تعود جذور الجمعيات السرية إلى عصور قديمة يصعب تتبعها، حيث يدعي بعض أعضائها اليوم انتسابهم لأنظمة وضعت أصولها منذ ما قبل التاريخ، بل يزعم آخرون -كما سنرى لاحقا- أن أول البشر آدم قد أسس بنفسه أولى جمعياتهم لتكون رديفا لسيرورة حياة البشر، وكأن هناك خطين متوازيين لا ثالث لهما يحكمان التاريخ، وهما مسار الحياة الظاهر بكل صراعاته وتذبذب صعوده وهبوطه، ومسار الأسرار الباطني الخفي الذي لا يزال يحتفظ بأسراره في أيدي “النخبة”.
وبما أننا نتحدث عن جمعيات تقوم على السرية والرمزية، وهي تعترف بذلك وتتشبث به، فنحن إذن أمام مادة غامضة للبحث، فليست هناك مصادر موضوعية أو أكاديمية يمكن الوثوق بها كما هو الحال في أي مادة أخرى تخضع للدراسة، وهذا هو السبب الذي يدفع الكثير من الجامعات لرفض مقترحات الطلاب بتقديم أطروحات علمية تبحث في الجمعيات السرية.
وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يُكتب عن هذه الجمعيات ضرب من التخمين، فالتحريات التي يجريها محققو البحث الجنائي والصحفيون الاستقصائيون لا تختلف كثيرا عن هذا النوع من البحث، حيث يمكن للباحث أن تجتمع لديه خيوط كثيرة تؤدي إلى حقيقة واحدة مهما كانت حريصة على التخفي. والعلم التجريبي نفسه يُسلّم بوجود الإلكترونات ومكونات الذرة الأخرى بالرغم من الاعتراف باستحالة رؤيتها لأنها أصغر حجما من الموجات المرئية، إلا أن آثارها في الواقع تدفعنا للاعتراف بوجودها.
وعليه؛ فإن الآثار التي تتركها بصمات الجمعيات السرية في الدين والفكر والسياسة والإعلام ومسار التاريخ وميادين كثيرة قد تدفعنا للجزم بحقائق ينكرها أتباع تلك الجمعيات.
أما من يؤمن بالوحي القرآني ويعلم أنه منزل من عند الله فسيجد أدلة أخرى تمنحه اليقين ببعض حقائق تلك الجمعيات السرية وأدوارها الخفية.
لماذا اللجوء إلى السرية؟ تتعدد التفسيرات والنظريات التي تحاول فهم طبيعة هذه الجمعيات وسبب لجوئها إلى السرية، وربما يمكننا إجمالها فيما يلي:
مردوخ
1- يزعم كثير من المؤرخين أن هناك فئة من الناس لجأت إلى السرية عبر التاريخ هربا من اضطهاد الأكثرية، وأنها أخفت طقوسها الدينية الخاصة بها لتحظى ببعض الخصوصية دون أن يكون هناك أي بعد تآمري للإضرار بالمجتمع. ومن الأمثلة التي يقدمونها لهذه الرواية لوح طيني اكتشف في بابل بالعراق ويزيد عمره عن أربعة آلاف سنة، وهو يتحدث عن عبادة سرية متفرعة عن العبادة الرسمية للإله مردوخ، حيث يقدم قصة أخرى لصراع الآلهة، ثم يصف طقوسا خاصة لأتباع هذه الجماعة السرية لتمثيل أدوار المسرحية التي تقام في عيد رأس السنة وتُجسد فيها صراعات الآلهة، ويختتم النص المنقوش بعبارة “إن المعاني الخفية لهذه الأفعال لا يجوز أن تقرأ من قبل الذين لم يدخلوا في هذه العبادة رسميا ووفق الطقوس المنصوصة”.
ويبدو أن تفسير هذا النص يختلف بسبب اختلاف المنهج نفسه كما أوضحنا في مقال “البحث في الدين“، فالمنهج الإلحادي الذي لا يعترف بوجود الغيبيات لن يجد في هذه الطقوس سوى تصرفات خرافية، أما من يؤمن بالوحي وبحقيقة وجود الجن والشياطين فسيرجّح ارتباط هذه الطقوس بالسحر.
وينبغي التذكير بأن بعض الطقوس والنصوص السرية قد تكون هي أصلا لب الدين نفسه، وليست مذهبا باطنيا منشقا عنه، أي أن بعض الأديان قائمة بذاتها على جوهر سري خفي، وأن كهنتها يظهرون لأتباعهم ما يريدون إظهاره فقط.
2- يزعم فريق آخر أن هناك فئة من الحكماء كانت تحتكر الحكمة الصحيحة التي لا يقدر العوام على فهمها منذ آلاف السنين، فاضطرت تلك النخبة لإخفاء وترميز علومها لحمايتها من التشويه والتحريف ومن الوقوع في أيدي الأشرار. ونجد تحت هذا الزعم عددا كبيرا من النظريات المتداولة عبر شبكة الإنترنت، ومنها مثلا أن النخبة كانت تحتفظ في حضارتي أطلنطس وراما الأسطوريتين بأسرار تكنولوجية أكثر تطورا مما نشهده اليوم، وكانت تستخدمها للتغلب على الجاذبية والسفر عبر الكواكب ورفع الحجارة العملاقة لبناء الصروح الهائلة مثل الأهرام وتشغيل الآلات بنوع خاص من الطاقة، ويقال إن هذه النخبة رمّزت علومها وأسرارها في طريقة بناء الهياكل والصروح التي بقيت قائمة حتى اليوم في مصر والهند وأمريكا الجنوبية والعراق، كي يتمكن أحفادهم بعد آلاف السنين من استخراج تلك العلوم والاستفادة منها، لا سيما وأن القدماء خافوا عليها من الاندثار بفعل الطوفان الذي حدث في عصر نوح وغيره من الكوارث.
ويجتهد أصحاب هذه النظريات في استخراج الرموز العميقة من تماثيل أبو الهول وإيزيس والمعابد العملاقة ومقارنتها بمعايير هندسية مثل النسبة الذهبية وبغيرها من الحقائق الفلكية والفيزيائية، كما يربطون بعض الاكتشافات المذهلة التي توصل إليها القدماء بكائنات فضائية يفترضون أنها هبطت إلى الأرض وأنها هي ذاتها كائنات الأنوناكي التي ذُكرت في الأساطير العراقية. ويذهب البعض إلى افتراض أنها كائنات من الزواحف نصف البشرية التي ما زالت تعيش على الأرض وتدير العالم في الخفاء، بينما لا يقدم أصحاب هذه النظريات أية أدلة علمية تربط “المشاهدات” المزعومة والروايات ببعضها.
مانلي هول
ويجدر بالذكر أن كبار المؤلفين المنتسبين إلى الماسونية وغيرها من الجمعيات السرية بدأوا بطرح هذه النظرية في وسائل الإعلام والأوساط الثقافية منذ بدايات القرن العشرين، وهو طرح يتزايد بثه باستمرار مع تزايد الانفتاح في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات الحالية، حيث بات من الصعب إخفاء أسرار تلك الجمعيات ومخططاتها، ولا سيما بعد نشر عدة كتب رصينة ألفها منشقون عن الجمعيات أو صحفيون تسللوا إلى محافلها وفضحوا ما يجري فيها، فلم تعد ملاحقة هؤلاء وقتلهم سياسة مجدية كما كانت في الماضي، فبدأت تلك الجمعيات بفتح أبواب محافلها أمام كاميرات الصحفيين لتصوير بعض طقوسها، مع الاعتراف بأن التصوير لا يطال كل ما يجري هناك وأن السرية ما زالت قائمة جزئيا، كما نشط منتسبوها في نشر الكتب والأفلام الوثائقية والسينمائية التي تزعم أن الماسونية وأمثالها لم تعد سرية كما كانت، وطرحوا فيها ما يزعمون أنه حقيقة تلك الأسرار التي احتفظوا بها آلاف السنين. ويعد الماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي هول من أوائل المؤلفين في هذا الباب عندما نشر كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” عام 1928، حيث زعم فيه أنه كشف كل ما كان يخفى عن الناس من “الحكمة” المتوارثة منذ عصور سحيقة، وهو كتاب مليء بالمغالطات التي لا تستند إلى دليل، وفيه الكثير أيضا من المزاعم التي لا يمكن لأحد إثباتها، فضلا عما فيه من إخفاء وتضليل لحقيقة الماسونية.
سلسلة أفلام “كنز وطني” من إنتاج شركة ديزني تعد من أهم محاولات هوليود الأخيرة لتلميع صورة الماسونية
ومن مظاهر هذه الحملة أيضا تحويل الجمعيات السرية إلى مادة للترفيه في أفلام هوليود، بحيث تُنزع عنها تهمة التآمر والخبث تحت وقع الكوميديا السوداء، بحيث يصبح أي ربط بين عوالم السر وبين التآمر مجرد خضوع “للفكر التآمري” وانعكاس لعقدة البارانويا ضد عدو وهمي.
ولكي تثمر هذه الحملة، كان لا بد من ضخ تلك الكتب والأفلام بأعداد لا تحصى، ففي كل عام تصدر عن دور النشر عشرات الكتب التي تزعم كشف المزيد من الأسرار والخفايا عن تلك الجمعيات، فضلا عن خلط الحق بالباطل، ما أدى في النهاية إلى نفور الكثيرين من الاطلاع على تلك المعلومات واعتبارها مجرد لغو لا يثمر أي نتيجة مفيدة.
3- ومن أسباب العمل السري أيضا اضطرار الحركات المقاومة للمحتل أو المعارضة للحكم إلى التخفي لحمايتها من القمع، فالهدف في هذه الحالة سياسي لا ديني، ومن الأمثلة المشهورة في العصر الحديث لهذه الحركات الجمعيات القومية الكاثوليكية الأيرلندية التي نشأت في القرن الثامن عشر لمقاومة حكم الأقلية البروتستانتية، كما نشأت على شاكلتها جميعات إيطالية قومية في أوائل القرن التاسع عشر لمقاومة السيطرة الأسبانية والنمساوية التي دامت نحو 250 سنة، لكن الجمعيات الإيطالية سرعان ما اندمجت بجميعات الكاربوناري وصارت جزءا من الماسونية، فلم تعد مجرد حركات ثورية لمقاومة المحتل بل تم تحريكها لأهداف الماسونية العالمية نفسها.
4- يرى فريق آخر أن ظهور الجمعيات السرية يعود أصلا إلى أسباب نفسية واجتماعية فقط، فالإنسان يسعى إلى التمرد على الطبيعة بالبحث في عالم المجهول السحري، وينجذب تلقائيا إلى التنجيم والباراسيكولوجي والتصوف، وقد يجد في رموز وطقوس الجمعيات الغامضة ما يشبع نهمه هذا.
ويقول أرسطو إن مغزى ممارسة الطقوس السرية لا يكمن في تعلم شيء ما فقط بل في مكابدة تجربة التغيير، ويعلق المؤلف نورمان ماكنزي في كتاب “الجمعيات السرية” عليه بالقول إن التغيير ليس مجرد رقي روحي ونشوة بل يُفهم على أنه بعث جديد، حيث يتم تجسيده في مسرحيات شعائرية يلعب فيها العضو الجديد دور المشارك والمشاهد، وهكذا يشعر العضو بأن السرية تمنحه طريقة تجعله استثنائيا ومختلفا عن عوام الناس، وأن لديه من الذكاء والحكمة ما يجعله في طبقة الصفوة. وهذا التفسير قد يصح فيما يتعلق بدوافع الأعضاء في الانتساب لتلك الجمعيات، ولكنه لا يبرر ظهور تلك الجمعيات أصلا، فقد يكون العضو المبتدئ مغررا به فعلا لكن القادة ليسوا كذلك بالضرورة.
ويرى هذا الفريق أن الذين يفشلون في التعامل مع العصر الحديث، بما فيه من مظاهر الاغتراب والقلق نتيجة الصراعات السياسية والتطور المتسارع، يلجؤون إلى اتهام الجمعيات السرية بوضع المؤامرات وتنفيذها.
ويتماشى هذا التفسير مع المنهج الإلحادي لدراسة الأديان [انظر مقال البحث في الدين]، فهو ينطلق من مبدأ استبعاد الجانب الروحي الغيبي من البحث، ويحاول إعادة كل ما يراه في نشاط الجمعيات السرية أو في ما ينسب إليها من مؤامرات إلى عوامل طبيعية واجتماعية لاإرادية، وكأن تلك الجمعيات مفعول بها وليست فاعلا لأي شيء يذكر. ونجد لهذه الفكرة أساسا لدى منظري الماركسية والرأسمالية على حد سواء، فهناك قانون حتمي لصراع الطبقات لدى الماركسيين، وقانون مماثل لدى النيوليبراليين يؤدي إلى صراع الحضارات، وهناك أيضا “يد خفية” تحرك المجتمع والاقتصاد نحو نهاية محتومة حسب الرؤية الرأسمالية الكلاسيكية، وليس للإنسان -فضلا عن الجمعيات السرية- دور في تغيير هذا الحراك أو تحريك مساره، حسب رأيهم.
عبد الوهاب المسيري (موقع المسيري)
وهذا التفسير هو السائد اليوم في الساحة الثقافية الغربية، وهو الذي يتلقى الدعم إعلاميا وأكاديميا حول العالم، وصار له أتباع كثر في العالم الإسلامي خلال العقود الأخيرة، ويُعد المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أحد أبرز منظريه، فهو ينفي عن الحركات السرية أي بعد ديني تآمري، ويكاد ينفي أي تأثير لها على أرض الواقع، بل يرى أنها نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي والسياسي، ويتجاوز دراسة الجانب الخفي لهذه الجمعيات إلى دراسة “الفكر التآمري” لدى من يقرون بوجود مؤامرة حقيقية في مشروع تلك الجمعيات، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون وهما في خيال الناس، كما هو حال الدين نفسه الذي يعتبره الملحدون واللادينيون مجرد وهم وليس له أي وجود موضوعي، وقد ظل المسيري متمسكا بقناعته بعد انتقاله من الماركسية إلى الإسلام، وتابعه في ذلك كثير من الإسلاميين الذين باتوا يبثون هذه الأفكار بقوة في الساحة الثقافية، وفي غلاف إسلامي أحيانا. [انظر كتاب اليد الخفية].
5- أخيرا، هناك فريق لا ينكر وجود الفكر التآمري، ويقر بأن المبالغة في ربط الأحداث بالجمعيات السرية ليس صائبا في كل مرة، كما يرى أن العديد من الجمعيات وُجدت لمقاومة العدو أو المحتل، أو لأهداف إنسانية أو بدوافع نفسية واجتماعية. لكن هذا كله لا يغطي الجمعيات السرية كلها، بل جانبا منها فقط.
ويستتند هذا الرأي إلى اعترافات كثير من المنشقين عن المحافل السرية، وتسريبات المتسللين إلى داخلها، مع ربط الحوادث التاريخية بما وضعه مؤرخون وشهود عيان على مجريات الأحداث، ولا سيما في القرون الثلاثة الأخيرة. كما يجد هذا الرأي ما يدعمه في نصوص الوحي القرآني، وهو ما يعطيه درجة اليقين ويغنيه عن الاكتفاء بالجدل الفلسفي لمن يؤمن بالوحي.
وتتفرع عن هذا الرأي نظريات تحتمل النظر والنقد كغيرها، لكن إطارها العام يربط غالبا النزوع إلى السرية مع المبادئ المعلنة الخارجة عن تعاليم الوحي بعالم السحر، فالسحرة كانوا طوال التاريخ أكثر الناس انطواءً وبعدا عن المجتمع، ولا يخفى ارتباط أنشطتهم بالأذى والشر والتآمر. ولا ينكر منظرو فك الرموز السرية المعاصرون الجانب السحري في علومهم، بالرغم من التلاعب في تقديم التفسيرات والمبررات.
وقد أوضحنا في مقالات “الإنسان والدين” و”الوثنية” و”الباطنية” تفرع التاريخ الإنساني إلى مسارات موازية لمسار الوحي. وبالعودة إلى إحدى روايات التأويل فقد بدأ السحر في وقت مبكر من عمر البشرية، وذلك في عصر النبي إدريس، وتزامن مع الجنوح عن سبيل الوحي كما يقول الحديث القدسي الذي رواه مسلم “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم”، وسنجد في هذا المقال وفي مقالات “القبالاه” و”فرسان الهيكل” و”الماسونية” مزيدا من التفاصيل عن هذا الارتباط.
تاريخ الجمعيات السرية يقول المؤرخ الماسوني الراحل جرجي زيدان (1861- 1914) في بداية كتابه “تاريخ الماسونية العام” إن هناك أقوالا كثيرة بخصوص نشأة جمعية الماسونية المعاصرة، فبالرغم من إقرار أتباعها بأنها خرجت في القرن الثامن عشر من عباءة جمعية الصليب الوردي التي تأسست سنة ١٦١٦، إلا أن الجذور تعود إلى ما هو أقدم بكثير، فهناك من يعود بتاريخها إلى الحروب الصليبية، وآخرون تتبعوها إلى القرن الثامن قبل الميلاد في اليونان، وآخرون قالوا إنها نشأت في هيكل سليمان، وفئة قالت إن منشأها يعود إلى بدايات الكهانة المصرية والهندية، وهكذا إلى أن زعم البعض أن مؤسسها هو آدم نفسه، وأن الخالق هو الذي أسَّسها في جنة عدن، وأن الجنة كانت أول محفل ماسوني، ويعلق زيدان على ذلك بقوله إنها أقوال مبنية على الوهم.
جرجي زيدان
كان زيدان يعمل في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة، وقد رافق القوات الإنجليزية التي حاولت قمع ثورة المهدي في السودان، فهو عضو أصيل في الحملة الدعائية للماسونية التي بدأت في أواخر القرن الماضي بمحاولة إقناع الناس بأن الحركات السرية قد تخلت عن سريتها المريبة وكشفت تاريخها وحقائقها للناس. لذا لا يمكننا الوثوق بمحاولة نفيه للعلاقة بين الماسونية والحركات السرية القديمة التي أرّخ لها في كتابه.
يصف زيدان في كتابه طقوس قبول المنتسب إلى “جمعية إيزيس السرية” في مصر القديمة، حيث يتحقق الكهنة من أهليته للالتحاق بهم وحفظ أسرارهم، ثم “يسومونه عند القَبول مشقات عظيمة تختلف بين تخويف وتهديد”، فإذا اجتازها بدأت مراسم الاستقبال، فيحقق معه كاهن يحمل اسم الإله أوزيريس، وبعد الانتهاء منه ينتقل العضو الجديد إلى قائد متنكر على رأسه غطاء كرأس الكلب، فيذهب به في دهاليز مظلمة إلى مجرى مائي، فيسقيه كأسا من “ماء النسيان” لينسلخ عن كل ماضيه ويبدأ حياته عضوا في الجمعية من جديد. وبعد انتهاء المزيد من الفعاليات الاحتفالية يبدأ تلقينه “الأسرار المقدسة”.
ويقول زيدان إن أول من نقل أسرار الجمعيات السرية إلى أوروبا هو أورفيوس الذي كان عضوا في الجمعية الإيزيسية بمصر، ثم عاد إلى بلاده في منطقة تراسيا (بلغاريا ورومانيا بأوروبا الشرقية حاليا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ونشر تعاليمها هناك. وبعد وفاته أسس تلاميذه “مجمع إلوسينيا” في إلوسيس باليونان، وابتكروا لأنفسهم طرقا جديدة في مراسم قبول الأعضاء بما فيها من أساليب غسل الأدمغة بالترهيب والتهديد، حيث يُمرر العضو الجديد على مواقع مليئة بالوحوش والأفاعي وحمم النيران والأصوات المخيفة بمراحل مدروسة، ويُزرع في عقله أن هذا هو الجحيم أو صورة عنه، ثم يُنقل إلى موقع يملؤه النور والأمان ليستقبله الكاهن ويلقنه الأسرار في أجواء احتفالية، وكأنه بلغ بذلك الجنة.
ويُطلب من العضو الجديد قبل خوض التجربة المرعبة أن يغتسل أولا بالماء والدم، وأن يقدِّم ثورا أو كبشا كأضحية، فإذا نجح في قبول عقيدتهم تم تعميده بالماء كما يُعمد المسيحيون اليوم في الكنائس، ومنحوه اسما جديدا سريا يُعرف به في مجتمعه الصغير بعيدا عن حياته الطبيعية، وهذه الطقوس تدل بوضوح على الخلفية الشيطانية لهذه الجمعية، فهي لا تختلف كثيرا عما يمارس في طقوس عبادة الشيطان المعلنة في عصرنا الحديث، وهو أمر لا يذكره زيدان.
