image_print

المآلات الفكرية للمدارس الإلزامية

إنَّ الناظر المنصف لتاريخ التطور العلمي لا يمكنه البتة إغفال دور المسلمين فيه، بل إن العديد من المستشرقين أبدوا انبهارهم الشديد بالعقل المسلم، وقد كان ذلك كان جليًّا على غرار ما نشره الفيلسوف النمساوي فريديريك شولتر المنبهر بعمق وعلميّة الأطروحات الخلدونيّة في المجالات السياسيّة والاجتماعيّة، وحُقَّ له الانبهار به، فهو عقل استوعب العلوم الشرعية والإنسانية والطبيعية وأبدع فيهم، مما يلفت انتباهنا لمدى قدرات العقل المسلم، فحديث الإسلام المكثف عن تفاصيل اليوم الآخر -وهذا غيب- يجعل العقل المسلم معتادًا على النظر في الغيبيات، والخروج في حدود تفكيره عما يعهده الناس، والنظر في أمور الحيرة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن “الأنبياء أتت بمجازات العقول ولم تأت بمحالات العقول” [درء تعارض العقل والنقل].

لو حاولنا معرفة الأصل الشرعي الذي تبلور على إثره العقل المسلم، فسنجد أن أول ما نزل به الوحي في حدثٍ كونيٍ مهيب هو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق-١] فكان الأمر بالقراءة المُسددة بمعية الخالق تدفع المسلم إلى الانطلاق في الكون والطبيعة ومحاولة الاستقراء والبحث لتحقيق غاية الخلق.

لقد توقفت الباحثة البولونية بوجينا غيانة ستيجفسكا عند طبيعة النداء القرآني للنظر والتعلم، فكتبت تقول عن القرآن الكريم: “إن القرآن الكريم مع أنه أنزل على رجل أمي نشأ في أمة أمية فقد جاء بقوانين لا يمكن أن يتعلمها الإنسان إلا في أرقى الجامعات، كما نجد في القرآن حقائق علمية لم يعرفها العالم إلا بعد قرون طويلة” [تاريخ الدولة الإسلامية وتشريعها]، وقد كانت الحركة العلمية متوهجة بناءً على هذه النظرة.

التصور الإسلامي للمدرسة

بدأ التفكير الفعلي في إنشاء سلسلة المدارس التي تخط الحكومات نهجها مع مشروع المدرسة النظامية عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455هـ، فقد استوزر هذا السلطان رجلًا قديرًا متحمسًا، هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أنه لتحقيق النهوض والاستقرار المجتمعي لابد من تحقيق نهضة فكرية داخل المجتمع، تصاحبها نهضة سياسية، وأن يعمل على تربية الأمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحي الإلهي.

ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نسبت إليه؛ لأنه الذي جد في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة. وحرصت تلك المدارس على تدريس طلابها العلوم الطبيعية منطلقة من أصول النظرة الإسلامية، وكذا عنيت بتزكيتهم وإصلاحهم أخلاقيًا وعقديًا وفكريًا مما أدى إلى خروج مجموعة من صفوة العلماء مثل ابن الهيثم وجابر بن الحيان وغيرهم الكثير والكثير في الدول العربية والأوروبية.

وقد دعا إلى تفعيل مضمون هذه الفكرة مجموعة من المفكرين في ثمانينيات القرن الماضي فيما عُرِفَ بمشروع أسلمة العلوم، ورغم صحة أصل الفكرة إلا أنها لم تتبلور على أرض الواقع حتى يومنا هذا بسبب الاتهامات الموجهة له سواء من بعض الإسلاميين أو من العالمانيين، وكذا بسبب مجموعة من الأخطاء الحقيقة التي وقع فيها حيث إنه انطلق انطلاقة غير صحيحة فيما رآه من أخذ العلوم التي أنتجها الغرب وتخليصها من أصولها التي بُنيت عليها ثم صياغتها وفق الأصول الإسلامية.

إن هذه الفكرة تصلح أن تكون فكرة مرحلية للوصول للغاية، وهي ابتداء العلوم بصياغة إسلامية والانطلاق منها، أما أن تكون هي المُنطلَق يجعل عمل المسلمين مجرد رد فعل للآخرين، فالهُوية والحضارة الإسلامية متمايزة حتى في منطلقاتها، وكذا الضعف في تحرير المادة الشرعية التي تقوم عليها العلوم التجريبية والإنسانية، وكذلك الضعف في تصور المادة العالمانية والوثنية التي قامت عليها تلك العلوم.

كيف وصلنا إلى الشكل الحالي للمدارس؟

عند ملاحظة التغيُّر في الفكر الأوروبي على امتداد مرحلة البرزخ التي نشأ خلالها عدد من الحركات الأيديولوجية ذات نزعة عالمانية بعد تصادم العلم مع الكنيسة، ومع تصاعد الصراع بين العلم والكنيسة الكاثوليكية، تولدت حركة الإصلاح البروتستانتي وكان مارتن لوثر من أبرز روادها فدعا إلى كسر احتكار الكنيسة للسلطة التفسيرية للنص الديني، وكان الخلاص في نظره خلاصًا فرديًا -عن طريق القراءة الشخصية للنصوص المقدسة- ينطلق من ضرورة التخلص من وصاية الكنيسة في تفسير النص الديني، فانبثق من ذلك فكرة التعليم الإلزامي، فحتى يستطيع الفرد قراءة النص عليه أن يتعلم اللغة اللاتينية التي كانت حكرًا على الرهبان، ولأن الخلاص فردي فيلزم كل فرد أن يتعلم اللغة، وعلى الكنيسة أن تمارس التعليم العام كالمدرسة.

وجدت فكرة التعليم الإلزامي مسلكًا إلى أرض الواقع أثناء الحروب الأوربية حيث نشب صراع بين نابليون من جهة فرنسا وشارنهورست من جهة بروسيا، وكان شارنهورست مهتمًا بالتعليم، مؤمنًا بدوره الفعال في نتائج الحروب، وبسبب محدودية سلطته لم تجد أفكاره منفذًا لتُحقَّق على أرض الواقع، ولكن بعدما تلقى هزيمة ساحقة من نابليون؛ قرر ملك بروسيا فريدريك وليام الثالث منحه الحرية الكاملة في إدارة شؤون الجيش، فقام مباشرة بتطبيق أفكاره النظرية، ووضع منهجًا صارمًا للتعليم والتربية العسكرية، وسرعان ما انعكس ذلك على كفاءة الجيش وألحق بفرنسا هزيمة موجعة عام ١٨١٥م، مما أدى إلى لفت النظر والإعجاب بتجربته التعليمية وتعميمها على كافة أرجاء بروسيا، بل امتدت لتصل إلى كندا وأمريكا.

مع صعود الرأسمالية الصناعية لاحظ أصحاب المصانع هذا التغيير وفكروا في كيفية تنمية مصالحهم من خلاله، ووجدوا أن المدارس مكان مناسب لتخريج عمال جيدين، ورأوا أن المدارس يجب أن تعلم طلابها الدقة واتباع الإرشادات والصبر على ساعات العمل الطويلة المملة، ولكن لم يتحمسوا للإنفاق مجهول الجدوى بالنسبة لهم، حتى ظهر هوراس مان وهو محامٍ أمريكي مهتم بالتعليم، والذي بدأ بتطبيق أفكاره عندما تقلد منصب وزير التعليم في إحدى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٨٣٧م، والذي تلقى معارضة شديدة لكون التعليم الإلزامي منافيًا لمبادئ الديموقراطية، فتوجه لرجال الأعمال وأقنعهم ببذل أموالهم لإنجاح الفكرة، وأخبرهم بأن العمال المتخرجين من المدارس الإلزامية أقل شربًا للكحول لذا فهم أقل إتلافًا لآلات المصانع، وكذلك فإنهم أكثر ذهابًا للكنيسة مما يجعلهم أكثر انسجامًا مع عائلاتهم، وكان جون أوكفلر من أبرز المتحدثين عن الفكرة، حيث دفع من أجل هذه المدارس مبلغًا يربو على ما قدمته الحكومة الفيدرالية، مما أدى إلى تعميم هذه التجربة على أربع وثلاثين ولاية، وبدأت المدارس تأخذ شكلها المعروف آنيًا، ولكن عبّر جورج كريشتنشاينر عن وجهة نظره في دور المدارس الذي يجب أن يخرج مواطنين صالحين لا عمالًا ماهرين.

هوراس مان

وعلى مستوى الساحة الفكرية كان الظهور الأولي لمنهج ديكارت الرياضي ومنهج بيكون التجريبي -اللذَين وُضِعا للتحرر من المنطق الأرسطي- لا يتنافى مع المبادئ العقلية الضرورية ولا يجنح للنزعة العلموية، لكن انبثق عنهما فيما بعد بعض الاتجاهات المغالية التي جنحت إلى تقديس العقل والاعتماد عليه بشكل كامل والاستبعاد التام للغيبيات وما وراء الطبيعة، ومن هنا كان الظهور الأول للنزعة العلموية.

لمّا وضعت الحروب الأوروبية أوزارها بتوقيع معاهدة وستفاليا عام ١٦٤٨م معلنة شكلًا جديدًا للحكم متمثلًا في الدولة القومية الحديثة، ووقع تصدير هذا النموذج الغربي خارج إطاره بوصفه منتجًا نهائيًا قابلًا للتفعيل، ونمطًا يقوم على وجود إقليم ترابي محدّد بالحدود التي تصبح  مقدسة، مع وجود لغة أو مذهب أو إثنية مشتركة في نفس الشعب، مع الاشتراك في تاريخ ولو كان منتحلًا أو متوهَّمًا، ثم تكون للدولة السيادةُ على الإقليم ليقع تعريف الدولة الأمة. وبدأت تترسخ المبادئ العالمانية في الدول الخاضعة لهذا النظام.

وقائع عملية

في ظل هذا التراكم للأحداث على أصعدة متعددة وفترات زمنية واسعة نسبيًا خرج تشارلز داروين بكتابه أصل الأنواع عام ١٨٥٩م يعرض فيه نظريته عن نشوء الحياة، وكان لهذا الحدث أصداء واسعة ومآلات كثيرة، حيث ظهرت النزعة الإلحادية في القرن التاسع عشر، وجنحت النزعة المادية، بل وامتد الأثر للعلوم الإنسانية فنجد تطور الفكرة من نظرية بيولوجية إلى نظرية في علم النفس والاجتماع وكذلك الاقتصاد فماركس -على سبيل المثال- استمد من نظرية داروين مادية الإنسان وجعل مطلبه في الحياة ينحصر في الحصول على (الغذاء والسكن والجنس) مهملاً بذلك جميع العوامل الروحية لديه.

وكذا استمد فرويد من نظرية داروين حيوانية الإنسان فالإنسان عنده حيوان جنسي، لا يملك إلا الانصياع لأوامر الغريزة وإلا وقع فريسة الكبت المدمر للأعصاب.

وكذلك أثرت هذه النزعة المادية على حركة الاستشراق حيث اضطرت الأوضاع الحرجة في الحربين العالميتين الساسة وصناع القرار إلى مطالبة المستشرق الكلاسيكي الذي تربى في أحضان علم اللاهوت والفيلولوجيا، وأحياناً علم التاريخ، بتحمل مسؤولية السياسة الحديثة، والاقتصاد، والمجتمع، فراح يتحدث عن كل شيء من المعلقات الجاهلية إلى الصناعة البترولية، والبنك الحديث! كما يقول برنارد لويس ساخراً. كانت نواقص هذه الحالة جلية للعيان، وهو ما شجع التوجه نحو التخصص المتزايد، والاستعانة بمناهج أخرى جديدة؛ كانت هذه الإشكالية أحد تمظهرات أزمة الاستشراق الكلاسيكي، والتي بدأت تتفاقم، إلى جانب النواقص الصارخة التي كانت تعتري الأطروحة الاستشراقية الكلاسيكية؛ كاستبطانها لفكرة التفوق العرقي، والمركزية الأوروبية. [حول الاستشراق الجديد، د. عبد الله الوهيبي].

كان نِتاج كل ذلك منعكسًا بحذافيره على المناهج الدراسية في المدارس الإلزامية المنبثقة شرارتها الأولى من نزعة عالمانية، فنجد أنه تم الفصل بين العلوم الطبيعية والإنسانية، والإغراق في التخصص والفصل بين العلوم المختلفة، وبُثت فكرة العلموية المتمثلة في حصر وصف العلم في العلوم الرصدية التجريبية، والفصل التام بين العلوم الطبيعية والإنسانية في المراحل الثانوية، في لفتة تحصر قدرات العقل البشري في جانب واحد، وكأنه لا يمكنه استيعاب علوم مختلفة في آن واحد! وبسبب النزعة العلموية أصبح هناك توجهًا اجتماعيًّا ينظر نظرة دونية لدارسي العلوم الإنسانية، ويظن البعض أنهم ليسوا على درجة من الذكاء الكافي لفهم العلوم الطبيعية، وتهميش أدوارهم الاجتماعية والإصلاحية، مما أدى إلى الوقوع في أخطاء منهجية ناتجة عن هذا الفصل الحداثي للعلوم.

لكن هل يمكن الفصل بين العلوم الطبيعية والإنسانية عمليًّا؟، وما الضمانات الإسلامية للعملية التعليمية وملامح الحل؟

هذا ما أسعى للإجابة عنه في مقال لاحقٍ بإذن الله تعالى.


