مقالات

حين يفتك الأنمي بالعقول والقلوب!

في مقالٍ سابق أشرت إلى تقنيات نشر الأنمي وبعض جوانب مصمميه المظلمة، إلا أن سؤالا مهمًّا معلّقًا يجب البحث عن جواب له، وهي هل يمكن أن نحصّن أنفسنا من التأثر بالأنمي.

التأثُّر .. هل هو أمرٌ لا مفرّ منه؟

قد يخطر في بال القارئ قائلاً: لكن مهلًا أنا لن يحدث هذا معي، أنا أقوى من أن أنجرف، أنا لن أُدمن!

هذا يذكرني بحلقة لعماد الدين على قناة السبيل التي شرح فيها نظرية (تأثير الشخص الثالث) لـ (فيليبس دافيسيون)[22] التي مفادها أنَّ الناس يتوقعون أنَّ تأثير الإعلام يكون أكبر على الآخرين فقط، وأنهم  لن يقعوا تحت هذا التأثير، لسان حالنا هم ضعفاء لكن نحن أقوياء، سنشاهد دون أن نتأثر!

نعم من الممكن ألا يحدث معنا ما حصل معهم، لكن من الممكن أن يحدث معنا ما هو أسوأ من ذلك، شيء هجين تُجرى عليه دراسات لاحقًا لأنَّ مجتمعنا مختلف عن مجتمعهم والله أعلم؟

أرجوكم دعونا نكن صادقين مع أنفسنا ونتذكر قوله تعالى: {إنْ أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها} [الإسراء:7 ] فإن كنت لا تقوى على حبس نفسك عن (الأنمي)، فكّر بصنَّاع ومحتوى (الأنمي)  الذي تشاهده، والمجتمع الذي يعيشون فيه، تذكر أنَّ الذين يرسمونها ويموّلونها هم بشر من مجتمع يعاني من القلق والاكتئاب، وأنَّ الذين يموتون منتحرين لديهم أكثر من الذين ماتوا بفيروس كورونا في بلادهم[23]  وأنَّ ٥٠٪ منهم عازفون عن الزواج[24] حيث يُخشى من أنَّ المجتمع الياباني كلَّه يتقلص، وأنَّ اليابان _حسب دراسة في جامعة كامبردج_ احتلت المرتبة الخامسة في انتشار الإلحاد واللاأدرية.[25] وهذا ليس للتشفي إنَّما للتفكّر، لعلَّنا ننظر فيمن يغذِّي خيالنا؟

فهل من الممكن أنَّ رسام (الأنمي) الذي رسم شخصيات مسلسلك المفضل قد يكون مولعًا برسم أفخاذ الفتيات الصغيرات، وأنَّه كان يقضي وقتَه في قراءة القصص الإباحية في حب الصَّغيرات كرسَّام الأنمي الذي قابله كالبريث في كتابه[26] أو أنه مُستَعبَد لشركة الإنتاج التي لا تقبل العمل إن لم يكن فيه بعض الإباحية[27].

اسأل نفسك

عندما تضغط زر التشغيل لمسلسل (أنمي)، توقف واسأل نفسك هل أنا أتأثر بما أشاهد؟ ولاحظ نفسك خلال اليوم كم مرة تذكرت (الأنمي) أو تصرفت أو تفوهت بألفاظ شخصيتك المفضلة خلال النهار وحلمت بها في الليل؟ فكِّر هل هذا صحيٌّ؟ إذا كنتُ أتصرف مثل هذه الشخصية فمن أنا إذن؟ فكِّر! هل ما زلت تأخذ القيم وموازين الأمور من السماء أم من (الأنمي)؟ هل ما زالت سنن الحياة تعريفها عندك كما أوضحها الله {ولنبلونَّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثَّمرات وبشِّر الصابرين} [(البقرة:١٥٥] أم بدلتها بسنن (الأنمي)؟ هل ما زال الحَسن عندك ما حسّنه الله ورسوله؟ والقبيح ما قبّح الله ورسوله؟  

هل فقدت لذَّة قراءة قصص القرآن وسيرة نبينا محمد؟ حبكتها ليست كـ (الأنمي) الياباني؟ هل تغيرت توقعاتك من الله ومن الناس حولك؟ هل بدأت لا تتحمل فكرة وجود الألم والشَّرِّ وبدأت الشُّكوكُ بالله وصفاته تأكل قلبَك؟ أم هل ظننت أنك خارق ومتحكم ومسيطر؟ وبما أنَّ كلَّ شيء بـ (الأنمي) ممكن! وكاتب قصص (الأنمي) غيّبَ الله أو جعل الشخصية تتبارز معه، ومع التَّكرار بدأت تظن أنك المتحكِّم والمتصرِّف على الأرض فاستغنيت عن الله! فتأتي إلى الحياة العادية فترتطم بالواقع، فتغضَب وتُحبط فتهرب إلى أحضان (الأنمي) كحلقة مفرغة!

عندما تشاهد (الأنمي) انتبه إلى أنك تربِّي في نفسك مهارات للعيش على كوكب (الأنمي) الخيالي وهي مهارات غير ملائمة لكوكب الأرض!  فتنقص قدرتك على قراءة مشاعر من حولك من الناس فتُطْعَن منهم كذا مرة، لأنَّك تمرّست الفِراسة في قراءة مشاعر شخصيات (الأنمي)، وهذا ما أكدته دراسة في كتاب (دراسة نفسية لمحبِّي الأنمي): إنَّ محبِّي (المانغا والأنمي) يجدون صعوبة في قراءة مشاعر الناس، لأن وجوههم لا تشبه وجوه (الأنمي) ذات العيون الواسعة، كذلك هم لا يفضّلون مشاهدة أفلام أبطالها بشر حقيقيون! فما عادوا يستمتعون بالطبيعي!

فكِّر، هل ردَّات فعلك مبالغٌ بها؟ هل بدأت تشعر أنَّ ردَّات فعل الآخرين ناقصة، ليست بشدَّة الانفعال التي اعتدت عليها في شخصيات (الأنمي)؟ هل شَكلُك لم يعد يعجبك؟ فالعيون ليست عيون (الأنمي)، والبشرة ليست ناصعة كصورهم مع أنَّك لو شاهدت جمجمة شخصية (أنمي) لأثارت فيك ضحكًا وما تمنيت هذا!

وأخيرًا، انتبه، إن أكثرت التَّعرض لأفكار (الأنمي) ستجد نفسك مُتَقبِّلًا لأي فكرة! ليس فقط الشذوذ والاختلاط والتَّعرِّي فقط! بل أي شيء قادم من خيال رسَّامي اليابان، ظانًا نفسك أنك منفتح[28]، لكن هذا ليس انفتاحًا، بل سيولة فأنت هلامي مُعَدٌّ لتوضع في أي قالب يريدونه هم!

تعاليم الإسلام.. غذاء للقلوب.

أنهي مقالتي بكلمات الشَّيخ ابن تيميّة: “والشرائع هي غذاء القلوب وقُوتها، ومن شأن الجسد إذا كان جائعًا فأخذ من الطعام حاجته؛ استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله، وإن أكل منه إلاّ بكراهةٍ وتَجَشُّم، وربما ضرّه أكلُه، أو لم ينتفع به، وإن لم يكن هو المغذِّي له ذاك الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلَّت رغبته في المشروع  وانتفاعه به، بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمَّته إلى المشروع، فإنّه تعظُم محبته له، ومنفعته به، ويتم دينه، ويتم إسلامه، لذا تجد مَنْ أكثرَ سماعَ القصائد؛ لطلب صلاحِ قلبِه تنقُص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرِهه، ومن أكثر السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها؛ لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السُّنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والرُّوم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسِيَرِهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه الاهتمام، ونظير هذا كثير” [اقتضاء الصراط المستقيم 326 – 327]

أعيدوا قراءة كلام الشيخ واستبدلوا كلمة الحكمة والآدب وقصص الملوك بكلمة (أنمي ومانغا)..