ويقول زيدان إن تعاليم هذا المجمع انتشرت في سائر المدن القديمة مثل فينيقية (لبنان) والهند ومصر وسوريا واليونان وغيرها، حتى قيل إنها أصلٌ لجميع تعاليم المجامع السرية القديمة في العالم، مؤكدا أن حيرام ملك صور كان أحد كبار الكهنة فيها.
ويضيف زيدان أن هذه التعاليم انتشرت أيضا في المجتمع اليهودي عندما بُعث المسيح بينهم في فلسطين، فكان أتباعها يُعرفون باسم طائفة الأسينيين، إذ نجد في رؤيا يوحنا بالإصحاح الثاني (عدد ١٧) من الكتاب المقدس قوله “فَلْيسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن الخفي، وأهبه حصاة بيضاء منقوشا عليها اسم جديد لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه”، في دلالة إلى مراسم قبول العضو في مجمع الإلوسينيا حيث يُكتب اسمه السري على قطعة حجر يحتفظ بها حتى موته، وكأن مفاهيم الجمعيات السرية تسربت أيضا إلى الكتب السماوية التي تم تحريفها لاحقا.
ويُسهب زيدان في إظهار أتباع هذه الطائفة بمظهر المتقشفين المنقطعين عن الدنيا وملذاتها، وكأنهم مجموعة من الناسكين الزاهدين المنقطعين لاكتشاف المعرفة، فضلا عما يتمتعون به -حسب زعمه- من أخلاق راقية وتضحيات عظيمة فيما بينهم.
وما زالت طقوس العبادة الإلوسيسية السرية ماثلة حتى يومنا هذا بوضوح على جدران “فيلا الأسرار” Pompeii Villa of Mysteries في مدينة بومبي الإيطالية، حيث طمرت تحت الرماد منذ ثوران البركان المفاجئ قبل الميلاد بنحو ثمانين عاما لتبقى محفوظة حتى تُكتشف في عصرنا الحديث، إذ يبدو أن العبادة السرية لإله الخمر والنشوة “ديونيسوس” كانت مسيطرة على المنطقة، لا سيما وأن اقتصاد بومبي كان قائما على الدعارة، حيث تقدم لنا آثارها المحفوظة بدقة تثير الدهشة صورة واضحة عن تغلغل الجنس في حياة الناس إلى أقصى درجة.
فيلا الأسرار التي طمرها الرماد لأكثر من ألفي سنة، وهي تبدو اليوم في حالة جيدة بل تفاجؤنا أيضا بطرازها المعماري الذي لا يختلف كثيرا عن العمارة الحديثة، بل مازالت جدران الفيلا تشرح بالرسوم الملونة طقوس انضمام امرأة إلى عبادة ديونيسوس السرية (ElfQrin)
منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن
الهرمسية تحدثنا بإيجاز في مقال “الباطنية” عن النظريات التي تحاول كشف حقيقة شخصية هرمس وما ينسب إليها من مؤلفات وعلوم، وهي شخصية بالغ الباحثون في تعظيمها حتى قال فرانسيس باريت في كتابه “سيرة تاريخية قديمة”: “إذا كان الإله قد تجسّد فعليا في هيئة إنسان، فلم يكن ذلك سوى بشخص هرمس”، وقلنا إنه من الراجح أن تكون تلك الشخصية صورة محرفة عن شخصية النبي إدريس عليه السلام، بعد أن نُسبت إليه تراكمات من العلوم والخرافات والفلسفات الوثنية والسحرية.
أفرد الماسوني مانلي هول في كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” فصلا لتعاليم هرمس التي تحتل مكانة مهمة لدى الماسون، وقال إن البعض يعتبر أن هرمس هو ذاته الإله الإغريقي هرمز Hermes، وأنه هو نفسه الإله المصري تحوت Thoth أو توتي Tuti، الذي كان إله القمر أيضا، حيث رُسم على هيئة رأس طائر أبو منجل مع قرص وهلال القمر، وبما أنه دين باطني غنوصي سري، فقد أطلق عليه الكهنة -في الصيغة المعلنة للناس- إله الحكمة والأبجدية والزمن، بينما كان له وجه آخر في المعابد السرية والطقوس الخفية.
عصا هرمس
وبحسب كتاب مانلي هول، احتوى “كتاب تحوت” المقدس على الإجراءات السرية التي يمكن من خلالها “إعادة إصلاح البشرية”، وهو كتاب يصعب فك رموزه الهيروغليفية الغريبة, إلا أنه يمنح مستخدميه القادرين على فهمه “قوة غير محدودة على الأرواح العلوية والسفلية”، حيث يمكنهم تضخيم وعيهم البشري ورؤية الكائنات الخالدة Immortals والدخول إلى حضرة الآلهة الأسمى، وبما أن هول ماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين؛ فهو لا يعترف لعامة القراء بأن هذه الطقوس ليست سوى أعمال سحرية لاستحضار الشياطين.
أحد مؤلفات الشيطاني المعروف أليستر كراولي عن أسرار تحوت
ويضيف هول أن هناك أسطورة تقول إن “كتاب تحوت” كان في صندوق ذهبي في الحرم الداخلي للمعبد، ولا يمكن لأحد الوصول إليه سوى الأستاذ الأعظم، ويقول أيضا إن ذلك المعبد قد أزيل وتشتت أعضاؤه، إلا أن كتابهم هذا مازال محفوظا حتى اليوم، ويكتفي بالقول “لا يمكن تقديم أي معلومة إضافية للعالم حاليا، ولكن يجب الانتباه إلى أن الخلافة الرسولية المتسلسلة من عهد الأستاذ الأعظم الذي انتسب على يد هرمس شخصيا مازالت مستمرة حتى اليوم، ويمكن للأشخاص المميزين والملائمين لخدمة الخالدين [أي الشياطين] أن يجدوا هذا المخطوط النفيس الذي لا يقدر بثمن إذا اجتهدوا في البحث عنه بإخلاص”.
قارة أطلانطس ينسب مؤرخو الجمعيات السرية أصول الكثير من “الحكمة” السرية إلى قارة أطلانطس المفقودة، وهي جزيرة هائلة الحجم ورد ذكرها في كتاب “محاورة تيماوس” للفليسلوف اليوناني أفلاطون، حيث زعم أن الفيلسوف سولون الذي مات قبله بنحو 150 عاما، أي في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، سمع قصة القارة المندثرة من كهنة مصر ثم نقلها إلى اليونان شفهيا، وكان أفلاطون أول من وثقها لتبقى محفوظة إلى عصرنا الحالي.
أفلاطون
وبحسب هذه الرواية، فإن أطلانطس كانت جزيرة بحجم شمال أفريقيا وآسيا الصغرى، وتقع خلف “أعمدة هرقل” أي مضيق جبل طارق، فهي تحتل مكانا كبيرا من المحيط الأطلسي، وكانت قد اندثرت قبل الميلاد بنحو 9500 سنة، حيث كانت أشبه بالجنة على الأرض، ففيها من الحضارة والخيرات ما يحلم به كل إنسان، ثم بدأ ملوكها بالطمع في احتلال بلاد أخرى، فاحتلوا شمال أفريقيا، ثم هاجموا مصر وأثينا (اليونان)، وكانت نهاية تلك الحضارة بسلسلة من الزلازل والفيضانات التي أغرقت القارة كلها في البحر. [حضارات مفقودة، ص 17- 20].
ومما يهمنا من هذه الأسطورة أنه كان يحكم أطلانطس عشرة ملوك، وهم يمثلون مثلث “تيتراكتيس” الذي ترسم فيه عشر نقاط، وهو المثلث الذي قدّسه فيثاغورس بعد اقتباسه من مدرسة القبّالاه السحرية كما سيمر بنا لاحقا. وتضيف الأسطورة أنه كان في وسط أطلانطس معبد ديانة الحكمة هرمي الشكل، الذي يقع على هضبة مرتفعة في وسط مدينة البوابات الذهبية، ويقول أتباع الجمعيات السرية إنه أصل المعابد والهياكل والمحافل التي انتشرت لاحقا في قارات العالم من أمريكا الجنوبية مرورا بمصر إلى الهند.
ومن اللافت أن أفلاطون لم يوضح ما إذا كانت القصة خيالية أم حقيقة، كما أنه أسهب في رواية تفاصيلها دون ذكر مغزاها، وذلك على غير المعتاد في محاوراته الفلسفية، ما دفع البعض للاعتقاد بأنه كان يتحدث عن قصة حقيقية وليس من أجل ضرب الأمثلة الفلسفية. وسواء كانت قصة حقيقية أم خرافة، فقد وجد أتباع الجماعات السرية في القارة المندثرة فرصة لإلصاق جميع علومهم وأسرارهم وأكاذيبهم بأصل حضاري عريق، ما ينفي عنهم تهم الاتصال بالشياطين والاقتباس منهم.
لكن قصة أفلاطون تواجه تحديات كثيرة، فالمفترض أن سكان أطلانطس أنشأوا حضارة في غاية التقدم قبل 11500 سنة من يومنا هذا، مع أن أقدم الآثار المحفوظة لنشوء الحضارة لا يمتد إلى ما هو أبعد من حضارات العراق التي بدأت قبل نحو خمسة آلاف سنة، وبما أن جميع التنقيبات والأبحاث الجيولوجية لم تسفر عن أي أثر لها، فهناك من افترض أن أفلاطون كان يتحدث عن جزيرة كريت اليونانية وليس عن موقع في المحيط الأطلسي، كما قدم باحثون معاصرون عشرات التأويلات المختلفة لموقع أطلانطس المحتمل. ولا ننسى أن المؤرخين اعتقدوا طوال قرون أن طروادة لم تكن سوى مملكة خيالية وردت في أشعار هوميروس، إلى أن اكتشفت آثارها فعلا في شمال غرب تركيا عام 1871، وكذلك الحال مع الحضارة المينوية التي كان يعتقد أنها أسطورية حتى وجدت آثارها في كريت.
فرنسيس بيكون
في عام 1626، وضع الفيلسوف الإنجليزي المعروف فرانسيس بيكون كتابه “أطلانطس الجديدة”، وكان من أواخر مؤلفاته التي جعلت منه مؤسسا للعلم الحديث في الغرب، وفي العالم كله بحكم التبعية. وما يتداوله العالم بعد نحو أربعمئة سنة أن الكتاب كان يتضمن نبوءة فلسفية بريئة للعالم الحديث القائم على العلم، لكن بيكون كان في رأي بعض المؤرخين الأستاذ الأعظم للماسونية في عصره، ولم يكن هذا الكتاب سوى البيان الختامي الذي قدّم فيه رؤيته لنموذج الدول التي ستُدار من قبل محافل الجمعيات السرية كما كان الحال في أطلانطس، وذلك تحت مسميات العلم والحضارة. [انظر صفحة Occult theories about Francis Bacon في موسوعة ويكيبيديا]
في عام 1882، طرح الأميركي من أصل إيرلندي إغناطيوس دونيلي كتابه “أطلانطس: العالم العتيق”، وقدم فيه أدلة كثيرة تدعم نظريته في صحة وجود أطلانطس، وزعم أن عددا قليلا من سكانها استطاعوا النجاة بالسفن ونقلوا أسرار تلك الحضارة المتقدمة إلى العالم. وقد أطلق دونيلي بذلك موضة الاهتمام العالمي بهذه الأسطورة، وربما كان أول من نقلها من عالم الخيال إلى الأوساط الجادة لتداعب أحلام الكثيرين، كما تأثر بالكتاب العديد من السياسيين، حتى تحمس رئيس وزراء بريطانيا ويليام غلادستون لجمع المال وتمويل حملة استكشافية للعثور على مكان أطلانطس. وما زال الكثيرون يبجلون دونيلي حتى اليوم على اعتبار أنه كان باحثا مجتهدا ومخلصا لنظريته، ولكن معظمهم لا يعرفون أنه كان ماسونيا عتيدا، وأنه كان يمهد كما يبدو لإقناع عامة الناس بأن أطلانطس هي أصل حضارات العالم كله، وأن المنظمات السرية الموجودة اليوم هي الوريث الوحيد لأسرار الحضارة.
وفي عام 1924 بدأ الباحث الأسكتلندي لويس سبينس بنشر سلسلة كتب عن أطلانطس، حيث يرى البعض أن كتاباته كانت أفضل ما كتب علميا بشأن أطلانطس، وعلى أساسها افترض الكثيرون أن جزر أزور البرتغالية هي من بقايا القارة المفقودة، وما يزال حتى اليوم مئات الناشطين والمهتمين يتناقلون عبر الإنترنت نظريات تتحدث عن اكتشاف أهرام ضخمة في عمق المحيط، لا سيما قرب أزور وفي مثلث برمودا، ويقولون إن الحكومات الغربية تتعمد إخفاء هذه الحقيقة لتحتكر لنفسها أسرار أطلانطس التي لا يعرفها سوى كبار أعضاء الجمعيات السرية، وهي ادعاءات غير مؤكدة ولا يمكن التحقق منها.
ويجدر بالذكر أن عددا من الباحثين في خفايا الجمعيات السرية يؤكدون أن نخبة جمعية “المتنورين” (الإلوميناتي)، وهي جمعية منبثقة عن الماسونية، يعتقدون أنهم أسلاف ملوك وكهنة أطلانطس، أي أنهم من نتاج تزاوج الآلهة مع البشر، ويُعتقد أن فيلم “أطلانطس: الإمبراطورية المفقودة” الذي أنتجته شركة والت ديزني عام 2001 كان يتضمن هذه الفكرة رمزيا، لا سيما وأن ديزني نفسه (توفي عام 1966) كان على الأرجح ماسونيا من الدرجة الثالثة والثلاثين، ولا يزال في داخل مدينته الترفيهية بولاية فلوريدا “ديزني لاند” نادٍ مغلق يحمل اسم “33”، ولا يُسمح بالانضمام إليه إلا للنخبة وبعد دراسة طلب الانضمام التي قد تستغرق عشر سنوات.
المدرسة الفيثاغورية ربما لا يوجد أحد في العالم لم يسمع باسم العالم اليوناني فيثاغورس، فنظرياته الرياضية والهندسية تُلقن لطلاب المرحلة الابتدائية حول العالم، ولا يكاد معظم الناس يعرفون عنه شيئا أكثر من ذلك، وقد يفاجأ القارئ عندما يعلم أن فيثاغورس الذي ولد قبل الميلاد بنحو ستمئة سنة كان من أهم أقطاب الجمعيات السرية في التاريخ.
اشتهر فيثاغورس بنظرية حملت اسمه في الهندسة، لكن الوثائق التاريخية تشير إلى استخدام مثلثات قائمة بأضلاع أطوالها أعداد صحيحة في بابل قبل فيثاغورس بأكثر من ألف سنة، كما استخدم المصريون القدماء النظرية قبله أثناء عمليات البناء وتقسيم الأراضي.
ويجدر بالذكر أن بعض العلماء المعاصرين يؤكدون أنهم اكتشفوا ثغرات وأخطاء في النظرية المنسوبة لفيثاغورس.
تمثال فيثاغورس بمتحف الفاتيكان
يحظى فيثاغورس اليوم بمكانة عظيمة في مؤلفات الماسون، كما في كتاب مانلي هول، حيث نجد فيه تأريخا لحياته ابتداءً بقصة ولادته التي زعم أنها جاءت بنبوءة عندما قالت كاهنة معبد أبولو لوالديه إنهما سيرزقان بطفل، وإنه سيكون أعظم الرجال جمالا وحكمة، وسيساهم كثيرا في نفع البشرية. كما ينقل عن جودفري هيغينز ما سماه بأوجه التشابهة بين ولادة وحياة فيثاغورس وتاريخ حياة يسوع المسيح، ما دفع البعض لتسمية فيثاغورس بابن الإله أبولو، بل ظن البعض أن الإله حلّ فيه وتجسد.
ويجدر بالذكر هنا أن مؤرخي حياة فيثاغورس قد وضعوا الأساطير عن حياته وشخصية بعد ولادة المسيح بمدة ليست بالقصيرة مع أن فيثاغورس مات قبل ذلك بنحو خمسة قرون، فالذين كتبوا قصة فيثاغورس هم الذين اقتبسوا النبوءة من قصة المسيح، والذين حرّفوا دين المسيح عيسى بن مريم اقتبسوا في المقابل من الفيثاغورية أسطورة الحلولية والتجسد.
يقول المؤرخ والفيلسوف برتراند رَسل في كتابه “تاريخ الفلسفة الغربية” عن فيثاغورس إنه كان من أهم من شهدت الدنيا من رجال من الناحية العقلية، ويضيف “لست أعلم عن رجل آخر كان له من التأثير في نطاق الفكر ما كان لفيثاغورس، وأقول ذلك لأن ما قد يبدو لك أفلاطونيا، ستجده عند التحليل فيثاغوريا في جوهره… ولولاه لما فكر المسيحيون في المسيح على أنه الكلمة”.
ويتضح الأثر الذي تركه فيثاغورس عندما نعلم أن أفلاطون كان معجبا للغاية بأفكاره، ويقال إنه دفع مبلغا كبيرا مقابل الحصول على مخطوطات فيثاغورس التي نجت من التلف، حتى قال أرسطو (تلميذ أفلاطون) إن جمهورية أفلاطون المثالية (اليوتوبيا) لم تكن سوى ترجمة لأفكار فيثاغورس.
يقول المؤرخ الإغريقي ديوجينس ليرتيوس إن فيثاغورس كان يزعم أمام طلابه وأتباعه أن روحه تناسخت خمس مرات، وأنه يتذكر جيدا الحيوات التي عاشها قبل أن يلتقي بهم، ففي الحياة الأولى كان أثاليدس ابن إله الحرب، وفي الثانية كان يوفوربس أحد أبطال حرب طروادة، وفي الثالثة كان هيرموتيموس رسول آلهة الأولمب، ويبدو أنه تواضع في ما قبل الأخيرة فجعل نفسه صيادا عاديا، ثم تجسد على هيئة المعلم فيثاغورس.
ومن الطريف أن نجد هذه المزاعم لدى معلمين آخرين في الجمعيات السرية على مر العصور، ومنهم اليهودي الإيطالي كاجيلوسترو الذي ابتكر طقس ممفيس المصري لصالح المحافل الماسونية وكان له دور في إشعال الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، حيث كان يزعم أن روحه تناسخت عدة مرات، وأنه كان في إحداها صديقا ليسوع المسيح نفسه، وأن حياته الأخيرة امتدت أكثر من ثلاثمئة سنة.
ووفقا للماسوني هول، اكتسب فيثاغورس القدر المستطاع من المعرفة التي كانت متوفرة في اليونان، وانتسب لجمعية الإلوسيسية السرية التي تحدثنا عنها، ثم بدأ رحلاته لاكتساب المزيد من الأسرار، فتتلمذ على يد حاخامات اليهود القبّاليين، ثم سافر إلى مصر، وبعد محاولات عدة سُمح له بالانتساب إلى جمعية إيزيس السرية بمدينة طيبة، ثم توجه إلى سورية وبلاد الفينيقيين (لبنان) وانضم إلى جمعية أدونيس وتلقى أسرارها، وعبر بعد ذلك وادي الفرات ليتعلم أسرار الكلدانيين والبابليين.
ولم يكتف بذلك، فرحل إلى بلاد فارس والهند، حيث بقي هناك عدة سنوات للاطلاع على أسرار البراهمة والمجوس، وبعد نحو ثلاثين سنة من الترحال والتعلم عاد إلى أوروبا وأنشأ مدرسة في مدينة كروتونا (جنوب إيطاليا) التي كانت تحت حكم الإغريق، وأعلن عن فتح الباب لتعليم الرياضيات والهندسة والفلسفة، بينما كانت مدرسته في الباطن بمثابة الجمعية التي تتلخص فيها كل أسرار وطلاسم وطقوس الجمعيات السرية.
وضع فيثاغورس أصول تشكيل الجمعيات السرية التي ما زالت متبعة حتى اليوم، لذا يدين له أتباع الماسونية والصليب الوردي بالفضل، حيث قسّم منتسبي جمعيته إلى ثلاث درجات، بحيث لا يعلم أعضاء كل درجة شيئا عن التي تليها، فلكل منها طقوس وأسرار لا يعلم بها زملاؤهم الآخرون.
