image_print

قراءة في كتاب هيروشيما

في عام 1945 بالتحديد فيما كان يسمى بالإمبراطورية اليابانية، استقبلت البشرية جمعاء حدثًا مروعًا لم يسبق له مثيل، وذلك في خضم الحرب العالمية الثانية بين الحلف الأمريكي والحلف الألماني، وهذا الأخير انهزم في حربه مع عدوه، مما جعله يترك باقي حلفائه يخوضون غمار حرب ضروس كانت نهايتها بين دولة العم سام -الأمريكان- وفرسان النينجا -اليابان- التي أرادت أن تستسلم في نهاية الحرب لكن مع شرط عدم تعرض -الأمريكان- للإمبراطور الياباني خشية منهم في أن يحاكم كمجرم حرب بعد وضع السلاح وإعلان الاستسلام، هذا الأمر الذي لم يقبل به شرطي العالم أنداك فلم يكن يقبل أن بوضع أي شرط في حالة الاستسلام من قبل اليابانيين، وهو ما أدى على حد قول الرواية الأمريكية إلى ضرب مدينتي “هيروشيما” و “ناغازاكي”، بالقنبلة الذرية، وكانت هيروشيما المدينة الوحيدة التي لم تتعرض للقصف بطائرة B-29 Superfortresses -أطلق السكان المحليون على هذه الطائرات B-san أو السيد متوتر- .

قصة الكتاب

كتب جون هرسي في كتابه “هيروشيما حكايا ستة ناجين من كارثة القنبلة الذرية” نقلا عن أحاديث سكان هيروشيما أن كانت هناك شائعة مفادها أن الأمريكيين كانوا يحضرون شيئًا مميزًا للمدينة، وقد نقل الشيخ عبد الله العجيري العديد من الأقوال لوزراء وجنرالات في عدم تقبلهم فكرة إلقاء القنبلة الذرية، كالذي ينقله على سبيل المثال لا الحصر عن الجنرال -دوايت إيزنهاور- في تصريح له للوزير الأمريكي الذي أخبره بأن قرار ضرب المدينة بالقنبلة الذرية قد تم إصداره، يقول فيه -بتصرف- “لا داعي لذلك، لأن اليابانيين مستعدين فعلا للاستسلام. إنني أكره لبلدي أن يكون هو السبّاق لاستعمال مثل هذا السلاح”.

بعد عرضه لهذه الأقوال يعرج -الشيخ عبد الله العجيري- ويقول في سبب ضرب المدينة بالقنبلة الذرية من طرف الأمريكان: “الأمر أشبه بلعبة في يد طفل شقي، وكان يخشى أن يحرم من اللعب بها مستقبلًا، وكان مصرَّا على تجربتها، فكان له ذلك، ليس مرة، بل مرتين، ولو لم يعلن الإمبراطور بنفسه خطاب الاستسلام من إذاعات المحطات اليابانية لاستمر اللعب ثالثة، ورابعة، وخامسة”.

رواية “هيروشيما” من تأليف الكاتب جون هرسي وترجمة الشيخ عبد الله العجيري، صدرت عن مركز تكوين سنة 2019 الطبعة الثانية، تقع الرواية في 290 صفحة، تتألف الرواية من خمس فصول، بدايتها بمقدمة من المترجم -الشيخ عبد الله العجيري- في حدود 40 صفحة، ونهايتها تقدم نبذة مختصرة هي للتشويق أكثر من أن تكون تلك النبذة التي تلخص ما جاء في الكتاب.

يتناول الكتاب حكاية ست ناجين عاينوا وعاشوا أهوال القنبلة الذرية، ويصور الكتاب حالهم وحال من شاهد ذلك الانفجار العظيم بطريقة تظهر مدى الوحشية التي تعرض لها سكان مدينة هيروشيما، يقول -الشيخ عبد الله العجيري- عن الكتاب “يكشف للقارئ على المستوى الإنساني، حجم الكارثة التي وقعت، وعن طبيعة الإجرام الذي تم على نحو قريب ودقيق، وينكشف من خلاله فظاعة ما يمكن أن تنحدر إليه الحضارة المهيمنة على عالمنا اليوم”.

انفجار القنبلة الذرية

فحوى الكتاب

الكتاب يحاول أن ينقل للقارئ تصور يقارب الحقيقة للأحداث الفظيعة التي تعرض لها الشعب الياباني من خلال حكايات هؤلاء الناجين الست وذلك من خلال تقديم هذه الشهادات والقصص المروية في قالب أدبي يصل إلى كل قلب ينبض بالحياة. يصور الكاتب في كتابه الهلع الذي تعرض له الشعب الياباني من خلال حكايات هؤلاء الأشخاص، وعلى العموم فإن مراجعة الكتاب حسب رأيي قد قدم لها الشيخ عبد الله العجيري في مقدمة الكتاب وقد أحسن في مراجعته التي ضمنها في مقدمته، والقارئ الممتاز يدرك أن المقدمة عبارة عن مراجعة المترجم للكتاب الذي ينوي ترجمته.

شخصيات الكتاب وهم الشخصيات الست التي نجت من الانفجار، وهم: الطبيبان فوجي مازاكاو وتيروفومي ساساكي، وزير بروتستانتي كيوشي تانيموتو، والخياطة الأرملة هاتسويو ناكامورا، وعاملة مصنع في العشرينيات ساساكي دومينيك، وكاهن كاثوليكي ألماني ماكوتو تاكاكورا. تتوزع عليهم الأدوار حسب فترات زمنية مختلفة من الصباح قبل حدوث الانفجار إلى وظهور الوميض الساطع ثم وقائع ما بعد الانفجار الذري وحالة التي عاشتها كل شخصية من الشخصيات.

قبل أن أتعرض لبعض الأحداث الخاصة بالكتاب، يجب أن أقول إن اللغة الأدبية للمترجم في غاية الأناقة، لغة أدبية قدمت لمسة جديدة لهذا العمل والذي أزعم أن نسخته العربية أقوى من جميع النسخ والله أعلم، وذلك لعدة اعتبارات أولا أنه ترجم إلى اللغة العربية التي لا أحتاج أن أعبر عن قيمتها بين باقي اللغات، ثانيا أن الشيخ -عبد الله العجيري- الذي ترجمها قلمه الأدبي أحسن نقل مشاعر الشخصيات من خلال عباراته التي أعطت لهذه النسخة العربية الأسبقية في الامتياز.

عبد الله العجيري (على اليمين)، جون هرسي (على اليسار)

البرق الصامت

في الفصل الثاني، وتحت عنوان الحريق وبعد فض الحديث عن فصل البرق الصامت، ينقل الكتاب أحوال الشخصيات بعد الانفجار والصدمة التي أصابتهم تلقاء هذا الانفجار المرعب، تصور لنا إحدى مشاهد الكتاب فظائع ما حصل، “كانت السيدة هاتسويو ناكامورا تكافح من أجل تحرير نفسها من تحت أنقاض منزلها المنهار بعد الانفجار، كانت تستطيع رؤية طفلتها ميكو أصغر أطفالها الثلاث مدفونة حتى صدرها وغير قادرة على الحركة”، مشهد يدمي العين.. كيف لا والأم التي لم تستوعب بعد ما حدث من هول الانفجار تشاهد أبناءها تحت الأنقاض.

يصور الفصل أيضًا انقلاب حال الشخصيات من العيش في ذلك الصباح الهادئ الذي يتلاحم فيه الشعب الصامد إلى مقارعة الأهوال والحرائق المميتة التي تأتي على الأخضر واليابس، أهوال جعلتهم يتركون أشخاص من دوي معرفتهم تحت الأنقاض ليلقوا مصرعهم متفحمين من ألسنة اللهب.

فصل يصور الهلع الرهيب الذي أصاب سكان مدينة هيروشيما مما جعلهم يخرجون شائعات بسبب قطرات ماء تساقطت عليهم كانت مصدر قلق مفادها “أن طائرة -أمريكيا- واحدة قامت برش البنزين في أنحاء المدينة، ثم وبطريقة ما تشعل ذلك البنزين في لحظة خاطفة”، لكن في الحقيقة ما هي إلا تساقطات أمطار عادية.

نأخذ الفصول التالية بمجموعها ونقول إن وقع الانفجار لم يخلف فقط مصابين وموتى في تلك اللحظة بل خلف خسائر لا يمكن تعويضها وإن أرادت أمريكا تعويضها، فالذي يريد أن يعوض الأشخاص لن يعوض البلاد عن ذلك الإرث الحضاري المفقود الذي يدل على هوية البلد وتاريخها، لن يعوضها المال التاريخ الذي تم مسحه من خارطة العالم في لمحة من البصر.

فيما بعد الكارثة ينقل الكتاب تعرض الأشخاص الذين نجوا من الانفجار إلى الإقصاء والتهميش بحيث تمت تسميتهم -بالهيبكوشا- عوض تسميتهم بالناجين، وذلك في محاولة لتمييزهم عن غيرهم، مما أدى إلى اضطهادهم اجتماعيا واقتصاديًّا”

وعلى الجملة فإن عرض كل القضايا التي ناقشها الكتاب شيء ممتع لكن يطول الأمر في نقل كل ذلك، والمغزى من هذه الكتابة أن يقبل القراء على قراءة هذا الكتاب، نظرا لأهميته في التعاطي للعديد من الأبواب من أهمها بالنسبة لي بيان وحشية الغرب الذي ينادي بحقوق الإنسان ويفرض عقوبات على الدول التي لا تريد أن ترضخ إليه من بوابة الحقوق، التذكير بأن الإسلام لم يأتي لقوم خاصة وإنما جاء للإنسانية جمعاء وهذا يجب أن يشحذ همتنا في الدعوة إلى الله وإعلاء كلمة التوحيد التي بفضلها ننشر العدل ونقضي على الظلم، وعدم الاغترار بالمفاهيم الغربية ومعرفة أن كل مفاهيمهم المنمقة حبر على ورق.

في ظلال الفكر التجديدي.. قراءة في كتاب “روح الدين”

نسج الفيلسوف والمفكر د. طه عبد الرحمن خيوطاً تتساوق مع مفهوم الإنسان بين التمذهب القديم والمذهب الجديد، فعبر عنه بأنه ذلك الموجود الذي ينسى أنه ينسى، وبسبب نسيانه أضحت الأمور لديه تجري على عكس ما جرت عليه العادة، فالذي كان خيراً عند أسلافه أصبح شراً لديه، وما كان باطلاً مسلماً ببطلانه أصبـح حقاً يأخذ به وينافح عنه وهو ما يؤكد آفة نسيانه لحقيقة وجوده، وهذا ما ولّد للفيلسوف طـه عبد الرحمن مفهوم الإنسان الأفقي “المادي= العلماني“.

شرح د. طه هذا المفهوم بأن الإنسان الأفقي لا يذكر إلا ما يراه بصـره، مما جعلـه يجحد فضل ونعم خالقه عليه الأمر الذي وصل به إلا حد القول بتعارض الدين والسياسية، على اعتبار أن الأول فيه خضوع وخنوع والثاني فيه من السيادة والقيادة ما يحرره من أغلال الدين. هذا الأمر الذي يعد من المسلمات لدى الإنسان العمودي “الذي يرى ما لا يراه بصره وتراه بصيرته، حتى إذا دبّر كان عابداً وإذا عبد كان مدبراً”، فهو يرى أنه مسخـر ومستخلف فــي الأرض وكل عمل فيه إخلاص لله عز وجل فهو عبادة بالنسبة له وإن كان في السياسة.

نهج التمييع وقلب الحقائق

سعى العلمانيون والحداثيون إلى تزييف الحقائق علـى الصعيد المنهجي حسب د. طه وقد ابتدعوا في ذلك مبدأ يقوم على التناقض والتضاد بين الدين والسياسية، فاعتبروا أن العلاقة لا تخرج عن هذين الأصلين، ولأجل ترسيخ هذه الأباطيل في أذهان وعقول الباحثين والمصلحين، سخروا إمكانياتهم في سبيل ارتقاء واعتلاء العلمانية رتبة الحقائق المسلمة التي لا تقبل الشك أو النقد، على اعتبار أنها مشترك إنساني تجتمع حوله كل الشعوب، وقد لاقى هذا السعي صدىً كبير واستقبلته آذان مصغية من المتمردين على الدين وبعض دعاته -للأسف- الذين سلموا بهذا “القطع اليقيني” واعتبروا أن العلاقـة القائمة بين الدين والسياسة علاقة لا تخرج عن “تقابل تضاد أو تقابل تناقض”.

قاد هذا إلى إعطاء السياسيين حق التدبير والتصرف في أمور الدنيا وشؤون أهلها “بأحكام تصادق عليها الشعوب” من غير أن تتدخل أحكام الدين في الأحكام الوضعية التي استأثر بحق وضعها الحداثيون والسياسيون.
إن الإنسان حسب طه عبد الرحمن كائن “محاط بالغيب” وقبل أن ذاته فيما هو محسوس كانت في عالم “الروح” وحينما لم تنحصر رؤيته فــي ” البصر” بل ارتقت إلى عالم البصيرة، كان بصره حياة له في العالم المرئي، وبصيرته حياة تربطه بعالم الغيب، وإدراكه لهذه الحقائق يقوده إلى الإيمان بخاصية التكامل بين ما هو ديني ودنيوي.

الإنسان الأفقي

إن الإنسان الأفقي “العلماني-مادي” حسب منظور طه عبد الرحمن، حينما يصعب عليه نقل كمالات العالم الغيبي إلى العالم المرئي، يشتغل في سرقة الخصائص الغيبية إلى عالم الشهادة أو العالم المرئي مع تستره في نقلها وعدم ذكره من أين أتى بها.

أدت هذه السرقة “العلمانية” إلى إسقاط خصائص العالم الغيبي على “العالم المرئي”، فأصبح لفظ “الملك” وهو صفة غيبية لعالم الغيب، تنقلب حسب مفهوم العلماني إلى صفة استعباد لأهل الأرض، متوهماً في ذلك أن استيلائه على العالم المرئي كبسط الإله سلطانه على العالم الغيبي.

وعليه فإن الإنسان عند طه عبد الرحمن لا يمكن أن يحيا إلا في عالم واحد هو العالم الذي بين يديه، وإن اجتهد وحاول أن يتمرد على هذه الحقيقة وينتقل إلى عالم آخر كان اعتلاؤه اعتلاء مقارنة لا مفارقة.

بين عالم الروح والمادة

لا يقتصر الأمر على هذه المفاهيم التي أشار إليها طه عبد الرحمن، ولا تنتهي عند هذا الحد إنما تتفرع عنها مفاهيم مركزية أخرى ترسم وتحدد المعالم الكبرى لهوية الإنسان حسب منظوره، ومن أجل إبراز هذه الفوارق الجوهرية حدد طه عبد الرحمن نمطين يؤصل من خلالهما مفهومي الوجود والحياة، نمط أطلق عليه الكاتب لفظ “الانوجاد” -من فعل انوجَد-، الذي يحدد العلاقة القائمة بين الروح أو “ما وراء الحس” والجسد الذي يحيا في عالم الحياة “العالم الحسي”، على اعتبار أن أحدهما يكمل الطرف الآخر ويضفي عليه خاصية يتحدد بها العالم المرئي.

النمط الثاني مفهوم “التواجد” لربما وجد البعض أنه يندمج مفاهيميًّا مع مفهوم “الانوجاد” على اعتبار أصل الكلمة في قواميس اللغة، لكن “التواجد” مركب تجريدي ينفك بالروح عن عالم الأجسام والأبصار إلى عالم البصيرة والعقائد المجردة.

تفيد هذه الأنماط الإنسان في أن يحيا الحياتين في الآن نفسه، عالم الروح وعالم الأجسام، وعلى أن يكون موجودًا في العالم المرئي وغير المرئي، إلا أن وصول الروح إلى عوالم الغيب يحتاج جهدا كبيرا وزخما عاليا ليرتقي العبد بنفسه وروحه إلى منزلة الصديقية، ويعرج إلى مدارج العلماء السالكين الذين هم ورثة الأنبياء وهذه المرتبة لا ينالها إلا عبد عارف بالله، ومن هنا حدد طه عبد الرحمن أنماط الوجود الذي يرى أنه فاعل سياسي وفاعل ديني.

الفاعل السياسي الذي يرفض -برأيه- كل ما هو ديني، وبالنظر إلى طبيعة الحياة السياسية التي عاش فيها الكاتب يبرز جليا للقارئ مدى صحة نظرية طه عبد الرحمن. هذا الفاعل السياسي يدعو إلى فصل الدين عن السياسة على اعتبار أنها جاءت في فترة كانت الضرورة تلح على وجود قانون تشريعي إنساني يضبط شؤون الإنسان في العالم المرئي الذي هو مدار الأمر الذي تدور عليه السياسة.