أسأل الله أن يرزقني وإيَّاكم الصِّدق، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.


المراجع

  1. Galbraith, Patrick W.) 2017,April) The Moe Manifesto .Tuttle Publishing. Kindle Edition.
  2. Martin, M. (2007). The Cambridge Companion to Atheism. Cambridge University Press.
  3. O, M. (2021, November 17). More Japanese deaths by suicide than from covid-19. Center for Japanese Mental Health. Retrieved April 15, 2022, from https://cjmh.org/news/more-japanese-suicides-than-deaths-from-covid/
  4. Stephen, R., Plante, C. N., Roberts, S. E., & Gerbasi, K. C.)2021).The Psychology Of Anime Fan.Commerce,Texas.USA
  5. عماد الدين، (2021، آذار). وَهم التفوق [فيديو]

____________

[22] (عماد الدين،2021)

[23] More Japanese Deaths by Suicide than from COVID-19, (2020)

[24] Galbraith. (2017)

[25] Martin, The Cambridge Companion to Atheism (p.56).

[26] Galbraith. (2017) (p. 47).

[27], Galbraith (2019) (p. 36).

[28] وهذا ما أكدته دراسة في كتاب (دارسات نفسية على محبي الأنمي) إن متابعي الأنمي هم الأكثر “تحررًا” يتقبلون أي إنسان وأية فكرة

جسور من خيال اليابان إلى الواقع

“هل تخيلت يومًا أنَّ رجالًا سيقعُون في حبِّ الشَّخصيَّات التي ترسمها؟ لا، لا أبداً، لا أستطيع أن أتخيلَ، وإلى الآن ما زلت غير مصدق. كان “مسلسل حنين” التي رسمت شخصياته موجَّهًا للأطفال وأمِّهاتهم، وبعد ستَّة أشهرٍ من عرضه بدأ رجال يأتون إلى الاستديو ليعبِّروا عن إعجابهم بشخصية حنين، وأحدهم قال لي: إنَّه يرأس مجموعة مكوَّنة من 18 ذكرًا تتراوح أعمارهم بين 30-18 وهم معجبون جدًا بحنين ذات الشَّعر الزَّهري ويعتقدون أنَّها جذابة جدًا، ويتداولون أخبارها وصورها ويعبِّروا عن حبهم لها فيما بينهم”. هذا كان جزءًا من مقابلة أجراها ( Patrick ) مع رسام (الإنيميشن)  Sato) (Toshihiko. [1]

خطر ببالي وأنا أقرأ هذه المقابلة أنَّه لماذا لم يتوقف إذًا عن رسمها بهذه الطريقة الخادشة للحياء؟ لماذا لم يُحدث تعديلًا عليها؟ لماذا إلى الآن هو رافض فكرة أنَّ العلَّة في رسمه كما العلة في هؤلاء الذكور؟ ويأتي الجواب في الصفحة التَّالية، إنَّه متعاقد مع شركة ألعاب تريد التسويق لشخصية ومعها عصًا سحريَّة، فتم تصميم شخصية حنين فلا رجعة في ذلك، حسب موقع ( [2]Precedence Research ) أنَّ أرباح شركات (الأنمي) في 2020  وصلت إلى 22,600,000,000 دولار ومحتملٌ أن تصلَ إلى 48,300,000,000 دولار  في 2030.

ويجبُ أن نضعَ في عين الاعتبار أنَّ متوسط الرَّاتب السَّنويِّ لرسام (الأنمي) 3000 دولار في الشهر[3]، وحسب موقع(Grande Viewer Research) احتلَّت السُّعوديَّة المرتبة الأولى كمستهلكٍ لهذه المواد في الشَّرق الأوسط  وإفريقيا لأنَّها تعد حاضنةً لكثير من متابعي (الأنمي) وفيها كافيهات (الأنمي) ومهرجانات[4].

حكاية الاهتمام

بدأ اهتمامي بالأنمي منذ أن قرأتُ عن لعبة باربي وتأثيراتها السَّلبية على تقدير الفتيات لأنفسهن، وسألت نفسي إن كانت لعبة بمعايير جمال خيالية تفعل هذا، فماذا عن شخصيات عالم الخيال (الأنمي) ماذا تفعل بشبابنا وبناتنا؟ أكتب هذه الكلمات وتمرُّ أمام عيني وجوه الذين دخلوا عالم (الأنمي) وأمعَنوا فيه ووصلوا إلى درجةٍ أنَّهم أصبحوا يتنكَّرون لذواتهم ليكونوا شخصية خياليَّة مجسّدة على أرضنا، الكوكب الثَّالث، محاولين جاهدين أن يمدُّوا جسورًا من خيالهم المستوحى من سوق (الأنمي) للواقع، ليشعروا بالتَّناغم مع أفكارهم ومشاعرهم.

يقول باترك كالبريث في كتابه (الأوتاكو والنضال من أجل الخيال في اليابان): “عندما ننظر إلى صورةٍ أو رسمٍ منطقيٍّ حقيقيٍّ لوجوه أناس ندرك أنَّ هذه الوجوه ليست وجوهنا، لكن عندما ندخل عالم الكرتون نحن نرى أنفسنا، الكرتون جذاب جدًّا يسلب هُويتنا وإدراكنا بقوَّة وهذا ما يجعلنا نسافر إلى واقع آخر، فنحن لا نرى فقط الكرتون؛ نصبح نحن شخصيات هذا الكرتون، دعونا نفكر مليًّا، هل فعلًا أنَّنا عندما نملأ أدمغتنا بهذه الصور لا شيء يحدث لنا؟ أم أنَّ شخصياتنا تتأثر بما نغذِّي به نفوسنا؟ هل هناك علاقة بين الذي نقرأ أو نسمع وبين سلوكاتنا؟ هل من الممكن لبرنامج أن يغيرَ بي من دون أن أشعر؟ هل هناك أحد قبلنا وقع في فخ (الأنمي) فنتّعظ منه؟ يا تُرى ماذا يقول اليابانيون أنفسهم عن سوق (الأنمي)؟ وماذا يقول الوحي والعلم عن هذه الظاهرة”؟

في عام 2012 أُجريَت دراسة[5] على عيِّنة مؤلفة من 385 شخصًا بعنوان (بطلات الأنمي اليابانيات قدوات لليافعين واليافعات في أميركا) كان مفادها أنَّ مستهلكي الميديا ومنها (الأنمي) يكوِّنون مع الشَّخصيات الكرتونية علاقات قوية ويدمجون شخصياتهم بها ويشعرون بالفرح والسرور والقلق لما يجري لها، ومن ثَمَّ يكوِّنون علاقات معها في خيالهم، وكذلك هناك الكثير من الدراسات النفسية التي تؤكد أنَّ الإعلام بكافَّة صوره يؤثر على طريقة تفكيرنا وسلوكاتنا، ابتداءً من العِدائية وصولًا إلى الخوف من الموت.[6]

اليابان .. لمحة من الجانب المظلم

في مقالة لـ  Ashcraft)) [7]  بعنوان (التَّحليل النفسي لأكبر صانعي أفلام الأنيميشن) قال ناقلًا عن مايازاكي وهو الشريك المؤسس لشركة (Ghibli)  للأنيميشن: إنه عندما كان صغيرًا وقع في حب شخصيَّة من شخصيَّات (الأنمي) وإلى الآن يتذكر تدفق المشاعر الذي كان ينتابه عندما كان يراها، وأنها كانت الدافع  ليكون رسَّامًا  ل(الأنمي).