يقول مانلي هول إن فيثاغورس كان يتمتع بقدرات خارقة، فذكر أنه كان يزعم قدرته على التنبؤ بالمستقبل، ورجّح أنه كان قادرا على تنويم الناس والحيوانات، وعلى التغلغل إلى عقول الحيوانات لإقناعها بما يريد، وعلى رؤية الأشياء من مسافة بعيدة.
أما الدرجة الأولى فكانت علنية ومكشوفة، كما هو حال الدرجات الأولى من الماسونية اليوم، والتي تُفتح أبوابها للصحافة ويجاهر أعضاؤها بالانتساب لها ويُعلن أن أنشطتها تقتصر على المجال الخيري الإنساني، وكان طلاب هذه الدرجة يجلسون في أماكن مفتوحة للاستماع إلى محاضرات عامة دون مناقشة، حيث كان فيثاغورس يعلمهم أن الحقيقة في أعماقها رياضية وأن العدد هو أساس كل شيء، فلكل عدد معنى رمزي باطني، وبشكل يتطابق تقريبا مع فلسفة القبالاه اليهودية.
كراولي في زي جماعته “الفجر الذهبي”
وبعد خمس سنوات من الانتظام في تلك الدرجة يختار الأساتذة بعناية من يستحق الترقية إلى الدرجة الثانية، وهناك يفتح لهم باب المناقشة والتلقي ولكن داخل محافل سرية. ثم يتم اختيار الصفوة من هؤلاء للترقية إلى الدرجة الثالثة لتلقي الأسرار الخاصة، حيث يكتشفون آنذاك أن المعرفة لا تتعلق فقط بأسرار الهندسة والأعداد، بل هناك عقيدة كاملة بشأن الوجود والإله والموت وما بعده، وهي العقيدة الشيطانية المطابقة للقبالاه.
وقد أقر كبار مؤسسي الحركات الباطنية القبّالية والجمعيات الشيطانية الحديثة في الغرب باقتباس فيثاغورس من القبالاه، ومنهم الإنجليزي ماك غريغور ميثرز الذي شارك عرّاب الحركات الشيطانية الحديثة أليستر كراولي في تأسيس جمعية الفجر الذهبي، وذلك في كتابه “القبالاه بدون حجاب” The Kabbalah Unveiled.
ويمكن القول إن طقوس الجمعيات المندثرة حول العالم قد تم حفظها على يد فيثاغورس، حيث انتشرت عن طريقه تلك الطقوس في أنحاء أوروبا، فوصلت إلى شمالها حوالي عام 50 قبل الميلاد عندما تمرد الكاهن “سيغ” على الرومان وأخذ يدعو القبائل الهمجية الإسكندنافية إلى اتباعه، وخلط كما يبدو دينهم الوثني الذي يعبد الإله “أودن” بطقوس الجمعيات السرية، ثم أصبح بنفسه المعبود “أودن”.
وبعد بعثة النبي عيسى عليه السلام وسعي زعماء بني إسرائيل لإفشال دعوته ومحاولة صلبه وملاحقة أتباعه [انظر مقال المسيحية]، نجح اليهودي شاؤول (بولس) في تحريف رسالته التوحيدية إلى دين وثني زاعما أن عيسى إلهاً تجسد ليفدي الناس بنفسه ويغسل خطيئتهم، ولم يكتب لهذا الدين النجاح سوى بالعمل السري التقليدي كما هو حال جمعيات الإلوسيسية.
القوة الخفية أوضحنا في مقال “الماسونية” تفاصيل جمعية سرية حملت اسم “القوة الخفية” وتم تأسيسها في عام 43م على يد ملك القدس اليهودي هيرودس أغريباس، وذلك بهدف قمع الدعوة المسيحية التي أخذت بالانتشار. وذكرنا أن هذه القصة لم نجدها سوى في كتاب “تبديد الظلام” الذي يقول مترجمه عوض الخوري إنه ليس سوى ترجمة لوثيقة عبرية يورثها مؤسسو الجمعية التسعة لأبنائهم، حتى قرر آخرهم، ويدعى جوناس، أن يكشف السر في القرن التاسع عشر.
لا يمكننا الجزم بصحة الرواية لعدم وجود مصدر آخر يؤكدها، لكن الثابت تاريخيا أن كلا من اليهود وأتباع المسيح انتهجوا العمل السري في محاربة بعضهم.
وفي عام 330 بعد الميلاد، تبنى الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول نسخة معدلة من مسيحية بولس، وتم بذلك تأسيس الدين المسيحي القائم حتى اليوم [انظر مقال المسيحية]، وانتهى بذلك عهد السرية المسيحية، لكن طقوس العبادات الشيطانية القبّالية ظلت متوارثة داخل الجمعيات السرية في أوروبا لأكثر من سبعة قرون، إلى أن تغلغلت في الفاتيكان ولعبت دورا في إشعال الحروب الصليبية أملا في الوصول إلى هدفها النهائي وهو إنشاء هيكل سليمان في القدس، وهو ما عملت عليه بنشاط جمعية فرسان الهيكل التي أفردنا لها مقالا خاصا.
وبالرغم من نجاح فرسان الهيكل في الوصول إلى القدس والحفر تحت المسجد الأقصى، إلا أن صحوة المسلمين واستعادتهم للقدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ/1187م أفشلت المشروع، كما تصدت الكاثوليكية مجددا للجمعية بعد افتضاح خلفيتها الشيطانية، وتم تشتيتها في أوروبا لتنشأ عنها جمعيات الصليب الوردي والماسونية ومحافل المتنورين، التي كان لها دور كبير في إعادة صياغة المشهد السياسي الغربي عبر المساهمة في إشعال الثورة الفرنسية عام 1789 وما تلاها من انقلابات دامية على الأنظمة الإقطاعية الملكية المتحالفة مع الكنيسة. ثم أعادت النخب الفكرية المرتبطة بالجمعيات السرية صياغة المناهج الفكرية في الغرب، ولاحقا في معظم أنحاء العالم بفعل العولمة، فمعظم النظريات العلمانية بأطيافها المختلفة -وحتى المتضاربة- كُتبت على أيدي كبار الماسون، وكبار مؤسسي النهضة العلمية مثل ليوناردو دافينشي وجوردانو برونو وإسحق نيوتن وفرانسيس بيكون كانوا أقطابا في الجمعيات السرية.
ضرورة أم مؤامرة؟ ذكرنا سابقا أن المؤلفين الماسون حرصوا على تقديم صورة زائفة عن جمعياتهم السرية، واكتفوا بكشف ما يناسب توجهاتهم فقط، ومنهم جرجي زيدان الذي يقول “ولا نظن أحدا يجادلنا في احتياج البشر لمثل هذه الجمعيات السرية، وفي أن العلم لا ينمو وينتشر إلا بواسطتها، على أننا لا نحتاج إلى شديد عناء في إقناعهم إذا أصروا على الجدال؛ كيف لا وإن من أشهر الأديان الحديثة المتدينة لها أكبر دول الأعصر الأخيرة ما لم يَنمُ وينتشر إلا باتباعه خطة تلكم الجماعات من التعاليم والتبشير سرا”. [تاريخ الماسونية العام، ص 21].
ويصدق زيدان عندما يطبق كلامه هذا على دين عائلته المسيحي الذي وضعه بولس وانتشر في الخفاء قبل أن يتبناه قسطنطين، حيث يرى زيدان في هذه السرية فضيلةً للمسيحية، كما يصدق كلامه عندما يُنظر إلى الحضارة الغربية (الموصوفة بالعلم) على أنها الحق، ليبرر بذلك انتهاج العمل السري أولا، ويزعم طهارة تلك الجمعيات السرية ثانيا.
في مثل هذا الكهف الواقع في أخدود سحيق بالأناضول كان المسيحيون الأوائل يقيمون كنائسهم السرية هربا من السلطة الوثنية
لكن الأنبياء جميعا كانوا يجهرون بدعوة التوحيد بالرغم من كل ما كانوا يعانونه من أذى بسبب ذلك، وعندما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قريش لم يؤمر بالجهر مباشرة حتى تتكون من حوله نواة للدعوة، فظل يدعو أقاربه ومن يتوسم فيهم الخير ثلاث سنوات، ولم يؤمن به طوال تلك المدة أكثر من أربعين شخصا، ثم أمره الوحي بتبليغ الدعوة لعشيرته: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، فبدأت الدعوة الجهرية واشتد عليهم العذاب.
ومن الواضح أن مرحلة الدعوة “السرية” تلك لم تمتد لأكثر من ثلاث سنوات، ولم يتخللها إنشاء جمعية تراتبية ولا أداء طقوس سرية، ولم يترك النبي حتى مماته أي تعليمات سرية خاصة بالنخبة دون عوام الناس. وكل ما ظهر بعد ذلك من الفلسفة وعلم الكلام والتصوف فهو من العلوم الطارئة على الوحي الواضح الجلي، وليس من صلب الإسلام ولا من أصول دعوته [انظر مقال نبوة محمد].
في المقابل، لا يقدم أنصار الجمعيات السرية أي مبرر مقنع لمنهجهم السري، بالرغم من اجتهادهم الواضح في كتبهم وأفلامهم لإقناع العالم ببراءتهم، فإذا كان أسلافهم مضطرون للتخفي في القرون السابقة هربا من الاضطهاد، فقد زالت اليوم أسباب التكتم وأصبحت جمعياتهم شرعية في معظم دول العالم، ومع ذلك فإن أنشطتهم لاتزال تدار في الخفاء، ومازالوا يعترفون بذلك مع عجزهم عن تقديم أي توضيح يستحق التصديق.
يُنسب إلى الفيلسوف الرومانى ناتالاس قوله إن «الأشياء الحسنة تسعى للانتشار والانفتاح، أما الآثام فتتستر وراء حجاب السر والكتمان»، ومع ذلك فلسنا نتهم الجمعيات السرية بالإثم لمجرد كونها سرية، بل لأن الحقائق التاريخية والمعاصرة تؤكد أنها لم تكن سوى مراكز لتكريس عبودية الأتباع وغسل أدمغتهم ثم توظيفهم لتحقيق مصالح النخبة المسيطرة، كما كانت على مر التاريخ المكان المثالي لاجتذاب الموهوبين ثم توجيههم بأساليب الترغيب والترهيب لبث الأفكار الهدامة وقلب أنظمة الحكم ومواجهة أنصار الوحي، وسنبين في مقالات أخرى المزيد من الأدلة، وهذا لا يغني بطبيعة الحال عن الاطلاع على الكتب المتخصصة في هذا المجال.
أهم المراجع
عبد الوهاب المسيري، اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، دار الشروق، القاهرة، 1998.
مجموعة مؤلفين، الجمعيات السرية، تحرير نورمان ماكنزي، ترجمة إبراهيم محمد، دار الشروق، القاهرة، 1999.
جرجي زيدان، تاريخ الماسونية العام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013.
عوض الخوري، تبديد الظلام أو أصل الماسونية، بدون ناشر، 2002.
عبد المجيد همّو، الماسونية والمنظمات السرية: ماذا فعلت ومن خدمت؟، دار صفحات، دمشق، الطبعة الخامسة، 2009.
عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار أم البنين، بدون تاريخ.
برتراند رَسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2010.
ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.
محمد العزب موسى، حضارات مفقودة، الدار المصرية اللبنانية، 2000.
فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.
بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.
Manly P. Hall, The Secret Teachings of All Ages, H. S. Crocker Company Inc., San Francisco, 1928.
يرى بعض النقاد أنه من الصعب الحصول على منهج علمي لدراسة الأديان، وذلك لأن الدين يشمل مسائل غير موضوعية تتعلق بالجانب النفسي، فيصعب على الباحث بحثها من خلال المناهج التجريبية، كما أن البحث يتأثر بثقافة الكاتب وتكوينه الفكري وتراكماته المعرفية.
كما أن طريقة التعرف على حقيقة بعض الغيبيات التي يقدسها الآخرون لا تكون سوى بطرق غير محسوسة، لذا يزعم الكثيرون أن الباحثين في معتقداتهم من الخارج لا يتفهمون حقيقة ما يؤمنون به.
لكن التسليم بهذه الاعتراضات يجعلنا عاجزين عن دراسة الدين، وهي لا تبرر اقتصار البحث على جوانب الحياة المختلفة من طبيعة وفكر واجتماع ونفس ثم استثناء الدين، فبعض علماء الاجتماع يرون أن الدين هو أعلى مظاهر الطبيعة الإنسانية، وأنه ظاهرة محورية في صياغة التصورات الفكرية وأنماط الحياة في كثير من المجتمعات.
لذا يصر الباحثون في مقارنة الأديان على إمكانية دراسة الدين موضوعيا، وذلك بوصفه ظاهرة ذات أبعاد متداخلة ومتضايفة، فهناك بعد نظري مثل أصول العقائد، وبعد عملي يشمل المنظومة الأخلاقية والتعبدية، وبعد تنظيمي إداري يتجسد في منظومة الكهنوت، وبعد عاطفي يتجلى في الفنون والآداب.
اتجاهات مقارنة الأديان عبر التاريخ إذا نظرنا إلى الاتجاهات العامة لهذه الدراسات طوال التاريخ البشرية فيمكن تلخيصها بثلاثة اتجاهات رئيسة:
1- الاتجاه الإلحادي: ظهرت ملامحه الأولى في الفلسفة اليونانية، خاصة عند بروز الفلسفة الطبيعية عند الفيلسوف طاليس (624-546 ق.م) الذي قدّم تفسيرات عقلية عن أصل العالم وطبيعته، دون الرجوع إلى التفسيرات اللاهوتية أو الأسطورية، وترافق ذلك بالاستخفاف بالتعاليم الدينية وقيمتها المعرفية ثم الاعتقاد بأنها إنتاج بشري، وتطور الاستخفاف والتشكيك إلى معاداة الدين والسعي إلى إبعاده من الحياة الاجتماعية [انظر مقال “وجود الله“].
وتقول المؤرخة كارن أرمسترونغ في كتابها “تاريخ الإله” إنه منذ نهايات القرن السابع عشر وظهور الحداثة الغربية أعلنت المذاهب الفلسفية الكبرى استقلالها عن فكرة وجود الخالق، وظهر في هذا العصر كل من كارل ماركس وتشارلز داروين وفريدريك نيتشه وسيغموند فرويد الذين بدأوا بتحليل الظواهر المعرفية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية بدون أي وجود للإله.
وفي هذا العصر دعا بعض علماء الأنثروبولوجيا الثقافية إلى دراسة الدين بوصفه ظاهرة إنسانية طبيعية، قابلة للدراسة عبر أطر موضوعية محايدة، إلا أن دراساتهم كانت لا تقر للدين بأصل مقدس إلهي، ولم يميزوا بين الدين والسحر والخرافة والأسطورة، كما لم يميزوا بين الدين المنزل والدين الوضعي. فكانت أبحاثهم تنطلق من مبدأ اعتبار الدين نتيجة للتطور البشري، دون اعتقاد باحتمال وجود أي مصدر غيبي للدين.
وهناك أيضا من حاول تناول الدين على أنه ظاهرة اجتماعية ويمكن دراسة معالمها الظاهرية والنفسية دون البت بعدم قدسيتها أو العكس، ومع ذلك فإن هؤلاء الباحثين لم يعترفوا للدين بأي قدسية وبلا أصول غيبية لوجوده، فكانت النتيجة نفسها.
2- الاتجاه الإيماني التبريري: وهو الذي ينطلق من اعتقاد مسبق بصدق الدين والدفاع عنها، وهو موجود في كل الديانات الكبرى. ويتضمن هذا الاتجاه تيارين: الأول يميل إلى الشرح وبيان العقائد وتبسيطها لمعتقديها من خلال النصوص المقدسة لديه. أما الثاني فيستخدم الأدوات العقلية والنصوص النقلية للدفاع عن الدين الذي يعتقده من خلال نفي وجود أي تناقض بين العقل ومعتقداته، ثم بيان فضيلة دينه عن غيره من الأديان، وهو النهج الجدلي الكلامي الذي يُنتقد كثيرا بافتقاره إلى الموضوعية.
3- الاتجاه الموضوعي ذو الطابع الأنثروبولوجي القيمي: ويُحسب للعالم المسلم أبو الريحان البيروني أنه كان من رواد هذا الاتجاه، وهو يتفق مع الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة في أهمية دراسة التراث الثّقافي والمعرفي للمجتمع في معرفة دينه، لكنه يختلف مع الحداثيين في كون الدين جزءًا من الإنتاج البشري التطوري أو مقارنة الدين بالسحر والخرافة.
كما يختلف البيروني مع الأنثروبولوجيا الحديثة في الهدف، فهو يوضح في مؤلفاته أن هدفه من التأليف هو “الوصول إلى الحق”، بينما يرى الحداثيون أنه لا ينبغي للباحث أن يتخذ أي قرار حتى لو كان متوافقا مع منهجية البحث. علما بأن البيروني كان ينتقد منهج الكلاميين في الدفاع عن معتقداتهم بالحجج الجدلية إلا أنه وصل إلى النتيجة نفسها بإصدار حكم قيَمي على الأديان التي درسها، حيث لم ينطلق أصلا من منطلق إلحادي يستبعد وجود وحي وإله كما فعل أصحاب الاتجاه الأول.
مقارنة الأديان في التاريخ الإسلامي انفتح الفكر الإسلامي منذ القرن الثاني للهجرة على أديان العالم وجعلها موضوعا مستقلا للدراسة، فوضع رواد هذا المجال مناهج علمية للبحث، فدرسوا أديان العالم من حيث المقارنة فيما بينها وتأريخها ونقدها.
وأشاد باحثون غربيون معاصرون بالتراث الإسلامي الغزير والموضوعي في هذا المجال، ومنهم إيريك ج. شارب الذي رأى أن شرف كتابة أول تاريخ للأديان يعود إلى الإمام أبي الفتح الشهرستاني صاحب كتاب “الملل والنحل”
يعد كتاب “الفصل في الملل والأهواء والنحل” لابن حزم من أهم الموسوعات الدينية في التاريخ
أما بينارد دولا بولي فيقول في كتابه “الدراسة المقارنة للأديان” إن ابن حزم الأندلسي هو رائد مقارنة الأديان في الفكر الإنساني كله.
ويقول آدم متز إن أكبر فرق بين الخلافة الإسلامية والدول الأوروبية المسيحية في القرون الوسطى كان يتلخص في وجود عدد كبير من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين ممن يتمتعون بقدر من التسامح لم يكن معروفا في أوروبا، ومن مظاهر هذا التسامح نشوء علم “مقارنة الأديان”، وهذا ما يؤكده مؤرخ الأديان إريك شارب في قوله إن الانغلاق الصارم والتعصب كانا وراء الاعتقاد بأن أي دراسة للأديان الأخرى لن تقود إلا إلى تناقض حاد مع المسيحية.
وما زال هذا الانغلاق قائما حتى اليوم في كبرى المدارس اللاهوتية الغربية، حيث يدرس الطلاب معظم أديان العالم الكبرى في حين يتجاهل واضعو المناهج ذكر الإسلام، فضلا عن مناقشته ونقده.
ويقول المستشرق فرانز روزنتال إن الغرب يعترف اليوم بأن مقارنة الأديان هي إحدى الإنجازات العظيمة للحضارة الإسلامية التي أسهمت في التقدم الفكري للإنسانية، كما يرى المستشرق الألماني إدوارد سخاو أن مؤلفات البيروني هي حجر الأساس لعلم الأنثروبولوجيا الديني.
ومن أهم العلماء المسلمين الذين كتبوا في مقارنة الأديان: الجاحظ، والجبائي، والقاضي عبد الجبار، وابن حزم الأندلسي، وأبو الوليد الباجي، وأبو الحسن الأشعري، والباقلاني، والبيروني، والجويني، والغزالي، والشهرستاني، وابن تيمية، والمسعودي، والمقريزي، وكثيرون غيرهم.
مناهج البحث لدى المسلمين
1- منهج التأريخ: أصَّل علماء الإسلام هذا المنهج قبل أوروبا بأكثر من عشرة قرون، وكان بعضهم يكتب في الجدل والنقد كتاباً ثم يكتب في التأريخ والوصف كتاباً آخر؛ مثل أبي عيسى الوراق (القرن الثالث الهجري) الذي كتب في الجدل كتاب “الرد على فرق النصارى الثلاث” وكتب في التأريخ كتاب “مقالات الناس واختلافهم”.
