مقالات

وهم الديمقراطية (5)

تحدثنا في المقال الأول من هذه السلسلة عن إدوارد بيرنيز الذي لعب دورا محوريا في السيطرة على الجماهير والتلاعب بهم لأسباب اقتصادية، إلا أنّ التجربة الأولى لبيرنيز مع الجماهير هي تجربة سياسية.

أعضاء لجنة كريل عند تأسيسها عام 1916

فقد كان بيرنيز أحد أعضاء لجنة “كريل” للدعاية السياسية، والتي أنشأتها إدارة الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” لإقناع المواطنين بضرورة دخول الحرب العالمية الأولى، فالمواطنون كانوا مسالمين للغاية، ولا يرون سببًا للتورط في حرب أوروبية طاحنة؛ وكان ذلك يتعارض مع مصالح الإدارة الأمريكية.

لذا وفي غضون ستة شهور نجح بيرنيز وزملاؤه في لجنة كريل بتحويل المواطنين المسالمين، إلى أشخاص متعطشين للحرب وتدمير كل ما هو ألماني، لإنقاذ العالم.

كانت تجربة بيرنيز مع لجنة كريل هي ما دعته لقراءة كتب خاله سيغموند فرويد، حتى يبدأ بالتلاعب بالجماهير بما يخدم مصالح الإمبراطوريات الاقتصادية والنُخب السياسية.

كان فرويد يرى الإنسان حيوانًا خطِرًا شرسًا يصعب ترويضه، خصوصًا بعد ما شهده من دموية الحرب العالمية الأولى. وقد أيقن بضرورة التحكم بالجماهير بعد رؤيته لتطبيق نظريات بيرنيز وكيف يمكن أن تؤثر النزعات الدفينة في اللاشعور على تصرفات الناس.

ولأن بيرنيز روج لكتابات خاله في المجتمع الأمريكي، فقد أصبح لآراء فرويد وقع خاص على المجتمع، ما دعا والتر ليبمان عميد الصحفيين الأمريكيين، وأكثر الكُتّاب السياسيين تأثيرًا آنذاك، إلى القول بضرورة إعادة التفكير بالديمقراطية.

ومن الأفكار التي جاء بها ليبمان ما عُرف بـ”تصنيع الإجماع”، بمعنى استخدام الأساليب الدعائية لحمل الجمهور على الموافقة على أشياء لم يكونوا يتقبلونها، والتحكم بنتائج التصويت وعدم تركها للميول التلقائية للجمهور. وذلك من خلال إبقاء الأكثرية مجرد جماهير متلقية للمادة الإعلامية دون المشاركة فيها.

في ثلاثينيات القرن الماضي، سارت “الديمقراطية” على غير ما هو مرسوم لها، وحققت الحركات العمالية أول وآخر انتصار تشريعي لها، فقد تم سن ما سمي بقانون واجنر، والذي سمح للعمال بتشكيل النقابات والمطالبة بحقوقهم. وجاء رد أقطاب الاقتصاد والإعلام عندما حاول بعض عمال الحديد القيام بإضراب عام، فتم تصويرهم إعلاميًا على أنهم مخربون يضرون بـ”المصلحة العامة” وبـ”تناغم المجتمع الأمريكي”، وينقضون “الهوية الأمريكية”.

وقد حقق هذا الأسلوب نجاحًا باهرًا، فتكرر استخدامه فيما سمي “صيغة وادي موهوك”.وهذه العبارات الفارغة (كالهوية الأمريكية) تستخدم كثيرًا لأغراض سياسية، فتُستخدم في منطقتنا العربية العديد من العبارات الشبيهة، مثل “لأجل الوطن”، عدا عن أسطوانات مشروخة تخص كل دولة على حدة، وعادة ما يتم تعزيز هذه الكلمات بصورة تلك الخرقة التي تكرس الحدود التي رسمها المستعمر، مع بعض الموسيقا المؤثرة.

شبّه ليبمان الناس بالقطيع الجائر الذي يجب التحكم فيه من خلال النخبة التي بإمكانها فهم وإدراك ماهية المصالح العامة للمجتمع، ومن ثم تقرير الأمور التي من شأنها أن تهم المجتمع.

وبالتالي حسب تصور ليبمان، فإن المجتمع الديمقراطي يتكون من طبقتين: الأولى هي الطبقة المتخصصة، وهي التي تفكر وتخطط وتحدد المصالح العامة. والثانية هي القطيع الجائر، ووظيفته المشاهدة فحسب، كما ويمكن لهذا القطيع من وقت لآخر من أن يؤيد أحد أفراد الطبقة المتخصصة، وهذا ما يُطلق عليه “انتخابات” بشرط أن يعودوا بعد ذلك لوظيفتهم الأساسية، مشاهدون فقط.

بطبيعة الحال فإنّ هناك طبقة أخرى لا تظهر للعلن، هي التي تحدد الطبقة المتخصصة، وهذه الطبقة هي التي وصفها الفيلسوف والناقد والناشط السياسي الأمريكي نعوم تشومسكي بـ”الأفراد الذين يملكون القوة الحقيقية، ويملكون المجتمع”.

يتسم نظام الانتخابات الرئاسية الأمريكية بالتعقيد، فهي انتخابات غير مباشرة تقوم على ما يُسمى بـ”المندوبين” و”المجمع الانتخابي”، حيث يصوت الشعب لمندوبين يتعهدون بالتصويت لمرشح معين. وتُجرى أولًا الانتخابات الأولية لتحديد مرُشح كل حزب، ومن ثم تجري الانتخابات الرئاسية العامة بين مرشحي الأحزاب المتنافسة (بشكل أساسي الحزب الجمهوري، والحزب الديمقراطي). وحيث أنه لا مجال للخوض في تفاصيل الانتخابات الأمريكية وقوانينها، يكفي لفت النظر لبعض النقاط:

– في بعض الولايات يمكن لمنتسبي حزب معين المشاركة بانتخابات تحديد المرشح للحزب المنافس فيما يُسمى بـ”الانتخابات الأولية المفتوحة” (open primary).

– في الانتخابات الأولية هناك مندوبون (Unbound Delegates/ superdelegates) غير مُلزَمين بإخبار الجمهور بهوية المرشح الذين سيصوتون له.

– في الانتخابات الرئاسية العامة، في كل الولايات باستثناء ولايتي “مين” و”نبراسكا”، من يفوز بولاية ما يأخذ أصوات جميع المندوبين فيها، والحصول على أصوات أكبر عدد المندوبين هو من يحدد هوية الرئيس الأمريكي الجديد. لذا يمكن بالمحصلة أن يكون الفائز بالانتخابات ليس هو من حصل على أكبر عدد من الأصوات، وقد حصل هذا خمس مرات على مدى التاريخ الأمريكي القصير، كان آخرها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها “دونالد ترمب” رغم حصول منافسته “هيلاري كلنتون” على عدد أصوات أكبر.

أي أنه في النظام الديمقراطي السليم، يجب على “الجمهور الديمقراطي” أن يسير وراء ممثليه الذين يعرفون المصالح العامة للمجتمع، حيث ينتخب الجمهور ما أفرزته النخبة من أفراد يُعفون الجمهور من الاهتمام بالأمور السياسية التي يصعب عليه فهم مصطلحاتها. فعلى الجمهور أن يبقى مُنشغلًا بأحدث صرعات الموضة، وبالمباريات الرياضية، وأحدث الأجهزة الالكترونية. والانتخابات الأمريكية هي بالفعل خير مثالٍ لذلك.

وحيث بينّا في هذا المقال كيف يُنظر إلى الانتخابات وإلى “الديمقراطية”، وكيف يتم توجيه الرأي العام منذ قرن من الزمان؛ فسنبيّن في المقال القادم -والأخير في هذه السلسلة- كيف تُستخدم نفس الاستراتيجية التي اتُبعت في لجنة كريل حتى يومنا هذا، بغرض توجيه الرأي العام والتحكم بالجماهير في “المجتمع الديمقراطي”.

 


أهم المصادر والمراجع

السيطرة على الإعلام، نعوم تشومسكي، ترجمة أميمة عبد اللطيف، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 2005.

صناعة الواقع، محمد علي، مركز تفكر للبحوث والدراسات، القاهرة، 2014.

The Century of the Self, Adam Curtis, BBC, 2002.

The Electoral College: How It Works in Contemporary Presidential Elections, Thomas H. Neale, Congressional Research Service, 2017.

The Presidential Nominating Process and the National Party Conventions, 201 6: Frequently Asked Questions, Kevin J. Coleman, Congressional Research Service, 2015.

Five presidential nominees who won popular vote but lost the election, Rachael Revesz, The Independent, 2016.

http://www.ncsl.org/research/elections-and-campaigns/primary-types.aspx

العلمانية

تتفاوت آراء المنظّرين بشأن تعريف العلمانية تفاوتا كبيرا، ويرجع ذلك في الغالب لزاوية النظر والمعالجة، وفيما يلي ثلاثة تعريفات للعلمانية في أهم الموسوعات الغربية:

معجم أكسفورد: كلمة secular تعني دنيوي أو مادي، أي ليس دينياً ولا روحياً، مثل التربية اللادينية والفن والتربية الموسيقى اللادينية والسلطة اللادينية، والحكومة المناهضة للكنيسة.

دائرة المعارف الأمريكية: العلمانية نظام أخلاقي مستقل مؤسس على مبادئ من الخلق الطبيعي، مستقل عن المظهر الديني أو الفوق طبيعي.

دائرة معارف الدين والأخلاق: العلمانية توصف بأنها حركة ذات قصد أخلاقي منكر للدين، مع المقدمات السياسية والفلسفية، فهي مؤسسة بقصد إعطاء نظرية معينة للسلوك والحياة، وهي تتبع في ذلك المذهب الوضعي الأخلاقي، منذ أن تكفلت بأن تعمل هذه دون الرجوع إلى الألوهية أو الحياة الآخرة، ولهذا فقد كان مطلبها هو تتميم وظيفة الدين خالية من الاتحاد الديني، ولذلك فإنه يجدر بها أن تكون ديناً إنكارياً سلبياً.

إذن فالعلمانية في المنظور الغربي تعني التحرر من الأديان بحكم التطور عبر “السيرورة” التاريخية، واعتبار الأديان مرحلة بدائية لأنها تشتمل على عناصر “خرافية” كالماورائيات والغيبيات، ولا يتم الخلاص من هذه الأعباء إلا عن طريق تحقيق النضج العقلي الذي تحققه العلمنة عبر آلياتها الثقافية والفكرية والإعلامية.

كثيرا ما يحصل اللبس عند القراء العرب، فيلفظون العلمانية بكسر العين بدلا من فتحها، ويعتقدون أنها مشتقة من العِلم، والصحيح أنها مشتقة من العالَم أي الدنيا في مقابل الغيب وكل ما يتعلق بالملكوت. لذا فالكلمة ليست إلا اشتقاقا خاطئا درج على ألسن العرب وصار مصطلحا لازما، وكان يجب أن يقال بدلا منها العالَمانية أو الدنيوية.

تعليقات ابن رشد على كتاب “في الروح” لأرسطو مترجمة للفرنسية

إرهاصات الظهور في أوربا

درج بعض الباحثين على ربط تبلور العلمانية بصفته تيارا فكريا بعصر النهضة الذي يؤرخ لبدايته عادة مع فتح القسطنطينية في عهد السلطان محمد الفاتح سنة 1453م، كما درجوا عادة على القول بأن مساوئ الكنيسة واضطهادها وتاريخها الأسود هي التي أنتجت العلمانية. لكن بدايات الصراع بين الفكر والكنيسة يمكن أن تُعد من آثار ترجمة فلسفة ابن رشد إلى اللغة اللاتينية منذ بدء احتكاك الأوربيين بالمسلمين عقب الحروب الصليبية، كما كان لليهود الذين تغلغلوا في الحركات السرية دور كبير في تأصيل العلمانية.

كان ميشيل سكوت أول من أدخل فكر ابن رشد إلى أوربا في القرن الثالث عشر. ومن المعروف أن ابن رشد تبنى مذهب أرسطو وانبهر به حتى كاد أن يفضّل أرسطو على الأنبياء حين قال “نحمد حمداً لا حد له ذاك الذي اختار هذا الرجل (أرسطو) للكمال فوضعه في أعلى درجات الفضل البشري التي لم يستطع أن يبلغها أي رجل في أي عصر كان”.

تزامن انتقال الفكر الرشدي إلى الغرب مع عاملين: الأول هو الفتح الثقافي الإسلامي والعربي للبلاد الأوروبية، ولم يكن ابن رشد وحده هو الذي يحتل الساحة الثقافية الأوربية بل أعلام كثر. أما الثاني فهو حالة العداء الشديدة التي تزعمتها الكنيسة لكل ما هو عربي وإسلامي إبان الحروب الصليـبية، لذا حاربت الكنيسة الفكر الرشدي وترجمت كتاب “تهافت التهافت” ترجمة محشوة بالتحريف والتناقض والافتراء، ومع أن ابن رشد كان يتبع أرسطو مثل الكنيسة، إلا أن الكنيسة حاربته لكونه مسلما في الأصل.

شعار جامعة بادوفا

وهكذا نشأت حركة تعاطف مع الحضارة الغازية من جانب الراغبين في التحرر من الاحتكار الكنسي للعلم والثقافة، فالكنيسة اضطهدت الفكر الرشدي واعتبرته إلحاديا، بينما رحب المتمردون بهذه الصورة التي رُسمت لابن رشد وفكره واستُخدمت كسلاح مضاد للكنيسة.

احتلت “الرشدية” مقام السيادة في الجامعات الغربية الكبرى مثل جامعة بادوفا في إيطاليا التي أصبحت معقل الرشديين، ثم وجدت لها صدى في الجامعة الباريسية، وصارت الرشدية معياراً  للثقافة والتحضر والرقي.

الحقيقة المزدوجة

في أوائل القرن السادس عشر أصبحت الرشدية تسيطر على جميع إيطاليا تقريباً، وأدى ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر إلى انتشار الأفكار المناهضة للكنيسة والعقائد الشائعة، كما استطاع الأفراد أن يمتلكوا نسخاً من الكتاب المقدس ويقرؤوه بأنفسهم. وبدأت الكنيسة تفقد سلطانها على العقول والأفكار.

وهنا نشأت الحقيقة المـزدوجة أو الحقيقة ذات الوجهين، وهي تعني أنه يمكن للشيء أن يكون صادقاً فلسفياً وخاطئاً لاهوتياً أو العكس، وبذلك يصبح الفيلسوف حراً في المجاهرة بآرائه ونتائجه في مجال الفلسفة بحجة أنه فيلسوف حتى لو كانت مخالفة للدين.

فرنسيس بيكون

ثم ظهر في بريطانيا فرنسيس بيكون 1561– 1626م كمدافع عن نظرية الحقيقة المزدوجة، وهي تعني عنده أن ما يثبت بالعقل لا علاقة للإيمان به، وبالنتيجة ساد الاعتقاد بأن الكتاب المقدس شيء، وكتاب الطبيعة شيء آخر.

ولم يكن الفلكي الإيطالي غاليليو 1564– 1642م بعيداً عن هذه النظرية، كما استمات الفيلسوف باروخ سبينوزا 1632- 1677م في الدفاع عنها متدثرا بغطاء دينه اليهودي.

وبالرغم من التناقض الظاهر في هذه النظرية، فقد أصبحت وسيلة للتمويه لدى الكثيرين حتى في العصر الحديث، وكان طه حسين من أوائل العرب الذين تبنوها عندما نشر كتابه “في الشعر الجاهلي”، حيث شكك في وجود بعض الأنبياء مع اعترافه في الوقت نفسه بأنه مقر بكل ما جاء في القرآن الكريم.

 

ثورة العقل الأوربي

بدأت ثقة الناس تتزعزع في الكنيسة عندما وجه الفيلسوف الإيطالي مكيافلي 1469– 1527م انتقادات فاضحة إلى رجالها الذين يحيون حياة الرذيلة في حين يدعون الناس إلى الزهد والتقشف، ثم تفاقمت نزعة التمرد على يد فريدريك نيتشه 1844– 1900م الفيلسوف الألماني اليهودي الذي نادى بالقضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء لأنه يؤمن بالبطل وبالإنسان الأعلى الذي يجب أن يستعيض بالقوة عن الأخلاق، مستبطنا عقيدة الشعب اليهودي المختار.