هاياو ميازاكي

علّق الطبيب النفسي (Tamaki Saito)  على هذا قائلًا: “إنَّ مايازاكي لا يحب أن يعلّق (الأوتاكو) على رسوماته، لأنهم يشكلون علاقات حبٍّ مع الشخصيات التي يرسمها، رغم أنَّه نفسه كان عنده حبٌّ لواحدة من شخصيَّات (الأنمي) ولاحَظ أنَّ البطلات في أفلامه دائمًا فتيات صغيرات وكأنهنَّ انعكاس لحبِّه القديم”!

وفي نفس المقالة يشير الكاتب إلى أنه عندما سئل مايازاكي عن المشكلات التي يعاني منها (الأنمي) في اليابان قال: “إن سوق (الأنمي)  في اليابان مليء بمرضى الوهم (الأوتاكو) وهم أضعف من أن يستطيعوا أن ينظروا في عيون النَّاس لكنَّهم في نفس الوقت يكتبون لهم قصصًا ويرسمونها” أضف إلى هذا أنَّ ٩٠ ٪ من الشعب الياباني يعانون من القلق3 وهي أعلى النسب في العالم و٤٠٪ منهم يفضلون البقاء في المنزل[8]  ومن كلِّ ستة مواطنين هناك واحد مدمن خمر[9] ، وكذلك هم عازفون عن الزَّواج [10] وأضف إلى كل ما ذُكر أنّ مستويات الانتحار متصاعدة [11].

وكتبت (Moher)  [12] في مقالة لها بعنوان: الجانب المظلم لوهم الكمال: دروس من اليابان، كيف أنَّ وهمَ الكمال مسببٌ لا يمكن إغفاله في زيادة عدد الأشخاص الذين ينتحرون في اليابان، ومن المهم أن نعرفَ هذه المعلومات عن اليابان ليكون عندنا تصورٌ واضحٌ عن هؤلاء الذين يرسمون ويكتبون لنا مسلسلات وقصصًا (المانغا) و(الأنمي) والبيئة التي يعيشون فيها.

لماذا تؤثر الأنمي في العقول؟

تعالَوا نشاهد ماذا فعلت مشاهدات (الأنمي) المتكررة على غيرنا، هل فعلًا لم تؤثر عليهم؟ (الكوزبليرز) و (V-tubers)  و)الميد كافيه(  وشخصيات (الأنمي الهولوغرامية)  كلها كانت بداية الطريق فقط تبدأ بالحب والإعجاب لـ (المانغا والأنمي)!

لنبدأ بـ (الكوزبليرز): باليابانية (Kosupure) بالإنجليزية (Cosplay) وتعني التَّنكر بزيِّ شخصية خياليَّة من عالم (الأنمي) أو غيرها وتقمص حركاتها وطريقة كلامها، وفي هذا العالم يمكن أن تكونَ ما تريد، ذكرًا، أنثى، حشرة، مخلوقًا خرافيًا، جمادًا، أيَّ شيء بشرط احترام ما تتقمّصه شخصيتك.

أحد (اليوتيوبرز)[13]  صاحبَ فتاةً في اليابان تعمل في مجال الـ (كوزبلاي) ليومٍ كاملٍ لينقل تفاصيل حياتها اليوميّة، في بداية الفيديو تشعر بأنك دخلت فيلم (أنمي) كرتوني فمعظم أغراض المنزل الصغير زهرية اللون، كأنها غرفه لطفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها التَّاسعة، ولا تستغرب من وجود مكتبةٍ مليئةٍ بقصص (المانغا) وأفلام (الأنمي)، هذه الفتاة يبدأ يومها من السَّاعة العاشرة صباحًا فتقف أمام المرآة لتغيّر من شكلها وتقرر ماذا تريد أن تكون اليوم، وبمعنى آخر أي شخصية خيالية رسمتها أيدي رسَّامي (الأنمي) وأعجبت الجمهور ستستوطن نفسها، ثم تذهب إلى (الاستوديو)، وبعد ساعةٍ من التصوير تقوم برفع الصّور على المواقع التي تعطيها المال إذا حصلت على مقدار معين من الإعجابات، ثم بعد ذلك تتوجَّه لعملها على موقع (دوكي – دوكي) الالكتروني حيث تجسد شخصية (أنمي) أخرى وتفعل ما يطلب منها المشتركون من غناءٍ وحركاتٍ مرتبطة في أذهانهم بهذه الشخصية، وبعد ساعتين من العمل تقوم هذه الفتاة بلعب لعبة (الأنمي) المفضلة لديها ثم تنام لتبدأ من جديدٍ، وكأنه كابوس يتكرر كل يوم.

الذي استوقفني أنَّ هذه الفتاة وغيرها من (الكوزبليرز) يكررون نفس العبارة: “أنا خجولة ومنطويةٌ اجتماعيًّا”، وأخرى تقول إنَّ التنكر جميل لأنها تتخلص من نفسها لبضعة أيام.[14]  في كتاب (دراسة نفسية  لمحب الأنمي) قام أربعة باحثين بدراسة نفسيّة مدتها ١٠ سنوات على محبي (الأنمي)  توصلوا إلى نتائج مفادها أنَّ محبي (الأنمي) والذين لا يشاركون في مهرجاناتها وليس لديهم مناسبات اجتماعية تجمعهم مع من يشاركهم هذه المحبة، يعني مثل محب كرة القدم؛ يلعب لكن لا يذهب لحضور المباريات، فهؤلاء هم الأقل صحَّة نفسية والأكثر عرضة للأمراض النفسية مثل القلق والاكتئاب وكذلك هم الأكثر خجلًا والأقل مهارة في المواقف الاجتماعية، وعند سؤالهم عن السبب الرئيس الذي جعلهم يختارون (الأنمي) للتسلية كان جوابهم: “الهروب من الواقع ومن المشكلات التي نواجهها”.

أما الذين يحبون (الأنمي) ويتابعونها ولديهم قناة للتنفيس عن الخيال الذي في أدمغتهم، كالذهاب للمهرجانات والالتقاء بالأصدقاء الذين يشاركونهم اهتمامهم بـ (الأنمي)، كان من الأسباب الرئيسة لمتابعتهم (الأنمي) والذهاب لمهرجاناتها: هو الشعور بالانتماء ومداراة العزلة التي يشعرون بها، وذكروا أنَّ المهرجانات والتنكر هو مصدر لشعورهم بتقدير النفس، والتميز عن الناس المحيطين بهم. [15]

مهرجانات وتقليد .. كيف تُنقَل ثقافة الأنمي إلينا؟

لكي لا نشعرَ بالنقص والغيرة من اليابان، ولأنَّنا أحببنا اليابان من برنامج خواطر، وتعلَّمنا من أهلنا أنَّ الشيء القادم من اليابان هو طبعًا جيد، وجودته عالية، قامت أحد البلدان العربية بتبني فكرة مهرجانات (الأنمي) حيث ترى الشابات والشبان يتراقصون ويصرخون ويهلِّلون باليابانية!     وكذلك قام محمد سعيد بغلاف _الذي قضى عامًا في اليابان ودرس في أميركا_ بافتتاح أول مقهى (أنمي) وسمَّاه “العاقبة” وهذا المقهى كما يقول: “هو ملجأ [16] محبِّي (المانغا) وأنه هدية لمحمد الصغير يتكلم عن نفسه تجد فيه صورًا عملاقة لشخصيات (الأنمي) والكثير من كتب (المانغا)، كأنك في اليابان!

