image_print

الإيمان والوجود .. لماذا نكترث؟

الإيمان بالله دعوة الرسل كلهم في كل زمان ومكان، ومن المعلوم أن طرقهم في الدعوة قد تعددت باختلاف العباد والبلاد، وقد سرد القرآن الكريم تلك الأساليب لتتكون منها الطريقة الواضحة الموصلة لمعرفة الله، سواء بضرب الأمثال، أو الدعوة للتفكر بما يناسب الفطرة فلا تنفر منه النفوس، مما يمنحنا دروس جليلة ينبغي التوقف عندها!

دروس من القرآن

ولعل أهم تلك الدروس، التأكيد على أن الدين لم يكن بلا أدلة ربانية، وأن الله لم يطالبنا بإحضار أدلة تؤكده وتثبت حقيقته، بل إن الدين أنزل ومعه الأدلة المثبتة صدقه، بل إن الأمر أبعد من ذلك، فإنا لسنا مطالبين فحسب بأن نؤلف منهجًا دقيقًا لترتيب الأدلة القرآنية والنبوية في الإقناع. بل جاء الدين بمنهجية الإقناع أيضًا.

لم يكن القرآن الكريم مدرسة من مدارس الفكر والفلسفة بين عدة مدراس، بل إن منهجية القرآن في الإقناع هي الطريق المتكامل، وهي بمثابة أقصر الطرق وأسرعها إلى الحقيقة، رغم أنها ليست الوحيدة.

عطفًا على ما تقدّم، نرى أن كثيرًا من الناس يقتنع بوجود الله عبر الخوض في الفلسفات والأفكار المجرّدة، وهنا ينبغي القول: إن الفلسفة قد توصلك إلى الإيمان بالله، ولكنها ليست الطريق الأفضل لعموم الناس، وكذا عندما تخوض في العلم الكوني التجريبي كالفلك والكيمياء والفيزياء، وتنصت جيدا إلى المكتشفات المذهلة في تلك العلوم، فلعلّك تقتنع بوجود الله في زمن أقل بكثير وبجهد أقل من زميلك الذي آمن عن طريق الفلسفة.

من هنا، ينبغي الإشارة إلى هي منهجية القران في الإقناع بوجود الله والإيمان به تتأسس على العقل الباحث في الطبيعة، كما في قوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ۚ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101]. وهذه المنهجية ليست الوحيدة بكل تأكيد، ولكنها المنهجية الأسهل والأقصر والأقرب لأغلب عقول الناس وقلوبهم.

إن العقيدة أساس الدين كله، ومعلوم أن العقيدة تُؤسَّس على كلمة (لا إله الا الله. محمد رسول الله). وكما أن الدخول في الاسلام يبدأ بتصديق هاتين الشهادتين، فإن الشك في الإسلام أو الخروج منه يبدأ بالطعن أو تكذيب احدى هاتين الشهادتين.

البحث عن التشخيص الصحيح

تبدأ مهمة الداعية والمفكر المسلم في تشخيص داء المتشكك، بهدف فهم منبع الشك لديه، أي في فهم أي جزء من الشهادتين ينبعث شكه، ثم يبدأ في معالجة الداء من الجذور.

على سبيل المثال، بدلًا من أن نجادل الإنسان الطاعن في العبادات والشريعة بحجة أنها أفكار وأفعال بلا أي معنى، علينا أن نبحث عن طريقة لترسيخ كلمة “محمد رسول الله” في قلبه، بإقناعه في أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول من الله لا مدعٍ للنبوة، وأنه لا ينطق عن الهوى، وأن الدين الذي جاء به منزَل من إله عليم حكيم، يعلم الإنسان وما يصلحه، حكيم لا يشرعُ أي شيء عبثًا، وكل أفعاله وراءها حكمة وإن خفيت عنا.

إن مشكلة الإنسان الرافض للعبادات –في الحقيقة- ليست في أن العبادات وأحكام الشرع بلا معنى، بقدر ما أن مشكلته –الخفية- تتمثّل في شكّه وعدم تصديقه في أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا، ومن ثمّ فإنه يرى في قرارة نفسه صعوبة تصديق ما جاء به من عبادات وشرائع..