إلا أن الكاتب يرى أن الفاعل السياسي بسبب سرقته للخصائص الغيبية وحملها على الخصائص التي يتصف بها العالم المرئي أصبح متناقضا في نفسه يدعي الملك والملك لله، وينزل اسم العزيز على صنم العزى ليكون نفعا دنيويا يوازي بين الربح النفسي والربح المادي، وغيرها من تنزيل وسرقة اسم الله واطلاقه على صنم اللات، واسم المنان وحمله على مناة.

سرقة الفاعل السياسي لهذه الخصائص الغيبية وحملها على الخصائص الدنيوية جعله يزاوج بين عالم الأبصار وعالم البصيرة، تحت العديد من المسميات والمناصب الدنيوية “السيادة/ السيطرة على الحكم الإنساني”، “الملك/ ضبط مسار التاريخ ومآله”. بالمقابل نجد أن الفاعل الديني يستقر على عالم الغيب ويعتبره منطلق لكل شؤونه وقضاياه الدينية والدنيوية، ويتجلى هذا -برأيه- في كون اشتغال الفاعل الديني أكثر شمولية من الفاعل السياسي، لأنه ينفتح على العالم المرئي والغيبي قولًا وفعلًا، وهو كما يقول الكاتب “تنزيل للمثال الغيبي على الواقع المرئي”.

ومن ذلك يصل طه عبد الرحمن في هذه المقاربة التي أجراها على “الفاعل السياسي والديني/ العالم المرئي والعالم الغيبي”، إلى أن الدين والسياسة منهجان أصلهما واحد ويصبان في نبع تدبير الحياة الإنسانية لتوفق بين عالم المادة الذي يعد وسيلة للوصول إلى العالم الغيبي، والذي يربط بين هادين الأصلين “عالم الغيب وعالم الأجسام” الفطرة التي هي أقوى من الذاكرة التي خص بها الخالق عز وجل الإنسان.

يخلص الكاتب ويؤكد على حقيقتين، الأولى أن استحضار الغيب في الحياة العملية يفضي بالإنسان إلى حقيقة وجود ذات عليا لا يماثلها شيء هي من تستحق العبادة وهي المنفردة بالخلق.

الحقيقة الثانية: أن استحضار العمل بالتشريعات الدينية يوسع من نطاق العلم وهكذا فإن الاشتغال بالعمل الديني يفتح آفاق لا يدركها العقل من الوهلة الأولى.

التسامح .. من الرحمة إلى التباهي بالميوعة

نستقي من هذه الحقائق أن طه عبد الرحمن يرى أن التسامح الديني الذي طالته الألسنة وتناولته أقلام الباحثين ابتعد عن نبعه، حيث يرى -طه- أن المفهوم الذي أصبحت العقول تتبنّاه هو مفهوم التسامح الأفقي، بمعنى آخر لا وجود للتسامح إلا إذا حضر نوع من الاستعلاء والفوقية من طرف المتسامح، وحسب -طه- فإن تجاوز هذا الفهم الخاطئ لا يمكن أن يكون إلا بطريقة واحدة وهي مبدأ المعاملة بالمثل، هذا المبدئ الذي يرى أن على المتدينين استحضاره وتبنّيه من أجل تضييق دائرة الخلاف بين جميع الأطراف بغض النظر عن هويته، وهذه هي حقيقة الدين لكن انحراف الفهم وتدليس المفاهيم هي من ولدت كل هذه الصراعات، بالنسبة -لطه- ما دام الشخص لم يجبرك على اعتقاد دينه، ولم يحارب دينك، ومادام لا يضرك باعتقاده فله أن يعتقد ما يشاء، وبالتأكيد فإن هذا موضوع موسع ولا يمكن أن نحصره في كلام مجمل كهذا.

يمكن أن نقول إن الكاتب يرى أن الإنسان يمكن أن يُحَصل مبدأ التكامل الديني من بوابة المعاملة بالمثل، بدلا من التسامح الذي يرى أنه يميل إلى صفة الاستعلاء والفوقية.

بالعودة إلى سرقة الفاعل السياسي للخصائص الغيبية، نجد أن الكائن الإنساني يتميز بخاصية الاستقلالية أو حب الذات أو كما يطلق عليها في علم النفس (الأنا)، التي تجعله يتجرد من كل شيء يربطه بغيره ويسعى بذلك إلى ممارسة السيادة الشخصية على كل ما يحيط به انطلاقا من تلك الخصائص الغيبية، وعندما كانت الغاية تحقيق هذه المعاني في العالم المرئي أصبحت غايته تغيب هذه المعاني الغيبية الروحية، وتبنّي سلطة الحكم المطلق والملك الأوحد الذي يرعى كل ما يدور في العالم بحيث يكون تحت سلطته، وبهذا فإنه يسعى إلى التسيّد ما قد يجعله يدعي الألوهية في نهاية المطاف ومثال ذلك ما فعله فرعون والنمرود، حيث تصرّف كل منهما تصرُّفَ المالك في ملكيته، متشبهين في ذلك بالإله فاطر السماوات والأرض.

هذا يدفع الخائف “الرعية/الشعب” إلى الفرار من المتسيد والفرار إلى الله وهذا الفرار يجعله يخشى من له المُلك يوم الدين، ويسعى في عبادته وطاعته والخضوع له وفق أسمائه وصفاته التي سرقها المتسيد ونسبها إلى نفسه.

الديمقراطية .. نظام تنوّع أم تخويف؟

إذا أخذنا كلام الكاتب وأمعنّا النظر فيه نخلص إلى أن النظام الديمقراطي حصل له فراغ جعله يتبنّى سياسة الخوف والتخويف وسيلةً للتدبير السياسي على كل المستويات، ويجتاح الخوف الشعب والمسيطر معًا، وهذا بسبب فقدان السيطرة وانعدام الحق والحكم بالعدل، والقول بالخوف هو من كلا الطرفين فلو لم يكن الأول خائف لما مارس سياسة التخويف ضد غيره، وحقيقة معرفته بأن سياسة التخويف هي الحل لبقائه في عرش الحكم تجعله يفرط في استخدامها، وكلما أفرط في استخدام القوة والجبروت والملكوت تسيّد وساد على من يحيطون به، وانقاد له مسوّدوه وأطاعوه وخافوا منه ومن ملكه كما أن خوفهم يكون خوف فقده وذهاب هيبته.

وفي محاولة منه -طه عبد الرحمن- لتجاوز هذا الوضع وإيجاد مخرج من غير هذه السيادة الإنسانية المتعجرفة التي تسيطر بالمفاهيم الغيبية، رأى أن العمل بالتزكية الحل الأنسب للحد من هذه العجرفة والتسلط الإنساني.

السعي لنقاء الروح

يعرض لنا طه مفهومه عن التزكية وتنقية الروح، فهي حسب الكاتب معرفة خصائص النفس لتستعيد وعيها الروحي الذي تختص به، وعند تعرُّف الروح على المعاني الغيبية التي تزاوج بين الخصائص الغيبية والخصائص المرئية، تستطيع أن تدرك حقيقة التزكية.

بنى طه عبد الرحمن فرضيته على مجموعة من النصوص الشرعية، مثل قوله {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۝ قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [سورة الشمس: 6 -10].

وقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب: 72]، وقوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172].

ويقدم في هذا الإطار رأيه في ضوابط تحقق التزكية، الأول منها: أن المقصود به التزكية الروحية، والثاني حفظ الأمانة، والثالث تمتع الإنسان بحرية الاختيار في حمل الأمانة وفي عمله بها وتصريف نفسه لسعي في تحقق معانيها.

خلاصة القول

على كل حال، إن الحديث عن الكتاب وكل ما جاء فيه وقراءة ما بين دفتيه لا يتسع عرضه في مثل هذا المقال، وقد حاولت الإيجاز واختصار الكلام بما هو لائق بفهمي وفهم الصديق القارئ، ورأيت أن أسوق هنا عبارات لها ارتباط لصيق بالتزكية.

تتحقق تزكية الفكر من خلال التوحيد الذي ينهج رؤية تسدد الوجهة ،ليتحرر عقل المتلقي من كل الأغلال التي تعوقه وتكبله وهذا بالفعل ما أحدثه القرآن الكريم في عقل المسلم لإعادة صياغته وتشكيله من خلال النظرة الاعتقادية التي تذهب بالإنسان إلى حد التخلص من جميع الأغلال و السلاسل والاقبال على الخالق الذي لا تتحقق حرية الانسان إلا به، فالرسول ﷺ حينما جاء بدعوته إلى قريش وسائر البشر أراد بذلك تبليغ الدعوة التي تهدف إلى اخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

يقول الطاهر ابن عاشور:” إن إصلاح التفكير من أهم ما قصدته الشريعة الإسلامية في إقامة نظام الاجتماع من طريق صلاح الأفراد، وبهذا نفهم وجه اهتمام القرآن باستدعاء العقول للنظر والتذكر والتعقل والعلم والاعتبار”.

إن العقيدة أساس التفكير وهي التي تسمو بالإنسان نحو ملكوت السماوات ومن أجل تأسيس عقل صحيح لا بد من تربية صحيحة والتربية الصحيحة هي التربية التكوينية التي تنتج عقلا علميا وشخصا منهجيا عكس التربية التلقينية، ولتحقيق هذا الهدف لا بد من العودة إلى كتاب الله تدبرا وتعلما وتزكية.

ولا تقل تزكية الوجدان أهمية عن تزكية الفكر إذ بها يحصل الإخلاص في العبادة والعمل ومن خلالها يسمو الإنسان ويشعر بالأمان والطمأنينة في الحياة وبها ينمي العبد الشعور بالذات ويثمر بالتالي الإيمان بالنفس الذي هو مفتاح التوازن في الشخصية، وحاجة الإنسان إلى تزكية الوجدان أشد من حاجته إلى الأكل والشرب فالذي يحيى قلبه يسمو عن هذه الملذات الزائلة، ذلك أن تحرير النفس تتم بعد تحرير الوجدان. فالهدف من تزكية الوجدان ليس تدوين الفوائد وتقييدها في الكراسات والمذكرات، وإنما يراد بها تغيير نمط العيش والتفكير والتحرر من الأغلال وتنمية الوازع الديني وأن يحصل الأثر ويتجلى في الواقع.

لا اعتبار للإيمان الذي لا يثمر فعالية وإيجابية وهذه هي الغاية من تزكية السلوك إذ إن القصد من وجود الإنسان هو الإنتاج والعمل وفق رؤية نسقية متزنة تقوده إلى بر الأمان والعبد الذي تشرب من دينه والمفاهيم الشرعية التي أتى بها لا يستطيع الجلوس في مكانه دون تقديم الإضافة للأمة والإنسانية جمعاء، فالفطرة التي فطر الله الناس عليها لا يمكن أن تقودهم إلى غير هذه الطريق، ولن تجد حضارة عبر العصور وصلت إلى الرقي الحضاري من دون وجود هذا المقصد الكوني والحرص عليه من قبلها.

قراءة في كتاب “حواراتي مع القرآن”

في مستهل هذا العمل المبدع الذي يقدم تصورًا جديدًا، أو إن صح القول: يقدم مادة علمية جديدة في محاولة لتدبر كتاب الله عز وجل، يبين المؤلف في مقدمة كتابه أن الكتابة في هذا الموضوع، أي تدبر القرآن الكريم، قد جفت في سبيلها أقلام الكتّاب على مر العصور، وذلك في محاولة لإخراج الدرر من بحر كلماته، إلا أن معانيه لا تنقضي وعباراته لا تكتفي بالتفسير الواحد، بل تتعداه إلى تفاسير يفتح الله على مفسر دون آخر ليعلمه ما خفي عمن سبقوه، ليقول -أحمد دعدوش- متسائلا فكيف لا نطمع في انقداح قبسات جديدة لعقولنا من هذا الوحي الذي لا تنقضي عجائبه؟.

تيارات شتّى

يستشكل الأستاذ أحمد دعدوش ويقول في معنى التدبر، “التدبر لا يستلزم البحث عن تفسير حداثي لكلمات الله، والتأمل ليس ضربا من شطحات التصوف التي تفرح بالترميز والتشفير”، على نحو يتيح المجال للحديث عن تأويل الخطاب القرآني من طرف المبغضين والمنشغلين في لي أعناق النصوص القُرآنية وتحريف معانيها وحملها على معنى يتناسب مع تياراتها الفكرية، فهذا الاشتراكي يعتبر النص القرآني خطاب ثوري، والليبرالي يعطيه بُعدًا تأويليًّا آخر يتناسب مع توجهاته.

تدبر القرآن الكريم له آليات متعددة، وكُلٌّ يستقي من نبعه حسب فهمه، بأدوات تتسم بنوع من التوسل والتضرع لله سبحانه وتعالى، رجاء فهم مكنونات كلامه الذي أنزله منجّمًا على رسوله صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين.

آليات تدبر القرآن الكريم

إن السؤال عن كيفية تدبر الإنسان لكلام ربه ينقدح في قلب جل الشباب المتدين في هذا الزمان الذي باعَد بين العباد وكلام ربهم إلى حد قطع صلة الرحم بهذه المعجزة الربانية التي تولى الله حفظها بنفسه، لكن غالبًا ما يكون الجواب مبهمًا لا يروي ظمأ العبد المتعطش الذي يسأل عن السبل والمسالك التي يتحصل بها اللذة والفائدة والقرب الحقيقي من كلام الرب.

لكن أحمد يقترح عدة معان جليلة في هذا الإطار لتعين على التدبر، مثل استحضار طبيعته الحوارية، فإنها ستقود لتدبر القرآن، فـ “القرآن الكريم ذو طبيعة حوارية، وليس مجرد بنية تقوم على التبليغ”.

وهكذا أفضى الأستاذ -أحمد دعدوش- إلى حقيقة مفادها أن هذا القرآن الكريم ذو بنية تكوينية أساسها مبني على جملة من المعاني التي تجعله يستغني بذاته عن خارجه، بمعنى أن الكلام الذي يصرح به النص القرآني في طبيعته الحوارية، لا يأتي بجملة من الحقائق الكونية، إلا ويأتي بعد ذلك بشواهد وأمثلة تطبيقية يعزز بها المعنى الذي يعرضه.

يقول -أحمد دعدوش- “كيف سيكون هذا الشعور لو أني وضعت نفسي أثناء التدبر موضع المحاور و”استنطقت النص”، بما يعتلج في نفسي من خواطر”، في ضوء هذا التساؤل حاول الكاتب للحصول على إجابة تشفي غليل نفسه، أن يضع نفسه أمام النص بأعين الرجل الملحد المشكك، في محاولة للتواصل والتحاور مع معاني النص القرآني.

إن الشرب من معين الغيب ومقتضى حصول الإيمان بعد رؤية العلاقة بين العالم الغيبي والعالم الحسي، لا يحصل بالقراءة “التلاوة” التي درج عليها الغالبية، بل بمخاطبة ومحاورة القرآن الكريم والتواصل معه وكأنه أنزل إليك خاصة.

أداة السؤال؟

“لاريب فيه” حقا، ولكن التصديق يحتاج إلى تجرد فقط”، “القرآن يمنح أهل الباطل حق التساؤل بإنصاف ثم يأتي على أسسها فينقضها بإتقان” أحمد دعدوش.

لا يخفى علينا أن القارئ للقرآن عندما يتلو كلام ربه غالبًا أو دائمًا ما تطرح عليه إشكالات وتساؤلات من عدم فهمه للآيات أو المفردات القرآنية أو حتى تسلسل الأحداث الذي غالبًا ما تنقدح في نفوسنا مسألة انعدام وجود الرابط بين الآية والتي بعدها.

 القارئ للكتاب سوف يجد آثار السؤال في أسلوب الكاتب -أحمد دعدوش- على مستوى تدبر الجملة القرآنية، فالكاتب فرض تساؤلاته على النص القرآني وطرح سؤاله بعين المشكك الذي يبحث عن جواب يقوده إلى التلذذ بمعاني كلام ربه.

هذا السؤال الطارئ ولّد منهجًا في التدبر، وعلى عكس باقي المفكرين والكتاب في فرض السؤال على القرآن الكريم وانتظار الجواب منه، فإن الكاتب نجده يستعين بتجربة الدكتور لانغ الذي قادته تساؤلاته إلى الإسلام بفضل من الله، هذا الدمج بين محاولة التدبر والاستدلال بتجارب المسلمين الجدد الذين قادتهم تساؤلاتهم الموجهة للقرآن الكريم إلى اعتناق الإسلام يولد حالة من التجانس والتكامل الحاصل في هذا القرآن، الكتاب العظيم، الذي يصلح لكل زمان ومكان، والذي يستجيب لجميع الحالات العاطفية والنفسية.