وبما أننا في عصر الخيارات غير المحدودة فيا محبَّ (الأنمي) إن كان شكلك غير مطابق لشكل الشخصية الكرتونية ولا تريد بذل المال والوقت والجهد أو ترى الشخصية بعيدة جدًا عن التقليد، لا تقلق، فهناك ال) V-(tube، لا داعي لتواجه خجلك ومشاكلك ابق كما أنت، حتى لو كنت أنت الثَّمن!

[17](Virtual YouTube) هي تقنية تعمل على تحويل منحى إنشاء المحتوى عبر (الإنترنت) من خلال تغيير مظهر الأشخاص الحقيقين إلى مظهر شخصية كرتونية متحركة بصوتيات وسلوكات أقرب للواقع ومحاكية للتعابير البشرية.

في إحدى مقابلات للـ (V-tuber) سأل المذيع الشخصية التي تتخفى وراء صورة (الأنمي) المتحركة على الشاشة الكبيرة التي تخفي وراءها إنسانًا لا ندري أهو ذكر أم أنثى، مسن/ـة، أو شاب/ـة، لماذا لا تظهرين أنت على الكاميرا؟ لماذا تظهرين بشكل كرتوني فقط؟

ضحكت بصوت الشخصية، أجابت بنفس جواب (الكوزبلير)، الأمراض متعددة والسبب واحد، قالت: ماذا تريد مني ما دام أمامك شخصية جذابة مثل هذه؟ فأنا أعاني من القلق والخجل ومشاكل الثقة بالنفس، ووجدت بهذا القناع الجذاب الملاذ الآمن.

خطر لي سؤال ماذا لو انقطع الإنترنت والكهرباء؟ ما مصير هؤلاء الناس؟ كيف سيواجهون أنفسهم؟

الجسر الرابع للتعايش مع خيال (الأنمي) الذي يريد صاحبه أن ينفس عنه “الميد كافيه” الذي يعد الوجه الآخر (للكوزبلي)، فيه تتنكر الفتاة بِزِيٍّ محدد وهو زي الخادمة الفرنسية، مع آذان قطة، وكما قالت رسامة الألعاب اليابانية Ito) (Noizi واصفة (الميد كافيه)[18]:

“إنها طريقة لفصل الزائرين عن الحياة العادية والروتين”، كأنها تقول لك: أنا قادمة من الخيال لا أنتمي للحياة التي لا تحبها، ولا تحب أن تنتمي إليها، الفتاة في هذا المقهى ترحب بالزوار قائلة: أهلًا سيدي، وتجلس على الأرض، وتقوم بأداء رقصات معينة تشبه فيه القطة، وتلعب مع الزائرين، ومن هذه الألعاب القيام بمَزاد علني! من يدفع من الزوار أكثر لكي تجلس معه الفتاة لتحدثه وتسمعه يتحدث عن (الأنمي والمانغا) لساعة كاملة من عمرها! كيف وصلوا إلى هنا؟ كانوا فقط معجبين بـ (الأنمي)!

Gate Box

التكنولوجيا خدمةً للترويج!

ومن محاولات تجسيد الخيال الياباني على أرض الواقع استخدام (الهولوغرام) وهي تقنية معقدة تجعل الشخصية الكرتونية متحركة ومتفاعلة، مثالًا على ذلك المهرجان الغنائي الذي افتتحته (Hatsune Miku) مغنية أغاني (الليدي غاغا)، وهي نسخة عملاقة من شخصية (أنمي) ذات شعر أخضر طويل بتسريحة طفولية، تشعرك كأنها لاحول لها ولا قوة، وعيونها صُمِّمت لتعطيك تصورًا أنها بريئة وكان ذلك باستخدام تقنية حاسوبية معقدة أمضى عليها الخبراء أكثر من ٦ أشهر[19] والناس تصفّق وتتفاعل معها، فهي الحلم الذي أصبح حقيقة، فهم معجبون بهذه الشخصية وقد يكون لديهم مشاعر حب تجاهها، ومنهم من تزوجها فعلاً[20] مثل (Akihiko Kondo) حيث عقد قرانه على Hatsune Miku وهي الآن في بيته في صندوق صغير يسمى (Gate Box) وهو صندوق يحتوي على فتاة آلية (هولوغرامية)، بشكل شخصية (أنمي) تتكلّم معه وترسل له الرسائل لتطمئن عليه وتلقي عليه التحية وتضيء أنوار البيت عند مجيئه[21] كأنها زوجته!

كل الأمثلة الواردة سابقًا يجمعها عامل واحد أنَّ أصحابها كلهم بدؤوا كمُحبين لـ (الأنمي)، والواضح أنَّ (الأنمي) لم يحلّ لهم مشاكلهم، بل زادها عمقًا كأنه مخدر، وهنا نحتاج أن نستفيض في بيان آثار هذا الواقع في مقال مستفيض.


المراجع

  1. Anime market,Precedence Research. (n.d.). Retrieved April 15, 2022, from https://www.precedenceresearch.com/anime-market
  2. Anime of Japan. Encyclopedia of Japan. (n.d.). Retrieved April 15, 2022, from https://doyouknowjapan.com/anime/
  3. Ashcraft, B. (2014, July 17). Psychoanalyzing two of Japan’s greatest anime creators. Kotaku. Retrieved April 15, 2022, from https://kotaku.com/psychoanalyzing-two-of-japans-greatest-anime-creators-1606463893
  4. Grimmond, J., Kornhaber, R., Visentin, D., & Cleary, M. (2019, June 12). A qualitative systematic review of experiences and perceptions of youth suicide. PloS one. Retrieved April 15, 2022, from https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC6561633/
  5. Galbraith, Patrick W.) 2017,April) The Moe Manifesto .Tuttle Publishing. Kindle Edition.
  6. Hernandez, P. (2013, January 11). Cosplayers are passionate, talented folks. but there’s a darker side to this community, too. Kotaku. Retrieved April 15, 2022, from https://kotaku.com/cosplayers-are-passionate-talented-folks-but-theres-a-5975038
  7. Mohr, K. T. (2017, May 8). Perfectionism’s dark side: Lessons from Japan. Psyched in San Francisco. Retrieved from http://www.psychedinsanfrancisco.com/perfectionisms-dark-side-lessons-japan/
  8. NBCUniversal News Group. (2014, April 17). Lady Gaga is going on tour with a hologram.
    Retrieved from https://www.nbcnews.com/tech/innovation/lady-gaga-going-tour-hologram-n83406
  9. (2020, August 9). Akiba Cafe: Your manga escape in Saudi Arabia. Arab News. Retrieved April 15, 2022, from https://www.arabnews.com/node/1717096/saudi-arabia
  10. Ramasubramanian, S., & Kornfield, S. (n.d.)(2012). Japanese anime heroines as role models for U.S. youth … Retrieved April 15, 2022, from https://www.researchgate.net/publication/270189225_Japanese_Anime_Heroines_as_Role_Models_for_US_Youth_Wishful_Identification_Parasocial_Interaction_and_Intercultural_Entertainment_Effects
  11. Salsberg, B. (2018, January 8). The new Japanese consumer. McKinsey & Company. Retrieved April 15, 2022, from https://www.mckinsey.com/industries/consumer-packaged-goods/our-insights/the-new-japanese-consumer
  12. Stephen, R., Plante, C. N., Roberts, S. E., & Gerbasi, K. C. (2018, August). (PDF) “Coming out” as an anime fan: Cosplayers in the … Sharon RobertsSharon RobertsKathleen  C. GerbasiKathleen C. Gerbasi. Retrieved April 16, 2022, from https://www.researchgate.net/publication/327043380_Coming_out_as_an_Anime_Fan_Cosplayers_in_the_Anime_Fandom_Fan_Disclosure_and_Well-Being
  13. Stephen, R., Plante, C. N., Roberts, S. E., & Gerbasi, K. C.)2021).The Psychology Of Anime Fan.Commerce,Texas.USA
  14. http://www.salaryexplorer.com/salary-survey.php?loc=107&loctype=1&job=41&jobtype=3
  15. ابن تيمية، ‫تهذيب كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، دار إشبيليا.
  16. ما هي تقنية الـ vtubers وماهي البرامج التي يتم استعمالها فيها. موقع التقنية الرقمية.