وفي مثال آخر، فإنه من الأولى لنا –بدلًا من الجدال- مع إنسان يدعي أن “الله مجرد فكرة صنعتها البشر” علينا أن نكشف عن الخلل في فهمه لكلمة “لا إله إلا الله” في قلبه، وأن نحرص على إقناعه بأن الإيمان بوجود الله نابع عن أدلة عقلية ومنهج علمي دقيق، لا أنه وهم صدقناه لتلبية ما يسمى بـالحاجات الروحانية وأمنياتنا في وجود معنى للحياة، كما أنه ليس نوعًا من أنواع تمني حياة أخرى وجنة الخلد لشدة عدم تقبلنا للحقيقة الموت والفناء.

فعلينا –والحال هكذا- أن نسعى لكشف جذر الخطأ في السؤال بدلًا من الانشغال بالإجابة على السؤال نفسه والدوران مع المتشكّك في حلْقة مفرغة، فذلك هو الأمر في أغلب أسئلة المتشككين غير الباحثين عن الحق.

بهذا فإننا نسلك الطريق الواقعي نحو التشخيص الصحيح، فنعرف من أين نبدأ، وهذا ما تمليه علينا منهجية القران، فنبدأ الطريق من أوضح الخطوات فيه، ثم نسير في الإقناع لنصل بأسرع وأقصر طريق. وهذه –بالتأكيد- أيسر من سبل الإقناع الأخرى القائمة على التطويل وسرد الشكوك ومحاولة الإجابة عنها بما لا يشفي عليلًا ويروي غليلًا..

درجات وخطوات

تخيل أننا أمام إنسان لا يؤمن بأي شيء من الحقائق الدينية، فكيف سنقنعه؟!

يعلم جميع المسلمين أن العقيدة الإسلامية أساسها (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وهذا يوحي أن الاقتناع بتلك الشهادتين هي نقطة النهاية في الحديث مع المتشكك.

تخيّل الآن، أن نقطة النهاية تلك هي درجةٌ في سلم طويل، وهذا السلم يبدأ بدرجة طويلة وعريضة جدًّا، والثانية أقلّ في كليهما، والثالثة أقل وأقل، وهكذا، بحيث تكون الدرجة الأخيرة هي الأقل والأولى هي الأطول والأعرض. وهكذا، فكلما كان الاقتناع بالأولويات أرسخ، كان الصعود –من البداية- أسلم وأثبت.

ننطلق الآن من الدرجة الأولى (لماذا نكترث بكل هذا من الأساس). لماذا نكترث بأي الأديان هو الصحيح ومنشأ الوجود أصلًا، فنبحث عن الفائدة من كل ذلك؟ أما الثانية فهي البحث عن ماهية الحقيقة، فإذا كنت تبحث عن الحقيقة، فيجب أن تعلم جيدًا طبيعة ما تبحث عنه، في حين أن الدرجة الثالثة هي الحاجة لتفسير وجود الكون، وهي جرجة توصلنا إلى مفترق الطرق. بما إن الكون موجود حقًّا، وبما أنه ليس مجرد وهم في عقولنا، فما تفسير وجوده؟ أهو أزلي؟ أم هو ناشئ صدفة؟ أم هو نتاج الطبيعة نفسها؟ أم لوجوده تفسير آخر؟

تأتي الدرجة الرابعة في ضرورة إثبات وجود الخالق (الله)، والإجابة عن التساؤلات التي يمكن أن تثار بين الناس حول نشأة الكون ووجود الله، ثم تأتي لدرجة إثبات وحدانية الله، وأن ذلك نابعٌ من كماله المطلق، فاحتمال تعدد الآلهة نقص، وبالتالي يفسّر لدينا لمَ كانت وحدانية الله ضرورة، لا بد من الإيمان بها.

وهكذا نتدرج في الدرجات واحدة تلو أخرى، لنفكك مقولات نزعة “الربوبية” ونبين أنها ليست موافقةً لحقيقة العبودية لله.