ومن هذا المنطلق فإن فرض آداة السؤال على النص القرآني آداة لفهم معانيه، فهذه الإشكالات والتساؤلات التي تعترض القارئ لكلام ربه على مستوى صعوبة اللفظ القرآني أو صياغة المعاني تقود إلى الفهم الذي تتفجر به ينابيع النفوس والعقول، فالمقبل على تدبر كلام الله عز وجل يجب عليه ألّا ينسى تقديم سؤال: ما الذي أراده الله سبحانه وتعالى عندما ساق هذا الكلام؟.

نفحات من تدبره

من سورة الفاتحة: “كيف ستكون تجربتي لو حاولت إعادة قراءة فاتحة الكتاب بعين شاب ملحد أو متشكك؟”، “لعل معظمنا لا يجد تلك الدهشة المأمولة عند قراءة الفاتحة”؟ كان هذا كلام الأستاذ أحمد وفي محاولة للتدبر يخلص إلى أمر أثار انتباهي وهو ما يتعلق بغياب مقدمة تشرح الظروف التي كتب فيها الكتاب ولماذا كتب وما سبب ذلك، كما أنه يختلف عن باقي الكتب فلو فرضنا أنه من دون مقدمة فأين الإهداء وباقي العناصر التي تشكل غيره من الكتب؟

كما أنه خلص في تدبره إلى الاختلاف الحاصل يبن النص القرآني والأسلوب البشري في الخطاب على اعتبار أن الخطاب البشري دائمًا ما يكون مباشرًا، فيه تعريف بالشخص والأمر الذي يدعو إليه، أما الخطاب القرآني في سورة الفاتحة فإنه لم يبدأ بهذه الطريقة، بل بدأ بالثناء على نفسه عز وجل وثنّى على نفسه على لسان عباده “إياك نعبد وإياك نستعين”.. وهنا أترك المعاني التي خلص إليها الكاتب من هذا القول، لكي لا أفسد على القارئ الذي ينوي الاطلاع عليه.

من سورة البقرة: لفت انتباه الكاتب البداية بثلاثة أحرف [آلم، لا بد من الاعتراف بأنه أسلوب جديد في التحدي ولا أظن أنه سيخطر على بال أي أديب مبدع] “قبول التحدي”، حسب -أحمد- هذه هي النتيجة التي خلص إليها بعد النظر في مجموع التفاسير التي تعرضت لهذه الحروف.

يبدأ التحدي بعد عرضه “ذلك الكتاب لاريب فيه”، أيّ ثقة هذه تبادر بها الآية الناقد بالتحدي، ثم ينتقل بعد ذلك إلى أن هذا الكتاب نزل هدىً للمتقين، وذكر أوصافهم التي وصفهم بها، يقول تعالى {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 3-5]

الانتقال إلى التحدي وذلك من بوابة قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]، فالنص القرآني فتح المجال أمام كل الأحزاب وفتح لهم الباب أمام حشد كل ما يمكن أن يعينهم للإتيان بمثله”.

يقول الكاتب “وقبل أن نعزم على المحاولة يعالجنا النص بنتيجة واضحة ومنصفة”. حسم النتيجة “فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ”، وانتهى بالختام بعاقبة من يعرض {فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ} [البقرة: 24] وجزاء من يؤمن، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]

تتفرع عن تدبر هذه المفاهيم الغيبية معالم ترسم ملامح هوية الكاتب، حيث نرى حضور العديد من التيارات الفكرية الهدامة والفرق الضالة التي تسعى في الأرض فسادا في تدبره، وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن -أحمد دعدوش- كلما سنحت له الفرصة في الربط بين النص القرآني الذي يكشف واقع الأمة اليوم وبين الفرق الهدامة التي أفسدت الأمم لا يتوانى في ذلك، ففي فصل “الإنسانية ما بين وهم التأله وشرف العبودية”، يبحث الكاتب عن هذا المفهوم “الإنسانية” وعن معناه في معاجم اللغة، وعند إدراك أن هذا المصطلح غربي لا صلة للعرب به، وأنه من المعاجم الغربية التي تفسره على نحو مادي، ينطلق في رحلة للبحث عن أصل هذه الكلمة في الكتاب الذي يقول أنه “يعلم يقينا أنه ليس من تأليف الإنسان”.

وعلى الجملة فإن عرض جميع ما جاء في الكتاب شيء يصعب علي، والنفس لا تصل إلى الشيء إلا وتسعى في طلب غيره، وفي هذه السطور حاولت التركيز على منهج السؤال عند الكاتب -أحمد دعدوش- في كتابه وكيف أفضى إلى تلك المعاني على مستوى النص القرآني، مستغنيا وتاركا نفحات ذلك التدبر للقارئ المقبل على قراءة هذه الجملة الإبداعية التي خطت في هذا السفر الزاخر بالمعاني الربانية، ولا يسعني إلا أن أقول إن المقبل على هذا الكتاب سيحصل على تلك المتعة الأدبية والسكينة الإيمانية بعد أن تلامس أعينه صفحات من الكتاب.

كتاب “فاتتني صلاة”.. ماذا فاتنا في قراءته؟

هو كتابٌ ذاع صيته وانتشر عند شريحةٍ كبيرة من القرّاء، ويندر أن تجد من ينشر عن مشكلةٍ له تتعلق بالصلاة، إلا وتجد من ينصحه بهذا الكتاب. ولفترةٍ طويلة قاومت هذه الموجة القرائيّة المتجهة نحو هذا الكتاب؛ فقد كان يغلب على ظنّي بأنه كتابٌ كغيره من تلك الكتب، التي تتصدّر الأعلى مبيعاً في الوطن العربي، وبمجرد مطالعتنا لها نجد أن هذا التصدر ما هو إلا نتيجة لسطحية المحتوى، وعزفه على وتر العاطفة لدى القرّاء وملامسته أحلامهم وحاجاتهم.

وبعد فترة انقطاع قرائيّة طويلة نسبيّاً بالنسبة لي، قررتُ دون كثيرٍ من التفكير سبر هذا الكتاب ومعرفة عامل الجذب الذي جعل تلك الشريحة الكبيرة من القراء تنجذب إليه -علّه يخالف توقّعاتي-، هذا العامل الذي جعل ما يزيد على الخمسين بالمئة من تقييمات الكِتاب على “Goodreads” تكون خمس نجوم، ولا تكاد ترى مراجعةً ناقدة له، وإنما ترى الثناء عليه يتلو الثناء.

لمحة عن الكاتب والكتاب

مؤلف الكتاب هو: إسلام جمال، وحسب ما هو مذكور في حسابه على goodreads فهو من مواليد الإسكندرية 1989، متحصّل على ماجستير في الهندسة البحرية.

أما الكتاب (الذي صدر عام 2018) فبحسب عنوانه الفرعي يحاول الإجابة عن سؤال: “لماذا يحافظ البعض على الصلاة.. بينما يتركها الكثير؟”، ليعدنا منذ البداية بقوله: “تعرّف على أسرار هؤلاء الذين قلّما فاتتهم صلاة”، وما إن نتّجه لفهرس الكتاب حتى نجده مقسّماً إلى خمسة عشر فصلاً، تتناول في بدايتها الأعذار التي نؤجّل من منطلقها الصلاة، ثم بعض المفاهيم التي يجب أن تصحَّح لدينا تجاه الصلاة لتساعدنا على أدائها، وبعض ما يشبه الخطوات العملية المساعدة في المداومة على الصلاة، ختاماً بالحديث عن الله سبحانه.

الكتاب بين الإيجابي والسلبي

يمكن الوقوف عند محتوى الكتاب في جملة من النقاط، كلغته وأفكاره وما فيه من مستوىً ضمنيٍّ يتعلّق بالمحتوى.

اللغة والأسلوب والنمط:

يمكن اعتبار اللغة التي كُتب بها الكتاب مناسبة للشريحة التي من المفترض أن الكاتب يتوجّه إليها -شريحة الشباب من غير المصلّين- حيثُ جاءت عباراته سهلة بسيطة دون ابتذال ظاهر، ولكن في المقابل فالكتاب -بالنسخة التي قرأتُها- مليء بالأخطاء الإملائية، والكاتب في أسلوبه وطريقة عرضه لا يختلف كثيراً عن الأسلوب والنمط المتبع في كتب التنمية البشرية (بل هو نفسه ينقل عنها الكثير من الاقتباسات)، ونلاحظ في الكتاب أسلوب الخطاب العاطفي بالدرجة الأولى إلى جانب النفعي المادي.

الأفكار الجيّدة في الكتاب:

شمل الكتاب عدداً من الأفكار النافعة، ولكنه في المجمل لم يأتِ بأي جديد ولم يقدم أي إضافة حتى، فمعظم ما ذكره يمكن إيجاده بسهولة في أي مرجع آخر يتحدث عن الصلاة وغالب الظن أننا سنجده مصاغاً بشكل أفضل بكثير… على أي حال لئلا أطيل؛ فهذه جملة الأفكار الجيدة التي أشار إليها الكاتب:

– الخروج من عالم “يوماً ما”: حيثُ عزا الكاتب كثيراً من أعذارنا في عدم الصلاة إلى عيشنا في عالم “يوماً ما” المتوهّم؛ فيوماً ما عندما تخف مسؤوليّاتي، عندما أجد في نفسي القدرة والرغبة، عندما تتهيأ الظروف، سأصلّي.. والخطوة الأولى نحو الصلاة هي في خروجنا من هذا العالم وأخذنا خطوات عملية مباشرة في إقدامنا نحو الصلاة من الآن.

– هم ليسوا استثناءً: قد يعتقد البعض أن المحافظين على صلاتهم قد منّ الله عليهم بقدرات خاصّة تجعلهم قادرين على أداء الصلاة بشكل مستمر بدون تعب، وأن هذه الميزات تنقصك فلذلك ليس بإمكانك أن تحافظ على صلاتك، وهذه من الأفكار المغلوطة، فالجميع بإمكانه أن يحافظ على صلاته بإذن الله.

– معرفة الله: عزا الكاتب الثقل الذي نشعر به في قيامنا للصلاة إلى عدم معرفتنا بالله كما ينبغي لهذه المعرفة أن تكون، وأنه بازدياد معرفتنا بالله وأسمائه وصفاته؛ فسنزداد شوقاً للصلاة وقدرةً عليها. وأشار إلى ضرورة المداومة على الذِّكر -ولو لخمس دقائق يومية- بقلب حاضر، وإلى الاستماع للمواعظ -ولو القصيرة منها- وإلى الاستماع إلى القرآن بتلاوة شيخٍ نرتاح لتلاوته.

– الصلاة ليست ثقلاً: نبّه الكاتب لأهمية تغيير عالم أفكارنا حول الصلاة، وزرع فكرة أن الصلاة راحة لنا وليست ثقلاً علينا نودّ أن نرتاح منه، ويمكننا هنا أن نلجأ إلى استعادة ذكرياتنا حول المرّات التي صلّينا فيها وشعرنا بالراحة والسكينة بعد الصلاة، وكذلك عدم فتح مجال المناقشة مع عقلك عند الإقدام على الصلاة إنما المباشرة فيها فوراً لئلّا يثبّطك عنها، وتكرار فكرة أن كل مشقة تمر بك في طريقك نحو المحافظة على صلاتك ستمر كما مرّت مشقّات سابقة.

– جعل القيام للصلاة عادة: وهنا يفرّق الكاتب بين جعل القيام عادة وجعل الصلاة عادة، فالثانية لا يجب أن تتحول لعادة والتي تستوجب غياب الحضور الذهني الكامل للإنسان. ولكل عادة منبه ومكافأة، وبكون الأذان منبهًا للقيام إلى الصلاة، فالشعور بالسكينة بعد أدائها هي المكافأة التي ستحفز لدى الإنسان الرغبة في تكرار هذا النشاط، هذه السكينة التي يُعَد الخُشوع في الصلاة سبيلاً إليها، هذا الخشوع الذي من الممكن تحصيله عن طريق الخشوع الظاهري للبدن؛ أي التروّي والبطء في حركات الصلاة والقراءة بتدبّر وتروّي فيها، والذي بدوره سينعكس على حالتك الداخلية.

– الحفاظ على صلاة السنن الرواتب: حيث بمحافظتك عليها فأنت تزيد من تحصيناتك ضد وساوس الشيطان والنفس، فلم تعد هجمات هذين الأخيرين تتوجّه نحو تثبيطك عن صلاة الفريضة مباشرةً.

– اجعل الصلاة مركزاً ليومك: رتّب يومك وأعمالك بحيث تدور حول أوقات الصلاة ولا تجعل صلواتك تدور حول أعمالك.

– حاسِب نفسك: بأن تنظر للأسباب التي تدعوك في الغالب للتفريط في الصلاة أو التقصير فيها واستعدّ لها مسبقاً.

– الصبر على الصلاة وعلى تحصيل ثمراتها، مع الانضباط الذاتي.

علامات استفهام!

– الدوافع للصلاة: لعلّ هذا الجانب هو أكثر جوانب الكتاب التي واجهتُ مشكلةً معها، حيثُ يعزّز الكاتب في طرحه من “ماديّة” دوافع الصلاة ومتعلّقاتها، فنراه يفرد الصفحات من الكتاب للحديث حول منافع الصلاة العائدة على البدن كما في قوله: “أثبتت دراسة تخصصية لحركات المسلمين (القيام – الركوع – السجود) على 188 شخص أن الحفاظ على أداء الصلاة يقلل من الإصابة بآلام أسفل الظهر (…) وأضافت الدراسة أن تكرار هذه الحركات لعدة مرات يومياً يصل بالأصحاء إلى ما يسمى طبّيًّا “اللياقة العالية”، ويساعد مرضى السمنة والسكر والضغط على الشفاء وتنظيم العمليات البيولوجية للجسم، ويفيد الكثير من عضلات الجسد”.[1] وغير هذه الأمثلة في الكتاب.

طرحٌ شبيه بهذا نجده في الحلقة العاشرة من خواطر 10، تحت عنوان: “أرحنا بها يا بلال” [2]، والتي سنجد فيها من بين التعليقات من يقول: إنه لم يكن يعلم هذه الفوائد الصحيّة للصلاة وبعدما علِمَها سيُصلّي! وهذا ليس مستغرباً في ظل انتشار النزعة المادية في عالمنا، حيثُ لم تعد الدوافع الدينية الأصيلة سبباً مقنعاً لكثير من المتأثّرين بهذه المادية من المسلمين، مما يجعل الكثير يتوجه لهم من بوابة المادية، وهذا ما أجده (في موضوع الصلاة تحديداً) يفرّغ هذه العبادة العظيمة من جوهرها في أنها صلة بين العبد الفقير وربه الغني سبحانه، ولا يجعل النية فيها خالصةً لله؛ وما فائدة أن أجتذب العبد للصلاة من أجل منافعها الصحية لا من حيثُ هي فرضٌ واجب فرضه عليه خالقه سبحانه؟ إلى جانب أن الدخول للصلاة من هذه البوابة المادية لا يجعلها تختلف عن الممارسات التأملية المنتشرة!

– المغالطات والتفسيرات العلمية المشوّهة: لعلّ من أبرز المغالطات التي سنراها ظاهرةً في الكتاب هي: مغالطة السلطة المجهولة: أي “استعمال الشخص مصدراً مجهولاً في حجته يستطيع عبره قول ما يشاء وإضافة ما يريد من أحكام ونتائج تخدم قضيته”. [3] فنجد الكاتب لا يتوقف عن سرد عبارات: أثبتت الدراسات… علم النفس يؤكد…، دون عزو معظم ما يُورده -على شاكلة الحقائق- إلى أي مصدر يمكن التأكد منه.