____________

[1] (Galbraith، 2017)

[2]Anime Market.

[3]http://www.salaryexplorer.com/salary-survey.php?loc=107&loctype=1&job=41&jobtype=3

[4] Anime Market Size, (2022)

[5]Ramasubramanian, S., & Kornfield, S. (n.d.)(2012).

[6] Stephen, R., Plante, C. N., Roberts, S. E., & Gerbasi, K. C.)2021). (p200).

[7] (Ashcraft B, 2014)

[8] (Salsberg B,2018)

[9] أيمن عبد الرحيم),2013)

[10](Galbraith ,2017)

[11] (O, M,2021)

[12] (Mohr,2017)

[13] Day in the Life of a Typical Japanese Cosplay Worker. (2019)

[14] Hernandez,(2013)

[15] Stephen, R., Plante, C. N., Roberts, S. E., & Gerbasi, K. C.)2021)

[16] Bashraheel,(2020)

[17] الدين ,(2021)

[18] Galbraith, (2017)

[19] NBCUniversal News Group, (2014)

[20] Mainichi Japan, (2022)

[21] Galbraith, (2019)

هل الأنمي كرتون بريء؟ – أسئلة الجمهور

جلسة تم بثها على صفحة السبيل على فيسبوك لمناقشة سلسلة بودكاست “هل الأنمي كرتون بريء؟” والتي قدمت بحلقاتها الستة على منصة السبيل تبدأ بإجابة الأسئلة التي وردت على الحلقات على فيسبوك ويوتيوب، ثم تم تلقي الأسئلة والتعليقات المباشرة إعداد وتقديم: تسنيم راجح

تقنية الثقافة .. كيف تصدر الشعوب ثقافتها؟ التجربة الكورية نموذجًا!

من جملة عادات بلادنا أنها تستقبل العام الدراسي الجديد بالتجهيز وشراء لوازم الصف والتعلّم لبدء دخول الأطفال في ميدان الدراسة، ونحن في مصر -قُبيل بداية العام الدراسي  الحالي- شهدنا استعداد المحلات لعرض البضائع التي تُشتَرى في هذا الموسم، لكن الصدمة كانت عند بدء الموسم أن أحد المحال التي تبيع الحقائب المدرسية روّجت ما هو غريب جدًا؛ فأغلب الحقائب عليها صور لسبع فتيان غرباء الشكل والملامح، بألوان شعر مريبة ليست للذكور يغلب عليهم الطابع الأنثوي، وأعمارهم في العشرينات، ومن السؤال علمنا أنهم أعضاء فرقة (بي تي إس)، وما إن دخلت في نقاش مع البائع كيف له أن يبيع مثل هذه البضائع فهي تعد دعاية لهؤلاء الأجانب، وتروج لهم بين شبابنا، حتى أظهر غضبه قائًلا: “دعنا نأكل عيش؛ هذه الحقائب هي الأكثر مبيعًا هذا العام”

لم أكن أصدق هذا، إلا أن غالبية الطلاب بمختلف المراحل الدراسية في واقع الأمر كانوا يحملون هذه الحقائب، ولما رجعت للمنزل وتصفحت مواقع التواصل الاجتماعي، وجدت المسلسل الكوري الجديد (لعبة الحبار) يتصدّر قائمة مسلسلات وأفلام منصة نتفليكس ويحقق مشاهدات تاريخية مذهلة، وما هي إلا أيام حتى علمت أن أغلب زملائي قد شاهدوا المسلسل وبدأوا بترشيحه للجميع، كما صدرت لاحقًا تقارير صحفية مختلفة تشير إلى أنه بسبب هذا المسلسل زاد إقبال الناس لتعلم الكورية على أحد مواقع تعلم اللغات إلى ثمانية مليون دارس، أي ما يشكل قرابة 16% من جملة الشعب الكوري الجنوبي، وهذا يظهر مدى قدرة هذه الدولة على إدخال منتجاتها الثقافية في كل بيت جنبًا إلى جنب مع منتجاتها التكنولوجية.

تفشّي الظاهرة

ربما يظن الناس أن هذه الظاهرة في مصر فقط، ولكنك إذا نظرت إلى بلاد الحرمين الشريفين لوجدت ما هو أغرب، فهذا الشعب الأكثر محافظة في الشعوب الإسلاميّة، وها قد بدأت الخطط لتغيير أحواله الملتزمة بعد إغلاق هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتقال عدد كبير من أبرز علمائه، فهذه فتاة تسأل الشيخ سلمان العودة قبل اعتقاله بمدة على تويتر هل يجوز الزواج من رجل كوري متأثرة بالدراما الكورية، وهؤلاء نفس الفرقة المذكورة في الأعلى يقيمون حفلًا بالرياض، وبعدها تصويب على الفرق الكورية التي يفضلها الشعب السعودي لإقامة حفلاتهم في المملكة بعد إنهاء الحجر، ولا ننسى المقابلات التي تجريها القنوات المختلفة مع هذه الفرق على الدوام.

عجبًا من هم الكوريون؟!

نتحدث هنا عن سكان الجنوب من شبه جزيرة كوريا؛ حيث إن سكان الشمال ليس لهم أي حضور ثقافي، فهم غرباء تمامًا عنا في كل شيء، كاللغة والدين والعادات والمزاج العام، فكيف لهم ولغيرهم من الأجانب أن يؤثروا في مجتمعنا بهذا الشكل؟

نظرة على التاريخ

ولكن قبل الإجابة على السؤال السابق دعنا نطرح سؤالًا لنبحث في جوابه، عسى أن يوصلنا إلى مقصدنا أو نقتبس منه نورًا يقربنا مما نبحث عنه.

هل ظاهرة الانسلاخ من الهوية والعيش بهوية شعب آخر ظاهرة جديدة لم نشهدها من قبل؟

بالطبع لا، فهي ظاهرة قديمة، وإذا أحببنا تسليط الضوء عليها فالنرجع إلى تاريخ الاحتلال الأوروبي للعالم العربي؛ فسنشهد أنه هناك تغير ملحوظ في الملبس والنظام السياسي وفي اللغة تأثرًا بهذا المحتل؛ تارة رغمًا عن الشعب وتحت سطوة السلاح والسيطرة على الاقتصاد، وتارة أخرى من خلال الإعجاب بشخصية المنتصر القوي الذي احتل هذه البلاد، وجاء ليبهرنا بالأسلحة التي لم نكن نعرف عنها شيئًا ولا عن هذه التطورات في شتى المجالات.