مارتن لوثر

تزامنت المبادئ المكيافلية مع ثورة القس مارتن لوثر 1483– 1546م في ألمانيا عام 1518م داخل الكنيسة للإصلاح الديني، فقد جعل لوثر الفرد حراً في قراءة الكتاب المقدس وحراً في تفسيره، وألغى وساطة الكهنـة والأسرار المقدسة التي تحتفظ بها الكنيسة، وجعل الصلة مباشرة بين الله والإنسان الفرد، فتأسس على يديه مذهب البروتستانتية.

ورحبت الطبقة المتوسطة بالبروتستانتية لأنها رأت فيها منفذاً يتيح لها ممارسة الحياة بحرية، وأصبح الكثيرون لا يذكرون الدين إلا يوم الأحد وينهمكون بقية الأسبوع في الحياة الدنيوية.

في هذه المرحلة كان الفلكي كوبرنيكوس 1473– 1543م متردداً في طرح نظريته الجديدة لأنها تهدم نظام الفلك الأرسطي الذي تتبناه الكنيسة، فبدلاً من النظرة التي كانت تعتبر الأرض مهد المسيح وقلب الكون جعلت النظرة الجديدة الشمس مركزاً والأرض مجرد كوكب يدور حولها، فرفض زعيما البروتستانتية مارتن لوثر وكالفن 1509– 1564م هذه النظرية.

جيوردانو برونو

تبنى الإيطالي جيوردانو برونو 1548– 1600م نظرية الفلك الكوبرنيكي ووضع نظريته في “الكون اللامتناهي”، وقال إن الإله هو روح الكون، وإن الإله والطبيعة الجوهرية شيء واحد، وهذه فلسفة قديمة تسمى “وحدة الوجود” تؤمن بأن الإله يتحد مع الكون، فحكمت عليه الكنيسة بالإعدام حرقا، ويعتبره أتباع الجمعيات السرية اليوم (المتنورون أو الإلوميناتي) من رموزهم و”شهدائهم”.

ثم خرج جوليو سيزار فانيني 1585– 1619م بهرطقاته الإلحادية ونفى وجود الإله لكي لا ينسب إليه الشر، فقُبض عليه وأعدم حرقاً في مدينة تولوز بفرنسا. وفي أسكتلندا أنكر جون الأسكتلندي التثليث وألوهية المسيح، وقيل له ذات يوم ألا تذهب إلى الكنيسة؟ فقال ليذهب الإله إلى حبل المشنقة، فذهب هو إلى حبل المشنقة.

وقد قدّر سكرتير التفتيش في إسبانيا لورنتي عدد الضحايا الذين تم إحراقهم بحكم الكنيسة ما بين عامي 1790 و1792م بنحو ثلاثين ألف شخص، مما زاد من كراهية الناس للكنيسة وللأديان جميعا.

 

تمثال كوبرنيكوس

الحتمية الفلكية الميكانيكية

في النصف الثاني من القرن السادس عشر، بدأت نظرة الإنسان الغربي إلى الكون بالتغير مع شيوع نظرية كوبرنيكوس، فاعتنقها كبلر وغاليليو، ثم أيد الأخير الانفصال التام بين العلم والإيمان، وأنجز الإنجليزي إسحاق نيوتن انتصارات علمية كبيرة بتقديم قانون الجاذبية وقوانين الحركة.

وترافقت هذه النظريات مع اكتشافات علمية كبرى، فاكتشف ليفنهوك 1632– 1723م الكائنات العضوية أحادية الخلية والبكتيريا والحيوانات المنوية، واخُترع الميكروسكوب المركب والتلسكوب، كما اخترع غاليليو الترمومتر، وقدّم تلميذه تورشيلي البارومتر، ثم ظهرت مضخة الهواء والقوة المغنطيسية، وأعلن هارفي اكتشاف الدورة الدموية مع أن ابن النفيس كان قد سبقه إليها.

أدى كل ذلك إلى تغير نظرة الإنسان للكون، وسيطرت النظرة الآلية الميكانيكية على العلماء والفلاسفة حتى أصبح الكون يُشبّه بالساعة، وهكذا تحول الإله في نظر الفلاسفة والعلماء إلى ساعاتي رفيع المقام، بل تخيلوه إلها ساكنا غائبا عن العمل، لأن قوانين الطبيعة والكون أصبحت حتمية فلم يعد للإله دور حسب فهمهم، لكنهم أبقوا مع ذلك على دور الإله الخالق في تكوين الكون بالبداية.

وسيطرت هذه النظرة الآلية لمدة قرنين من الزمن على الفكر الأوربي وسميت بمبدأ الحتمية، وظل النزاع بين الحتمية واللاحتمية قائما حتى ظهرت فيزياء الكم ونظرية هايزنبرغ (اللايقين) في القرن العشرين، حيث سقط مبدأ الحتمية واستعاد الإنسان تواضعه، وأعيد الاعتبار للإيمان بالخالق المُسيّر والمدبر للكون [انظر مقال مصادر المعرفة].

التدرج نحو الإلحاد

يُعتبر فرنسيس بيكون من أبرز الفلاسفة الذين نادوا باعتماد المنهج التجريبي بدلا من المنهج النظري الفلسفي، علما بأنه أخذ معظم مبادئ المنهج من المسلمين في الأندلس ومن كتابات الحسن بن الهيثم. وكان يرى أن الحركة الطبيعية للذرة هي حقاً أقدم قوة في الوجود، وأنه لا يمكن أن تكون لهذه المادة الأولية وقوتها وفعلها أي علة طبيعية فما من شيء يسبق المادة نفسها وكأنها غير محتاجة للإله.

توماس هوبز

أما توماس هوبز 1588– 1679م فرأى أن جوهر الدين لا يقوم على الحقائق، وإنما على خوف الفرد من القوة المجهولة أو خوفه من الموت.

ثم جاء الإنجليزي جون لوك 1632– 1704م وقال إنه لم تبق حاجة للوحي طالما أن الإله أعطـانا وسائـل حسية أكثر يقينـاً لنتـوصل بهـا إلى المعرفة، أما ديفيد هيوم 1711– 1776م فتبنى نزعة الشك على طريقة بعض قدماء الإغريق، وكاد أن يوقع العقل الأوربي في دوامة رهيبة من الشك في كل شيء.

وإلى جانب التجريبيين كان هناك عدد من الفلاسفة العقلانيين، وعلى رأسهم الفرنسي رينيه ديكارت الذي استخدم الشك ليصل به إلى اليقين، ومع ذلك كان إيمانه قاصرا ويشبه إيمان أتباع النظرة الآلية كما يقول بعض الباحثين.

ثم جاء بعده ليبنتز 1646– 1716م وقال إن الوجود مكون من شيء خيالي اسمه “المونادات” وهي خالدة، ما يعني أن العالـم لانهـائي، لكنه كان يؤمن بوجود الخالق.

وتولد من الصراع بين الفلكيين والتجريبيين والعقلانيين ظهور “الدين الربوبي” أو “الدين الطبيعي”، ويسمى أتباعه بالربوبيين، وهم يؤمنون بالله عز وجل، ويرفضون النبوة والوحي والكنيسة. وازدهرت في القرن الثامن عشر بلندن “جمعية البحث الحر المخلص” التي كان معظم أعضائها من المؤمنين بالدين الطبيعي.

فولتير

وفي فرنسا كان دنيس ديدرو وفولتير وجان جاك روسو من أنصار هذه النزعة، مع إيمانهم بوجود إله. وظهر بعدهم الإنجليزي جون ستيوارت مل 1806– 1873م الذي شكك في وجود الإله، ثم انضم إليه الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس 1842– 1910م الذي اعترف مبدئياً بأن مصدر مذهبه في الألوهية ليس النظام في الكون والاتساق فيه، وإنما إحساس شخصي بالحاجة إلى إله.

وسار بهذه الأفكار فلاسفة آخرون مثل صمويل ألكسندر وماكس شيلر وبرايتمان وتشارلز هاتشورن وهنري برغسون وألفرد نورث هوايتهد، وكانت لدى بعضهم أفكار تنتقص من قدسية الإله.

وفي هذه الأجواء تمكن الألماني نيتشه من إعلان إلحاده والقول بأن الإله قد مات، حيث أراد بذلك إفساح الطريق أمام الإنسان ليصبح إلهاً، ثم لحق به فيورباخ 1804– 1872م، وأصبح الطريق سالكا لليهودي الألماني كارل ماركس 1818– 1883م ليرفض الألوهية من أساسها ولا يعترف إلا بالمادة.

حاول الألماني إمانويل كانط 1724– 1804م أن يتصدى للتيار المادي الإلحادي فواجه صعوبات جمة، إذ كان مذهبه نفسه محملا ببذور الشك واللاأدرية، لكنه قال إن الإيمان بالإله ضروري لأسباب أخلاقية بحتة، مُرجعا الدين إلى العاطفة المجردة.

العلمانية السياسية

كنتيجة لشيوع العلمانية (الدنيوية) في الحياة والفكر والعلم، وبدء التحول الاقتصادي نحو الرأسمالية، وتزايد أتباع المذهب البروتستانتي الجديد، أصبح الطريق ممهدا أمام فصل الدين عن السياسة أيضا، وساعد على ذلك تبني بعض الملوك والنبلاء للعقيدة البروتستانتية الجديدة التي سمحت لهم بالتمرد على الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، حيث ظل بابا الفاتيكان لقرون الجهة الوحيدة التي تمنح الشرعية لملوك أوربا.

توقيع معاهدة وستفاليا

استُخدم مصطلح العلمانية “سكيولاريزم” secularism بالإنجليزية لأول مرة سنة 1648م عند توقيع صلح وستفاليا الذي يعد موعد ظهور الدولة القومية الحديثة، وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة، مثل الإشارة إلى علمنة ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطة الدولة التي لا تخضع لسلطة الكنيسة.

تضمن صلح وستفاليا معاهدتي سلام لإنهاء حرب الثلاثين عاماً داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة (ألمانيا وجوارها اليوم) وحرب الثمانين عاماً بين إسبانيا ومملكة هولندا. ورفض ممثل البابا أن يوقع على الصلح لكن أوروبا تجاهلت هذا الاحتجاج ونجحت للمرة الأولى في الحد من سلطة الفاتيكان.

تخلت الكنيسة الكاثوليكية بموجب هذا الصلح عن قرار إعادة أملاك الكنيسة، وصار من حق الأمراء تقرير عقيدة رعاياهم، وتم الاعتراف رسمياً بكنيسة الإصلاح أو الكنيسة الكالفنية (بروتستانتية)، وتم الفصل تدريجيا بين الدين والدولة، حيث أصبحت السلطة قائمة على المصالح الدنيوية وليس على الشرعية الممنوحة من رجال الكهنوت، كما أصبحت الشعوب مرتبطة فيما بينها برابط الهوية القومية (العنصرية) وليس على الأخوة بين أتباع الدين الواحد.

تدريجيا أصبحت العلمانية هي المنهج الوحيد المتبع في أنظمة الحكم بالدول الغربية مع اختلافات طفيفة في التطبيق، ثم انتشرت العلمانية في معظم دول العالم، وترتبط العلمانية سياسيا بالديمقراطية من حيث المبدأ، مع أن الكثير من الأنظمة العلمانية تمارس أقصى درجات الاستبداد، وتعتبر الثورة الفرنسية (1789م) نقطة بدء التطبيق العملي للعلمانية السياسية.

أصبحت المقصلة رمزا للثورة الفرنسية لكثرة استخدامها في عمليات الإعدام لكل من كان يُعتبر عدوا للثورة والعلمانية

يعتمد نظام الحكم العلماني على إقصاء الدين عن السلطة، ويقابله النظام الثيوقراطي الذي تتربع على قمته طبقة الكهنوت، ويرى المفكرون الإسلاميون أن الحكم الإسلامي ليس ثيوقراطيا لعدم وجود مؤسسة دينية كهنوتية في الإسلام، فعلماء الشريعة يتلقون العلم ويقدمون اجتهاداتهم دون طبقية، والحاكم المسلم ينفذ قوانين الشريعة ويحمي “بيضة الإسلام” دون امتلاك حق (تفويض) إلهي ولا شرعية مطلقة، بل هو مطالب بالالتزام بالشرع كما يُلزم به بقية الشعب دون امتياز.

وتمثل مرحلة الخلافة الراشدة النموذج التطبيقي لهذه المبادئ، ومع أن المراحل التالية شهدت تراجعا كبيرا في التطبيق، لا سيما مع ظهور طوائف وفرق أخرى مثل الإسماعيلية التي أنشئت على أسسها الدولة الفاطمية وإمارات القرامطة والحشاشين، إلا أن الإسلام ظل عصيا على التحول إلى أيديولوجيا كهنوتية مؤسسية، لأن القرآن ظل محفوظا عن التحريف والتشويه، ولأن سنة النبي وخلفائه في الحكم الراشد لا يمكن طمسها، فكل مخالفة لمبدأ توحيد الله وحده ولتحرير البشر من تقديس الملوك والكهنة هي تجاوزات سياسي سلطوية تتعارض جوهريا مع عقيدة الإسلام وشريعته وليست محسوبة على الإسلام نفسه. [انظر كتاب الإسلام ليس أيديولوجيا، د.هاني نصري، دار الفكر].

أما الحكم الثيوقراطي المسيحي، الذي قامت على أنقاضه العلمانية، فكان يستند إلى فكرة مفادها أن البابا هو الممثل المعصوم للمسيح وأنه مؤيَّد بالروح القدس، لذا فهو يمثل سلطة الإله على الأرض ويحق له وحده منح الشرعية للملوك والأمراء كي يحكموا الشعوب.

إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أعلنته السلطة الثورية في فرنسا عام 1789 ويظهر في قمته شعار المتنورين الماسون

دور الحركات السرية

تميل الرواية السائدة في المراجع التاريخية والدراسات الأكاديمية إلى أن الفكر العلماني بدأ بالتشكل في القرن الخامس عشر في أوروبا على يد المفكرين “المتنورين” الذين تمردوا على تحالف سلطة الكنيسة والحكم الوراثي الإقطاعي، وأنهم تجاوزوا الأفكار “المدرسية” الكهنوتية للعودة إلى الميراث الإنساني الذي تراكمت فيه خبرات حضارات سابقة والاقتباس منه، فاستلهموا بعض أفكارهم من شريعة حمورابي وتجربة أثينا الديمقراطية وخبرة فلاسفة روما، وبذلك تصبح العلمانية -حسب هذه الرؤية- نتيجة طبيعية للتطور الإنساني من مراحل الاستبداد والعبودية والاعتقاد بالأساطير إلى مرحلة الإقرار بحقوق الإنسان البديهية وحرية التعبير ورفع يد الحكومة والكهنوت عن معتقدات الناس، واعتماد المنهج التجريبي للسيطرة على الطبيعة بدلا من الركون للخرافة، أو بحسب تعبير ماكس فيبر “نزع السحر عن العالم”، وتكون العلمانية بذلك أيضا حصيلة نضال طويل مفعم بالبطولات والتضحيات في سبيل خير البشرية وتحررها.

لكن الباحثين في تاريخ الحركات السرية، وكذلك بعض المختصين في مقارنة الأديان، ويتبعهم عدد من المفكرين والمؤرخين المسيحيين والمسلمين، يؤكدون أن الفكر العلماني لم يتشكل بهذه الطريقة الطبيعية البريئة وعبر الاحتكاك والصدام بين الحضارات ووجهات النظر، بل يؤكدون أنها نتاج تدخل واع وخطة مدبرة من قبل تحالفات عديدة تشمل عبدة الشيطان وبعض سلالات بني إسرائيل، وأنه تم تدبيرها في محافل ومعابد الجمعيات السرية، وعلى رأسها الماسونية وجمعية النور البافارية (إلوميناتي) وجمعية الصليب الوردي (روزكروشين). [Nesta Webster, Secret Societies and Subversive Movements].

