفرات وتفجير الينابيع، لكن الإيجيجي قرروا التمرد، ومنعا لاندلاع الحرب قررت الأنوناكي خلق الجنس البشري ليحمل عبء العمل عن الآلهة. [الرحمن والشيطان].

جلجامش

وتقول الأسطورة إن الإنسان خُلق من تربة الأرض الممزوجة بلحم ودم إله قتيل قُدم قرباناً لهذه الغاية، لكنه مع ذلك سيظل بحاجة إلى الآلهة، فهو يقدم لها شعائر العبادة والقرابين، كما تظل الآلهة بحاجة له في علاقة تبادلية، إلا أن الآلهة تبدو غير منصفة ولها مشيئة غير مفهومة، كما أن تصرفاتها تتسم أحيانا بالعدوانية والقسوة وغير ملتزمة بالقواعد الأخلاقية، حتى إن قصة الطوفان الذي دمر المدن الإنسانية الأولى وردت في ملحمة جلجامش وفي النص السومري المعروف باسم “هلاك مدينة أور” على أنها قرار اتخذه الإله إنليل (وهو نظير الإله البابلي أبسو) بعد أن أزعجه ضجيج البشر بسبب تكاثرهم، حيث قرر في البداية تجويعهم بالقحط والطاعون لكنهم لم يموتوا، فقرر لاحقا إغراقهم بالطوفان، وأمر إنليل الحكيم “أتراحاسيس” (وهو نوح عليه السلام) ببناء سفينة وإنقاذ أهله وما يقدر على حمله من الحيوانات، وقد توسلت إلهة أور بقوة إلى إنليل للتراجع عن قراره، ولكن دون جدوى.

ويبدو أن واضعي هذه الأسطورة أرادوا وضع البشر في مواجهة الآلهة، فزعموا أن أتراحاسيس تمكن بذكائه من إقناع الآلهة بالنجاة من الطوفان والإبادة.

وهكذا تم ابتكار الفصل بين الدين والأخلاق طالما كانت الآلهة نفسها غير أخلاقية، لا سيما وأن هناك العديد من الآلهة الشريرة التي تشبه الشياطين، كما زُرعت في نفوس الناس عقيدة تحدي الآلهة التي خلقتهم أصلا ليكونوا في خدمتها.

ومع انتفاء العدالة في هذه العقيدة لم تعد هناك حاجة للبعث والقيامة والحساب، فالأسطورة تقول إن الأفراد ينالون ثوابهم وعقابهم في الدنيا فقط، مع أنهم يرون بأعينهم أن العدالة غير متحققة في الدنيا، لذا لم يكن المرء يرى لنفسه قيمة أعلى من البهيمة سوى في درجة الوعي، كما أن انتفاء مفهوم الخلاص والمحاسبة والعدالة أدى إلى سقوط القيَم بالجملة، وإلى عدم جدوى التفكير في الغاية من الوجود وقيمة الحرية والاختيار وجوهر الإنسانية.

وبالرغم من التعددية الواضحة في هذه الأساطير، نجد في التراتيل السومرية والبابلية والأكادية أن الأصل ينبع من الإيمان بإله واحد أعظم، ففي مدينية أوروك (الوركاء حاليا) كان الإله “آن” هو الإله الأعلى، ثم انتصرت عليها مدينة نيبور فأصبح ابنه إنليل هو الإله الرئيسي الذي لا شريك له، أما بقية الأنوناكي الذين يشكلون آلهة المجمع السماوي فليسوا أكثر من مجمع ملائكة وقديسين.

إنكي

وفي مقابل استعلاء آن وإنليل، قرر السحرة أن يرفعوا من مكانة إله آخر نجد فيه شبها كبيرا بإبليس، وهو “إنكي” الذي كان من الأنوناكي وأصبح إله العالم السفلي، فجعلوا منه إلهًا أقرب إلى البشر، وقالوا إنه كان يعلم جميع الأسرار التي أخفتها الآلهة فقرر أن يكشفها للإنسان الأول، لا سيما بعد أن اكتشف خطط الآلهة التي أرادت حرمان البشر من المعرفة، لذا كان الناس يعودون إليه ليستوضحوه بعض الأسرار، وهي ليست سوى خليط من علوم الهندسة والطب والرياضيات مع فنون السحر والتنجيم والشعوذة، فمنذ ذلك العصر القديم اختلطت العلوم بالسحر واحتكرها السحرة والكهنة. وباتت مدينة إريدو بجنوب العراق المركز الرئيسي لعبادته، كما جعلوا ابنه مردوخ رئيس مجمع الآلهة في بابل التي سيطرت على معظم بلاد ما بين النهرين وصارت العاصمة الكبرى للمنطقة.

عشتار

في الوقت نفسه، رفعت شعوب عراقية أخرى آلهتها إلى مستوى إنليل، كما فعل كهنة ربة القمر إنانا التي كانت تُعبد في كل معابد المدن السومرية، وقدّس آخرون كوكب الزهرة وأعطوه اسما أنثويا هو عشتار (فينوس)، ومن بين التراتيل البابلية الموجهة إليها نقرأ هذا الاستهلال “إليك أرفع صلاتي يا ربّة الربّات ويا إلهة الإلهات.. يا عشتار، يا ربّة البشر أجمعين ومسدِّدة خطاهم..”.

هناك أيضا تراتيل أخرى تعود إلى الدولة الأكادية تسمي الإله الأعلى بإله القمر نانا، وهو الإله الواحد الذي يجمع بين يديه كل صلاحيات الآلهة الأخرى، وهو “الذي أنجب نفسه بنفسه”، أي لم يوجده أحد. وفي إحدى الصلوات الآشورية تُوجه العبادة إلى إله الشمس “شمش”، وهو يمتلك بدوره كل الصفات التي تُطلق على الإله الواحد في الحضارات العراقية المختلفة.

إذن فهناك من تمسك بعبادة إله أعظم مطلق الصفات ولديه آلهة تساعده أقل شأنا تشبه الملائكة، وهناك من رفع الشيطان (إله العالم السفلي) إلى مرتبة الإله الأعلى وجعل من حوله أيضا آلهة تساعده، لكن سلطة الكهنوت في كل حضارة كانت تعيد صياغة الدين وتربطه بإحدى المظاهر الكونية كالكواكب والنجوم لتشخيص وتجسيد العوالم الغيبية (الميتافيزيقية)، ثم تربط تلك الآلهة المشخصة بالقوم والوطن حتى تختلط مفاهيم الدين والقومية والوطنية وتنصهر في بوتقة واحدة، فيُنزع عن الإله جزء من عظمته ويُضاف إلى الملوك والكهنة جزء من القداسة، ويصبح الولاء للملك والكهنة والدولة جزءا من الإيمان بالإله.

وعليه، نجد أن مفهوم الوثنية ارتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة، حيث لم يظهر “مجمّع الآلهة” (البانثيون) pantheon في عالم الأديان والأساطير إلا بعد ترسيخ السلطة المدنية في دويلات المدن البشرية الأولى التي توسعت لتشمل القرى والأرياف ثم الدويلات المدنية الصغيرة الأضعف لتصبح كلها تحت سلطة مدينة (عاصمة) واحدة، إذ يبدو أن حلف السلطة الملكية مع الكهنوت ابتكر مفهوم مجمع الآلهة لتوحيد المجتمعات الصغيرة المتفرقة تحت لواء العاصمة، فيكون لكل إقليم إلهه الخاص الذي يمثله في مجمع الآلهة (الاتحادي) الذي يسوده الإله الواحد صاحب السلطة المطلقة. لكن مفهوم الإله الواحد (التوحيد) كان سابقا على تعددية الآلهة (الشرك)، وتجريد الإله وتنزيهه كان مقدما أيضا على تشخيصه وتجسيده في الأوثان والصور.

يقول الباحث ستيفن لانغدن في مقال بعنوان “الأسكتلندي” إن تتبع نقوش الحضارة السومرية يثبت وجود التوحيد أصلا عندهم، وإن أقدم النقوش والآثار التي بين أيدينا تشير بقوة إلى اعتناقهم توحيدا “بدائيا”، وإن ادعاء نشوء الدين اليهودي (الذي يعتبر لدى الغرب أصل الأديان التوحيدية) من أصل طوطمي (وثني) هو ادعاء كاذب. [The Scotsman, 18 November 1936].

 

الوثنية في الشام
تبدو أساطير بلاد الهلال الخصيب مستنسخة بعضها من بعض، وكأنها انتقلت من بلاد سومر إلى الكلدانيين والبابليين وصولا إلى الكنعانيين والآراميين والفينيقيين في سورية ولبنان وفلسطين، إلا أن واضعي تلك الأساطير كانوا يعيدون صياغتها بمنظورهم الخاص ليصبح أكثر مواءمة مع البيئة المحلية.

تمثال بعل مكتشف في أوغاريت

يُعتقد أن الكنعانيين هم أول الشعوب التي سكنت سورية، وأن مملكة إيبلا تزامنت مع وجود حضارة سومر العراقية، وكانت عاصمة إيبلا في إدلب بينما امتد نفوذها على معظم أراضي سورية الحالية، ويُعتقد أن تاريخها المكتوب بدأ في العام 3100 قبل الميلاد. وبحسب لوح طيني اكتشفته البعثة الإيطالية في أوائل الثمانينات فقد كان الكنعانيون الأوائل يعبدون إلها واحدا هو خالق كل شيء، إذ يقول الابتهال في اللوح المكتشف “رب السماوات والأرض، أنت… من خلقتها، لم تكن بعد قد صيَّرتَ الضوء في الوجود، أنت لم تضع الشمس بل خلقتها”.

لا يكشف النص السابق متى ظهر الشرك (تعدد الآلهة) في تلك المنطقة، لكن الألواح المكتشفة في ممالك ماري وإيبلا وأوغاريت تشير إلى وجود مجمع للآلهة (بانثيون) على شاكلة المجمع الأسطوري الذي وُجد في بلاد الرافدين. وكان على رأس الآلهة “إيل”، ثم يليه بعل أو حَدد الذي نُسب إليه المطر والسحاب والصواعق فكانوا يتوسلون إليه للحصول على مواسم زراعة جيدة، أما الإله “موت” فكان في مقابل بعل لكونه إله الجفاف والعالم السفلي.

كما عبد الكنعانيون “عشيرة” أو “إيلات” زوجة إيل، وعناة (التي تقابل عشتار أو عشتارت في بابل) وهي زوجة بعل، وأما إلهة الشمس فتسمى شبش وهي تقابل شمش في بابل. ويمكن للباحث المتعمق أن يكتشف التشابه الكبير بين الأساطير الكنعانية والفينيقية وبين سابقتها السومرية والأكادية والبابلية، كما يظهر أيضا أثر الأساطير السورية على ما ظهر لاحقا في بلاد الإغريق.

 

الوثنيات المصرية
بحسب كتاب نديم السيار “المصريون القدماء أول الحنفاء”، والذي يتضمن الكثير من الوثائق والصور، فقد تعلم المصريون الأوائل عبادة الإله الواحد من نبيهم هرمس (إدريس حسب أحد الأقوال)، وكانت الصلاة لديهم الركن الثاني بعد الشهادة، وكانوا يصلون خمس مرات في اليوم، ويُشترط لصحة صلاتهم التطهر وستر العورة واستقبال القبلة في الجنوب، كما تتضمن الطهارة لديهم غسل أعضاء الوضوء كما هو متبع اليوم في الإسلام بالضبط، بل إن نواقض الوضوء لديهم هي ذاتها المعروفة لدى المسلمين.