2- منهج التحليل والمقارنة: وهو يشمل دراسة جانب أو أكثر من ديانتين أو أكثر ثم المقارنة بينهما، أو دراسة ديانة واحدة من كل جوانبها بالمقارنة مع ديانة أخرى، أو دراسة مؤسس الديانة وأسفارها بالمقارنة مع مؤسس وأسفار أخرى.
3- المنهج التحليلي النقدي: من أهم الأمثلة على تحليل أسس الأديان الأخرى دراسة ابن حزم لنصوص العهدين القديم والجديد، حيث تركت كتاباته أثرا عميقا لدى الأوروبين بعد ترجمتها في اكتشاف عيوب المسيحية.
4- منهج المناظرات الكلامية الجدلية، سواء كانت حية ومباشرة أو مدونة في رسائل وكتب، ومن الأمثلة عليها رسالة راهب كلوني في جنوب فرنسا إلى أمير سرقسطة في الأندلس، وجواب القاضي أبي الوليد الباجي عليها.
ميرسيا إلياد أستاذ في تاريخ الأديان من رومانيا توفي عام 1986
دراسة الأديان في العصر الحديث يؤكد ميرسيا إلياد صاحب “الموسوعة الدينية” أن مصطلح مقارنة الأديان لم يكن معروفا لدى الأوروبيين حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حيث أطلقه لأول مرة البريطاني ماكس مولر، ويقول إلياد إن تأخر ظهور المصطلح في أوروبا معناه غياب رؤية علمية ذات أسس منهجية لدراسة الأديان عن الأوساط العلمية الأوروبية.
اهتم الاتجاه العلمي السائد لدى الغرب في عصر النهضة الحديث بالبحث في أصل الأشياء، فبعد أن كان ذلك محصورا في الجوانب التجريبية اتسع ليشتمل على العلوم الإنسانية، وانتقل من السؤال عن أصل الإنسان البيولوجي وتطوره؛ إلى السؤال عن أصل دينه وتطور معتقداته.
لذا يغلب الطابع الوضعي على أبحاث الدين في الغرب، بحيث تُنحى جانبا الاعتبارات اللاهوتية التي ترى الدين تجليا لفضل الله على خلقه بالهداية، بينما يحرص الباحث الديني الغربي على التعامل مع الدين من منطلق كونه ظاهرة متكررة من الظواهر الإنسانية التي تخضع للتفسير.
ويبدو أن النظريات المقترحة لتفسير نشأة “الظاهرة الدينية” نظريات اختزالية بالمجمل، فهي تحاول أن تستخلص من الظواهر الدينية محددات عامة تفسر بها الدين على نحو عام، دون أن تلتفت إلى خصوصية دين بعينه؛ في ذاته أو في ظروفه التاريخية والاجتماعية.
وقد أوضحنا في مقال “الدين والتدين” أهم النظريات الغربية التي تحاول تفسير الظاهرة الدينية، وتبين لنا أنها تنطلق جميعا من قاعدة علمانية تشيئ الإنسان والوجود، لكن هناك من يرى أن الدين فطرة ونزعة إنسانية، برزت بأشكال متعددة من التدين، ويميل أصحاب هذه النظرية غالبا بأن الديانة الأولى للإنسان كانت التوحيد وليست التعدد، وهذا ما تقره الأديان السماوية.
ومن الملاحظ في دراستنا للنظريات اللادينية أن أصحابها يميلون إلى الاعتقاد ببراءة القدماء، وافتراض أنهم كانوا يبحثون عن الحقيقة فلم يجدوها سوى في الأساطير لإشباع النهم الغريزي إلى المعرفة وتقديم أجوبة على الأسئلة الوجودية، ولكن الذي وضع هذه الأجوبة ليس هو الإنسان الذي نتحدث عنه، بل هو شخص أو شيطان أو مجموعة قليلة من الأشخاص أو الشياطين. فوضعُ الأساطير يشبه كتابة أي عمل أدبي معاصر، أي هو عمل فردي اختياري وليس قرارا تم اتخاذه في مؤتمر شعبي أو عبر صناديق الاقتراع، فهناك من تعمد وضع تلك القصص الخرافية التي تتضمن تفاصيل وأحداثا عن الخلق وتصارع الآلهة وتناسخ الأرواح، ولم يكن لديه أي دليل على أن العالم الماورائي قد حدثت فيه كل تلك التفاصيل الغيبية التي لا تقتصر على التأويلات الاحتمالية لظواهر الطبيعة أو على رؤى تخيلية لكائنات ما ورائية تفسر ما لا يستطيع فهمه، بل كان واضع الأساطير يقدم ملاحم أدبية (شعرية أو مسرحية) مفصلة تتضمن أحداثا وحوارات وقرارات وهو يعلم أنها لم تحدث.
قد يصدق افتراض البراءة على العوام الذين اضطروا لاتباع الكهنة والسحرة والشامانات عندما لم يجدوا خيارا آخر لتحصيل المعرفة والأجوبة على الأسئلة، لكن هذا لا يعني أن الأساطير وُضعت لتقديم الأجوبة المحيرة للإنسان القديم؛ بل ربما لتضليل العوام من قبل النخبة المسيطرة.
جيمس فريزر
المناهج الحديثة لمقارنة الأديان في بداية العصر الأوروبي الحديث، اتسم النشاط في حقل “علم الأديان” بمحاولات جمع المادة العلمية التي يمكن الحصول عليها من الأديان المختلفة والاجتهاد في فهمها بمساعدة علم اللغات وعلم الأساطير، وسرعان ما تلقف الباحثون المنهج التاريخي الذي يحاول تتبع مسيرة الأديان تاريخيا، وارتبط ذلك بالمنظور التطوري الذي اكتسح جميع فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية بعد أن أخرج من مجاله الطبيعي (البيولوجي)، فبات يُنظر للأديان على أنها حلقة في التطور الطبيعي للحياة الإنسانية، وأصبح الهدف هو دراسة “نشأة الأديان”، وذلك بالاستعانة بعلوم اللغة والآثار والحفريات وعلم الإنسان.
ظهرت في الأفق أيضا علوم النفس والاجتماع لتساعد على إيجاد إجابات “علمية” للأسئلة المتعلقة بنشأة الدين، فانصرف البحث نحو الأديان البدائية والمظاهر السحرية والخرافية، وكانت حصيلة كل ذلك ظهور نظريات “تايلور” و”فريزر” و”سبنسر” و”دوركايم” وغيرهم التي أصبحت اليوم على لسان كل متحدث بدون سؤال عن سندها العلمي وقوامها العقلي وبراهينها العلمية.
اعتمد علماء مقارنة الأديان على رصد تأثير دين في دين آخر من خلال التشابه والأسبقية، الأمر الذي تعرض لانتقادات كثيرة، فالتشابه بين الأديان قد يعود إلى تطابق الاستعداد لدى المتدينين وتماثل البيئة ومراحل نمو الأفكار الدينية بين شعبين في منطقتين نائيتين دون أي تواصل بينهما، وقد رأى أستاذ الأديان في معهد فرنسا جورج أدوميزيل أن تشابه أسماء الآلهة في اللغات الهندية-الأوروبية ليس دليلا مقنعا على أنها نابعة من أصل مشترك، لذا اهتم بالبحث عن أصل اجتماعي يفسر فيه نشوء فكرة الثالوث الإلهي لدى كل من الرومان والهنود.
وفي رأينا، قد يكون التأثير صحيحا عندما يتعلق التشابه بشعائر وعقائد يمكن تفسيرها بعوامل طبيعية واجتماعية وغريزية، لكن التطابق أو التشابه بين بعض الأديان في التفاصيل الدقيقة والكثيرة يجعل المصادفة أمرا مستبعدا، وربما مستحيلا، فحتى في حال عدم ثبوت اتصال أمتين متباعدتين عن بعضهما، فإن هذا لا ينفي أن يكون مصدر الأفكار الذي تتلقى منهما هاتين الأمتين واحدا، سواء كان هذا المصدر هو الإله (الوحي) أو الشياطين.
على الرغم من الاكتشافات “العلمية” الغزيرة في أبحاث الأديان خلال القرن التاسع عشر فقد بقيت الأديان غير مفهومة، ما أشعر بعض العلماء بحاجة ملحة إلى منهج جديد يسمح للمتدين بأن يعبر عن نفسه وعن عقيدته بحرية، ويترك الظواهر الدينية تتحدث بنفسها، لذا نادى بعض العلماء في هولندا والبلاد الإسكندنافية بتطبيق “المنهج الظاهراتي” (الفينومينولوجي) في دراسة الدين، وبدأ ذلك بعد الحرب العالمية الأولى.
حدد فان ليون آلية عمل المنهج الظاهراتي للتوصل إلى فهم الدين عبر خمس مراحل، ففي الأولى يتم رصد الظواهر الدينية وتصنيفها لتسهيل تتبعها؛ مثل وضعها ضمن خانة “الأساطير” و”القرابين” وهكذا، لكن هذا لا يخلو من مغالطة تحويل الملاحظات إلى نظريات بشكل متسرع. ولتجنب التسرع يسعى الباحث في المرحلة الثانية لمعايشة الظاهرة وتجربتها بطريقة اختيارية ومنهجية لا بطريقة قهرية ولا شعورية. وفي المرحلة الثالثة يحاول الظاهراتي التجرد من كل أفكار سابقة ويدرس الظاهرة، وفي المرحلة الرابعة يدرك حقائقها بوضوح، ثم تأتي المرحلة الأخيرة عندما يواجه الظاهراتي الحقيقة التي تجلت له ويتحقق من فهمه لها.
يدرس الظاهراتيون الإسلام من خلال دراسة الطقوس التي تمارسها بعض المجتمعات المسلمة مما يؤدي إلى الخلط بين الدين الأصلي والعادات والبدع (wikimedia)
والظاهراتي لا يهتم بالتطورات التاريخية للدين ونشأة الأديان، فهدفه الأساسي تحرير نفسه من كل منطلق غير ظاهراتي والبحث عن الفهم الدقيق للظاهرة الدينية سعيا وراء معرفة حقائقها، دون التقيد بأية نظرية سيكولوجية أو ميتافيزيقية أو لاهوتية أو فلسفية.
والحقيقة أن هذه المشاركة في التجربة ستظل ادعاءً غير واقعي، فالنقاد يتساءلون عما إذا كان من الممكن أن يعتنق الإنسان الظاهراتي الإسلام حقا ليدرس الإسلام، فحتى إذا صار مسلما فمن الصعب الاقتناع بأن هذا “الاعتناق الوظيفي” للدين سيوفر له التجربة الحقيقة التي يريدها. ويضاف إلى ما سبق أن تعريف المنهج الظاهراتي مازال محل جدل بين الباحثين منذ ظهوره على يد الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل عام 1913، لذا تقول أستاذة الأديان في جامعة “ليدز” أورسولا كينغ إن “مفهوم الظاهراتية يتعدد بعدد الظاهراتيين أنفسهم”.
ولعل أخطر ما يشوب نتائج المنهج الظاهراتي من نقص في عين النقاد هو أنه يعجز عن فهم الأديان على حقيقتها، بل يكتفي بدراسة ظواهرها فيخلط بين سلوك المنتمين لدين معين وبين الدين نفسه. وعندما يتعلق الأمر بدراسة دين الإسلام على سبيل المثال، لا يستطيع الباحث الظاهراتي الغربي أن يفرق بين السنة والبدعة، ولا بين الوحي الإسلامي الثابت والآراء الدخيلة عليه، وهذا الدمج نراه كثيرا في أعمال المستشرقين، ومن أمثلته الحديثة مؤلفات الألمانية آنا ماري شميل (توفيت عام 2003)، مع أنها تزعم أن منهجها “يحاول النفاذ إلى قلب الدين من خلال دراسة الظواهر أولا”.
في كتابها “الكشف عن آيات الله: دراسة ظاهراتية للإسلام” الصادر عام 1994، نجد أن شيمل بذلت جهدا هائلا في البحث عن ظواهر الإسلام ودراستها، بما يشمل الشعائر والآراء والأذكار والعادات والتقاليد والمقدسات الزمانية والمكانية لبعض المجتمعات المسلمة، واعتبرت أن هذه الظواهر جميعا تعبر عن الإسلام نفسه من خلال المعاني والحقائق التي تنبئ عنها، فعلى سبيل المثال بحثت في الفصل الأول عن المكانة الخاصة في الثقافة الإسلامية لبعض الحيوانات والألوان وأشياء أخرى كالماء والأشجار والنور، وفي الفصل الثاني تتعرض لما أسمته بقدسية المكان والزمان والعدد، فحاولت مثلا حصر الأعداد التي تحتل مكانة معينة فظهر لها أن جميع الأعداد من 1 إلى 10 لها مكانة ما، إضافة إلى الأعداد 12 و14 و17 و18 و19 و40 و72 و73 و99. وينتهي هذا الفصل دون توضيح لما وراء ذلك، بل دون تمييز بين أصالة بعض تلك الأعداد في الإسلام وبدعيتها، فالمنهج يقتضي دراسة جميع الظواهر ثم اعتبارها جزءا من حقيقة الإسلام ذاته، مع أن المسلم العادي يعلم أن كثيرا من تلك الظواهر لا تمس دينه بشيء، بل إن بعضها تسلل إلى الإسلام من عادات وخرافات معادية له.
ختاما، نحاول في هذا الموقع أن نستفيد في دراستنا للأديان والمذاهب والتيارات الفلسفية من المناهج الوصفية والأنثروبولوجية والظاهراتية والكلامية معا، ونقر -كما فعل البيروني- بأننا نسعى إلى اكتشاف الحق واعتناقه وبيانه للناس، كما نؤمن بأن الاكتفاء بالحجج الكلامية لا يجدي في عصر الانفتاح وثورة المعلومات والاتصالات، ولا نزعم في الوقت نفسه بأن مقالاتنا المحدودة بحجم معين كافية لاستيعاب مواضيعها، إلا أنها قد تكون بمادتها المكثفة مدخلا وافيا للفهم واتخاذ الأحكام الموضوعية في سبيل التعرف على الحق.
أهم المراجع فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.
د. دين محمد محمد ميرا صاحب، بحث بعنوان “الاتجاه الظاهراتي في دراسة الأديان في الغرب: رؤية نقدية”، مجلة الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام أباد، العدد السادس، 1998.
عبد الرزاق حاشي، دراسة بعنوان “علم مقارنة الأديان بين سؤالي المفهوم والإمكان: دراسة تحليليّة مقارنة”، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد 67، 2012.
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2017/08/في-الدين-e1506579617226.jpg?fit=1200%2C429&ssl=14291200أحمد دعدوشhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngأحمد دعدوش2017-08-21 22:34:512020-12-24 00:47:08البحث في الدين
سنستعرض في هذا المقال قصة بدء وجود الإنسان، من خلال روايتين متوازيتين هما الوحي القرآني والنظريات اللادينية، وسنؤجل استعراض روايات أخرى باطنية لتأخذ حيزا أكبر في مقالات مستقلة. كما سنتحدث عن نشأة الدين من منظور الروايتين، فرواية الوحي تؤكد أن الدين ملازم لخلق الإنسان الأول، بينما تبحث النظريات اللادينية في أدلة الأحافير والرسوم والتماثيل الأولى وتضع التفسيرات الاحتمالية لاعتقادها المسبق بأن العلم لا يؤمن سوى بما يراه، ما يعني استبعادها لمفهوم الوحي من الأساس. وسنتوقف في مقالنا هذا عند حدود بدء التاريخ البشري مع ظهور الكتابة، وهي المرحلة التي سنتعرض لبعض تفاصيلها في مقال الوثنية.
بداية واحدة وروايات متعددة يمكن القول إن هناك ثلاث روايات رئيسة لقصة الوجود، ومن خلالها يتم تصنيف العديد من التيارات والتوجهات التي تحكم رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، ومن ثم تصوغ معتقداتنا الوجودية، ونلخص هذه الروايات بما يلي:
1- الرواية العلمية، ونحن نرى أن هذه التسمية بحد ذاتها ترجمة خاطئة لمصطلح science اللاتيني الذي يُقصد به العلم المادي الخاضع لشروط التجربة، أما كلمة “العلم” فهي أوسع من قيود التجربة وحدود المادة. ويبحث أصحاب هذه الرؤية في الوجود المادي من خلال المعطيات التجريبية التي يُفترض أن تقترب قدر المستطاع من النزاهة الموضوعية والتجرد عن الذات، ولعل المشكلة الأبرز لدى هذه الرواية هي افتراض أصحابها المسبق بأن العالم محصور أصلا بالمادة وحدها، ومن ثم استبعاد ما هو غير مادي (الميتافيزيقيا) من دائرة الوجود ذاتها فضلا عن طردها من دائرة البحث، وهذا افتراض فلسفي منحاز لا يدعمه دليل علمي (تجريبي). ومع أنه يحق للعالم التجريبي إخضاع الكائنات الحية وكافة الموجودات المادية للتجربة بحثا عن أصولها وقصة نشوئها و”تطورها” (إن وُجد التطور)، فإن الافتراض بأن العالِم التجريبي قادر على تقديم أجوبة على الأسئلة الوجودية هو مجازفة غير مضمونة، لأن معطيات العلم التجريبي لا تسمح أصلا بالتعرض لما هو خارج عن دائرة الحس، ما يعني أن الأجوبة ستكون مادية حصرا، أما الاعتقاد بأن تلك الأجوبة هي وحدها الصحيحة فهو تحكّم مسبق وغير منطقي. ومنذ بداية العصر الحديث يُقدِم الكثير من العلماء التجريبيين على هذه المجازفة دون التفات إلى تناقضها المنطقي، لكن آخرين يقدمون نتائج أبحاثهم مشفوعة بنقاش فلسفي، مع أن لجوء العالِم التجريبي إلى الفلسفة لا يخرجه من ورطته بل يعقّدها، فهو يسمح لنفسه بدعم رؤيته “غير العلمية” برأي فلسفي بينما يرد على منتقديه في الوقت نفسه بأنه رجل علم وليس من شأنه افتراض وجود عوالم غيبية أصلا، وكأن عجز أدواته عن الخوض فيما هو خارج عن تخصصه يسمح له بتخطئة الرأي المنبثق عن ذلك العالَم الخارج عن تخصصه.
رسم تخيلي ألماني يعود إلى عام 1888 لشخص يحاول اختراق عالم المادة واكتشاف ما وراء الطبيعة
2- الرواية الفلسفية: ونقصد بها كل ما يستند إلى الرأي، دون أن يكون مدعوما بتجربة علمية ولا بوحي سماوي. وقد تكون هذه الرواية وسوسة من عالم الشياطين (أو آلهة الشر والكائنات الظلامية كما يفترض البعض) لتضليل البشر، أو أسطورة خرافية صاغها خيال أديب مبدع أو كاهن دجال، أو رواية زعم أحد المتصوفة الروحانيين أنه تلقاها من مصدر مفارق عن طريق الكشف (العرفان) والإلهام، أو قد تكون محاولة جادة من قبل فيلسوف لتقديم أجوبة منطقية على الأسئلة الوجودية بما يتوافق مع العقل والحس. وحتى في حال افتراضنا أن واضع هذه الفلسفة أو الأسطورة كان صادق النية؛ فإن المشكلة تكمن في أن سقف العقل البشري محدود أصلا بما هو دون العوالم المفارقة التي يبحث فيها، ما يعني أن نتائج البحث لن تبلغ اليقين لاستحالة التحقق، كما أن افتراض التلقي عن طريق الكشف مشفوع بنظريات فلسفية مسبقة، فنتائج هذا البحث لا يمكن أيضا التحقق من صحتها إلا بتجربة شخصية ما يبقيها في دائرة الذاتية.
3- رواية الوحي: ونقصد بها الوحي الصادق الصادر عن الإله الواحد الحق، وهي رواية لا تتناقض ابتداءً مع معطيات التجربة وقواعد العقل، ويمكن ثانيا التحقق من صحتها من خلال التجربة والعقل، وطالما أن صحتها ثبتت بهذين الشرطين فمن المنطقي التصديق أيضا بما ينص عليه ذاك الوحي من أنه السبيل الوحيد المؤدي إلى الحقيقة والخلاص، وسنؤجل في رحلتنا هذه التحقق من صحة هذه الرواية إلى المراحل الأخيرة.