البداية: لماذا نكترث بكل هذا من الأساس؟

إن فرق اللادينيين كثيرة، فمنهم الربوبي، واللاأدري، والملحد المنكر لأي إله كان، واللا مكترث.. وإنك إن نظرت في الأبحاث حول أعداد متبعي الديانات اليوم لوجدت أن أغلب البشر يعتنقون دينًا ما، والأقلية هم من لا يؤمن بالأديان، وإن كان نسبتهم في تصاعد هذه الأيام.

وإنك إذا تركت الحديث عن الأرقام ونزلت إلى الحياة لوجدت العالم كثيرًا من معتنقي الأديان وهم لا يعرفون أيّ معنىً دقيقًا للدين، بل سترى أن أغلبية أتباع كل دين يؤمنون به لأنهم وجدوا آباءهم عليه، فهم ورثوه كما ورثوا عن أهلهم من لغة وثقافة وتقاليد وعرف مجتمعي.

لعل الحقيقة التي لا جدال فيها، هي أن أغلب البشر يتخذون الدنيا دينًا يعتنقونه، فهم يهيمون في حب الدنيا، يشغلهم المأكل والمشرب والملبس والمسكن والبحث عن بقية الملذات العابرة، ولأن المال هو الذي يجلب كل ذلك، فإن شغلهم الشاغل هو تحصيل المزيد من المال.

إن العالم –في ظاهره- متدينٌ، لكن أغلب الناس لا يكترثون لأي فريق كانوا فيه، فهم انتموا لهذا الدين لا عن قناعة، بل عن توارث، وهذه الدنيا التي يهيم بها الناس مغرية، وعروضها ملهية، ولكن تحت العروض هناك كلمة لا يراها أحد رغم أنها مكتوبة، فقدوا إدراكها بسبب حب الدنيا، وهذه الكلمة هي “تطبق الشروط والأحكام” والعرض سارٍ والمال موجود.

إن جوهر تلك الشروط والأحكام هي أن الموت حق، وبالموت سيزول كل أثر لعظمة الدنيا، وسيذهب المال إلى غيرك. بالموت تفنى أنت وتكون نسيًا منسيًّا. والموت لا ميعاد له وأنت تحت رحمة الأقدار أن يؤجل موعده.

والعاقل لا يهرب من حقيقة الموت، ولا يوهم نفسه أن ذكر الموت ضرب من ضروب الكآبة المقيتة والاضطراب النفسي، العاقل من يملأه الفضول ليبحث في الأديان ويعلم أين يكمن الحق، يبحث العاقل في كل ذلك -ولو فضولًا- من باب معرفة مستقبله، هل هناك حياة بعد الموت، أم إن بعد الموت عدم؟ العاقل يبحث ليجيب.

أقلية من البشر هم الذين تجردوا من معتقدات آبائهم وبحثوا عن الحقيقة بكل حيادية وصدق، دون اتباعٍ للهوى أو خضوع للتوارث والضغوطات المجتمعية والثقافة الغالبة.

هذا الانعتاق عن السائد والبحث عن القضية الوجودية الأولى والبحث عن الدين الصحيح وسط الأديان، هو الاكتراث الذي يمكن أن يفسر لنا هذه النزعة، إنه البحث عن اليقين والطمأنينة.

فلماذا تكترث بكل هذا من الأساس؟

إن اكتراثك هو نداء عقلك لتفهم مستقبلك، أما الحمقى، فهم الذين يركنون إلى الباطل ليشبعوا شهواتهم ويرتعوا في حقول الدنيا دون أي شعور بالذنب.

لماذا تكترث؟ لأن قضية الإيمان بالله الوجودية هي الأحق بالاكتراث، وكل قضايا الإنسانية الأخرى أتفه بكثير، بكل تأكيد، ومن هنا تبدأ الرحلة والحكاية.