وبحسب تعاليم هرمس (إدريس) في مصر، كان هناك منادٍ ينادي للصلاة كما يفعل المؤذن، وقد أوردت الدكتورة هدى درويش في كتابها “نبي الله إدريس” تفاصيل التطابق بين صلاة أتباع إدريس وصلاة المسلمين اليوم، وذكرت أنهم عرفوا التسبيح وصلاة الجنازة وصلاة العيد وتقديم الأضاحي قبل الخروج للصلاة في العيد، كما أكد ابن العبري والقفطي أن إدريس أمر قومه بالزكاة، وأنه أمرهم أيضا بالصيام عن الطعام والشراب وإتيان النساء، ونقل السيوطي عن طائفة الصابئة المندائية (التي ما زالت تعيش في العراق) اعتقادهم بأن إدريس هو الذي بنى الكعبة في مكة وأنه كان يحج إليها هو ومن بعد من الأنبياء، إلى أن اندثرت فأعاد إبراهيم بناءها.

تؤكد د. هدى درويش أن ديانة النبي إدريس التوحيدية انحدرت لاحقا على أيدي الكهنة المصريين الذين جعلوا تعاليمه سرية حتى اندثرت وغابت عن عوام الناس، ثم نصبوا آمون إلها يُعبد بعد أن كان رمزا للشمس فقط، فأصبحت الوثنية المصرية بذلك أساسا للوثنيات الكلدانية والفارسية والإغريقية والرومانية، قبل ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام.

منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن

ومع تشوه رسالة إدريس، أعاد الوثنيون المصريون تقديمه في صورة إله أو حكيم يحمل صفات إلهية اسمه “تحوت” Thot (وقد يكتب أحيانا توت أو طوط)، وظهر في الرسوم الجدارية برأس طائر أبو منجل وهو يحمل لوح كتابة ويدوّن نتائج وزن أعمال الأموات في الحساب الأخروي داخل قاعة أوزيريس، وهذه الصورة انتقلت رمزيا إلى المحافل الماسونية لاحقا. ومن الملفت أن نجد لدى القبالاه اليهودية فكرة رفع إدريس إلى السماء ومنحه درجة الملائكة تحت اسم “مطاطرون” ليصبح مسؤولا عن محاسبة الناس في الآخرة، وقد ناقش المفسرون المسلمون احتمال أن يكون النبي إدريس قد رُفع فعلا إلى السماء (معراج) تكريما له حيث يقول عنه القرآن الكريم “ورفعناه مكانا عليا”، ومن المحتمل أن يكون قد رُفع بالفعل لكن الأساطير أعادت صياغة هذا الرفع لتمنحه درجات الآلهة والملائكة.

تُنسب إلى هرمس أيضا مجموعة مخطوطات تدعى “متون هرمس”، يُعتقد أنها كُتبت في مصر، أو في اليونان بعد الميلاد، ومع أنها تتضمن عقيدة التوحيد إلا أنها تضع أيضا أصول الفكر الباطني (الغنوصي)، وقد نُسبت إلى هرمس لاحقا آلاف الكتب المليئة بالفكر الباطني والسحر وشتى أنواع العلوم، لكن التشابه بين أجزاء من تلك الكتب وبين عقيدة التوحيد الواردة في الكتب السماوية يشير إلى أن هناك أصلا واحدا.

على سبيل المثال، يسمى المتن الثاني من متون هرمس باسم بويماندريس  Poimandres، ويطلق عليه أيضا اسم “سفر الرؤيا” فهو يتحدث عن نشأة الكون وخبايا الروح الإنسانية من وجهة نظر فرعونية، ويشبّهه بعض الباحثين بسفر التكوين في التوراة الذي يتحدث عن خلق العالم، ومع أن الكتاب يتضمن رؤية فرعونية باطنية وثنية للكون والخلق والإله، لكن أثر الوحي واضح فيه، وكأنه يحكي قصة نزول الملاك على النبي إدريس عندما اختاره الله نبيا، ليبدأ بتعليمه أسرار الكون.

يقول الكتاب إن هرمس كان يتأمل منعزلا في مكان مقفر بين الصخور، فظهر له كائن رهيب يسميه بالتنين العظيم وهو باسط أجنحته في الأفق والنور يشع منه، فنادى التنين العظيم هرمس باسمه وسأله عن سبب عزلته، ومع أن هرمس فزع من منظر هذا المخلوق فقد توسل إليه أن يكشف له أسرار العالم، فعُرج به إلى عالم نوراني لا مادي، وتلقى من الإله بويماندريس قصة الخلق التي بدأت بكلمة مقدسة فاضت عن النور، وهبطت على الماء ليتشكل منها عمود عظيم، ثم انبثق منها النار والهواء, ثم تم فصل ماء النور عن ماء الظلمة, وتشكلت بذلك العوالم العلوية والعوالم السفلية. ومن الملفت أن هذه القصة تشبه تماما مطلع سفر التكوين الذي يقول “في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة”.

وبعد جلاء الأصل التوحيدي لهذه العقيدة في “سفر الرؤيا”، نجد أثر التدخل الفلسفي الذي يحرفها باتجاه الغنوصية بوضوح، وفي النهاية يطلب بويماندريس من هرمس أن يعود إلى الأرض ويكون رسوله إلى الناس فيقول “آمرك بأن تنطلق وتكون هادياً لأولئك الذين يهيمون في الظلمة, لكل البشر الذين تكمن في دواخلهم روح العقل الكوني لعلهم ينجون مهتدين بعقلي الكامن فيك”. وهنا يعود هرمس إلى العالم المادي ويبدأ بنشر “الحقيقة” فيسخر منه معظم الناس، ثم يستأمن تلاميذه وأنصاره على الأسرار في هذا الكتاب لتصل إلى كل الأجيال اللاحقة.

وهكذا نرى أن تعاليم هرمس وعباداته تتشابه كثيرا مع ما جاء به نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، كما تتقاطع في بعض جوانبها مع ما ينسب إلى النبيين موسى وعيسى، ما يدل على التأثر والاقتباس، وسيتضح لنا في مقالات أخرى أن الوحي السماوي واحد ومنبعه واحد، وأن التحريفات التي طرأت عليه كانت تقتبس وتتأثر بأساطير سابقة.

“يلد ولم يولد، ينجب ولم ينجبه أحد.
خالق ولم يخلقه أحد، صنع نفسه بنفسه.
هو الوجود بذاته، لا يزيد ولا ينقص.
خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون”.
جزء من ترتيلة مصرية تصف الإله الواحد، أوردها واليس بدج في كتاب “أوزيريس والبعث المصري”.

منذ مطلع القرن العشرين، تخصص الباحث البريطاني واليس بَدْج في دراسة معتقدات قدماء المصريين، واستنتج أنهم كانوا يؤمنون بإله واحد موجود بذاته، وأنه خفيّ، أبدي وأزلي، مطلق القدرة والعلم، لا تدركه العقول، وهو خالق الكون والقائم عليه، وأنه خلق كائنات روحانية لإيصال رسالته إلى خلقه ومساعدته في تصريف شؤون الكون، ورأى “بدج” أن المصريين الأوائل لم يشخصوا إلههم ولم يجسدوه في التماثيل والصور، لكن الملائكة التي كانت تساعده اكتسبت بعض صفات الألوهية مع أنها مخلوقة.

عائلة الآلهة المصرية (JeffDahl)

ابتدأت الحضارة عموما في مصر قبل سبعة آلاف سنة تقريبا، لكن تاريخها الأول مجهول لعدم تدوينه، فلا نعرف الكثير عن عقائدها الأولى وما زال هناك خلاف كبير بين من يرى أنهم كانوا موحدين ومن يرى أنهم عبدوا الحيوانات أو أنهم تخيلوا الآلهة كالبشر من البداية، لكن المؤكد أن التاريخ المدون ابتدأ مع ما يسمى بعصر الأسرات (السلالات الحاكمة) عبر توحيد البلاد المصرية على يد الملك مينا (نارمر) قبل الميلاد بنحو 3100 سنة.

وإذا صحت نظرية “بدج” فقد نُزعت القدسية عن الإله الواحد بالتدريج، فبعد أن أشركوا معه ملائكته، وبعد أن نُسي الإله وعُبدت الآلهة التي تشبه البشر في أهوائها وتعرضها للمرض والموت، صار لكل مدينة وبلدة في مصر إلهها الخاص،  ووضع الكهنة عقائدهم الخاصة بما يوائم الظروف ومصالح الطبقة الحاكمة، لكن بعض الآلهة الإقليمية خرج من دائرته الضيقة واكتسب صلاحيات آلهة أخرى حتى صار تجسيداً للألوهة المطلقة، مثل تيمو إله هليوبوليس، وبتاح إله ممفيس، وآمون إله طيبة. وبالرغم من كثرة الآلهة التي بلغ عددها الآلاف، فقد أكد العلامة الفرنسي جون فرانسوا شامبليون في القرن التاسع عشر أن “الدين المصري يقوم على معتقد توحيدي صافٍ، يعبر عن نفسه خارجياً بصيغ شِركية تعددية”.

يُعتقد أن الميثولوجيا الوثنية التي طرأت على المجتمع المصري كانت مستوردة في أصولها من العراق والشام، ويبدو أن هناك عدة روايات أسطورية لبداية الخلق في مصر، إلا أن أشهرها يفترض انبثاق الكون من كائن أولي غير محدد الملامح ويدعى “نون”، وهو ماء الأزل (يذكرنا بأساطير بلاد الرافدين)، تولدت عنه الشمس المتمثلة بالإله “رع” بطريقة مجهولة، وما إن أشرقت أشعة الشمس على الخواء حتى بدأ الكون بالتشكل، كما انبثق عن نون أبو الآلهة “آتوم” الذي نتجت عنه العائلة الأساسية كما في معظم الأساطير السابقة واللاحقة، وبما أن آتوم لم تكن له زوجة فقد استمنى لينتج عنه “شو” وأخته “تفنوت”، ثم تزوج الأخوان وأنجبا رب الأرض “جب” وربة السماء “نوت”، اللذين أنجبا بدورهما أربعة أبناء، ثم بدأ الصراع بين الإخوة الأربعة عندما غار الإله الشرير ست من أخيه أوزوريس وقتله، فعملت الأخت إيزيس على إعادة تجميع أشلاء حبيبها وأخيها القتيل بمساعدة أختهما نفتيس ورب الموتى أنوبيس، وأعاد رع الحياة لأوزوريس الذي أنجب من أخته إيزيس طفلا يسمى حورس، فخبأته الأم في مستنقعات الدلتا وتركته في عهدة الإلهة حتحور (على هيئة بقرة) حتى كبر، ثم عاد وانتقم من عمه ست، وهكذا أصبحت السيادة لحورس المتجسد في هيئة صقر، بينما هبط والده أوزوريس إلى عالم الموتى ليصبح إلهه السفلي.