ولن يتسع هذا المقال لاستعراض الروايات الثلاث بتفاصيلها المتشعبة، فسنعرض أهم ما فيها ضمن المقالات اللاحقة، حيث يقدم مقال الغنوصية الرؤية الفلسفية الباطنية للخلق، كما تتشابه قصة الخلق لدى الكتب المقدسة لدى اليهود والنصارى (المسيحيين) مع ما ورد في القرآن الكريم (كتاب المسلمين المقدس)، وسنخصص مقالا منفردا لكل من اليهودية والمسيحية ونستعرض فيهما قصة الخلق.
بناء على كل ما سبق، سنعرض في هذا المقال قصتي ظهور الإنسان وظهور الدين، وسيكون عرضنا لكل منهما حسب روايتين متوازيتين، هما رواية العلم الحديث (وما يوافقه من الفلسفة المادية) ورواية الوحي.
أولاً: قصة الإنسان
الرواية الأولى: حسب العلم الحديث والفلسفة المادية مع أن الإلحاد (جحود الخالق أو المصدر المفارق للكون) ليس نزعة حديثة، إلا أنه لم يحظ بالانتشار والتأصل إلا في العصر الحديث، وسنتعرض لارتباط هذه النزعة بسقوط قدسية الدين المسيحي وبشيوع العلم التجريبي كمصدر للحقيقة في مقال العلمانية، وما يهمنا هنا هو ظهور نظرية النشوء والارتقاء والتطور مع نشر تشارلز داروين كتاب “أصل الأنواع” عام 1859، فمع أن النظرية لا تتعرض للخلق نفسه، إلا أنها قدمت للمرة الأولى مستندا “علميا” يمكن للملحد أن يحاجج به للتخلي عن الإيمان بوجود خالق، بينما كان الملحد قبل ذلك مضطرا للجوء إلى الأفكار الغنوصية وتبرير وجود الكون بمصدر ما، الأمر الذي جعل الفلسفة والعلم والخرافة تتقاطع كثيرا في هذه الجزئية.
تشارلز داروين
وبعد داروين، أصبحت علوم التاريخ والاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) والإثنولوجيا (علم الأعراق) وغيرها تستند إلى مسلّمة (قاعدة) مفادها أن الإنسان تطور عن أسلاف غير عاقلة و”بدائية”، كما أصبح من مسلّمات الوسط العلمي أن أي رفض لنظرية التطور يعني بالضرورة اللجوء إلى نظرية الخلق (والتي باتت تسمى بالتصميم الذكي)، وذلك يفضي بحسب رأيهم إلى التخلي عن العلم والركون إلى الإيمان الديني، وهو أمر يرفضه الكثير من العلماء وغير المتخصصين في الغرب على السواء لأسباب تبدو لنا أنها نفسية.
وبحسب مخرجات نظرية التطور، تعود بداية قصة البشر إلى مخلوق بدائي عاش قبل 2.8 مليون سنة في شرق أفريقيا، وقد سُمي بالإنسان الماهر “هومو هابيليس”، ويُعتقد أنه تطور في سلسلة متصلة كان آخرها ظهور الإنسان العاقل “هومو سابينز” الذي يشبهنا قبل 200 ألف سنة.
ولن نخوض هنا في مناقشة نظرية التطور التي تتعرض منذ ظهورها لانتقادات حادة، ولا لمصداقية افتراض أن البقايا العظمية المكتشفة لتلك المخلوقات هي بالفعل تعود لأسلاف البشر، فالرسوم التي يقدمها العلماء لتخيل شكل الكائنات التي تعود لبعض العظام المكتشفة تتنوع بين خيارات كثيرة، كما أن بعضها يمكن أن يكون عائدا إلى كائن بشري يشبهنا تماما دون الحجة لافتراض أنه كان يشبه القردة ومكسوا بالشعر كما يرسمه التطوريون، فهذه التصورات مازالت مجرد افتراضات لتقديم أجوبة علمية على أصل الإنسان مع اتخاذ قرار مسبق بأنه لم يُخلق على هيئة كاملة دفعة واحدة ثم توالد أبناؤه من بعده [انظر مقال “وجود الله“].
ناشط أمريكي أراد أن يثبت للمتخصصين في علوم الأحياء (البيولوجيا) أن اقتناعهم بنظرية التطور الداروينية ليس قائما على أدلة علمية بقدر استناده إلى “الإيمان”، وتمكن من إحراجهم خلال 12 دقيقة فقط.
حجر عُثر عليه في كهف بولومبُس بجنوب أفريقيا (Chris. S. Henshilwood)
هذا على صعيد بقايا الهياكل العظمية، أما الآثار البشرية فيُعتقد أن أقدم ما تم اكتشافه منها حتى اليوم هو كتلتان حجريتان نُقشت عليهما خطوط هندسية، وقد عُثر عليهما في كهف بولومبُس بجنوب أفريقيا، ويعتقد أن عمرهما 77 ألف سنة (كما سيأتي لاحقاً)، مع أنه لا يمكن الجزم بصحة هذا التقدير.
وتواجه دراسة الأحافير وبقايا الكائنات الحية، وكذلك دراسة آثار البشر المرسومة والمنحوتة، صعوبات جمة يغفل عنها غير المتخصيين، فقياس عمرها يعتمد أساسا على اختبار الكربون المشع، ويعتقد الكثيرون أن هذا القياس يعطي نتائج دقيقة، ولا يدور في خلد القارئ غير المتخصص أن تلك النتائج المنشورة في المجلات العلمية المتخصصة عن أعمار الديناصورات وما يسمى بأسلاف البشر ليست دقيقة، لكن الحقيقية هي أن هناك أبحاثا كثيرة تؤكد أن قياس المواد المشعة في بقايا الكائنات الحية يختلط سهوا أو عمدا بقياس المادة المشعة للصخور والمعادن التي تحجرت فيها تلك الكائنات، فيصبح من الصعب الفصل بين عمر الديناصور وعمر الصخرة التي تحجرت عظامه فيها.
هناك أبحاث تم تقديمها على مدى عقود للتشكيك في الفكرة الشائعة عالميا عن أن الديناصورات انقرضت قبل عشرات ملايين السنين وأن الإنسان العاقل تطور لاحقا وكان ظهوره الأول قبل مئتي ألف سنة، لكن الجيولوجي الأمريكي “مايكل كريمو” ظهر في عدة لقاءات تلفزيونية خلال أربعينيات القرن الماضي متحدثا عن اكتشافاته التي تثبت العكس، وعن القمع الفكري الذي تعرض له من خلال الوسط الأكاديمي الذي يرفض أي مساس بنظرية داروين التطورية ومسلماتها.
ومنذ مطلع التسعينيات، حاولت الجيولوجية الأمريكية ماري شفايتزر جاهدة لإقناع العلماء بنتائج أبحاثها التي تثبت أن عظام الديناصورات التي وجدتها في حالة جيدة (ولاتزال تتضمن مواد عضوية غير متحللة) لا يمكن أن تعود إلى 65 مليون سنة، لكن المجتمع العلمي لم يبدأ بتقبل أفكارها إلا في السنوات الأخيرة، مثل مجلة “نيتشر” العلمية التي كتبت عن أبحاثها مقالا في أكتوبر 2012، وفي العام نفسه قدم الباحثان ماري كلير فان أوسترويتش وجان دي بونتشارا بحثا في مؤتمر بسينغافورة يؤكد أن بعض عظام الديناصورات لا يزيد عمرها عن 40 ألف سنة فقط، فسارع أعضاء المؤتمر إلى رفض البحث بحجة تعارضه مع المعطيات المتفق عليها في المجتمع العلمي.
إذن لم يصل العلم حتى الآن إلى جواب حاسم بشأن تاريخ أسلافنا الأوائل، وبغض النظر عن مناقشة مبدأ التطور نفسه، فإن مجرد افتراض أن أول البشر عاش قبل 200 ألف سنة هو قول غير مؤكد.
في هذا الرابط يقدم باحثون مسيحيون أدلة تاريخية كثيرة تدعم حجتهم في أن الإنسان والديناصورات عاشوا في فترة واحدة، ومع أننا لا نقدمها كدليل قطعي إلا أنها تكفي للطعن في مصداقية النظريات الشائعة في الوسط العلمي.
الرواية الثانية: حسب الوحي سنؤجل الحديث عن مصداقية الوحي والتحقق من نسبته إلى الله تعالى لنعرضه مفصلاً في مقالات لاحقة، حيث سنكتشف في مقالي اليهودية والمسيحية أن الكتب التي ينسبها أتباع تلك الديانا إلى الوحي قد نالها التحريف، ثم سندرس في مقال تفصيلي آخر صحة نسبة الوحي القرآني إلى الله. إلا أننا سنضطر في هذا المقال إلى عرض رواية الوحي القرآني للاطلاع عليها، وحتى قبل أن نخوض في أدلة صحة القرآن نفسه.
لا يكشف القرآن عن تفاصيل كثيرة بشأن المرحلة السابقة لوجود الإنسان، فما يذكره هو أن الله خاطب الملائكة بقوله {إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 71، 72]، وفي سورة أخرى نقرأ أن الله أخبرهم أن البشر سيكون خليفة، وهناك خلاف بين المفسرين بين من قال إن البشر خليفة لله في الأرض ومن قال إنه يعني أن الناس سيخلف بعضهم بعضا، وقد أجابت الملائكة بقولها {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، واختلف المفسرون أيضا في سبب تنبؤ الملائكة بذلك، ولعل أهم الأقوال أنهم علموا ذلك بإعلام الله تعالى لهم وإن كان ذلك لم يذكر في السياق، أو أنهم قاسوه على أحوال الجن الذين ربما أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء قبل وجود آدم.
وعندما نُفخت الروح في جسد آدم، ابتدأت حياته بأن منحه الله العلم، {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]، ثم تحدى الملائكة ليظهر أن لدى آدم من العلم ما لا تعرفه الملائكة.
وامتثلت الملائكة للأمر الإلهي بالسجود له تكريما، فمع أن الملائكة مخلوقات نورانية وهي لا تعصي الله أبدا، إلا أن آدم وجنسه كُرّموا من حيث امتلاكهم لحرية الإرادة والاختيار التي لا تملكها الملائكة.
وامتنع إبليس عن السجود تكبرا، وقال مخاطبا الله بشيء من التحدي {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}، فجاء الرد {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13]، وقد طلب إبليس من الله أن يمهله ويطيل عمره إلى يوم القيامة، فكان له ذلك، وتعهد إبليس بأن يصب جام حقده وحسده على آدم وذريته ليغويهم ويحرفهم عن سبيل الحق، كما وعد بأن يسخر شياطين معه في هذه المهمة.
وفي سورة الأعراف: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} [الأعراف: 172، 173]، وبحسب كثير من المفسرين فإن هاتين الآيتين تلخصان مبدأ التكليف البشري، حيث خلق الله أرواح جميع البشر منذ خلق آدم، ثم أنطقهم الله وسألهم إن كانوا يقرون بأنه ربهم فشهدوا بذلك جميعا، ثم نُفخت تلك الأرواح في أجسادها بحسب الترتيب المقدر لها من عمر البشرية، لتدخل مرحلة الاختبار في الحياة الدنيا وتعيش بما يتوافق مع ما شهدت به منذ البداية، وهو الإيمان الذي يتوافق مع فطرتها البديهية، ثم ستُسأل يوم القيامة عن امتثالها لما أقرت به، وعندئذ سيسترجع البشر تلك الشهادة التي شهدوا بها منذ عصر أبيهم آدم، وسيعتذرون بالغفلة وبتقليد الآباء الذين ضلوا قبلهم.
ويؤكد هذا التفسير قول الله في سورة أخرى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما} [الأحزاب: 72، 73]. وثمة روايات كثيرة لتفسير هاتين الآيتين، وتكاد تتفق جميعها مع ما روي عن الصحابي ابن عباس الذي قال إن الأمانة هي الفرائض (أي التكليف)، فقبل أن يُكلف الله آدم وذريته بالعبادة ويمتحنهم بالدنيا عرض هذه المسؤولية على الموجودات المادية، فخشيت تلك المخلوقات من عاقبة ذلك وطلبت من ربها أن يعفيها، ثم عُرضت المسؤولية على آدم وبنيه، والأرجح أن يكون ذلك قد عُرض على كل إنسان بشكل فردي، فقبلوا جميعا دخول هذه المجازفة، مع علمهم بأن الفشل فيها يقتضي العقوبة، فجاء التعليق الإلهي بأن الإنسان كان ظلوما لعدم وفائه بالأمانة على الوجه الأمثل، وكان جهولا لعدم تقديره فداحة العاقبة الناجمة عن تفريطه بالأمانة.
ليست هناك رواية مؤكدة عن طريقة خلق حواء التي أصبحت زوجة آدم، لكن القرآن يوضح أنها خُلقت من جسده فيقول {ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} [النساء: 1]، وهناك خلاف بشأن الجنة التي قضى فيها آدم وحواء ردحا من الزمن، فالبعض يرى أنها الجنة التي سيؤول إليها المؤمنون بعد البعث، بينما يفسر آخرون النصوص التي تتحدث عنها بأنها كانت تصف جنة أرضية، وأن الهبوط منها كان هبوطا معنويا بمعنى الخروج، مثل الآية التي تقول لبني إسرائيل {اهبطوا مصرا}.
سواء كانت الجنة أرضية أم في مكان غيبي، فالذي يهمنا هنا هو أن الشيطان نجح في تنفيذ وعده من محاولته الأولى بإغواء آدم، فأقنعه مع زوجته بالأكل من الشجرة التي حرمها الله عليه، وكانت عاقبة ذلك خروجهما من الجنة لتبدأ بذلك قصة البشرية والتكليف والامتحان في الدنيا، مع وجود الشياطين التي تبذل جهدها لإغواء البشر.
ثانياً: قصة الدين
الرواية الأولى: حسب العلم الحديث والفلسفة المادية أوضحنا في مقال “البحث عن الدين” أن مناهج علوم الأديان الحديثة تنطلق من مبدأ لاديني، حتى أصبح هذا المبدأ رديفا لمصطلح العلم نفسه، فلا يُعد البحث علميا -في الأوساط العلمية اليوم- إلا باستبعاده لأي تفسير يؤدي إلى الاعتقاد بوجود إله أو جهة غيبية. إلا أن هذا المبدأ تعرض للكثير من النقد، ما سمح في العقود الأخيرة بظهور تيار علمي يؤمن بنظرية “التصميم الذكي”، والتي تقدم نتائج علمية تؤكد أن هناك “مصمما ذكيا” وراء العالم المادي دون التعرض لماهية هذا المصمم تجنبا لإقحام العلم التجريبي في قضايا دينية، لكن تيار التطور اللاديني ما زالت له الغلبة في الأوساط العلمية غربيا وعالميا، وهو يشكل جماعة ضغط (لوبي) واسعة النفوذ ولديها القدرة على التأثير في العلوم الاجتماعية، والدينية على وجه الخصوص [انظر مقال “وجود الله“].
حجارة مدببة يعتقد العلماء أنها أنصال نحتها “نياندرتال” في أسبانيا قبل 350 ألف سنة
ووفقا للرواية التي يقدمها تيار التطور الدارويني، والتي تُدرس في المدارس والجامعات وتقوم عليها أفلام هوليود ووثائقيات القنوات العلمية وكافة الموسوعات الكبرى، فإن أولى السلالات البشرية في أفريقيا ظهرت قبل نحو مليوني سنة، حيث أُطلق اسم “هومو هيبيليس” (الإنسان الماهر) على كائن قيل إنه كان أقرب للقردة العليا إلا أنه قادر على تشكيل الأدوات الحجرية كالسكاكين، ثم قام هذا المخلوق منتصبا بعد نحو 100 ألف أو 200 ألف سنة واكتشف النار. ومع أنه ليس هناك أي دليل على أن ذلك الإنسان اكتشف النار بعد أن كان جاهلا بوجودها، فقد بنى الباحثون على هذه الفرضية غير المؤكدة فرضية أخرى وهي أن النار كان دافعا لظهور أولى علامات التدين والتفكير السحري والأسطوري نظرا لغموض النار وقدرته على بث الدفء وطبخ الطعام وطرد الوحوش، وافترض الباحثون أن النار بات مقدسا.
جمجمة يقال إنها لكائن نياندرتال اكتشف في فرنسا (wikimedia/Luna04)
لم تترك تلك السلالات المفترضة سوى بقايا النار المحترقة والحجارة المسننة على هيئة سكاكين وأدوات بدائية، لذا فكل ما يقال عن معتقداتها وطريقة عيشها وما كانت تفكر به ليس سوى افتراضات.
افترض الباحثون أيضا أن “الإنسان المنتصب” بدأ النزوح نحو آسيا وأوروبا قبل 1.8 مليون سنة، وأنه تطور لاحقا إلى سلالة “نياندرتال” التي ظهرت قبل 350 ألف سنة، وأن هذا المخلوق كان يقدس الحيوانات بدليل العثور في كهوف جبال الألب على جماجم دببة مرتبة بطريقة خاصة ومحاطة بقطع من الحجارة، كما عُثر في أماكن أخرى على جماجم محفوظة لحيوانات الثور والماموث، فافترض الباحثون أنه كان يعبدها تقديسا لقدرات الحيوان الجسمية التي تفوق قدراته. ومن الواضح أيضا عدم وجود دليل على أنه كان يقدسها أو يعبدها، فربما كان يستخدم تلك العظام لأغراض أخرى تجميلية أو سحرية للتواصل مع الشياطين، أو لأغراض أخرى لا تخطر على بالنا اليوم.
تم العثور أيضا على مدافن لما يسمى بإنسان النياندرتال في فرنسا، حيث وُجد بجوار الهياكل العظمية آثار للنار ولحيوانات أخرى مدفونة معها ومقبض فأس حجرية، ووُضعت فرضيات تقول إن ذلك الإنسان كان يعتقد بأن الفأس ستحميه في حياته المستمرة بعد الموت وأن النار والحيوان كان لهما معنى روحي، وذلك دون وجود نص مكتوب أو شفهي يبرر هذا التفسير.
رأى آخرون أن وجود جماجم مكسورة لذلك الإنسان في إيطاليا وكرواتيا (وبعضها محروق)، يعني أنه كان يأكل أدمغة موتاه، ثم بُنيت على هذه الفرضية غير المؤكدة فرضيات التبرير الروحي بالقول إنه كان يعتقد بوجود روح في الدماغ وأنه يمكنه الحصول على قوتها بأكلها. علما بأنه ليس هناك دليل أصلا على وجود طقوس أكل الأدمغة فضلا عن التصديق بهذه التفسيرات.
جانب من رسوم كهف شوفيه
الرسوم الأولى منذ عام 1879 بدأ اكتشاف الآثار المرسومة بيد إنسان ما قبل التاريخ، وكانت البداية مع كهف ألتاميرا في أسبانيا، ثم اكتُشفت رسوم مشابهة في كهوف بفرنسا وشمال أفريقيا وقُدر عمرها بما بين 11 ألف و19 ألف سنة. ثم اكتُشف كهف لاسكو العملاق في فرنسا والذي تحتفظ جدرانه بنحو ألفي رسم لحيوانات وبشر وأعمال صيد وطبعات أيدي وقُدر عمرها بنحو 17 ألف سنة، أما كهف “شوفيه” في فرنسا المُكتشف عام 1994 فقُدر عمر رسومه الجدارية بنحو 32 ألف سنة.
وبحسب تقديرات علماء الآثار فإن أقدم أثر صُنع بيدٍ بشرية هو كتلتان حجريتان عُثر عليهما في كهف بولومبُس بجنوب أفريقيا، ونُقشت عليهما خطوط هندسية يُعتقد أن يبلغ عمرها حوالي 77 ألف سنة كما ذكرنا سابقا، وقد تم اكتشافهما عام 2002. أما إنسان النياندرتال فيفترض علماء التطور أنه انقرض قبل 24 ألف سنة فقط، وأن سلالتنا الحالية سادت المشهد بعده.
اجتهد علماء الآثار والأديان والأساطير في محاولة تفسير الرسوم الكهفية، إلا أنها جميعا ما زالت تخمينات مجردة عن أي دليل، فلا يوجد أي مبرر أصلا لافتراض أنها ذات دلالة دينية أو سحرية فضلا عن محاولة استخراج ما وراءها من معان شعائرية، فقد تكون للزينة والتمتع بالفن، بل ربما كان من يرسمها يسعى للتسلية لا أكثر، لكن بعض الباحثين –مثل جوزيف كامبل- ذهبوا إلى افتراض أن تكون تلك الكهوف بمثابة المعابد الأولى، ثم تابع باحثون آخرون -مثل فراس السواح وخزعل الماجدي من العرب- مسيرة وضع السيناريوهات التفسيرية، مثل افتراض تقديس الإنسان البدائي للحيوانات المرسومة على الجدران استحضارا لقوة العالم الحيواني الموازي، طمعا في الاتصال بعالم غيبي.