ويرى هؤلاء الباحثين أن العوامل الظاهرة، كالصراع الطبقي والتقلبات السياسية والاقتصادية، كانت أدوات موضوعية وظروفا مؤاتية استفاد منها أقطاب الجمعيات السرية لبث أفكارهم في المجتمعات، بهدف إقصاء الأديان عن التأثير في الأخلاق والرؤى العامة للحياة، ولإعادة بناء المناهج الفكرية والأنظمة السياسية في “النظام العالمي الجديد” على مبادئ دنيوية مجردة. فالباحثون لا ينكرون وجود تلك العوامل المؤكدة تاريخيا ويرون أنها الجزء الظاهري فقط من الحدث التاريخي.

ويقدم أصحاب هذه الرؤية عددا من الأدلة، ونذكر منها بإيجاز ما يلي:
1- كان الكثير من مؤسسي الفكر العلماني في مراحل تشكله الأولى أعضاء في جمعيات سرية أو مقربين منها، بل كان بعضهم قادة كبارا فيها، مثل فرنسيس بيكون وإسحاق نيوتن وفولتير، وتكشف بعض المراسلات والوثائق عن دورهم في إقصاء الأديان ونشر العلمنة كأحد أهم مشاريع جمعياتهم السرية [انظر: كتاب الوحي ونقيضه للمؤلف بهاء الأمير]. وفي العالم الإسلامي تولت المحافل الماسونية داخل الدولة العثمانية وخارجها هذا الدور حتى تم الإجهاز على نظام الخلافة، وكان الكثير من مروجي العلمانية في الأوساط الفكرية والأدبية من أعضاء المحافل الماسونية التي تشكلت في دمشق وبيروت والقاهرة [انظر مقال الماسونية].

2- لعبت طائفة من اليهود الأشكناز والسلالات الإسرائيلية دورا جوهريا في ترويج المذهب البروتستنانتي لمواجهة الكاثوليكية وتسلط البابا على أوروبا، كما كان لهم دور في معاهدة وستفاليا التي قوضت سلطة الفاتيكان [انظر كتاب: اليهود والماسون في الثورات والدساتير للمؤلف بهاء الأمير]. ويقول الباحثون إن اليهود وجدوا في العلمانية الحل الوحيد للقضاء على سلطة الكنيسة التي اضطهدتهم. [انظر مقال المسيحية المتصهينة].

3- تعتبر الثورة الفرنسية من أهم المفاصل التاريخية التي جعلت العلمانية أساسا للنظم الدستورية والمناهج الفكرية في العصر الحديث، ولا يخفى على الباحثين من كل التيارات دور المحافل الماسونية في نشر أفكار الثورة قبل اندلاعها، كما لعبت الماسونية أيضا الدور الأهم في وضع الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان بعد تأسيسها على النظم الحديثة، وفي فرضها على العالم أجمع عبر الأمم المتحدة ومنظماتها، وذلك وفقا للمبادئ العلمانية. [انظر مقال الماسونية].

انتقال العلمانية للعالم الإسلامي

بعد إقامة النظم السياسية الأوروبية على المبادئ العلمانية، سعت تلك الدول إلى نقل العلمانية للعالم الإسلامي، ويمكن القول إن بداية تسلل العلمانية إلى العالم الإسلامي كانت بالتلفيق من داخل الفكر الديني. فكما بدأت العلمانية في أوروبا بالتمرد على الكنيسة عبر حركة الإصلاح الديني ثم انتهت إلى العلمنة الشاملة؛ نشأت في المقابل حركة إصلاح وتجديد ديني في بعض الأقطار الإسلامية بأواخر القرن التاسع عشر، وكان روادها من الفقهاء المحسوبين على العلم الشرعي، والذين استفاد من أفكارهم العلمانيون العرب لاحقا.

محمد عبده

يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري إن إدخال الأفكار الوافدة بعد تشذيبها ضمن المركب التوفيقي لا يضمن أنها ستبقى دون تأثير خطير، وأنها ستظل منضبطة بالحدود الاعتقادية الدينية. فنظراً لكونها وافدة من حضارة أخرى فإنها تحتفظ في باطنها بطبيعتها الأصلية والمباينة للطبيعة الإسلامية، وتتحرك –بوعي أو دون وعي من التوفيقيين الذين قبلوها بشروطهم- حسب قوانينها الوافدة معها، إلى أن تؤثر على الفكر التوفيقي كله وتوجهه وجهة جديدة لم تكن في حسبان التوفيقيين في البداية. وهذا ما حدث بالضبط عندما صرّح كبار العلمانيين العرب بوفائهم لمدرسة الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده [الفكر العربي وصراع الأضداد للأنصاري، ص 262].

وفيما يلي أمثلة للدول التي تسللت إليها العلمانية عبر بعض المفكرين وبدعم غربي دبلوماسي أو عسكري (بالاحتلال المباشر لاحقا)، وصولا إلى قلب أنظمة الحكم الإسلامية وتمكين العلمانيين من السيطرة على سدة الحكم والجيوش والجهات الأمنية والإعلام ومناهج التعليم.

الجامعة الأمريكية في بيروت

لبنان: يعد هذا البلد الصغير البوابة التي تسلل منها الغرب إلى الشرق الإسلامي منذ بدأت بوادر الضعف تدب في جسد الدولة العثمانية، فتذرع الأوروبيون بحماية الأقليات المسيحية في لبنان وسورية للتدخل بهذه المنطقة سياسيا وتعليميا، كما احتضنت الجامعات والمدارس في إيطاليا وفرنسا طلبة مشرقيين مسيحيين لتلقينهم المبادئ العلمانية بهدف نشرها في المشرق.

وقد شرح الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر هذه السياسة بصراحة مدهشة في منتصف القرن العشرين، فقال “كنا نُحضر أبناء رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في لندن وباريس وأمستردام، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويرتدون السترات والسراويل، ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا نزوج بعضهم من أوربا، ونلقنهم أسلوب

سارتر

الحياة على أثاث جديد، وطرز جديد من الزينة، واستهلاك أوربي وغذاء أوربي، كما نضع في أعماق قلوبهم أوربا، والرغبة في تحويل بلادهم إلى أوربا، ثم نرسلهم إلى بلادهم حيث يرددون ما نقوله بالحرف تماماً مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض، هذه أصواتنا تخرج من أفواههم، وحينما كنا نصمت كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت أيضاً، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاساً صادقاً وأميناً لأصواتنا من الحناجر التي صنعناها، ونحن واثقون أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم، وليس هذا فحسب، بل إنهم سَلبوا حق الكلام من مواطنيهم” [يحيى هاشم فرغل، العلمانية بين الخرافة والتخريب، ص 270].

وبالتزامن مع تعليم بعض الطلاب النابغين في الجامعات الأوروبية، افتتح الغربيون جامعات ومدارس كثيرة في لبنان لتنشئة الجيل على التغريب، وكانت الجامعة الأمريكية البروتستانتية التي أُسست في بيروت سنة 1866م أحد المراكز الرئيسة للتبشير ولإشاعة الثقافة العلمانية في الوقت نفسه. فتخرج منها الرهط الأول من العلمانيين وعلى رأسهم شبلي شميّل ويعقوب صرّوف وفارس نمر وجرجي زيدان.

“قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميِّل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وسلامة موسى، وولي الدين يكن، ولويس عوض، وغيرهم.. يدْعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي: فصْل الدين عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع. والملاحَظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام، الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ولا ينتسبون إلى الإسلام ديناً أو حضارة، وتربَّوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير. فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخْذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوْا إليه، ورأوه ماثلاً في تقدم الغرب الفعلي”.

[حسن حنفي، كتاب حوار المشرق والمغرب، 35-366].

نابليون أمام تمثال أبو الهول بريشة جان ليون جيروم

مصر: كانت حملة إمبراطور فرنسا بونابرت التي بدأت سنة 1798م بداية الغزو الحديث، فرافقتها ملابسات وأعراض مرضية أخذت تتفشى وتنتشر في المجتمع المصري من أزياء وعادات وأخلاق، كما حرص نابليون على زرع بذور الفكر العلماني في عقول النخبة لتنمو لاحقا وتؤتي ثمارها على يد سلامة موسى وأمثاله.

وبعد أن خرج الفرنسيون من مصر استولى الألباني محمد علي على حكم مصر ما بين عامي 1805 و1848م، وكان من أبرز مشاريعه إرسال بعثات الطلاب إلى فرنسا، فانبهر بعض الطلاب بالحضارة الغربية هناك إلى درجة كبيرة، حتى إن الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي رافق طلاب البعثة الأولى إلى فرنسا ليؤمهم في الصلاة ويحافظ على تدينهم كان من أكثر المنبهرين بالغرب، ونجد ذلك واضحا في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.

وفي ظل الاحتلال البريطاني (1882-1952م) بدأت العلمانية رسميا بالظهور، وساهم في الترويج لها مثقفون ينتمي معظمهم لأقليات غير مسلمة، مثل يعقوب صروف وفارس نمر ونقولا حداد، ثم ركب الموجة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق عندما نشر كتابه “الإسلام وأصول الحكم” محاولا فيه تبرير فصل الدين عن الدولة.

وفي عام 1919 تأسس أول كيان سياسي علماني تحت اسم الحزب العلماني الذي غير اسمه لاحقا إلى حزب الوفد، ونال شعبيته من مناهضته للحكم الملكي والاحتلال البريطاني، وعندما قام الجيش بانقلاب عسكري في الخمسينات تم اعتماد العلمانية بالقوة وقُمع الإسلاميون وعلى رأسهم جماعة “الإخوان المسلمون”.

تركيا: كان ضياء كوك ألب 1875- 1942م يردد في تركيا نفس أفكار سلامة موسى وطه حسين، فدعا إلى سلخ تركيا عن ماضيها، وتكوينها تكويناً قومياً خالصاً، كما اعتبر تركيا صانعة للحضارة الغربية باعتبارها امتدادا لحضارة المتوسط.

وبعد مؤامرات طويلة ساهم فيها الماسون ويهود الدونمة، نجح الضابط مصطفى كمال أتاتورك 1881- 1934م في تطبيق أفكار ضياء كوك ألب بانقلابه على الدولة العثمانية عام 1924، وكان جريئا في محاربة الإسلام عندما قال إنه “يخنق الطموح في نفوس أصحابه”، ثم اتخذ خطوات بعيدة في اتجاه التغريب وإعلان العلمانية منهجا قسريا للدولة، فألغى استخدام الحرف العربي وأحل مكانه الحرف اللاتيني حتى لا يتمكن الأتراك من قراءة الكتب الإسلامية، كما ألغى وزارة الشؤون الدينية وحلّ المنشآت الدينية والمحاكم الشرعية، ووضع قانونا جزائيا جديدا بناء على القانون السويسري، وفي عام 1928 ألغى اعتماد الإسلام كدين رسمي للدولة.

في كتابه “العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين”، يقارن الباحث التركي أحمد كورو بين التجربتين العلمانيتين المتطرفتين في فرنسا وتركيا، ويقول إن المتدينين الكاثوليك الفرنسيين تحالفوا مع النظام الملكي واستخدموا أدوات القهر والعنف للإبقاء على النظام الاستبدادي، وحاربوا القوى الثورية الفرنسية المدعومة شعبيا، أما في تركيا العثمانية فكان المتديِنون في صف الإصلاحيين السلميين في مقابل انخراط العلمانيين في الجيش، وعندما أسقطوا حكم السلطان حاولوا الحدَّ من صلاحيات البرلمان المنتخَب بالهيمنة التامة على الرئاسة والجيش والقضاء. ويضيف أن المجتمع الفرنسي تقبل العلمانية الديمقراطي الحرّة بعد انتصار الثورة وما زال ينبذ العودة إلى الكنيسة حتى الآن، في حين قهرت العلمانية التركية بالقوة كل محاولات الشعب التركي للعودة إلى الحكم الإسلامي. [أحمد كورو، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين: الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا، ص 369 وما بعدها].

سيد أحمد خان

الهند: كان سيد أحمد خان 1817– 1898م من أوائل الداعين إلى العلمانية والتغريب، وكان متعاوناً مع الإنجليز حيث سعى لإخماد ثورة عام 1857م، فكافأه الإنجليز براتب شهري، ومن أقواله “لا بد أن يرغب المسلمون في قبول هذه الحضارة الغربية بكمالها حتى لا تعود الأمم المتحضرة تزدريهم أعينها، ويعتبروا من الشعوب المتحضرة المثقفة”.

إيران: كرر تقي زادة نفس مقولات العلمانيين، ومن أقواله “فلنلق بقنبلة الاستسلام للأوروبي في هذه البيئة ولنفجرها. والخلاصة: لنصبح أوروبيين من قمة الرأس إلى أخمص القدم”. وعندما عُين رضا بهلوي ملكا على البلاد عام 1925 أصبحت إيران دولة علمانية.

تونس: طالب عبد العزيز الثعالبي -قبل اعتداله- بالاستسلام للحضارة الغربية، ودعا إلى تأويل القرآن تأويلاً “صحيحاً” أي بما يناسب مبادئ الثورة الفرنسية كي يتحضر الإنسان المسلم، حسب رأيه. وقد تبعه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بعد خروج المحتل الفرنسي وتأسيس الجمهورية التونسية العلمانية، وتُنسب إلى بورقيبة العديد من التصريحات المعادية للإسلام ومقدساته، ومنها قوله إن القرآن الكريم متناقض ولا يقبله العقل.

عبد الوهاب المسيري (موقع المسيري)

العلمانية والإسلام

يرى المفكر اليساري المصري عبد الوهاب المسيري أن العلمانية تتفرع إلى تيارين رئيسين، هما:

1- تيار العلمانية الكلية الشاملة، وهو مادي يطمح إلى تحرير الحياة بجميع ميادينها وتحرير الإنسان في كل عوالمه من الدين بكل أبعاده القيمية والقانونية والشعائرية، وتُعد الماركسية من نماذج هذه العلمنة الكلية والشاملة.

2- تيار العلمانية الجزئية الذي لا ينكر الإيمان بالله والدين، ولكنه يقف بالدين عند العلاقة الفردية بين الإنسان والله، وعند الشعائر العبادية، وبعض القيم الأخلاقية لمن يريد، بينما يرفض كل تدخل للدين في تدبير الدولة والاجتماع الإنساني، فهو يكتفي بفصل الدين عن الدولة.

وكان المسيري رحمه الله يتبنى العلمانية الجزئية ويرى أنها لا تتعارض مع الإسلام، وهو أمر يوافقه عليه المفكر التونسي راشد الغنوشي، الذي يرى أن “العلمانية ظهرت وتبلورت في الغرب كحلول إجرائيّة لا كفلسفة أونظرية في الوجود”، ما يعني أنها لا تتناقض مع الإسلام. لكن الكثير من الباحثين يخالفون هذا المفهوم، فحتى المسيري كان يقر من البداية بأن العلمانيتين الشاملة والجزئية من حيث الجوهر شيء واحد، لذا فحتى لو اقتصرت الجزئية على بعض الإجراءات دون أن تتصادم مع الدين فإنها تعود في النهاية إلى مرجعية دنيوية “إنسانوية” في مقابل المرجعية الإلهية التي لا تقبل التجزئة في الإسلام.

أما الكاتب المصري فهمي هويدي فيميز بين تيارين علمانيين، يسميهما المتطرفين والمعتدلين، ويرى المسيري أنهما يقابلان إلى حد ما العلمانيين الشامليين والجزئيين عنده، حيث يُعرف هويدي المتطرفين بأنهم ضد الشريعة والعقيدة معا، وأنهم يعتبرون الإسلام مشكلة يجب استئصالها، أما المعتدلون فيعتبرون أنه يمكن التعايش مع الإسلاميين إذا أقيم حاجز بين الدين والسياسة، ويرى هويدي أن من حق المعتدلين المشاركة في الحياة السياسية للمجتمع الإسلامي.