شو في الوسط يرفع نوت (السماء) بينما يتمدد جب (الأرض)

لم تظهر أسطورة الصراع بين الآلهة إلا في عصر الأهرامات (حوالي 2600 قبل الميلاد) عندما احتاج الفراعنة لملحمة درامية على شاكلة ملاحم الإمبراطوريات المجاورة، وقد زعموا الاتحاد بالإله حورس الذي يحرس مصر كالصقر، واتخذوا من عينه شعارا مازال حاضرا في الوثنيات المعاصرة والحركات السرية، ثم زعم بعض الفراعنة أنهم أبناء “رع” المتمثل بالشمس.

أخناتون ونفرتيتي تباركهما الشمس

بعد نحو ألف سنة اندمج مع رع إله محلي كان يُعبد في مدينة طيبة واسمه “آمون”، ثم حاول الفرعون أمنحوتب الرابع (توفي عام 1334ق.م. تقريبا) نبذ الشرك وعبادة إله واحد، فغيّر اسم آمون إلى “أتون” واتخذ لنفسه اسم “أخناتون”، ومحى ملامح تعدد الآلهة الوثنية من المعابد، لكن كهنة آمون لم يسمحوا لهذه العقيدة بالبقاء، وأجبروا ابنه الصغير الذي خلفه “سمنخ كا رع” على العودة إلى عبادة الآلهة المتعددة، ثم توفي في ظروف غامضة بعد ثلاث سنين وخلفه أخوه “توت عنخ أتون” الذي كان عمره 9 سنوات، حيث أجبره الكهنة أيضا على الشرك وتغيير اسمه إلى “توت عنخ آمون”، ومُسح اسم أتون من كل المعابد، ثم توفي الفرعون الصغير في سن الثامنة عشرة في ظروف أكثر غموضا من وفاة أخيه، حيث يعتقد الكثيرون أنه قُتل وأن وزراءه الذين خلفوه في الحكم طمسوا الكثير من الأدلة.

بما أن الملوك اللاحقين طمسوا تاريخ أخناتون فلا ندري بالضبط ما إذا كان قد عبد الإله الواحد المنزه عن التمثيل والتجسيد الذي دعا إليه الأنبياء، أم أنه حاول فقط توحيد العبادة لرب واحد متمثل بالشمس، إلا أننا نعلم أن النبي موسى عليه السلام بُعث إلى أحد الفراعنة لدعوته إلى التخلي عن تأليه نفسه وعن استعباد قومه والسماح لبني إسرائيل بالخروج من مصر. وبحسب الكتاب المقدس فإن موسى نشأ في كنف أحد الفراعنة ثم عاد لدعوة ابنه الذي خلفه قبل أن يموت غرقا في خليج السويس أثناء المطاردة، ويُعتقد أن الأول هو رمسيس الثاني وأن ابنه هو مرنبتاح (توفي عام 1203 ق.م)، بينما لا يذكر القرآن الكريم سوى فرعون واحد، ومازال الخلاف قائما بشأن هويته، حيث يؤكد باحثون أن مومياءه تكشف عن وفاة طبيعية وأن آثاره تحكي عن غزوه لبلاد بني إسرائيل وانتصاره عليهم. ولم تترك المدونات المصرية أي ذكر لموسى ولخروج بني إسرائيل وهزيمة الفرعون بمقتله غرقا، إذ يبدو أن هذه النكبة التي حلت بمؤسسة السلطة والكهنوت قد طُمست كما طمست القصة الحقيقية لأخناتون، وأن الوثنية ظلت قائمة في مصر بعد خروج موسى وقومه إلى فلسطين دون أن تبقي على أثر يُذكر للوحي والتوحيد.

“وإني أرجح أن كثيرًا من فلسفة الأقدمين في مصر والصين والهند هي بقايا نبوات نسيها التاريخ فحُشر أصحابها في عداد الفلاسفة، ولعلهم من الرسل أو أتباع الرسل”. [نديم الجسر، قصة الإيمان، ص35].

رسم تخيلي لزرادشت من القرن الثالث الميلادي

 

الزرادشتية والمجوسية
في القرن السادس قبل الميلاد (على الأرجح)، ظهر في شمال إيران زرادشت الذي تتقاطع الكثير من تعاليمه مع عقائد الأنبياء كما نجدها اليوم في الإسلام. وتقول الروايات التاريخية التي دخلت فيها الكثير من الأساطير والتحريفات إن ولادته ترافقت بسلسلة من المعجزات، فاختبأ الشيطان خوفا من ظهوره المنتظر، وعندما أصبح شابا حاول الشيطان إغراءه بمنحه سلطة على الأرض مقابل تخليه عن الرسالة الدينية فلم يقبل، وتقول الروايات أيضا أن زرادشت كان كاهنا على دين قومه، ثم انشق عنهم ونزل عليه وحي النبوة في سن الثلاثين عن طريق أحد الملائكة، حيث عرج به إلى السماء للقاء الإله “أهورا مزدا”.

تنص هذه الديانة على أن الإله لم يكن سواه في الوجود، فاختار أن يخلق روحين توأمين هما سبينتا ماينيو وأنغرا ماينيو، ومنحهما حرية الاختيار، فاختار الأول الخير ودُعي بالروح القدس، واختار الثاني الشر ودُعي بالروح الخبيث، ثم بدأ الصراع بينهما، ومع أن الإله كان قادراً على سحق أنجرا ماينيو إلا أنه آثر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره، فخلق ستة كائنات روحانية قدسية تدعى “الأميشا سبينتا” أي الخالدون المقدسون ليدعموا الروح  القدس، وذلك عن طريق “الفيض” من نوره، كما تقتبس الشمعة نورها من المشعل، وبالفيض أيضا أوجدت هذه الكائنات كائنات طيبة أخرى هي “الآهوريون”، بينما أخرج أنغرا ماينيو إلى الوجود كائنات روحانية متفوقة اسمها “ديفا” لمساعدته في التخريب، وهكذا تشكلت الملائكة والشياطين قبل خلق العالم المادي.

وكان أهورا مزدا يعلم أن القضاء على الشيطان أنغرا ماينيو وأتباعه لن يتيسر قبل خلق العالم المادي، فخلق هذا العالم ليكون ساحة الصراع، وذلك على ست مراحل زمنية، ثم أوجد آدم “ماشيا” وحواء “ماشو”، وبدأ الصراع بين بني آدم والشيطان، وسينتهي في آخر الزمان بدحر الشيطان وسيادة الخير على العالم بعد ظهور المخلّص المنتظر “ساوشيانط”.

ونصّت الزرادشتية على أن الإنسان يُحاسب بعد ثلاثة أيام من موته، فتوزن أعماله بالميزان، ويتم امتحانه بالعبور على صراط المصير، وهو جسر يتسع ويضيق بحسب أعمال الشخص فإما أن يتيح له الوصول إلى الجنة أو يلقي به في الجحيم.

وعلى صعيد العبادات، تتضمن النصوص القديمة الصلاة خمس مرات في اليوم، وتسبقها عملية تنظيف تشبه الوضوء، تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين، وهي تبدأ بالوقوف في حضرة الإله وتلاوة مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا القديمة المنسوبة إلى زرادشت. وتنقل تلك النصوص عن زرادشت أن الصلاة تقام في أي مكان طاهر دون اشتراط وجود المعبد، وقد شدد كثيرا على طهارة الجسد والملابس، كما منع زرادشت صنع الصور والتماثيل للإله والملائكة.

ويشاع عن هذه الديانة أنها تعبد النار لذاتها، لكن تقديسهم لها لا يزيد عن اتخاذها رمزًا للإله، وفي عصور لاحقة شُيدت المعابد المليئة بالصور والتماثيل، وزودت بمواقد للنار المقدسة.

ومع توالي هذه التغييرات على الديانة في ظل الإمبراطورية الأخمينية، نشأت طبقة الكهنة المتفرغين لطقوس النار الذين عُرفوا باسم “موغان” ومفردها “موغ”، وهو مصطلح كان يُطلق على الكهنة في الأديان الفارسية السابقة لدى القبائل الميديّة، لكن الكهنة الزرادشتيين أصبحوا أكثر سلطة وتنظيما في العصر الأخميني، ثم ازدادت سيطرتهم في عصر الدولة الساسانية اللاحقة.

ومن هنا جاء مصطلح “المجوس” الذي تداوله العرب للدلالة على الكهنة “الموغان”، حتى نُسبت الديانة إليهم فسُميت بالمجوسية. كما اشتق الأوروبيون من هذه الكلمة مصطلح “ماجيك” magic باللاتينية، والتي تعني السحر، نظرا للإرث السحري القديم للكهانة الفارسية.

معبد النار في باكو عاصمة أذربيجان (السبيل)

أدخلت طبقة الكهنة الجدد (المجوس) على النصوص الزرادشتية القديمة (أناشيد الغاثا) شروحهم الخاصة التي جُمعت تحت اسم الأفيستا؛ ثم ظهرت شروح إضافية جُمعت في كتاب “زند أفيستا”، وانتهى الحال بالزرادشتية التوحيدية إلى المجوسية المثنوية (الثنائية) التي جعلت الشيطان ندًا للإله.

وفي القرن الثاني بعد الميلاد، كان مذهب الزورفانية قد أصبح مسيطرا في ظل الدولة الساسانية، وبتأثير من عوامل يونانية وبابلية قديمة -كما يرى بعض المؤرخين- أعيد تشكيل العقيدة الزرادشتية ليصبح الزمن اللامتناهي “زورفان أكاناراك” هو الأصل، ويُعدَّل اسم أهورا مزدا إلى أوهرامَزد، ويُبتكر إلهٌ جديد للشر اسمه “أهريمان” بدلا من أنغرا ماينيو، وهكذا زعم المجوس الجدد أن أهريمان وأوهرامَزد توأمين أزليين، وذلك بعدما كان الشيطان أنغرا ماينيو إلهًا حادثًا لا أزليًّا وموازيًا لإله الخير سبينتا ماينيو، وأصبحت هذه العقيدة هي الدين الرسمي للدولة الساسانية، كما تم ربطها بالقومية الفارسية بعد أن كانت ديانة عالمية تسعى لهداية كل البشر.

وبما أن التراث الأصلي لزرادشت لم يُحفظ دون تشويه وتحريف، فلا يمكن الجزم بما كان يدعو إليه، بل إن بعض المؤرخين يشككون في وجوده ويعتبرونه مجرد شخصية أسطورية نُسبت إليها الكثير من التعاليم، لكننا لا نستبعد أن يكون نبيا حقيقيا أوحي إليه كما أوحي إلى الأنبياء على مر العصور، لا سيما أن الكثير من تعاليمه وعباداته وتفاصيل عقيدته في الخلق والموت والبعث تتشابه مع ما جاء به آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

منحوتة تصور الملك الساساني أردشير على حصانه وهو يطأ خصمه أردافان وينال البركة من أهورا مازدا الذي يطأ بحصانه خصمه أهريمان (MiladVandaee)

ومن المعروف أيضا أن الكثير من اليهود الذين أسرهم الملك البابلي نبوخذ نصر قد انتقلوا إلى بلاد فارس وحملوا معهم شيئا من آثار الوحي (التوراة)، فحدث بذلك نوع من التداخل بين الثقافتين.