وضعيتان لتمثال “فينوس هول فلس”
التماثيل الأولى يقول المؤرخون إن الإنسان “البدائي” انتقل لاحقا من الرسم والتلوين إلى النحت والتجسيم، فظهرت “تماثيل فينوس الصغيرة”، حيث اكتُشفت خلال القرن العشرين في عدة مناطق أوروبية تماثيل أنثوية صغيرة متشابهة، وأطلق عليها اسم “فينوس” تشبيها لها بآلهة الحب اليونانية، بالرغم من عدم وجود دلائل تربط بين هذه التماثيل وبين أي بُعد أسطوري، ويقول الآثاريون إن أقدمها هو “فينوس هول فِلس” الذي اكتُشف في ألمانيا والمُقدر عمره بما بين 35 ألف و40 ألف سنة.
بعض هذه التماثيل كان منحوتا في جدران الكهوف مثل كهف لاوسيل في فرنسا، وحجمها يتراوح بين 3 سم و40 سم، لذا يُطلق عليها البعض اسم الدمى، وقد نُحتت على هيئة غريبة حيث ضُخمت أثداؤها وبطونها، فرجّح الباحثون أن الإنسان آنذاك كان يبجل وظائف الأمومة فسلط اهتمامه على أعضاء الخصوبة والحمل والإرضاع، في مقابل طمس ملامح الوجه. وفي مراحل لاحقة ظهرت دمى تحمل أشكالا أكثر غرابة، بوجوه أفعوانية وأجساد خنثوية تجمع بين الأثداء وأعضاء الرجل، ما يعني احتمال أن تكون لهذه التماثيل أغراض سحرية شيطانية، كما وُجدت تماثيل صغيرة للرجال ولكن بعدد أقل من للإناث ما دفع الباحثين للاعتقاد بأن القدماء قدسوا الأنثى قبل الذكر.
يستند الباحثون في ربط هذه الدمى بالعبادات الوثنية إلى التشابه بينها وبين تماثيل فينوس وشبيهاتها التي ظهرت بعد اختراع الكتابة (التاريخ)، فعلى سبيل المثال تتشابه دمية مكتشفة في تل المريبط بسورية (يقدر أنها تعود للألف الثامن قبل الميلاد) مع تماثيل الإلهة عشتار التي ظهرت بعد نشوء الكتابة، ما يعطي الباحث مبررا للاعتقاد بأن الدمى البدائية التي ضُخمت فيها الأثداء والعضو التناسلي كانت ترمز فعلا لتقديس الخصوبة مع ربطها بخصوبة الأرض. ومع ذلك، لا نملك دليلا مؤكدا على نوايا صانعي تلك الدمى قبل ظهور الكتابة، فربما كانت آلهة تُعبد، وربما كانت تُستخدم لأغراض سحرية بهدف إيذاء امرأة ما، بل يقترح البعض أنها لم تكن سوى تجسيد لدوافع المتعة الجنسية.
أنصاب ستونهنج في بريطانيا
المعابد الأولى يعتقد باحثون أن أولى المعابد ظهرت على هيئة كتل صخرية ضخمة أطلقوا عليها اسم “الأنصاب الميغاليثية” وهو مصطلح تم تأليفه بالأسبانية من مقطعين ويعني الأنصاب الحجرية الضخمة، وما زالت بقايا تلك الإنشاءات العملاقة في تركيا ومصر والشام وأوروبا الغربية والشمالية تذهل الباحثين أمام قدرة “البدائيين” على نصب كتل حجرية تزن 300 طن رأسيا ثم رفع كتل أفقية عليها بوزن 100 طن لكل منها.
وهناك عدة أشكال لبناء تلك الأنصاب، وقد اكتُشفت بالقرب من بعضها مدافن صخرية، ما دفع كثيرا من الباحثين للاعتقاد بأن “الديانة الميغاليثية” تتعلق بتقديس أرواح الموتى، حيث كانت منازل الفلاحين في العصر الحجري الحديث (النيوليت) متواضعة جدا ولا يكاد يُعثر لها على أثر، بينما نُصبت للأموات مدافن ومعابد بالصخور الضخمة التي ما زالت قائمة بعد قرون.
يُعد موقع “غوبكلي تيبي” في تركيا -الذي يضم 20 معبدا- أقدم المواقع الدينية المكتشفة حتى اليوم، ويعود تاريخ اكتشافه إلى عام 1994، أما تاريخ بنائه فيعود إلى ما قبل 12 ألف سنة تقريبا، أي إلى أواخر العصر الحجري الحديث، حيث يتوقع الألماني كلاوس شميدت الذي أشرف على التنقيبات في الموقع أنه كان أكبر موقع للعبادة والحج في العالم القديم، وأن القبائل كانت تقصده من أماكن بعيدة، ومازالت حجارته تحتفظ بنقوش تصوّر أشخاصا ونساءً عاريات وحيوانات أسطورية وبرية وحشرات وطيور.
وحسب النظريات التي تقول إن الإنسان كان يعتمد على الصيد وجني الثمار قبل أن يبدأ بالزراعة وتدجين القمح، فإن بناء “غوبكلي تيبي” تزامن مع هذه المرحلة الانتقالية التي شهدت تغيرا كبيرا في مناخ الأرض وانحسار الغابات والأنهار وانقراض أو انخفاض أعداد كثير من الحيوانات، وبعد أن كان الباحثون اللادينيون يفترضون أن الناس تعلّموا الزراعة أولا ثم انتقلوا من حياة البداوة إلى إنشاء مجتمعات حضارية فإن اكتشاف هذا الموقع دفع علماء آخرين إلى افتراض العكس، حيث كان يُعتقد أن المعابد لم تظهر إلا بعد تشكل المدن والحكومات والتفرغ لإنشاء المعابد، لكن الاكتشاف الأخيرة يؤكد أن الدين كان سابقا على ظهور الحضارة، وهو ما يلخصه شميدت بقوله “المعبد ظهر أولا، ثم ظهرت المدينة”.
اكتشاف معابد “غوبكلي تيبي” في تركيا دفع بعض الباحثين إلى إعادة النظر في أفكارهم عن الإنسان “البدائي”، حيث يبدو أن الناس كانوا يمتلكون الكثير من مقومات الرفاه والسعادة، وربما أكثر مما وفرته الحياة في المدن بعد نشوء الحضارة.
(gobeklitepe.info)
يُعتقد أن رموز الكتابة الأولى ظهرت للمرة الأولى في العراق قبل 8500 سنة، لكن التأريخ لم يبدأ إلا على يد السومريين قبل خمسة آلاف سنة تقريبا، حيث تركوا لنا أساطيرهم ورواياتهم مكتوبة ومفهومة، بينما لا يمكن فهم ما كانت عليه معتقدات من كان قبلهم سوى بالمقارنة والتأويل والتخمين.
ويرى باحثون أن ظهور الحضارة نفسها تزامن مع ظهور الكتابة والتأريخ، فالناس كانوا يعيشون قبل ذلك في قبائل، وبدون تنظيم لحدود الدول وسياسة الحكم، لذا لم ترتبط معابد ما قبل التاريخ بنظام حكم وثني مؤسسي قائم على التوافق بين الملك والكهنوت، وهو ما حدث عندما ظهرت الدول الحضرية للمرة الأولى في العراق كما يُخبرنا التاريخ المدون، لكن هذا لا يمنع نشوء حضارات سابقة دون أن تكتب تاريخها.
وسنبحث في مقال الوثنية نشوء هذا النمط من الدين المؤسسي الكهنوتي. ومع أنه لا يختلف عن وثنية ما قبل التاريخ من حيث كونه انحرافا عن الوحي، إلا أنه كان أكثر ارتباطا بالسلطة الحاكمة وأكثر رسوخا في المجتمع.
نقد المنهج المادي تستند جميع الأبحاث التي تعرضنا لنتائجها سابقا إلى مخرجات علم الأنثروبولوجيا، أي “علم الإنسان”، وهو مجال بحثي ظهر في العصر الحديث ويربط ما بين العلوم الاجتماعية وعلوم الحياة، والعلوم الإنسانية، أي أنه يستفيد من نتائج أبحاث التشريح القائمة أساسا على نظرية التطور، وكذلك من نتائج علمي الاجتماع والنفس، فهو يرصد سلوك الجماعات البشرية من خلال المنظور البيولوجي التطوري.
ويقوم هذا العلم منذ نشأته على البحث عن القبائل المعزولة في غابات أفريقيا والأمازون وأستراليا لدراستها، وافتراض أنها ما زالت تعيش وفق نمط حياتها الراكد منذ آلاف السنين، كما يقوم على دراسة الأحافير والنقوش والأساطير لرسم صورة عامة عن حياة القبائل “البدائية” قبل التاريخ. لكن هذا المنهج ما زال يتعرض لانتقادات منهجية كبيرة منذ نشأته، وأهمها ما يلي:
1- ليس هناك دليل ينفي إمكانية انحدار المجتمعات “البدائية” عن مجتمعات كانت أرقى سلوكا وأكثر تحضرا، وأن ما نراه اليوم من قبائل تعتاش على الصيد ليس سوى حالة انتكاس عن أسلاف متحضرين.
2- هناك الكثير من الباحثين الرواد في هذا العلم ممن أمضوا بضع سنوات في العيش مع تلك القبائل، ثم وضعوا مؤلفات تصف طريقة عيشهم وثقافتهم، وبنى آخرون عليها نظريات علمية ما زالت تُدرس في الجامعات، ويرى النقاد أن هذا لا يكفي لفهم طبيعة حياة البشرية كلها، وأنه تعميم مجحف.
3- تستند معظم الأبحاث في تفسيرها للسلوك والعادات الاجتماعية والتقاليد على أساس الأسبقية الزمنية، فما كان سابقا فهو الأصل، وما جاء لاحقا فلا بد –وفقا لهذا المنهج- أنه اقتبس عن الذي قبله، وهذا افتراض بلا دليل، كما أنه تجاهل لقدرة الإنسان على الفكر والإبداع حتى لو لم يكن لديه اتصال بمن سبقه. كما أن بعض التقاليد قد تتشابه في ظاهرها إلا أنها تختلف كثيرا في وظيفتها وأصلها.
4- من أهم الانتقادات التي باتت شائعة اليوم أن معيار التقدم والتخلف ليس بالبساطة التي يفترضها رواد هذا العلم، فالاكتشافات المتتالية تثبت أن القدماء تمتعوا بعلوم متقدمة للغاية، وأن أنماط الحياة نفسها لم تكن دائما على النحو “البدائي” المفترض، فقد تركوا لنا ما يثبت تمتعهم بحس ذوقي وتقدير عال للجمال والفنون والآداب.
لذا يقترح باحثون معاصرون إعادة النظر في مصطلح “البدائية” لصعوبة وضع تعريف علمي له، فالإنسان “البدائي” كان يفكر بنفس المنطق الذي يفكر به الحداثي، وإذا كانت بعض الشعوب القديمة قد آمنت بالأساطير لتفسير الظواهر الطبيعية فهناك شعوب قديمة أخرى لم تؤمن بها، كما أن معظم تلك الأساطير ما زالت حاضرة اليوم في عقول ملايين البشر، بل لا تكاد تخلو حياة الإنسان الغربي الحداثي من الاعتقاد ببعض الأساطير.
يقول المؤلف لويس ممفرود في كتابه “أسطورة الآلة” إن الأنثروبولوجيين ارتكبوا جريمة في حق إنسان ما قبل التاريخ، حيث اعتبروا أن الأشياء المادية من العظام والحجارة هي البرهان الوحيد الذي يمكن قبوله لفهم حياة الإنسان “البدائي”، فالشعائر الدينية واللغة والتنظيم الاجتماعي التي لم تترك أثرا ماديا كانت أهم ما أنتجه الإنسان آنذاك، ومع أن بعض القبائل الأسترالية على سبيل المثال لم تتمتع باختراعات تقنية متقدمة؛ إلا أن احتفالاتها الدينية منظمة جدا، وهي تملك لغة غنية للغاية.
الرواية الثانية: حسب التراث المنسوب للوحي والقرآن
مرحلة آدم وابنه شيث سنعرض لاحقاً في مقال “نبوة محمد” ما يؤكد حاجة الإنسان للاتصال بخالقه، كما سنتحدث عن أدلة صحة النبوة باعتبارها الوسيلة الوحيدة الموثوقة لهذا الاتصال، إلا أننا مضطرون في هذه المرحلة إلى الاكتفاء بالسرد التاريخي المبدئي لرواية الوحي (التي جاء بها النبي محمد).
يؤكد الوحي المحمدي أن آدم كان أول البشر وأول الأنبياء معا، ففي الحديث قال أحد الصحابة: يا رسول الله، أنبيّ كان آدم؟ قال: “نعم معلَّم مكلَّم”، وقد ورد هذا الحديث بعدة طرق وصححه الأرناؤوط والألباني. وفي حديث آخر قال أبو ذر: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال صلى الله عليه وسلم “المسجد الحرام”، قال ثم أي؟ قال “المسجد الأقصى”، قال كم كان بينهما؟ قال “أربعون سنة” [البخاري: 3366، ومسلم: 520]. ونستنتج من الحديث أن آدم بنى أول معبد لعبادة الإله الواحد منذ فجر البشرية، ثم بُني المسجد الأقصى في بيت المقدس بفلسطين، ولا ندري إن كان آدم هو الذي بناه أم أحد أبنائه.
وبالرغم من عدم ظهور الشرك في تلك المرحلة، فقد ارتكب أحد أول أبناء آدم الجريمة الأولى، عندما قتل قابيل أخاه هابيل بدافع الغيرة وفقا لما ورد في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، إلا أن الانحراف عن الدين نفسه لم يظهر إلا في مرحلة متأخرة.
وبحسب القصص الإسرائيلية، يُعتقد أن الله وهب آدم ابنه شيث عوضا عن هابيل القتيل، وأن شيث كان ثاني الأنبياء بعد أبيه، وليست في أيدينا اليوم تفاصيل إضافية عن حياة شيث، سواء من الوحي أو من الكتابات التاريخية. وتقول القصص التوراتية إن النبي إدريس (أخنوخ بالعبرية) جاء في الجيل الرابع من أحفاده، وسنبحث في مقال الغنوصية الأفكار الهرمسية التي نُسبت إلى إدريس (هرمس لدى بعض الحضارات)، بينما نستعرض في هذا المقال لاحقاً نبذة عن وجوده التاريخي.
وبما أن تلك المرحلة من حياة البشر لم تترك لنا شيئا مكتوبا عن تاريخها، كما لم تذكر لنا نصوص الوحي الإسلامي متى خُلق آدم وكم هي المدة التي تفصلنا عنه، فليست لدينا سوى نصوص قليلة جدا (من بين المكتشف حتى الآن) يمكن الاستئناس بها عن تاريخ تلك المرحلة السابقة للتاريخ، وأولها نص طيني يدعى “قائمة ملوك سومر”، قُسم فيه التاريخ السومري بالعراق إلى ما قبل الطوفان وما بعده.
قائمة ملوك سومر
يُعتقد أن “قائمة ملوك سومر” كُتبت في حوالي عام 2000 قبل الميلاد، وهي تقول إن أول ملوك البشرية هو “إلوليم” (ربما يكون آدم عليه السلام) الذي خرج من الجنة وأنشأ مدينة إريدو (تل أبو شهرين) في العراق بأمر من الإله إنكي، وبقي في الحكم 28 ألف و800 سنة، وتلاه سبعة ملوك كانت مدة حكم كل منهم تتراوح بين ما يقارب 43 ألف سنة ونحو 18 ألف سنة، ثم كان الطوفان الذي أهلك معظم البشر، وأصبحت أعمار الناس بعده أقصر بكثير، ثم سرعان ما نقصت أعمارهم خلال بضع سلالات حتى أصبح متوسط العمر نحو مئة سنة. [Sumer and the Sumerians, p. 24].
ويرى بعض المؤرخين أن كاتب النص أطال في أعمار ملوك ما قبل الطوفان إلى هذه الأرقام الضخمة لأنه لم يجد سوى ثمانية أسماء تملأ تلك الفترة، إلا أن النصوص اليهودية والمسيحية والإسلامية تؤكد على أي حال أن أعمار الناس في تلك الفترة كانت في حدود ألف عام، وقد أجرينا حسابا لمجموع مدة حكم ملوك هذه المرحلة (منذ حياة آدم وحتى بدء التاريخ المدوّن) فكانت النتيجة هي 241 ألف و200 سنة.
وإذا كان تأريخ “قائمة ملوك سومر” لقصة الإنسان منذ ما قبل التاريخ صحيحاً، فهذا يعني أن الإنسان لم يعش في مراحل بدائية متنقلا عبر أربعة عصور حجرية، تبدأ بالرعي والتقاط الثمار وتنتهي بتأسيس المدن والحضارات، بل كان آدم (أول البشر) هو مؤسس أولى الحضارات بتأسيسه لمدينة إريدو، ثم حدث الطوفان بعد عدة قرون ليعاد تأسيس الحضارة من جديد ويبدأ التاريخ مع ظهور الكتابة. لكن تصديق هذه الرواية سيظل مرهوناً بصحة ما جاء في تلك القائمة وصحة تأويلنا لمضمونها، وهما افتراضان لا يمكن الجزم بهما، كما أن تكذيب بعض ما جاء فيها -إن حدث- لا يعني بالضرورة أن كل ما فيها كذب محض.
من جهة أخرى، تؤمن طائفة المندائيين -التي يعيش أفرادها القلائل اليوم في العراق- أنها ما زالت تحتفظ بالكتب السماوية التي أنزلت على آدم وشيث وإدريس. وفي الوقت نفسه يقول الباحث العراقي خزعل الماجدي إن المندائيين هم ورثة الحضارة البشرية الأولى، فهم الذين أسسوا مدينة إريدو بعد الطوفان وقبل ظهور السومريين.
يؤمن المندائيون بأن كتابهم المقدس “الكنز العظيم” (كنزا ربّا) هو كلام الله ووصاياه الموحى بها إلى النبي آدم قبل نزوله إلى الأرض، كما يضم وصاياه إلى أنبياء آخرين، وهم شيتل بن آدم (شيث)، أنوش بن شيتل، نو (نوح)، سام بن نو (سام بن نوح)، دنانوخ (إدريس)، ويهيا يهانا (يحيى بن زكريا).
وبالجمع بين الروايات قد يصح القول (دون جزم) إن المندائيين كانوا من قوم آدم الذين أسسوا أولى المدن والحضارات (إريدو)، ومن بقي منهم بعد طوفان نوح أعادوا تأسيس مدينتهم نفسها لتصبح موطن الحضارة المعروفة في التاريخ المدون اليوم، ثم تفرعت عنهم بقية حضارات الرافدين.
ومن بين النصوص التي تشير إلى حضارات ضاربة في القدم قبل التاريخ برديّة تورين (نسبة إلى متحف تورين الإيطالي)، التي تشير باقتضاب إلى التاريخ الغابر للحضارة المصرية، فهي تتحدث عن أكثر من 340 ملكا قبل الأسرات الحاكمة التي شاعت تسميتها بالفراعنة.
ويرجع تاريخ هذه الوثيقة المكتوبة على ورق البردي إلى عصر الملك رمسيس الثاني، واكتشفت في القرن التاسع عشر. ومع أنها وثيقة مهشمة وتفتقد لأجزاء كثيرة، إلا أن المؤرخين وجدوا فيها إشارة إلى أن الحضارة المصرية تعود إلى عصر يسمى عصر الآلهة ويمتد إلى نحو سبعة آلاف سنة، وهذا يشبه ما ذكره هيرودت عن عصر ملكي مصري قديم عمره أكثر من 11 ألف سنة.
أضف إلى ذلك ما نقل عن كتاب لمؤرخ يدعى مانيتون، يعتقد أنه احترق في حريق مكتبة الإسكندرية على يد الزعيم الروماني يوليوس قيصر، فتأريخ مانيتون للحكم في مصر يمتد إلى حوالي ثلاثين ألف سنة.
إدريس النبي وهرمس الحكيم هناك تضارب كبير بشأن شخصية هرمس، فبينما يفترض البعض أنها شخصية أسطورية نُسب إليها خليط من الأفكار والأساطير، يقول البعض إن هناك ثلاثة هرامسة في التاريخ القديم، الأول كان يسكن في صعيد مصر وهو الذي بنى الأهرام وسجل فيها الصناعات والآلات كي لا تضيع العلوم في طوفان نوح، والثاني هو الذي بنى بابل بعد الطوفان وبعد عصر النمرود، والثالث كان مصريا أيضا.