الإلحاد في سن المراهقة .. أنماط وأشكال

أقتبس في مستهلّ هذا المقال المقولة الآتية: “ما كان من عبارة أبلغ من توصيف مآلات التنوير في الغرب بأنها حداثة ضد الله”[1]، فقد هدفت العلمنة الغربية لنزع السحر عن العالم، إلا أن جموحها في الانفصال عن الوحي وتطرفها في إبعاد شعائر الدين عن السياسة أوصلهم إلى صدّ الناس عن الإيمان، ومن هنا فإن الحديث عن الإلحاد ظاهرةً لا يعقَل أن يُتناوَل إلا مع عصر التمرّد وفرض نزع الإيمان عن دنيا الإنسان.

وها نحن في أيامنا هذه، نرى الإلحاد يتفشّى لا لدواعٍ موضوعيّة وإنما لأسباب عارضة، ومشاكل بشرية خاصة، وعواطف جياشة، ومع انتشار الشبهات وسهولة ترويجها، بات الميل إلى هذا الطريق أيسر مما عداه، زعمًا بأن الإنسان يجد فيه راحته، إلا أنه في الحقيقة المنحدَرُ الذي يؤدي بالمرء إلى تعاسة الحياة الدنيا وسوء المنقلب في الآخرة.

إلحاد التمرّد عند الشباب

يمتزج الصراع الداخلي في دواخل الشباب خلال ما يعرف بفترة المراهقة التي تعدّ في زمننا هذا من أحرج الفترات في حياة الإنسان، ففيها يبدأ الشاب بالشعور بذاته والثقة بنفسه وعقله، فيعتبر آراءه وأحكامه العقلية هي المرجعية التي قرر في ضوئها صواب وخطأ الآخرين، بل ويجعل من نفسه ندًّا للكبار فيتمرد عليهم ويرفض ما لا يروق له من آرائهم وأفكارهم، كما تسيطر عليه الرغبة في الظهور، وقد أفرزت هذه الصفات عدداً من الأنماط الإلحادية، مثل (إلحاد التمرد) حيث يعتبر المراهق نفسه أنه وصل إلى السن الذى يستغني بفهمه للواقع عن كل الناس فكأنه العالم واسع الاطلاع، رغم أنه لم يقرأ سوى بضع صفحات من كتاب، فيرى نفسه مثقفًا يستطيع مجادلة أي شخص وأن يقارن نفسه بالعلماء، بل يمتد هذا التكبر ليصل لمواجهة الذات الإلهية نفسها فيبدأ بنقد بعض الأوامر الإلهية وحكمة الله في الأرض.

إن التمرد من الصفات التي قد تصيب مرحلة المراهقة ولها أسباب متعددة، ومع تطورها يتمرد الشاب على كل شيء حتى الأبوين، ومن أسباب ذلك، عيش المراهق في حالة صراع مستمرة بين مرحلة اللعب وبين التطلع إلى مرحلة الشباب التي تكثر فيها المسؤوليات، وكثرة القيود الاجتماعية التي تحد من حركته، وضعف الاهتمام الأسري بمواهبه وعدم توجيهها الوجهة الصحيحة، وتأنيب الوالدين له أمام إخوته أو أقربائه أو أصدقائه، ومتابعته للأفلام والبرامج الرافضة للدين، وتأثره بالأصدقاء –الحقيقيين والافتراضيين- الذين يدعونه إلى التمرد على القيم الدينية والاجتماعية والعنف.

كما أن كثيرًا من هؤلاء المتمردين على آبائهم يرون في الابتعاد والاستغناء عن الموروثات نمطًا لحياتهم، وهنا يشعر الشاب المتمرد أن حياته سعيدة مستقرة مع الإلحاد، فلماذا يشغل نفسه بقضية الألوهية والدين في الوقت الذى لا يشعر بحاجه إلى الإيمان بها.(1)

وربما كان إلحاد بعض الشباب عائدًا إلى حب الشهرة والظهور، وهنا أستشهد بما كتبه د. عمرو شريف عن قصة لأب أخبره أن ابنه فشل في تحقيق ما حققه أخوته من تفوق في مجال الدراسة، وأخيراً مال إلى الحديث مع الأخرين في قضايا الألوهية، ثم تبنى الإلحاد بشكل كامل، وأنه عندما حاوره وجده فخوراً بأن ذلك جعله حديث المدرسة، طلبتها ومدرسيها، بل وجعله يجلس ويحاور عدداً من العلماء والمفكرين استجابة لوساطة والده أملاً على أن يردوه عن إلحاده.