مصادر للاستزادة

  • محاضرة مقومات العقل المسلم د. سلطان العميري

https://youtu.be/tABz05xSoGs

  • المدارس النظامية في الحضارة الإسلامية

https://islamstory.com/ar/artical/23965/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9

  • كيف أنجبت الحرب المدرسة للباحث سعد القحطاني.

https://youtu.be/4BVQCY4FM6c

إصدار كتاب “اعترافات نسوية سابقة”

تعلن مؤسسة السبيل عن جديد إصداراتها كتاب اعترافات نسوية سابقة من تأليف أم خالد وترجمة كوثر الفراوي ومراجعة وتعليق تسنيم راجح.

في هذا الكتيّب نسافر مع الكاتبة عبر محطّاتٍ وتساؤلاتٍ كثيرة وهي تكتشف ذاتها في عالمٍ يريد كلّ شخصٍ فيه وكل مكانٍ منه أن يخبرنا من نحن وإلى أين ننتمي وماذا نريد أن نكون، المسلمة ذات الأصول العربية؟ أم الأمريكية الليبرالية؟ طالبة الثانوية المتمردة؟ أم المرأة الحرة المستقلة؟

نرى كاتبتنا هنا تكبر وتنضج مع كلّ صفحة، تجد إجاباتها وتدفعنا للسؤال عن إجاباتنا..

تقول بكلّ بساطةٍ أنها نِسوية سابقة تقدّم اعترافاتها وتحكي جانباً من قصتها..

لكن ماذا عنا نحن؟ ما هي القصة التي نريد أن تكون قصتنا؟ وما النهاية التي سنسعى نحوها في كتابنا؟

هذه وغيرها من التساؤلات تشعلها في نفوسنا هذه المقالات القصيرة، ونسأل الله أن ينفعنا بها ويبارك في كل كلمة نقرأ منها..

يمكنكم تحميل الكتاب من هنا

علوان في الميزان

إنّ معظم الأدباء سواء كانوا روائيّين أم لا، في بحثٍ دائمٍ عن الثيمات الرّابحة والرّائجة في السّوق السّوداء، ولأنّ القارئ عموماً، والنّاقد خصوصاً في منطقةٍ مضطربةٍ تعاني من اختلافٍ في الذّوق العام؛ اضطر بعض الأدباء والمتأدبين إلى استيراد لسانٍ دون فمٍ وأسنانٍ.

لكن في الواقع نجح الروائي محمد حسن علوان في أن يجعل من تجربته الأدبيّة (موتٌ صغيرٌ) كينونة خاصة به، على اعتبار أنّه متسوقٌ ذكيٌّ ودبلوماسيٌّ من الطّراز الرّفيع، فقد استغل مراهقة الواقعيّة وغرر بها وبفروعها المتشعبة، وبالرّغم من قِدم سنّها؛ راودها عن نفسها فخلعت إنسانيّتها وهمومها القوميّة، وأضحت دعارةً أدبيّةً تحمل شعارات هوليودية بحجّة الحريّة؛ بدءاً من دغدغة المحظور، إلى التّطاول على الأدب وتجنيسه، مما أقلق بعض الجهات الّتي لطالما فهمت اللعبة والّتي هي: (الجنس بدل قضية الخبز)!

اختناق الأدب

إنّ الكتابة بشروط المستهلك رفعته إلى صفوة الكتّاب الأوائل في عصره، على باعتبار أنّه استطاع أن يكسر التّابوت العربيّ، وينفي المثاليّة الخرقاء، ويفضح مفاصل المجتمع المهترئ والمحافظ لحد

الاختناق! ولأنّه العاقُّ البارُّ نقّب في مناطق ضحلة جداً ومليئة بالألغام؛ محظورةً دينياً، ومكفّرة أدبياً. ولأنّه يتسوق أدبه من ماركاتٍ باهظة الثّمن، ضَمِن هدنةً طويلة الأمد مع النّقاد بحجّة التّرميم والإصلاح!.

بدايةً لم يكن علوان واعٍ بشكلٍ كافٍ بالتّجربة الرّوائيّة، ففشل فشلاً ذريعاً في كتابة أدبٍ متكامل البنية والبناء، بل انتهج سياسة القطب الواحد، متناسياً أنّ الرّواية بهندامها العام مكونٌ متعددُ الأقطابِ.

يقول واستن وارن: إنّ اللّغة في العمل الأدبيّ تؤدي وظيّفةً جماليّة لا تقريبيّة فمن الجرم النّقديّ مثلاً رواية (سقف الكفاية)، بقامتها المهيبة تقوم كلّها على اللّغة دون أيّ مكونٍ آخر مثل: فتنة السّرد، حيوات الشخصيّات، الوعاء اللّغويّ، الموتيفات. فكلّها حملتها اللّغة على ظهرها، فخذلها وخذلته، على الرّغم أنّ الرّواية تفيض بالإمتاع اللّغويّ والكنايات، بالإضافة إلى التّكثيف المُركز للّغة الشّعريّة في عمقها الوجدانيّ والسّيكولوجيّ، فصرنا أمام ملحمةٍ لغويّةٍ تراجيديّةٍ فقط!، فقد امتدح لُغتها الدّكتور عبد الله الفيفي فقال: الرّواية توشك بلحظة أن تكون نصاً شعريّاً خالصاً بتركيبه البنائيّ العام.

بالمقابل في الأعمال الأخرى فقد حاول أن يروّضها ولكن بشكل فوضويّ، فلم يحقق التّناغم المطلوب في العمل الأدبيّ عموماً، وبين الشّخصيّات واللّغة خصوصاً. كما أوضح باختين في (مستويات اللغة). فلم نشهد على مستوى الشّخصيّة الفكريّ والاجتماعيّ (صوفيا، غادة، الأم) سوى مستويات خجولة ومذابة بشكل مجحف!. ولم يتوقف الأمر هنا! بل امتدّت في مجونها حتى خنقت بعض التّقنيات: كصنّارة السّرد الّتي تتيح للكاتب تعليق القارئ بالعمل منذ البداية، وخلق حالةٍ من اللا تشويق، واستحضار حالةٍ أُخرى تعزّز من هيمنتها!

وذلك لأنّ الوصف يقتضي انقطاع الصّيرورة الزّمانيّة، وتعطيل حركتها التي لا بدّ من أن تنعكس على الدّلالة المكانيّة. هنا كان الانعكاس على اللّغة، فزادت من غيّها. فمثلاً ألغى الوصف في (رواية القندس) الشّخصيّات في البداية، بل إنّ القارئ ليقفز عشرات الصّفحات دون تغيير في الأحداث!

أوستين ارين

معطيات على حافّة السرد

والحقّ يقال بأنّ اللّغة في أدب علوان منطقةٌ جدليّةٌ، وفي ذات الوقت مغريّةٌ للتّنقيب النّقديّ، فهي فريدةٌ ومتفرّدةٌ؛ جعلت من علوان متمكّنًا من اللّغة؛ عبر تعاطيه أفيون المتضادات، العنوان يوازي بالتّحديد إثم المحتوى، الّتي جعلت من رواياته سوق للأدب مع عدم الصّلاحيّة للحياة! هذا إذا درسنا جسم العنوان باعتباره مكوّنٌ دلاليّ.

يقول الدّكتور زهير توفيق: بأن عجز الكاتب هو عدم وضع عنوان دالٍ دلالةً مطلقةً على محتوى العمل. فمثلاً (طوق الطهارة) لا طهارة فيه كعملٍ روائيّ، بل عِقد تتألف حبّاته من الجنس والشّذوذ والتّحرش!.

صوفيّا رمز الحكمة عبر التّاريخ، استحالت في أدب علوان قصةً لامرأةٍ تستحضر أمنيّتها المقدسة بألا تموت عذراء!.

فتيّار الوعي جنسيّة اشتراها علوان. ولكن هي بالذّات لا تُمنح سوى لسكانها الأصليّين؛ فكانت ناقصة الأهليّة في (صوفيّا) فلم نشهد تجاوز أسلوب الصّوت الأحاديّ الّذي سمّاه باختين (التخارج). فمثلاً: الملل يجب أن يكون له صوت، على اعتبار أنّه الدّافع الرئيسيّ لمعاشرة أنثى تُحتضَر بالسّرطان!.

كما نعلم أنّ الحلم معطًى روائيّاً، يتداخل في تشكيل التّداعي الحرّ بوصفه أحد مسالك تيّار الوعي. فلم يتعطل الزّمن عندما طالبت صوفيّا بطفلٍ عن أدائه في المضي نحو الأمام.

التخيّل، التّداعي، التّذكر، كلّها جزئيّات فقدها السّرد وأفقد معها غرائبيّة الهواجس والاعترافات؛ خوفاً ورعباً وعزلةً. وهذا الّذي قاد إلى طامّة عدم التّناسل اللّانهائي لموت صوفيّا!.

وإذا ولجنا إلى أعمق نقطةٍ في أعماله، وتعرّت المفاهيم كلّها؛ برزت الخيبة الّتي لا مناص منها، فرواياته عروشٌ خاويةٌ يجرّها التّكرار واللّغة من رقابها.

(صوفيّا، سقف الكفاية، طوق الطّهارة، القندس) روايات أربع يشتركن في الدّم والهويّة. ورواية تنسف ما قبلها وتعقم ما بعدها، وكأنها انسلاخ حقيقي للكاتب عن ذاته ومن ذاته الأدبية (موت صغير)

فالحبكة والموتيفات والهيئة التكوينيّة تكاد تتشابه فكان التكرار نقطة الضعف الأولى الّتي استطاعت أخرى الولوج منها كإذابة الشّخصيّات واستخدام السرد المتسلسل الّذي يعد أسلوب تقليديّ لم يذهب إليه الكتّاب الكبار.

صوت روائي واحد، سلوكٌ فرديّ يستغرق العمل الرّوائي بأكمله حبكة تقليدية بسيطة، كما شكّل الاسترجاع والولوج للحالة النفسيّة تقريبًا في كلّ أعماله لحمة النسيج الروائيّ، وجسر للرّبط بين الماضي والحاضر والمفاصل الحكائيّة الأخرى، لخوض رحلة منتقاة في ذاكرة الكاتب الفرديّة.

حسان المتعرض للتّحرش في طوق الطّهارة، استرجاع اللحظات في بيت الحبيبة، في سقف الكفاية، لحظات الطّلاق والتفكك الأسريّ في أغلبية رواية القندس.

خلل واضح في نظام الزّمن بالإضافة إلى خلل في الإيقاع، فمثلاً تسريع أحداث غير مبرر عبر تقنيّات الخلاصة، أما المكان الّذي يعتبر العامود الفقريّ الّذي يربط أجزاء الرّواية ببعضها البعض، فيمكننا القول بأنّ الكاتب سجن أعماله كلّها في فضاءٍ روائيٍّ واحدٍ، فجميع أعماله تنطلق من الرّياض إلى عواصم مختلفة: بيروت صوفيّا، فانكرفور سقف الكفاية، بورتلاند الأمريكية القندس، بريطانيا طوق الطّهارة.

تُعرّف الرّواية بأنّها عملٌ أدبيٌّ يعكس ثقافة مجتمعٍ ما، في حقبة زمنيّة محددة، تكون مرآةً له، فكانت ثقافة المجتمع واحدة تقريباً؛ عقوقٌ اجتماعيٌّ لا مبرر له! الشّباب طائشٌ، جائعٌ جنسياً، يقابله بالتّحديد كبار السن المحافظين على العادات، والتّقاليد، والشّعائر الدّينيّة، فالمرحلة الوسطى، مرحلة الانقلاب من حالٍ لحالٍ مجهولة، ممّا ورّث عقمًا في السبب الأدبيّ، فلا مشروعية ولا إقناع لأعمال علوان.

حسان المُتحرّش فيه في الصغر، يقيم علاقات لا حصر لها في الكبر!

كيف يمارس الحبّ في بيت العشيقة وفي منزل أبيها؟ أين رقابة المجتمع الّتي يتباكى بسببها علوان؟ أم أنّ تيمة الحبّ واضطهاد المرأة أيمان رائجة في السّوق؟ وهل كسر الملل وحده يُبرر لمعتز ممارسة الزّنا مع مريضة سرطان في بيروت؟ كيف تُفسر ردّة فعل الأب الباردة على ابنه المُتحرَّش به؟ بالمقابل يستقل طائرة من الرّياض إلى بريطانيا ليصفع أيمن صفعة واحدة لعلمه أنّه يدخن!؟. يا تُرى أيّ هم أشدّ التّحرّش أم التّدخين في سلطة الرّجل الشرقيّ؟

موت صغير .. يتيمة علوان!

أُؤمن بأنّ نجوميّة أيّ كاتبٍ تتحقق بالتّراكمية، وأنّ مصطلح (كاتب الرّواية الواحدة) ما هو إلّا تعويم مضلل للإبداع وكذبة إرثيّة يلتحف بها الكاتب.

انسلاخٌ حقيقيٌّ لعلوان عن ذاته، ينسف ما قبله، ويعقم ما بعده! ابن عربيّ بحلّته الشّهية وتكفيره المحرّم.

توأم البلاغة من عقلٍ وعاطفةٍ، موكبٌ يزفّ اللّغة المنضبطة بمستوياتها الخطابيّة والثّقافيّة، فهي لا تمثّل الشّعرية الكثيفة كما في سقف الكفاية. ولا الّتي من الطّبقة المتوسطة في رواية صوفيّا، ولا ذات الهندام الاقتصاديّ التي رأيناها في طوق الطّهارة، بل جاءت دبلوماسيّة بشكلٍ مثاليٍّ بسردها المختلف، فهي لا تتجاوز حدود حيائها في خدمة المعنى فقط!.

