هل أنا فارغة؟
في عام 2014 نُشر إعلان توظيف في الجرائد وعبر الإنترنت يطلب مدير إدارة عمليات للعمل في مؤسسة تدعى ريهتوم بمؤهلات غريبة لا تتفق مع بعضها البعض؛ مثلًا دكتوراة في علم النفس أو ما يوازيها، مهارات في إدارة الأزمات والكوارث، خبرة اقتصادية…إلخ. تفاعل ما يزيد عن مليوني شخص مع هذا الإعلان لكن في النهاية تقدم فقط 24 مرشح من الرجال والنساء للوظيفة، وتم اختيارهم جميعا لإجراء مقابلة عبر الفيديو. في اليوم الموعود، ظهر رجل ببدلة على شاشة المرشحين وبعد التحية أعطاهم نبذة عن الوظيفة واصفا إياها بأنها أهم وظيفة على الإطلاق ومسؤولياتها متنوعة وأكثر مما يتطلّبه المسمى الوظيفي الحالي، يبدي الجميع اهتماما بهذه المقدمة فيستطرد بمتطلبات عمل لا تطاق، مثل الوقوف والانحناء والتحرك الدائم مع قدرة عالية على التحمل لمدة تتراوح بين ال 135 ساعة المعتادة في الأسبوع إلى 24 ساعة لكل يوم في الأسبوع. تظهر علامات الدهشة على وجوه المرشحين ويحاول غالبيتهم الاحتفاظ بالمظهر المهني في استفسارهم إن كان هناك أوقات للراحة أو الطعام أو عن قانونية هذا المتطلب، فيجيهم المحاور بأنه ليس هناك فترات راحة، وقد يستلزم العمل خلال جميع العطلات الرسمية، وتناول الطعام مسموح به عادة بعد أن يأكل زميلهم في العمل، وهذه بالطبع متطلبات قانونية تماما! وتتواصل طلبات العمل المعجزة بأنهم يبحثون عن شخص لديه قدرة على التفاوض وإلمام بمسائل طبية وإدارة مالية وفنون طهي وباستطاعته المراقبة التامة لزميله خلال نومه في بيئة فوضوية. باختصار هم يريدون شخصا مستعد للتخلي عن حياته والعمل يوميا دون توقف، وكل ذلك مقابل أن تدفع له أو لها المؤسسة صفر دولار مع وعد بأن المشاعر التي ستغمر الموظف بسبب مساعدة زميله لا تقدر بثمن! هنا يتخلى المرشحون عن مهنيتهم وتبدأ اتهاماتهم لهذه الوظيفة بأنها غير إنسانية وقاسية ومجنونة، غير مصدقين أن مثل هذه الوظيفة موجودة ودون دفع مقابل أيضا. فيصدمهم المحاور بأن هذه الوظيفة حاليا مشغولة وهناك المليارات من النساء في العالم يمارسنها، ويطلق عليها اسم (الأم).
عمل بلا مقابل مادي
كانت هذه مقابلة خادعة روجت بها وكالة إعلانات في بوسطن تسمى (مولن) دعاية قوية لبطاقات معايدة في يوم الأم ونشرتها تحت وسم #أصعب_وظيفة_في_العالم، وقامت الوكالة التي ابتدعت (ريتهوم – عكس كلمة أم بالإنجليزية) بتسجيل انطباعات المرشحين المستهجنة ومشاعرهم ودموعهم الحقيقية بمجرد ما تراءت في مخيلتهم صور أمهاتهم من خلال ما وصفوه بأنه مستحيل تماما.
تقول الوكالة إن الفكرة جاءت بعد أن زارت إحدى موظفات قسم الإبداع -ليس لها أولاد- منزل أخيها لتقضي بعض الوقت مع عائلته وتابعت انشغال زوجته المتواصل بأطفالها لدرجة أنها لم تستطع التوقف للراحة. وعندما عادت للعمل من رحلتها قالت لزملائها: حقًّا إن أصعب وظيفة في العالم هي وظيفة الأم، وهكذا، زادت أرباح موكلي الدعاية وكانوا سعداء بالفكرة وتطبيقها، حتى أن منافسي الوكالة أغدقوا عليها بالثناء.
