كيف تضيع الأخلاق؟
أن يكون هذا الزمن متطورا في مختلف النواحي المادية والتقنية والصناعية فإن ذلك لا يعني علوّ سويّة الأخلاق والقيم والإنسانية فيه، بل إن هذا التباين الحاصل مؤشر واضح على وجود خلل في تركيبة الإنسان المعاصر، وهو دليل قاطع على حالة الانحدار السريع نحو تلاشي القيم الأخلاقية وضمور الحس الإنساني، لأن أصل الصلاح البشري ليس بلوغ التطور المادي وإنما التوفر على فكر سليم وروح نقية وقيم نبيلة، وفي حال غياب ذلك أمام الاستفحال المادي الواقع في عصرنا فإن الانحدار الأخلاقي حتمي وسيكون مصير البشرية الذي لا مفر منه قاتما.
خطوات في طريق الانحراف
“كانت النصرانيات واليهوديات من أهل الشام يلبسن قبل الحرب الأولى الملاءات[1] الساترات كالمسلمات، وكلّ ما عندهن أنهن يكشفن الوجوه ويمشين سافرات، وجاءت مرة وكيلةُ ثانوية البنات إلى المدرسة سافرةً، فأغلقَت دمشق كلها حوانيتَها وخرج أهلوها محتجّين متظاهرين، حتى روّعوا الحكومة، فأمرَتها بالحجاب وأوقعَت عليها العقاب، مع أنها لم تكشف إلاّ وجهها، ومع أن أباها كان وزيراً وعالِماً جليلاً وكان أستاذاً لنا”[2].

علي الطنطاوي
هكذا يحكي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عن الحال التي كانت عليها بلاد الشام، كانت النساء المسلمات متسترات تمام التستر، حتى أن غير المسلمة كانت تُعرَف بسفور وجهها، وكان الرجال يغارون أشد الغيرة على أعراضهم وعلى أخلاق مجتمعهم، كل ذلك كان قبيل عام 1914م، ولأن طبيعة هذا المجتمع تبعد الشباب عن الانشغال بالمغريات والالتفات للشهوات، لم يكن هنالك ما يلهي ويصرف الشباب عن التعلم والبناء، فكان إزالة تلك الحواجز بين الشباب وما يلهيه هي الخطوة الأولى لهدم كيان المجتمع عن طريق هدم شبابه، وبدأ ذلك في فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا حيث بدأوا بجعل المدارس مختلطة وبإدخال المدرسين من الرجال على البنات بحجة فقد المدرّسات القادرات، ثم احتجوا بالرياضة فكشفوا من أجلها ما كان مستورًا من الأجساد[3].
عقود تلو عقود، وهذه الحوادث وغيرها تتصاعد مع مرور الزمن ويزداد الفساد أكثر فأكثر، فبعد أن كان الناس حريصين على أن تصبح الأخلاق الحسنة هي السمة العامة لمجتمعاتهم وأن يكون من يخالفها شاذا عنها منبوذا منها، أصبح الالتزام بالأخلاق من عدمه أمرا اختياريا مرهونا بإرادة الفرد، وما زلنا نشهد الحملات الممنهجة لنشر الفوضى في الأخلاق وتضييع القيم الاجتماعية بإماتة الحياء والغيرة.
نماذج على طريق الضياع
استوقفتني مقاطع مصوّرة بثتها إحدى الصفحات السورية التي تجاوز متابعوها المليون على منصة يوتيوب، وما هي إلا دقائق حتى ظهر فيها ما يندى له الجبين وتقشعر منه الأبدان، فمحتوى الفيديوهات المصوّرة لا يوحي بأنها صُوّرت في مدينة محتشمة حيث إن كل ما فيها يثير الغرائز ويحرك الشهوات ويظهر تدنى مستوى الحياء وذهاب فكرة الغيرة على الأعراض من عقول الناس بشكل علني جهارا نهارا.
يقف مقدم المحتوى في الشارع يستضيف المارة ثم ينثني إليهم بأسئلة ملؤها الميوعة، ووصل به الأمر أنه تحدى إحدى الفتيات “المحجبات” بأن تلحق أحد الرجال طالبةً منه أن يخطبها، ويا له من مشهد مؤلم أن يكون الاستهتار بالحياء أمرا سائغًا ومضحكًا ما دام في إطار كوميدي جذاب.
لنفترض حسن الظن بالصفحة وأن القائمين عليها ليسوا من رعاع الناس، وأنهم لم يختاروا أحياء معينة دون أخرى ليقوموا بمقابلاتهم فيها، وأن هدفهم هو فقط رسم البسمة على وجوه الناس، وحَـمْلهم على حسن الظن كان لأن وجود أمثالهم ليس هو المصيبة الآن، إنما قبول عامة المجتمع لهذا النوع من الأفكار وكأن ما يقومون به نوع من الترفيه المباح هو المصيبة بعينها.