ولعل اليوم يشبه الأمس؛ حيث إنه يوجد منسلخون من هويتهم تحت العوامل السابق ذكرها نفسها، لكن الغريب اليوم أن هناك من ينسلخ من هويته ويعيش بهوية أخرى، دون حاجة لاحتلال أو سلاح، وربما حدث ذلك فقط تحت تأثير الانبهار بالتكنولوجيا، وتحت الإعجاب بأغنية أو من خلال التعمق الشعوري من خلال بناء سردي تجسدت حركة أحداثه وشخصياته في فيلم أو مسلسل للرسوم المتحركة المعروف بالأنمي، وهذه المنتجات رغم أنها في ظاهرها سطحية وبسيطة إلا أنها ذات تأثير قوي يدمر هوية المتلقي، حتى تم تسمية هذا النوع من المنتجات بالقوة الناعمة، حتى إنه بات لتلك القوة تقنيات محددة ومدروسة لنشر ثقافة شعب ما، تحت اسم “تقنية الثقافة”.

القوة الناعمة

للقوة الناعمة تأثير خفي لعدة أسباب، منها أنه لا يمكنك أن تعادي أغنية أو فيلمًا يروي حكاية ما كالتي نحكيها لبعضنا، فهي مجرد تسلية وترفيه، ولا يتعامل العقل الواعي والباطن معها كما يتعامل مع حرب القنابل والصواريخ، إنها مجرد أعمال ترفيهية لشركات تعمل في مجال الترفيه، كما أنه لا يمكنك القول أمام العموم إن أفلام الكرتون التي يشاهدها الأطفال تمثل خطرًا على عقيدتهم وقيمهم، حيث إنك إن فعلت ذلك لأخذت حظك من الشتم بالجنون والحساب على المؤمنين بنظرية المؤامرة.

يعرف جوزيف ناي القوة الناعمة بأن “يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والثقافة والفن. مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به فاتباع مصادره” [من كتاب القوة الناعمة]

وبما أننا نتحدث عن القوة الروحية والمعنوية إذًا نحن نقصد الحديث عن الدين والفكر والقيم والفن لشعب ما، فكما قال بيجوفيتش نقلاً عن هنري برغسون: “الفن هو ابن الدين” [هروبي إلى الحرية] وهنا تكمن قوة تأثير الأغاني والأفلام والمسلسلات على الشعوب.

لقد اخترنا النموذج الكوري كنموذج للدول التي استخدمت تقنية الثقافة والقوة الناعمة، رغم أنه ليس الأول والأخير وربما ليس الأكثر نجاحًا؛ لأنه النموذج الأكثر إثارة للدهشة؛ وأول من استخدم مصطلح تقنية الثقافة علنًا من خلال أحد منتجي الموسيقى في كوريا، فإذا بحثت عن تقنية الثقافة لوجدت أن أول من تحدث عنها الكوريون؛ وكان الهدف من هذا المشروع هو تسويق الأعمال الكورية الموسيقية خارج حدود كوريا.

الموسيقى والأغاني

الموسيقى من أهم الوسائل التي تستخدم في نشر الثقافة، خاصة أنها سهلة التعلق بالذاكرة، وتؤثر عاطفيًا على الإنسان، فمع الأغاني يمكننا نشر اللغة من خلال المقطع الأوسط المتكرر في أي أغنية، حيث يتم تكرار كلمة سهلة أشبه في نطقها من كلمات لغات أخرى أكثر انتشارًا كالإنجليزية، أو من خلال كلمات يسهل تعلقها في الذهن بسبب نطقها أو لحنها المميز، ومن الممكن أيضًا نشر بعض القضايا الاجتماعية، والتي تساعدنا على معرفة الكثير عن المجتمعات الأخرى، والتشبه بها فمثلا في أغاني فرقة (بي تي إس) الكثير عن موضوعات الانتحار في كوريا، وحالات الطلاب والمراهقين التي تدفعهم لليأس من الحياة، حيث يقدمون مجموعة من الأغاني التي تتحدث عن ذلك وطرق علاجه مثل ألبوم (أحب نفسك)، وأغنية (بي إس واي) “أسلوب كانغ  نام” التي جعلتنا نعرف عن أسلوب عيش الأغنياء في الأحياء الفخمة، والتي تكون هادئة نهارًا بسبب انشغال رجال الأعمال وأصحاب الشركات، وصاخبة بالليل لكثرة الحفلات.

في بعض من الأحيان يتطلب الأمر دعمًا ماليًّا، فمثلا أشارت بعض الصحف الكورية إلى أن الحكومة الكورية دعمت أغنية “أسلوب كانغ نام” من خلال الدفع ليوتيوب مقابل زيادة المشاهدات بطريقة غير عادية؛ لتنتشر الأغنية بين الناس على أنها الأغنية الأكثر مشاهدة؛ وقد ارتفعت بعدها الأغنية أكثر مما رفعها اليوتيوب لتغدو الأكثر شهرة بين الناس، فصارت تستَخدَم كموسيقى تصويرية في الأفلام والمسلسلات الغير الكورية لبعض المشاهد الساخرة والحفلات الثرية وفي برامج عرض المواهب الغنائية، وانتشرت بشكل جنوني، مما دفع بعض الناس لمعرفة معاني كلمات الأغنية، فسلك البعض طريق تعلم اللغة التي تتكون من 40 حرف ونظام كتابة معقد، ولم يكن يحدث هذا إلا من خلال سهولة الكلمات والموسيقى المألوفة عند المتلقي، ولهذا يتم الاستعانة بملحنين من بلاد مختلفة في هذه الشركات لجعل الأغنية مألوفة للجميع، وهنا تكمن أهمية تقنيات الثقافة وقواعدها.

البنيات السردية بأنواعها المختلفة

يقول الدكتور الطيب بوعزة في كتابه ماهية الرواية: “في البدء كان السرد” موضحًا أهمية السرد في التأثير على النفوس والتمازج معها، فالسرد أول أنواع الفنون تاريخيًا وأكثرها انتشارًا، والبنيات السردية حديثًا متنوعة وبكثرة، فمنها الروايات والمسلسلات والأفلام والأنمي، ولكل منهم ميزة مختلفة عن الأخرى في التأثير والتلاعب بالفكر.

على سبيل المثال فإن الروايات -وهي الأقل تأثيرًا في تقنية الثقافة- تستهدف النخبة من الجمهور المتلقي وهم قلة لأنها تتطلب معرفة مسبقة باللغة الأجنية التي كُتبت بها إن لم تتوافر لها ترجمة، ولكن في بعض من الأحيان تكمن أهمية الرواية عند تحولها لعمل مرئي.

أما عن الأفلام فهي من أكثر الأنواع انتشارًا وتأثيرًا؛ حيث يمتزج مع الحكاية كلٌّ من الحركة والصورة، لتكون ذات تأثير أعمق، والحوارات المسموعة والمرئية أكثر أهمية للأحداث؛ لأن المؤلف من البيئة المرغوب في نشر ثقافتها ضمن إطار سردي يتقبله الجميع، فمثلًا في فيلم الشروق الخفي تسافر أم بابنها إلى مسقط رأس زوجها المتوفي، ثم يتعرض ابنها للخطف مقابل ما تمتلكه من مال فيُقتل، وهذه حكاية عادية ربما سبق وأن تم تنفيذها على الشاشة العربية، لكن المختلف أن القصة تحكي لنا الحياة الدينية للكوريين وشكوكهم، فكانت الزوجة ملحدة ثم صارت نصرانية بروتستانتية بعد موت ابنها على يد جارتها المبشرة، ثم صارت ملحدة مرة أخرى عندما علمت أن قاتل ابنها يشعر بأن الرب غفر له.