ولأنّ علوان يتعاطى أفيون المتضادات لم يكن السّرد بمستوى واحد من الحيويّة، فبدأ بسردٍ هادئٍ رتيبٍ أثناء إقامة ابن عربيّ في الأندلس، مقابله تماماً حيويّة متدفقة أثناء إقامته في مكة، ومردّ ذلك إلى عصا سحرية تمرر إبداعها من حينٍ لآخر، فكانت الحركة سيدة السّرد ولولاها لفقدت الرّواية ذاتها وخسر السّرد بناءه الروائيّ.

لقد اعتنى الكاتب عنايةً فائقةً بكلّ جزئيّة في الرّواية، فلإذابة الشّخصيّات كلّ شخصيّة تدور بحريّة في فلك ذاتها وحالتها الوجدانيّة والانفعاليّة، بل كان الخط السّياسيّ والتّاريخيّ للأحداث ينساب بحريّة للتّكامل مع الثّيمات الأخرى كتاريخ الأندلس وحياة السّلاطين.

ولكن رغم التّرف الأدبيّ الّذي أغدقنا به علوان فإنّه ينسى ككلّ مرة شروطًا تجعل من شبهة عدم الصّلاحيّة تتربّص بأعماله تربص الجدريّ بالمجدور!

فمثلا: قد يفهم البعض أن المخيّلة قد تسمح لفضاء خيالنا أن يبتدع أحداث ووقائع لم تقع! وهذا الحدث بالتّحديد يخرج برواية السّيرة الذّاتيّة عن مسارها ويحولها لجنسٍ أدبيّ آخر يحتاج إلى هويّة، فكيف لو حدث ذلك في موت صغير؟ مثلاً: المخطوطات حَدَث مُختَلَق!.

إفراغٌ ممنهجٌ، وتهجيرٌ قسريٌّ للقوقعة العامّة! وحشوها برؤى وأفكار الكاتب من أشدّ الجرائم الأدبيّة بحق صاحب السّيرة الذّاتيّة.

وقع علوان ضحيّة مراهقة أدبيّة بشكلٍ مستفزٍ. فمثلاً وقع ضحية الحدث التّاريخيّ الواقعيّ، وبين التخيّل فدسّ العديد من الأفكار، ومرَّرها على حساب ابن عربي!.

فأيّ كاتب قد يحاول إعادة تشكيل شخصيّة رواية وتحميلها رؤى وأفكار خطيرة، تحت حجّة التّرميم والسّيرة الذّاتيّة، الّتي من شروطها: الموضوعيّة وسلامة الأحداث التّاريخيّة، مجرمٌ أدبيٌّ يستحق أن يشنقه التّاريخ!. وكأننا بحاجة إلى اختلاق تاريخٍ هو في ذاته يعاني من عار التّزوير!.

فمثلاً يروي علوان: أنّ أحد الأولياء يخلّصه من سجن حاكم مصر وقاضيها، ويتشفّع أمامها، ويتبين بأن هذا الشّخص ميت! وحضر من العالم الآخر!.

كيف يمكن تفسير؛ أنّ شيخًا كبيرًا كابن عربيّ مُسيّر من قبل دابّة؟ ويستسلم لرغباتها والبغلة تسوقه إلى أحد أوتاده؟

وكما يقول الدّكتور طارق عبود: إن الشّيء الأخطر يتمثّل في استسهال مذلّة الإنسان، واستعباده تحت عناوين مختلفة مثل (المريد)! بالإضافة إلى فكرة قبول العبودية والنّخاسة كفعلٍ طبيعيّ ومحمود! فيستطيع الإنسان حسب ما ورد في الرّواية أن يشتري من السّوق أو يبادل إنسانًا بدابّة!.

ويضيف بأنّ الرّواية تحمل في طيّاتها أفكاراً خطيرةً وموهومةً، تحت شعار محاربة الكفار يتم القبول بمهادنة السّلطان، وعدم الاعتراض على كيفيّة وصوله إلى السّلطة!

أدب رخيص الجسد 

عدة أسئلة لابد أن تطرح في النهاية على الرغم من أن القاتل والمقتول في خانة واحدة ولكن الجريمة مازالت مهترئة لا شيء يستر عريها، فمن يدفع يا ترى فاتورة الأدب؟ من أيّ جهةٍ بالتحديد يشوّه التّاريخ؟  من يدفع فاتورة النّشر والمزاج السّياسيّ، كيف صعد العبد على رأس الملك؟

لعل أصدق جملة في أدب علوان كانت تختصره كأديب ولكنّه لم يشعر بالتّحديد في الميزان النّقديّ أنها بالتّحديد وحيٌ لحظيٌّ لا يتكرر أبداً، فكيف وهو قد تضخم بلا معنى؟

(إما أن نبدأ، وإما أن تحدث في أجسادنا مئات الثقوب حتى يتسرّب منها الحزن، لا أحد يريد أن يتضخم بلا معنى).

خرافة تفوُّق الرجل الأبيض!

“العرق الأبيض بطبيعته يمتلك كل المواهب والدوافع، لذلك يستحق المعاينة والدراسة عن كثب أكثر من غيره” كان هذا الاقتباس جزءًا من أسس العنصرية الغربية، وربما ستشكل هذه الخلاصة صدمة للشخص المحب للفلسفة الأوربية، خاصة وأنه سيقرأ تحتها كلمة “كانط“، فقد لا يصدق أن رجلًا قضى حياته بحثا عن “السلام العالمي” يتفوه بمثل هذا كلام تفوح منه رائحة عنصرية مقيتة، ولكن الحقيقة أن للرجل نصوص طويلة يصف فيها كيف أن الهنود الحمر -سكّان القارة الأمريكية الأصليّون- والأفارقة –الزنوج-  أقل إنسانية وأكثر وضاعة، حيث –برأيه– “تتجلى الإنسانية بشكلها الأمثل في العرق الأبيض…زنوج القارة الأفريقية لا يملكون إحساسًا يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة”

يجب أن لا نُصدَم فليس كانط وحده من وقع في فخ العنصرية وتبنى “المركزية الأوربية”، فغيره كثيرون،  فلعقود طويلة ظلّت هذه المنظومة الفكرية قائمة في أوربا الغربية ثم أمريكا باعتبارها وريثتها الشرعية، والآن يمكن أن نلمسها بوضوح في الخطاب الصهيوني ومن يدافعون عنه، فإسرائيل تمثل حضارة الرجل الأبيض المتواجدة داخل الشرق، ذاك الشرق المتخلف أناسه والمستبد حكامه، وهكذا نجد أن المركزية الأوربية لطالما وجدت لنفسها المقام رغم تقدم البشرية في سُلَّم المعارف إلا أن البيض لا زالوا محتفظين بنظرتهم الفوقية لحضارتهم، ونظرتهم الدونية نحو كل ما هو من الشرق.

منابتُ الحضارة .. تدليسٌ وتزوير

يمكن أن نختلف في منظورنا للحضارة؛ إلا أنّنا نكاد نتّفق على أن الحضارات الشرقية سبقت الغربية وعاشت أكثر منها؛ فالحضارة المصرية سبقت حضارات أوروبا وعاشت أربعة آلاف سنة، بينما الحضارة اليونانية مع كل إرثها فإنها لم تستمر أكثر من ألف سنة، ونحن اليوم أمام الحضارة الأوربية – ولعلها اليوم في خريفها الأخير- وحياتها لم تتعدَّ سبعمائة سنة، من كل هذا يمكن أن نكتشف أن الحضارة الغربية ليست سوى عارض على الإنسانية كما يقول المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي، ولكن مع هذا يرى المثقفون الأوربيون أن لا تاريخ قبل أوربا أو أن كل التاريخ يصب في محيطها، وهكذا نجد تريفور روبر في كتابه “صعود أوروبا المسيحية” يقول: “كان تاريخ العالم، طوال القرون الخمسة الماضية، بالقدر الذي كان فيه مغزى؛ تاريخًا أوروبِّيًّا، وأنا لا أظن أننا نحتاج إلى اعتذار إذا كانت دراستنا للتتريخ هي دراسة مركزية أوربية”.

يبدو أن التاريخ -كل التاريخ- بات يتحرك منذ خلق الله آدم في اتجاه أوروبا ومركزيّتها، ولعله من أجل أوروبا وبسببها بنى البابليون حدائقهم، ورفع المصريون أهراماتهم، وخطّ المسلمون الخطوط الأولى لعلم الاجتماع، ولم تكن إنجازات هؤلاء إلا قطرة ماء في محيط أوروبا؛ فلا فن قبل الفن الأوربي ولا شعر ولا فكر إلا شعرها وفكرها!

هذا التفوق الأوربي في نظر الرجل الأبيض يبدو حتميّة تاريخيّة وأشبه بالإرادة الإلهية كما يصرح نص رواية صامويل جونسون (الراس إيلاس): “قال الأمير: كيف أصبح الأوربيون على هذا القدر من المنعة والصولجان؟. أجاب إملاق: سيدي إنهم أقوى منا بكثير لأنهم أحكم منا…لكن لماذا فاقونا في المعرفة، هذا ما أعجز عن إدراك سببه، اللهم إلا إنها إرادة الكائن الأعظم”

كم كان كانط ليسعد بهذا الكلام، فمع أنه يبدي إلحاداً منمقا إلا أن الرغبة الجامحة في إعلاء العرق الأبيض كانت سببًا ليضع تحيزاته العقلية جانبًا ويقرّ حينها بأن الإله -الذي ينتقد شرائعه- حكيم، وكيف لا وهو يجعل الأوروبيين مركز الكون وما دونه هوامشه؛ ومع أن كانط وغيره لم يبارحوا مدنهم ولم يلتقوا قط بأفريقي ولا هندي إلا أنهم وصلوا لاستنتاجات اعتبروها خلاصات علمية!

صعود نزعة مركزيّة الغرب

يرتبط صعود نجم النزعة الأوربية مع تطوّر بحوث الأنثروبولوجيا، وذلك بالتوازي مع تطوير أدوات البيولوجيا ونظرياتها، والتي كان على رأسها (نظرية داروين)، حيث تنامى حضورها في علوم الأحياء؛ إلى جانب أنها تغلغلت في العلوم الإنسانية مشكّلةً لنا (الداروينيّة الاجتماعية).

تفترض الداروينية أن الكائنات الحية مرّت بسُلَّمٍ تطوُّري، حيث ينتقل الإنسان –على سبيل المثال- من الخلية الواحدة إلى كائن زاحف ثم كائن مقوص الظهر؛ لينتهي بالهوموسبيان أو الإنسان العاقل، وبهذا استنتج الأوربيون أن الإنسان مع أنه يتشابه في كل شيء إلا أن نسبة تطوره مختلفة، وبما أن الرجل الأبيض أكثر كمالًا وتقدُّمًا تقنيًّا فهو أكثر تطوُّراً، وهكذا باتت النزعة الأوروبية –في تسويغاتها العنصرية- تستند لا على الآراء الفلسفية بل على آخر ما توصلت له العلوم الحية التي تنمو في بيئتها.

وهنا علينا التنبّه أنه ينبغي عدم ربط هذه النزعة بقرن التنوير وما بعده، فهي ضاربة في عمق التاريخ الغربي؛ حيث نجد في كتابات أرسطو إشارات لتفوق الجنس الأبيض، ففي كتابه السياسة يصرح قائلا:”الشعوب غير المتمدينة بمن فيها الآسيويون أكثر خنوعاً من الإغريق أو الأوربيين”.

يجب التركيز جيدًا على قول أرسطو “بمن فيها الآسيويين” فمن شأن ذلك توضيح الصورة أكثر فأكثر، فأرسطو ليس سوى وريث للعصر الهلنستي الذي هو مزيج من الحضارة الفارسية واليونانية، والدارس للتاريخ يعرف أن الحضارة اليونانية ما كان لها أن تبزغ لولا العنصر الفارسي أو الشرقي، إلا أن أرسطو يصفهم بالخنوع، وربما هذه أول إشارة لما يسمى “استبداد الرجل الشرقي”.

اليونان في حرب مع فارس، ولا مندوحة في النيل من هذه الأمة التي لطالما تجرّأ حكامها فجيّشوا الجيوش لمواجهتها ووقفت في وجه الإغريق.

ولعلنا هكذا ندرك السبب وراء تعالي أوروبا على شعوب العالم عامّة والشعوب الذي أذاقتها الويلات كالشعوب آسيا والأمم المسلمة، إنه عنصر العداء السياسي، فالفرس مثّلوا تهديدًا دائمًا لبلاد الإغراق وهكذا بات وصف الشرقي بالخنوع مرتبطًا بالوجدان التاريخي الكاره للشرق، أما آسيا فقد حطمت أحلام الأوربيين والأمريكيين خاصة في فيتنام، فأمسى الفيتناميون مجرد قطّاع طرق، والمسلمون اكتسحوا أوروبا وفتحوا حصونها لقرون ولهذا فهم –بمنطق الأوروبيين- أعداء الله.

ذكريات الهزيمة

في فيتنام وبعد صراع طويل انتهى بهزيمة الفرنسيين في (ديان بين فو 1954)، وانتهى الأمر بطرد الأمريكيين (1964-1973)، وعوض أن يصبح المقاتل الفيتنامي في نظر العالم محرِّرًا لبلده من الاحتلال الأجنبي، أمسى صعلوكا وقاطع طريق، ومخربا وإرهابيا في نظر الجميع، وهكذا وجدنا أمريكا تشن حملة إعلامية شرسة ضد الفيتناميين، تكللت بإخراج فيلمًا خاصًّا من سلسلة أفلام Rambo المقاتل الأبيض الذي يحارب الشر ويحرر الفيتناميّين من الإرهابيين، وبالفعل لاقت هذه الحملة رواجا عالميا وانقلبت صورة النضال الفيتنامي إلى توحش وإرهاب.