إن مخالفة أعراف المجتمع ومفاهيمه وقيمه المستقرة هي أيسر الطرق لتحقيق ذيوع الصيت والشهرة بين الأقران والآخرين، ويجسد هذا المعنى موقف ” زكي مبارك” فقد هاجم الإمام الغزالي في رسالته للماجستير التي كان عنوانها “الأخلاق عند الغزالي” وبعد أن صحح مبارك مساره وأدرك قيمة المنهج الإسلامي كتب في مقدمة رسالته للدكتوراه وعنوانها “التصوف الإسلامي” إليك أعتذر أيها الغزالي قصدت مهاجمتك حتى أشتهر، فالشهرة قد تأتى على أكتاف العظماء.

إلحاد التقلبات المزاجية

تمرّ فترة المراهقة بكثير من التقلبات المزاجية، وهذا يؤثر في مدى تمسك المراهق والمراهقة بالقيم الدينية والعقائد الدينية، فلعلّ المراهقَ يتحمس للدين يومًا، وفي يوم آخر تراه فاتر الهمة وقد ذبل حماسه الديني.

إن وقع المراهق أو المراهقة في وقت فتورهما في أيدي بعض الملحدين، فقد يستطيع الملحدون التأثير في عقيدته الدينية بكل سهولة، نظرًا لتقلّباته المزاجية التي يمرّ بها باستمرار. فإذا ما كانت الأسرة واعية لمثل هذه المواقف، فإنها بتديّنها ووعيها تستطيع حماية أبنائها وبناتها من هذه الاحتمالات والمخاطر. وحتى إذا اكتشفت بوادر ميول إلحادية قد بدأت في البزوغ في عقل الابن أو البنت المراهقة، فإنها تستطيع السيطرة عليه بتقديم البراهين المضادة التي تعمل على تثبيت الإيمان وإزالة الإلحاد من ذهنهما.

تعود التقلبات المزاجية لأسباب مختلفة، فقد تكون مشكلة نفسية أو سلوكية خطيرة يعاني منها المراهق مثل الاكتئاب، أو لتعاطيه للمواد المخدرة، أو إصابته بالاضطراب ثنائي القطب، فالمراهقون هم أكثر عرضة للأمراض النفسية ممن سواهم.

إن المراهقة مرحلة لا تخلو من الأزمات النفسية الناجمة عن التغيرات الفيزيولوجية ويرافق التقلبات المزاجية تغييرات فكرية، ويشعر طوال الوقت بالحزن الشديد، ويميل إلى العزلة ويفقد الرغبة أو الحماس لأي نوع من الأنشطة، وهذه التقلبات قد تؤدّي به للتفكير في أفكار انتحارية، وأفكار سيئة أخرى كثيرة مثل الإلحاد، ولذلك يجب على الوالدين معرفة أعراضها وأسبابها وطرق علاجها جيدًا قبل أن تتفاقم.

الإلحاد والحرية المطلقة

يحب المراهق في مرحلة التمرد كل ما يقربه من التحرر والاستقلالية سواء كان من الأوامر أو النواهي، وقد تصل الحرية معه إلى حد مسألة الدين نفسه حتى يصبح إله نفسه، وهنا أقتبس من الدكتور جيفرى لانج أحد الملحدين السابقين ما دوّنه عن تلك المرحلة من حياته في كتابه “الصراع من أجل الإيمان”: “… وهكذا فقد أصبحتُ ملحدًا في سن الثامنة عشرة من عمري، في البدء شعرت بالحرية؛ لقد كنتُ حرًّا لأعيش حياتي الخاصة بي وحدي، ولم يكن لدي ما يدعو للقلق من أجل إرضاء قوة فوق بشرية، وكنتُ فخورًا إلى حد ما بأنني كنتُ أمتلك الجرأة لتحمل مسؤولية وجودي، وأملك زمام نفسي، وكانت رغباتي طوع إرادتي بعيدة عن سيطرة أو مشاركة الكائن الأسمى أو أي شخص آخر، وأنا الذي كنت أقرر لنفسي ما كان خيرًا أو شرًّا أو صوابًا أو خطأ، لقد أصبحت إله نفسي.”(2)