كما نقلت كتب الحديث عن العديد من الصحابة بأسانيد صحيحة أنهم عندما فتحوا مدينة “تستر” الفارسية في عهد عمر بن الخطاب وجدوا جثة النبي دانيال الذي كان معاصرا لنبوخذ نصر عندما أسر بني إسرائيل مع نبيهم إلى بلاد العراق وفارس، حيث تُركت جثته محفوظة طوال تلك المدة ليتبرك بها الناس حتى دفنه الصحابة. [مصنف ابن أبي شيبة (7/ 4)].

وفي رواية للبيهقي في كتاب “دلائل النبوة” عن خالد بن دينار أنهم وجدوا عند رأس دانيال كتابا، فترجمه كعب بن مالك إلى العربية بأمر من عمر بن الخطاب، ووجدوا فيه وحيا سماويا يشبه القرآن الكريم، فكان يتضمن نبوءات عديدة مما جرى لاحقا بالفعل وخصوصا نبوة عيسى ومحمد. [دلائل النبوة: (1/ 381)].

أما ما يردّده المنصّرون في العصر الحديث عن اقتباس المسلمين من التراث الزرادشتي قصة صعود المخلّص الزرادشتي ويراذ إلى السماء، واعتبارها أصلا لقصة معراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فيُردّ على هذه المزاعم بأن القصة وردت في “نصوص أردا ويراذ ناماك” التي تعود إلى القرنين التاسع والعاشر الميلادي، أي بعد فتح بلاد فارس على يد المسلمين واندثار المملكة الساسانية، فالظاهر أن من بقي من الكهنة المجوس هم الذين اقتبسوا القصة من المسلمين وليس العكس، لذا نجد تطابقًا في بعض التفاصيل التي قيل إن ويراذ رآها في رحلته عند مقارنتها بما تحدث عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وبالرغم من التشويه الكبير الذي طرأ على الزرادشتية، فقد تركت آثارًا من الوحي السماوي في أديان ومعتقدات شعوب كثيرة في المنطقة وساهمت في تخليصها من عقائد تتناقض مع التوحيد، ونقتبس من كتاب “الرحمن والشيطان” لفراس سواح أهم هذه الآثار، كما يلي:

1- توحيد الإله وتنزيهه عن المخلوقات، وذلك وفق عقيدة أكثر وضوحا وتقديسا من الأديان الشرقية الأخرى.

2- كانت أديان العراق والشام تنظر للزمان على أنه مفتوح لانهائي، وكانت أديان الهند وشرق آسيا تقول إن الزمان يدور في حلقات، فالعالم يفنى في كل مرحلة من مراحل الزمن بكارثة كونية ثم يعود من جديد بدورة زمنية أخرى، لكن الزرادشتية أعادت للتاريخ معناه وغايته بحيث ينطلق من بداية الخلق ويتطور من خلال صراع الخير والشر قبل أن ينتهي وفقا لرؤية محددة مسبقا لآخر الزمان وقيام الساعة، وعندها تُبعث الأجساد من الموت ويبدأ زمن سرمدي جديد في عالم الآخرة.

3- التاريخ ينتهي بظهور المخلِّص، وهو إنسان طبيعي يولد من أبوين بشريين لكن ميلاده يحدث بمعجزة، وهو الذي سيقود الأشخاص الصالحين في آخر الزمان للانتصار على الشر.

4- لم تعد العبادات مجرد وسيلة للخضوع للإله، بل تهدف إلى تربية الإنسان وتنمية أخلاقه، ولم تعد الأخلاق مجرد سلوك نفعي “براغماتي” لتحقيق المصلحة بل هي قيمة ناجزة وطبيعة كامنة في الوجود لأن الإله نفسه إله أخلاقي كامل الأوصاف.

5- كان الإنسان في ديانات الشرق القديم يسعى إلى موافقة مشيئة الآلهة في حياة لا معنى لها، كما كان هدف الإنسان في شرق آسيا هو فهم العالم والتناغم معه فهو غير قادر على إصلاحه لأنه يسير وفق قوانين ثابتة في دورة حتمية، أما الزرادشتية فأعادت مفهوم الوحي السماوي القائل بأن العالم قابل للإصلاح، وأن الإنسان هو الذي يحمل هذه المسؤولية.

6- أعادت الزرادشتية للشيطان دوره وحجمه الطبيعي، فهو ليس إلهاً أزلياً ولا خالداً بالرغم من تحديه للإله، وسيكون مصيره خائبا في النهاية، وهو أصل كل الشرور في الوجود.

7- الإنسان يتمتع بالوعي ويتميز عن الكائنات الأخرى بحرية الاختيار دون جبر. وحريته هذه تستدعي المسؤولية والمحاسبة.

ومع أن بعض الأديان في مصر والمشرق آمنت بالحساب بعد الموت ثم بذهاب الأرواح إلى جنة أو جحيم، فهي لم تؤمن بيوم القيامة الذي ينتهي فيه الزمان الدنيوي ويبدأ زمان جديد مختلف جذريا، على خلاف الزرادشتية التي قالت إن الأرواح ستعود إلى الأجساد بعد البعث وستعيش في عالم أبدي ينقسم بين جنة وجحيم.

 

الوثنية اليونانية (الإغريقية)
تعود أصول الأساطير الوثنية اليونانية إلى الشاعر هوميروس الذي وضع ملحمتي “الإلياذة” و”الأوديسا”، وهناك من يشكك في وجود هذا الرجل أصلا ويرى أن أساطيره وضعت على يد جهة مجهولة ونسبت إلى شخص خيالي، وحتى في حال وجوده فهناك تضارب كبير بشأن الزمن الذي عاصره، لكن الأرجح أنه عاش (إن كان حقيقيا) ما بين عامي 1100 و850 قبل الميلاد.

رأس تمثال يعتقد أنه لهزيود

أما البناء المتكامل للوثنية اليونانية فكان على يد الشاعر هزيود، حيث يقول روبن هارد في كتابه “الميثولوجيا الإغريقية” إن هزيود هو الذي وضع قوائم معظم الآلهة في ملحمته وقسمها إلى مجموعات محددا أنسابها وأسماءها. [ص 36].

ويرجح المؤرخون أن هزيود عاش ما بين عامي 750 و650 قبل الميلاد، وقد تحدث عن نفسه في ملحمة “الأعمال والأيام” قائلا إن والده كان فلاحا في إيوليا بآسيا الصغرى (تركيا حاليا) فهاجر تحت ضغط الفقر والحاجة إلى اليونان، ثم عمل هزيود في عمل أبيه مزارعا وراعيا للغنم، وظل مجهولا إلى أن وضع في شبابه كبرى الملاحم التي شكلت ديانة الإغريق والرومان من بعدهم، وأهمها “الأعمال والأيام” و”مولد الآلهة”، كما وضع كتابا في التنجيم، ويرى مؤرخون أنه من أوائل المفكرين الاقتصاديين أيضا، وقد وضع كل هذه الأعمال الكبرى دون أن يذكر شيئا عن انتقاله من عالم الزراعة والرعي إلى الفكر، بل اكتفى بالقول إن ربّات الفنون “الموسيات” ظهرن له وأوحين له بتلك الأشعار الرائعة!

وفي كتابه أساطير إغريقية، يقول عبد المعطي شعراوي “وهكذا قدم لنا القروي الإغريقي البسيط هزيود تساؤلات وملاحظات حول كيفية حدوث كل شيء وحاول أن يصل إلى تفسير لكل ظاهرة أو عادة أو شعيرة أو تقليد، ولعله أول إغريقي يفعل ذلك، إذ إن هوميروس لم يفعل في الإلياذة والأوديسا مثلما فعل هزيود في قصائده، ومن هنا جاءت أهمية هزيود كصانع للأساطير الإغريقية”. [ج 1، ص 18].

لكن مؤرخي الحركات السرية يؤكدون أن هذه الأساطير لم تكن من وحي “الموسيات” الخرافيات، إذ يقول زعيم حركة الصليب الوردي في القرن السادس عشر فرانسيس بيكون في مقدمة كتابه “حكمة القدماء” إن تلك الأساطير لم تكن من ابتكار هوميروس ولا هزيود، بل انتقلت إليهما من أزمنة أقدم ومصادر أعرق، ويضيف “في اعتقادي أصولها واحدة، وليس هناك ما هو أعظم ولا أشرف من هذه الأصول”. [ص 320]. وهذا يعني أن بيكون -الذي لا يُعرف اليوم سوى بأنه مؤسس العلم الحديث- ينسب جميع الوثنيات إلى مصدر شيطاني واحد، وأن الشعراء الذين صاغوها في هيئة أعمال أدبية ونصوص دينية ليتعبد بها العوام لم يلجأوا إلى التأمل في غوامض الكون وأسرار الطبيعة أملا في إيجاد أجوبة وجودية لتفسيرها، بل وضعوا تلك الخرافات لتضليل البشر عن طريق الوحي.

تزعم أسطورة الخلق التي بثها هزيود في عقول الإغريق أن الربة كاوس هي الحالة الأولية للوجود فهي اللاشيء الذي انبثقت منه الأشياء، وكأنها كانت تجمع بين الوجود والعدم بطريقة غير مفهومة منذ الأزل، وقد تولّدت عنها ربة الأرض غايا، وربة الليل نيكس، ورب الظلام في العالم السفلي إيريبوس، ورب جهنم (العالم السفلي) تارتاروس، ورب الشهوة والرغبة إيروس. ثم ولدت غايا إلهًا يمثل السماء وهو أورانوس, و أصبح زوجا لها، أي تزوج الابن أمه, وأنجبا 3 سلالات مختلفة، الأولى عمالقة جبابرة (تيتان) وعددهم 12 ابنا، والثانية تسمى “السيكلوب” وهي مخلوقات بشعة لها عين واحدة في وسط الجبين, أما الثالثة فأكثر بشاعة وتسمى “ذوو المئة ذراع”، وعندما خاف الأب أورانوس من كثرة أولاده من السلالتين الثانية والثالثة خبأهم في أعماق الأرض أي في جسد أمهم غايا، فغضبت غايا على أورانوس وحرضت ابنها كرونوس (أحد الجبابرة) على الانتقام من أبيه وضربه بالمنجل، فقتل الابن أباه وورثه بأن أصبح إله السماء، ثم تزوج كرونوس أخته ريا, ونتجت عنهما السلالة البشرية الأولى المصنوعة من الذهب.

يقول عبد المعطي شعراوي في كتابه “أساطير إغريقية” إن الآلهة ليست هي التي خلقت الكون بل الكون خُلق أولا، ففي البدء كان الخواء ثم الأرض والبحار والجبال ثم السماء، ثم مجموعة العمالقة، ثم الآلهة وعلى رأسهم كبيرهم زيوس. [ج 2، ص 38].

وهذا يشير إلى أن أسطورة الخلق اليونانية التي ابتكرها هزيود هي أولى الخطوات التي مهدت للإلحاد في التاريخ المعروف، فقد مرّ بنا أن الأساطير الشرقية في العراق ومصر والشام كانت تؤمن بوجود الآلهة أولا ثم ينبثق عنها الكون والإنسان، أما هزيود فجعل الآلهة والإنسان ينبثقان معا من الكون نفسه. واللافت أن فلاسفة وأدباء عصر النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر عملوا على بعث الأساطير الإغريقية من جديد تمهيدا لنشر العلمانية والإلحاد السائدتين اليوم في الغرب.