وهذا الرأي لا يلقى موافقة لدى كثير من المفكرين الإسلاميين كما ذكرنا، فهناك خلاف في الوسط الإسلامي بين رأيين، الأول يتقبل وجود العلمانية “المعتدلة” في المشهد السياسي للدولة الإسلامية (وهي دولة غير موجودة بالواقع حاليا)، سواء بحكم ضرورة التدرج ومقتضيات العصر أو لأن ذلك لا يتعارض مع جوهر الدين، والرأي الثاني يرفض وجود أي تيار سياسي علماني حتى لو كان “معتدلا” [انظر كتاب العلمنة من الداخل للمؤلف البشير المراكشي].

كما يرفض بعض المفكرين مصطلح “العلمانية المعتدلة” بغض النظر عن القبول بوجودها في الوسط السياسي، لاعتقادهم بأن دين الإسلام جاء لهداية الناس إلى ما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة، فالشريعة تشتمل على شعائر الدين ومبادئ السياسة وأحكام المعاملات، وتحديد الإطار العام للنظام السياسي يستند إلى الوحي، فيرى هذا التيار أن مساندة السياسة العلمانية -حتى لو كانت معتدلة- تؤدي إلى الكفر.

بيغوفيتش

وقد أصدرت المديرية العامة للإفتاء في المملكة العربية السعودية بيانا تقول فيه «إن كل من يؤمن بأن هناك توجيها أكثر كمالا من تعاليم الرسول أو أن حكم أي شخص كان أفضل من حكم الرسول فهو كافر»، وفصّلت الرأي الشرعي في ذلك بالقول إن هناك “انحرافا خطيرا” عن مبادئ الإسلام لدى كل من يعتقد بأن القوانين التي تصدر عن الإنسان تسمو على أحكام الشريعة أو يرى أن الإسلام يقتصر على علاقة الفرد مع الله وليس له أي علاقة مع الشؤون اليومية للحياة.

ويقول المفكر المصري طارق البشري “لا يمكن أن تتوافق العلمانية والإسلام إلا عن طريق التلفيق أو ابتعاد كل منهما عن معناه الحقيقي”.

أما المفكر والرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش فيقول في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” إن الدين هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، وإنه هو الأصل الذي زرع الضمير الأخلاقي في البشرية المستمر حتى اليوم بالرغم من خفوت أثره بسبب انتشار العلمانية، ويضيف أن “المجتمع العاجز عن التدين، هو أيضا عاجز عن الثورة”.

وبدوره، يقول الدكتور محمد البهي في كتابه “العلمانية وتطبيقها في الإسلام: إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الأخر” بعد أن عرض لشمولية الإسلام في جميع جوانب الحياة وعدم قابليته للتجزؤ: “وبما عرضناه هنا من مبادئ الإسلام كما تذكرها آيات القرآن الكريم، نجد أن الإسلام نظام شامل لحياة الإنسان ومترابط في مبادئه وفي تطبيقه لا يقبل التجزئة بحال وقصر التطبيق على جانب مثلاً في حياة الإنسان أو على جانبين فأكثر من جوانب هذه الحياة دون باقي الجوانب الأخرى، معناه إفساح مكان لهوى الإنسان بجانب ما يطبق من مبادئ القرآن”. 

“العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة” [مقدمة ابن خلدون، ص 1899].


أهم المراجع
عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، 2002.

عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، 1998.

روجيه غاروي، النظرية المادية في المعرفة، ترجمة إبراهيم قريط، دار دمشق.

محمد عمارة، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، دار الرشاد، 1997.

يوسف القرضاوي، التطرف العلماني في مواجهة الإسلام، دار الشروق، 2008.

أحمد إدريس الطعان، العلمانيون والقرآن الكريم: تاريخية النص، دار ابن حزم، الرياض، 2007.

محمد قطب، العلمانيون والإسلام، دار الشروق، 1994.

يحيى هاشم فرغل، العلمانية بين الخرافة والتخريب، دار الصابوني.

بهاء الأمير، الوحي ونقيضه: بروتوكولات حكماء صهيون في القرآن، مكتبة مدبولي، 2006.

أحمد كورو، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2007.

البراغماتية

لبثت الفلسفة دهراً طويلاً تسبح في سماء الفكر المجرد، بعيدةً عن الحياة العملية التي تعج بأصدائها أرجاء الأرض جميعاً، فقد حصرت معظم جهودها في البحث عن جوهر الأشياء في ذاتها، حتى جاء زمن صعود الولايات المتحدة وهيمنة ثقافتها على العالم، فبدأت تفرض نظامها ونظرتها في جميع مرافق الحياة، بما فيها الفلسفة التي لم تنج من تأثيرها.

مدينة نيويورك الأمريكية مطلع القرن العشرين

والفلسفة بصبغتها الأمريكية تمقت البحث النظري وتراه مجدباً عقيماً، فهي تريد أن تنحو بالفكر منحى جديداً لا يكون من شأنه البحث في حقيقة الشيء ومصدره؛ بل نتيجته وثماره. وهكذا ظهرت الفلسفة البراغماتية، وهي أكبر تجسيد للنظرة الأمريكية للفكر والمعرفة.

ومصطلح البراغماتية مشتق من اللفظ اليوناني “براغما” ومعناه العمل، وهي مذهب فلسفي يحاول تطبيق الأساليب العملية على الفلسفة، وتتركز فكرته الأساسية على أن معنى فكرة ما أو حقيقتها تتحدد بتأثير تلك الفكرة على الممارسة والسلوك، وأن حقيقة كل المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة العملية.

وتقرر البراغماتية أن العقل لا يبلغ غايته إلا إذا قاد صاحبه إلى العمل المفيد. فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة، أي الفكرة التي تحققها التجربة، وكل ما يتحقق بالفعل فهو حق، ولا يقاس صدق القضية إلا بنتائجها العملية.

ومعنى ذلك كله أنه لا يوجد في العقل معرفة أولية نستنبط من خلالها نتائج صحيحة بصرف النظر عن نتائجها؛ بل الأمر كله رهن بنتائج التجربة العملية التي تقطع الشك باليقين. وإذا كانت النظريات التي تدعي الوصول إلى الحقائق العلمية تتغير بتغير العصور، فالنظرية الصادقة اليوم قد تصبح غير صادقة في المستقبل، ونتيجة ذلك واضحة جداً وهي أن صدق القضايا يتغير بتغير الاكتشافات، وأن الأمور بنتائجها، وأن الحق “نسبي” أي منسوب إلى زمان معين ومكان معين ومرحلة معينة من مراحل العلم. وهكذا لم يعد المهم أن يقودنا العقل إلى معرفة الأشياء؛ بل أن يقودنا إلى التأثير الناجح فيها.

التأثر والبيئة
تعد الولايات المتحدة الأمريكية موطن البراغماتية الأم، حيث ظهرت هناك ثم لقيت انتشاراً عالمياً واسعاً، وقد تبلورت الخطوط العريضة لهذه الفلسفة في سبعينيات القرن التاسع عشر، في مؤلفات عالم المنطق الأمريكي تشارلز بيرس، ثم تطورت على يد وليم جيمس، وجاء بعده جون ديوي الزعيم الروحي للبراغماتية المعاصرة في أمريكا.

والأمريكيون مغرمون بالعلم والتفكير والبحث وراء القضايا والنظريات العلمية، ولهم في كل مجال رأي ونظر، ويتميزون عن غيرهم بغرامهم للتطبيق، وبافتتانهم بالنتائج الواقعية للأشياء. فنجدهم يسارعون إلى تطبيق أي نظرية علمية تُكتشف؛ بغية معرفة صدقها وماهية الآثار الناتجة عنها وفائدتها في الحياة الراهنة، فإذا لم تكن لها نتائج في الحياة والبيئة التي يعيش فيها الأمريكي، فهي مجرد نظرية تضاف إلى سابقاتها وتوضع جانباً.

ويتميز الشعب الأمريكي بحب المجازفة والاستهتار بالمخاطر، وليس ذلك عن شجاعة بالضرورة؛ بل لمجرد الرغبة في مشاهدة النتائج العملية التي تترتب على هذه المخاطرة، كما يحب الأمريكيون الاستمتاع بالحياة الراهنة، ويشكل النجاح المادي لديهم غاية في ذاتها.

تشارلز داروين

ومع أن الفلسفة الأمريكية اتخذت مسارها التاريخي من خلال متابعة الفلاسفة الأمريكيين للتراث الفلسفي العالمي عبر التاريخ؛ إلا أن تطورها تميز بميزة أساسية هي شمولها لكل جوانب الحياة بما فيها السياسة والاقتصاد والثقافة والدين والأخلاق.

وقد تأثرت أيضاً تأثراً بالغاً بتطور العلوم عامة، وعلم الأحياء والنفس خاصة، لا سيما أبحاث عالم الأحياء الإنكليزي تشارلز داروين ونظريته في النشوء والارتقاء المعروفة بـ”نظرية التطور”، وتقوم على الاعتقاد بأن أشكال الحياة المختلفة تعود إلى أصل واحد مشترك، حيث بدأت من خلايا بسيطة تكونت عن طريق المصادفة عبر عمليات كيميائية مركبة، ثم تطورت إلى كائنات كبيرة معقدة.

واستنتجت نظرية التطور ما يعرف بقانون الصراع بين الكائنات، أو التنازع من أجل البقاء، الذي نتج عنه تعبير “البقاء للأصلح” أي أن الأفراد الذين يتمتعون بصفات تميزهم عن غيرهم، ستكون لهم فرصة أفضل للبقاء بعد صراعهم مع بقية الكائنات الأضعف منهم، حيث يبقى القوي وهو الأصلح ويهلك الضعيف.

ويذكر أيضا أن البراغماتية تستمد الكثير من مبادئها من المقولة الشهيرة للفيلسوف الإيطالي ماكيافيلي: “الغاية تبرر الوسيلة”، لذا تسمى البراغماتية أيضاً باسم “الذرائعية”.

نشوء البراغماتية

تشارلز بيرس

كانت الخطوة الأولى مع الفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس، الذي اهتم بدراسة نظرية النشوء والتطور الداروينية، ودور المصادفة في نشأة الكون، وهو أول من صاغ اصطلاح البراغماتية في مقالة نشرت عام 1878 بعنوان “كيف نوضح أفكارنا”، ووضع فيها أساس فلسفة البراغماتية، محدثاً انقلاباً على كل ما سبق من نظريات فلسفية.

اعتمد بيرس في مقاله على ما ذكره الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر من أن معظم معتقدات الإنسان التي يؤمن بها ليست لها صور حسية يستطيع أن يردها إليها، فالحرية مثلاً لا يمكن للذهن أن يجد لها صوراً أو شكلاً ذهنياً نستطيع أن نوضحها به. وبعبارة أخرى لا معنى لهذا الاصطلاح في حياتنا التي نحياها، وعلى هذا نستطيع أن نوفر على أنفسنا عناء البحث في وجود هذه الأشياء.

وإذا لم يكن لهذه المصطلحات صور وأشكال ذهنية فإننا نستطيع أن نزعم باطمئنان -كما يرى سبنسر- أن هذه المصطلحات ليس لها وجود ذاتي مستقل في الكون، فهي حديث خرافة يمكن إلقاؤه في سلة المهملات؛ أما المصطلحات التي لها معنى أو تصل بنا إلى أشياء وحقائق نشاهدها في حياتنا اليومية فلها مدلولات حقيقية أو معنى حقيقي، حتى وإن كنا لا نستطيع أن نجد لها صوراً وأشكالاً ذهنية عندنا.

وضرب مثالاً لذلك بالكهرباء، فهي لا تمتلك شكلاً يمكن لعقولنا أن تتخيله، ومع ذلك فمدلولها له وجود ذاتي مستقل وواضح في نظام الكون، والدليل آثارها وعملها في الحياة اليومية. فانطلق بيرس من هذه المقولة ليجعلها مبدأ يتسع ليشمل جميع المصطلحات التي ليس لها صور حسية في أذهاننا، وبهذا وضع الأساس لفلسفة البراغماتية.

يرى بيرس أن معنى أي اصطلاح أو فكرة ليس لهما صورة حسية هو في أثر الاصطلاح أو الفكرة على حواسنا. فنحن نعيش في عالم مادي ونفسي، ولا يكون للأشياء وجود حقيقي إلا إذا أدت إلى تغيير ما في عالمنا ونتجت عنه آثار واضحة نلمسها ونحس بها ونشاهدها.

ويقول إنه لا يمكن التدليل على الموجودات بالمنطق أو بالقضايا العقلية؛ بل بالآثار الحسية. والواقع أن كثيراً من الألفاظ والكلمات التي لها حظ من الصور المحسوسة ما هي إلا دلائل للعمل، أو اتجاهات إلى النشاط، وقد ننسى صورها أو أشكالها ولا يبقى منها شيء إلا قدرتها على التوجيه العملي في الحياة.

“إن البحث في الميتافيزيقيا (الغيبيات) محض هراء، ويجب ان يستبعد تماماً، وما يجب أن يبقى من الفلسفة هو سلسلة من القضايا القابلة للتمحيص أو الاختبار بواسطة مناهج العلوم الحقيقية القائمة على الملاحظة”.
تشارلز بيرس

وليام جيمس

الخطوة الثانية لتطور البراغماتية جاءت مع وليام جيمس الذي ولد في نيويورك، وتلقى العلم والفلسفة في المدارس الأمريكية، ثم سافر إلى فرنسا لمتابعة دراسته في علم النفس، وعاد إلى أمريكا ليصعد إلى ذروة الشهرة سريعا. وقد نال درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 1870، وعمل بالتدريس فيها حتى وافته المنية سنة 1910.

وكان جيمس حامل لواء البراغماتية حتى مطلع القرن العشرين، وقد زاد على ما جاء به بيرس بأن كل عقيدة تؤدي إلى نتيجة مرضية أو حسنة تعتبر عقيدة حقيقية، فليست الفكرة مشروعاً للعمل فقط؛ وإنما العمل أو النتائج هو الدليل على صحة الفكرة، بحيث إنه لا يرى أهمية لحقائق الأشياء في ذاتها، لأننا نستطيع أن نفرض هذه الحقائق كيفما اتفق، وجميع الأحاسيس تقود العقل إلى التصرف والسلوك.

ومع أن الصورة الذهنية للأشياء قد لا تتفق مع حقيقة الأشياء ذاتها؛ لكن هذا لا يهم البراغماتيين، فهم لا يضيعون وقتهم في بحث الوجود المستقل للشيء بل النتائج المترتبة عليه، وكان جيمس يقول إن هدفه هو أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً، ثم على السير بالحياة نحو السمو والكمال ثانياً. وكان يرى أن من الغفلة أن يؤتى الإنسان قوة عقلية فيبددها في البحث عما وراء الطبيعة (الغيبيات) من قوى، فالعقل لم يخلق إلا ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، ومن الأجدى له أن ينصرف إلى أداء واجبه في الحياة العملية، وحين تتضارب الأفكار وتتعارض يكون أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، كما يزعم.

وبالغ جيمس بتطبيق هذه الفلسفة على كل شيء بما في ذلك مسألة وجود الله، فمع أن كل النظريات الفلسفية تقول إن الله موجود إذا تبين منطقياً وجوده لكن جيمس كان يقول إن صواب هذه الفكرة يتوقف على صلاحيتها في حياتنا الراهنة وتصرفاتنا اليومية، فإذا أدت إلى نتائج مُرضية فهي صحيحة وصائبة، وبذلك يكون الله موجوداً حسب رأيه. وهذه مغالطة منطقية تدعى الاحتكام إلى النتيجة [انظر مقال “المغالطات المنطقية“]، وهي مغالطة تتكرر في كل مناقشات البراغماتية.

جون ديوي

أما الخطوة الثالثة لتطور البراغماتية فكانت على يد جون ديوي الذي عمل رئيسا لقسم الفلسفة في جامعة كولومبيا، حيث تجول في أنحاء أمريكا ودرس إمكانياتها وقواها وثقافتها المتنوعة، لذا يُعد واضع فلسفة القارة الأمريكية كلها، وقد توفي عام 1952 بعد أن رسخ دعائم البراغماتية في أمريكا، وساهم بنشرها في العالم.