ماذا يبقى من المجمع إن هدِمَت الأخلاق
من المؤكد أن الأخلاق تشكل ركنًا أساسيًّا في أي مجتمع، فهي الضامن لاحترام الناس بعضهم لبعض، وهي السبيل لتمتين العلاقات وتعزيزها بالمحبة والأدب، وهدم أخلاق المجتمع يتخذ أشكالاً مختلفة وينطلق من نقاط متعددة، كالانحلال الشهواني أو تفشي الفساد المالي، وباجتماع هذه الآفات كلها تكون أركان الأخلاق في المجتمع قد نقضت واحدة تلو الأخرى.
إن كون انتهاء الأمة مقرونا باتباعها لشهواتها وانتشار الفسق فيها هو سنة الله في الكون، فقد قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، حيث يرى المفسرون أن معنى الآية هو تسلّط الأشرار فيها حيث يصعّدون من معاصيهم فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب[4].
يروي لنا التاريخ حادثة لمروان آخر خلفاء بني أمية حيث مرّ براهب وهو هارب من العباسيين، “فاطَّلَع عليه الراهب فسَلَّمَ عليه فقال له: يا راهب هل عندك علم بالزمان؟ قال: نعم! عندي مِن تلَوُّنه ألوان. قال: هل تَبْلُغ الدنيا من الإنسان أن تجعله مملوكا بعد أن كان مالِكا؟ قال: نعم! قال: فكيف؟ قال: بحبه لها وحرصه على نيل شهواتها”[5].
ومن ذلك ما حدث في عصر سقوط الأندلس، حيث “إن الأندلسيين في أواخر أيامهم، ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى والحياة العابثة، والمجون وما يرضي الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، لقد استناموا للشهوات وللسهرات الماجنة والجواري الشاديات، وبحكم البديهة فإن شعبا يهوي إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة والمجون، لا يستطيع أن يصمد رجاله لحرب أو جهاد، أو يتكون منهم جيش قوي كفءٌ للحرب والمصاولة”[6]، وقد أشار المستشرق كوندي إلى سبب انهيار الحضارة الإسلامية في الأندلس ورضوخها آخر المطاف لسلطة ممالك إسبانيا النصرانية بقوله: إن العرب سقطوا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب، يميل إلى الخفة والمرح، والاسترسال بالشهوات”[7].
الأخلاق وسُنن التاريخ

مالك بن نبي
في إطار دراسة ابن خلدون لتاريخ السقوط والنهوض في الأمم السابقة توصّل إلى ارتباط انهيار الملك في دولة ما بفساد رؤسائها وركونهم إلى فاسد العمل، فقال: “إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها، فتُفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم”[8]
ويقول مالك بن نبي في الإطار ذاته: “دورة الحضارة إذن تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة، أو عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين على حد قول (كيسرلنج)، كما أنها تنتهي حينما تَفقد الروحُ نهائيا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح”[9].
وهنا يأتي سؤال لا بد منه، وهو: كيف وصل الغرب إلى هذه الحضارة مع قلة انتشار الأخلاق فيه؟
لعل من أهم أسباب بقاء الغرب متحضرا إلى الآن هو تمسكه ببعض القيم القانونية والأخلاقية التي تضمن تماسك بنية الدولة واستمرار تقدّم دورة العلم والمال فيها، لكن هذه الظاهرة لا تنفي مساوئ تحول العلم من معرفة إلى صانع للمادة، فقد أدى ذلك إلى الإسهام في انتشار الإلحاد واندثار كثير من القيم الأخلاقية، وهو أمر مؤذن بقرب نهاية دورة الحضارة فيها[10].
إن للحضارة شقان: شق مادي، وشق ثقافي، فهم الآن في أوج عصور حضارتهم المادية، ولكن على صعيد الثقافة والأخلاق فهم على شفا جرف هار، أما المسلمون فقد تهدّم بنيانهم المادي وضاع شقهم الثقافي، وطريق الخلاص من ذلك يبتدئ بإعادة بناء منظومة الأخلاق بما يرضي الله الذي قال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت *** فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن من أهم الواجبات على المؤثرين في الشعوب المسلمة أن يعملوا على تنمية فطرتهم الطيبة قبل أن يأتي من يستعملها لحظوظ نفسه ولأفكار متطرفة لا تمت للإسلام بصلة، وأن يسعى لإصلاح الأخلاق وتقويمها فهي عماد ثبات المجتمع، وهي بداية عودتنا إلى أفضل مما كنا عليه إن شاء الله، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
[1] أي العباءات.
[2] ذكريات، علي الطنطاوي (5/ 291).
[3] ينظر: ذكريات، مرجع سابق، (5/ 271).
[4] التفسير المنير للزحيلي (15/ 37).
[5] البداية والنهاية ط الفكر (10/ 48).
[6] مصرع غرناطة، شوقي أبو خليل ص94 بتصرف.
[7] عوامل النصر والهزيمة، شوقي أبو خليل ص110.
[8] مقدمة ابن خلدون ص130، ط دار الشعب، ت علي عبدالواحد وافي.
[9] شروط النهضة (ص: 70).
[10] للمزيد انظر كتاب الإسلام والغرب للشيخ البوطي ص21، وكتاب نحن والحضارة الغربية لأبي الأعلى المودودي ص30، ومقال “الأخلاق ودورها في سقوط الحضارات” لمحمد عدنان شيط.