ويتفق كثير من المؤرخين المسلمين على أن هرمس الأول هو النبي إدريس عليه السلام، ويسمى أخنوخ (وكذلك إنوخ وخنوخ) بالعبرية، وقد اشتق العرب اسمه من كلمة درس أي أنه الدارس الحكيم.
ونجد لهذه الشخصية ذكرا في تراث الفرس واليونان والكلدانيين والفراعنة مع اختلاف بسيط في التسمية، وكأنه شخص واحد لكن الأمم اختلفت في تسميته بما يناسب لغاتها، أو أن عدة حكماء لاحقين جاءوا بعده وتمت تسميتهم باسمه “هرمس” أو “هرمز” تيمّنا به. وقد درجت تسمية هرمس الأول باسم هرمس المثلث بالعظمة أو المثلث بالحكمة لأنه جمع بين الحكمة والنبوة والملك.
وبحسب العهد القديم من الكتاب المقدس لدى اليهود، فقد ورد نسب أخنوخ على أنه ابن يرد بن مهلائيل بن أنوش بن شيث بن آدم، وأنه أبو جد نوح. وهو نسب يتطابق تقريبا مع ما ورد عن ابن عباس، كما روي عن الصحابي أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء، فأخبره عن عددهم ثم قال “أربعة سريانيون: آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم”، وهو حديث ضعيف رغم وروده بأربعة طرق. وإذا كان هو أول من خط بالقلم فعلاً فهذا يعني أن الكتابة بدأت في عصره، وأن الوحي الذي أنزل على الأنبياء الذين قبله كان يُنقل شفهياً، لكن أقدم ما وصلنا من التاريخ المدون يعود إلى الحضارة السومرية التي نشأت بعد الطوفان، وليس بين يدينا الآن نص مكتوب مما قبل ذلك.
ونقل المؤرخون المسلمون روايات عن حياة إدريس تداخلت فيها الإسرائيليات غير المؤكدة، ففي كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري عايش إدريس آدم وشيث وكان ثالث الأنبياء، وأنزلت على إدريس ثلاثون صحيفة (أي كتاب سماوي)، وأن بدء انحراف البشرية عن عبادة الله في عصره عندما عبدوا الأصنام بدعوة من إبليس، فحمل إدريس وأتباعه السلاح وكان أول من جاهد في سبيل الله، ولكن هذا القول غير مؤكد، وثمة تفسيرات أخرى لدى المسلمين تميل إلى أن الوثنية بدأت في عصر نوح وليس إدريس، وأن إدريس تابع مهمة آدم وشيث في تعليم الناس وإرشادهم إلا أنه لم يواجه معضلة إعادتهم إلى التوحيد لأن الوثنية لم تكن قد ظهرت بعد.
وهناك حديث لأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه ابن حبان، جاء فيه أن الله أنزل مئة كتاب وأربعة كتب وأنه أنزل على خنوخ (إدريس) ثلاثين صحيفة.
ومع إقرار التوراة بأن إدريس تلقى وحيا مكتوبا من السماء، فإن “سفر أخنوخ” المنسوب إليه لا يُعترف به إلا من قبل الكنيسة الأثيوبية التي تعتبره جزءا صحيحا من الكتاب المقدس، وقد تم اكتشافه ضمن مخطوطات البحر الميت في نسخة مكتوبة باللغة الآرامية يعود تاريخها إلى مائة عام قبل الميلاد، وهي تتضمن إشارات لنبوة محمد في آخر الزمان. وسنتعرض للوثنية -التي نعتقد أنها طرأت على رسالة إدريس التوحيدية في مصر- بموضع لاحق من هذا المقال.
النبي نوح وقومه بحسب العهد القديم من الكتاب المقدس (التوراة التي يؤمن بها اليهود اليوم) فإن نوح كان ابن حفيد إدريس، وقد نشأ في الجيل العاشر بعد آدم، كما نجد ذكر نوح في كتاب “الكنز العظيم” وهو الكتاب المقدس لدى طائفة المندائيين الذين يقيمون حاليا في العراق، وهو يدعى في كتابهم “نو”، وما زالوا يقيمون احتفالا دينيا كل عام في ذكرى الطوفان.
وعلى صعيد الأساطير، نجد ذكر نوح (بطريقة محرّفة) في كل من ملحمتي جلجامش وأتراحاسيس اللتين سيرد ذكرهما في هذا المقال لاحقا، كما نجد أن “قائمة ملوك سومر” المذكورة أعلاه قد قسمت قصة الإنسان أصلاً إلى ما قبل الطوفان وما بعده.
بحسب الرواية الإسلامية للتاريخ، ظلت البشرية على قلة عددها مؤمنة بالله وعلى ديانة أبيهم آدم، إذ يقول القرآن الكريم في سورة البقرة {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}، وقد فسر ابن عباس الآية بقوله “كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين” [أخرجه الحاكم في المستدرك]، ولعله اقتبس هذا المعنى من حديث يقول إن رجلا قال: يا رسول الله، أنبيّ كان آدم؟ قال: نعم معلَّم مكلَّم، قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون. قال: كم كان بين نوح وإبراهيم؟ قال: عشرة قرون. قالوا: يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال: ثلاثمائة وخمس عشرة جمًّا غفيرا. وقد ورد هذا الحديث بعدة طرق وصححه الأرناؤوط والألباني، والراجح أن كلمة قرن ليست محصورة بمئة سنة كما هو متداول في عصرنا بل قد تعني الجيل والأمة، فربما يكون القرن أطول لأن أعمار الناس آنذاك كانت طويلة جدا.
وفي حديث الشفاعة يوم القيامة، يذهب الناس إلى نوح ويقولون له {يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض} [أخرجه مسلم وهو حديث صحيح]، ويبدو من هذين الحديثين أن آدم وشيث وإدريس كانوا أنبياء، إلا أنهم لم يُكلفوا بالرسالة لأن الناس في العصور الأولى كانوا على الإيمان، فربما كانت الصحف (الكتب) التي أنزلت على الأنبياء الثلاثة الأوائل لا تتضمن رسالة إلى الناس بل مواعظ ونصائح ونبوءات، كما يُحتمل أن يكونوا رُسلا وأن يكون تأويل الحديث السابق هو أن نوح كان أول المرسلين إلى كافة أهل الأرض بعد أن مات معظمهم ولم يبق إلا قومه الناجون فكان رسولا إليهم وهم يمثلون كل البشرية.
جاء في حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه {وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا} [رواه مسلم وهو صحيح]. وهذا يفسر الآية التي وردت في سورة نوح بالقرآن الكريم، عندما شكى نوح قومه إلى الله، فقال من بين ما قاله عنهم {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا}، وقد شرح الصحابي عبد الله بن عباس هذه المصطلحات بقوله إنها “أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت” [رواه البخاري]، أي أن أول جيل بشري عبَد الأصنام هو قوم نوح، وأن ذلك لم يحدث إلا بعد تدخل إبليس، حيث دبر خطته بدهاء وصبر طال عدة أجيال، ففي الجيل الأول أقنعهم بصناعة التماثيل لتكون تذكارا للأموات الصالحين، ثم تطلب الأمر مرور عدة أجيال لينسى الناس سبب صناعتها، فقال إبليس للأحفاد إن أجدادهم صنعوا التماثيل ليعبدوها فتنزل عليهم المطر والرحمة فعبدوها، فأرسل الله إليهم رسوله نوح ليأمرهم بالعودة إلى الإيمان.
ويقول القرآن الكريم في سورة العنكبوت {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون}، أي أن دعوته لهم استمرت 950 سنة، حتى يئس منهم فاشتكى إلى ربه، وقد روى لنا القرآن في “سورة نوح” شكواه التي تؤكد أنه لم يترك سبيلا ممكنا لدعوتهم إلا سلكه، فلم يجد منهم سوى التكبر والسخرية والإصرار على الفساد والإفساد، وقالوا {يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا}، {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}، وعندها دعا نوح ربه بأن يهلكهم ويأت بقوم آخرين: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}، ويقال إن من رحمة الله أن أوقف نسلهم فلم تلد النساء أربعين سنة حتى لا يبقى بينهم طفل فيلحقه العذاب وهو غير مُكلَّف، ثم أمر الله نبيه نوح ببناء سفينة وأن ينتظر الإشارة التي تنبئه بموعد الطوفان، فحمل معه الذين آمنوا به وزوجين من كل الحيوانات التي كانت تعيش في المنطقة.
الموقع الذي يعتقد البعض أن سفينة نوح رست فيه (wikimediaMfikretyilmaz)
تتفاوت الروايات الإسرائيلية عن عدد الذين كانوا معه والمدة التي قضوها في الماء بعد أن تفجرت الينابيع وانهال المطر حتى ملأ الماء اليابسة، لكن القرآن الكريم اكتفى بالقول إن السفينة رست بعد ذلك على جبل الجودي، بينما تقول الرواية اليهودية إنه جبل أرارات، والراجح أن أرارات هي سلسلة من الجبال وليست جبلا واحدا وأن الجودي جزء منها، وقد اكتُشف عام 1948 أثر يُرجح أنه للمكان الذي استقرت فيه السفينة على سفح الجودي، وكُشف في الحفريات عن بقايا المسامير المعدنية التي يعتقد أنها استُخدمت في بناء السفينة وعن ألواح خشبية متحجرة بما يتوافق مع الآية القرآنية {وحملناه على ذات ألواح ودُسر}، وبعد نحو أربعين سنة اكتُشفت في قرية مجاورة مرساة حجرية، ثم تتالى الكشف عن مراسٍ مماثلة على طول الطريق الذي يُعتقد أن السفينة قطعته، حيث يُفترض أنها كانت تعمل على تثبيت السفينة كي لا تقلبها الأمواج الضخمة، فقد ورد في الآية أنها كانت {تجري بهم في موج كالجبال}. ويجدر بالذكر أن اكتشاف هذه الآثار لا يعني بالضرورة أنها تعود فعلا إلى النبي نوح.
هناك من يفسر قصة الطوفان بأنها حدثت في أرض العراق ومحيطها ولم تشمل الكوكب كله، واستبعد أصحاب هذا الرأي أن تتسع السفينة لزوجين من كل الحيوانات والنباتات التي يبلغ عددها ملايين الأصناف والفصائل، مفترضين أن النبي نوح حمل ما كان يقدر على حمله من كائنات تعيش في منطقته لتستمر في التكاثر، وأن البشر على قلتهم كانوا محصورين في تلك المنطقة وحدها. لكن هناك من يرى أن الطوفان شمل الكوكب كله، ويستندون بذلك إلى تكرار قصته في تراث أمم بعيدة، مثل الصين والهند واليونان، وحتى لدى شعوب الدول الإسكندنافية في أقصى الشمال الأوروبي ولدى قبائل الأزتيك بأميركا اللاتينية. ويدافع اليهود والمسيحيون عن هذا الرأي بما يتوافق مع الكتاب المقدس، لكن وجود قصة الطوفان لدى الأمم البعيدة التي عاشت في قرون لاحقة قد يكون نتيجة ورودها على لسان أنبياء بُعثوا إليهم بعد نوح أو أنها انتقلت إليهم عبر أشخاص رحلوا إليهم، دون أن يكونوا قد عايشوا التجربة بالضرورة.
وقد وردت قصة الطوفان في لوح طيني يعود إلى الحضارة السومرية بمدينة نفر “نيبور” العراقية، كما وردت في ملحمة جلجامش الأسطورية التي اكتشفت ألواحها عام 1872 في العراق، وأعاد صياغتها أيضا الراهب البابلي بيروسوس في القرن الرابع قبل الميلاد. وتتشابه أحداث القصة في كل هذه الحكايات مع اختلافات بسيطة بما يتناسب مع السلطة التي كانت تحكم آنذاك.
علاوة على ما سبق، تؤكد الاكتشافات الجيولوجية أن طوفانا هائلا غمر مناطق واسعة في سورية والعراق وتركيا وإيران ومحيط البحر الأسود، لكن زمن حدوثه مازال محل جدل، ويُرجح أنه يعود إلى نحو 8000 آلاف سنة من الآن على أبعد تقدير.
ما بعد الطوفان ليست هناك أدلة تاريخية محفوظة في المخطوطات أو الألواح الطينية تحكي ما حدث للبشر بعد الطوفان، إلا أن الروايات المحفوظة لدى الأديان السماوية اليوم تؤكد أن نوحًا كان بمثابة أبي البشر الثاني، فكل من جاء بعده كانوا من سلالات أبنائه، ونجد تأييدا لذلك في القرآن الكريم الذي قال {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77]، وقد فسر ابن عباس هذه الآية بقوله “لم يبق إلا ذرية نوح”، وقال البعض إن السفينة كانت تقل أشخاصا آخرين ممن آمنوا بنوح إلا أنهم لم يتركوا ذرية من بعدهم، فكان الناس جميعا من أبناء نوح الثلاثة وهم سام أبو العرب (وبقية السلالات في ما يسمى بالشرق الأوسط، ويافث أبو الروم (السلالات الأوروبية اليوم)، وحام أبو الحبش (الشعوب الأفريقية)، ولا ندري إن كان الأبناء الثلاثة قد نزحوا إلى أصقاع الأرض وتوالدوا أم أن سلالاتهم هي التي هاجرت في مرحلة لاحقة.
لوح سومري يعود إلى عام 2350ق.م
يتفق معظم الباحثين اليوم على أن بلاد الرافدين (العراق) هي مهد الحضارات الأولى، فمع أن هناك تجمعات بشرية في مناطق عدة كانت مزامنة لها في جزيرة العرب وتركيا ومصر إلا أن التاريخ المدون يدل على أن أول مظاهر الانتقال من حياة القبائل إلى تشكيل المدن والدول الحضارية القوية كان في العراق، وأن الدولة السومرية كانت هي أولها ظهورا، ويقول الدكتور أحمد سوسة في كتابه “تاريخ حضارة وادي الرافدين” إن السومريين ذكروا في الألواح الطينية أنهم تركوا موطنا في أرض جبلية يمكن الوصول إليها بحراً وهاجروا إلى العراق، ويرجح مؤرخون أن يكون موطنهم الجبلي الأول هو أواسط آسيا (وراء البحر الأسود)، وهو ما يمكن أن يتقاطع مع القول بأنهم قبائل بدوية نزحت من موقع رسوّ سفينة نوح.
لكن ترجيح الرأي القائل بأن الحضارة بدأت بالعراق يستند أساسا إلى أن اختراع الكتابة التي دوّن بها التاريخ حدث هناك أولاً وفق ما تدل عليه الاكتشافات الأثرية، وهذا لا يمنع أن تكون هناك حضارات سابقة في أماكن أخرى.
يقول المؤرخ ابن خلدون في موسوعته “العِبر” إن قوم ثمود انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام فسكنوا البادية بجزيرة العرب، ثم تحضروا وحكمهم الملوك، وهما من أوائل الشعوب العربية.
وبحسب القرآن الكريم، بعث الله نبيه هود إلى قوم عاد بعد فترة غير محددة من الطوفان، ولم يحدد القرآن المكان الذي عاش فيه هذا القوم إلا أنه وصفه بكلمة “الأحقاف” أي منطقة الهضاب الرملية، كما أطلق عليه اسم “إرَم ذات العماد” أي التي تعلوها أعمدة المباني الضخمة، وهناك جدل واسع بشأن تحديد الموقع، ومازال الباحثون يقدمون اجتهادات مدعومة بحفريات وصور للأقمار الصناعية، مع التركيز على منطقة الربع الخالي ما بين عُمان واليمن والسعودية، وليست هناك نتائج مؤكدة، كما اجتهد بعض المؤرخين المسلمين لتحديد نسب النبي هود، فقال بعضهم إنه كان يسمى “عابر” وهو ابن حفيد سام بن نوح.
انحرف قوم عاد عن التوحيد كما فعل قوم نوح، حيث قال لهم نبيهم هود {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة}، ويحكي القرآن الكريم في أكثر من موضع عما جرى من حوار بينهم وبين النبي هود، حيث كانوا معتدّين بقوتهم وحضارتهم، إذ تقول الآية في سورة فصلت {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة، أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون}، فعوقبوا بالإبادة عندما هبّت على أرضهم ريح عاتية لعدة أيام كما تقول الآية {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات}، {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما}
وبما أن أرض عاد غير مكتشفة بعد فليس هناك مصدر لتاريخ ذاك القوم سوى القرآن الكريم، وقد ذكر القرآن من بعد عاد قوم ثمود، وهم من أوائل القبائل العربية التي يعتقد أنها انحدرت من سام بن نوح وهاجرت مبكرا إلى الحِجر (مدائن صالح في منطقة تبوك بشمال السعودية حاليا)، وأسست إحدى أولى الحضارات البشرية، وتخبرنا النقوش الصخرية أن الأنباط حفروا تلك المنازل الضخمة في الصخر والتي مازالت باقية إلى اليوم، لكن هناك رسوما أقدم تؤكد أن المعينيين (سلالة ثمود) واللحيانيين سكنوها قبلهم، وأن المعينيين كانوا هم أول من سكنها قبل الميلاد بنحو 7 آلاف سنة.
مدائن صالح التي كانت موطن ثمود (Madain Saleh)
وبحسب القرآن الكريم، فإن ثمود الأوائل انحرفوا عن التوحيد كما فعل قوم نوح وعاد، فأرسل الله إليهم نبيا منهم اسمه صالح، إذ تقول الآية {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} [الأعراف: 73]، لكن الأسياد تمردوا وتحدوه وطالبوه بمعجزة لتصديقه، فدعا صالح ربه فأخرج لهم ناقة حية من صخرة أمام أعينهم، وحذرهم من إيذائها، فذبحوها بعد فترة، فكان العقاب أن أبيدوا بالصيحة بينما نجى المؤمنون وهم قلة مع نبيهم بمغادرة المكان. وقد أكد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقوع هذه الحادثة في مدينة الحِجر نفسها عندما مر بها مع صحابته أثناء غزوة تبوك.
يقول ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” إن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يزعمون أنه لا ذكر لعاد وهود وثمود وصالح في التوراة، ويرد على ذلك بالقول “وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم الخليل عليه السلام”، أي أن قصصهم لم تدوّن إلا أنها بقيت محفوظة شفهيا بين شعوب الجزيرة العربية حتى نزل القرآن وأكدها.
أهم المراجع ميرسيا إلياد، المقدس والعادي، ترجمة عادل العوا، دار التنوير للطباعة والنشر، 2009.
جون كيرتشر، كيف وُجدت الآلهة، ترجمة إبراهيم جركس، 1929، نسخة إلكترونية.
فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.
فراس سواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق، 1998.
فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.
حبيب سعيد، أديان العالم، دار التأليف والنشر للكنيسة المرقسية، القاهرة، بدون تاريخ.
خزعل الماجدي، أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ، دار الشروق، عمّان، 1997.
خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.
خزعل الماجدي، أصول الناصورائية المندائية في آريدو وسومر، دار فضاءات، عمان، 2013.
لويس مينار، هرمس المثلث العظمة أو النبي إدريس: ترجمة كاملة للكتب الهرمسية مع دراسة عن أصل هذه الكتب، ترجمة عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق، 1998.
هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.
محمد الغرباوي، نوح عليه السلام بين أهل الكتاب وأهل الإسلام، نسخة إلكترونية، 2009.
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق عمر تدمري، دار الكتاب العربي، 1997.
كتب تفسير القرآن الكريم الكبرى، مثل تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي.
Crawford Harriet & Harriet Crawford, Sumer and the Sumerians, Cambridge University Press.
سنتعرض في هذا المقال لتيار فكري قديم للغاية، حيث لا يُعرف بالضبط تاريخ نشأته، وهو أشبه بإطار فكري عام تنبثق من داخله عشرات الأديان والمذاهب والفلسفات والتقليعات التي ما زالت تتوالد حتى اليوم، فهو ليس دينا أو فلسفة واحدة بل تيار يؤثر على أتباع أديان ومذاهب متنوعة فيعاد من خلاله تأويل تلك الأديان لتظهر في إطار جديد.