الأمومة والنسوية .. المواجهة العاصفة!
لكن لم تكن الحال كذلك مع حركة النسوية وتمكين المرأة وإلغاء التمييز الجنسي. أظهر تأثير هذه المقابلة على الناس الوجه البشع لهذه الحركة. وانطلقت موجة من آراء النسويات المتفاوتة في التطرف في مقالات الصحف والمجلات مستمرة حتى اليوم في مهاجمة دور الأم غير العاملة بشكل غير مباشر عبر التقليل من شأنها وتضحيتها. النقاط الأساسية لجدالهم في أن الأمومة ليست أصعب وظيفة، سواء من حيث إن دور الأم هو عمل شأنه شأن أن تكون زوجة أو ابنةً، وليست وظيفة لها رب عمل ومردود مالي، ومن ناحية أن الترديد بتضحية المرأة من أجل أطفالها هو عبارة مستهلكة وضعها الرجال في عقول النساء حتى يلازمن المنزل، لكنها ليست تضحية هي فقط تشريف للأم واحتفال بجسدها الأنثوي؛ إضافة إلى أن الاعتناء بالأطفال مسؤولية مشتركة بين الأب والأم، أو (الأبوين) أو (الأمّين) وأنه لا مجال للطموح والمنافسة في العناية بالأطفال وتربيتهم كما هو الحال في الوظيفة، بمعنى أن حياة الأمهات فارغة!
إذا اطلعت على بعض هذه المقالات سترى أيّ تخبط وتناقض في الطرح والجدال، وأيّ جحود ما بعده جحود للأمهات وفضائلهن! يقولون العناية بالأطفال هو عمل للمرأة والرجل بالتساوي لكن النسويات يطالبن بدعم الأمهات بإجازات أمومة طويلة وساعات عمل مرنة للتوفيق بين هذا (العمل) والوظيفة!
يقولون الأمومة ليست أصعب وظيفة، لكنهن يصفنها بعمل مرهق جسديا ومتعب نفسيا! يدعّين أن أغلب الأمهات لا يشتكين من هذا العمل لكن الأطفال يدفعون الأمهات للجنون أحيانا ويطلبون دعما لحق الأم في التعبير عن مأساتها! يوضّحون أنها ليست وظيفة بالمعنى المتعارف عليه، حتى لو كان هناك من يعمل في دور الحضانة بالأطفال بمقابل مادي كي تعمل الأمهات بمقابل مادي أكبر!
يتشدقون بأن الأمومة لا تشبع الطموح الأهم في منافسة الرجال وتحديهم لكن المرأة تحتفظ بحقها في الإنجاب متى شاءت لإشباع غريزة الأم لديها فهي عميقة الأثر ومُرْضية! يريدون تمكين المرأة وإظهار قوتها في مضمار الرجال، بإخراجها من التربية المنزلية لتتفرغ لاختراع علاج لسرطان ما، أو تفكيك متفجرات، أو إطفاء حرائق آبار النفط، لكن في سبيل حصول ذلك تزج مئات الملايين من النساء للانضمام إلى الطبقة العاملة الكادحة بأجور زهيدة وبالكاد تكفي معيشتهن بعد تحصيل الضرائب؛ فكانت المحصلة أن النسويات لا هنّ استطعن تربية أطفالهن على النحو المطلوب ولا حصّلن أجورهن بالقدر الذي يبرر مشقة التوفيق بين العمل والمنزل.