تأثر ديوي بنظرية النشوء والارتقاء الداروينية، فسمّى نظريته في البراغماتية بـ”نظرية الأداة”، وانتقد النظرية العقلية القائمة على اعتبار العقل أداة للمعرفة، وأنه وحده الذي يستطيع الوصول إلى الحقائق في ذاتها والنفاذ من الظواهر الطبيعية إلى الحقائق التي تكمن وراءها، على عكس الحواس التي لا يمكنها الوصول إلا إلى الظاهر.

وكان بيرس وجيمس يقولان إن الدليل على حقيقة أي شيء هو أثره؛ لكنهما وافقا على أن العقل أداة للمعرفة. أما ديوي فزعم أن العقل نفسه أداة تطورت في مسيرة النشوء والارتقاء لكي تتيح للإنسان إعادة تشكيل بيئته، فهو ليس أداة للمعرفة بل أداة لتطوير الحياة، وليست وظيفته أن يعرف بل عليه فقط خدمة الحياة لكي تنمو وتستمر.

وبهذا أصبح العقل (ويقصد به الدماغ) كأي عضو آخر في الجسم، فإذا كانت وظيفة العين هي تحذير الإنسان من مواضع الخطر فتجنبه المهالك وليست وظيفتها نقل الألوان؛ فالعقل أيضاً أداة للحياة مثل العين. ومن هنا سميت هذه النظرية بنظرية “الأداة” أو “الآلية”.

وفي خطوة أكثر تطرفا، انبثقت عن البراغماتية مدرسة اسمها “البشرية”، وهي تزعم أن أي حق من وجهة نظر الإنسان يجب أن يخدم مصلحة هذا الإنسان دون غيره. فمقياس الحقائق ليس في التطابق بين الاصطلاح وبين الأشياء الخارجية؛ وإنما مقياس الحق هو في خدمة الجنس البشري، ودون التفات إلى ما يؤكده العقليون من أن الحكم على وجود الشيء صواب متى كانت الضرورة المنطقية تتطلب وجوده. وإذا أخذنا فكرة وجود الجنة كمثال، فإن هذا الحكم حق إذا كان العقل يرى بالمنطق أن وجودها ضروري، في حين لا تقبل البراغماتية ومشتقاتها بهذا الحكم، لأنها تزعم أنه إذا كان من فكرة الجنة نفع للبشرية فهي موجودة حقاً.

 

النظرة المختلفة للأشياء
تختلف البراغماتية عن النظريات الفلسفية الأخرى في نظرتها للحواس والعقل، ودورهما الأساسي في حياة الإنسان، كما تختلف في تعريفها للحقيقة والإيمان.

فحسب البراغماتية، ينحصر دور الحواس في كونها أدوات للحياة والعيش، فهي وسائل مباشرة لدفع الضرر وجلب المنفعة وليست أبواباً للمعرفة، فلم تكن وظيفة عين الإنسان (أثناء تطورها المزعوم) أن تنبهه إلى الحقيقة الموضوعية لطلوع الشمس بل أن توجهه للعمل في الصباح.

فرضية تطور الدماغ

أما العقل والتفكير فتطورا -حسب البراغماتية- مع تطور الحياة وفقا للنظرية الداروينية، وهذا التدرج الذي رافق نشأة العقل وعمله بدأ بتلقي مؤثرات البيئة عن طريق الحس، حتى وصل إلى إدراك العلاقات بين الأشياء، والتصرف وفق ما تمليه الحالة الراهنة، وهو لا يزال يتطور إلى ما لا نهاية. والإنسان بدأ بالتفكير بقصد البقاء على قيد الحياة وتحسين معيشته، لكنه لا يفكر إلا إذا كانت لديه مشكلة يحاول التغلب عليها، فالفكرة هي الخطوة التمهيدية للعمل.

والنتيجة التي تخلص إليها البراغماتية هي أن التعامل بالأفكار هدفه تحسين تصرفات الإنسان وجعلها أنجع للحياة، وحين يتبين لنا عدم نفعيتها نمتنع عن التفكير بها؛ أما إذا كان من المحتمل نجاحها فلا بأس حينها أن يشرع العقل في إخراج الفكرة إلى حيز الوجود، وبقدر ما تكشف الأفكار أنها فعالة في حل المشاكل فإنها تكون أوفر حظاً في البقاء.

أما الحقيقة في الفكر البراغماتي فلا تكون حقيقة إلا إذا ساهمت في إنجاح الحياة، وهي تتحقق بملائمة حياة الإنسان الداخلية مع الظروف الخارجية، ولا يهم أن تكون الصورة الذهنية التي رسمها العقل عن الأشياء الخارجية مطابقة لأصلها أو مشوهة ومحرفة، فالحقيقة العليا في الوجود هي الاحتفاظ بالبقاء أولاً، ثم الارتفاع بالحياة نحو الكمال.

وهكذا تتضح النظرة البراغماتية للحقيقة القائمة على الفائدة والمنفعة، فكل ما يحقق المنفعة والفائدة للإنسان هو “الحق”، وكل ما عداه “باطل”، بغض النظر عن كونه حقاً من الناحية العقلية.

وبعد أن كانت الحقيقة تتميز بثباتها مع مرور الزمن أصبحت لدى البراغماتيين عرضة للخطأ، فالظواهر التي تثبت حقيقتها اليوم قد تصبح غير نافعة في المستقبل فيعتبرها البراغماتيون خاطئة، ويبحثون عن حقيقة أخرى تظهر لاحقاً.

وإذا كانت مسألة الإيمان بالله هي أهم مسألة شغلت الفكر الإنساني منذ وجوده، فقد أعاد وليام جيمس بناءها كما أسلفنا على أساس المنفعة المحضة دون أي اعتبار للحقيقة، فرأى أن الإنسان يتمتع بـ”تجربة دينية” لأنه يشعر مِن حوله بحضور “تجربة أخرى” تواسيه وتقف معه ضد الشر، وتعمل في صالح الخير؛ لهذا يفوض أمره لها ويطلب منها العون. وهي تجربة مختلفة عن التجارب الحسية؛ لكنه يوجب تفسيرها وفق المنهج المتبع في التجربة الحسية، أي حسب المنفعة، فإن كانت تقدم لأنفسنا الطمأنينة والسعادة والسلام فهي صحيحة.

ولا تهتم البراغماتية بالجدال المتركز على تفسير حقيقة الكون والحياة وخالقهما، ولا تتساءل عما إذا كان العالم قد وُجد بالصدفة أم بتدبير قدير، فهي ترى أن العالم وُجد ولا تهم نشأته. ثم تنظر البراغماتية في الاحتمالين من زاوية المنفعة، فترى أن إنكار وجود إله مدبر للكون يجعل العالم مرهوناً بنشاط قوى عمياء، مما يضر بالاستقرار النفسي؛ أما الاحتمال الثاني فيضع زمام الأمور بين يدي قوة عاقلة حكيمة ذات أهداف سامية، وهذا يزودنا باليقين والطمأنينة والأمل.

ويدافع جيمس في كتابه “إرادة الاعتقاد” عن حق الإنسان في اعتقاد ما يراه مفيداً له في حياته، ويقرر أن في وسع الناس أن يؤمنوا بأمور لأسباب عاطفية رغم انتفاء الدليل العقلي عليها، فهو لم يقصُر بحثه على مسألة وجود الله بل شمل كل الأمور التي تفتقر إلى دليل واضح برأيه، ومنها مسألة خلود النفس التي دافع عن الاعتقاد بها لما في ذلك من فوائد عملية.

أثر البراغماتية في الحياة
تدخلت البراغماتية في جميع مناحي الحياة في أمريكا، ووجهت قواها إلى تكوين الأهداف الإنسانية وتنسيقها والنهوض بالحياة وفق منهجها ونظرتها الخاصة. ومن أهم المجالات التي تركت بصمتها عليها نذكر الأمثلة الآتية:

1- التربية والتعليم:
برع في تطوير هذا المجال جون ديوي، الذي ذاع صيته كعالم تربية أكثر من شهرته كفيلسوف، حيث عرض أفكاره في كتب أسماها “عقيدتي التربوية” و” المدرسة والمجتمع” و”الديمقراطية والتربية”.

وإذا كان سبنسر قد طالب بزيادة تدريس العلوم على حساب الآداب في برامج التعليم، فإن ديوي تبنى تلك المقولة وأضاف عليها وجوب تدريس العلوم بطريقة عملية تأتي عن طريق الممارسة الحقيقية النافعة للحرف والمهن، لا عن طريق تعليم الكتب.

وهاجم ديوي الاعتقاد السائد في المدارس الأمريكية أوائل القرن العشرين بأن الطفل كائن سلبي، وأن مهمة التربية والتعليم هي فرض المعارف على ذهنه، كما هاجم أيضا التوجه المضاد في أوربا والقائم على ترك الطفل يختار بنفسه ما يهوى من معلومات ودراسات.

ورأى ديوي أن النظرية الأولى أفرطت في الاستهانة بذكاء الطفل الفطري، وأن الثانية غفلت عن أن الطفل لا يزال غير ناضج، ونصح بأن تتولى التربية مهمة إنضاج الطفل بناء على ذكائه ومهاراته، ووضع شعاراً لمذهبه يقول “تعلم بأن تعمل”.

وبما أن المجتمع المعاصر قائم على الصناعة، فقد طالب بأن تكون المدارس أشبه بالمصنع الصغير، بحيث تقدم التعليم بطريقة عملية وتدرس الفنون والنظم اللازمة في الحياة العملية، كما طالب ديوي بألا يكون التعليم مجرد إعداد للنضوج بل خطة للنهوض المستمر في الحياة، ولعل هذه الفلسفة هي التي تقف وراء مصطلح “التعليم المستمر” في أمريكا، والذي نجده متجسدا في الدورات التدريبية التي يتلقاها الناس بمختلف تخصصاتهم مدى الحياة.

2- الاقتصاد:
ساهمت البراغماتية النفعية في ترسيخ النظام الرأسمالي بقوة، حيث يحرص كلاهما على تحقيق كل ما من شأنه جلب المنفعة الشخصية، وباستخدام شتى الأساليب المشروعة وغير المشروعة، وفق المبدأ الماكيافيلي “الغاية تبرر الوسيلة”.

الانفجار الذي خلفه إلقاء قنبلة نووية على مدينة ناغازاكي اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945

3- السياسة:
تقوم البراغماتية على جعل “المحافظة على البقاء” الغاية التي يسعى إليها الإنسان بشتى الوسائل، وهذه الفكرة نفسها هي المحرك الأساسي لكثير من الصراعات والحروب التي خاضتها القوى الكبرى في العصر الحديث بعد تبنيها للمبادئ الماكيافيلية والبراغماتية.

وقد أدت العلاقة الوثيقة بين الرأسمالية والبراغماتية لاحتلال الشعوب تحت مسمى “الاستعمار”، وذلك لنهب ثرواتها وتسخيرها اقتصادياً وثقافياً، وكذلك لتحقيق المصالح العقائدية المدفوعة بأساطير توراتية لغزو العالم الإسلامي والسيطرة على “أرض الميعاد” في فلسطين “انظر مقال “المسيحية الصهيونية“].

وتناصر البراغماتية الديمقراطية لأنها ترى أن هدف النظام السياسي مساعدة الفرد على التطور والنهوض بنفسه تطوراً تاماً، وترى أنه لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا إذا اشترك كل فرد -على قدر وسعه- في تقرير سياسة جماعته ومصيرها، إلا أنها تخضع للمعيار البراغماتي ذاته الذي يجعل الديمقراطية حقاً للشعوب الغربية (البيضاء المسيحية)، وحراماً على شعوب أخرى، ووفقاً لحسابات المنفعة.

 

انتقادات
توجه إلى البراغماتية انتقادات عديدة، فهي توصف غالباً بأنها فلسفة انتهازية لا تلتزم بمبدأ معين إلا المنفعة، ومن أهم المساوئ التي تؤخذ عليها ما يلي:

1- تؤدي البراغماتية إلى التنافر بين الناس وعدم انسجامهم في سلك المجتمع، لأن كل فرد سينتقي لنفسه الرأي الذي ينفعه بغض النظر عما يتخذ سواه من آراء، فهي فلسفة تعتمد على مزاج الإنسان ومنفعته الشخصية.

2- تبالغ البراغماتية في احترام حرية الإنسان الفردية وتقديمها على القيم الدينية والأخلاقية، مما أدى إلى انتشار الإباحية والرذيلة.

4- تفتقر البراغماتية إلى الموضوعية في بحثها عن الحقيقة، لأنها تخضعها لعامل المنفعة الشخصية. فتطبيقها في مجال العلم يعني أن القضايا العلمية لا تصبح حقيقية إلا بكونها مفيدة عملياً، وهذا ينسف الحقائق العلمية من أساسها ويناقض الموقف العلمي تماماً.

5- لا تستثني البراغماتية في سبيل تحصيل المنفعة أي وسيلة مهما كانت قذرة، ونرى مصداق ذلك باستعراض تاريخ السياسة والاقتصاد ومنهج الحياة المتبع في الحضارة الغربية عامة والأمريكية خاصة.

7- أكثر ما يثير الانتباه في البراغماتية هو نظريتها المتعلقة بالإيمان والدين، لافتقارها إلى أبسط القواعد العقلية البديهية، فالعقل السليم يرفض الالتزام بعقيدة لا يمتلك دليلاً على صحتها، كما أنه يرفض تجاهل عقيدة تدل كل البراهين على صدقها حتى لو كانت نتائجها سيئة على الفرد في هذه الحياة الدنيا، فقد يكون الإيمان بالله محفوفا بالمخاطر لتسلط الطغاة على المؤمنين (كما في عصر فرعون مثلا) لكن هذا لا يعني أن الإيمان بالله خاطئ وأن العبودية لفرعون حق، ولو أن البراغماتية اقتصرت على القول إن الإيمان غير نافع في المرحلة الحالية لكان هذا مقبولا لكنها تقول إنه باطل وغير حقيقي، فهي تخلط بين المنفعة والحقيقة نفسها.

8- اعتبار العقل أداة للبقاء وليس أداة للمعرفة هو أمر يحطٌّ من قدر العقل الذي يتميز به الإنسان، فالحيوانات يمكنها الصراع بفضل غريزة البقاء التي يمتلكها الإنسان أيضاً؛ إلا أنه يمتلك فوق ذلك العقل الذي يوصله إلى المعرفة والحقيقة، لاسيما الحقيقة الأسمى وهي وجود الله. لكن البراغماتية تفقد الثقة بقدرات العقل وتعتبر الإنسان مكرها على العيش في عالم لاعقلاني، وعلى أنه لن يدرك الحقيقة الموضوعية، مما يستدعي النظر إلى مختلف النظريات العلمية والأفكار الاجتماعية والقيم الأخلاقية نظرةً أداتيةً، أي بمقدار منفعتها في تحقيق أهدافه، وهذا يفقد الإنسان جوهر تميزه عن الحيوانات.

9- تتميز البراغماتية بأنها فلسفة لاأخلاقية رغم تقيدها ببعض الفضائل كالأمانة والانضباط والدقة ومراعاة المواعيد، فهذه الفضائل ليست مقصودة لذاتها؛ بل تفيد البراغماتي في تعامله مع الغير من باب المنفعة فقط.

10- قصر اهتمام الإنسان على تحصيل منفعته الخاصة يدفعه إلى مسايرة الأحداث في سبيل البقاء، وهذا يؤدي للتفريط بكثير من الثوابت التي لا تعترف البراغماتية بها أصلاً ، فنراه يضحي بكرامته وإنسانيته، وقد يفقد الإحساس بالغاية من وجوده واستمرار حياته.

11- ترتكز البراغماتية في جزء كبير منها على النظرية الداروينية التطورية، وهي نظرية لم تثبت علميا بعد، فالاعتقاد بتطور الجسد البشري عبر ملايين السنين هو الأساس النظري لتبرير المواقف البراغماتية من العقل والحواس، لذا فإن نقض الداروينية يعد طريقا مختصرا لنسف البراغماتية من جذورها.