رأس زيوس في الفاتيكان

ظهرت لكرونوس نبوءة تقول إنه سيلقى مصير أبيه على يد أحد أبنائه فقرر أن يبتلعهم, إلا أن ريا أخفت ابنها زيوس في مغارة بجزيرة كريت, حيث اعتنت به الحوريات وحرسته العفاريت حتى كبر، وعندها سقى والده دواء دفعه للتقيؤ فخرج من جوفه أبناءه الذين ابتلعهم، وانضم الإخوة إلى جيوش من الجبابرة والسيكلوب لمحاربة أبيهم كرونوس، وانتهت المعركة بمقتل السلالة الذهبية كلها وبانتصار زيوس وإخوته، فصار هو الإله الأعظم واستقر في قصر على قمة أعلى جبل باليونان (الأوليمب).

تزوج زيوس أخته هيرا ونساء أخريات، وكان شهوانيا لدرجة مفرطة، حتى صارت لديه سلالة جديدة الأبناء المصنوعين من الفضة، إلا أنهم لم يقدسوا الآلهة كما ينبغي فغضب منهم زيوس ونفاهم إلى العالم السفلي. ثم وُلدت السلالة البشرية الثالثة المصنوعة من البرونز, وكانت عدوانية وفاسدة فنفاها زيوس أيضا إلى العالم السفلي. وتبع هؤلاء جيل من الأبطال الذين نشأوا في العالم السفلي, ثم خلفتهم أخيرا السلالة الحديدية (البشر الحقيقيين).

وبطريقة تشبه أساطير بلاد الرافدين، يشقى الناس على الأرض ويكابدون مشقة الحياة لكي تعيش الآلهة الخالدة على قمة الأوليمب، بينما تمدهم تلك الآلهة بالدعم والنصر في الحروب وتمدهم بالقوت والمطر وتشفيهم من الأمراض بشرط أن يقدسوها ويتقوا غضبها ويقدموا لها القرابين.

وقد يبدو التداخل عجيبا بين الواقع والخيال لدى عوام الإغريق، إذ كانوا يصدّقون وجود قصور فارهة للآلهة على قمة الجبل، مع أنهم يرونه بأعينهم وهو جبل أجرد لا حياة فيه، كما كانوا يزورون مغارة في كريت لتقديم القرابين ويطرقون على قطع معدنية (مازالت محفوظة في المتاحف اليوم) بهدف التغطية على صوت زيوس الذي يتصورونه طفلا يعيش هناك، كي لا يسمع أباه كرونوس صوته ويبتلعه، مع أنهم لا يرون طفلا ولا يسمعون صوتا بل تقول الأسطورة إنه كبر وانتهى من قتل أبيه!

حرص هوميروس وهزيود على منح جميع الآلهة صفات بشرية، فهم يتصارعون على السلطة والنفوذ، بل يتعرض بعضهم للموت والبعث، ولهم خطايا أشد فداحة من خطايا البشر، وكأنهم أقرب إلى الشياطين من الملائكة، مما يبرر نزعات السيطرة لدى السلطات السياسية والكهنوتية التي وظفت هذه الأساطير لاستعباد البشر، كما كرست تلك الأساطير الطبقية الحادة في المجتمع ووجود العبيد والعمال والفلاحين الذين فُرض عليهم العمل بالسخرة لصالح الطبقات الأعلى وكأنه قدر محتوم.

وكما هو حال الوثنيات السابقة، تقدس الميثولوجيا اليونانية إلها واحدا أعظم وتجعله على رأس مجمع الآلهة وهو زيوس، وكل إله أو إلهة يمثل وظيفة أو قوة من قوى الطبيعة أو صفة ما من صفات الإنسان حتى لو كانت رذيلة، كما لكل قبيلة أو عشيرة أو دولة من دول البلقان المدينية الصغيرة إلهها الخاص، فكانت مدينة أثينا تعبد الإلهة أثينا، وإيلوسيس تعبد ديمتر، وساموس تعبد هيرا، وإفسوس تعبد أرتميس، وبوسيدونيا تعبد بوسيدون. وعندما تحارب دولة إحدى الدول الأخرى فإن أتباع الملك والكهنوت يربطون الأمر بصراع أعلى يجري بين الآلهة، فالشعب الغالب هو الذي يغلب إلهه إله العدو، وإذا قصّر الشعب في نصرة إلهه فعليه أن يتحمل تبعات غضبه.

لوحة تخيلية لمعبد أكروبوليس في أثينا من القرن التاسع عشر

 

الفلسفة والأسطورة
بالرغم من شيوع النظر العقلي الفلسفي لدى اليونان، وهو الأمر الذي يفخر به الغرب اليوم على اعتبار أنه وريث للفلسفة اليونانية التجريدية و”المنزهة” عن الدين والأسطورة، إلا أن معظم الفلاسفة الإغريق لم يتحرروا من البعد الغيبي، فالفيلسوف طاليس الملطي الذي وضع أسس الفلسفة العلمية في بداية القرن السادس قبل الميلاد حاول أن يقدم تفسيرات مادية لنشأة الكون، إلا أنه ربط تشكل الحياة من الماء بنزول زيوس عن عرشه وإحلال الدوامة محله.

والظاهر أن النزعة العقلية لدى الفلاسفة كانت تميل إلى رفض الوثنية وليس الدين نفسه، فانتقد إكزينوفان تشبيه الآلهة بالبشر، وكانت المدرسة الإيلية التي أسهها تعلم الناس العودة إلى التوحيد بدلا من الوثنية المتعددة، كما أنكر أنكساغوراس ألوهية الشمس وقال إنها مجرد حجر أحمر ملتهب وأكبر حجما من جبل البليونيز، أما كريتياس فتجرأ على القول إن البعض اخترعوا الآلهة ليرهبوا بها الأعداء، بينما رأى أويهيمروس أن الآلهة ﻟﻴﺴﻮا ﺳﻮى أﺑﻄﺎل وﻃﻨﻴين أدوا ﺧﺪﻣﺎت ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻓﺮﻓﻌﻬﻢ الخيال اﻟﺸﻌﺒﻲ إﻟﻰ ﻣﺼﺎف اﻵلهة، وهذا يذكرنا برواية الوحي عن قصة قوم نوح الذين ابتدعوا بدعة الوثنية عندما جسدوا الأموات الصالحين على هيئة أصنام ثم عبدوها.

وعندما عجز الفلاسفة الأوائل عن تقديم أجوبة مقبولة على الأسئلة الوجودية الكبرى، نظرا لعجز العقل عن الخوض في الغيبيات، أو ربما للطمس المتعمد لآثار الوحي فلم يصلنا من بقاياه لدى الإغريق شيء، نشر السفسطائيون مذهبهم في الشك واعتقدوا أنه يستحيل على العقل أن يعرف شيئا، وأنه ينبغي على الفلاسفة الاهتمام بحياة الإنسان العملية فقط.

سقراط يتجرع السم راضيا بعد الحكم بإعدامه، لوحة للرسام جاك ديفيد

استعاد سقراط هيبة العقل بعد أن كاد السفسطائيون أن يغرقوا الإغريق في هوة الشك والعدمية [انظر مقال مصادر المعرفة]، إلا أنه لم يستطع أيضا أن يقدم أجوبة على الأسئلة الدينية التي لا يمكن التوصل إليها إلا بالوحي، وحُكم عليه بالإعدام بتهمة “عدم الإيمان بمعتقدات أثينا”. ثم تابع أفلاطون المهمة ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وكان يرى أن الدين ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول دين أسطوري اخترعه الشعراء والفنانون لتسلية العوام، والثاني صنعه كهنة السلاطين لضمان انقياد الشعب لهم بخوفهم من الآلهة وتقديسهم للملوك، والثالث هو دين الفلاسفة الذي يكشف الحقيقة. أما تلميذه أرسطو فهرب من أثينا قائلا إنه لا يريد للمدينة أن ترتكب حماقة أخرى عندما أعدمت سقراط.

لقد كان بإمكان الشعراء الكبار أن يعترفوا بأن الأساطير مجرد أعمال مجازية لا حقيقة لها، كما كان في وسع الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون أن يعدلوها لتتوافق مع العقل، إلا أن غياب الوحي (وربما طمسه وتحريفه في عصر هزيود) جعل المهمة مستحيلة، وهم مع ذلك لم يرضخوا للأساطير المفروضة بقوة السلطة، بل دعوا للتوحيد أو اقتربوا منه.

وحين طاف المؤرخ بوزنياس ببلاد اليونان بعد خمسة قرون من عصر أفلاطون وجد أن الأساطير ما زالت حية في قلوب الجماهير، حيث لم يجد الناس غيرها للإجابة على تساؤلاتهم الوجودية، وكما يقول ويل ديورانت في موسوعته “قصة الحضارة” فإن أساطير هزيود شكلت عقيدة اليونان وفلسفتهم وآدابهم وتاريخهم، واستمد منها الفانون (أي البشر غير الخالدين كالآلهة) زخارفهم التي زينوا بها الأواني، كما كانت هي المصدر الأساس لمواضيع النحاتين والرسامين في معظم أعمالهم التي عاشت آلاف السنين.

سيرابيس يتشكل من دمج أوزيريس وأبيس

ويرجح غلبرت موراي أن الديانة اليونانية مرت بعدة مراحل، وأن البداية كانت دينا سماويا موحى به من الله، ثم تحولت إلى ديانة بشرية أسطورية، ثم فلسفية. [فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط للأهواني، ص22].

اتفق المؤرخون على إطلاق تسمية الحقبة الهيلينية على الفترة الممتدة من أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى موت الإسكندر المقدوني عام 323 قبل الميلاد، وهي الفترة التي ازدهرت خلالها الحضارة الإغريقية وبلغت أوجها فكريا وعلميا.

وعندما احتل الإسكندر الأكبر مصر سارع إلى مزج معبود الإغريق “زيوس” الذي كان يُجسد على هيئة رجل كبير كث اللحية, مع معبود مصر “أمون” الذي يتخذ هيئة كبش ذي قرنين, فكانت النتيجة هي اختراع إله يوناني مصري اسمه “سيرابيس” مع تجسيده أحيانا على هيئة رجل له لحية وقرون كبش، بينما يرى مؤرخون أن “سيرابيس” مزيج من أوزوريس وأبيس وزيوس.

أما الحقبة الهيلينستية فتبدأ عند أغلب المؤرخين بموت الإسكندر، حيث تقاسم خلفاؤه مملكته المترامية الأطراف وظهرت بذلك آثار التلاقح بين فلسفة اليونان وغنوصية الشعوب الشرقية، وامتدت هذه الفترة إلى الغزو الروماني لقلب اليونان عام 146 قبل الميلاد أو حتى الهزيمة النهائية لآخر دولة لخلفاء الإسكندر في معركة أكتيوم عام 30 قبل الميلاد حيث سقطت فيها مصر البطلمية بيد الرومان.

 

الوثنية الرومانية
يُعتقد أن بداية الحضارة في إيطاليا تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد عندما انتقلت شعوب الأتروسكيين من ليديا (غرب تركيا حاليا) إلى شمال نهر التيبر، وعلى الأرجح أنهم تأثروا بالوثنيات المجاورة من اليونان ووسط أوروبا، لكن السيادة كانت لآلهة العالم السفلي المقتبسة عن المستعمرات اليونانية في الجنوب، حيث يعتقد أنهم كانوا يعظمون الشياطين ويمارسون السحر.