ولعل الأمر سيكون الأمر هيّناً لو توقّف عند هذا الحد، ولكننا نجد الكاتب يدخل بنا مجال العلوم الزائفة من بوابة هذه الدراسات والأبحاث، حيثُ يقول بعد سرده لإحدى التجارب: “لذلك كانت الحكمة أن يأمرنا الله تعالى بأن نغسل أطراف الجسد (نهايات الجسد) عند الوضوء حتى نزيل هذه الشحنات الكهربائية الضارة (…)فالغرض الأساسي هو تجديد الطاقة بإزالة الشحنات الكهربائية الضارة”. [4]

ليفاجئنا الكاتب بعبارته بعد هذا السرد للتفسير “العلمي” للوضوء بقوله: “آمل أن تكون نظرتك تجاه الوضوء قد تغيّرت، فالوضوء مصدر مهم وأساسي للطاقة”… نعم يجب أن تتغير نظرتك تجاه الوضوء من كونه شرطاً لصحة الصلاة وأنه بنص الحديث الصحيح: (إذا تَوضَّأَ الْعبْدُ الْمُسْلِم، أَو الْمُؤْمِنُ فغَسلَ وجْههُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خطِيئةٍ نظر إِلَيْهَا بعينهِ مَعَ الْماءِ، أوْ مَعَ آخِر قَطْرِ الْماءِ، فَإِذَا غَسَل يديهِ خَرج مِنْ يديْهِ كُلُّ خَطِيْئَةٍ كانَ بطشتْهَا يداهُ مَعَ الْمَاءِ أَو مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْماءِ، فَإِذَا غسلَ رِجليْهِ خَرجَتْ كُلُّ خَطِيْئَةٍ مشَتْها رِجْلاُه مَعَ الْماءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يخْرُج نقِياً مِنَ الذُّنُوبِ) [صحيح مسلم]، إلى كونه مصرفاً للشحنات الكهربائية الضارة، فهذا أدعى للعقل المادي النفعي أن يأخذ به!

ويتابع أمثلته في هذا المجال بقوله:

“توصل البروفيسور الألماني كنوت فايفر إلى تقنيات يمكنها رؤية الطاقة المنبعثة من الموجودات وخاصةً جسم الإنسان، وفي دراسة خاصة على صلاة المسلمين اكتشف أن المصلي بخشوع يحصل على قدر كبير من الطاقة الروحية بعد كل صلاة وذلك بتصوير انبعاث الطاقة منه قبل وبعد الصلاة”.  [5]

ومن مجال الطاقة الزائف “من هذا الباب” إلى التشويه في علم حقيقي حينما يقول: “وهناك حقيقة وهي أن نسبة الإصابة بسرطان الجلد قليلة في البلاد الإسلامية رغم ارتفاع درجة الحرارة في معظم هذه البلاد لأن الوضوء يزيل المواد الكيميائية الضارة الناتجة عن العرق قبل أن تتراكم وتتجمع على سطح الجلد”! [6] فمع هذه المعلومة التي يسردها لنا الكاتب على أنها حقيقة، لنا أن نسأل: من أقرّها حقيقة؟ هل سرطان الجلد يعود سببه لمواد ناتجة عن العرق؟! ببحثٍ بسيط فقط يمكنك التأكد من سذاجة هذا المقال وأن لا أساس علمي له على الإطلاق.

من أين جاءت تلك النّقولات؟

 وهنا جانبٌ مهم آخر في الكتاب يدفعنا لأن نضع علامة استفهام حوله، فإلى جانب استخدام الكاتب لمغالطة السلطة المجهولة، نجده يورد أقوالاً وقصصاً مأخوذة نصاً من أماكن أخرى دون الإشارة لذلك، ودون احترام الأمانة في النقل إنما نسبها لكلام الكاتب، ومن ذلك حديثه عن قصة هوبكنز مع معجون بيبسودنت في فصل دواء العادة وكذلك دراسة جامعة نيو مكسيكو على ممارسي الرياضة[8]، والذي سنجده منقولاً نصّاً عن كتاب قوة العادات للكاتب تشارلز دويج، إلى جانب مقولة: “إن عبادةً فُرضت في السماء بغير واسطة الملائكة لجديرة بالارتقاء صعداً بعشاقها إلى مقامات السماء” والمأخوذة دون إشارة من كتب فريد الأنصاري رحمه الله. [9]

وحينما تحدث عن كتاب “Think & grow rich” لنابليون هيل، ذكر استشهاده بقصة الرسول -عليه الصلاة والسلام- في فصل المثابرة وأنه لم يكن يستخدم المعجزات كأداة لنشر رسالته، مغفلاً بدايةً بإقراره لهذا الكلام دون نقد أن القرآن الكريم هو معجزة الرسول -عليه الصلاة والسلام- المستمرة، وثانياً أن القصة التي أوردها نابليون هيل في استشهاده بالرسول كانت مكتوبةً كمراجعة من شخص آخر يدعى “Thomas Sugrue” وأشار لذلك هيل في كتابه [10]. والعجيب ليس استشهاد نابليون هيل بالرسول -صلوات الله عليه- كما قال الكاتب؛ إنما بجعله هو لشهادة نابليون هذه ذات قيمة في كتاب حول الصلاة!

على سبيل الاختتام

ختاماً، بعد قراءتي للكتاب لم أعد أستغرب حملة الإشادة الكبيرة به من عموم القرّاء، فهذا المحتوى الذي يدمج ما بين الدين الخفيف والتنمية البشرية والمادية هو المُفضل لدى شريحة كبيرة من الناس. وعادةً لا أحبّذ الاستغناء بملخصات الكتب عن قراءة الكتب بذاتها، ولكن مع هذا الكتاب أرشّح الاستغناء بملخص عن قراءته والتعرض بشكل مطوّل لطريقته في تناول الصلاة. وما غطّيته في مراجعتي هذه قد يكون مما فاته لمن قرأ الكتاب قراءةً غير واعية واستسلم لكل ما يقرؤه، ومن هنا وجب التنبيه لأهمية القراءة الواعية الناقدة لما نقرأ لئلّا نكون فريسةً سهلة للأفكار غير المتّزنة، المشوّهة، والمكذوبة!


الإحالات:

[1] فاتتني صلاة، إسلام جمال، ص 167 طبعة مؤسسة زحمة كُتّاب للثقافة والنشر – 2018

[2] خواطر 10 لأحمد الشقيري، الحلقة العاشرة: أرحنا بها يا بلال، الرابط: https://youtu.be/T4s1j6H3rz8

[3] رجل القش، يوسف صامت بوحايك، ص 105 طبعة دار شفق – 2018

[4] المصدر الأول، ص 162

[5] المصدر الأول، ص 172

[6] المصدر الأول، ص 160

[7] المصدر الأول، ص 32

[8] المصدر الأول، ص 76 وما تلاها

[9] الدين هو الصلاة، فريد الأنصاري، ص ،26 طبعة دار السلام – 2010

[10] Think & Grow Rich by Napoleon Hill, page 190-192 Published by Mind Power Books – 2006

رواية “قواعد العشق الأربعون”.. كيف أصبح الكفر حلوا؟!

انتشرت في السنوات الأخيرة رواية “قواعد العشق الأربعون”، وهي رواية مترجمة كتبتها الروائية التركية إليف شافاق، وضمّنتها الكثير من الأفكار الصوفية المغالية التي وجدت طريقها إلى قلوب الشباب عن طريق الأدب.

ولدت المؤلفة في ستراسبورغ 1971، ولها 11 مؤلفاً، منها 8 روايات، وهي معروفة بطرح مواضيع حساسة وصادمة لمجتمعها، وخصوصاً ما له علاقة بالنساء والتدين والتقاليد والأقليات، مما تسبب في الحكم عليها بالسجن في تركيا بسبب رواية تحدثت فيها عن اضطهاد الأرمن في تركيا في مطلع القرن العشرين مع أحداث الحرب العالمية الأولى.

أما كتاب “قواعد العشق الأربعون” فتمت ترجمته من قبل خالد الجبيلي، وهو يحمل ليسانس أدب إنكليزي من جامعة حلب ويعمل حالياً مترجماً لدى الأمم المتحدة.

لمحة عن الرواية
القصة تدور حول إمرأة أمريكية اسمها إيلا، تعمل كناقدة أدبية، وقعت يدها على قصة اسمها ” الكفر الحلو”، كتبها رجل صوفي تركي اسمه “عزيز زهار”، يتحدث فيها عن القصة التاريخية الشهيرة لعلاقة جلال الرومي وشمس التبريزي.

تعجب إيلا بالرواية، خاصة وأنها تلامس جوانب روحية وعاطفية عندها، في الوقت الذي تمر فيه بمنعطف حرج في حياتها العائلية، فما يكون منها إلا أن تتواصل مع عزيز ثم تقع في حبه، وتسافر معه في ترحاله الصوفي الروحي.

فالرواية عبارة عن قصتين في زمنين مختلفين قصة إيلا وعزيز، وقصة شمس التبريزي وجلال الدين الرومي في رواية الكفر الحلو التي من خلالها يضع شمس لتابعه جلال قواعد العشق من خلال حوار وأحداث تمر بها هاتين الشخصيتين.

نقد الرواية
رغم أن عنوان الرواية هو “رواية عن جلال الدين الرومي” إلا أنها في الحقيقة لا تتطرق كثيراً للرومي وكتاباته وأشعاره بقدر ما تسهب في الحديث عن شمس التبريزي وأفكاره، وكأن الكاتبة أرادت عنواناً مشوقاً للقارئ، فالكثيرون في العالم يعرفون الرومي وقلة من سمع بشمس التبريزي، الذي تراه من خلال أحداث الرواية يلقي قواعد العشق ويقحمها أثناء حواره مع مختلف الشخصيات، ولوجاءت أحياناً بشكل غير مترابط أو متين.

وقد أجادت الكاتبة في وصف شخصياتها وصورتهم بطريقة فنية جميلة، حتى يخيل إليك أنهم أمامك يتحدثون إليك، وكذلك بمعرض وصفها للطبيعة في عدة مواضع كالشجرة التي تتصدق بأوراقها المتساقطة على وعاء  حسن المتسول وكذلك نقلت صورة فنية فريدة وهي تصف رقصة السما “المولوية” للرومي وشمس التبريزي في أكناف الطبيعة الساحرة، كما أنها أبدعت برسم مشهد البغي وهي تُضرب من قبل الحارس بيبرس ضرباً جعلها تشارف على الموت.

لكن الحبكة لا تخلو من أخطاء وهفوات كحديثها عن الخضراوات وحصاد القمح في فصل الشتاء، كما ولغت الكاتبة أحياناً بإباحية جنسية فجة لا تتناسب مع أعراف وتقاليد مجتمعاتنا الشرقية، أما بالنسبة للأفكار والعقائد المطروحة في القصة بين قواعدها وحديث شخصياتها فيمكن تلخيصها بما يلي:

عقيدة الحلول والاتحاد

لوحة تعود إلى القرن السابع عشر الميلادي تمثل حالة الاتحاد والانجذاب الصوفي

وهي عقيدة صوفية متطرفة، دعى لها غلاة الصوفية وزنادقتهم، تتلخص بأن الله تعالى -حاشاه- قد حل في كل مخلوقاته، فهي تقدس لذلك كل المخلوقات، وقد بدا ذلك في الرواية عند تعظيمها لشخصية أبويزيد البسطامي الذي تنقل عنه أنه قال: “الله داخل عباءتي”، وقول الكاتبة على لسان إحدى شخصياتها: “عندما يذكر المرء الله بسوء فإنه يسيء التكلم عن نفسه”، وقولها: “الله يقبع بداخل كل منا فهو لا يتخلى عنا فكيف له أن يتخلى عن نفسه”، وقولها “أربعون درجة تفصل بين الإنسان والله”، وقولها “هل توجد جنة أفضل من النعمة التي تهبط على الإنسان في تلك اللحظات النادرة عندما تفتح بها مزاليج الكون ويشعر بأنه يمتلك كل أسرار الخلود ويتحد مع الله اتحاداً تاماً”، وقولها على لسان شمس عندما أهدى المرآة للشحاذ المجذوم “إنها ستذكرك أنك تحمل الله في داخلك”، وقولها على لسان الرومي في حديثه داخل الخمارة “حتى إذا كانت علاقتنا جيدة بمدرستنا المحلية أو مسجدنا وتقف عائقاً في طريق اتحادنا مع الله فإنه يتعين علينا حينئذ أن نحطم هذه الارتباطات”.

الدعوة لعدم اتباع النصوص الشرعية أوالتقليل من أهميتها
كنقلها حوار شمس مع قاضي القضاة في بغداد قوله “الشريعة كالشمعة لا يجب التركيز عليها”، وكالقصة المزعومة بين الراعي وموسى عليه السلام وعتاب الله “حاشاه” لموسى عليه السلام لتعليمه الراعي طقوس العبادة وما فيها من تكلف بدل بساطته وجهله، فيقول لموسى عليه السلام “لا تحكم على الطريقة التي يتواصل بها الناس مع الله فلكل امرئ طريقته وصلاته، ليست مناسكنا أوطقوسنا هي ما يجعلنا مؤمنين”.

وكذكر الكاتبة لصلاة عزيز من أجل إيلا وتوجهه إلى شجرة الأماني المعظمة عند شعب موموستينانغو في غواتيمالا.

وكتساؤل الكاتبة على لسان شخصية السكير سليمان :”لماذا حرم الله الخمر في هذه الدنيا ووعد بها في الجنة”.

وكقولها على لسان شمس: “لا يعنيني الحلال والحرام فأنا أفضل أن أطفئ نار جهنم وأن أحرق الجنة حتى يحب الناس الله من أجل الحب الخالص”.

وكقولها أيضاً عن شرب الخمر: “ليشرب من أراد وليمتنع عن الشرب من أرد فلا يحق لنا أن نفرض أساليبنا على الآخرين ولا إكراه في الدين”.

وكقولها على لسان شمس “إن المبادئ والقيود الدينية مهمة لكنها يجب أن لا تتحول إلى محرمات، بهذا الفهم أجرع الخمر التي تعطيني إياها اليوم مؤمناً من كل قلبي بأنه توجد رجاحة عقل ورزانة بعد ثمالة الحب”.

وكقولها: “لا تحاول أن تعظ من بلغوا مرحلة التنوير فهم ليسوا بحاجة إلى توجيه أوإرشاد من شيخ”.

وكقولها: “إنه الصراع بين رجل الدين والصوفي، بين العقل والقلب”.

وكقولها: “مؤمن مضطرب! إذا صام المرء شهر رمضان كله باسم الله، وقدم خروفاً أو عنزة كل عيد ليغفر الله له ذنوبه، وإذا جاهد المرء طوال حياته ليحج إلى بيت الله الحرام في مكة، وإذا سجد خمس مرات كل يوم على سجادة صلاة وليس في قلبه مكان للمحبة فما الفائدة من كل هذا العناء”.

الدعوة لوحدة الأديان
ويظهر ذلك في معرض قولها : “المسيحيين العاديين والمسلمين العاديين يشتركون في أمور أكثر مما يشترك رجال دينهم”، وفي معرض حديثها عن قصة التاجر اليوناني والعربي والفارسي والتركي، كل يصف العنب بلغته  تقول: “فالمسيحيون واليهود والمسلمون يشبهون هؤلاء المسافرين، فبينما يتشاجرون حول الشكل الخارجي فإن الصوفي يبحث عن الجوهر”، وقولها على لسان الرومي: “لست مسيحياً ولا يهودياً ولا مسلماً، لست بوذياً ولا هندوسياً ولا صوفياً ولا من أتباع زن ولا أتبع أي دين أونظام ثقافي، لست من الشرق ولا من الغرب، إن مكاني هو اللامكان أثر اللاأثر”.

التشكيك بأمور الغيب أوالتقليل من أهميتها
كقولها: “لا يكفون عن التفكير أن البشر جميعاً يسرعون على السير يوم القيامة على الصراط الأرفع من الشعرة الأحد من السيف وعندها يسقط المذنبون، أما الذين عاشوا حياة تقية فسيتمكنون من عبور الصراط وسيكافؤون بفاكهة لذيذة ومياه عذبة وحوريات، إن جهنم تقبع هنا، والآن، وكذلك الجنة، لماذا كل هذا القلق مما سيحدث بعد الحياة، مستقبل متخيل”.

تفسيرات غريبة للقرآن
في معرض الكلام عن النساء فسرت قوله تعالى: “واضربوهن” بقولها: وضاجعوهن. وكقولها عن قصة امرأة العزيز وسيدنا يوسف “من يلوم زليخا على شدة رغبتها بيوسف”، وكقولها : “إن الذين يحبون أن يسبحوا بالقرب من سطح الماء يقنعون بالمعنى الظاهري للقرآن وكثيرون ينتمون إلى هذه الفئة”، وهذا يوحي أنها تؤمن بمعنى باطني للقرآن وهذا أمر معروف لدى معظم الطوائف الباطنية، أوغلاة الصوفية.

 إساءة الأدب عند الحديث عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم
كقولها على لسان شمس: “هذا لعب بالله فليس من مهمتنا أن يحكم أحدنا على إيمان الآخر”، وكقولها أيضاً على لسان شمس: “من هو الأعظم برأيك النبي محمد أم الصوفي أبويزيد البسطامي”.

وكقولها: “هل يظن هؤلاء الله بقالاً يزن حسناتنا وسيئاتنا في ميزانين منفصلين هل يظنون أنه يسجل ذنوبنا في دفتر حساباته بدقة حتى نسدد له ما علينا ذات يوم أهذه فكرتهم عن الوحدانية”.