مزايا
مع كل ما سبق، لا تخلو البراغماتية من بعض المزايا التي تحسب لها، حيث أدت خدمات مختلفة نذكر منها ما يلي:

1- أنزلت البراغماتية الأبحاث الفلسفية إلى مستوى تفكير الرجل العادي، بعد أن كانت وقفاً على شريحة النخبة.

2- أدت إلى اتصال وثيق بين العمل والفكر، كما بينت أثر التفكير في النظم الاجتماعية للإنسان، وأكدت على ضرورة أن تؤدي الفلسفة خدمة لحياة الإنسان الاجتماعية من سياسة واقتصاد وتربية وتعليم.

3- قلبت البراغماتية نظم التعليم رأساً على عقب في أنحاء العالم، ووضحت الغاية من التعليم، فهي ترى أن كل نظام تعليمي نظري لا يؤثر في الحياة الراهنة هو نظام عقيم.

4- أدت إلى تطور علمي غير مسبوق؛ كنتيجة حتمية لعشقها للتجربة والتطبيق ولربط الفكر بالعمل.

 

الإسلام والبراغماتية
إذا نظرنا إلى البراغماتية بمنظور إسلامي فسنجد خللاً واضحاً في رؤيتها يدفع إلى رفض نظرتها القائمة على النفعية، فهي تغض الطرف عما يمكن أن يجلبه الجري اللاهث وراء المنفعة من كوارث على البشرية، وتتناقض تماما مع أبسط بديهيات الإيمان. ويمكن توضيح معالم الخلاف معها من خلال النقاط التالية:

1- حسب الإسلام، لم يترك الخالق عقل الإنسان يتخبط في متاهات الفكر بحثاً عن حقيقة وجود الله؛ بل بيَّنها له بالأدلة العقلية والحسية عن طريق إرسال الرسل، وتأييدهم بالوحي والمعجزات والعقل والمشاهدات. وهذه الحقيقة ليست نسبية بل ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والمصالح.

2- الحق والخير هما ما يحدده الخالق، فالأمر ليس رهناً بمنفعة مؤقتة، بل يستمدان شرعيتهما من معرفة الإنسان بالإله ومن الإيمان بأنه خالق الكون والإنسان والأعلم بما فيه صلاحه، مع التأكيد على عدم تعارض هذا الحق مع العقل السليم، ولا مع ما فيه مصلحة الإنسان وسعادته.

3- يقر الإسلام بأن حصول المنفعة والنجاح في الحياة مطلوب، وأن السعي والتنافس لأجلهما مرغوب لتحقيق معنى استخلاف الإنسان في الأرض؛ ولكن ينبغي أن يتخذ هذا السعي وسائل وذرائع تلتزم بأوامر الشرع وآدابه في سبيل الوصول إلى الغايات النبيلة. ومع أن الإسلام يرتب تشريعاته وفقا للمقاصد وترتيبها من حيث الحاجة والضرورة وتقديم المصلحة العامة على الخاصة، فإنه لا يقبل بالمبدأ الماكيافيلي التبريري.

4- يتميز المجتمع الإسلامي بالإيثار وحب الخير للآخرين، فالمؤمن لا يتم إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وقد يضحي بمنافعه الشخصية في سبيل مصلحة أمته وسعادتها؛ بل يحث الإسلام على التضحية بالنفس والمال أيضاً لبلوغ أعلى الدرجات، وهذا أمر تفتقده المجتمعات البراغماتية، فحتى لو حثت على التضحية فإنها تضعها في إطار المنفعة لما تقدمه أعمال الخير من شعور بالراحة والسعادة، ولما تنعكس به من مصلحة على الفرد بتحسين المجتمع الذي يعيش فيه.

5- لا يُقبل من المسلم الإيمان بالله إن لم يكن عن اقتناع كامل، فالمطلوب هو إيمان يهيمن على القلب والعقل والجوارح، ولا ينفع فيه التقليد أو الاعتماد على المنفعة فقط، فقد يضحي المؤمن بأغلى ما لديه في سبيل خالقه، وهذه عقيدة مخالفة تماماً للإيمان البراغماتي الذي يدعو الإنسان إلى ترك عقيدته في حال تعارضها مع منفعته الشخصية.


أهم المراجع
يعقوب فام، مذهب الذرائع (البراغماتزم) النظرية الأمريكية في المنفعة، مركز دراسات المستقبل، حمص.

بيتر كاز، تاريخ الفلسفة في أمريكا خلال 200 عام، ترجمة حسني نصار، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1980.

هربرت شنايدر، تاريخ الفلسفة الأمريكية، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، 1964.

ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، 1985.

عبد الرحمن البدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984.

أحمد أمين وزكي نجيب محمود، قصة الفلسفة الحديثة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1983.

جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982.

المسيحية الصهيونية

دونان مؤسس الصليب الأحمر هو أول من أطلق عليه اسم مسيحي متصهين

إن ما يعرف بالمسيحية المتصهينة ليس بالفكر الجديد، أو الطارئ على الثقافة والمعتقد المسيحي عامة والغربي منه خاصة؛ بل له جذور ربما تعود إلى البدايات المسيحية الأولى التي كان لشاؤول اليهودي الذي أصبح يعرف بالقديس بولس دور بارز فيها، وقد تطورت حتى وصلت إلى عقيدة متكاملة تتبناها الفرقة التي تمسك بزمام السلطة في الغرب والولايات المتحدة وتحاول انطلاقاً منها السيطرة على العالم وتسييره لخدمة رؤاها العقدية.

وتٌعرف المسيحية المتصهينة بأنها المسيحية التي تدعم الصهيونية، ثم أخذ هذا المصطلح بعداً دينياً وهو أن المسيحي الصهيوني إنسان مهتم بتحقيق نبوءات الكتاب المقدس من خلال الوجود العضوي والسياسي لإسرائيل، بدلاً من تحقيق البرنامج الإنجيلي من خلال المسيح والكنيسة. وأول من استخدم تعبير المسيحية الصهيونية هو تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية عندما أطلقه على السويسري هنري دونان مؤسس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهو من الأثرياء الذين مدّوا يد العون إلى الحركة الصهيونية اليهودية.

تيار الألفية

رسم تخيلي لبولس

جاءت المسيحية بعد اليهودية كحركة إصلاحية مكمِّلة لها لكنها لم تنج من التبديل كحال سابقتها، فبعد رفع النبي عيسى عليه السلام إلى السماء بدأ التغيير في المسيحية، والذي كان لشاؤل (بولس) دورٌ بارزٌ فيه، وقد ركز على فكرتين قامت عليهما المسيحية، وهما ألوهية المسيح، وأممية المسيحية بعد أن كانت مقتصرةً على بني اسرائيل.

والملاحظ ظهور عدة فرق وحركات في وقت مبكر من تاريخ المسيحية تؤمن بعودة المسيح إلى الأرض، ومنها حركة المونتانية (Montanism) التي ظهرت بعد منتصف القرن الثاني الميلادي في آسيا الصغرى، وترجع إلى راهب اسمه مونتانس الذي أعلن أنه يتلقى الوحي من الروح القدس، وكان من أوائل من قالوا برجوع عيسى المسيح إلى الأرض؛ ليحكم مدة ألف عام سعيدة.

وكان سفر الرؤيا -وهو آخر أسفار العهد الجديد وأكثرها تنبؤاً بالمستقبل- هو المفضل لدى أتباع هذه الحركة، كما أعلن مؤسسها نهاية العالم ورجوع المسيح السريع إلى الارض، دون أن يحدد القدس مكاناً لذلك. وكان أتباعه يستعدون لهذا المجيء الثاني بالامتناع عن الزواج والإكثار من الصيام، واستمرت الحركة ولم تمت -كما كان متوقعاً- عندما لم تأت نهاية العالم التي تنبأت بها؛ بل ازدهرت وانتشرت حتى بعد موت مؤسسها.

وفي عام 200م امتدت الحركة إلى الغرب واحترم الكثيرون أتباعها لما يتمتعون به من التقشف، لكن الكنيسة حاربتهم وطردتهم من المدن، فانتشرت الحركة في القرى حتى القرن الخامس الميلادي.

ظهرت كتابات نبوئية كثيرة -يهودية ومسيحية- في تلك المرحلة، وكانت تركز على النبوءات التي تتعلق بنهاية الزمان وعلاماتها، وتتميز بامتلائها بالرموز والأعداد والكتابات السرية، وكان جل اعتمادها على نبوءات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.

وهكذا ميّز الاهتمام بالمجيء الثاني للمسيح الكنيسة المسيحية منذ سنواتها الأولى، وقد ركزت كل التفسيرات اللاهوتية على انتظار العصر الألفي الذي سيحكم فيه المسيح الأرض لمدة ألف عام.

مرحلة العصور الوسطى

الغيتو اليهودي في فرانكفورت في منتصف القرن التاسع عشر

تميزت العصور الوسطى باضطهاد اليهود في أوربا، حيث فرض عليهم العيش في جيوب منعزلة (غيتو) بالمدن، واعتبر المسيحيون أن كل ما يصيب اليهود من ويلات هو عقاب من الله لهم بسبب “صلبهم” للمسيح، وأنهم بسبب خيانتهم يحملون ذنباً جماعياً يجعلهم دائماً موضع لعنة. ومع ذلك كان لهم تأثير خفي مع تسرب تراثهم تدريجيا إلى الفكر المسيحي، إلى أن نجحوا في السيطرة على الفاتيكان خلال الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، إذ كانت دوافع تلك الحملات في الظاهر مسيحية خالصة، وكان هدفها المعلن الاستيلاء على القدس كموطن للمسيح، لكن بعض الباحثين رجَّحوا أن اليهود هم الذين دفعوا الصليبيين إلى شن حملاتهم، فقد نجحت كثير من العائلات الميروفنجية ذات الأصول اليهودية في غرب أوروبا بالتغلغل داخل الطبقة الحاكمة حتى سيطرت عليها، وأقامت هذه السلالة مملكة من الأديرة والرهبان لا سلطان للفاتيكان عليها، بل هي تملك زمام الفاتيكان بالخفاء، وقد نجحت في تهيئة الظروف لشن الحملات الصليبية والوصول إلى الأرض المقدسة، حيث كانت جماهير المسيحيين مهيأة لقبول القراءة الحرفية لنبوءات النصوص المقدسة.

اللباس التقليدي لفرسان المعبد

وهنا يبرز دور فرسان الهيكل في دعم الحرب وتقديم العون المالي والعسكري لأمرائها، وهم أعضاء جماعة عسكرية دينية أحاطت نفسها وتاريخها بكثير من الغموض، تأسست في القدس عام 1119م، وأطلقوا على أنفسهم بدايةً اسم “الإخوة الفقراء جنود المسيح وهيكل سليمان”، وهو اسم يشير إلى جذورهم اليهودية المتغلغلة في النسيج الفكري المسيحي، وتقول الروايات التاريخية إنهم اتخذوا مقراً في القدس بعد احتلالها قرب الموقع الذي يعتقد أن الهيكل كان فيه، فللهيكل أهمية جوهرية في الفكر اليهودي وإعادة تشييده هي أسمى أهدافهم، أما المسيحية فلا يعنيها من الأرض المقدسة إلا قبر المسيح وكنيسة القيامة، بل يشكل خرابه وبقاؤه خرباً دليلا على صدق نبوءة المسيح كما جاء في سفر متى.

ويمكن النظر إلى الحروب الصليبية على أنها تعبيرٌ مبكر عن الإرهاصات الصهيونية الأولى بصبغتها المسيحية، فقد ساهمت بعمق في صياغة الإدراك الغربي لفلسطين والمسلمين.

بُذلت لاحقا جهود ضخمة لتحويل يهود أوربا إلى المسيحية، لاسيما في إسبانيا والبرتغال بعد سقوط الأندلس، فاعتنق كثيرون المسيحية ظاهريا، بينما قام البعض بعملية توفيق بين المسيحية ومعتقداته اليهودية. وكان لهؤلاء دور فاعل في إنضاج اليهودية المسيحية أو المسيحية اليهودية خلال المدة ما بين 1491 و1497م في إسبانيا والبرتغال، ويقدر عدد هؤلاء بالآلاف وقد سُموا بالمسيحيين الجدد.

لعب المسيحيون الجدد دوراً تاريخياً بنشر الاعتقاد بأن العناية الإلهية متضمنة في حضور الرب خلال التاريخ الإنساني، وقالوا إن التاريخ الإلهي سيبدأ بمجيء المسيح مع بداية الألف عام السعيدة (الألفية)، فظهرت بين اللاهوتيين والمفكرين الدينيين تفسيرات جديدة للكتاب المقدس، تتصور تحول اليهود إلى المسيحية وظهور القبائل الإسرائيلية المفقودة باعتبارها الخطوات الأخيرة التي تسبق نهاية العالم، فأصبحت الأحداث العظمى المرتقبة هي عودة اليهود إلى أرض صهيون وإعادة بناء هيكل سليمان، وإعادة تأسيس الحكم الإلهي للأرض من القدس.

ومن هنا رأى المسيحيون أن اليهود شركاء لا غنى عنهم في الأحداث العظمى قبل مجيء المسيح، بعد أن كانوا أعداء يستحقون اللعنة.

كريستوفر كولومبس

اكتشاف أمريكا
من الشائع عن كريستوفر كولومبس أنه كان مغامراً وباحثا عن الشهرة والثروة والسلطة، ما دفعه لاكتشاف القارة الجديدة التي سميت (أمريكا)، إلا أن كولومبس كان يفكر بهدف أسمى –في نظره- حتى كرّس له كل وحياته، وهو اكتشاف ممالك جديدة يَهدي شعوبها إلى الدين المسيحي، ثم يجندها في ما أسماه “حرب الحياة أو الموت ضد إمبراطورية محمد”.

أما هدف النهائي لكولومبس فكان استعادة الأراضي المقدسة، تمهيداً لنزول مملكة الله على جبل صهيون في موقع الهيكل.

وكان يعتقد أن العناية الإلهية اختارته لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس، كما ترسخت لديه أسس الإيمان بخطة كونية لها بداية ونهاية، وكان يرى أن الكتاب المقدس بنصوصه التي يؤمن بحرفيتها هو دليل هذه الخطة، كما تصوّر نفسه رسول الوحي المستقبلي الكتابي الذي ينبئ باستعادة القدس وهداية اليهود، فكان يوقّع اسمه بصيغة مميزة، وهي “كريستوفرنز”، التي تعني باللاتينية “حامل المسيح”.

وهكذا كان الهدف من رحلاته إلى الشرق “هداية” الأمم الأخرى، وجمع الثروات لتوظيفها في تمويل حرب صليبية أخيرة، يقودها العرش الإسباني لاستعادة الأرض المقدسة من المسلمين.

وترافق اكتشافه لأمريكا مع سقوط الأندلس وخروج المسلمين منها، وإجبار من بقي منهم على اعتناق المسيحية، فشكل هذا الحدث حافزاً على حماس تبشيري جديد، وكان كولومبس يذكّر ملوك أوربا بتداخل هذه المصادفات التاريخية وتوافقها، ويدلل بذلك على تدخل العناية الإلهية ضمن خطة الله للكون، وهكذا استطاع إقناع ملك إسبانيا وملكتها بتمويل مشروعه.

ويجدر بالذكر أن كل هذه الأنشطة التبشيرية جاءت قبل حركة الإصلاح الديني، أي قبل نشوء البروتستانتية التي تعد تطوراً نوعياً في مسيرة المسيحية المتصهينة، حيث اشتهرت بنشاطها التبشيري الذي سيكون له عظيم الأثر في تغلغل الفكر الديني اليهودي بالمسيحية.

يؤكد باحثون مختصون في حركة الكشوف الجغرافية التي نشطت في القرن الخامس عشر أن فرسان الهيكل كانوا من رواد هذه الحركة، التي أسمت نفسها حينئذ “فرسان المسيح”، حيث انطلقت سفنها وهي ترفع على الصواري صليب فرسان الهيكل الأحمر الشهير، كما تبنى “المسيحيون الجدد” مشروع كولومبس ودعموه بالخرائط والتمويل، وكانوا من أوائل المستوطنين في أمريكا.