وإذا ما عدنا إلى إنتاجات سينمائية أخرى سنلمس دائما تلك النظرة الدونية للرجل الأبيض تجاه الشرق، فكل الأعمال تقريبا تصور الشرق كمنطقة خارج التاريخ، فالبيوت قائمة على جدران من الطين والسكان يظهرون بملابسهم الرثة، وكلامهم غير الموزون؛ وتصرفاتهم التي تنم عن الجهل!

وهكذا كانت ولازالت نظرة الأوربي للرجل الشرقي، وهذه بالضبط إحدى المبررات التي دخل بها الاستعمار بلادنا، ففي نظر منظريه ليس سوى نقل للحضارة الأوربية وإشعاع نورها في ظلمة الشرق، لقد “آمنت أوروبا عندئذ برسالتها: لقد حملت الثقافة الإغريقية إلى الآسيويين، لقد خلقت النوع الإنساني الجديد، نوع الزنوج الإغريق-اللاتين” كما يقول سارتر.

تزييف الوعي

لم تكن مهمة الرجل الأبيض بتلك السهولة، وبالأخص حين واجه العالم الإسلامي الشامخ والضارب في جذور الحضارة الإنسانية، فماذا تفعل أوروبا أمام هذا الاعتزاز الذي لم تجد له المثيل؟

اتبع الأوروبيُّون استراتيجية التزييف، وقد بدأت كتاباتهم أول الأمر بالنبش في تاريخ الدين الإسلامي، وشخصياته، وهكذا بدأت بحوث الاستشراق ودراسة الإسلام، ولعل بطرس المبجّل وترجمته للقرآن الكريم 1143م، كانت أول خطوة في هذا الطريق، وهكذا لم يترك الاستشراق مجالا في الإسلام إلا وبحث فيه، ولكن بالطريقة التي رأى فيها الأوربيون الشرق.

لم يكُن مستغرَبًا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لدى لفيف من المستشرقين شخصًا مسيحيًّا ينتحلُ شخصيّة النبي، مرة كراهب يدعى “ماثيوس” -وهي التسمية الحقيقية حسب الراهب جيوبىت رييس دير نوجينت- طرد من الكنيسة، ومرة كرجل يلهمه الشيطان، وهكذا سافر المستشرقون بخيالهم حيث لم يصل بشر.

وبعد الاستعمار وليومنا هذا، ما زال الأوربيون على درب أسلافهم، ويبدو أنهم استعانوا هذه المرة ببني جلدتنا؛ فلا يبرح البعض القذف في جناب الحبيب صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وبمرور الوقت بات كل ما هو إسلامي محط انتقاص، حتى ما عدنا نمتلك حسب هؤلاء من أبطال، بل حتى التاريخ الذي نفخر به لم يكن سوى مرحلة من الظلام والبرربرية!

تدخل عملية التزييف هذه ضمن استراتيجية محكمة هدفها ضرب الروح الجماعية للأمة، فلكل أمة تاريخ تتكئ عليه إذا ما ضعفت أرجلها، فوحدها الأمة التي تمتلك التاريخ القويّ بإمكانها الصمود، وهذا ما يقلقهم، فيعملون ليل نهار ويكدون ويمكرون {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} [إبراهيم: 46].

إنهم يريدون منا أن ننسى تاريخ أمتنا أو تسايرنا الشكوك حول أبطالنا العظماء، كي نرى في صلاح الدين مخرِّبًا لا محرِّرًا عظيمًا للقدس، ولكي نغير نظرتنا من كون خير الدين باربروسا قائدًا بحري وأسطورة حية إلى قرصان يخطف الأبرياء ويسرق متاعهم في غرض البحر، ولكي نتصور السلطان سليمان القانوني مجرد قاتل شهوانيّ لا أعظم من حكم الإمبراطورية العثمانية في أقصى اتساعٍ لها، وعوض أن نفتخر بمنجزات العثمانيين التي بدأها عثمان، سنتوجس منها ونرميها بالأباطيل.

إننا لا ندرك أننا نخوض حربا من نوع آخر، حربا روحية في المقام الأول ومعرفية في المقام الثاني، ولا شك أن أول ما آمانت به أوربا هو “السيطرة على العالم”، و”نظام المعرفة موجه بصورة مبرمجة لخدمة القوة والضبط والسيطرة وتغيير العالم”[الدولة المستحيلة، وائل حلاق، ص: 152].

إنها الرغبة في التصرف في العالم وفق منظور خاص، منظور الرجل الأبيض الذي لا يرى الثقافات الأخرى إلا في تعارضها مع ثقافته، ولا يستوعب فكرة الاختلاف، ويسعى لبناء عالم واحدة يتحكم فيه (العولمة)، ولكن كيف يفعل وهناك من لازال متشبثا بتاريخه وثقافته، أليس الأفضل أن ننتزع هذا الاعتزاز وهذه الثقافة من الصدور؟

في الختام لا يسعنا سوى الإشفاق من إصرار الرجل الأبيض على إبراز تفوقه في كل مرة، ومن انجرار المثقفين الذين كنا نقف لهم احتراما -مع اختلافنا فكريا معهم- وراء أسطورة تفوق العرق الأبيض، ومن اتباع بني جلتدنا لنغمات ناي أوروبا وكأنهم جرذان بلدة هاملن المروية في التراث الألماني، فلا يسعنا في هذا المقام سوى الشفقة.

أزمة تعريف الدين

من العبث أن يشرع الإنسان في دراسة علم ما في معزل عن فهم حقيقته وكنهه ومباحثه الأساسية. فكيف بمن يماري حول حاجتنا إلى الدين، أو يشكك حول بعض حقائقه، أو يجادل حول تشريعاته، متخطيا التعريف الشامل عن معنى (الدين)!

أساطير الأولين

يخبرنا القرآن الكريم أن عددًا غفيرًا من الناس كانوا ينظرون إلى الدين على أنه خرفات وأوهام ورثتها الشعوب من الأمم السالفة ولا حاجة لإعادة بعثها إلى الحياة في العصور الحديثة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْۙ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24]، بل إن مصطلح (أساطير الأولين) يتكرر في القرآن بغزارة، لأن البشر تختلف حول تعريفاتهم عن الدين، ولكن الغالبية كانت تتفق حول كونه خرافة من مخلفات العصور القديمة. وعلى هذا الأساس، أخرج لنا الغرب عشرات المفكرين الذين أنكروا الدين بهذا الدافع حتى لو اختلفت نظرياتهم حول تفسيره. والعامل الذي يجمع كل تلك النظريات أنها كانت تقع في مغالطة (المصادرة على المطلوب)، فهي تفترض بطلان وجود الإله والغيب والنبوات أولًا، ثم تشرع في رسم ملامح النظرية ثانيًا، وعندي أن المشكلة لم تكن في المصادرة على المطلوب بقدر خطر اختزال مفهوم الدين في تعريفات سطحية أبعد ما تكون عن حقيقته ومقاصده الكبرى. فللغرب في عصر التنوير أمثلة كثيرة من محاولات تعريف الدين والتعامل معه وكأنه مجرد ظاهره إنسانية شأنه شأن اللغة، وإليك بعض الأمثلة:

أعرض جون لوك عن الدين بحجة أن العلم التجريبي يوفر للإنسان الحقائق اليقينية، ومن ثم لا حاجة لدين مشكوك في عصمته العلمية! أما كارل ماركس فذهب إلى تعريف الدين على أنه وليد صراع مادي بين الطبقات الاجتماعية المقهورة وبين الطبقات المنعمة، وقال الكلمة الشهيرة في وصف الدين بأنه “أفيون الشعوب” الذي تستخدمه الطبقات القاهرة لتستعبد وتسيطر على المقهورة فحسب. فعند ماركس كل النصوص الدينية بمختلف مواضيعها من قصص الأولين والأنباء المستقبلية والتشريعات التفصيلية كانت من تأليف بشري إثر أزمة اقتصادية!

ويذهب سيغموند فرويد إلى أن الدين نشأ في حضارات ما قبل التاريخ نتاج جلد عنيف للذات من قِبَل من ارتكبوا إثما أدى إلى حالة من الندم والكبت العنيف، ثم تحول الكبت إلى محرمات دينية، فكان الدين!

فالدين عند هؤلاء، إما مجرد مصدر آخر للمعرفة في علوم الطبيعة، أو مجرد أفيون يستخدمه الطغاة في استعباد الضعفاء، أو مجرد حالة نفسية من الكبت ولّدت تأليف الدين لرسم الحلال والحرام وتوفير مساحة آمنة لعشاق دموع الندم ولهواه جلد الذات!

جون لوك (على اليمين)، كارل ماركس (في الوسط)، سيغموند فرويد (على اليسار)

تعريف الدين

الدين في تعريفه وفي هدفه الأكبر هو الهداية في شؤون الغيب التي لا يهتدي إليها الإنسان عن طريق عقله المجرد وحده. إذ إن العقل البشري مؤهَّلٌ أن يكتشف كل أسرار المادة ويفك أعقد ألغازها، ولكنه يقف أمام الغيب وكأنه يقف أمام جبل شاهق لا يدري ما وراءه. فهو إما أن يجازف ويحاول عن طريق الديانات الباطنية التي تدعي قدرة كل إنسان على الاتصال بالغيب، ثم يقف حائرا بين معرفة الغيب وشكوك التعرض إلى الهلاوس، أو أن ييأس ويرضى بما قدر له من نصيب محدود في المعرفة ويكون وجوديا ماديا. أو أن يسعى للبحث في الدين لعله يصل إلى أطراف من الحقيقة قد تهديه إلى الحق المطلق!

والإنسان لا يرضيه معنى الحياة السطحي المتوفر له الآن من أمور معيشته الشخصية، فهو في بحث دائم عن اكتمال المعنى. والعقل المجرد يربط الجزئيات الصغيرة ليشكل معنى محدود، ولكنه يقف أمام الأسئلة الكبرى وهو عاجز عن توفير إجابات كاملة بعيدا عن اتباع الظنون ومكر الأهواء!

فالدين هو الهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى التي لا يجيب عنها الإنسان وحده. وهو السبيل الآمن للإجابات اليقينية بلا مجازفات، وبه يتملك الإنسان رؤية كاملة شاملة عن الوجود بأسره، وتلك الحكمة من نزول الدين أول الأمر! فقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]

فبالدين تكتمل نعمة الخالق على الإنسان، لتكون النعمة الأولى هي الإيجاد والإنعام المادي الذي يتلقاه كل البشر، وبهدايته وإرشاده في تساؤلاته الكبرى تتم نعمة الله عليه، وهو مصداق قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

أما تعريف الدين لغويا، فإن اللغة العربية تمتاز بتغير معنى الكلمة بمجرد تغيير تشكيل الحروف. فقد تتحول (كَبَر) – بفتح الكاف والباء – من معنى ازدياد السن وبلوغ العجز إلى (كِبر) – بكسر الكاف – معنى الغرور والنرجسية. فتغيير التشكيل من الفتحة إلى الكسرة يغير المعنى من المادية إلى المعنوية. ولذلك الدين يأتي على وزن (دين) بفتح الدال، وهو القسط المادي من الأموال الذي يلتزم به الإنسان. فما إن أصبحت (دين) بكسر الدال، أصبحت قسطًا معنويًّا يسدده الإنسان. ولما كان الإسلام ينص أنه لا إله إلا الله، وأن ما من نعمة إلا وهي من الله، فكانت العلاقة بين الخالق والمخلوق هي علاقة المتفضّل بمتلقي الفضل العاجز عن رده! فالدين معناه اللغوي هو محاولة تسديد الدين الإلهي على الإنسان، فيصبح الإنسان مدينًا لله لأن الله متفضِّلٌ عليه!

الغالب والمغلوب

لمّا كان الدين -بمعناه الغربي- هو الاستسلام الكامل لكهنوت الكنيسة في كل شؤون الحياة من أول حكم الدولة إلى احتكار العلوم والمعارف كلها. كانت العالمانية هي الملاذ الوحيد لبناء الحضارة وتقدم الأمم في نقطة فاصلة في التاريخ الغربي، بين عصور الظلام التي تمسكت بالكهنوت الكنسي وبين عصر التنوير الذي تحرر العقل من الكنيسة فتقدم. فلا عجب أن ينظر هؤلاء إلى الدين – المسيحية المحرفة – على أنه أساطير الأولين!

ولكن المشكلة الكبرى في هذه الأيام، أن المسلم المعاصر بات ينظر إلى السيناريو الغربي على أنه تحرر من الدين – بإطلاق – لا تحرر من الديانة المسيحية التي تشربت بالوثنيات والتحريف! فأصبح المسلم المعاصر ينظر إلى الإسلام مثلما ينظر الغربي إلى المسيحية، وبما أن النهضة الغربية كانت تحت قيادة العالمانية، توهم بعض المسلمين أن العالمانية هي الملاذ الأخير لنهضة إسلامية حديثة!