خاتمة
وفي الختام تعتبر هذه القصة دعوة سافرة لوحدة الأديان، وتبشير بوحدة الوجود، وادعاء مذهب الحب كأساس يحكم علاقات الناس بلا استثناء، ونداء للتقليل من أهمية الشرائع والإستهانة بها أو بمن التزم بها “وأظنها هذه الرواية ومثيلاتها مما يروج له ضمن مخطط العولمة الجديد”، وتشكيك بالغيب الذي أخبرنا به الله ورسوله، وتحقير للمؤمنين به.

ورغم أني أتفق مع الكاتبة في أهمية الحب بين العبد وربه وأن الرحمة والتسامح مع الخلق والشفقة عليهم هي مزاج ديننا الحنيف، وأننا غير مكلفين بالجزم للناس بمصيرهم إلى الجنة أم النار، إلا أنني أختلف معها بضرورة انضباط الحب باتباع منهج وفكر وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم”، وأرى أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، فالحب المطلق شر مطلق، فكيف يمكن أن تحب مجرماُ عدواً لله ورسوله وأوليائه الصالحين،  وأرى أن الدين واضح لا باطنية فيه ولا غموض، ولا رموز أو طلاسم، وكل من ولج في معان باطنية خفية غريبة خرج بمذهب باطني منحرف، كما حدث بالفعل على مدار التاريخ الإسلامي،  فالدين جاء سمحاً هيناً ليناً نور فكره ومنهجه وتعاليمه لا تحتاج إلى كثير تعقيد أوتأويل.

أختلف معها بأن شرائع الأديان جاءت لتنظم حياة البشر ولتختبر عبوديتهم لله والتزامهم بأوامره، فما معنى العبودية دون وجود تكاليف، أما هذا الدين الجديد الذي تبشر بها إليف وأمثالها فهو دعوة للتحرر من أي تكاليف شرعية، وما يرافق ذلك من إباحية مطلقة وفساد وقطع للأرحام، ونشر للرذيلة،  مع ادعاء حب الله في القلوب، كذبوا والله لو أحبوه لأطاعوه.

 وأتوقع للأسف رواج هذا الفكر في عصرنا الحاضر، وإمكانية اتساع رقعة أتباعه في المستقبل، بسبب كثرة القتل والعنف والطيش والظلم  بشكل غير مسبوق وخاصة ممن يدعون التزامهم بالأديان السماوية، وكردة فعل لهذا الجنون الدموي ستجد هذه الدعوة الضالة المنحرفة طريقها لكثير من الشباب الحائر المكلوم، وعلى الدعاة المؤمنين المتقين الملتزمين بشرع الله أن ينفضوا هذه الشبهات ويربطوا المسلمين وشبابهم بتعاليم دينهم الحنيف وبروح الدين الإسلامي القائم على الرحمة مع التسليم التام لكل أوامر الله ونواهيه.

“قصة الإيمان”.. حوار بين الشيخ الموزون وحيران بن الأضعف

سنستعرض في هذا المقال الموجز أحد أشهر الكتب التأسيسية والمرجعية التي ظهرت في القرن العشرين ضمن مشاريع التصدي لموجة الإلحاد التي امتدت للعالم الإسلامي، ومؤلفه هو الشيخ اللبناني نديم الجسر رحمه الله.

“قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن” كتاب جميل يبلغ عدد صفحاته 475 صحيفة، وهو يتحدث عن قصة خيالية شهدها ضريح الإمام البخاري في خرتنك قرب سمرقند، ويتضمن حوارا بين الشيخ الموزون السمرقندي وتلميذه حيران بن الأضعف البنجابي، الذي قصده ليتخلص بمساعدته من الشك الذي اعتراه وهو في جامعة بيشاور.

والشيخ الموزون نفسه عاش حالة الشك التي عاشها تلميذه حيران، لكنه تخلص منها بنصيحة من الشيخ حسين الجسر (والد المؤلف)، الذي نصحه بالتعمق بالفلسفة وعدم الاكتفاء بالقشور، وأبلغه أنه إن تعمَّق بها فسيجد اليقين، وهو ما حصل بالفعل.

اختار الشيخ الموزون في أماليه طريقة الحوار مع تلميذه حيران، وأخذ بيده بين أمواج الفلسفة حتى دفع عنه كل شك.

يقول حيران بن الأضعف: لما كنت أدرس في جامعة ييشاور كانت النفس مشوقة بفطرتها إلى المعرفة عن هذا العالم: ما هو؟ ومتى خلق؟ ومن خلق؟ فلا أقابَل إلا بالزجر فأهملت دروس الدين وأخذت أبحث في الفلسفة، ففصلت من الجامعة، فدلني أبي على الشيخ الموزون.

رحب الشيخ الموزون بحيران وطلب منه أن يتهيأ ويستعد ليبدأ معه رحلة العلم في الدين والفلسفة، وبدأ يحدثه عن الخلق، وعرض له آراء فلاسفة اليونان القدماء، ثم فلاسفة الإسلام بالمشرق والمغرب والأندلس في عهود الحضارة الإسلامية، ثم فلاسفة أوربا بوجه عام حتى عصرنا، وكان يعرض الآراء ويوضحها وينقدها ويوجهها، حتى تبدو مقاصدها وأهدافها.

تحدث الشيخ الموزون لتلميذه حيران عن قصه حي بن يقظان وهي قصة خيالية وضعها ابن طفيل في البحث عن الحق، وحدثه عن الغزالي مؤلف كتاب مقاصد الفلاسفة الذي بسط فيه آراء الفلاسفة وشبهاتهم بسطاً وافياً كأنه أحدهم، ورد على أرسطو في مسألة خلق العالم في كتابه تهافت الفلاسفة.

وحدّثه عن ابن رشد الذي كان مخالفا للغزالي عندما رد عليه في كتابه المشهور تهافت التهافت، ونصح الشيخ الموزون تلميذه حيران بألا يأخذ بالاتهامات ضد ابن رشد لأنهم أخطأوا في فهمه، ذلك أنه كان معجباً بأرسطو إلى حد التقديس، بالإضافة إلى أغلاط الترجمة، فابن رشد لم يأخذ فلسفة أرسطو عن اليونانية، بل أخذها معرَّبة مخلوطة، وهو لم ينكر صفه الإرادة لله تعالى ولم يخرج عن المنطق السليم والإيمان الكامل، وهو كذلك لا يختلف مع الغزالي من حيث النتائج في شيء، حسب رأي المؤلف.

ثم تحدث عن أبي العلاء المعري الشخصية المتشائمة، الذي عاش حياته كفيف البصر، مشوه الوجه، مجبورا على العزلة، فكان من الطبيعي أن ينتج في نفسه الشك الذي لا يأتي في الحياة إلا من اختلاف الحظوظ، وشك المعري لم يكن في وجود الله، بل حيرته في القضاء والقدر، وحرية الإدارة، وحكمة الخلق، وحقيقة الروح.

وفي حديثه عن المعجزات التي فيها خرق النواميس، يرى أنها أدلة قوية ولكنها ليست أقوى من أدلة النظر العقلي الخالص التي تنتهي إلى الحكم الضروري القاطع بوجود الله ولكن البشر عاجزين عن الاستدلال بالنظر العقلي الخالص، فاقتضت الحكمة عند دعوتهم للإيمان بالله أن يخاطبوا بدليل المعجزة على يد الرسول الإنسان خرقاً يدل على الله ولكن لما ترقَّت الإنسانية في مدارج التفكير العقلي وأصبحت متهيأة للاستدلال بالنظر العقلي الخالص قضت حكمة الله بتفضيل الاستدلال بالألة العقلية القاطعة على الاستدلال بالمعجزة وهذا ما سلكة الوحي في القرآن واعتمده أكثر من المعجزات.

الأفكار المعاصرة

تشارلز داروين

وتحدث الشيخ عن داروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء، حيث يراه عالماً طبيعياً كبيراً، لكنه ليس بفيلسوف، وهو مؤمن بوجود الله، أما أصل الأنواع فإنه متردد في تحديدها، وأن الشيخ حسين الجسر مؤلف “الرسالة المحمدية” هو العالم الديني الوحيد الذي يقول بأن مذهب داروين لا يتعارض مع أحكام القرآن ولا مع الإيمان بوجود الله.

يقول الشيخ لحيران إن آيات القرآن تكاد تكون مقسمة بين الدعوة إلى الله و الإرشاد إلى دلائل وجوده ووحدانيته وجميع صفات كماله، والأحكام في العبادات والمعاملات، لكن أهم الأقسام وأعظمها هو القسم الأول لأن الإيمان بالله هو الأصل وهو الأساس لكل ما عداه.

وينصح الشيخ الموزون تلميذه حيران بتعلم لغات الغرب إن كان يريد أن يكون مرشداً وداعياً إلى الله، وطلب منه أن يتأمل آيات القرآن ليطبقها على ما مر معه من أقوال الحكماء والفلاسفة، وبين له أن القرآن يتناول جميع الحجج العقلية والبراهين الساطعة التي قضى العلماء أعمارهم حتى توصلوا إليها.

ذكر الشيخ آيات الله في السماء والأرض فحدّث حيران عن مواقع النجوم والشمس كنجم من جملة النجوم، والتباعد والتناسب والأحجام والمنازل وعجائب النظام الباهر، وسأل حيران وهو متعجب كيف تقف هذه الأحجام والأوزان الهائلة في الفضاء بهذا التوازن العجيب؟ فرد عليه الشيخ بأن القرآن يجيبك في قوله تعالى: {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها} وقوله: {إن الله يمسك السموات والأرض} فهل يكون القانون الدقيق المحكم أثراً من آثار المصادفة العمياء يا حيران؟

يشرح الشيخ الموزون كذلك موقع وطبيعة الأرض وباقي الكواكب الأخرى ويفسِّر أسباب عدم صلاحية الحياة فيها ويبين فضل الله ومنته علينا أن خلقنا على الأرض، فيسأل: {الشمس والقمر بحسبان} فلو كانت المسافة بين القمر والأرض أقل مما هي عليه أو أكثر فهل كل هذا النظام والإحكام الذي خص الله به القمر في حركاته المحسوبة ودوراته المكتوبة ومنازله المقدرة أثر من آثار المصادفة العمياء يا حيران؟

وتحدث الشيخ لحيران عن عجب خلق الله في إنزال المطر والبحار والماء ونواميس الله في خلق الخلائق وجعلها بقدرته وحكمته تتلاقى ويفضي بعضها إلى بعض، وجعل الماء أصل الحياة.

شرح الشيخ بتفصيل لحيران التفسير العلمي والمنطقي الذي يتوافق مع آيات الله في بديع صنعه وأن لا مكان للمصادفة في تكوينها بقدر إبداع خلق الله.

وشرح له الطريقة العلمية لعملية تنفس النبات وفائدتها والأهمية الكبيرة لها في حياة الكائنات الأخرى، وسأله مجدداً هل هذا كله من أثر المصادفة، فرد حيران بأن خلق الله سبحانه أعظم من المصادفة.

أما الأرض فهي فندق كبير بناه الله وحماه وأودع فيه من كل الخيرات والنعم، فشرح لحيران كيف حاول العلماء تفسير الأرض وعناصرها ومكوناتها تفسير علمياً، وتحدث عن الذرات والإلكترونات والنترونات وما إلى ذلك من تناسق عظيم أبدعه الله. وانتقل بعد ذلك للحديث عن إبداع الخالق في خلق اللسان والأذن، وعمل القلب في جسم الإنسان.

ثم كتب الشيخ الموزون وصية لحيران، فأوصاه بالإيمان بالله على اعتبار أنه بلسم الصبر عند المصائب، وقارن بين حال الانسان والحيوان في هذه الدنيا وأن ما يميز الانسان هو الإيمان، وأن الحيرة والشك قد أصابته في شبابه كما أصابت حيران ودفعته للبحث وتزود بالعلم، وسرد سيرته لحيران ورحلته الطويلة في سبيل الوصول إلى الله بالمعرفة الحق ما بين الهند إلى طشقند، وأخذ يذكر فضل المشايخ عليه لمساعدتهم له ولهدايته إلى طريق الحق بالأدلة القرآنية، والشواهد العلمية إلى جانب الأدلة العقلية، وأخيراً أوصى الشيخ الموزون تلميذه حيران أن ينشر بين الناس قصة الإيمان بلسان الفلسفة والعلم والقرآن لعل الله يشرح بها للإيمان صدور الحيارى ويصلح بالهم ويهدي من يشاء منهم.

 ما هكذا تستمر السيرة.. نظرات في كتاب “السيرة مستمرة” (3 من 3)

نتابع في هذا المقال الثالث والأخير، ما بدأناه في المقالين السابقين من مراجعة لكتاب (السيرة مستمرة)، ونخصص هذا المقال لبيان بعض ما نحسبه أخطاء أو عثرات وقع فيها الدكتور أحمد خيري العمري.

يقول العمري في مقدمة الكتاب: “كان التسييس واحدة من أهم الكوارث التي منيت بها السيرة في نسختها المعاصرة السائدة”[1]، كوارث؟ هكذا بجرة قلم ينتقد العمري كل من كتب في السيرة المعاصرة لأنها تحوي “كوارث”، وكأنه يريد أن يقول للقراء: لا تقرؤوا السيرة عند غيري فقد جئتكم بسيرة صافية لا كوارث فيها، ولم يأت العمري بدليل واحد على تلك الكوارث،  بل لم يأت بدليل على “أهم الكوارث” برأيه، وهي تسييس السيرة، وهي تهمة عممها على كل من كتب السيرة، وزعم أنه حسب هذا التسييس “يبدو الرسول عليه الصلاة والسلام مؤسسا لحزب أو حركة سياسية سرية في المرحلة المكية”، ويؤكد ذلك من جديد في الصفحة 177 فيقول: “الدعوة إلى الإسلام لم تكن حركة حزبية تسيرها قرارات حزبية صارمة، كما يحلو للبعض تصويرها والترويج لها”، ولنا أن نتساءل: من هم هؤلاء “البعض” كتاب السيرة المعاصرة؟ فلدينا مثلاً الخضري والصلابي والمباركفوري والبوطي والغزالي وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب الكيلاني وأبو الحسن الندوي وغيرهم كثير، ولم نجد أحداً منهم قد قال أو ألمح أو أشار إلى إن رسول الله كان “مؤسسا لحزب سري في مكة”.

مصطفى العقاد، مخرج أم مؤرخ؟
يقول العمري “يعتبر المخرج الراحل مصطفى العقاد صاحب فيلم الرسالة أفضل كاتب سيرة معاصر”، وهذا زعم غير صحيح إطلاقاً، فالعقاد رحمه الله لم يكن كاتب سيرة إنما كان مخرجاً، وفيلم الرسالة، رغم أنه كان في زمنه اختراقا وإنجازاً عظيماً، لأنه أول إنتاج سينمائي بتقنيات هوليودية يتناول السيرة النبوية، وكان له تأثير إيجابي عندما عرض في الغرب، غير أن العقاد ليست له أي يد في انتقاء وكتابة مادته التاريخية، ولاننصح إطلاقاً بأن يكون هذا الفيلم مرجعاً تاريخيا لمن يريد دراسة السيرة، لأن هذا الفيلم على جودته يحوي كثيراً من الأخطاء التاريخية المتعلقة بالسيرة النبوية، ليس هذا مجال تعدادها ونقدها.

لماذا انتصر المسلمون في الفتوحات
يزعم  العمري أكثر من مرة في ثنايا سيرته، أن انتصار الفتوحات الإسلامية كان سهلاً بسبب ضعف الفرس والروم، ويقول في الصفحة 36 عن حرب الروم والفرس: “كان ذلك مؤشراً لاندلاع حرب دامت قرابة العشرين عاماً، بين الإمبراطوريتين بين عامي 572 و591 ميلادية، وقد مهدت هذه الحرب لحرب أخرى لاحقة، ستنهك الطرفين على نحو يسهل لقوة جديدة ثالثة أن تكسرهما معاً”، ويكرر هذا الزعم في الصفحة 413 فيقول عن الفرس: “ولم يكونوا يعرفون أن حالة الحرب المستمرة بينهم وبين البيزنطيين تجعلهم منهكين على نحو يفسح المجال للقوة الجديدة التي كانت لم تظهر بعد”، ويكفينا تفنيداً لهذا الزعم أن نقول للعمري: دلنا على معركة واحدة فقط من معارك الفتوحات، كان فيها عدد المقاتلين المسلمين يصل إلى ربع عدد المقاتلين من الروم أو الفرس، وعندها سنصدق هذا الزعم، ألا ما أسعد المستشرقين والمغرضين بما تقول.