مارتن لوثر

حركة الإصلاح الديني
ترجع الانطلاقة الكبرى للمسيحية المتصهينة إلى حركة الإصلاح الديني التي أطلقها القس الألماني مارتن لوثر (1483- 1546)، فقد كان من بنود احتجاجه على الكنيسة البابوية احتكار الكنيسة لقراءة الكتاب المقدس بلغات لا يعرفها العوام.

كما احتج على احتكار الكنيسة تفسير النصوص الدينية ولعب دور الوسيط بين الناس والإله، ومنحهم صكوك الغفران التي ادعت الكنيسة أن حاملها يتحرر من العقاب الدنيوي ويحوز مكاناً في الجنة مقابل المال.

وهكذا تُرجم الكتاب المقدس إلى اللغات المتداولة وأصبح متوفرا للقراءة من قبل الجميع، وبعد التغلغل اليهودي الذي تحدثنا عنه في العقل المسيحي جاءت حركة الإصلاح لتشكل بعثاً عبرياً تولدت عنه وجهة نظر جديدة عن الماضي والحاضر والمستقبل اليهودي.

لم يكن لليهود في الفكر المسيحي مكانة متميزة قبل حركة الإصلاح كما أصبح لهم بعدها، فكان القساوسة يرفضون التفسير الحرفي للتوراة ويعطون قصصه وأحداثه معاني مجازية لحالات روحية وأخلاقية. وكانوا يرون أن اليهود ملعونين فطردهم الله من فلسطين إلى المنفى، وأنه نفاهم مجددا عندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر، وبذلك انتهى وجود الأمة اليهودية إلى الأبد ولن يجد شتاتهم الخلاص إلا بارتدادهم إلى المسيحية.

وكانوا يؤولون النبوءات المتعلقة بعودة اليهود على أنها العودة من المنفى في بابل بالعراق، والتي تحققت في القرن السادس قبل الميلاد، أما الفقرات التي تتنبأ بمستقبل مشرق لإسرائيل فكانت تُحمل على الكنيسة المسيحية، فالكنيسة هي مملكة المسيح وهي التجسيد التام للعصر الألفي.

لكن الانقلاب الفكري للبروتستانتية جعل اليهود هم شعب الله المختار والأمة المفضلة على كل الأمم، وبدأ الاعتقاد بأن ثمة ميثاقاً إلهياً يربط اليهود بفلسطين، وأن العودة الثانية للمسيح ترتبط بقيام دولة صهيون الإسرائيلية في فلسطين، قبل أن يعود ويقيم مملكته مدة ألف عام، ثم تقوم الساعة بعد ذلك.

في عام 1523م كتب لوثر كتابه “المسيح ولد يهودياً”، وشرح فيه المواقف المؤيدة لليهودية، وأدان اضطهاد الكنيسة لليهود محتجاً بأن المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد.

وقال فيه “إن الروح القدس شاءت أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل ما يتساقط من فتات أسيادها”.

ثم ألف كتاباً آخر اسمه “ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم” عام 1544م، وطالب فيه بنقل اليهود من ألمانيا قائلاً “من الذي يحول دون اليهود وعودتهم إلى أرضهم في فلسطين، لا أحد، إننا سنزودهم بكل ما يحتاجون إليه في رحلتهم، لا لشيء إلا لنتخلص منهم”.

ويرى بعض الباحثين أن لوثر تراجع عن مواقفه المؤيدة لليهود في كتابه الأخير؛ إلا أن المتابع لحياة لوثر وأفكاره ربما يلاحظ أن رغبة لوثر في التخلص من اليهود ليست نابعة عن كراهية؛ بل هي تجسد عقيدته بشأن ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، كما كان يمارس نوعاً من التقية لامتصاص غضب بعض المسيحيين الذين أثارتهم أفكاره الصهيونية، والدليل على ذلك ما أنتجته حركته من انقلاب نظرة المسيحيين لليهود من أعداء إلى شركاء، وربما سادة.

لقد ساهمت حركة الإصلاح الديني في اعتبار العهد القديم المرجع الأعلى للاعتقاد البروتستانتي ومصدر المسيحية النقية، وجعلته جزءاً من عبادات الكنائس، ومرجعا لتاريخ الأراضي المقدسة والأنبياء، ومصدرا لنبوءات آخر الزمان. وهكذا ظهر شعار “العودة إلى الكتاب المقدس”، كما ساد الاعتقاد بإقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون فرض قيود على التفسيرات التوراتية، مما فتح الباب أمام تسرب المزيد من الأفكار اليهودية إلى المسيحية.

زيادة على ما سبق، أعطى الإصلاح الديني للغة العبرية -باعتبارها لغة الكتاب المقدس- أهمية كبرى، حتى أصبحت جزءاً من الثقافة العامة ومن المنهج الدراسي اللاهوتي، فكانت وسيلة لفهم “كلمة الله” بشكل صحيح.

وبالنتيجة، تخلص البروتستانت من فكرة كراهية اليهود واعتبروهم شركاء محبوبين، ليس حبا في دينهم فقط بل لاعتقادهم بأن لهم دوراً في خلاص المسيحيين. وقد انتشرت البروتستانتية من ألمانيا وسويسرا إلى معظم دول أوربا الوسطى والغربية بعد جولات من الصراع مع الكاثوليكية.

الحركة البيوريتانية (الطهورية)

جون كالفن

بلغت النهضة العبرية بأفكارها الصهيونية ذروتها في عهد الثورة البيورتانية (الطهورية) في إنجلترا، وهي حركة دينية متشددة نشأت في القرن السادس عشر من رحم البروتستانتية، وكانت تتبع تعاليم القس الفرنسي جون كالفن (1509- 1564).

جاء وصف التطهر من عمل أتباعها على استئصال ما تبقى من الكاثوليكية في بريطانيا، وكانوا مغالين في إجلال الكتاب المقدس، كما خصوا العهد القديم بمكانة تفوق العهد الجديد، حتى استعملوا لغته والأسماء الواردة فيه باعتبارها أنسب أداة لنقل أفكارهم العنيفة، كما طالبوا الحكومة بأن تعلن التوراة دستوراً للقانون الإنجليزي، وساهموا في نشر فكرة الشعب المختار داخل الفكر الإنجليزي، وهي فكرة لعبت دورا جوهريا في الهجرة إلى العالم الجديد (أمريكا) باعتبارها أرض الميعاد.

جاء التطور الأهم في تاريخ المسيحية المتصهينة بانتقالها في أوائل القرن السابع عشر مع المهاجرين البروتستانت والطهوريين إلى أمريكا، حيث كان رواد الفكر الطهوري أهم مؤسسي الأمة الأمريكية وواضعي أسسها الدينية واتجاهاتها السياسية والاجتماعية القائمة حتى اليوم.

ويقوم هذا الفكر على ثلاثة اعتقادات رئيسة:
1- وجود خطة إلهية شاملة للعالم، يلعب فيها الطهوريون بهجرتهم إلى أمريكا دوراً هاماً، والإيمان بأن أمريكا كانت موجودة في “عقل الإله” لأهداف محددة منذ بداية الخلق.

2- اختيار العناية الإلهية للطهوريين المهاجرين إلى العالم الجديد، فهم شعب الله الذي اختارهم للهرب من فساد العالم القديم وإنشاء مملكة الله على الأرض، وهم في ذلك يشبّهون أنفسهم بقبائل إسرائيل في هروبها من مصر إلى أرض فلسطين.

3- الطهوريون على علاقة تعاهدية مع الله، وهم شركاء في تنفيذ مهمة حددها لهم في هذا العالم، تتلخص في تنوير بقية الأمم وإنقاذها من الجهالة والظلام.

ونرى أثر هذه المعتقدات في سلوك الأمريكيين العملي، سواء كانوا أفراداً عاديين أم شخصيات قيادية حاكمة، فقد حمل المهاجرون الأوائل معهم التقاليد اليهودية، وكانوا يُنزلون قصص التوراة على حياتهم اليومية، وأطلقوا على أمريكا اسم أرض الميعاد وإسرائيل الله الجديدة وصهيون، كما أطلقوا على مدنهم أسماء توراتية من قبيل كنعان وسيناء والقدس والناصرة، ويوجد في أمريكا على الأقل 12 مدينة وبلدة اسمها الخليل، و6 مدن اسمها بيت لحم.

أما مطاردتهم للهنود الحمر (السكان الأصليين) فكانت مقتبسة من مطاردة العبرانيين القدماء للكنعانيين في فلسطين، وبما أنهم الشعب المختار فقد أباحوا لأنفسهم التضحية بالآخرين، واستعملوا أبشع وسائل القتل لإبادة ملايين السكان الأصليين، حتى بات اصطياد الهنود رياضة شعبية مسلية في بعض الولايات، بحيث يمزق جسد الضحية التي تصاب منهم، أو تلقى طعاماً للكلاب.

وانبثق عن هؤلاء مذاهب وحركات دينية تتمتع بحماس ديني بالغ، سيصل في مداه إلى تحول الرؤية الصهيونية من الموقع الرمزي لإسرائيل الأمريكية في العالم الجديد إلى الأراضي المقدسة (فلسطين) في العالم القديم، وهي من أهم أفكار اليمين المتطرف في أمريكا اليوم.

في عام 1776 اقترح ثلاثة من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة وهم جيفرسون وآدمز وفرانكلين أن يتضمن شعار البلاد صورة لفرعون وهو يطارد بني إسرائيل بينما يضيء عمود من النار طريقهم، في إشارة إلى أن أمريكا هي أرض إسرائيل الثانية

العقيدة والأفكار
تؤمن المسيحية المتصهينة بما تؤمن به المذاهب المسيحية الأخرى فيما يتعلق بألوهية المسيح وبنوّته لله، كما تشاركها الاعتقاد بعقيدة التثليث والصلب والفداء. أما أهم ما يميزها فهو العقائد ذات الصبغة الصهيونية، والاعتقاد بأن لديها خطة إلهية للدهر تتضمن أحداثاً لا بد من وقوعها، فهي نبوءات آخر الزمان التي تشكل جوهر الفكر المسيحي الصهيوني، وفيما يلي أهم هذه العقائد:

1- عودة المسيح المخلص: تؤمن المسيحية عامة بدور المسيح في خلاص البشرية من آثامها عبر صلبه ظلماً ليكفر عن خطايا البشر، وأضيف إلى هذا الاعتقاد لدى المسيحية المتصهينة الإيمان بأن المسيح سيعود في نهاية الزمان، وأن تاريخ نزوله يوافق رقماً ألفياً، ثم يؤسس مملكته التي تدوم ألف عام ومقرها القدس، كما أنه سيبطش بأعداء اليهود ويضع الأمم تحت أقدامهم، فيحكمون العالم معه.

كانت هذه في البداية رؤية اليهود للمسيّا أو الماشيَّح المنتظر عندهم، وهو شخص آخر غير عيسى بن مريم الذي ينكرون نبوته ويعتبرونه كاذبًا؛ لكن فكرة انتظار الماشيح سرعان ما تسربت إلى الأدبيات المسيحية وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من البروتستانتية، فأصبحوا ينتظرون المسيح كما ينتظر اليهود الماشيح. وهذه العقيدة تجعل الخلاص مرهوناً بالانتماء إلى اليهود (لدى اليهودية)، وبمساعدة اليهود (لدى المسيحية المتصهينة)، وتبرر أفعال القتل والإبادة في سبيل هذه الغاية.

2- ظهور شروط العودة المنتظرة، وهي:

  • تجمُّع اليهود في دولة لهم هي إسرائيل، وذلك يوجب مساعدتهم والتقرب منهم.
  • احتلال القدس وانتزاعها من المسلمين، فهي المدينة التي سيحكم منها المسيح العالم.
  • “إعادة” بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى.
  • دعم دولة إسرائيل والدفاع عنها ومباركة سياستها، واعتبارها إشارة إلهية لرحمة الله واستجابةً لإرادته.

الدجال يتلقى تعليماته من الشيطان كما تخيله الرسام لوقا سيغنوريلي عام 1501

3- ظهور عدو المسيح Antichrist (يماثل المسيح الدجال لدى المسلمين) وجيوش الشر، وبحسب المسيحية المتصهينة فهو شخصية كافرة وطاغية وابن الشيطان، وهو المقصود بالوحش الذي ورد ذكره في العهد الجديد “فرأيت وحشاً طالعاً من البحر.. وأعطاه التنين قدرته وعرشه وسلطاناً عظيماً” (الرؤيا 13: 1- 2)، ويقولون إنه سيظهر في منطقة العرب بآخر الزمان، وسيحكم الأرض مع الشيطان ويدنس الهيكل ببناء تمثال له فيه فينتشر الظلم والبؤس في العالم، كما سيعاد بناء مدينة بابل مما يؤدي إلى نزول المسيح لإنقاذ البقية الصالحة، فتدور معركة رهيبة يفنى فيها الكثيرون ويُقتل الدجال.

والمعركة المقصودة هي معركة “هرمجّدون”، وهي كلمة عبرية مكونة من مقطعين، هما (هَرْ) ومعناه تل أو جبل، و(مجدو)، وهو اسم سهل صغير شمال فلسطين، ويقولون إنها ستكون معركة ضخمة تحشد جيوشاً جرارة قوامها 400 مليون جندي، حيث تحتشد أمم الأرض ضد إسرائيل.

وينظر المسيحيون المتصهينون إلى المسلمين على أنهم أتباع الدجال، وأن المسيح سيغرقهم في بحيرة الكبريت والنار، وقد فسر بعضهم هذه النبوءة بالقنابل النووية، ثم يرفع المسيح أتباعه إلى السحاب وينقذهم من المعاناة.

تل مجيدو يضم أطلالا أثرية (AVRAM GRAICER)

ويؤمن بهذه النبوءة شخصيات عسكرية وسياسية وأكاديمية أمريكية كبيرة، وعلى رأسهم الكثير من رؤساء الولايات المتحدة.

4- عقيدة الألفية: يطلق اسم الألفية على مدة الألف عام التي يحكم المسيح فيها مملكته الألفية بعد الانتصار في هرمجدون والقضاء على جيوش الشر، ثم ينتهي العالم بعد ألف عام يحكم فيها المسيح كل الأرض من عاصمته في القدس. وقد درجت بعض الفئات المسيحية المتطرفة على ربط بداية هذه المملكة الألفية ببداية كل ألفية تقويمية، ما أدى إلى حماس ديني شديد يوصف بحمى الألفية، وقد ظهر في نهاية الألف الأول والألف الثاني من التقويم الميلادي.

5- تقديم العهد القديم على العهد الجديد، فمع أن بقية الطوائف المسيحية لا ترفض العهد القديم وتعتبره متكاملاً مع العهد الجديد؛ إلا أن العهد القديم أخذ موقعاً أساسياً لدى حركة الإصلاح الديني، لاسيما في إنجلترا البيوريتانية وفي العالم الجديد بالقارة الأمريكية، حيث بدأت قراءته بطريقة مختلفة عن السابق تعتمد النص الحرفي والتسليم بكل ما جاء فيه، لاسيما ما يتعلق منه بالنبوءات خاصة.

 

أبرز الشخصيات
هنالك العديد من قيادات المسيحية المتصهينة المعاصرة ممن أمضوا عقوداً كثيرة في الترويج للنبوءات المقدسة، منهم زعماء دينيون وشخصيات سياسية يجمعهم هدف واحد، هو ضمان الدعم التام لإسرائيل. وهم يشنون باستمرار حملات عنيفة على الإسلام والمسلمين، ويشتركون في مهارة استخدام وسائل الإعلام، كما يترأسون منظمات دينية وثقافية وسياسية واجتماعية، ويتصرفون بثروات وموارد مالية هائلة، ومن أبرز هؤلاء نذكر ما يلي:

جيري فالويل (Liberty University)

1- جيري فالويل: قس بروتستانتي أمريكي، يترأس إمبراطورية أصولية تعد من أكبر الإمبراطوريات الفردية قوة في العالم، ويتمتع بدور بارز في صناعة القرار السياسي الأمريكي.