النسوية .. حركة تحرير أم منتَج رأسمالي؟
لا شك أن هناك أمثلة على نجاحات فردية، وإنجازات حقيقية للبشر لكن ماذا عن عموم النساء وماذا تخسر المجتمعات في المقابل ومن المستفيد حقا من هذا التشتت؟
في مقال نشرته صحيفة الغارديان بعنوان “كيف أصبحت النسوية خادمة للرأسمالية؟”، النسوية نانسي فريزر -بروفيسورة الفلسفة والعلوم السياسية والاجتماعية- فكان لها تصريحات خطيرة عن انحراف مسار النسوية وتواطؤها مع النيولبرالية، حيث اعترفت الفيلسوفة الأمريكية أن حركة النسوية الأولى كانت تتوقع نتائج أخرى بانتقاد سياسة الرأسمالية في (أجر الأسرة) التي تعتمد على الزوج كمعيل رئيسي للأسرة والزوجة كربّة منزل؛ مثل ازدياد دخل الأسر والأفراد على حد سواء وتضامن الجميع في وجه طبقية الرأسمالية بحيث يعم الخير وتزدهر المجتمعات دون استثناء. لكن هذا الانتقاد أساءت استغلاله الرأسمالية، لتصنع من النساء (العازبات، الزوجات، الأمهات، المطلقات) عاملات بالأجرة تحرك الدولة نحو اقتصاد وسياسة خارجية أقوى دون اعتبار للأجور الزهيدة، أو الأمان الوظيفي، أو الاضطرار لعدة نوبات عمل بساعات طويلة. فكانت النتيجة ازدياد فقر الأسر ذات المعيل الواحد وتزايد مشاكلها الاجتماعية.
وعلى ما يبدو، الحركات النسوية الجديدة صادقت على ذلك لتصبح نيولبرالية متناقضة مع أهداف الحركة الأصلية، وهنا تقول فريرز: “أخشى أن تكون حركة تحرير المرأة متورطة في ارتباط خطير مع الجهود النيولبرالية لبناء مجتمع السوق الحرة. هذا من شأنه أن يفسر كيف حدث أن الأفكار النسوية التي كانت تشكل في يوم من الأيام جزءًا من رؤية عالمية راديكالية أصبح يتم التعبير عنها بشكل متزايد بمصطلحات التفرد. كانت النسويات ينتقدن فيما مضى مجتمعًا يشجع النزعة في التطور الوظيفي على حساب كل شيء، فإنهن الآن ينصحن النساء بأن يقدمن مصالح الشركات دعما لطموحهن المهني. الحركة التي كانت ذات يوم تعطي الأولوية للتضامن الاجتماعي تحتفي الآن برائدات الأعمال. إن المنظور الذي كان ذات مرة يُقدّر الرعاية والاعتماد المتبادل يشجع الآن التقدم الفردي والجدارة”.
بين الحلم الأمريكي .. والهدف الإيماني!
هناك فرق أساسي في تربية الآباء والأمهات لأولادهم وبناتهم في الغرب المتحرر عن التربية في الإسلام. ويعد هذا الفرق من تداعيات الاقتصاد على بنية وعلاقات الأسرة التقليدية. فالأسرة المتحررة تسعى بشكل رئيسي على تربية الطفل بهدف الاستقلال عنها ماديا في سن مبكرة واختبار الحياة بمفرده. ويترتب على ذلك إفراد خصوصية للطفل وتشجيعه على العمل لزيادة مصروفه، في خطوات حثيثة لانفصاله وتحقيقه لنفسه ما يدعى بـ “الحلم الأمريكي”.
ولأن الدولة العلمانية الرأسمالية لها حق الوصاية على الأطفال في تنشئتهم على احترام القانون وتشريعاته الليبرالية في المناهج التربوية، فليس هناك الكثير من الأخلاق والفضائل التي يمكن للفرد أن يوليها اهتماما في ظل التحرر من الأديان وتقدير قيم الماديات بالدرجة الأولى، ومن هنا تصبح العلاقة الأسرية بين الأبناء والآباء تحكمها مصلحة العيش بحجة الاعتماد على النفس، فلا يتنازل فيها طرف عن مال للآخر.
ويظهر ذلك جليا في إحكام التصرفات الأخلاقية وفقا للمنظور المادي وليس التربوي. وأبسط مثال على ذلك أن التهذيب من متطلبات العمل مع الزبائن لضمان الوظيفة ومقابلها المادي وليس تربية منزلية يفترض أن يحملها المرء أينما ذهب. وهذه نقطة فصل جوهرية بين الأخلاق والمادة، تستوي فيها التصرفات اللاأخلاقية وتتعاظم بتعاظم المردود المادي. خاصة بعد أن يرى الفرد ظلم القانون الرأسمالي في الفجوة المادية طبقيا، فتنهار أهم أسواره التربوية ويستحل كل شيء لنفسه إلا شيئا واحدا، مقاومة هذا النظام الطبقي وتغييره. بل يصبح جزءا من منظومة تطبيقه على الجميع محاولا التسلق على أكتافهم كيفما سنحت له الفرصة.