ما هكذا تكون السيرة “مختلفة”
أول جملة في تعريف العمري لكتابه هي أنه ينقلك للسيرة “على نحو مختلف تماما عن كل ما عرفته عن السيرة سابقاً”، وويبدو أنه حتى يثبت أن سيرته (مختلفة)، لم يفوت فرصة في أن يحشد فيها تعبيرات حديثة، السيرة في غنى عنها، لأن في لغتنا ما يكفينا، من ذلك مثلاً وصفه لميله صلى الله عليه وسلم إلى العزلة قبل بدء الوحي بأنه كان  “خياراً تكتيكياً استراتيجياً”، وعنونة أحد فصول الكتاب: “قريش على صفيح ساخن”، وفصل آخر: “الأوائل: سيكولوجيا وسيسولوجيا”،  ووصف إسلام سيدنا عمر بأنه كان (بيضة القبان) وتكراره المستمر لمصطلح “كاريزما النبوة”، وكل ذلك يهون أمام استخدامه مصطلحاً لا يمكن قبوله في سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، بل لا يمكن قبوله في لغتنا العربية، وهو مصطلح تحاول الأمم المتحدة فرضه في أدبياتها على شعوب العالم، لتنسف كل الأسس التي قامت عليها المجتمعات الإنسانية والقيم والحضارة، وذلك من خلال التلاعب بأهم وأعمق وأخطر الخصائص النفسية للفرد الإنساني سواء كان ذكراً أم أنثى، وهو مصطلح (الجندر Gender)، ولن نخوض هنا في معنى هذا المصطلح، ولكن نقول باختصار إنه يفصل بين الخصائص الفيزيولوجية وبين الخصائص النفسية للذكورة والأنوثة، وغايته النهائية تحويل الشذوذ الجنسي إلى مفهوم مقبول، وقد أثار هذا المصطلح  اعتراضات كثيرة عند طرحه لأول مرة في مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994،  لذلك فإن إدخال هذه اللفظة إلى لغتنا أمر غير مقبول إطلاقاً، وعلينا أن نرفض إدخاله قواميسنا واستخدامه في لغتنا، ويصبح ممجوداً ومرفوضاً بشكل أكبرإذا تم استخدامه في السيرة النبوية مهما كان سياق هذه الاستخدام، لذلك لا ندري ما هو مسوغ قول العمري في الصفحة 100 عن علاقته عليه الصلاة والسلام بالسيدة خديجة: “فدورها كان عابرا للجندر Gender وتمييزاته وفروقه”، فليس من المقبول إطلاقاً أن يقوم العمري بالترويج لهذا المصطلح الدخيل المرفوض في كتاب يتناول سيرته عليه الصلاة والسلام، ولا في أي كتاب آخر، مهما كان السياق والقصد، علماً بأن السياق أيضاً مرفوض تماماً، فما هكذا نتحدث عن علاقة نبينا عليه الصلاة والسلام بأمنا خديجة رضي الله عنها.                    

دلائل النبوة أم كاريزما النبوة؟
ذكرنا آنفاً أن من  المصطلحات التي استخدمها العمري لتكون سيرته (مختلفة تماماً) مصطلح (كاريزما النبوة)، مستبدلاً به ما درج كتاب السيرة على استخدامه مثل فضائل النبوة وشمائل النبوة وغيرها، وجعل هذا المصطلح عنوانا لفصل من سيرته، يتحدث فيه  بشكل أساسي عن أسباب الجاذبية التي كان يتمتع بها عليه الصلاة والسلام، فتجعله مؤثراً فيمن حوله، محبباً إلى كل من يراه أو يسمع منه، وذكر من ذلك صدقه وأمانته عليه الصلاة والسلام، وشرع فيما يشبه تحليلاً نفسياً لا نراه لائقاً بمقام النبوة، ولا نريد الخوض فيه، ولكن الذي عجبنا منه أن العمري لم يتطرق في هذا الفصل إلى ما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم حول ذلك، وهو قوله تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وقوله تعالى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}، وفي كلام الله وتفسيره ما يغني عن قول كل قائل في أسباب جاذبيته عليه الصلاة والسلام.

أبو الحسن الندوي

الوحي هو مصدر علم الأنبياء
يقول العمري في الصفحة 47: “لقد عمل الرسول الكريم على نفسه وسلوكه وأخلاقه على نحو جعله يكون مؤهلاً لاحقاً لأعظم أمانة تحملها بشر على الإطلاق، أمانة الرسالة الأخيرة”، ولعمري إن مثل هذه العبارة قد تقال في طالب تخرج للتو من الجامعة (فعمل على نفسه) ليكون متفوقاً في مهنته، أما قول ذلك في نبي اصطفاه الله تعالى ليبلغ رسالته فأمر غير مقبول ولا يليق بمقام النبوة، ونرد هنا بما يقول العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس (النبوة والأنبياء في ضوء القرآن الكريم)[2]: “إن أول وأهم ما يمتاز به معشر الأنبياء، أن العلم الذي ينشرونه بين الناس، والعقيدة التي يدعون إليها، والدعوة التي يقومون بها، لا تنبع من ذكائهم أو حميّتهم أو تألمهم بالوضع المزري الذي يعيشون فيها أو من شعورهم الدقيق الحساس، وقلبهم الرقيق الفياض، أو تجاربهم الواسعة الحكيمة، لاشيء من ذلك، إنما مصدره الوحي والرسالة التي يصطفون لها ويكرمون بها، فلا يقاسون أبداً على الحكماء أو الزعماء أو المصلحين، وجميع أصناف القادة التي جربتهم البشرية، وتاريخ الإصلاح والكفاح الطويل، والذي هو نتيجة بيئتهم وغرس حكمتهم وصدى محيطهم ورد فعل لما يجيش به مجتمعهم من فساد وفوضى، والقول الفصل في ذلك قول القرآن على لسان سيد الرسل صلى الله عليه وسلم: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} وقوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}، وقوله تعالى: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك}.

صدق الندوي، نعم، قول الله هو القول الفصل، وبناء على ذلك فإنه من غير المقبول واللائق، وكدت أقول إنه من قلة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، أن نتكلم عنه بعيداً عن تلك الحقيقة، حقيقة أن مصدر دعوته عليه الصلاة والسلام وكل ما يتعلق بها هو الوحي، وليس خبرته العملية أو ما مر به من حوادث،  فليس من المقبول أن يقول العمري مثلاً: “حرب الفجار وحلف الفضول كانا مثل درس عميق لا بد أنه عليه الصلاة والسلام استوعبه عن الحرب والسلام.. الحرب ليست أول الحلول حتماً لكن السلام عندما يأتي يجب أن يكون عادلا.. بدهيات ربما لا يمكن الوصول لها إلا بعد أن تمر بتجربتي الحرب والسلام”.[3]

من كان متصلاً بالوحي لا يحتاج دروساً وتجارب، ماذا كانت تجربته عليه الصلاة والسلام عندما وصل المدينة فأقام دولة؟ صدق سبحانه إذ قال له: {وعلمك مالم تكن تعلم}، وماذا كانت تجربة نبي الله موسى عندما ناداه الله تعالى ليلاً من جانب الطور؟ قد تربى في قصر فرعون كابن له، ثم عمل راعياً للغنم ثمان سنوات في المنفى، فناداه الله تعالى ليلاً من جانب الطور وأرسله إلى أعظم دولة في زمانها، وأشد الملوك سطوة على الأرض في زمانه، وليس من المقبول أن يقال في حقه عليه الصلاة والسلام: “هذا الصدق مع النفس هو الأساس لكل تلك الرحلة التي أهلته عليه الصلاة والسلام ليكون الرسول الخاتم”[4]، فالأساس هو الوحي ورعاية الله له، الله الذي قال له: {فإنك بأعيننا}، ولا يقبل أن يقال: “كان خيار الحبشة موفقاً”[5]، وهل كانت له عليه الصلاة والسلام خيارات غير موفقة وهو الذي “لا ينطق عن الهوى”؟، ولا يقبل أن  يقال: “ثمة صراع في داخل ذلك العالم المحمدي، صراع في داخل نفس أكمل البشر؟ نعم لأنه لم يصبح أكمل البشر إلا بوجود صراع كهذا”، ونقول: بل أصبح أكمل البشر لأن الله تعالى اصطفاه وأرسله وأوحى إليه وصنعه على عينه.

وهكذا، فإن المتصفح لسيرة العمري سيجد الكثير من أمثال هذه العبارات التي تتحدث عنه صلى الله عليه وسلم، بما لا يتناسب مع مقام النبوة ومفرداتها.

هجرة الحبشة والهجرات المعاصرة.. هل تصح المقارنة؟
يقول في التعليق على هجرة الحبشة، مقارناً إياها بهجرة المسلمين اليوم إلى بلاد الغرب: “ترى هل فكروا وهم يهاجرون اليوم أن دينهم سيضيع هناك، تراهم فكروا كما نفكر بأن أولادهم سيكبرون في الغربة معوجي اللسان، تراهم تصوروا ولو لوهلة أن هناك من المسلمين في أجيال لاحقة سيتداول فتاوى تحرم ما أمرهم به الرسول يوم قال لهم أن يذهبوا إلى من لا يظلم عنده أحد”[6]، ما هذه المقارنة العرجاء؟ لقد هاجر المسلمون آنذاك هجرة مؤقتة من أرض الكفر وفرارا من العذاب وحفاظاً على الدين، وعادوا عندما أمنوا على دينهم في أول فرصة سنحت لهم، وقد كانت عودتهم فرحة كبرى لرسول الله، حتى إنه صلى الله عليه وسلم قال مبتهجاً عندما رجعوا يقودهم جعفر بن أبي طالب، “والله ما أدري بأيّهما أفرح؟! بفتح خيبر أم بقدوم جعفر”[7]، وكان أول عمل قام به جعفر أن كان أحد القادة الثلاثة الذين خاضوا غزوة مؤته واستشهدوا فيها، أما الفتوى التي يتحدث عنها العمري، فهي موجهة لغير المضطرين، الذين يتركون بلاد الإسلام  طمعاً في جنسية أو جواز سفر، فيذوبون هناك، وإن نجحوا في الحفاظ على دينهم وتراثهم فقل وداعاً للجيل التالي ومن بعده، أهؤلاء يقارنهم العمري بسيدنا جعفر وصحبه؟

أبو طالب يريد الذهاب إلى النار!
يقول العمري في سياق الحديث عن مشهد احتضار أبي طالب: “عملياً كان أبو طالب واعياً تقريباً أنه يريد أن يذهب إلى النار فقط ليرضي أباه”[8]، ونقول:  وهل كان أبو طالب يؤمن أصلاً بوجود جنة ونار؟ وأي عاقل يصدق أنه لو كان حقاً يؤمن بالنار فلن يقول كلمة تنقذه منها وأنه سيقذف نفسه فيها للأبد من أجل رضى أبيه الميت؟ وهل كان أبو طالب يعتقد أن أباه سيبلغه موقفه هذا؟

ثم يذكر العمري ما رواه الشيخان: “فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك”، ولا يذكر بقية الحديث وهي: فأنزل الله عز وجل: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}!

لماذا السعي لمخالفة الغير؟
يلاحظ من يقرأ كتاب العمري، جنوحاً في بعض المواقف إلى التمسك بما يخالف الآراء المعتمدة والمثبتة بروايات صحيحة ونذكر أطرافاً من ذلك بإيجاز:

  • يعتمد الكتاب رواية لا تصح، تقول إنه كان من المسلمين من ارتد في مكة لعدم تصديقهم بحادثة الإسراء والمعراج وحاربوا مع المشركين في غزوة بدر، ويعتمد في ذلك على حديث عن السيدة عائشة، ولكنه حديث منكر، وعلى حديث في مسند أحمد، ولكن ذاك الحديث لا يدل على ارتداد أحد، بل يدل على إصرار نفر ممن كانوا كفاراً أصلا على كفرهم بعد الحادثة.[9] علماً بأنه لم يصلنا اسم واحد من أسماء هؤلاء المرتدين المزعومين.
  • كما يعتمد الرأي الشاذ في قوله تعالى {نون والقلم وما يسطرون}، والذي يقول إن نون هنا ليست من الحروف المقطعة بل تدل على الحوت، والآثار الواردة بهذا التفسير لا يصح منها شيء، وهل يكون سياق مطلع السورة إذن هكذا: (حوت والقلم وما يسطرون)؟ ويربط ذلك بشكل فيه الكثير من التمحل بحادثة سيدنا يونس في بطن الحوت.
  • يبرر سرية الدعوة في مكة بأنها كانت بشكل أساسي لتجنب السخرية، رغم أن المعلوم والذي يتفق عليه المؤرخون وكتّاب السير أن السبب الأول لسرية الدعوة هو اتقاء بطش كفار قريش، وهل حصلت هجرتان إلى الحبشة خوفا من السخرية أم من البطش؟
  • يخالف جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى {عم يتساءلون عن النبأ العظيم}، فيرده إلى نبأ كانت قريش تحدس به[10] ولكن لم تكن تعرف ما هو، والنبأ العظيم حسب أقوال الغالبية العظمى من المفسرين، وحسب الكثير من الآثار والنقول، هو القرآن الكريم أو البعث والحساب، وليس حدثاً تنتظره قريش.
  • خلت سيرة الدكتور العمري من الكثير من أخبار الصحابة في العصر المكي، وهي أخبار لا بد منها لتكون السيرة مكتملة، ولتعطي صورة واضحة عن الأحداث، وكتب السيرة عادة لا تخلو من مثل تلك الأخبار لأنها جزء لا يتجزأ من أحداث السيرة.

وأخيراً، فلا نعلق على ما في الكتاب من احتمالات “أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد فكر بهذا، أو تذكر هذا، أو ربط هذا بهذا”[11]، ونترك الفتوى في جواز الكتابة في هذه الاحتمالات من عدمه لأهل العلم، ولكن في ضوء ما رأيناه من مآخذ على الكتاب، نهمس في أذن الصديق الدكتور أحمد خيري العمري ونقول له: ما هكذا تستمر السيرة!

__________________________________________________

الهوامش

[1] السيرة مستمرة، ص 12

[2] النبوة والأنبياء في ضوء القرآن الكريم، لأبي الحسن الندوي، طبعة بيروت، ص 43-44

[3] السيرة مستمرة، ص 80

[4] السيرة مستمرة، ص 90

[5] المصدر السابق ص 255

[6] المصدر السابق ص 265-266

[7] رواه الحاكم وصححه

[8] السيرة مستمرة، ص 315

[9] مسند الإمام أحمد، حديث رقم 3546، وفي بصه قول الكافرين: “نحن لا نصدق محمداً بما يقول فارتدوا كفاراً”، فالنص يدل بوضوح على أنه أصلا لم يكونوا مؤمنين لما سمعوا رواية الحادثة منه صلى الله عليه وسلم وأنهم ارتدوا إلى كفرهم بعد سماعهم معجزة الإسراء وإثباتها لهم بوصف المسجد الأقصى من قبل رسول الله، فارتدوا إلى كفرهم بدل أن يؤمنوا,

[10] السيرة مستمرة، ص 413

[11] السيرة مستمرة ص 15

 ما هكذا تستمر السيرة.. نظرات في كتاب “السيرة مستمرة” (2 من 3)

نتابع في هذا المقال ما بدأناه في مقالنا السابق، حول الرد على تشكيك الدكتور أحمد خيري العمري بوقوع حادثة انشقاق القمر، وقد بينا في المقال الماضي أن الحادثة متواترة وهناك إجماع من كل المفسرين عليها وأن زعم العمري بأن إنكارها كان (سائدا ومتداولاً) منذ عهد التابعين لا أساس له من الصحة.

وقد توقفنا عند قول العمري: “أليس غريباً مع حادثة بهذا الحجم أن لا يكون هناك شاهد عيان من الصحابة إلا شاهد واحد فقط هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؟ ألا يوجد صحابي واحد آخر قال بسند صحيح حضرت حادثة انشقاق القمر؟”[1]
وقلنا إن هذا هذا كلام خطير وغير مقبول وينطوي على تشكيك في الحادثة، وتشكيك في عدالة وضبط رواتها والمحدثين الذين أخرجوها، ووعدنا قراءنا الكرام ببيان ذلك في مقالنا هذا.