وعندي أن الغالبية لو صدقت مع أنفسها أكثر لاعترفت أنها تنظر إلى الدين على أنه أساطير الأولين حقًّا، ويبرهن على ذلك الواقع المعاصر. فالدين عندهم لا علاقة له بالرؤية الكونية الشاملة، ولا بالهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى! ونادرًا ما تجد من يثق في أهلية الدين على قيادة البشرية أكثر ممن يثق في أهلية فلسفات البشر على القيادة! بل تجد أن منهم من حصر الدين في لائحة طويلة من المكروهات والمباحات، ومنهم من حصر الدين في مراسم ميتة لا تظهر إلا في الأعياد والمناسبات، ومنهم من حصر الدين في الحديث عن القصص القرآني من باب التسلية، ومنهم من حصر الدين في التقليد الموروث والاتباع الأعمى، مما يحجر قدرات العقل ويعطل بناء الحضارة!

وعندي أن الحوار مع العلمانيين الذين ولدوا على الإسلام لا يبدأ من تصحيح مفاهيمهم الخاطئة، بل إننا بحاجة إلى أن نرجع خطوة إلى الوراء حتى نعرف الدين الذي نجادل حوله أولا. ونحن بحاجة بأن نرسم خطا أحمر بين السيناريو الأوربي عن السيناريو الإسلامي. فالأول كان تحريرًا للعقل من سلطان الخرافة، والثاني هو دين حق يرسم للعقل طريق الحقيقة ويحذره من الوقوع في الخرافة!

فوثوق المسلم في قدرة العالمانية لقيادة الركب الإنساني مع كامل إعراضه عن الدين ينبع من عدم الاقتناع بصحته لا محالة. فكيف يقر الإنسان أن الدين نزل من الله الذي خلق ثم يتهم الدين أنه لا يتماشى مع طبيعة البشر أفرادا ومجتمعات! وكيف يكون الإنسان المنصف معترفا بحاجته إلى الدين لأن العقل وحده يعجز عن إدراك الحقائق الكلية ثم يتمرد المسلم على الدين بدعوى أن العقل وحده يكفي!؟

أما عن انتشار فلسفات الغرب ورؤاه كالعالمانية، والليبرالية، والماركسية –فيما مضى- وتوغلها بين المسلمين بإرادتهم فما ذلك إلا لمشكلة نفسية لا فكرية. فمن يفتقر إلى ثقته بذاته واعتزازه بهويته سيتبع كل غالب مهما كان بين يديه بضاعة مزجاة، وسيعرض عن كل مغلوب مهما كان بين يديه الدواء الشافي! أو كما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب. والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها!” [المقدمة]


مصادر للتوسع

كتاب (الدين) د. محمد عبد الله دراز

أطفال المسلمين من جحيم الحرب إلى جحيم الحرية .. أوروبا نموذجًا

أثير أخيرًا قضية انتزاع الأطفال من والديهم في أوروبا والسويد تحديدًا، ورغم أن تسليط الضوء على القضية حديث مع حداثة المهاجرين العرب إلى القارة الأوروبية، إلا أن قانون سحب الأطفال من والديهم ليس بحديث العهد، ويبدو أن له جذورا مرتبطة بالسلطة الكنسية الاستبدادية في أوروبا، فكان سحب الأطفال من ذويهم ممكنا لمجرد ميل الأهل عن المسيحية البروتستانتية[1]، وبعد الحرب العالمية الثانية تصاعد الاهتمام بحماية الطفل وحقوقه بشكل أكبر واعتبار القانون رسمياً وتحويل رعاية الطفل من مسؤولية العائلة فقط إلى مسؤولية المجتمع والدولة، فيمكن لأي فرد؛ وبالأخص لمربي رياض الأطفال ودور الرعاية ومعلمي المدارس والأطباء في العيادات والمشافي إعلام دائرة الشؤون الاجتماعية بأي علامات أذية أو إهمال يلاحظونها على أي طفل، فتتولى الدولة حماية الأطفال على أراضيها ولو تطلّب الأمر حمايتهم من والديهم، لأن من حق الطفل أن يحيا حياة مستقرة وهادئة خالية من العنف ومن أي تهديد قد يضر بحالته النفسية والجسدية والعقلية بحسب قانون حماية الطفل[2].

مصطلح “راحة الطفل” الفضفاض

تختلف بنود حقوق الطفل وتحديد السبب الموجب لسحب الطفل من عائلته باختلاف الدولة، ففي حين أن ألمانيا تعتمد بنودا واضحة في تحديد الأسباب الموجبة لسحب الطفل وتراعي حق الأهل في تربية طفلهم إلى حد مقبول، ولا يتم سحب الطفل إلا بوجود تهديد واضح أو إهمال مستمر وظاهر، نجد أن السويد لا تعتمد تعريفا محدَّدًا لمصطلح “راحة الطفل” ويترك الأمر لرأي الموظف الاجتماعي ولجنة المدينة المنتخبة، فمركزية قانونهم هي حماية الطفل أو بالأصح راحته بالمقام الأول ولا تولي اهتماما كبيرا لحق الأهل برعاية أطفالهم لعدم وجود عائق في إمكانية نقلهم لعائلة أخرى، و يكفي استشعار عدم رغبة الطفل بالبقاء مع والديه لاتخاذ الإجراءات، وتلك الثغرة القانونية أدَّت لاتخاذ قرارات منطلقة من الأهواء بدلا من منطلق حماية الطفل فعلياً، وعرّضت القضاء والحكومة السويديين لكثير من الانتقادات.

ما بعد الشكوى

في ألمانيا عند الشك بوجود إهمال يتم إعلام الأهل لبدء تنسيق اللقاءات وبإمكان مكتب الرعاية الاجتماعية القيام بزيارات فجائية للتأكد من الشكوى، وعند ثبوت عدم قدرة الأهل على تربية أطفالهم يُطلَبُ موافقتهم لنقل الوصاية وفي حال الرفض وهو الغالب يتم عرض الأمر على المحكمة للحصول على أمر قضائي بنقل الطفل لمكان آخر، ولا يتم سحب الطفل مباشرة أوعن طريق الشرطة إلا في حال وجود تهديد واضح يتطلب تنفيذ الأمر قبل صدور حكم من محكمة الأسرة، ولا مفر من حدوث الأخطاء وسوء التقدير وتوجد حالات يكون قرار السحب فيها غير مفهوم ومشكوك به.[3]

أما في دولة السويد فيطبَّق قانون نقل الوصاية الأبوية مع  خَمس أطفالٍ يوميا، فهم أكثر تهاونا في تطبيقه، لأن الأمر يأتي بقرار من اللجنة وليس عن طريق القضاء، كما أن قرارها يتأثّر برأي موظف الرعاية الاجتماعية بشكل كبير، ويبدو أن لديهم حساسية شديدة في التعاطي مع الطفل كمراقبة التواصل البصري بينه وبين والديه لاستشعار رغبته بالبقاء معهم أم لا، وتعدّت صلاحيات الموظف السويدي إلى انتزاع الأطفال من والديهم بشكل مفاجئ أو خطفهم من داخل منازلهم ومن أمام مدارسهم قبل إعلام الأهل بذلك، وقد وصف بعض المحامون السويديون طريقتهم تلك بالنظام الاستبدادي، وبحسب تجارب المستشار الأسري سفين هيسلي أن هناك أربع مجموعات مهددة بشكل أكبر بانتزاع الأطفال منهم، من ضمنهم الأجداد المسؤولون عن أحفادهم وأبناء الأم المعيلة، وأبناء المهاجرين والذين شكلت نسبتهم 46% من أعداد الأطفال المنقولين إلى رعاية الدولة في ستوكهولم، وتضيف القاضية سوندبيرغ فايتمان أن الدوائر الاجتماعية تعطي لموظفيها سلطة مخيفة، فمن جهة يمكن سحب الأطفال لوجود تهديد واضح ومن جهة أخرى يتم انتزاعهم من منزل والديهم الآمن والهادئ لمجرد انتماء الأهل لأقلية دينية أو لتبنّيهم اتجاهات فكرية وثقافية مخالفة للتوجه العام.[4]

نقل الوصاية المؤقت أو الدائم

يتم نقل الطفل في ألمانيا إلى مركز رعاية للأطفال تحت إشراف مختصين، ولا تُلغَى وصاية الأهل إلا في حال ثبوت عدم قدرتهم على الرعاية بالمطلق بعد مدة من محاولة إصلاح حال الأسرة، ويحق للأهل الاعتراض على منع موظف الرعاية تواصلهم مع أبنائهم أو عدم التعاون معهم[5]، والطريقة مشابهة في السويد عدا عن نقل الأطفال إلى رعاية عائلة حاضنة بشكل مباشر بسبب شح مراكز رعاية الأطفال لديهم[6]، أما عن استرجاع الأطفال ففي كلتا الحالتين لا عائق يقف في طريق الأهل في حال إثبات قدرتهم على الرعاية من جديد أو إثبات حدوث خطأ وسوء تقدير من الموظف ونفي كل الشكوك لدى دائرة الرعاية، والطريقة المثلى لاسترجاعهم هي عن طريق القضاء باستعانة محامٍ في الشؤون الأسرية، بَيد أنه طريق مكلف ماديا ويحتاج لطول نَفَسٍ حتى تحصيل قرار المحكمة، وغير مضمون النتائج مئة في المئة، و يلجأ البعض عند بدءِ إرسال الإنذارات إلى مغادرة الاتحاد الأوروبي مباشرة هربا بأولادهم، فإن لم يكن بالإمكان ذلك، فمن الأفضل التعاون مع مكتب الرعاية لأن التجاهل يسمح لهم باتخاذ إجراء السحب بالقوة.

رعايةٌ أم جناية؟

تتعرض دور الرعاية الحكومية لانتقادات نتيجة تهاونها برعاية الأطفال بسبب هرب الكثير منهم وتحوُّلهم للإدمان والإجرام والدعارة، أو لعدم متابعة حالة العائلة الحاضنة، حيث ثبت وجود تجاوزات قانونية منهم قد سبَّبت أذى للطفل، علاوة عن طريقة انتزاع الأطفال العنيفة والمؤذية أو الخاطفة والتي تترك أثرا في الطفل لا يُمحَى، أما تكاليف نقل رعاية الطفل فهي باهظة جدا بالمقارنة مع تكاليف بقائه مع عائلته البيولوجية[7].

وبالرغم من أنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن القانون ساهم بحماية أطفال كُثُرٍ، فمن ضمن الأسباب الموجبة لسحب الطفل من والديه هو الإهمال الشديد حيث يؤدّي الإهمال في كثير من الحالات إلى فقدان حياة الطفل، كموت طفل بعمر السنتين بعد أن أهملت أمه إطعامه وتركته تحت تأثير الجوع الشديد والنحالة المرضية[8]، أو في حالة الوالدين اللذين أرادا التوفير بجعل أطفالهم يستحمون بماء الأمطار في الشتاء وإقفال التدفئة لتصيبهم الأمراض المزمنة، ومن الأسباب أيضا الإساءة الجسدية واللفظية وحالات الاعتداء أو الاستغلال الجنسي، ومثاله أن أمًّا استغلت ابنتها ذات العشر سنوات في عرض الأزياء الفاضحة لأجل التجارة، وهناك مَن حوَّلت بيتها لمكان للدعارة بوجود أطفالها، ولاتزال الحالات المفجعة لأطفال يُعذَّبون من قبل والديهم تهز الرأي العام، وآخرها قصة طفل تبوَّل لا إراديًّا في سريره فعوقب بالضرب والنوم على فراشه النجس ليتوفاه الله في اليوم التالي، ويزيد على ذلك مشاكل الإدمان على الكحول والمخدرات والأمراض النفسية والعقلية، ومع ما قدَّمه القانون من حماية إلا أنه ما زال يحمل خللا كبيرا متمثلا بعدم الاهتمام بأهم حق للطفل وهو العيش في ظل والديه، ولكن كيف السبيل لتحقيق ذلك في مجتمع غارق في المادية والانحلال ولامعنى للروابط الأسرية لديه؟ ليبقى الطفل ضحية في كل من الحالين.

 

أطفال المسلمين وتهديد نقل الوصاية

لابد من تسليط الضوء على الأطفال الذين يُنقلون لوصاية الدولة لأسباب أخرى بعيدة عن تهديد الوالدين، مثل حالة وفاة الوالدين أو أحدهما؛ عند عدم قدرة الطرف الآخر على رعاية أطفاله لوحده؛ أو عند عدم وجود أجداد لهم يرعونهم، وقد تجاوزت أعداد الأطفال المنقولة وصايتهم للدولة الألمانية إلى 60 ألف طفل عام 2015 من بينهم مهاجرين ولاجئين مسلمين نتيجة موت الأهل أو ضياع الأطفال من والديهم في طريق الهجرة[9]، فضلا عن إرسال اليافعين ممن لم يبلغوا الثامنة عشرة إلى أوروبا بسبب قدرته على ضم والديه إليه فيما بعد، ولأنه طفل في القانون الأوروبي فإنه حق رعايته يقع على الدولة والتي في كثير من الحالات تنقل رعايته إلى عائلة حاضنة، أما التحدي الأكبر الذي يواجه العائلة المسلمة فهو قرار اليافع بنفسه بالانتقال من منزل والديه أو بتقديم شكوى لمكتب الرعاية، فيتم الاستجابة لرغباته، وإن وجد بصيص أمل في عودته لوالديه في سن المراهقة، إلا أنه بعد سن الثامنة عشرة تلغى الوصاية الأبوية قانونيا بشكل كامل.