من الممكن استخدام الأفلام كسلاح سياسي؛ لنشر صورة دبلوماسية عن دولة ما أو من خلال تشويه تيار فكري معارض للدولة، ففي فيلم الهروب من مقديشو كان هناك تلميع للسفارة الكورية الجنوبية مقابل جارتها الشمالية، من خلال تقديم العون لهم، والعطف على الثائر الصومالي الذي كان يعمل كسائق لدى السفارة.

أما عن المسلسلات فالحديث عنها كالحديث عن الأفلام، لكنها أكثر تأثيرًا من الأفلام؛ بسبب مدة عرضها وعدد حلقاتها، فتتعرض لتفاصيل أكثر عمقًا، فمثلا مسلسل لعبة الحبار عرض لحياة الطبقة الفقيرة والبحث عن حل لسد الديون، كان أكثر وضوحًا من فيلم (طفيلي) الذي فاز بأربع جوائز أوسكار، وكذلك نفس الحديث عن الأنمي، إلا أن الأخير هذا يمكنه الوصول إلى فئات عمرية حرجة فكريًا تكون في مرحلة التكوين والتغيير مما يكمن خطرها في لعبها بالخيال.

ومن أجل الترويج لهذه الأعمال يتم تصنيع بعض المنتجات التجارية، التي تحمل صورًا لأبطال الأعمال أو اسمًا لفرقة موسيقية أو جملة قيلت في أغنية أو في حوارًا في سيناريو؛ وذلك لجعل الجمهور يتعلق أكثر بهذه الأعمال من خلال هذه المنتجات، ويمكن تكوين تجمعات من المعجبين بعمل ما من خلال شراء إحدى منتجاته، مما يؤدي إلى ترسيخ إعجاب الجمهور بهذه الأعمال وتعلقهم بها، ومن أمثلة هذه المنتجات الحقائب المدرسية والملابس وغيرها.

في الصورة: بوستر بديل لفيلم (Parasite) من تصميم (Andrew Bannister)

خلاصة وخاتمة

لا بأس من الاطلاع على ثقافة الشعوب الأخرى لكن دون معصية الله، فلا نبدل أوامره لتقليد الكفار، ولكن الكثير ممن يطلعون على الثقافات الأخرى لا يكونوا مؤهلين لعملية النقد والتحليل، ومعرفة ما يمكن أخذه وما يجب رده، ولذلك يجب المرور بخطوات عديدة تكون وقاية لنا من التأثر من هذه الأفكار، منها: ترسيخ العقيدة واللغة، وتقوية ملكة التفكير الناقد وتعلم العلوم الشرعية والاجتماعية وغيرها من الأدوات التي تحصن المتلقي للشبهات.

 وفي النهاية أتساءل كما تساءل الآلاف من قبلي، ما الذي يمنعنا نحن المسلمين من نشر ثقافتنا للشعوب الأخرى؟

هل الأنمي كرتون بريء؟ – للمتابعين (الجزء الثاني)

الجلسة الثانية لمتابعي الأنمي في دورة قدمت حوله عبر “لقلب حي”. إعداد وتقديم: تسنيم راجح | المصادر: https://bit.ly/3IIfthB

هل الأنمي كرتون بريء؟ – للمربين (الجزء الأول)

الجلسة الأولى في دورة حول الأنمي قدمت للأمهات والمربين ثم لليافعين عبر “لقلب حي”. إعداد وتقديم: تسنيم راجح | المصادر: https://bit.ly/3IIfthB 

“الرحلة”.. عندما يتحول الدين إلى فنتازيا تاريخية!

تسعى شركة مانجا للإنتاج -التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان الخيرية والمعروفة بـ “مسك الخيرية”- إلى “إلهام أبطال المستقبل”، من خلال إنتاج “الرسوم المتحركة وألعاب الفيديو والقصص المصوّرة ذات الرسالة الهادفة”. وبناء على هذا التعريف نرى إطلالة الشركة علينا قبل أشهر قليلة بفيديو تشويقي لما وُصِف بأنه أول “فيلم أنمي سعودي ياباني” يحمل اسم “الرحلة”.

ووفق الشركة، فـ “الرحلة” فيلم إثارة وتشويق و”فنتازيا تاريخية” مستوحى من “تاريخ شبه الجزيرة العربية ومن الحضارات القديمة في المنطقة” ويروي قصة خزّاف اسمه أوس “يمر بتجربة إنسانية كبيرة ويدافع عن مدينته ضد غزو يأتيها من الخارج”.

لوغو شركة مانغا للإنتاج واستوديو توي أنميشن، منتجة فيلم "الرحلة" والاستوديو الذي قام بالتنفيذ

وشارك في إنتاج الفيلم استوديو توي أنيميشن Toei Animation، أحد أقدم استوديوهات الأنمي القائمة إلى الآن -إن لم يكن أقدمها-، والذي خرّج مَن أصبحوا بعد ذلك أساطيرًا في هذه الصناعة، أمثال هاياو ميازاكي وأوسامو تيزوكا، كما أن الأداء الصوتي في الفيلم كان على يد نخبة من المؤدين، كهيروشي كاميا صاحب الأداء الصوتي لشخصية ليفاي أكرمان من أنمي “هجوم العمالقة” وكذلك الحال بالنسبة لباقي طاقم العمل من إخراج وإنتاج.

وقبل أيام ظهر إلى النور الفيديو التشويقي الثاني للفيلم، لنكتشف أن قصة الفيلم تدور حول غزو أبرهة الأشرم للكعبة! وهكذا تصبح الحوادث والقصص القرآنية “فانتازيا تاريخية” عن “حضارات قديمة في المنطقة”! وهكذا يُلهَمُ “أبطال المستقبل” وتصنّع “أجيال صالحة مؤمنة معتزة بتاريخها وثقافتها” من وجهة نظر شركة مانغا للإنتاج ورئيسها التنفيذي (عصام البخاري)، الذي لم ينطق كلمة “الإسلام” ولو مرة واحدة طيلة مقابلة أجريت معه للحديث عن الفيلم، بل قل: كانت مقابلة تفوح منها رائحة القومية المنتنة.

“الرحلة” في عصر الصورة

باتت الصورة -التي لطالما كان لها بريقها- الآن مدعومة من قبل الإمبراطوريات الرأسمالية بما لديها من نفوذ اقتصادي وقدرات تكنولوجية، بل إن الدول بشتى أشكالها -الديموقراطية منها والقمعية- تستخدمها لتحقيق أهدافها؛ فتوحّشت الصورة وتغلغلت في مفاصل حياتنا وتفاصيل أفكار الإنسان كافّة، ورسمت حاضره وماضيه ومستقبله وحددت له الحقيقة والخيال، بل وأفقدته ذاتَه واستنزفت عمره وأنهكت روحه.

الترفيه في عصر الصورة هو المطلب والهدف، والغاية والوسيلة، فهذا العصر مُغرِقٌ في الماديات، مفرّغ من أي قيمة متجاوِزة، محكومٌ بآليات السوق، عصر سائلٌ لا مكان فيه لقِيَم متعالية، ومعانٍ سامية، وثوابت مقدسة، وحقائق راسخة، عصر نُزِعت فيه القداسة عن غير الصورة!

وما “الرحلة” إلا محاولة لنزع القداسة عن الدين، أقدس المقدسات الذي فيه معنى حياة الإنسان ومفتاح نجاته.