تشكيك في رواية عبد الله بن مسعود
نقول بعد الاتكال على الله: هذا الاستغراب فيه تشكيك في الرواية كلها، ولا يفهم منه إلا أنه اتهام لهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه بأنه متوهم أو ملفق أو (حاشاه) كاذب؟ حتى لو فرضنا جدلاً أن الحديث لم يروه إلا سيدنا عبد الله بن مسعود، وذلك لأسباب عديدة:

أولها: أن طرق رواية الحادثة عن ابن مسعود رضوان الله عليه، متواترة، فقد أخرج الحديث  البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنن، كل منهم بأسانيد عديدة صحيحة تصل لسيدنا ابن مسعود، فلا يمكن التشكيك إطلاقاً في نسبة الحديث إلى سيدنا عبد الله بن مسعود، فالتشكيك في الحديث تشكيك في صحابي جليل.

وثانيها: أن سيدنا ابن مسعود قال في نص الحديث: (كنا مع رسول الله) فقوله هذا الذي وصلنا بالتواتر عنه رضي الله عنه دليل على أن الحادثة شهدها جمع من الناس وليس ابن مسعود وحده.

وثالثها: أن كثيرا من الأحاديث والحوادث شهدها عدد  من الصحابة وأحياناً جموع منهم، ولكنها لم تصل إلينا بسند صحيح إلا من صحابي واحد أو اثنين، لأسباب عديدة، مجال بحثها علم مصطلح الحديث،[2] فهل يريد العمري منا أن نشكك بكل حديث حضره جمع ولم يروه إلا صحابي واحد حتى لو كان سنده ورواياته في غاية القوة إلى الصحابة مثل هذا الحديث؟ وحتى لو رواه صحابة كثر بعضهم عن بعض؟

ولأن هذا الأمر الأخير لا يخفى على العمري، فقد تابع التشكيك فقال: “كل من ذكر الأمر من الصحابة في أحاديث أخرى، ذكروها على ما يبدو نقلاً عن ابن مسعود، أو ربما سواه، لكن لا نعرف بالضبط”[3]

دعونا نلاحظ لغة التشكيك في السطر السابق، (على ما يبدو، ربما، لا نعرف بالضبط)، ونقول: بل نعرف بالضبط، نعرف أن الصحابة إن نقلوا عن بعضهم فنقلهم لا نشك فيه، سواء كان عن ابن مسعود أو عن غيره، ونعرف أن هناك روايات أخرى للحديث عن صحابة آخرين، منهم ابن عمر وحذيفة بن اليمان وجبير بن مطعم، ونعرف أن الصحابة تناقلوا هذه الحادثة في حياته عليه الصلاة والسلام وحياة الصحابة من بعده فما أنكرها أحد.

التشكيك في إجماع الصحابة
يتابع العمري تشكيكه فيقول: “أنس بن مالك (وحديثه متفق عليه)، لم ير انشقاق القمر في مكة لأنه كان في المدينة، وكان عمره يوم جاء الرسول عليه الصلاة والسلام مهاجراً عشر سنوات فقط، والحادثة حدثت قبل الهجرة بسنوات، (وأنس بن مالك هو الوحيد الذي قال إن انشقاق القمر قد حدث بعد طلب المشركين آية)، ابن عباس ذكر أيضاً الحادثة[4]وكذلك ابن عمر، وكلاهما لم يحضرا الأمر، (لعدم ولادة الأول في تلك الفترة، وصغر سن الثاني)”[5].

وهذا تشكيك آخر في الحديث لا أساس له من الصحة، هل يريد العمري أن يشكك في رواية ثلاثة من كبار الصحابة، لأنهم لم يشهدوا الحادثة بأنفسهم؟ لماذا رووها إذن؟ هل اخترعوا الحادثة من بنات أفكارهم أم سمعوها من الصحابة المهاجرين؟ ومن قال لك إن ابن عمر لم يشهد الحادثة عندما كان طفلاً؟ وهل أضاف أنس بن مالك بنفسه أن الحادثة حدثت بعد طلب المشركين؟ أم سمع ذلك من غيره من الصحابة؟ الصحابة يروي بعضهم عن بعض، ولا نشك أبدا في أنهم  قد سمعوها من صحابة آخرين، بل إن رواية كل من هؤلاء الثلاثة، ابن عمر وابن عباس وأنس  وغيرهم وبأقوى الأسانيد إلى كل منهم بالإضافة لرواية ابن مسعود، دليل على أنها كانت رواية مسلماً بها وشائعة بين الصحابة في عهد النبوة، ولو مشينا على منهج العمري، فعلينا أن  نشكك في حديث بدء نزول الوحي الذي روته السيدة عائشة، فهي حادثة حدثت قطعاً قبل أن تولد.

للمزيد عن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها انشقاق القمر، يرجى العودة إلى مقال نبوة محمد في موسوعة السبيل.

أين بقية نص الحديث الشريف؟
يتابع العمري تشكيكه، ليوهم القارئ من جديد أن الحديث الشريف منقول عن صحابي واحد هو ابن مسعود، فيسقط عشرات الروايات الصحيحة الأخرى،  وينفي أن المشركين طلبوا آية فانشق القمر كما جاء في روايات أخرى متفق عليها، فيقول: “كل ما قاله ابن مسعود هو أن النبي كان مع مجموعة من المؤمنين في منى، وأن القمر انشق، وأن الرسول قال لهم اشهدوا، فقط، لا شيء آخر”[6].

كلا، هناك شيء آخر هام  قاله ابن مسعود في روايتي البخاري ومسلم، تجاوزه العمري هنا، وهذا نص لفظ مسلم: “بينما نحن مع رسول الله، إذا انفلق القمر فلقتين، فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه”[7]، وأهمية هذه الرواية الصحيحة التي التي تجاهلها العمري، أنه قال بعد أن أشبع الحادثة تشكيكاً: “لا نكذب حديث عبد الله بن مسعود أو أي من الصحابة الكرام الذين نقلوا الأمر عنه”، وهذا أمر عجيب، يطرح الشك بعد الشك، ثم يقول: لا نكذب! ويبرر ذلك برأي هو من أشد ما جاء به تهافتاً، وهو قوله بعد ذلك: “الصحابي الجليل رأى ظاهرة وسماها هو انشقاق القمر، قد تكون خسوفاً وقد تكون انعكاساً للقمر على الغيوم”[8]. نستطيع الآن أن نفهم لماذا حذف العمري قول عبد الله بن مسعود: “فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه”، لأن هذه الإضافة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن ما رآه ابن مسعود وغيره كان انفلاقاً  للقمر، ولم يكن كسوفاً أو انعكاساً على الغيم، وعشرات الروايات الصحيحة التي وردت للحديث، عن ابن مسعود وعن غيره،  فيها واحد من لفظين: (انشق شقتين) أو (انفلق فلقتين)، وأن الجبل كان بين الفلقتين، فكيف استنتج العمري أن ما حصل كان كسوفاً؟ هل نصدق من شاهدوا الحادثة عيانا ونقلوها لنا بأصح الألفاظ وأدق الأسانيد؟ أم نصدق  العمري الذي لم يشاهدها ويزعم اليوم رجماً بالغيب  أن الأمر كسوف أو انعكاس ضوء؟

ثم يزيد من تشكيكه فيقول: “ولاشي مما رواه ابن مسعود شاهد العيان الوحيد باعتبار أن الصحابة الآخرين نقلوا عن آخرين، يدل على أنه عليه الصلاة والسلام قال إن هذا انشقاق للقمر”. تكرار ثم تكرار ثم تكرار للإصرار على أن الحادثة  ما شاهدها إلا صحابي واحد، وهذا غير صحيح قطعاً، فهو يناقض نفسه عندما يقول (الصحابة الآخرين نقلوا عن آخرين)، من هم الآخرون الذين نقل عنهم الصحابة؟ أليسوا صحابة أيضاً؟ ولماذا يشترط أن يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: “هذا انشقاق القمر؟”، هل قال موسى هذه العصا قد شقت البحر أم ألقاها ورأى الناس المعجزة؟ هل قال عليه الصلاة والسلام: هذه أصابعي ينبع منها الماء فيسقي جيشاً، أم فعل المعجزة ورآها الناس؟ ما هذا الشرط العجيب الذي لم نسمع بمثله قبل العمري!

(حس بديهي) يجعل الانشقاق كسوفاً
يختم العمري كلامه عن الحادثة فيقول: “أن تفسر حديثاً صحيحاً بطريقة تتوافق مع القرآن الكريم، ومع الحس البديهي، لا يعني أبداً أن تكذبه”.

ونقول: عجيب أنه بعد أن يلقي كل تلك الشكوك،  يكرر مرة أخرى أنه لا يكذب الحديث، (ولا تخفى دلالة هذا التكرار!)، أما قوله إن  تفسيره يتوافق مع القرآن الكريم،  فإن كان العمري يقصد زعمه أن قوله تعالى “اقتربت الساعة وانشق القمر” هو “استخدام الفعل الماضي للدلالة على ما سيحدث يوم القيامة”[9]، وهو مشابه في الحديث عن يوم القيامة  لقوله تعالى “وأزلفت الجنة للمتقين”، وقوله تعالى “ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد”، وقوله تعالى “ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا”، فقد أخطأ خطأ كبيراً، ولن تنطلي هذه الخدعة على أحد، وذلك لأن الآيات التي استشهد بها على استخدام الماضي للمستقبل، في كل منها دلالة قاطعة على أنها تتكلم عن يوم القيامة، فيها نفخ في الصور، وإزلاف للجنة، وحوار بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهذه الدلالة القاطعة شرط يجب أن تتوفر حتى نصرف الزمن الماضي إلى المستقبل، وهو ما لا يتوفر في آية سورة القمر.

وإن كان يقصد ما زعمه من أن الله لم يذكر تلك المعجزة إلا مرة واحدة في القرآن الكريم، بينما ذكر معجزة موسى وغيرها  مرات عديدة،[10] رغم تكرر الطلب من كفار قريش بطلب المعجزات، وأن ذلك يلقي بالشك على الحادثة، فنقول: تلك حجة أوهى من أن يرد عليها، بل هي حجة لك لا عليك، الله تعالى قد ذكر معجزة الإسراء  مرة واحدة أيضا، ولم يكررها، وهل نكذب الخبر الصادق لأنك وحدك (من بين كل كتاب السيرة والمحدثين والعلماء والمفسرين) تظن أن الحادثة لو وقعت لكان على الله أن يكرر ذكرها كلما طلب الكفار آية؟!

وأما قوله إن تفسيره يتوافق مع (الحس البديهي)، فلا ندري ما المقصود بذلك، هل المقصود استنتاجه بعد خمسة عشر قرناً أن ما حدث كان كسوفاً أو ظلا للقمر على الغيوم، رغم أن كل من رأى بأم عينه وروى الحادثة قال إن هذا (انشقاق) أو (انفلاق)؟ ومتى كان (الحس البديهي) بديلاً عن الخبر الصادق واللفظ الواضح والدليل القاطع والسند شبه المتواتر والنص القرآني؟

تناقض صارخ في اعتماد الرويات
 لقد استغرق العمري ثمان صفحات من سيرته في محاولة نراها فاشلة تماماً للتشكيك في حادثة قطعية الثبوت برأي المحدثين والمؤرخين[11]، ، ولنا هنا سؤالان للعمري:

الأول: لماذا استغرقت ثمان صفحات من كتابك تحاول التشكيك في هذه الحادثة الصحيحة شبه المتواترة، وفي الوقت نفسه قبلت رواية أن الطير الأبابيل نقلت مرض الجدري لمكة، وقبلت رواية أخرى منقطعة واهية،  لدعم رواية الجدري الواهية، وهي أن  السيدة عائشة رأت في طفولتها سائق الفيل وسائسه أعميين في مكة،[12] رغم أن هذه الرواية   في غاية الضعف، أسانيدها منقطعة،  ولم ترد في أي من كتب الصحاح والسنن، ولم يروها أي صحابي آخر، أين توافق هذه الروايات مع القرآن الكريم في سورة الفيل؟ وأين توافقها مع (الحس البديهي)؟ هل فات (الحس البديهي) أن الجدري لو جاء مع الطيور لانتشرت العدوى في أهل مكة، وأن رؤية السيدة عائشة لسائق الفيل وسائسه في مكة عندما كانت طفلة أمر أقرب إلى الخيال، لأن ذلك معناه أن السائس والسائق امتد بهما العمر أكثر من خمسين سنة بعد حادثة الفيل، ولكن لم يرهما أحد من أهل مكة فيروي رؤيتهما سوى طفلة صغيرة رأتهما بعد أن بلغا من الكبر عتياً! وكيف تقبل رواية منقطعة عن السيدة عائشة عندما كانت طفلة وتبني عليها، وترفض رواية صحيحة متفقاً عليها، وصلتنا بسند قريب من التواتر عن الفتى ابن عمر حول انشقاق القمر، تؤيدها عشرات الروايات الأخرى، بحجة أنه كان طفلاً؟ أهذا هو المنهج التاريخي الذي بنيت عليه سيرتك؟  رواية واهية منقطعة لا تتوافق مع القرآن ولا مع الحس البديهي، تقبلها وتثبتها وتمر عليها مرور الكرام وكأنها حقيقة واقعة، ورواية قاطعة مثبتة تتوافق مع القرآن الكريم وأجمع على صحتها العلماء والمحدثون والمفسرون، تحشد لها شكوكاً واهية لا قيمة لها في ميزان العلم والتحقيق والتاريخ والتفسير؟ هذا التناقض يعطي فكرة عن المنهج الانتقائي المتاقض الذي اتبعه العمري في اختيار الروايات التاريخية التي بنى عليها سيرته المستمرة.

الثمرة المرة للتشكيك
السؤال الثاني وهو الأهم، وهو الذي من أجله كتبنا هذا المقال والذي قبله في تفنيد تشكيك العمري في حادثة انشقاق القمر: ما تأثير هذا التشكيك على فئة من الشباب الناشئ الذي لم يطلع على علم مصطلح الحديث،  ولم يراجع الحادثة في المراجع التاريخية وكتب الحديث، ولم يطلع على ما جاء في كتب التفسير، هل سيعود من قراءة بحثك هذا إلا بشك في كلام المفسرين للقرآن الكريم، وشك في دلالة الآيات القرآنية، وشك في ضبط الصحابة الكرام وعدالتهم، وشك في طريقة رواية الحديث ووصوله إلينا؟
نعم، هذه الثمرة المرة  هي محصول تشكيك العمري في تلك الحادثة، سواء قصد ذلك أم لم يقصد، ومن أجل هذه النتيجة المؤسفة، بسطنا القول في تفنيد تلك الشكوك في هذا المقال والذي قبله، لأن الموضوع ليس مجرد حادثة نثبتها أو ننفيها، بل موضوع تشكيك في الصحابة والحديث والمحدثين والرواة والمفسرين.
لم ينته الكلام عن سيرة العمري المستمرة، ولنا معها وقفة ثالثة وأخيرة، فانتظرونا في المقال القادم إن شاء الله.

_________________________________________

الهوامش

[1] السيرة مستمرة، ص 245

[2] من ذلك باختصار شديد، التحري الشديد للمحدثين في التحقق من صحة الحديث بحيث يسقطون أي سند فيه انقطاع أو  شك، ومنها أن المكثرين من رواية الحديث من صحابة رسول الله، هم أولئك الذين كانوا شباباً على عهده عليه الصلاة والسلام، وامتد بهم العمر بعد انتقاله للرفيق الأعلى، وكانوا ممن يجلس للتدريس والرواية، وسيدنا عبد الله بن مسعود واحد من هؤلاء.

[3] السيرة مستمرة، ص 245

[4] وحديث ابن عباس أيضاً  متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم.

[5] السيرة مستمرة ص 245

[6] السيرة مستمرة، ص 246

[7] صحيح مسلم، حديث رقم 288

[8] السيرة مستمرة، ص 246

[9] السيرة مستمرة، ص 243

[10] السيرة مستمرة، ص 241 وما بعدها

[11] قد بسطنا القول حول  قطعية ثبوت الحادثة ذلك في المقال السابق، ويمكن مراجعة ما نقله ابن كثير في تفسيره لسورة القمر من عشرات الروايات والأسانيد

[12] السيرة مستمرة، ص 36

ما هكذا تستمر السيرة.. نظرات في كتاب “السيرة مستمرة” (1 من 3)

“ينقلك الكتاب إلى سيرته عليه الصلاة والسلام حتى نهاية المرحلة المكية، لكن على نحو مختلف تماما عن كل ما عرفته عن السيرة سابقاً”.