التحصين والوقاية

إن وجود القوانين الوضعية المستمدة من أهواء البشر مع الانفتاح الكبير على كل الفتن تشكِّل تحديات عظيمة للعائلة المسلمة في أوروبا، وقد اختلف العلماء في حكم القدوم إلى مثل هذه البلاد وإن أجاز بعضهم البقاء فيها لكنهم ينصحون بتجنب السفر إليها أو جعل الإقامة مؤقتة قدر المستطاع، فعلى رب الأسرة مسؤولية الاستبراء لعرضه ودينه وحماية أسرته، وقد أشار لذلك الدكتور محمد راتب النابلسي في مقابلة له في قوله: إن لم تضمن أن يكون ابنُ ابنُ ابنِكَ مسلمًا، فلا يجوز أن تبقى في البلاد[10]، مع استثناء من لا مفر له إلا البقاء فيها، ولابد للمسلم المهاجر في الغرب أن يهتمّ بما يقوِّيهِ ويحفظ أسرته بإصلاح حاله وحالهم عن طريق التحصن بالعلم الشرعي والتقرب إلى الله، وتعلُّم لغة البلد الجديد وفهم ثقافته وقوانينه، ومن المهم معالجة الأمراض النفسية والبعد عن التعنيف والضرب وذلك أضعف الإيمان، ويجب التركيز على أهمية تقوية أواصر الجالية الإسلامية لما لها من دور في مساعدة الأسر والمهاجرين الجدد، ولكنها ما زالت إلى الآن تعاني من التشتت وضعف الإمكانيات المادية والبشرية.

 سحب الأطفال.. هل مؤامرة؟

منبع القوانين الغربية مختلف جذرياً عن منبع القوانين الإسلامية، حيث يعتبَر الطفل فيها كيانًا منفصلًا عن والديه وبالتالي يغلب حق الدولة في رعاية الطفل على حق وصاية والديه، ولذا يُطَبَّق القانون على أي طفل يقطن الأراضي الأوروبية بغضّ النظر عن جنسيته، وبالتأكيد فإن المهاجرين يتعرّضون بشكل أكبر لتهديد نقل الوصاية لقلّة خبرتهم بالقوانين من ناحية، واختلاف التكوين الثقافي الشاسع بين الشرق والغرب، مع ضعف اللغة من ناحية أخرى، إلى جانب وجود فكرة مسبقة خاطئة أو عنصرية متطرّفة لدى بعض الموظّفين والسكان عن المهاجرين تدفعهم للتعامل الأشد والأسوأ لهم فيقدِّمون ذلك على أي تصور آخر، بالإضافة إلى أن سياسات أوروبا في الاندماج قاصرة عن تقديم الدعم الكافي للمهاجر وتركز جهودها على إذابة الفرد في المجتمع وثقافته، بدلا من مساعدته على التكيف ومراعاة حاجاته وثقافته المختلفة وخاصة لمن أتى من منطقة حروب، وعدم زرع سياسة التسامح وتقبل الضيف في المجتمع المضيف بل التنفير منه، وبسبب قلة شباب القارة العجوز فهم بحاجة للمهاجرين وأبنائهم أكثر من حاجة المهاجر لهم، ومع هذا مازالت سياساتهم تتجه بحذر نحو شعار إما الذوبان وإما الرحيل.

يحزن القلب على أبناء المسلمين الذين حرموا من عائلاتهم وما ينتظرهم من مصير مجهول، وانتفاضة المسلمين والتنديد وإثارة الرأي العام لهي من الأمور المحمودة والمطلوبة، ولا مناص بالطبع من الحكمة والروية واستغلال جميع الوسائل الممكنة في سبيل الهم الأكبر وهو عودة الأطفال إلى بيوتهم وأحضان أهليهم الدافئة.


[1] https://taz.de/!360286/

[2] وقاية الأطفال من التعنيف والأذى

https://www.vivantes.de/fileadmin/Klinika/KNK/Vortraege_KJPP/Curriculum/02_Misshandlung_Missbrauch_Praevention_koelch_01.pdf

[3]متى-بنتزع-الطفل؟،ألماني

 https://beratung.de/recht/ratgeber/inobhutnahme-wann-holt-das-jugendamt-ein-kind-aus-der-famili_fntlic

[4]تجاوزات-مكتب-الرعاية-السويدي، Spiegel

 https://www.spiegel.de/politik/kinder-gulag-im-sozialstaat-schweden-a-56914d68-0002-0001-0000-000014019042

[5]مايمكن-فعله-بعد-سحب-الطفل

 https://www.123recht.de/ratgeber/familienrecht/Das-Jugendamt-hat-die-Kinder-weg-genommen-Was-koennen-wir-tun-__a103733.html

[6]قانون-سحب-الطفل-السويدي-بالتفصيل

 https://www.dji.de/fileadmin/user_upload/pkh/laenderbericht_schweden.pdf

[7] المصدر(4)

[8] https://www.sueddeutsche.de/leben/prozess-wenn-kinder-wegen-vernachlaessigung-sterben-1.3654792

[9] https://mediendienst-integration.de/migration/flucht-asyl/minderjaehrige.html

[10] تربية-الأولاد-في-المهجر

https://www.youtube.com/watch?v=gGUD8He_aTE

فتوى-وكلمة-من-الشيخ-محمد-راتب-النابلسي

https://www.youtube.com/watch?v=PPxE8ZmwGWw&t=305stj,n

من الجدل إلى الفضيحة .. البوكر مافيا الأدب!

أهو استحقاق أم أنها خديعة؟ من منهما قتل الآخر البوكر أم الرّواية العربيّة؟ أهي شبهات أم حقائق؟ أم أن الفضائح تتلوّن بألوان صاخبة! وهل قياديّوها كُتّاب أم لصوص؟

إنها جريمة دائماً مثقوبة الفم على الرّغم من أنّ القاتل معروف، ولكنّ العدالة اختارت أن تفقأ عينها!. تَكتُّلات ثقافيّة أم محاصصات سياسيّة؟ تبييض دولارات أم كتابة روايات؟

موجز صاخب وخليط عجيب يفتح شهيّة التّأويل لعدّة ملفات عنوانها الأبرز الفساد الأدبيّ بالإضافة إلى الحقيقة الّتي شكّلت الانتكاسة الّتي فتحت باب الإلحاد للكثير من الأدباء؛ كما فعل الأيرلندي برناد شو والفرنسي جان بولجين حيث إنّهما رفضا جائزة نوبل، بالإضافة إلى متتبعي الأدب حول العالم بعدما سقطت الصّورة الكبرى والمزركشة للجوائز الأدبية عموماً والبوكر خصوصاً.

عالَم الجائزة

في البداية يأخذ الحديث عن الجوائز الأدبية في العالم حيزاً كبيراً من حديث المثقفين والكتّاب والنّقاد، حتّى القرّاء على حدٍّ سّواء، بالإضافة إلى وسائل الإعلام على تنوّع مصادرها، فلا يهدأ الحديث عن جائزة إلا ويبدأ الحديث عن أخرى، فبالأمس كان الحديث عن قلّتها وندرتها وتواضع قيمتها المادية جداً كجائزة النيل، واليوم بات الحديث عن كثرتها ومساوئها وارتفاع قيمتها الماديّة كجائزة الشّيخ زايد، وجائزة البوكر.

ولكن لا مبدأ ثابت هنا والفضائح المتتالية تأكل سمعة البوكر، كالفضيحة التي كشفت تفاصيلها صحيفة الغاون البيروتية عن وجود صفقة رباعيّة لإعطاء الجائزة للرّوائيّة علوية صبح، علاوة عن ذلك تسريب اسم الفائز قبل إعلان النتيجة -كتسريب فوز هدى بركات- بالإضافة إلى المحاصصة السياسيّة والانحياز الذي قال عنه الكاتب ومدير النشر السوريّ فايز علّام: “المصريّة اختارت المصريّ ، والعراقيّ اختار عراقيّة، واللبنانيّ اختار أيضاً لبنانيّة، والروسيّة اختارت أجواء فيها روسيّة”

وهنا يُطرَح سؤال بسيط ولكنّه طارئ وضروريّ: طيلة عشر سنوات من عمر الجائزة لم تُمنح لكاتبٍ سوريّ على الرّغم من وصول العديد من الأسماء منهم: فؤاد حدّاد وخالد خليفة، فهل يا تُرى تُمنح الجائزة للعمل الأدبيّ أم للرّأي السياسيّ؟

مجاملات أدبيّة واهتراء الذّوق النّقديّ

الجدل الّذي يعصف بكلّ عملٍ يفوز، يصنع شبهات تضارب عقائديّة في الآراء بين الأوساط الأدبيّة، فمثلاً يفوز بهاء طاهر عن رواية واحة الغروب تقديراً لسنّه وتاريخه الروائيّ، وليس لاستحقاقه الأدبيّ، فالرّواية لا تتسم إلا ببنائها الروائيّ المحكم، فهي رواية بلا روح كما قال الدّكتور سيد البحراوي.

كما فازت رواية وزير الثقافة المغربيّ لمكانته الوظيفيّة بدلاً من عمله الأدبيّ كما قال النّقاد والسّمة المميّزة للعمل أنّه مثيرٌ للجدل! فالجائزة في هذه الحالة بالتّحديد ربما ضد الإبداع.

هدى بركات الحائزة على أسوأ تقييم في موقع جودريدز عمّقت الهوة بشكل استفزازي فالكاتب سعيد حسون يقول عن روايتها: إنّ لغة الرّواية بلا صوتٍ ولا صورةٍ ولا شكلٍ ولا مضمونٍ ولا لغةٍ سرديّةٍ مميّزة ولا جماليات!.

كما قالت عضوة اتحاد الكتّاب اللّبنانيين رانيا محيو الخليلي: رغم أنّها أتت للبنانيّة هذا العام ولكنّ المضمون نفسه، انحراف جنسيّ، وشذوذ، وبغاء، وشرقٌ منحدرٌ متخلف سيّئ، ونفس دور النّشر تتناوب عليها، والطامّة الكبرى أنّها فقدت مصداقيّتها لدى القارئ العربيّ ولا تزال تتبع ذات المنهج.

تشابُك العديد من الخطوط الحمراء أدى إلى تبادل الأدوار بين المؤيدين والمعارضين، فمثلاً أحد الأعضاء الفعالين في لجنة البوكر أضحى اليوم أكبر المنتقدين لها، وهي الدّكتورة شيرين أبو النجا التي قالت في رئيس اللّجنة طالب الرفاعي: إنّه لا يصلح لأن يكون كاتباً من الدّرجة العاشرة!.

بالإشارة إلى استقالة الناشر رياض الرئيس من مفصل هام من مفاصل البوكر وهو مجلس أمناء البوكر؛ اعتراضاً على الطّريقة الّتي تُدار بها، بل هناك من أقسم أنّه لن يعيد التّجربة أو يتقدم بعمل آخر كما هو الحال مع الرّوائيّ الجزائريّ سمير قسيمي.

لجنة البوكر وغياب النقد الحقيقي!

التّقليد والسّرقة وجهان لعملة واحدة عنوانها الأبرز غياب الناقد الحقيقيّ ومحدوديّة ثقافة اللّجنة، مما أسهم في إفراز أعمال موسومة بالعار الأدبيّ، فمثلا رواية عزازيل للكاتب يوسف زيدان متّهمة بتقليد رواية (اسم الوردة) للكاتب إمبرتو إيكو، وكذلك رواية الدّيوان الأسبرطي، فالبناء الدّراميّ يشبه بناء رواية (ميرامار) ورائحة العديد من خطوط رواية غرناطة تفوح من رواية (النهاية) مثلاً، عدا عن عيوب التّطويل والأحزاب والتّكرار.

حرب الكلب الثانية الّتي أجمع القرّاء أنّها أسوأ أعمال الكاتب بالإضافة إلى أنّها نسخة مصوّرة ولكن بنكهة عربيّة عن رواية١٩٨٤.

الاتهامات لا تنتهي ولكن أكثرها فظاعة الاتهام الذي وجهته الرّوائيّة لينا حسن للرّوائيّ خالد خليفة بسرقة فكرة وقصّة رواية الموت عمل شاق من مقال سابق لها بعنوان (رحلة الشيفروليه نحو دروب الأحزان)!.

الجوائز أضحت وبالاً على الرّواية العربيّة. أو هكذا على الأقل رأي الناقدة نادية هناوي، وقد صرح أسعد أبو خليل قائلاً: جائزة البوكر مؤشر آخر على فساد الحياة الثّقافيّة العربيّة، ولكنّ ملايين الدّولارات الّتي تُنفَق تحمّلت جميع الفضائح، بل أضحت قبلة الكتّاب الجائعين لاعتراف وشهرة دون تعب يُذكر والنّتيجة حدث ولا حرج!.

فيلم التحوّل للأحمر .. هل نشهد قاعَ الانحلال؟

في هذا المقال أقدّم مراجعة نقدية شاملة لتفاصيل وأفكار فيلم ديزني الجديد (الاحمرار) أو (التحول للأحمر)، وهنا أودّ أن أشير إلى ملاحظة مهمّة وهي أن هذه المراجعة ليست لمن لا يسمح بعرض أفلام ديزني أمام أطفاله أو لمن قرّر عدم عرض هذا الفيلم تحديدًا، بل إن هذه المراجعة موجهة لتحذير ذوي الأطفال الذين يسمحون لأطفالهم بمشاهدة أفلام ديزني دون إشراف أو لا حيلة لهم بمنع عرض هذه الأفلام في مدارس أطفالهم في الدول العلمانية.