وبداعي الترفيه –أو بحجّته-، يصبح تحريف الدين مجرد “تعديل طبيعي في الحبكة لأغراضٍ درامية ولزيادة جرعة الإثارة والتشويق، وأمرًا لا يستحق من الجدل الكثير”، كما أن “الفن ليس مطالبًا بنقل الحقيقة والتقيد بالواقع”، و”هذا عمل ترفيهي خيالي (فنتازيا تاريخية)، وليس عملًا وثائقيًا”. ففي عصر الصورة تتغير المعايير والمقاييس والمبررات والأحكام، في سبيل تحقيق “متعة المُشاهِد”.

فلا عجب إذن إن وجدنا هذه “الفنتازيا التاريخية” انتقلت إلى عالم الأفلام والمسلسلات، ليتحول الدين في نهاية المطاف إلى مجرد مادة ثرية ينهل منها المؤلفون والأدباء، وأساطير مثيرة تُحاك حولها الحبكات وتُنسَج منها القصص والحكايات، القائمة بطبيعتها على الخيال والمبالغات وتفاصيل لا توجد إلا بمثل الإسرائيليات، لتَرسُم تصوراتنا وتشكل انطباعاتنا وتكُون مصدر معلوماتنا عن كل ما يتعلق بديننا وعقيدتنا. وفي نهاية المطاف، تختلط السردية الدينية للتاريخ بالأساطير في عصر الصورة.

هذه هي الصورة التي ستُرسم لأبرهة في ذهن كل من سيشاهد الفيلم

بعد أن يحوّل “الرحلة” قصص القرآن إلى “فنتازيا تاريخية”، يكون الدين قد استُبيح بأيدٍ عربية -مع الأسف- ليتحول إلى نمط شبيهٍ أو قريبٍ من قصص ألف ليلة وليلة، مداره الحديث عن القصص الأسطورية المحضة، فلا غرابة إذن إن قامت جهات الإنتاج الأجنبية -الغربي منها والشرقي، الأمريكي منها والياباني- باستكمال هذه “الرحلة” الفجة من تحريف الدين الإسلامي واستباحته. كأن نجد شركةً مثل (نتفليكس) تعيد كتابة تاريخنا وتصوير ديننا، ليس للعالم الغربي فحسب، بل حتى للشباب العربي بما يعانيه من انهزام حضاري وخضوع لسلطة “الثقافة الغالبة” ورضوخٍ لقوة الصورة.

وحتى إن زالت الغشاوة وذهب سحر الصورة، وظهرت التعليقات المعترِضة والردود الغاضبة، فهذا غالبًا لن يغير من الواقع شيئًا البتة، فنحن أمام “رحلة” مدعومة من أعلى السلطات في الدولة، رحلة تحريف دينٍ، واستئصال قِيَمٍ، وتغييب وعي، وتزوير تاريخ، ومسخ ثقافة، وطمس هوية، وتشويه مجتمع.

إن محض إدخال الدين إلى نطاق سيطرة الصورة، يعني أن صاحب الصورة هو من يرسم شكل هذا الدين، ويقدمه كما يشاء للفئة التي يشاء. ولك أن تتخيل الحال عزيزي القارئ حينما يكون صاحب الصورة ليس ذو نفوذٍ سياسي واقتصادي فحسب، بل صاحب أعلى سلطة في الدولة، فكيف يمكنه تشكيل هذا الدين وتقديمه على الصعيدين المحلي والعالمي؟ خصوصًا إن استخدم الأنمي في سبيل ذلك!

الأنمي.. ذلك الوافد الجديد القديم

رغم ما تحمله الأفلام والمسلسلات الحية في طياتها من خيال وأساطير إلا أنها لا تُقارن بما يمكن أن يتضمنه الأنمي من خيال بحكم طبيعته، مما قد يعني أن خطره أشد وأثره أكبر، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار أن الفئة التي يستهدفها الأنمي تشمل أعمارًا أصغر نسبيًا، هذا بالإضافة إلى الصورة الوردية المرسومة في المخيال الاجتماعي عن الأنمي خصوصًا واليابان عمومًا.

ولا أدل على انتشار الأنمي من تبنّي الدولة له واستعانتها به لاجتذاب ومخاطبة شبابها!

فشبكة mbc المقرّبة من السلطة، هي أول جهة عربية تتبنى الأنمي في المنطقة وتبثه بشكله الياباني المترجم الخام، من خلال قناتها mbc action ومنصتها الرقمية (شاهد)، وبهذا تضمن وصوله إلى أكبر فئة من الشباب، وكل هذا حدث منذ بضعة أشهر فحسب.

إلا أن “الرحلة” لم تبدأ الآن، فما يحدث ليس وليد اللحظة، ولا هو مجرد استغلال لوسيط رائج حاليًا، بل إن الأمر ظاهر للعيان منذ ما يقارب العشرين عامًا، مع إطلاق mbc لقناتها الثالثة (mbc3) والتي كانت مخصصة لبث الرسوم المتحركة الأجنبية -الأمريكية في الغالب- مع وجود واضحٍ للأنمي الياباني طبعًا، وكان ذلك أيضًا دون إجراء أي تعديل رقابي يراعي الدين أو القيم أو الأعراف، أو حتى عمر الفئة المستهدفة.

مثال ذلك مسلسل الرسوم المتحركة الفرنسي الكندي Totally Spies! والذي عُرف عربيًا بالجاسوسات، والذي نشأت على أفكاره العديد من الفتيات، وبطلاته شابات كل ما يستحوذ على اهتمامهن هو مواكبة آخر صرعات الموضة وإقامة العلاقات الرومنسية مع الشبان. وهذا يعطي لمحة عن طبيعة الأفكار التي تحاول قنوات mbc ضخها عبر مختلف قنواتها، أفكار أوصلتنا اليوم إلى ظواهر كانتشار “الفاشينيستات” اللواتي يجدن ملايين المتابعين والمتابعات.

شبكة قنوات mbc التي تعد من أضخم الشبكات في المنطقة العربية وأكثرها تنوعًا -إن لم تكن الأضخم- تحاول تشويه الإسلام وضخ الثقافة الأجنبية الغربية عبر كل ما تبثه من برامج وأفلام ومسلسلات عربية وأجنبية.

وفي المقابل، وعلى مدار سنين، نجد النقيض تمامًا في طبيعة وثقافة المجتمع المتلقي للمحتوى -بأعرافه وقوانينه وتقاليده-. والجدير بالملاحظة هنا أن المتحكم بالنقيضين هي الجهة ذاتها، بالتالي فإن هذا التناقض الصارخ -وما يؤدي إليه من أزمة حادة في الهوية -قد تصل إلى معاداة كل ما هو عربي إسلامي ووصمه بالتخلف- لم يكن غالبًا بمحض الصدفة؛ بل إن الدور الذي لعبته شبكة قنوات mbc في ضخ الأفكار الأمريكية أوجد لها مكانًا بين تسريبات ويكيليكس، ليس اليوم بل قبل أكثر من عشر سنوات!

هذه الشبكة هي من تروج الآن للأنمي في المنطقة، مما سيدفع إلى مزيد من الانسلاخ عن الهوية العربية والإسلامية، ولكن هذه المرة لصالح اليابان، فالأنمي هو سفير اليابان إلى العالم. وصانع القرار في هذه الشبكة، هو ذاته من يريد استخدم الأنمي لتحريف دين الإسلام ونزع القداسة عنه!

في ظل كل هذا، يستحق الأنمي حيزًا أكبر في الفضاء الإسلامي الفكري والدعوي والتوعوي، ويجدر بمن يهتم بنهضة الأمة وصلاح شبابها أن يوليه مزيدًا من الانتباه والاهتمام ومحاولة الفهم، لكي لا يتحول الإسلام وقيمه إلى “فنتازيا تاريخية”!