تيار عام
مصطلح الغنوصية (Gnosticism) مشتق من كلمة يونانية تعني المعرفة أو العرفان، ويُقصد بها المعرفة الكشفية الإشراقية (الحدسية) التي يكتشف صاحبها المعارف العليا مباشرة بالحدس دون استدلال وتفكير عقلي، ودون حاجة إلى الوحي [انظر مقال مصادر المعرفة]. لذا فهي فلسفة تضع نفسها موضع الدين من حيث اهتمامها بالإجابة على الأسئلة الثلاثة الأساسية للأديان، وهي: المبدأ (من أين جاء العالم؟)، الغاية (لماذا يوجد العالم؟)، والمصير (إلى أين نحن ذاهبون؟)، حيث يزعم أصحابها أنهم يتوصلون عبرها إلى معرفة الحقيقة واكتشاف غاية الحياة وطريق الخلاص، وذلك عبر الطرق السرية الباطنية.
يزعم الغنوصيون أن عقيدتهم هي أقدم العقائد البشرية، وأنها وصلت إليهم مباشرة من كائن خفي يسمونه “المطلق”، وهو ليس بالضرورة إلهاً خالقاً منزهاً كما يعتقد أتباع الديانات التوحيدية، بل هو كائن غامض قد تختلف تفسيراتهم وتسمياتهم له، فقد يسمونه “الكلي” أو “الطاو” أو “الطاقة الكونية” أو “القوة العظمى”.
أما مصطلح “الباطنية” فيعود لغويا إلى الباطن، أي إلى ما يخفى من الشيء، فهو الجانب المقابل للظاهر، ويقال في اللغة “بطنت الأمر” أي عرفت باطنه، أما كلمة “الباطني” فقد تطلق على ثلاثة أشخاص، الأول هو الشخص الذي يكتم اعتقاده ولا يظهره، والثاني هو المختص بمعرفة أسرار الأشياء، أما الثالث فهو الذي يعتقد أن لكل شيء ظاهر وباطن، أي أن لكل نص تأويل خفي، ولكل كلمة معنى سري.
يعد كتاب الزوهار من أبرز الكتب الباطنية المعتمدة لدى القبالاه اليهودية
وعندما نتحدث عن العقائد والفلسفة، فالباطنية هي تيار فكري يعتقد أصحابه أن هناك علوماً خفية تختص بها النخبة من علمائهم الذين يتلقون علمهم بالكشف والإشراق، أي بالحدس وليس الوحي، ونجد لهذا التيار انتشارا داخل معظم الأديان، فهو موجود منذ القدم لدى أتباع الأديان الشرقية كالهندوسية والبوذية والطاوية حيث نجد أثره واضحا في كتاب “الفيدا” المقدس، ويظهر أيضا في اليهودية تحت اسم القبالاه التي تزعم أن للتوراة معنى خفيا يُستخرج من أسرار الحروف والأرقام، حيث يعد كتاب “الزوهار” من أبرز الكتب الباطنية، كما تغلغلت الغنوصية في المسيحية المبكرة على يد مارقيون في أواخر القرن الميلادي الأول، أما في الإسلام فنشأت طوائف باطنية كثيرة داخل المذهب الشيعي على يد الإسماعيليين والدروز، وما زال الأثر الباطني واضحا لدى الشيعة في علم الجفر، بينما نجد بين ظهراني المسلمين السنة مذاهب متعددة من التصوف الفلسفي المتطرف التي تؤمن بأفكار مشابهة، ولا سيما لدى محيي الدين بن عربي وعبد الحق بن سبعين. [أصول الفلسفة الإشراقية، ص119]
يقول الإمام أبو حامد الغزالي (توفي عام 505هـ) في كتابه فضائح الباطنية “إن الباطنية إنما لقبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة” [فضائح الباطنية، ص11].
إذن فالباطنية والغنوصية يدلان على معتقد واحد، فالباطنيون يتشابهون في المعتقد الأساسي مهما كان دينهم الذي ينتمون إليه، ويؤمنون بأن المعرفة الباطنية “الغنوص” هي الغاية وأن الوصول إليها يتم بالإشراق (الحدس)، وذلك عبر التحرر من الماديات حتى تتجلى على العقل الحقيقة المطلقة. ويزعمون أن ذلك يحصل لكل من يسلك طريق العرفان، وأنه ليس بحاجة إلى الوحي الذي يأتي به الأنبياء، ويتم ذلك بالمجاهدات والرياضات الروحية، وبتعلم علوم خاصة لكشف أسرار الحروف والأرقام التي يتم بها كشف التأويل الباطني لنصوص الكتب المقدسة واكتشاف الحكمة السرية المخفية فيها، كما يتم ذلك بتوارث التعاليم والتقاليد التي توصل إليها الحكماء العارفين القدماء ممن توصلوا إلى بعض جوانب الحقيقة باجتهادهم وكشفهم وإشراقهم، فهم يقدسون ما يتركه هؤلاء الحكماء من تأويلات، ويعتبرون أنها تحتوي أيضا بذاتها أسرارا تحتاج إلى الكشف، وأن مؤلفيها لم يكشفوا ما فيها من أسرار لتبقى خفية عن عامة الناس.
تزعم المذاهب الغنوصية أن الوجود الإنساني هو نوع من الموت الروحي، فالشخص الذي يحقق الكشف والاستنارة ينتقل إلى عالم جديد. والأرواح تتناسخ من جسد إلى آخر بحثا عن رحلة خلاصها، فالموت بوابة قد تؤدي إلى القبر أو إلى دورة تناسخ جديدة، وليس هناك بعث للأجساد في القيامة كما تبشّر الأديان السماوية، بل تُبعث الأرواح فقط وتتخلص من الأجساد، فالبقاء في عالم المادة هو أكبر الخطايا، أما التوبة والخلاص والفلاح فلا تتحقق إلا بخلاص الروح من الجسد. [الغنوصية في الإسلام، ص7-11].
كما ترى الغنوصية أن مبدأ الأمر والنهي في القضايا الأخلاقية لدى الأديان السماوية لا يؤدي إلى نشوء أخلاق حقيقية، فالسارق يتوقف عن السرقة كي لا يتعرض بنفسه للسرقة من سارق آخر أو يتعرض للعقوبة، لذا يقترحون ربط الأخلاق بالخير الكامن في النفس الإنسانية بدلا من الخوف. وقد تأثر بهذا المفهوم بعض أتباع الأديان السماوية، ومنهم بعض المتصوفة في الإسلام الذين طرحوا مفهوم الحب الإلهي، بمعنى أن يعبد المسلم الله ويلتزم بأوامره لأنه يحب الله ويتعلق قلبه به، وليس طمعا في جنته أو خوفا من عذابه، لكن علماء مسلمين آخرين يرون أن هذه الدرجة المثالية من الحب ليست ممكنة عمليا.
عصا هرمس كانت رمزا للهرمسية في روما ثم أصبحت رمزا للطب في العصر الحديث
الهرمسية تعرضنا في مقال “الوثنية” بالتفصيل إلى التداخل الذي حصل بين قصة النبي إدريس وشخصيات عدة تحمل اسم هرمس، حيث يبدو أن الكتب السماوية التي أنزلت على النبي قد تعرضت لتحريف وتحوير وإضافات كبيرة، ولعل أهم المؤلفات التي تُنسب إليه هي “متون هرمس” المؤلفة من 18 فصلا، وقد تُرجمت هذه المتون إلى الإنجليزية في العصر الحديث نقلا عن اليونانية، والتي ربما تكون قد تُرجمت بدورها عن المصرية القديمة، أو كُتبت على يد اليونان ما بين القرنين الثاني والثالث الميلادية.
صيغت المتون على هيئة حوار يجريه الحكيم المصري تحوت أو اليوناني هرمس مع تلاميذه. ومع أنها تتضمن عقيدة التوحيد وعبادة الإله الواحد ففيها أيضا أصول الفكر الغنوصي الذي انتقل من الهرمسية إلى عدد لا يحصى من الفلسفات والأديان لاحقا.
نجد في متون هرمس شرحا واضحا لعقيدة الهرمسية في حقيقة الإله والشيطان، حيث تزعم أن هناك إلها خالقا يتجسد في الشمس، وأن الشياطين مخلوقات شريرة إلا أنها هي التي تحكم البشر وكأنها واسطة بين الإله والبشر، لأنها تستوطن الأفلاك والكواكب. وفي أحد النصوص يسمي هرمس الشياطين بالملائكة الشريرة، فهي بالأصل ملائكة غضب عليها الإله وسقطت من السماء، وهي أشبه ما تكون بأنصاف آلهة، تتحكم بالقدر ولا تخضع له، ومع أن الإله (الشمس) هو الذي أوجدها إلا أنه غير قادر على دفع ضررها أو التحكم بالبشر دون المرور بالشياطين.
وفيما يلي نص مترجم من متون هرمس يوضح ذلك: إن العالم المعقول برتبط بالله، والعالم المحسوس بالعالم المعقول، وتقود الشمس عبر هذين العالمين نفحة الله، أي الخلق. حولها الأفلاك الثمانية التي ترتبط بها، فلك النجوم الثابتة. والأفلاك الستة للكواكب والفلك الذي يحيط بالأرض. الشياطين مرتبطة بهذه الأفلاك والبشر بالشياطين، وهكذا كل الكائنات ترتبط بالله، الذي هو الأب الشمولي.
الخالق هو الشمس، والعالم هو أداة الخلق. الجوهر المعقول يوجه السماء، والسماء توجه الآلهة، وتحتها صنفت الشياطين التي تحكم البشر.
تلك هي تراتبية الآلهة والشياطين، وذلك هو العمل الذي يكمله الله بواسطتها ومن أجله ذاته.
[هرمس المثلث العظمة، ص254]
نسخة من اللوح الزمردي تعود للقرن السابع عشر
ومع توسع حجم الأساطير وتراكمها، يبدو أن الكثير من الكتب السحرية والغنوصية والعلمية صارت تُنسب إلى هرمس، حتى قال الفيلسوف الأفلاطوني إيامبليكوس إن هرمس ألّف عشرين ألف كتاب، أما المؤرخ المصري مانيثو الذي عاش في عصر البطالمة فقال إن هذا العدد وصل إلى أكثر من ستة وثلاثين ألف كتاب. وقد نسبوا إليه كتبا في الموسيقى والكيمياء والطب والفلسفة والجغرافيا والهندسة والسحر وفي مختلف مجالات المعرفة التي كانت متداولة.
أما كليمندس الإسكندري فينسب إلى هرمس 42 كتابا فقط، ويُعتقد أن معظمها فُقدت أثناء حريق مكتبة الإسكندرية الكبرى عام 30 قبل الميلاد وخلال حملة المسيحيين الأوائل على بقايا الوثنية، لكن هناك اعتقادا واسعا بأن ما بقي من كُتبه قد تم حفظه لدى الجمعيات السرية، وهي التي حافظت على وجودها عبر فرسان الهيكل وجمعية الصليب الوردي ثم الماسونية وجمعية الحكمة الإلهية و”المتنورون”.
لوحة تخيلية للوحة الزمردية رسمها هينرش خونراث عام 1606
ومن الكتب التي مازالت تُنسب إلى هرمس نص موجز يدعى اللوحة الزمردية، لكن المؤلف الماسوني مانلي هول يقول إنه ظهر للمرة الأولى باللغة العربية ما بين القرنين السادس والثامن الميلاديين وإن كاتبه نسبه إلى هرمس “إدريس”. وعندما بدأ الأوروبيون بالاهتمام بالخيمياء اعتبروا هذا النص مرجعهم الأساسي، ومن أهم المبادئ الواردة فيه “الذي في الأرض يساوي ذاك الذي في السماء”، ما يعني تأليه الإنسان وحلول الإله فيه، وهو معتقد تقوم عليه فلسفة القبالاه اليهودية والجمعيات السرية. [THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, 114]
في القرن التاسع عشر رسم الساحر الفرنسي إليفاس ليفي الشيطان بافوميت معبود الحركات السرية وهو يشير للأعلى والأسفل
في عام 2014 أنتجت هوليود فيلم رعب بعنوان “كما هو فوق كذلك هو تحت” وتجاوزت إيراداته 40 مليون دولار
“كما هو فوق، كذلك هو تحت”
هذه الجملة ترجمة حرفية للجملة المتداولة بكثافة في الغرب As Above, So Below، وقد أصبحت متداولة أيضا في مقررات التنمية البشرية وتطوير الذات بالدول العربية، حيث يتم من خلالها إقناع المتدرب بأن الإنسان مسؤول عن قدره، فكما تكون تصرفاته في الأرض يُكتب قدَره في السماء، وهذا منطق يتعارض مع الإسلام والأديان السماوية، فالقدَر ليس تابعا دائما لتصرفات الإنسان وقد يكون خارجا عن إرادته.
يسمى المتن الثاني من متون هرمس باسم بويماندريس Poimandres، ويطلق عليه أيضا اسم “سفر الرؤيا”، وقد تعرضنا له في مقال “الوثنية“، لكن ما يهمنا منه هنا هو أنه يعد من أوائل المراجع التي وضعت أصول الرؤية الغنوصية في خلق العالم، فالخالق عقل يفيض عنه النور، وعندما اندمجت الأرض مع السماء خرج منهما سبعة إنسيين تجتمع فيهم الذكورة والأنوثة، وبطريقة ما تم توالد البشر عن هؤلاء بعد فصل الجنسين، ويمكن للباحث أن يكتشف أصول القبالاه أيضا في هذه النظرية لخلق العالم والإنسان، كما نجد فيها فكرة التقمص وتناسخ الأرواح التي تبنتها البراهمية والهندوسية.
هناك تداخل كبير بين الوثنية والهرمسية والجمعيات السرية، إلى درجة يصعب فيها التمييز بين هذه المشارب الثلاث، فالديانات الوثنية الأولى كانت تتضمن في قلب كهنوتها منظومات سرية وتفسيرات باطنية غامضة، وكانت تنشأ من داخلها باستمرار أديان جديدة تعمل على إعادة تأويل الأساطير الكبرى في روايات باطنية أخرى، ولا يشذ عن هذا التقليد أي دين وثني قديم سواء في بلاد الرافدين أو مصر أو اليونان أو الهند أو الصين، وحتى الأديان الأفريقية والأمريكية.
وما بقي اليوم من آثار الهرمسية لم تعد له صلة بالوحي والنبوة، حيث يرى مؤرخون أن “الحكمة الهرمسية” تتضمن ثلاثة فروع، أولها الخيمياء التي تخلط بين الجانب الروحي-الخرافي وبين الكيمياء التجريبية، فتهتم مثلا بتجارب مزعومة لتحويل المواد الرخيصة إلى الذهب، والفرع الثاني هو التنجيم الذي يخلط بدوره بين الشعوذة والسحر وبين علم الفلك، ويؤمن أصحابه بأن الكواكب كائنات مقدسة وأن حركتها تؤثر على الأرض والإنسان، أما الفرع الثالث فهو السيمياء الذي يعد ضربا من ضروب السحر للتواصل مع الشياطين، مع أن أصحابه يزعمون التواصل مع الآلهة. [THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, 144]
ويُعتقد أن الهرمسية تقدس شكل المثلث بسبب هذا التقسيم الثلاثي، وهو الأمر الذي انتقل لاحقا إلى الجمعيات السرية المتأثرة بالهرمسية وصولا إلى الماسونية وجمعية المتنورين التي تتخذ المثلث شعارا لها.
نظرية الفيض هناك تياران فلسفيان كبيران لمحاولة تفسير الصلة بين الإله والعالم (الكون)، أي بين الخالق والمخلوقات، ونتج عن كل منهما نظريات ومذاهب فرعية. وباختصار شديد يرى أصحاب التيار الأول أن هناك صلة سببية بين الإله والعالم مثل ارتباط المسبب بسببه والمعلول بعلته، أي أن العالم حادث (مخلوق) والإله هو الذي أحدثه (خلقه) من عدم، وهذا ما يعتقد به معظم المؤمنين بالأديان السماوية، مع بعض الاختلافات الصغيرة.
الفيلسوف اليوناني أفلوطين
أما فلاسفة التيار الثاني فيعتقدون أن هناك مشكلة في الارتباط السببي بين الإله والعالم، لذا يفترضون أن الكون قديم (أزلي بلا بداية) مع أنه مخلوق، ويضعون لتبرير هذا التناقض افتراضات مختلفة، وقد تبنّى هذه النظرية بعض فلاسفة اليونان، وتبعهم في ذلك فلاسفة منتسبون للإسلام مثل الفارابي وابن سينا.
وضمن هذا التيار ظهرت نظرية الفيض على يد الفيلسوف اليوناني أفلوطين الذي عاش في الإسكندرية بالقرن الثالث الميلادي ويُنسب إليه مذهب “الأفلاطونية الجديدة”، وقد استقى آراءه من خليط يوناني وبوذي ويهودي ومسيحي، ثم تأثر به الكثير من الباطنيين في أديان مختلفة. [من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص102]
اضطر أتباع هذا المذهب إلى القول بآراء غير منطقية وغير ضرورية لأنهم سلموا من البداية بأنه لا ينبغي أن يكون هناك ارتباط سببي بين الخالق والكون، فابتكروا أيضا مبادئ فلسفية يرى معظم الفلاسفة أنها باطلة، مثل اعتقادهم بأن الكثرة لا يمكن أن تصدر عن الواحد من جهة واحدة وإلا صار الواحد كثيراً، أي أنه لا يمكن للخالق الواحد أن يخلق مخلوقات متعددة، وأن الشيء لا يوجد من غير جنسه، وأن الشيء المتغير (الكون) لا يصدر مباشرة عن غير المتغير (الإله) بل لا بد من واسطة. وبالنتيجة اضطر هؤلاء إلى القول إن الإله الواحد يصدر عنه مباشرة شيء واحد سموه “العقل الأول”، ثم صدر عن العقل الأول عقل ثان، وصدر عن الثاني عقل ثالث، وهكذا إلى العقل العاشر (واهب الصور) والذي قالوا إنه صدر عنه العالم السفلي وهو الكون المادي الذي نعيش فيه. وبمقارنة بسيطة يمكن أن نرى أثر الهرمسية -التي تعبد الشمس وتقدس الكواكب- في هذه الفلسفة.
انتقلت نظرية الفيض كما هي من أفلوطين إلى الفارابي وابن سينا بالرغم من كونهما مسلمين، حيث افترضا أنهما تمكنا بهذه النظرية من نفي النقص عن الله، وأنهما جعلا بين الإله والكون مسافة تتخللها عشرة “عقول” خيالية وهمية. وللمزيد من التنزيه -الذي تخيلاه دون ضرورة- قالوا إن الإله علِم بذاته وعلم أنه مبدأ الخير في الوجود ففاض عنه العقل الأول، وكأن أصحاب هذه النظرية يتخيلون أنه من النقص أن يقصد الله تعالى خلق العالم وأن يقول له كن فيكون، وهذا الافتراض لا داعي ولا مبرر له. وقد رد الإمام الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” على هذه الافتراضات الخيالية فلسفيا وأثبت أن المبادئ التي استندت إليها لم تكن ضرورية أصلا.
علاوة على ما سبق، تأثر أصحاب هذه النظرية بالغنوصية، وقالوا إنه لا يمكن الوصول إلى الألوهية بالعقل، لأنه قاصر عن ذلك، وإن معرفة الإله تتم عن طريق العرفان، وذلك بعد القضاء على الغرائز والأحاسيس المادية، ثم الوصول إلى ما أسموه حالة الفناء في الواحد (فقدان الإحساس بالذات)، وهي حالة من الوجد والنشوة والذهول، وتكاد تتطابق تماما مع حالتي “النيرفانا” لدى البوذية و”الموكشا” لدى الهندوسية.
أهم المراجع
أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق عبد الرحمن بدوي، وزارة الثقافة المصرية، 1964.
أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة.
لويس مينار، هرمس المثلث العظمة أو النبي إدريس: ترجمة كاملة للكتب الهرمسية مع دراسة عن أصل هذه الكتب، ترجمة عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق، 1998.
عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، بيروت، باريس، 1981.
محمد أبو ريان، أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1959.
هاينس هالم،الغنوصية في الإسلام، ترجمة رائد الباش، دار الجمل، ألمانيا، 2003.
هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.
فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.
خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.
عبد الله مصطفى نومسوك، البوذية.. تاريخها وعقائدها وعلاقة الصوفية بها، مكتبة أضواء السلف، الرياض.
Manly P. Hall, THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, H.S. CROCKER COMPANY INCORPORATED, SAN FRANCISCO, 1928.