جوبيتر

ربما يصعب تقصي الإله الأعظم من بين الآلهة المتعددة التي عبدها الرومان، لكن يبدو أن جوبيتر (كوكب المشتري) كان هو الإله الأعظم، وبجانبه كل من مارس (المريخ) و كويرينوس (أحد أقمار زحل)، ثم في مرحلة لاحقة أصبح بجانب جوبيتر زوجته جونو وابنته مينيرفا.

استمتع أباطرة روما برفع مكانتهم الدينية حتى قدستهم شعوبهم وذبحت لهم القرابين، كما قرر كل من دوميتيان وكاليغولا ونيرون أن يتألهوا بأنفسهم وينافسوا الآلهة الخيالية على مناصبها، بينما تواضع آخرون واعتبروا أن الألوهية لقب ينالونه بعد موتهم.

بدأ عصر الرومان الذهبي بعد عام 30 قبل الميلاد الذي شهد سقوط آخر ممالك اليونان في أيديهم، وهي مملكة البطالمة في مصر، وأخذ الإمبراطور أغسطس في تلك المرحلة بتشييد الكثير من المعابد المكرسة للآلهة التي جسدها الكهنة في الكواكب، ثم أعلن أغسطس نفسه الكاهن الأكبر.

ومن الواضح أن الرومان اقتبسوا ميثولوجيتهم (أساطيرهم) من اليونان، حيث يؤكد المؤلف بي كوملان في كتاب “الأساطير اليونانية والرومانية” أن الدولة الرومانية “جعلت أغلب آلهة الإغريق أربابا لها، إلا أنها عندما أدخلتها في طقوسها الدينية وآدابها أطلقت عليها أسماء لاتينية”. [ص 7].

انتشر السحر في بلاد الروم على يد البابليين، ووجد له تربة خصبة مع عبادة النجوم والكواكب واهتمام الكهنة بالتنجيم، فالتنجيم يفترض وجود قوة روحية في الكواكب تؤثر على الإنسان الذي يعيش على الأرض، ومن خلال دراسة الأبراج المعقدة يتم التنبؤ بالمستقبل، وغالبا ما يتداخل هذا الفعل بالسحر القائم على التعامل مع الشياطين. وفي عصر الإمبراطور تبريوس (ابن أغسطس) حظي المنجمون بنفوذ أكبر من ذي قبل، وصار شائعا استخدام السحر بديلا عن الطب.

وكما هو حال الوثنيات السابقة، اهتم الرومان بأرواح الموتى وقدسوها، وجسدوا أجدادهم في التماثيل، وزعم السحرة أنهم قادرون على استحضار أرواحهم. كما قدسوا الشمس إلى جانب الكواكب الأخرى، حتى أصبحت عبادتها مهيمنة في عهد أسرة سيفروس في القرن الميلادي الثالث، لذا عندما قرر الإمبراطور قسطنطين تحويل ديانة روما إلى المسيحية تم دمج ديانة أتباع بولس بعبادة الشمس، وما زال حضور الشمس واضحا في الرموز المسيحية حتى اليوم.

الإله ثور يصارع العمالقة في لوحة من القرن التاسع عشر

 

الوثنية الإسكندنافية
يعود تاريخ الفايكنغ في المنطقة الإسكندنافية بشمال أوروبا إلى القرن التاسع الميلادي، ويُعتقد أن الأساطير الإسكندنافية (النوردية) هي أصل الوثنيات الجرمانية الأخرى في شمال ووسط أوروبا.

لا يُعرف أصل الميثولوجيا الإسكندنافية بالتحديد، فقد ظلت أشعارها متداولة شفهيا دون تدوين، ما يعني صعوبة تتبع مصدرها، ويبدو أن الذي صاغها قد استورد فكرتها الأساسية من الإغريق (هوميروس وهزيود)، ثم أعاد بناءها بما يناسب طبيعة حياة الفايكنغ القائمة على الإبحار والقرصنة، وبثها في وعي تلك الشعوب الأمية لتصبح مصدر ثقافتها وعقيدتها وفنونها.

تتعدد الآلهة في الأساطير الإسكندنافية كما هو حال الأساطير السابقة، ويتربع أيضا على رأسها إله عظيم يدعى أودِن Odin، وهو نفسه وودِن لدى الشعوب الأنغلوسكسونية، كما عرفه الجرمان باسم ووتان. وتتكرر في هذه الأساطير أيضا عادة تثليث الآلهة كمعظم الوثنيات حول العالم، فهناك الإلهة الزوجة فريغ (أو فرييا عند الجرمان)، والابن ثور Thor إله الرعد.

ونظرا لخطورة الأعاصير والعواصف على البحارة الفايكنغ، رأى مخترع الأسطورة أن يجعل “ثور” على هيئة شاب ضخم مفتول العضلات ويحمل بيده مطرقة ليهاجم بها العفاريت التي تسبب العواصف والأمواج العاتية، فكان البحارة يستبشرون بصوت الرعد الذي تصدره المطرقة معتقدين أنها تصرع الشياطين.

تتشابه الأساطير الإسكندنافية مع أصولها الإغريقية بافتراض وجود عوالم خفية تعيش فيها كائنات عدة، من آلهة وعمالقة وأنصاف آلهة وأقزام وبشر، لكن مبتكر هذه الأساطير كان فيما يبدو أوسع خيالا، كما يبدو أن العديد من الشعراء والأدباء أضافوا خلال قرون طويلة المزيد من الخرافات عن عوالم خفية تسكنها كائنات عجيبة، حتى أصبح العوام يعتقدون أن كل ما حولهم في هذا العالم من كائنات حية وجمادات مسكونة بأرواح، وأن لها نوعا ما من الحياة الخفية.

ثور كما قدمته هوليود في أحد أضخم أفلامها

آمن واضعو الأساطير بوجود جنة بعد الموت، وهي عالم الفالهالا، إلا أنها مجرد مرحلة مؤقتة، كما اشترط واضعو الأسطورة لدخولها التمتع بالشجاعة لتشجيع الناس على الانخراط في المعارك. وتشبه الفالهالا قصرا ضخما يحكمه الإله أودين، حيث يحتفل فيه مع ضيوفه كل يوم بذبح خنزير لأكل لحمه مع شرب الخمر.

وعندما يحين الوقت يخرج أودين مع جنوده هؤلاء لخوض المعركة النهائية “راغناروك” ضد العمالقة، وهي المصير المحتوم للآلهة والعمالقة والبشر، إلا أن هذه النهاية ليست سوى بداية عالم جديد تسوده الأراضي الخضراء ويعم فيه السلام، حيث يُبعث بعد المعركة الآلهة من الموت ويحكمون العالم، ويتوالد البشر مجددا من رجل وامرأة تمكنا من النجاة من المعركة باختبائهما في مكان ما.

وإذا كانت الأساطير اليونانية، وبعدها الرومانية والإسكندنافية، نسخة محرفة عن الوحي وتصورا مشوها لحقيقة الإله الواحد وأدوار مخلوقاته من الجن والملائكة، فإن هذه الأسطورة تبدو وكأنها تحريف للملاحم الكبرى التي تنبأ بوقوعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان.

مما يؤكد أن واضعي الأساطير جعلوا من الجن والملائكة آلهة، أن مؤسِّسة جمعية الثيوصوفية هيلينا بلافاتسكي صرحت في كتابها “العقيدة السرية” بأن سمائيل الذي يعتبره التلمود رئيسا للجن هو أحد الآلهة الذين تذكرهم التوراة (المحرفة) باسم إلوهيم، وتضيف أن سمائيل في القبالاه اليهودية هو شكل رمزي للعمالقة.

 

الوثنية في الجزيرة العربية
تحدثنا سابقا عن ظهور تعدد الآلهة (عبادة الأوثان) في الجزيرة العربية منذ فجر الحضارة وقبل بدء التاريخ، وذلك على يد عاد وثمود، وما تلاهم من الأنباط الذين اتخذوا من سلع (البتراء في الأردن) عاصمة لهم، إلا أن التوحيد عاد إلى العرب على يد النبي إسماعيل بن إبراهيم الذين نشأ في مكة واختلط بالعماليق (قوم من العرب الأوائل)، ثم ارتدوا مجددا إلى الوثنية على يد رجل يدعى عمرو بن لُحَيّ.

منحوتة للإلهة اللات عثر عليها في الطائف

يقول المؤرخ ابن كثير إن عمرو بن لحي كان أحد رؤساء خزاعة الذين تولوا زعامة البيت (الكعبة في مكة)، وإنه كان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل بين العرب، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها.

واشتهرت في مكة عبادة أصنام كثيرة، وعلى رأسها “هُبل” الذي كان بمثابة كبير الآلهة، حيث نصبت قريش له صنما في جوف الكعبة، ثم تأتي من بعده ثلاثة آلهة مشهورة هن اللات والعزّى ومناة، حيث يشكلن ثالوثاً أنثوياً على اعتبار أنهن أبناء الله، كما خصصت كل قبيلة من القبائل الكبرى لنفسها واحدا من الأوثان لتشتهر بعبادته وتقديسه وجذب المتعبدين وقوافل التجارة إليه، فاختارت قبيلة ثقيف في الطائف عبادة اللات وجعلت لها بيتاً يضاهي كعبة مكة، وروي أن ابن لحي استغل وفاة رجل صالح من ثقيف كان يحمل اسم اللات فقال لهم إنه لم يمت بل حلّت روحه في صخرة، فنحتوا الصخرة وجعلوها وثنا يُعبد.

وبالطريقة نفسها، أرادت قبيلة غطفان منافسة قريش، فجعلت لنفسها معبدا يسعى فيه الناس بين حجرين كما يسعون بين الصفا والمروة بمكة، ونصبت صنم العزى في بيت مهيب يضاهي الكعبة.

أما مناة فكان لها صنم في موضع يقال له “المشلل”، وكانت مقدسة تحديداً عند قبيلتي الأوس والخزرج في يثرب (التي سميت لاحقاً المدينة المنورة بعد هجرة النبي محمد إليها)، ويقول المؤرخون إن العرب أصبحوا يقدسون هذه الأصنام الثلاثة ويحجون إليها ويذبحون عندها القرابين كلما حجوا إلى مكة في موسم الحج السنوي. وعندما نزل القرآن على النبي انتقد تلك الأصنام الثلاثة فقال {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19-23].

وكما طرأ التحريف لدى العرب على العقيدة، فقد غيروا أيضا في شرائعهم، فيقال إن ابن لحي فتح الباب أيضا لوضع تشريعات جديدة في الأنعام (ذبح الحيوانات) وغيرها، فأصبح العرب يحرّمون على  أنفسهم أنواعا من الجمال والغنم دون أي مبرر أو اقتباس من مصدر آخر، والعجيب أن التشريع الجديد انتشر بين القبائل وكأنه دين موحى به من السماء. ويرى ابن كثير أن القرآن ذكر ابن لحي في سورة الأنعام بقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا…} [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات.

وقبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس برسالة التوحيد من داخل قبيلته قريش، كانت قريش قد نجحت في بسط سيادتها المعنوية على كافة القبائل في شبه الجزيرة العربية بحكم سيطرتها على البيت في مكة، فقد جمعت لنفسها الرئاسة الدينية والدنيوية وميّزت نفسها في شعائر الحج وتفاصيل شرعية أخرى مما كان قد بقي من شريعة جدهم إسماعيل، فبينما كانت قبائل العرب تقف في جبل عرفة تركت قريش الوقوف هناك والإفاضة، وكان سادتها يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس، حيث لقبوا أنفسهم بالحمس (جمع أحمس) لتحمسهم في دينهم.

رسم لمكة يعود إلى عام 1790

وابتدعوا أمورا أخرى مثل قولهم لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط (أي يتخذوا الأقط وهو لبن مجفف)، ولا يسلئوا السمن (أي يطبخوه) وهم حرُم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيود الأدم ما كانوا حرماً، وغير ذلك من الأحكام المُخترعة التي شددوا فيها على أنفسهم من باب الحماسة، ويبدو أنهم فعلوا ذلك ليثبتوا للعرب أنهم أولى بالزعامة كما يفعل الرهبان في أديان أخرى بانقطاعهم عن الزواج وملذات الحياة مقابل تقديس الناس لهم، وقد دانت العرب لقريش بالفعل وجعلتهم أشرف القبائل، فتركت قريش الغزو واشتغلت بالتجارة ووضعت شروطا لكل من يريد الزواج بإحدى بناتهن.

وعندما نزل الوحي على أحد أبناء قريش، وأمرهم بالتساوي مع بقية شعوب الأرض رفضوا دعوته بشدة، مع اعترافهم بأنه كان معروفا بينهم بالصدق والأمانة ولم يجربوا عليه الكذب، إلا أن معظم قادتهم وجدوا في دعوته انتزاعا للسلطة التي منحوها لأنفسهم.

وبعد سنوات طويلة من الصراع الشاق، تمكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوة التوحيد وإنهاء وجود الوثنية في أرض العرب وفي مناطق أخرى واسعة من العالم، وتؤكد الموسوعات التاريخية الحديثة أن انتشار الإسلام كان أسرع انتشار لأي حضارة عرفها التاريخ حتى اليوم.

فيديو يوضح كيفية انتشار الأديان ويثبت أن الإسلام كان الأسرع انتشارا في التاريخ

ويؤكد القرآن أنه جاء ليجدد الرسالة نفسها التي بُعث بها كل الأنبياء لمقاومة الوثنية والانحراف عن التوحيد، وأن دين الإسلام نفسه هو دين واحد منذ بدء البشرية وليس دينا خاصا بمحمد وأمته، حيث قال نوح لقومه {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، كما وصف القرآن إبراهيم بقوله {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، وكان الإسلام هو الدين الذي أقر به أبناء يعقوب الذين يُعتبرون أجداد بني إسرائيل، حيث تقول الآية {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، وهذا ما أقره موسى أيضا في خطابه لبني إسرائيل: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس:84]، كما قال سليمان في رسالته لملكة سبأ {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30-31]، وقد أقر بذلك أيضا أتباع عيسى قبل تحريف رسالته عندما سألهم من أنصاري من الله؟ فقال الحواريون {نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].

الكعبة في المسجد الحرام بمكة المكرمة

 

خلاصة
بعد هذه الجولة الموجزة في تاريخ تطور الأديان الوثنية، سنوجز في النقاط الآتية أهم الخلاصات التي يمكن استنتاجها والانطلاق منها إلى دراسة الأديان اللاحقة:

1- تنطلق الأبحاث الإنثروبولوجية اللادينية -كما أسلفنا في بداية المقال- من منطلق إلحادي/لاديني مسبق، وهذا يعني بطبيعة الحال افتراض أن أي تشابه بين النصوص الدينية وبين الأساطير والسحر يعني أن الأولى مقتبسة من الثانية، وذلك لاعتقاد الباحثين مسبقا بأنه لا وجود لمصدر إلهي للوحي أصلا.

لذا يجتهد الباحثون في محاولة إثبات اقتباس التوراة والإنجيل (بالنسخ المتبقية اليوم) والقرآن من الأساطير السابقة، ويفترض بعضهم أن وجود أي شبه بين شعائر الصيام والصلاة والحج الإسلامية اليوم وبين مثيلتها في بلاد الرافدين ومصر الفرعونية هو دليل على “وثنية” الإسلام.

وهذا الافتراض يتضمن مغالطة منطقية، فتلازم أمرين لا يعني بالضرورة نشوء أحدهما عن الآخر. وفي حال ثبوت تأثر أي منهما بالآخر فإن الافتراض اللاديني يتخذ مسبقا قراره بالانطلاق باتجاه واحد ويشترط عدم صحة الاتجاه الآخر، فما الذي يمنع أصلا أن يكون الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، بدءًا من آدم أول البشر، وأن الوثنية العراقية والمصرية وغيرهما هي التي اقتبست وحرّفت وليس العكس؟

برستد

2- يضاف إلى الخلل في وضع الفرضيات أن بعض الأدلة التي يطرحها اللادينيون تفتقر إلى الصحة أصلا، حيث يزعم البعض -مثل المؤرخ جيمس هنري برستد في كتابه “فجر الضمير”- أن “الظاهرة الدينية” بدأت بأساطير قائمة على تعدد الآلهة، وأن أخناتون المصري هو أول من ابتكر مفهوم الإله الواحد ثم ترك أثره على الأديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، لكن هذه المقولة التي راجت طويلا في القرن العشرين ثبت تهافتها أخيراً كما يقول جون ولسن في كتابه “الحضارة المصرية”، فالتوحيد كان معروفاً وقديماً في العراق ومصر والشام قبل ظهور مفهوم “مجمع الآلهة” لدى السومريين ومن جاء بعدهم.

وفي حين يزعم البعض أن “الكتاب المقدس” اقتبس من الميثولوجيا اليونانية والمصرية قصتي إخفاء المسيح من الإمبراطور الروماني وإخفاء موسى من فرعون في تابوت وإلقائه بالنيل، يتبين لنا أن هزيود الذي ابتكر هذه الأسطورة في اليونان عاش بعد قصة موسى وأنه هو الذي اقتبس منها، وكذلك الحال في قصة أوزيريس وإيزيس التي ظهرت بعد ذلك، وسنستعرض المزيد من هذه الاقتباسات في مقالي اليهودية والمسيحية.

ملاحظة السميط في أفريقيا
للتحقق من آلية هذا التحريف للوحي، نجد مثالا معاصرا ما زال حاضرا أمام أعيننا في جزيرة مدغشقر المنعزلة بالمحيط الهندي، حيث قال الداعية الكويتي والعامل في مجال الإغاثة د. عبد الرحمن السميط إنه سمع أثناء وجوده هناك عن قرية نائية تدعى مكة وتقيم فيها قبيلة تسمى الأنتيمور، وإن الوصول إليها يتطلب الخوض في مستنقعات من الماء الراكد والروث لأربع ساعات، وعندما بلغها وتحاور مع أهلها أخبروه أنهم جاؤوا من مدينة في الشمال تدعى “جدا” وهي جدة في السعودية، وأنها قريبة من بلدة طيبة تدعى “مكا” أي مكة، كما قالوا إنه كان فيها جار طيب اسمه محمد، ومع أنهم لا يعرفون أنه نبي إلا أنهم يقرون بمحبته، وهم يوقرون أيضا أسماء رجال صالحين يعتقدون أنهم كانوا من أجدادهم، ومنهم “راماكاري” أي المبجل أبو بكر، و”راماأهي” أي المبجل عمر، و”راأوسماني” أي المبجل عثمان، أما أمهم فاسمها “رامونا” أي المبجلة آمنة، وهي والدة النبي محمد.

السميط

وعندما سألهم السميط عن دينهم قالوا إنهم “مسلمون بروتستانت”، وأضافوا أن أجدادهم أخبروهم قبل مئات السنين أنهم مسلمون إلا أنهم فقدوا طريقة التعبد لأن معظمهم لا يعرفون القراءة والكتابة، فجاءتهم بعثة تبشيرية من البروتستانت وأقنعتهم بأنها ستعلمهم الإسلام، وهكذا شيدت لهم كنيسة وأعطتهم نسخا من الإنجيل زاعمة أن هذا هو دين أجدادهم المندثر، فاختلطت لديهم تعاليم الأجداد بما جاءهم به المبشرون، ومع أنهم مازالوا يعظمون يوم الجمعة ويصرون على الذبح الحلال ويحرّمون على أنفسهم لحم الخنزير إلا أنهم باتوا يقدسون الكنيسة والإنجيل.

ومن المفارقات أن السميط وجد لديهم كتابا مقدسا يطلقون عليه اسم السورابي، أي الكتاب الكبير، وفيه بعض سور القرآن بالخط العربي، إلا أنها مشوبة بكثير من الأخطاء والتحريف، وإلى جانبها طلاسم سحرية وتوسلات بالموتى.

وحسب دراسة السميط، فقد بدأت هجرة هذه القبيلة من سواحل جدة قبل 1200 سنة، أي بعد نحو مئتي سنة فقط من بعثة النبي محمد، واستمرت دفعات المهاجرين بالوصول ستمئة سنة، ثم انعزلوا عن العالم ستة قرون، مُكتفين بما لديهم من خيرات الأرض والبحر، وليس لديهم سوى رجال الدين والسحرة الذين يحتكرون لأنفسهم القراءة والكتابة وأسرار الدين، وقد تمكن هؤلاء الكهنة من تحريف دينهم ودمج النصوص الأصلية للوحي القرآني بالأساطير والطلاسم، وبما أن عامة الناس كانوا أميين فقد نجح التحريف وضاعت الحقيقة خلال بضع قرون، ونتج دين وثني جديد يخلط بين الوحي والخرافة والسحر.
[المصدر: حوار مع الشيخ عبد الرحمن السميط في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة: http://goo.gl/cbIIaL]

3- علاوة على مغالطة الانطلاق من منطلق لاديني مسبق، ووضع الافتراضات الممنهجة والمؤدلجة، فإن المنهج اللاديني نفسه قائم منذ نشوئه في القرن الثامن عشر على الفلسفة المادية التي تفترض أن الوجود محصور في عالم الشهود (المادة والطاقة) أصلا، وأن عالم الغيب ليس موجوداً. فالمشكلة لا تقتصر على أن أدوات “العلم الحديث” لا تستطيع التحقق من وجود الغيب بل يفترض العقل المادي مسبقاً أن هذا العالم لا وجود له من البداية، لذا فإن أكثر العلماء انفتاحاً وتقبلاً للرأي الآخر يكتفون بالقول إن وجود الإله والملائكة والجن والوحي هي مقولات “غير علمية” وإن كونهم علماء يدفعهم إلى عدم الخوض في هذه المقولات الخارجة عن تخصصه، ولو أنهم وقفوا عند هذا الحد لكان موقفهم سليماً، لكن معظمهم يتجاوزون هذا الحد ويقدمون تفسيراً “علمياً” للكون والتاريخ والدين من داخل فلسفتهم المادية، ويعتبرون أن أي مقولة تعارض هذه التفسيرات المليئة بالتفاصيل الخيالية (الافتراضية) هي مقولة غير علمية، وبما أنها “غير علمية” فهي تعني في العرف العام والمقررات التعليمية ووسائل الإعلام أنها “غير صحيحة”.