يمتلك محطة إذاعية وتلفازية يستمع لها الملايين، ويركز من خلال برامجه على إعلان دعمه التام لإسرائيل وعلى مهاجمة الإسلام، وكان قد تأثر باحتلال القدس عام 1967م وأعطاه معنىً توراتياً.

2- بيلي غراهام: يعد من أكثر القادة المسيحيين تأثيراً في العالم، عمل مستشارا غير رسمي للبيت الأبيض، وكان مقربا من الرئيس السابق جورج بوش الإبن.

بات روبرتسون (Paparazzo Presents)

3- بات روبرتسون: زعيم ديني يتمتع بشهرة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الخارج، أنشأ مؤسسات إعلامية، ومن أهمها الشبكة التلفازية- الإذاعية المسيحية (CBN) التي أسسها عام 1960، ويقول إنه ينتظر اللحظة التي ستتولى فيها محطته نقل وقائع نزول المسيح فوق جبل الزيتون في القدس، كما صرح بأن ولاءه لإسرائيل جاء قبل ولائه لأمريكا نفسها.

4- هال ليندزي: يعد من أكثر العاملين في مجال تجارة النبوءات إثارة وشهرة، ألف العديد من الكتب، وبلغ من شهرته وقوة تأثيره أنه يُدعى للخطابة أمام المخططين العسكريين الأمريكيين في كلية الحرب الجوية ووزارة الدفاع (البنتاغون)، إضافة إلى علاقته الوثيقة بإسرائيل.

تضاف إلى القائمة السابقة أسماء عدد من رؤساء الولايات المتحدة، مثل هاري ترومان (1945- 1952) الذي يعد بإجماع التواريخ الصهيونية تجسيداً للمسيحية الصهيونية الأمريكية على المستوى السياسي، فكان أول رئيس في العالم يعترف بقيام دولة إسرائيل عام 1948.

ونذكر أيضا ليندون جونسون (1963-1969 )، وجيمي كارتر (1977- 1981) الذي اعترف بأن مشاعره المؤيدة للصهيونية كانت الحافز الذي صاغ سياسته في الشرق الأوسط، لكن رونالد ريغان (1981- 1989) قطع شوطا أبعد، فكان يعلن إيمانه بنبوءة “هرمجدون” ويتمنى أن تقع خلال حكمه، وتعتبر مدة رئاسته العصر الذهبي للحركة في أمريكا، وكان يدعو قساوسة الحركة إلى البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي لإبداء رأيهم في القضايا الاستراتيجية في ضوء النبوءات التوراتية.

أما جورج بوش الابن فيعد من “المسيحيين المولودين في المسيح من جديد”، وهو تعبير يستخدم للتعبير عن حدوث تحول جذري في عقيدة شخص ما، فقد ظل بوش الابن حتى سن الأربعين غير ملتزم دينياً إلى أن التقى بالقس غراهام، فقرأ الكتاب المقدس قراءة دقيقة، وتبين له أن المسيحية شهدت بداياتها في أرض إسرائيل التي تعد تحقيقاً للنبوءات المقدسة، وأن اليهود هم شعب الله المختار، ثم تطور لديه الاعتقاد بأنه شخص اختاره الله ليعيد الأرض إلى سيطرة الله، لذا لم يتردد عام 2001 في إطلاق وصف “الحملة الصليبية” على حروبه التي شنها في أفغانستان والعراق.

 

أهم المنظمات والفرق
تتمتع المسيحية الصهيونية بحضور قوي في الأوساط البروتستانتية، وتشكل الولايات المتحدة مركز الثقل لنشاطها وتوسعها، إذ يعمل في ميدان التبشير 80 ألف قسيس، وفي الثمانينات وحدها تم إنشاء 250 مؤسسة وجمعية دينية أمريكية مؤيدة لإسرائيل.

وتملك المسيحية الصهيونية مئات المحطات الإذاعية والمتلفزة، ويدعي قادتها أن عدد أتباعهم يزيد عن 100 مليون.

ومن أبرز مؤسساتها وأكثرها نشاطاً نذكر ما يلي:

1-المصرف الأمريكي المسيحي من أجل إسرائيل: مهمته الأساسية تمويل استملاك الأراضي العربية، وبناء المستوطنات وتهجير اليهود.

2-منظمة جبل المعبد: مهمتها إعادة بناء هيكل سليمان في القدس، ويقع مركزها بمدينة القدس، وهي تمول عمليات الحفر تحت المسجد الأقصى بحثاً عن الهيكل، وتجمع الأموال لامتلاك العقارات المجاورة له.

3-السفارة المسيحية الدولية في القدس: تعد من أبرز المنظمات وأكثرها أهمية، تكونت عام 1980م رداً على قرار 13 دولة نقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب.

تشارلز راسل

ويجدر بالذكر أن من أهم الفرق المسيحية المتصهينة وأخطرها جماعة شهود يهوه، وهي جماعة نشأت في الولايات المتحدة عام 1872 على يد تشارلز راسل (1852- 1961)، وتدور أفكارها حول أطروحة عودة المسيح وضرورة الخلاص ونهاية العالم، وقد حددت عام 1914 لعودة اليهود، وفيما بعد أعلنت أن المقصود هو عام 1917 في إشارة إلى وعد بلفور.

ويؤمن أتباعها بأن اليهود يلعبون دوراً حاسماً في صراع “الرب” ضد الشيطان، ولها اتصالات بالقيادات الصهيونية وتلعب دورا في الدعوة للهجرة إلى فلسطين، كما تتمتع بنشاط ملحوظ في نحو 200 بلد، ويزيد عدد أتباعها عن مليوني شخص.

بين الدين والسياسة
تمتزج هذه العقيدة بالسياسة، بل تشكل الأرضية التي تنطلق منها كثير من القرارات السياسية في الولايات المتحدة وأجزاء كثيرة من أوربا، وقد كانت فلسطين ولا تزال راسخة في أذهان المسيحيين على أنها أرضهم المقدسة منذ الحملات الصليبية،  كما أن فكرة “إعادتها” للعبريين كانت شائعة، لأنها المقدمة الحتمية لعودة المسيح، وهي عقيدة كثيراً ما أطلت برأسها طوال التاريخ المسيحي.

ولم يمض وقت طويل حتى شهدت أوربا حركة منظمة تنادي بعودة اليهود إلى فلسطين، لا سيما في إنجلترا البيوريتانية، حيث أرسل الاسترحام التالي للحكومة الإنجليزية عام 1649م: “ليكن شعب إنجلترا أول من يحمل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لتكون إرثهم الأبدي”.

وكان نابليون بونابرت أول رجل دولة يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين، وذلك قبل وعد بلفور بنحو 118 عاماً. فخلال وجوده في بلاد الشام إبان حملته على الشرق، أصدر بياناً دعا فيه اليهود إلى أن يقاتلوا تحت لوائه لإعادة إنشاء مملكة القدس القديمة، وعندما رأى نابليون سهل مجيدو قال “إن هذا المكان سيكون مسرحاً لأعظم معركة في العالم”.

وفي تلك المرحلة، استُغل الأدب -الذي غدت أفكار العهد القديم من أهم مصادر إلهامه- لتحقيق هذا الهدف، فظهرت أعمال شعرية مثل “الفردوس المستعاد” التي تتحدث عن عودة إسرائيل، وكذلك رواية “ناثان الحكيم” التي تصور صلاح الدين على أنه الحاكم المسلم “القاسي والتافه” الذي احتل القدس، وأنه المسيح الدجال في نفس الوقت.

شافتسبري نشر في صحيفة تايمز المخصصة للمستعمرات عام 1841 “مذكرة إلى الملوك البروتستانت في أوروبا لإعادة اليهود إلى فلسطين”

وفي بريطانيا برز اللورد أيرل شافتسبري (1801- 1885) الذي وصف فلسطين بأنها “بلاد بدون أمة، لأمة بلا بلاد”، وهو الشعار الذي حولته الحركة الصهيونية فيما بعد إلى “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”، ثم بدأ التمهيد لتوطينهم من خلال بعثات استكشافية إلى فلسطين ابتداءً من عام 1865.

وفي العالم الجديد (أمريكا)، أصبح الوضع هناك أشد خطورةً وتأثيراً، وتمثل ذلك في تحول أنظار المستوطنين في العالم الجديد من أمريكا -بصفتها أرض الميعاد الرمزية- إلى الأراضي المقدسة الحقيقية (فلسطين). وغادرت جماعات أمريكية في القرن التاسع عشر إلى فلسطين لإنشاء مستوطنات هناك انتظاراً للحدث الكبير.

واستجاب كثير من الرحالة الأمريكيين في الشرق العربي لدعوة دينية لا تقاوم لتقفي أثر الإسرائيليين في رحلتهم إلى أرض الميعاد. فكانت رحلة الحج الأكثر أهمية في اعتقادهم تلك التي تسلك الطريق الذي سلكه الإسرائيليون، وتنطلق من القاهرة لتقطع صحراء سيناء على ظهور الدواب والجمال، رغم ما تتضمنه الرحلة من أخطار، وصولاً إلى فلسطين على خطى بني إسرائيل.

وقد دونوا في مذكراتهم تعبيرهم عن الألم -عند رؤية المسجد الأقصى- لاحتلال المسلمين موقع هيكل سليمان، ودعوا إلى ضرورة القضاء على الخلافة العثمانية، وإعادة اليهود إلى “دولتهم”.

وبدأ التخطيط لتحقيق هذه العودة، مرورا بمراحل متعددة بدأت بمحاولة السفير البريطاني في الأستانة (إسطنبول) “بونسو بني” عام 1840 بإقناع السلطان العثماني بقبول هجرة اليهود إلى فلسطين، كما اختير المسيحي الصهيوني وليم يونج ليكون أول نائب لقنصل بريطانيا في القدس كي يعمل على تهيئة الأوضاع لهجرة اليهود.

ومع انهيار الدولة العثمانية وسقوط الخلافة أعطت المسيحية الصهيونية وعدها الشهير على لسان أبرز دعاتها، وهو رئيس الوزراء البريطاني آرثر جيمس بلفور عام 1917. ثم عينت بريطانيا عند احتلالها لفلسطين يهودياً في منصب المندوب السامي هو هربرت صموئيل.

وكان الرأي العام الأمريكي يؤيد بشدة وعد بلفور، كما وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على الوعد وأيده عام 1918 قائلاً “كما خلّص موسى الإسرائيليين من العبودية، فإن الحلفاء الآن يخلصون يهوذا من أيدي الأتراك القبيحين، إن يهوذا يجب أن تقوم لتشكل أمة مستقلة، ويجب على حكومة الولايات المتحدة أن تمارس سلطاتها الملائمة لرؤية هذه الدولة اليهودية تقام، لتنبثق منها تعاليم ومبادئ يهوذا القديمة”.

وعد بلفور المقدم إلى روتشيلد

وتحقق الحلم عام 1948 بإعلان قيام دولة “إسرائيل”، وسارعت الدول الأوربية والولايات المتحدة إلى الاعتراف بها، لكن المرحلة الأهم بدأت عام 1967 مع احتلال القدس، ما أنعش آمالهم بتحقق الخطة الإلهية واسترداد القدس بالكامل من أيدي “مغتصبيها”.

إحراق المسجد الأقصى عام 1969

ومن المعروف أن حريق المسجد الأقصى ، الذي شب في 11/8/1969، افتعله الأسترالي مايكل روهان الذي ينتمي إلى إحدى الكنائس المسيحية المتصهينة، وكان قد دخل الأراضي المحتلة بصفة سائح، ثم انضم إلى عدد من أعضاء كنيسته في مستوطنة بالضفة الغربية، وأقدم على جريمته بحماية قوات الاحتلال تمهيدا لبناء الهيكل على أنقاض الأقصى.

ومنذ ذلك الوقت تتسابق الحكومات الغربية، والأمريكية خاصة، على تقديم الدعم بكافة أشكاله لإسرائيل، وتبرير كل ما تقوم به من أفعال إجرامية.

أما في العراق فقد تنوعت التحليلات السياسية لأسباب الغزو الأمريكي، وتعرضت إلى جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاستعمارية؛ إلا أن معظمها أغفل الجانب الأهم لكل ما جرى وما يجري على أرض العراق، إذ كان لهذا الغزو بُعد ديني توراتي يعود إلى حقد دفين منذ أيام السبي البابلي عام 586 ق.م، على يد نبوخذ نصّر، فأمجاد العهد القديم وأحداث سبي اليهود هي بمثابة تاريخ حي لليهود والمسيحيين المتصهينين، ومن الخطأ محاولة فهم ما يجري من أحداث في المنطقة بمعزل عن التاريخ القديم.

وتختلف النظرة للعراق عن مثيلتها بالنسبة لفلسطين، فالثانية أرض مقدسة يطمحون للسيطرة عليها كي يحكم منها المسيح مملكته الألفية، أما العراق فهي رمز الظلم ومكان الشر الأول الذي يجب القضاء عليه.

ونجد في العهد القديم روايات تصور بابل في هيئة مركز للخطيئة والفساد، ومنذ بدء الحديث عن غزو العراق نُشرت في أمريكا آلاف المقالات التي تقول إن كل الأنظمة الكاذبة بدأت في أرض بابل، وإنها ستشهد اكتمالها بإعادة بناء بابل في آخر الأيام، فهي دولة معادية لله.

وقد صرح بوش بأن الحرب على العراق مهمة إلهية و”حملة صليبية”، وقال القس دافيد بريكيز إن تدمير بابل الذي ورد في سفر إشعيا (الإصحاح 13) يعني تدمير العراق، كما فسر النبوءات الواردة في الإصحاح  على أنها تشير إلى قيام صدام حسين الذي اعتبره خليفة نبوخذ نصر.

ويعتمد هؤلاء كثيراً على المزمور 137 من العهد القديم في ترسيخ عقيدة “بابل الشر” التي يجب أن تُدَمَّر، إذ يقول “على أنهار بابل هناك جلسنا بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون… إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني… يا بنت بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة”.

الحركات المسيحية المتصهينة تنتظر تدمير دمشق

وبالفعل، حاصر الغرب المتصهين العراق سنوات عديدة ، ومنع عن أهله الدواء والغذاء مما أدى إلى وفاة مئات الآلاف من أطفاله، الذين “ضُربوا بالصخرة” تنفيذاً لما ورد في النص.

وبعد سقوط العراق وتدميره، تروج الحركات المسيحية المتصهينة والمنظمات التابعة لها نبوءة أخرى تتعلق بدمشق، والتي تقول”وحي من جهة دمشق، هو ذا دمشق تُزال من بين المدن وتكون رجمة ردم” أشعيا (17:1)، وتمتلئ شبكة الإنترنت بمئات المواقع التي ترصد إرهاصات هذه النبوءة. ففي شهر أيار من عام 2002، نشر موقع apocalypsesoon.org على سبيل المثال بصفحته الرئيسية عنواناً كبيراً باللون الأحمر يقول “دمشق لن تبقى مدينة بعد الآن”.


أهم المراجع
فؤاد شعبان، من أجل صهيون، دار الفكر، دمشق، ط1، 2003م.

ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ الغربي، ترجمة أحمد عبد الله عبد العزيز، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1985م.

جون ك. كولي، تواطؤ ضد بابل، ترجمة أنطوان باسيل، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2006م.

غريس هالسل، يد الله: لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل، ترجمة محمد السماك، دار الشروق، القاهرة، 2000م.

منير العكش، أمريكا والإبادة الجماعية: حق التضحية بالآخر، بيروت، دار رياض الريس.

محمد السماك، الدين في القرار الأمريكي، دار النفائس، بيروت، 2003م.

محمد السماك، الصهيونية المسيحية والموقف الأمريكي، مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطة، 1991م.

بهاء الأمير، اليهود والحركات السرية في الحروب الصليبية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2013.

رضا هلال، المسيح اليهودي ونهاية العالم، مكتبة الشروق، القاهرة، 2001م.