هذا ما يذكره الدكتور أحمد خيري العمري في تعريفه عن كتابه “السيرة مستمرة”، كما جاء على الغلاف الخلفي للكتاب، وقد صدق فيما قال، فقد وجدنا في الكتاب بعد مراجعته اختلافات كثيرة عما عرفته كتب السيرة السابقة، لأننا لم نعرف كتاب سيرة يشكك في أحداث وصلتنا بروايات متواترة، ويفاضل بين الروايات بمعايير لا تستند إلى مدى صحة روايتها، ويهمل الكثير من أخبار الصحابة الضرورية لاكتمال صورتها، ويستخدم مصطلحات حديثة في غير مكانها، وغير ذلك مما سنعرض له في سلسلة من المقالات، نبدؤها بهذه المقالة التي نتناول فيها شيئاً من منهج العمري في اعتماد الأحداث التي وضعها في كتابه.

المنهج التاريخي
من أبجديات الكتابة في السيرة النبوية، أن ترجيح الحوادث واعتمادها يقوم على مدى صحة سند روايتها،  ولكن نهج العمري في اعتماد الروايات لم يكن حسب ضعفها وقوتها،  فنراه يقبل أحداثاً رواياتها غاية في الضعف، ويشكك في روايات قد يصل سندها حد التواتر، مثال الحالة الأولى حادثة مشاركته صلى الله عليه وسلم في حرب الفجار عندما كان صبياً، فيقول العمري عنها:
“ورغم أن رواية مشاركة الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحرب بالنبل (جمع الأنبال أو رميها) هي رواية ضعيفة سنداً ويرفضها أغلب محققي السيرة، فإنها منطقية جداً في سياقها” (ص 77).

وفي الوقت نفسه،  يأتي لروايات وحوادث وصلت إلينا بروايات صحيحة أو متواترة، فيبذل جهده ليشكك فيها أو ينفيها، مستنداً إلى تأويلات لا يؤيدها تاريخ ولا رواية ولا لغة ولا منطق، وأفضل مثال على ذلك حادثة انشقاق القمر، والتي سنتناول كيف تعامل معها العمري في الأسطر التالية.

بين تواتر الحادثة ووجوه التفسير
حاول العمري التشكيك في وقوع هذه الحادثة، بانياً تشكيكه على نقاط واهية باطلة، نستعرضها بعونه تعالى ونبين بطلانها واحدة بعد الأخرى.

من أهم النقاط التي يبني عليها العمري شكوكه هي محاولة الخلط بين أمرين: الأول حادثة انشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني تفسير قوله تعالى {اقتربت الساعة وانشق القمر}، وتمسكه بقول ضعيف مرجوح هو أن الآية الكريمة رغم أنها بصيغة الماضي فالمقصود بها أن الانشقاق سيحصل في المستقبل.

وللرد على ذلك، نقول بعد الاتكال على الله: أما حادثة انشقاق القمر، فقد أجمع على حدوثها العلماء والرواة والمحدثون وكتاب السير.

يقول ابن كثير في فصل من كتابه البداية والنهاية، عنوانه “انشقاق القمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم”: “وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها،ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله”، ثم يقول بعد أن يذكر عشرات الروايات والأسانيد والطرق لتلك الحادثة: “فهذه طرق متعددة قوية الأسانيد تفيد القطع لمن تأملها”[1].

وعلى هذا المنوال سار جمهور المفسرين والمحدثين، وسنجد مثل ذلك في كتبهم وتفاسيرهم، وفي صحاح الحديث، فلا يوجد كتاب من صحاح الحديث، كالبخاري ومسلم وأحمد وغيرهما، إلا وفيه باب أو فصل عنوانه (انشقاق القمر)، يثبتون فيه ما ورد من أحاديث وأسانيد عن هذه الحادثة.

وأما تفسير الآية الكريمة {اقتربت الساعة وانشق القمر}، فإن الغالبية العظمى من المفسرين يرون أن المقصود بها انشقاقه في حياته صلى الله عليه وسلم، في تلك الحادثة بالذات، وأضاف بعضهم وجوهاً أخرى لتفسير الآية، ولكن من ذكر تلك الوجوه بيّن أنها مرجوحة ضعيفة، وأنها حتى لو ثبتت فهي لا تتعارض مع وقوع حادثة الانشقاق في حياته، أي لم يربط هؤلاء القلة الحادثة الحقيقية بالوجوه الضعيفة لتفسير الآية، فمدار إثبات الحادثة على تواتر الرواية، وتفسير الآية يؤكدها على أصح الأقوال، ولا ينفيها إن أخذنا بالأقوال الضعيفة.

هل تؤيد أقوال المفسرين تشكيك العمري؟
مع كل ما سبق، ينقل العمري أقوالاً لبعض المفسرين ليشكك في حادثة انشقاق القمر بناء على الرأي الضعيف الذي ذكرناه، وسنعرض ما نقله بالتفصيل عن خمسة من المفسرين، لنرى إن كان فيها حقاً ما يشكك في تلك الحادثة[2]:

أولاً: العز بن عبد السلام
نقل العمري[3] عنه ما يلي: “{اقْتَرَبَتِ} دنت، سميت ساعة لقرب الأمر فيها، أو لمجيئها في ساعة من يومها. {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} اتضح الأمر وظهر يضربون المثل بالقمر فيما وضح وظهر، أو انشقاقه انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها كما سمي الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه، أو ينشق حقيقة بعد النفخة الثانية، أو انشق على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند الجمهور”.

هذا ما نقله العمري من تفسير العز، ولكن الذي لم ينقله العمري أن العز بن عبد السلام نقل بعد ذلك حديث عبد الله بن مسعود للدلالة على أن رأي الجمهور هو الأقوى، فقال: “قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رأيت القمر منشقاً شقتين مرتين بمكة قبل مخرج الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى المدينة، شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء، فقالوا سحر القمر.” [4]

في حين لم يأت العز بأي دليل على القولين الأولين، مما يعني أنه يؤيد رأي الجمهور، ثم يتابع العز فيقول في تفسير الآية التالية من سورة القمر {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}، فيقول: “(وإن يروا آية) أي انشقاق القمر أو أي آية رأوها أعرضوا عنها”[5]. وهذا دليل على أن العز يؤيد رأي الجمهور، ولا ينفي ذلك أنه أتى بأقوال أخرى في تفسير الآية، فقد جاء بها للأمانة العلمية ثم رجح قول الجمهور.

إذن، الدكتور العمري لم ينقل كل ما قاله العز في تفسير مطلع سورة القمر، ولم ينقل أنه جاء بالدليل على رأي الجمهور، ولم ينقل تفسير الآية الثانية التي تبين بوضوح أنه يؤيد الجمهور، ليوهم القارئ أن العز يؤيد الرأي القائل بأن مطلع سورة القمر يتحدث عن يوم القيامة.

ثانياً: النيسابوري
 نقل العمري عن النيسابوري في تفسيره ما يلي:  “وعن بعضهم أن المراد سينشق القمر، وصيغة الماضي على عادة إخبار الله وذلك أن انشقاق القمر أمر عظيم الوقع في النفوس فكان ينبغي أن يبلغ وقوعه حد التواتر وليس كذلك”.

فلما رجعنا إلى تفسير النيسابوري، وجدنا أن العمري قد انتزع هذه الأسطر من سياقها، وهذا قول النيسابوري كاملا، وقد وضعنا خطاً تحت ما نقله العمري، يقول النيسابوري: “انْشَقَّ الْقَمَرُ: في الصحيحين عن أنس أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر مرتين. وعن ابن عباس: انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم. هذا قول أكثر المفسرين. وعن بعضهم أن المراد سينشق القمر وصيغة الماضي على عادة إخبار الله وذلك أن انشقاق القمر أمر عظيم الوقع في النفوس فكان ينبغي أن يبلغ وقوعه حد التواتر وليس كذلك، وأجيب بأن الناقلين لعلهم اكتفوا بإعجاز القرآن عن تشهير سائر المعجزات بحيث يبلغ التواتر. وأيضا إنه سبحانه جعل انشقاق القمر آية من الآيات لرسوله، ولو كانت مجرد علامة القيامة لم يكن معجزة له كما لم يكن خروج دابة الأرض وطلوع الشمس من المغرب وغيرهما معجزات له، نعم كلها مشتركة في نوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن الغيوب. وزعم بعض أهل التنجيم أن ذلك كان حالة شبه الخسوف ذهب بعض جرم القمر عن البصر وظهر في الجو شيء مثل نصف جرم القمر نحن نقول: إخبار الصادق بأن يتمسك به أولى من قول الفلسفي”.[6]

إذن النيسابوري جاء بالأحاديث من الصحيحين، والتي تثبت حدوث الواقعة، وأكد أن هذا رأي الجمهور وأنه يوافقهم، ثم جاء بشبهة بدأها بقوله (وقال بعضهم..)، ثم رد على الشبهة رداً مفحماً وأكد أنه ممن يرى أن الانشقاق حصل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن العمري نقل الشبهة فقط من تفسير النيسابوري، ولم ينقل رأيه الذي سبقها، ولم ينقل رده عليها، وأترك للقراء تسمية هذا الفعل الذي فعله العمري!

ثالثاً: السمعاني
بعد أن أقر العمري بأن السمعاني يؤيد رأي الجمهور، نقل قوله لرأي المخالفين، وما نقله العمري عن السمعاني هو ما يلي: “ولو كان قد انشق القمر لرواه جميع أصحاب رسول الله، وأيضاً لو كان ثابتاً لرواه جميع الناس ولأرخوا له تاريخاً، لأنهم أرخوا لما دون ذلك من الحوادث، وإنما معنى الآية: انشق القمر أي ينشق وذلك يوم القيامة، ويقال معنى انشق القمر أي انكسف”.

ومرة أخرى ينتزع العمري جملاً من سياقها، وبالرجوع إلى تفسير السمعاني نجد أن العمري حذف جملة من أول الكلام تدل على أن السمعاني جاء بهذا الكلام على أنه شبهة، وهاكم قول السمعاني كاملاً كما في تفسيره، وقد وضعنا خطأ تحت الكلام الذي اقتطعه العمري من قول السمعاني ونقله في كتابه:
“فإن قيل ابن عباس لم يكن رأى انشقاق القمر، فكيف تصح روايته؟ وأما ابن مسعود فقد تفرد بهذه الرواية، ولو كان قد انشق القمر لرواه جميع أصحاب رسول الله، وأيضاً لو كان ثابتاً لرواه جميع الناس ولأرخوا له تاريخاً، لأنهم أرخوا لما دون ذلك من الحوادث، وإنما معنى الآية: انشق القمر أي ينشق وذلك يوم القيامة، ويقال معنى انشق القمر أي انكسف، والجواب أنه قد ثبت انشقاق القمر بالرؤية الصحيحة، رواه ابن مسعود وجبير بن مطعم شهدا بالرؤية، ورواه ابن عباس وابن عمر وأنس، وروى بعضهم عن بعض عن عبد الله بن عمرو (بن العاص)، ومن المحتمل أنه روى عن رؤية، وقد كان ابن مسعود روى هذا عن رؤيته ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان هذا اتفاقاً منهم، ثم الدليل القاطع على ثبوته الآية، وقوله إن معناه سينشق القمر، قلنا: هذا عدول عن ظاهر الآية، ولا يجوز إلا بدليل قاطع، ولأن الله تعالى قال: (وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر)، وهذا دليل على أنهم قد رأوها، ولأنه سماه آية، وإنما يكون آية إذا كانت في الدنيا، لأن الآية هنا بمعنى الدلالة والعبرة، وقوله إن الناس لم يروا، قلنا يحتمل أنه كان في غفلة الناس، أو تستر عنهم بغيم، وقد رد الله تعالى الشمس ليوشع بن نون، ولم ينقل أنه أرخ لذلك أيضاً، وقد ذكر في بعض التفاسير أن أهل مكة قالوا: سحرنا ابن أبي كبشة، فقال بعضهم: سلوا السفّار الذين يقدمون فإن كان سحرنا فلا يقدر أن يسحر جميع الناس، فقدم السفار فسألوهم فقالوا إنهم قد رأوا”[7].
فانظر عزيزي القارئ كيف حذف العمري مطلع الكلام “فإن قيل…” لأن كلمة (فإن قيل) تدل على أنه قول غير معتمد، وأن السمعاني جاء به ليرد عليه، كما أنها جملة شرطية، فحذف العمري الشرط حتى لا يأتي بجوابه، وجوابه كما رأينا أعلاه يأتي بعد الكلام الذي نقله العمري مباشرة، فالعمري نقل الشبهة التي ساقها السمعاني، ولم ينقل رده الواضح المفحم عليها، فماذا نسمي ذلك الفعل من العمري؟

رابعاً: الماوردي
نقل العمري عن الماوردي الأقوال المعروفة في تفسير الآية[8]، وترجيحه لرأي الجمهور، ومن بينها قول للحسن البصري بأن المقصود بالآية: ينشق يوم القيامة، أورده الماوردي غير مسند، ولم نعثر عليه مسندا في أي مرجع آخر، لذلك لا تصح نسبة هذا القول للحسن البصري، ولا يصح استشهاد العمري به كأحد التابعين الذين يرون هذا الرأي.

خامساً: القرطبي
ذكر العمري أخيراً أن مثل تلك الأقوال قد نقلها القرطبي، ولكنه لم يذكر أن القرطبي قال بعد نقلها: “قلت: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول، أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل”، ثم يفند القرطبي بعد ذلك الشبهات.

خلاصة القول: لا يوجد مفسر واحد خرج عن الإجماع على أن معجزة انشقاق القمر حدثت في عهده صلى الله عليه وسلم، وكل ما في الأمر أن بعضهم نقل قولاً ضعيفاً في تفسير قوله تعالى (وانشق القمر)، ثم رد عليه.
وهكذا نرى أن العمري قد نقل لنا الشبهات، وتجاهل تفنيد العلماء لها،  ليقول لنا بعد ذلك: “من المهم التذكير بأن إنكار حدوث الانشقاق فعلياً في مكة في عهد الرسول ليس بدعة معاصرة يقولها المتأثرون بالغرب، كما نتهم عادة، بل هو أمر كان موجوداً ومطروحاً ومتفاعلاً معه مذ عصر التابعين وما بعدهم، صحيح أنه لم يكن القول السائد، ولكنه كان موجوداً ومنقولاً ولم يتهم أحد بإيمانه جراء ذلك”.

وصلنا بيت القصيد فوجدناه دون أساس
هذا هو إذن بيت القصيد الذي أراد العمري أن يصل إليه بهذه النقول المبتورة، وهو أن إنكار حادثة الانشقاق (كان موجوداً ومطروحاً ومتفاعلاً معه منذ عصر التابعين وما بعدهم)، ولكن هيهات، قد رأينا أن كل ما جاء به من أدلة على ذلك لا يصح إطلاقاً، وأن إنكار الانشقاق لم يكن موجوداً، ولامطروحاً ولاسائداً ولا متفاعلاً معه، وأن الإجماع على وقوع هذه الحادثة المتواترة لا شك فيه عند أي صحابي أو تابعي أو محدث أو مفسر.
وبعد أن يصل العمري إلى بيت قصيده، يعود ليقول: “ولكن مرة أخرى، أليس غريباً مع حادثة بهذا الحجم أن لا يكون هناك (شاهد عيان) من الصحابة إلا صحابي واحد هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؟ ألا يوجد صحابي آخر قال بسند صحيح حضرت حادثة انشقاق القمر..”.

هذا كلام خطير وغير مقبول وينطوي على تشكيك في الحادثة، وتشكيك في عدالة وضبط رواتها والمحدثين الذين أخرجوها، ونترك الرد عليه إلى المقال القادم بعونه تعالى.

_________________________________________________________

الهوامش

[1] البداية والنهاية، الجزء الثالث، ص 118 طبعة مكتبة المعارف – بيروت 1991

[2] لم يذكر الدكتور العمري مصادر نقله (الكتاب والصفحة) عن أولئك المفسرين الخمسة في هامش كتابه، فتتبعنا ذلك وأثبتناه في هامش هذا المقال

[3] تناول الدكتور العمري حادثة انشقاق القمر في كتابه (السيرة مستمرة) على مدى تسع صفحات، بين الصفحة 240 و 248، وكل ما ننقله في الأسطر التالية عن تلك الحادثة من كتابه  موجود ضمن تلك الصفحات

[4] تفسير القرآن للإمام العز بن عبد السلام، الجزء الثالث، ص 245 طبعة المملكة العربية السعودية 1415

[5] المصدر السابق

[6] تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، المجلد السادس، ص 216 طبعة دار الكتب العلمية، بيروت 1996

[7] تفسير القرآن، لأبي المظفر السمعاني، المجلد الخامس، ص 306 – 307 طبعة دار الوطن، الرياض، 1997

[8] النكت والعيون، تفسير الماوردي، الجزء الخامس، ص 409 طبعة دار الكتب العلمية، بيروت