تربية الأم الإسلامية هي حصن الأطفال من فساد المجتمع ومكمن تطهيره. إن قوة المرأة الحقيقية التي يعجز عنها الرجال تكمن في حماية بنية الأسرة وتهيئة جيل ينهض بالمجتمع ويحارب الطواغيت. إنهم يحقّرون حملها أعباء المنزل ويقولون عنها فارغة لأنها فقط أم ومربية منزلية، بل هم الفارغون عقلا وهي المتفرغة فعلا لهدف وطموح أسمى من مجرد أمجاد فردية تصفق لها الأنظمة الرأسمالية وتجمع المال من خلفهن.
حقًّا
ملأى السنابل تنحني في تواضع *** والفارغات رؤوسهن شوامخ!
يخشون من تفرغ الأم المتعلمة لتربية الأبناء والبنات على الفضائل والأخلاق، على الالتزام بتعاليم الدين، على رفض ابتزازهم في شهواتهم وابتداع أهواء خاوية يتبعونها أبداً، على رفض الظلم والانتقام للمظلومين، على تقدير حريتهم والتصدي لمن يستعبدهم.
ألم يقتل فرعون أطفال بني إسرائيل خشية أن يربى في كنف أمه من يطيح بعرشه؟ أليست عاطفة الأمومة من منعت فرعون من تنفيذ مخططه؟ ألم يقدّر رب العزة تربية موسى عليه السلام في كنف أمه آسية بنت مزاحم دون أن يؤثر عليهما طغيان فرعون وزبانيته؟ إنها الأم بعاطفتها الجياشة ورأفتها بعثرات أطفالها، تحميهم بنفسها ولا تبالي، تشعرهم بالأمان وتشجعهم على الحق في كل أمر. ضعاف هم الأطفال لكنهم كامنون تحت أجنحة أمهاتهم حتى تأتي لحظة انطلاقهم في المجتمع، فيرتقون به وعلى رأسهم الأمهات، كل يؤدي دوره في الإصلاح، فـ “الأم مدرسة إذا أعددتها؛ أعددت شعبا طيب الأعراق”.
لماذا تهدر هذه الطاقات الإصلاحية في وظائف من السهل إيجاد من يشغلها من الرجال؟ قد يفرض واقع الحياة العمل على المرأة، لكن يجب ألا يطغى ذلك على دورها الأساسي فيصبح خيارها الأول الاستقلال بذاتها حتى بعد الزواج والإنجاب، ففي ذلك تفويت لأجر عظيم وفرصة لتصحيح هذا الواقع للجميع. وقد تفرض الحياة على صاحبة المهنة تركها من أجل تربية الأطفال، أفلا نعطيها نحن الرجال فرصة لتظهر طاقتها في تغيير المجتمع للأفضل داخل مضمارها دون مقارنتها بالأخريات وإطلاق أحكام على مظهرها ولباسها، وتجاوز أي تقصير في مهامها، ومد يد العون لها، وتشجيعها؟ نحتاج فعلا لتقدير هذه الجهود ومباركتها والتذكير بأهميتها دون القياس على المدخول المادي. كما يتوجب علينا بحث حلول عملية تدعم الأسر ذات الدخل الفردي بحيث تعين المرأة على اعتناق دور الأم الحقيقي فهو حمل عظيم..
مصادر ومراجع للاستزادة
https://www.salon.com/…/motherhood_isnt_the_worlds…/
https://www.mic.com/…/why-that-viral-world-s-toughest…
https://www.nytimes.com/…/motherhood-family-sexism…
https://motherwellmag.com/…/is-raising-children-the…/
https://time.com/65207/viral-video-worlds-toughest-mom/