قصة الفيلم

مي مي طفلة كندية في سن الثالثة عشر من أصل صيني تعيش في تورنتو مع والديها، وتمثل الابنة المطيعة لأمها في جميع شؤون حياتها، تعظيما لإرث العائلة الصيني في تقديس الآباء والأجداد أو -واهبي الحياة على حد وصفها- كما يظهر ذلك في تعبّدها مع والدتها داخل المعبد الذي تديره. لكن مي مي في الحقيقة تعتبر نفسها مستقلة في قرارتها مع صديقاتها في المدرسة. تتعرض لفترة بلوغها كفتاة وما يعقبها من هيجان العاطفة واختلاط المشاعر، فتدرك أن بداخلها فوضى وشقاوة تتوق لاختبارهما دون إخبار والدتها التي تبالغ بحمايتها، فيؤدي ذلك لتمرد مي مي على أوامرها.

استعارة الباندا الأحمر (حيوان لبون من فصيلة العرسيات):

يشير الفيلم لدورة الطمث عند البنات في طور البلوغ مجازيا بتحول مي مي لحيوان باندا أحمر ضخم، كلما اضطربت حياتها بسبب تدخل والدتها الشديد في حياتها وإخفائها لرغباتها الشخصية، ومحاولة التوفيق بين كل هذا وذاك في خضم التغيرات الطارئة على جسدها. وتظهر مي مي وهي متحولة للباندا الأحمر في عزلة (كما هو الحال مع حيوان الباندا المعروف بعزلته الاجتماعية عن بقية الحيوانات) وهي مستلقية بوضعيات مشابهة لتحمل آلام التقلصات في الحوض وأوجاع الظهر.

حبكة الفيلم تشير إلى أن التحول للباندا في الأصل كما يقدم الفيلم هو هبة لنساء عائلة مي مي العريقة ليدافعن عن أطفالهن في غياب الرجال. لكنه مع تغير الزمن وسيادة القانون، أصبح ينظر إليه كلعنة يستوجب التخلص منها عبر طقوس تجرى خلال ليلة يكتمل فيها القمر بلون أحمر. في البداية توافق مي مي على التخلص من الباندا داخلها لأنه يحول بينها وبين حضور حفلة فرقتها المفضلة، لكنها تغير رأيها عندما تظن أنها تستطيع السيطرة عليه وحضور الحفلة التي ستنضج خلالها أنوثتها وتصبح امرأة. لكن بعد أن تعلم الأم بمخططات ابنتها مع صديقاتها، تصطدم إرادتها بإرادة مي مي مما يهدد علاقتهما المثالية.

تصنيف الفيلم للآباء:

وفقا لديزني ينصح بمشاهدة الفيلم مع الأطفال وتوجيههم، رغم حساسية الفكرة واحتواء الفيلم على العديد من التلميحات الجنسية، لكن ليس بشكل صريح من مثل: 1- تقول إحدى البنات أن أمها رفضت ذهابها لحفل فرقة غنائية لأن موسيقى الفرقة مشابهة لموسيقى نوادي التعري. ثم تعقب الفتاة (ما المشكلة في ذلك!).

2- أحد الصبية يقوم بهز مؤخرته مستهزئا بهيام الشخصية الرئيسية بأحد الشخصيات الأخرى.

3- مي مي تظهر أحيانا متعرقة، يسيل لعباها أو مأخوذة تماما لدى رؤية الأولاد أو رسمهم شبه عراة في دفترها.

4- صديقة مي مي تطلب منها أن تتحول للباندا الأحمر، فتقوم مي مي بتخيل أحد أعضاء الفرقة الغنائية المحبوبة وهو عاري الصدر.

5- مي مي تصرخ في أمها أنها تحب الأولاد والموسيقى الصاخبة والرقص بهز مؤخرتها، وعلى أمها أن تتعايش مع ذلك.

6- في أحد المشاهد التي تضطرب به مي مي وتتحول لباندا، تلمح فتى وسيمًا في المتجر فتقوم بإصدار عواء كالذئب.

7- مي مي تقول لأمها (إنه الباندا خاصتي، الخيار لي فقط) مثل قول النسوية (جسدي وأفعل به ما يحلو لي).

8- مي مي تذكر صديقاتها وتمنّيهن بأهداف حضور الحفلة، الدخول لها كبنات والخروج منها كفتيات كاملات الأنوثة.

9- استخدام كلمات مثل (مثيرة) و(منحرف).

10- مي مي تستفز أمها وهي في جسد الباندا بالرقص وهز مؤخرتها مع الصفع.

أفكار خاطئة ومخالفة للثقافة الإسلامية:

ثمة أفكار أخرى تمسّ التعاليم الإسلاميّة مباشرة، ونذكر منها:

1- لعل أبرز المشاكل الأخلاقية في فيلم (الاحمرار) هو تصوير البنات المراهقات (ذوات الجمال العادي) وكأنهن مجموعة مسعورة جنسيا لا حظ لهن، يتلصصن على الفتيان سرا ويتصيدنهم للدخول في علاقة، وهذا يخالف ثقافتنا الإسلامية القائمة على إحسان الظن وعدم الاتهام دون الإثبات الكامل.

2- يتراجع مستوى مي مي من كونها طالبة مثالية يجن جنونها إذا حلت في المركز الثاني إلى طالبة متوسطة في أدائها الدراسي بعد انشغالها بجمع المال لحضور الحفلة الغنائية دون علم أمها. وهو ما استنكرته مي مي مسبقا بأن الآباء والأمهات لا يثقن بأطفالهم مهما كانوا مثاليين فما الفائدة المرجوة حقا من البقاء مثالية.

 3- في خضم الأحداث، تظهر جدة مي مي لأمها وهي تحمل ندبة دائمة في وجهها. يتبين لاحقا لمي مي أن أمها قد سببت هذا الجرح لها في طور تحول الأخيرة لباندا أيضا في فترة المراهقة. بل أن سبب الخلاف هو رغبة أم مي مي بالارتباط بوالد مي مي دون رضا الجدة. وهذه نقطة أثرت على قرار مي مي وجعلتها تصمم على المحافظة على الباندا داخلها لتتعرض لاحقا لمواجهة أمها وضربها على وجهها.

4- البنات معجبات حد الهوس بأعضاء فرقة غنائية مكونة من خمسة أفراد ذكور لكن تظهر النعومة والحسن على أوجههم لا يضاهيهم في الجمال أي من شخصيات الفيلم التي طغت عليه الشخصيات الأنثوية. تشير إليهم مي مي وهي تدعو صديقاتها لتركيز جهودهن عليهم بأنهم الرجال (الحقيقيون) لكن إحدى صديقات مي مي توضح لها أنهن بعيدي المنال عنهم، لذلك عليهن أن يرضين بأي شيء حاليا مثل فتى المتجر الممل.

5- يكاد يكون دور الشخصيات الذكورية معدما في الفيلم ولو أن الموضوع الأساسي خاص بالنساء. وحصر رجولة الذكور بوسامتهم هي فكرة ساذجة تصدر عن طفلة ذكية لكن لا يصححها أحد من البالغين. بل إن زميل مي مي المتنمر في المدرسة يتضح أنه من محبي الفرقة الغنائية المائعة والتي يُرفع في حفلتها علم المثليين مع كلمة (حب). أما الأب فهو رجل لطيف تبدو براعته في الطبخ فقط، ويظهر في المشاهد دون تدخل في الأحداث أو تأثير على سيرها سوى أنه يسِرُّ لابنته أن أمها حاربت جدتها كي ترتبط به. كما يظهر في آخر الفيلم أنه أيضا من معجبي الفرقة الغنائية ذاتها سرا دون علم زوجته أو ابنته.

6- القصة تدعو لتحرر المراهقات من آخر القيود الأسرية وفصل احترام الوالدين عن تلبية رغباتهما وكأن هذه الرغبات تعود بالنفع الشخصي على الوالدين لا الأبناء. وهي ليست خيالية بالمجمل، بل مقتبسة عن حياة المخرجة وتعرضها في الصغر لبيئة ثقافية مختلفة عن البيئة التي ترعرعت بها والدتها وكيفية تعاملها مع مرحلة المراهقة.

7- أغفلت القصة تماما ارتباط بلوغ الفتاة بقدرتها على الإنجاب والمسؤولية المترتبة عليها في حفظ نفسها كي تكون أما صالحة. في حين ركز الفيلم على فرصة اختبار البنات لأحاسيس الأنوثة مع الفتيان بمجرد بلوغهن، والسعي وراء الحياة العابثة والحفلات تلبية لرغبات الجسد دون أدنى ذكر لمشاعر الأمومة. وهو ما يخلق وعيا عند الفتيات لتقبل فكرة الإجهاض بحجة عدم الجاهزية للأمومة كونها مرحلة متقدمة تتطلب التهيئة النفسية ولا علاقة لها بخصوبة الجسد. أي أن الجنس والإنجاب أمران منفصلان بحيث يمكن ربط الإنجاب بالزواج لكن لا يجوز تحديد العلاقة الجنسية بالزواج.

خلاصة قاسية

الفيلم يعرض موضوعا حساسًا يطرح لأول مرة بشكل جريء وموجه للأطفال كالعادة عبر شخصيات رسوم متحركة عادية المظهر قريبة منهم مع تعابير مضحكة للوجوه مبالغ بها لكي تترك انطباعا دائما لديهم. يتم ذلك في إطار ثقافي غريب عن الثقافة الإسلامية والعربية ويتعارض معها بشكل مباشر ولا يصح معه نقل أي فائدة مرجوة من مشاهدة الفيلم حتى ولو على سبيل التسلية. الفيلم يعتبر نقلة نوعية فيما تطرحه ديزني من ثقافة مشوهه يترتب عليها عند الأهالي مسؤولية كبيرة في الإشراف على مشاهدات أطفالهم وتوعيتهم ولو أن الأفضل تجنب عرض هذه الأفلام أساسًا.

هناك أمر ينبغي إضافته في هذا الإطار وهو وجود تقرير (خلف كواليس إنتاج هذا الفيلم) يظهر طاقم العمل الذي غلب عليه العنصر النسائي وتناول حياتهن الشخصية. مرة أخرى، بالكاد يظهر أي دور للرجال في هذا التقرير، بل أن إحدى أعضاء الفريق والمسؤولة عن التصوير السينمائي متزوجة من امرأة وهي أم لطفلين. المخرجة نفسها انتقدت سابقا سيطرة الرجال في بيكسار وتسعى لتمرير رسالة نسوية عبر أعمال فريقها مفادها أن النساء قادرات أيضا على التغيير. إذا من الطبيعي أن ينتج فريق نسائي عملا مثل هذا يوافق المثل التي يعشن عليها وليس غريبا بالكلية عن ثقافة مجتمعهن. لكن السؤال هو، لماذا يصلح أي عمل تفرزه مجموعة ضمن بيئة غربية أن يكون عملا عالميا يروج له كبقية الأفلام؟ ولماذا تدعم ديزني بقوة هذه النوعية من الأفلام التي يمكن تصنيفها على أنها تصنع وعيا مخالفا لبيئة الأطفال في غير المجتمع الأصلي؟

الكتاب بين النبذ والاكتفاء

كنت أسمع وأقرأ لأصحاب الوعي ومن زكوا نفوسهم فترقّيت في فهم الوحي ودوره في الإصلاح والتربية، حين يقررون أن كتاب الله يغني عن كل ما سواه، فيؤمن القلب أنه هذه الرؤية حق، ثم ألتفت فأجد من حولي ينقضون تلك الرؤية عملا وقولا، ولست بمعزل عنهم، فقدماي مبتلتان من ذلك السيل العارم يبتغي إزاحة الحق ليظل وحيدا بعيدا مطرودا من الساحة..

كانوا يسألون وكنت معهم أدير فكري إذا ما قيل دعوا الباطل وما شابهه وإن تزين ببعض الحق وبعض الجميل؛ فأتساءل ما البديل؟

حاجتنا إلى القرآن في زمن الترفيه

جال ذهني في بداية الأمر، أن الرسوم الكرتونية بأشكالها، المسلسلات والأفلام وغيرها من مواد الترفيه وشغل الوقت، قد ابتدعها من يحتاجها.. لقد كانوا فعلا في حاجة إلى ما يملأ فراغ قلوبهم، ربما تحمل قِيَمًا ما، تعّرف بثقافة ماضية، تذّكر بآداب منسية، وربما لشغل الفراغ الذي لابد أن يُشغل ويُقضى..

وتذكرت حين كنا ندَرس تلك الآداب والقصص الذي كان بدايتها من هناك، وكنا نحاول أن نثبت كعادتنا أننا لم نتأخر عنهم، فقد كانت لدينا المقامات والرسائل الأدبية وأدب الرحلات والسير والتراجم وهي من جنس القصة. لكن ذلك يبدو الآن على خلاف ما كانت عليه حقيقة الأمر.

لقد كان لدينا نحن ما يملأ ذلك الفراغ، ما لو حملناه في قلوبنا لامتلأت حقا، ولانشغلت بالشغل النافع والفكرة المضيئة والمتعة الراقية، كان لدينا ما يكفينا لو عشناه كما عايشه ذاك الرعيل الأول.

إن الإنسان الذي اقتضت الحياة أن يمضي باذلا جهدا أيا كان نوعه ليقيم به عيشه، وليكون جزءًا من الحركة الدائرة في الحياة، ولا بد للإنسان أن يبحث في نهاية يومه أو أسبوعه عما يريح عقله ويجم فؤاده، فيصنع لنفسه ألوانًا من الفنون تبهج قلبه المتعب والراكض أبدًا إلى متعة وراء أخرى..