ولكن سرعان ما يرجع المراهق الملحد من هذا التحرر ليجد نفسه أمام الرعب الإلحادي ووحدته القاتلة، يقول جيفرى لانغ: “سرعان ما تعلمت أن لا أحد يعرف الوحدة كالملحد، فعندما يشعر الشخص العادي بالعزلة فإنه يستطيع أن يناجي من خلال أعماق روحه الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره أن يشعر بالاستجابة، ولكن الملحد لا يستطيع أن يسمح لنفسه بتلك النعمة؛ لأن عليه أن يسحق هذا الدافع، ويذكر نفسه بسخفها؛ لأن الملحد يكون إله عالمه الخاص به، ولكنه عالم صغير جدًّا؛ فعالمه قد حددته إدراكاته، وهذه الحدود تكون دومًا في تناقص مستمر.. إن المؤمن يمتلك إيمانًا بأشياء تفوق إحساسه وإدراكه، في حين أن الملحد لا يستطيع حتى الثقة بتلك الأشياء، وعنده ليس هناك من شيء حقيقي تقريبًا، ولا حتى الحقيقة ذاتها.. إن هدف الملحد الأسمى ليس الذهاب للجنة، بل أن يذكره الناس.. لا شيء يشبع حاجات الملحد؛ لأن عقيدته تخبره أنه ليس هناك شيء كامل أو شيء مطلق.. وأدركت بجدية قاسية أن عالمي أصبح سجنًا أو مكانًا لأختبئ فيه، ولكنني لم أكن لأعلم ممَ كنت أحاول الهرب، حقًّا إنه ليس من السهل أبدًا أن تصبحَ إلهًا”(3)

بكل تأكيد فإن هذه الأنماط ليست الوحيدة، فثمة أنماط أخرى، كأن يتجه الشخص للإلحاد بسبب ما يعرف بمعضلة الشر –أخي هادي نضع هنا مقال معضلة الشر التي في موقع السبيل– أو رغبة منه في تجربة شيء جديد، وهذا النمط من الشباب تراه علمانيًّا في يومٍ ومعتنقًا لعلوم الطاقة وروافدها في يومٍ آخر، أو يكون متزمّتًا في يوم، متساهلاً في أيام أخرى، وهكذا دواليك.

في الختام، فإنه يجب التنويه إلى أن الضعف المعرفي بالدين من أخطر الأسباب التي تقود المراهقين إلى الإلحاد، فقد أكدت دراسة تم تطبيقها على عينة من المراهقين لمعرفة أسباب الأفكار الهدامة للدين كالإلحاد واللا دينية واللا أدرية وكانت النتيجة أن قلة المعرفة الدينية لدى المراهقين في الترتيب الأول وبلغ (84.79%)، وجاء في المرتبة الثانية قلة الكتب التي تواجه هذه الأفكار –بحسب أقوالهم- وبلغت نسبة (71.41%) وحصلت على الترتيب الثاني من جملة الأسباب[2].

يجب على الأهالي أن يهتموا لصحة أبنائهم النفسية وأن يتابعوا أحوالهم الإيمانية بالتأسيس بدايةً من خلال الحرص على تعليمهم مبادئ الدين وعلومه الشرعية بشكل متزنٍ وراسخ، إضافة إلى تهيئتهم نفسيًّا لمواجهة شبه الإلحاد ومنحهم الآلية التي تكشف عن تهافت تلك الشبه، سواء من خلال المناقشات البنّاءة أو إرسال الإشارات الواضحة في نقدها من خلال تبادل الأحاديث أو من خلال دفعهم للقراءة المنهجية التي تراعي حالتهم النفسية.


[1] محمود حيدر، تقديم للعدد السابع من مجلة الاستغراب.