لذا يصرح العلماء بأنهم مضطرون لاعتماد نظرية تطور الإنسان عن كائن شبيه بالقرد، بالرغم من افتقارها لأي دليل علمي [كما يوثق الفيلم الوثائقي مطرودون Expelled]، لأنها التفسير “العلمي” الوحيد الذي يتناسب مع فلسفتهم المادية، ولا بديل عنها سوى الإيمان بوجود عالم الغيب، مع أن وجود هذا العالم لا يتعارض مع وجود المادة ولا مع جدوى العلم المادي ونزاهته. ويتبع اعتمادهم لنظرية التطور وضع افتراضات لا نهاية لها عن نشأة الدين وتطوره، وهي جميعا سيناريوهات متخيلة لا يدعمها دليل.

على سبيل المثال، لا يملك العلماء المعاصرون أدلة علمية تكشف لهم حقيقة نشوء الدين فيما قبل التاريخ سوى آثار التماثيل الصغيرة وبقايا المعابد، وبما أن الإنسان في ذلك العصر لم يترك تاريخاً مدوناً، يلجأ علماء التاريخ والإنثروبولوجيا إلى الخيال لوضع نظريات “علمية”، تتحول لاحقاً إلى ما يشبه الحقائق والمسلّمات، حول دوافع إنشاء المعابد وتشكيل التماثيل وما قامت عليه من أسس تتعلق بدورات الخصب الزراعي وما دار حولها من طقوس، ثم يدعمون هذه الفرضيات بما تركه اللاحقون من أساطير مدونة بعد ظهور الكتابة، وقد لا يترك لنا مؤرخو تلك المراحل سوى مدونة واحدة، مثل ملحمة جلجامش، فيعتمدها العلماء بمثابة الدليل العلمي الوحيد لأديان وعقائد ذلك العصر، مع أننا نشاهد في عصرنا الحديث روايات متعددة للأفكار والمعتقدات والأحداث بالرغم من الانفتاح العالمي وسهولة الاتصال، فلا يمكن الجزم بأن رواية واحدة يكتبها مؤرخ أو كاهن مؤدلج هي الممثل الوحيد لما آمن به الناس في عصر ما.

واللافت أن العلماء الماديين يعتمدون أي نص منقوش على الطين والحجر أو مخطوطة مدونة على الجلد، ليكون بمثابة دليل علمي يؤرخ لتاريخ الأحداث وتطور الفكر والدين، إلا أنهم يعتبرون أن الكتاب المقدس (التوراة والزبور والإنجيل) لا يحظى بالمصداقية الكافية ليعتبر مصدرا تاريخيا موثوقا، ولا مشكلة في الشق الثاني من هذه المقولة لأن التحقيق العلمي يكشف عن أخطاء وتناقضات فادحة في الكتاب المقدس، لكن هذا يؤدي إلى التشكيك أيضاً في مصداقية النصوص الأخرى الأكثر قدماً، فإذا كان واضعو الكتاب المقدس قد حرفوا التاريخ لمصالحهم الدينية فيجدر أيضاً بمؤرخي العراق والشام ومصر القدماء أن يفعلوا ذلك. لكن المذهب المادي الذي انبثق عنه المنهج العلمي يدفع العلماء إلى السير في اتجاه واحد والحكم على الكتاب المقدس من خلال النصوص الطينية وليس العكس، وكأن تلك النصوص التي يؤسس عليها علم الآثار هي المرجعية “العلمية” الوحيدة التي يجب الرجوع إليها في كل الحقائق!

في عام 2014 تناقلت وسائل إعلام عدة نبأ اكتشاف نسخة قديمة لقصة آدم وحواء على يد عالمين هولنديين، وقيل إنهما فككا رموزا باللغة الأوغاريتية للوحين طينين عُثر عليهما في سوريا ويعودان إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حيث يذكران أن الإله الأعلى في الميثولوجيا الكنعانية إيل كان في صراع مع الإله الشرير حورون (إبليس)، وعندما عُوقب حورون بالطرد من الجبل سمَّم “شجرة الحياة”، فأرسل إيل إلى الأرض إلهاً آخر يدعى آدم ليضع حداً لتمرد حورون، فحوَّل حورون نفسه إلى ثعبان ولدغ آدم، فخسر الأخير طبيعته الخالدة. ولكي يسليه إيل أمر إلهة الشمس (حواء) بالنزول إليه والتزاوج معه.

احتفت المواقع الإلحادية بهذه القصة كثيراً، واعتبرت أنها كشف “علمي” يؤكد أسبقية هذه الأسطورة على القصة الواردة في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، وأجمعت تلك المواقع أن القرآن ينقل القصة نفسها عن التوراة، وهي مغالطة شائعة، فالقرآن لا يتهم حواء بإغواء آدم ليأكل تفاحة، ولا يجعل نزول آدم وحواء من الجنة عقاباً على خطيئة، بل أكل كلاهما من الشجرة المحرمة (دون تحديد نوعها) بعد أن أغواهما إبليس معاً، وتاب الله على آدم عندما ندم، وأنزله إلى الأرض بعد ندمه وليس عقاباً له.

وإذا كانت هذه القصة قد وردت في نص طيني أسطوري قبل التوراة بثمانمئة عام فهذا لا يعني منطقياً أن التوراة والإنجيل والقرآن قد أخذا عنها، إلا إذا انطلقنا مسبقاً من مسلّمات الفلسفة المادية التي تنكر وجود إله غيبي يوحي إلى الأنبياء كلهم وحياً واحداً ويتم تحريفه بالأساطير مراراً قبل أن يعاود الأنبياء تصحيحه جيلاً بعد جيل. وهذا موقف فلسفي لاديني ولا علاقة له بالعلم المجرد.

4- إذا كان العلماء قد اتخذوا موقفا مسبقا واعتمدوا النقوش الطينية مصدرا للتاريخ بدلا من الكتاب المقدس بعد ثبوت تهافته، فإنهم لم يلتفتوا أصلا إلى القرآن الكريم، ولم يعتبروه مصدراً للتاريخ والمقارنة ولا حتى الأساطير، فالأوساط العلمية الغربية تتجاهل هذا الكتاب وتترك أمر دراسته للدراسات الاستشراقية التي نشأت أصلا في رعاية الإدارات السياسية الاستعمارية ولتحقيق مصالحها، والباحثون اللاحقون والمعاصرون ما زالوا ينهلون من المناهج والأفكار المسبقة التي وضعها رواد الاستشراق المؤدلجون [للمزيد: ينصح بالاطلاع على كتاب “الاستشراق: قراءة نقدية” للمؤلف صلاح الجابري]، ويتابعهم في ذلك الباحثون والمؤرخون العرب أنفسهم بحكم التبعية الحضارية للغرب، وهذه المواقف تضع مصداقية مناهج علوم الآثار والإنثروبولوجيا ومقارنة الأديان والتاريخ كلها على المحك.

5- في مقابل الرواية اللادينية التي يعتبر العلماء أنها الوحيدة المتوافقة مع “العلم”، ومن ثم تُقدم للطلاب في المدارس والجامعات على أنها الوحيدة الصحيحة، ثمة رواية أخرى يقدمها الوحي، ويتوقف الحكم بصحتها أولاً على التجرد من مسلمات الفلسفة المادية، والتسليم مبدئياً بأن الرواية التي يبنيها العلماء على افتراضات هي مجرد احتمال يقبل التكذيب (كما تؤكد فلسفة العلم الحديثة التي وضعها كارل بوبر).

وبناء على القصة المذكورة أعلاه للدكتور السميط في أفريقيا، يمكن القول إن التحقق من الرواية الأخرى يتوافق مع المنهج العلمي المجرد، لكن البدء بهذا التحقق يشترط أولاً الاعتراف بوجود الإله الذي أثبتنا وجوده يقيناً في مقال “وجود الله“، ومن ثم الاعتراف بإمكانية اتصاله بالبشر منذ بدء خلقهم عن طريق الأنبياء، وبإمكانية إنزاله وحياً يوضح لهم قصة الخلق الحقيقية، ويبيّن لهم طريق العبادة الصحيحة للتقرب إليه وكسب رضاه والنجاح في الابتلاء الذي خلقوا لأجله.

وإذا كان علماء الغرب اليوم يقرون بعدم مصداقية النسخ المتوفرة اليوم للكتاب المقدس، فمن المقبول علميا إذن أن نصدق بأن كل الكتب السماوية السابقة قد تعرضت للتحريف الذي كان الدكتور السميط شاهداً عليه، فالوحي كان يتنزل ويتلى على ألسنة الأنبياء ويُقدم في سلوكهم العملي، إلا أنه كان يُحارب دائما من قبل السلطات والمتنفذين وكهنة المعابد، كي يحتفظوا بسلطتهم وبالنظام الاجتماعي الطبقي الاستغلالي الذي أقاموه على أديانهم المحرفة، والذي مزجوا فيه النعرات القبلية وتبجيل الأوطان بقداسة الملوك والكهنوت، فصارت أي محاولة لإعادة تصحيح المسار بمثابة التمرد وإعلان العصيان لتخريب المجتمع وزعزعة الاستقرار، وسيتبين لنا في مقالات أخرى أنه من السذاجة الاعتقاد بأن واضعي القصص الأسطورية كانوا مجرد باحثين أبرياء عن تفسيرات غيبية لظواهر طبيعية غامضة، وهو الافتراض الذي تبتدئ به كل نظريات علوم الآثار والإنثروبولوجيا الحديثة.

وعندما نتابع مسيرنا مرورا بمحطتي اليهودية والمسيحية، ويتبين لنا أن الكتب المقدسة لدى هاتين الديانتين قد تعرضت للفقد والتحريف والتبديل، فلن يتبقى للرواية الأخرى (المفترضة حتى الآن) سوى التحقق من صحة القرآن نفسه، وهو ما سندرسه بالتفصيل في النهاية إن شاء الله.


أهم المراجع
ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.

فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.

فراس سواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق، 1998.

فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.

فراس سواح، مقال “معتقدات الشرق القديم: وثنية أم توحيد؟”، موقع معابر.

جون كيرتشر، كيف وُجدت الآلهة، ترجمة إبراهيم جركس، 1929، نسخة إلكترونية.

عبد المعطي شعراوي، أساطير إغريقية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982.

خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.

هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.

بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.

ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق عمر تدمري، دار الكتاب العربي، 1997.

كتب تفسير القرآن الكريم الكبرى، مثل تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي.

موقع الباحث آرثر كوستانس: http://www.custance.org

حوار مع الشيخ عبد الرحمن السميط في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة: http://goo.gl/cbIIaL

Manly P. Hall, THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, H.S. CROCKER COMPANY INCORPORATED, SAN FRANCISCO, 1928.

Wallis Budge, Osiris and the Egyptian Resurrection, Dover, New York, 1973.

Andrew Lange, The Making of Religion, Longmans Green, New York, 1909.

Arthur C. Custance, The Doorway Papers Series.

Stephen Langdon, Semitic Mythology, 1931.

Wilhelm Schmidt, The Origin And Growth of Religion: Facts and Theories, 1930.