وفى محاولات الفهم، بدا لي الوحي حاضرًا في مقابل ما كان قائما في الشعوب والثقافات، في مقابل اللهو والأساطير والغناء وما إلى ذلك.

لاريب أن القرآن كتاب هداية، لكنه كتاب أُنْسٍ كذلك بما فيه من قصص، وعلم وإشراقات وقرب. القرآن يدعوك أن تعود إليه إذا فرغت من شغلك فتنصب قدميك بين يدي الملك وتتلوه بحب وإخبات فيرتاح قلبك ويهنأ..

وليس المعنى هنا نفي ما هو مباح من ألوان الفنون، لكن القصد أن تتشبّع جنبات روحك أولا من ذلك النبع الرقراق، وأن تتضلع من مائه العذب فلا يأتي غيره إلا وقد نلت غذائك ونمت أوردة فكرك وتغذت بما يليق بها.

فإذا اطلعت على ما سواه بزينته وبهرجه الخالب للأعين والعقول، كان اطلاعك عليه محددا بقدر ذلك الفراغ اليسير الذي توجده بشريتك وتجول فيه حواسك الظاهرة، فما يقدر أن يصيب منك كثيرا. كما أن ما تستروح به النفس مما سوى الكتاب أدبا أو فنا أو ما دون ذلك لن يكون بعيدا عنه، ستجد النفس تقبل على ما تشبهه وما يتوافق معه وما لا يهدم الأساس الذي تبينه من خلاله، فما تركض قليلا وتتذوق من تلك الثمار التي علمت طيبها إلا وجدت نفسك تقبل من جديد على الحق متلهِّفًا نشِطًا.

القرآن هدايةً في قضايا الوجود

لقد كان الناس قبل القرآن يضعون تصورات خاصة لهم، يؤلفون أشعارا ويخترعون مقاييسا، ويقررون قيما وعادات وسننا يتبعونها، فنزل الكتاب ليعيدهم إلى الحق وإلى الرشد وإلى التصور الصحيح. جاء القرآن ليقدم لهم ما هم في حاجة شديدة إليه من تعريف بخالقهم وبما يجب عليهم في هذه رحلة الحياة القصيرة، وما الذي ينتظرهم بعدها، جاء القرآن ليضع برسالته الخاتمة الملامح العامة لكل قضية في الوجود. لذلك كان الكتاب حينها يجب ما كان قبله، تلقفه من آمن به موقنا أن فيه الكفاية وأن به الرشد وأنه العاصم من كل زيغ. وفى المقابل كان فريق الجاحدين يتواصون باللغو فيه وبإشغال الناس بالزيف والباطل والأساطير الملهية كي لا ينفذ إلى القلوب أثره ولا يمتد إليهم نوره وهداياته.

ولم ينشغل النبي صلى الله عليه وسلم بباطلهم، بل كان منشغلا بتلقي الوحي وتبليغه، وكذلك من حملوا بعده الرسالة، لم يتحيروا كيف يعرضون أنوار الكتاب لمن هو في شغل عنه، ولم يخلطوا ما فيه من حق ببعض الزينة المتكلفة لكي يقبل من يعجبهم اللهو والباطل. فقد كان إيمانهم أن الحق ناصع وأن أنواره تجذب إليه أصحاب الصدق والفهم يحجزهم عن الوقوع في ذلك الشرك الواقع في زماننا.

وليس أدل من أثر اتباع المبطلين وتلمس وسائلهم ومحاولة السير في ركابها من أن الحق يخفت أثره في القلوب حتى تكاد أن تأكلها الريبة أو أنها تتفلت وتأخذ من الكتاب ما تشاء وتدع ما تشاء، فإن الخطوة الواحدة تتبعها خطوات ومنازل حتى تنزلق الأقدام وتخالف الطريق. وإن النفس تألف ما عوّدتها عليه، فإن عُودت على اللهو وعلى التماس النفع والحكمة والراحة فيما هو معروض بجميل الألوان والأقوال مما ألّفه البشر وأنتجوه شرقا وغربا، ألِفت ذلك وصار أنسها ومتعتها الغالبة فيه، وصار الكتاب ثقيلا، ترى بينه وبينها بعد المشرقين.

ولقد كان القرآن يومئ إلى ذلك كثيرا ليفهم خاصيته تلك من يعملون العقول ويقدحون الفكر في معانيه فيكتفون به في سد فاقة القلوب القلقة المتوثبة، قبل أن يتطلعوا إلى المعروض هنا وهناك. فتراه يذم من أعرضوا عن الكتاب ممن أوتوه قبلنا، ثم يعرض بصورة صريحة المقابل لذلك، ويوضح مؤدى هذا الترك عليهم، لقد انشغلوا بغيره من الباطل! فلا يترك أحد الحق إعراضا ورغبة عنه وتفلتا مما يحمل المرء عليه إلا كان له بديل من الباطل يستقي منه ويخوض فيه:

﴿وَلَمَّا جَاۤءَهُمۡ رَسُولࣱ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَهُمۡ نَبَذَ فَرِیقࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ كَأَنَّهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ. وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتۡلُوا۟ ٱلشَّیَـٰطِینُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَیۡمَـٰنَۖ… ﴾[البقرة : ١٠١، ١٠٢]

القرآن أساسًا وطريقًا لبناء الذات

ولقد فهم الجيل الأول هذه المعادلة جيدا، فامتثلوها أحسن امتثال، فلم يخلطوا مع القرآن غيره في بنائهم الذاتي، حتى إذا ما استوى العود وشب قويا وكان له غذائه الدائم، ربما نظر هنا أو هناك ترويحا بلا تعلُّق أو وجد دائم يسمح باختراق الأساس المتين.

 ولو تصفحنا أوراق تاريخنا وتتبعنا ما جاء بعد جيل البناء من انحرافات هنا وهناك، وما تداخل من ثقافات أنتجت فرقا ومذاهب عقدية شتي أوغلت في البعد عن الأصل، لوجدنا أنها اغتذت في الأصل غذاء مختلطا، وأن بعضها ما اكتفى وما تضلع بالكلام الأعلى الذي يمد النفس بحاجاتها صغرت أو كبرت، فكان ما كان من بحث مضن لا تظفر منه النفس ولا الآخرين بشيء.

ستبقى للنفوس رغباتها في اللهو قليلا أو كثيرا، لكنها إن رُوضت على ألا تلهو قبل أن تأخذ حظها من ماء الحياة ومن طيبات المعاني وجميل اللفظ والكلام، وألا يكون ما تتروح به مما يسقط النفس ويودى بها، فسيبقى أثر اللهو محدودا تغسله مرة بعد مرة تلك الغدوات التي لا تنقطع إلا بانقطاع الوريد، فهنيئا لمن رام خير النفس فروّضها لما فيه فلاحها وطمأنينتها الحقة.

وسائل الاعلام والتفكيكية من الواحدية إلى السيولة.. الدراما لتشويه الدين!

إن المستقرئ لفكرة الدكتور عبد الوهاب المسيري في تفكيك الإنسان وإعادة صياغته في المنظومة الحداثية، سيرى أنه يمكن تعميمها على الكثير من الظواهر الأخرى التي جدّت على المجتمع، مثل تعميم فكرة التفكيكية الواضحة في وسائل الإعلام، على مختلف ظواهر الإنسان، ودينه حتى، حيث إنها تقوم بوعي منها أو بدون وعي بتفكيك الإنسان، وتدفعه لينتقل من سياق “الواحدية” والإيمان بالله، إلى السيولة والنسبية التامة، لتصل به ختامًا إلى ضياع المركزية، ونزعه من روحه ودينه مرة تلو الأخرى.

في الغالب فإن ذلك يكون من خلال الدراما ليصل به إما إلى إنسان مسلم لكنه يرفض بعض النصوص والثوابت وبذلك يكون دينه ناقصًا، أو يكون التفكيك أعمق ليصل به إلى الإلحاد وإنكار الله كليَّةً، فيأتي عمل ينقد قضية من الثوابت الدينية كالحجاب، وعمل آخر يشوه شكل رجل الدين وعمل غيره يظهر الدين بأنه محض تشدّد، وغيرها الكثير، حتى يجد الفرد ينقض هذا ويرفض هذا ويتعارض مع هذا وينفر من الشخص الملتزم، ليجد نفسه في الهاوية ممحوَّ الديانة والهوية، ويصبح محضَ كائن لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، كما أنها تربي لديه فكرة التجرؤ على الدين والطعن في الأحاديث والأحكام الشرعية والفتاوى أو رفض أمر من أوامر الله، فالدراما تتسلّل إلى عقول الجمهور لبرمجتها عن طريق دس السم في العسل فيتم التركيز على ما يشكك المرء في دينه ما هي إلا رسائل يراد تمريرها ثم ترسيخها في المجتمعات لإعادة صياغة تعريف الإنسان في عهود ما بعد الحداثة، وذلك مثل تناول قضايا المرأة بشكل رافض لتعاليم الدين وأحكامه وهذا له دور كبير في دعم آراء الملحدات ونشر أفكارهم وترسيخها في عقول الجمهور من الفتيات والنساء.

أمثلة ونماذج

من المهم إعطاء بعض الأمثلة الواضحة حول هذه النوعية من الدراما، كما هو الحال في مسلسل (فاتن أمل حربي) الذي عُرض في رمضان، وهدفه مناقشة قانون الأحوال الشخصية ويفتح ملفات قضايا المرأة المطلقة، ولكنها جميعها تأتي -للمفارقة- من وجهة نظر كاتبه الذي جسّد فيه كل أفكاره التي يؤمن بها، وذلك واضح في المسلسل بشكل عام ففي أحد المشاهد ترفض بطلة المسلسل سقوط حضانة الأم بعد زواجها، بالرغم من وجود نصّ نبوي صحيح حكَم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بسقوط الحضانة عن المطلّقة حال زواجها من أجنبي.

يدور المشهد حول أن بطلة المسلسل تذهب لدار الفتوى بالأزهر لتجد شيخًا -أي الممثل للدين- يتم تجسيده في المسلسل على أنه مجرد امرئ عاجز عن شرح علّة فقهية محل إجماع وفيها نص شرعي، وتظهر فاتن المعترضة على سقوط حضانة المطلقة على ولدها بأنها ذات الحجة الناصعة والدليل القاهر، فتثبت ببضع كلمات أنه لا يوجد في الدين ما يبيح سقوط حضانة المطلقة لولدها بمجرد زواجها من أجنبي “فربنا رحيم”، وهنا يقف الشيخ مصدومًا مرتبكًا، ولا يستطيع الردّ عليها غير قوله إن هذا “كلام الفقهاء”، وكأن الفقهاء هم الذين ألفوا الدين على مقاساتهم الخاصة أو مزاجهم البشري، ولا يوجد عندهم مرجع من نص شرعي أو علم أو دراية بالأحكام الربانية.

المؤسف أن هذا الشيخ مهزوز الثقة هو الذي يراجع نفسه لكى يستطيع التحايل على الدين وتحريفها وتعطيلها لخدمة تصور مدام فاتن عن الرحمة الإلهية، وفي مشهد آخر تحاول أن تبرر لزوجها سبب جحودها بفريضة الحجاب بل وتتطاول عليه قائلة له “أنت محتاج دكتور نفسي”، فهو بحاجة للعلاج لأنه طلب منها ارتداء الحجاب الذي فرضه الله، وهي بذلك تحاول أن تقنع الجمهور أن الحجاب محض عادة وليس فرضًا إلهيًّا.

دراما تفكيك الدين

مثل هذا العمل كيف تنظر له المرأة المطلقة التي لا علم لها بالإسلام ولم تتلقَّ معلوماتها عن الحياة إلا من وسائل الإعلام والتواصل المميعة للدين، خاصة تلك التي تريد أن تأخذ أبناءها إلى حضانتها، سوف تثور على الدين وترى أن نظرة المؤلف صحيحة، وأنه لابد من تغير هذه الاحكام للتوافق معها، دون النظر إلى فائدة هذا الحكم والحكمة من ورائه، فهي أم مغيبة عن سياق الفقه وعوامله وتعقيداته، وقبل كل ذلك فإن العاطفة تغلب عليها.

يقوم هذا العمل الدرامي وغيره بمحاولة خلخلة الإيمان داخل عدة فئات أصبحت غير قليلة في المجتمع وهي المرأة المطلقة، وخلخلة الإيمان عند بعض المحجبات اللاتي يتأثرن بالدراما ومن ناحية أخرى ليس لديهن مناعة فكرية دينية.

إن توظيف التفكيكية في الإعلام يستمر، حيث يتم هناك أعمال كثيرة أخرى تناقش قضايا مختلفة فتضم فئة أخرى وهكذا من فئة لأخرى ومن قضية لأخرى حتى يصل إفسادها لكل فئات المجتمع وتغطي كل القضايا التي تفسد العقول، ليصبح الإنسان مفككًا في دينه ومشاعره من الداخل، فليس لديه ثابت يستند إليه، بل تغيّر شكل التفكير فالتغيُّر والسيولة هو الثابت الوحيد في المسألة وهذه من أخطر الأفكار التي يمحى على إثرها معايير ومبادئ وثوابت دينية متعارف عليها منذ تاريخ البشرية وحتى عصر الحداثة، في محاولة لتشكيل مفاهيم مختلفة تماما تهدف إلى تفكيك الإنسان وتحليله ثم إعادة تركيبة من جديد بتعريف مختلف ومهام مختلفة، وهكذا يصبح الأغلبية بلا مبدأ أو ملامح ثابتة، وتزول القناعة بالأحكام والثوابت الدينية.