(1)  عمرو شريف. وهم الإلحاد، مرجع سابق، ص ص 136-140

(2) “الصراع من أجل الإيمان ص 24-25”

(3) الصراع من أجل الإيمان ص25-27″

[2] سوسن محمد الشاملى سليم، دور البرامج الدينية العلمية في مواجهة الأفكار الهدامة للدين لدى المراهقين، كلية الدراسات العليا للطفولة، قسم الإعلام وثقافة الأطفال، جامعة عين شمس.

ثم لم يرتابوا

يعيش عدد لا يستهان به من المسلمين في حالة من الشك بدينهم ورَيبٍ من صحة بعض التشريعات والأحكام والفرائض الإسلامية، فتراهم يتأثرون بكل شبهة تعرَض عليهم يقفون أمامها حائرين لايعرفون كيفية الخلاص منها، في زمن كثرت فيه الشبهات والفِتَن، والتي أصبحت تحيط بنا وتصل حتى عقر دارنا.

يكفي أن نتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، أو ندير التلفاز لبضع دقائق، حتى نرى الشبهات تنهال علينا كالسيل فتغرقنا، إلى جانب المحاولات المستمرة لتشويه صورة الإسلام؛ إذ لم يتوانَ أعداء الإسلام يومًا عن وصم المسلم بصفات مقيتة هو بريء منها، فأساءت للمسلم المعتز بدينه، وأثرت في جموعٍ ممن لم يتشبّع بتعاليم الإسلام حتى بات مائلًا للغرب وانفتاحهم بكل ما فيه من فسادٍ، واتباعه لأفكارهم من دون نبذ السيّئ المخالف لشريعة الإسلام منها.

لا يمكن إنكار أن كثيرًا من المفاهيم الإسلامية قد مُيّعت لعوامل عديدة، وبات الشغل الشاغل لبعض الدعاة والمفكرين إيجاد دينٍ عالمانيٍّ تنويريٍ منفتحٍ ليُعجَب الجميع به!، ولا عجب في ذلك، فهذا زمن يعيش فيه المسلم المؤمن غريبًا، ولعلّه الزمن الذي حذر منه رسولنا الصادق الأمين، حين قال صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر) ]أخرجه أحمد في المسند، وقريب منه رواية أخرى في صحيح مسلم[ وبِتنا نرى من يبدل دينه بين ليلة وضحاها بعرض من الدنيا لشُهرة أو مال أو كِبر، فيصبح مسلماً ثم يمسي متلفّظاً بأقوال الكفر.

إن أسباب الشكوك وتمييع الدين الموصلة لبعض المسلمين إلى الإلحاد كثيرة لا يسعنا ذكرها كلها، ولكن الانفتاح الكبيرعلى المفاسد والشبهات من دون حصن منيع وقلب متيقن مؤمن بخالقه وبشريعته أتم الإيمان وعالم بعظمته وصفاته يجعل من السهل التأثربالشكوك والشبهات.

الشكوك والوساوس في الدين

الشك مرض من أمراض القلوب، فهو كالظلام الذي يغشى نور القلب شيئًا فشيئًا، فيشلّ كل ما في الجسد عن رؤية الحقيقة الساطعة ويمنع المسلم من التلذّذ بحلاوة الإيمان، ويُبقي المرء حائراً بين أمرين لايجزم بصحة واحد منهما.

الشكّ خلاف الوسوسة، فالوساوس تأتي على قلب وعلم متيقن يستطيع المرء طردها والتعوذ منها، وذلك كما يقول الإمام النووي رحمه الله في الأذكار: “الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفوٌّ عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيار له في وقوعه ولا طريق له إلى الانفكاك عنه، وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ) [متفقٌ عليه]”.

من الممكن أن يخرِج الشكُّ الإنسان من الملّة فهو التذبذب وعدم الثبات والاطمئنان، إلا أننا يجب أن نؤكد أن التردد في كون الإسلام هو الحق أو بوجود الله وعدم الجزم بذلك، ناقض من نواقض الإيمان، وعلامة من علامات أهل النفاق الذين وصفهم الله بقوله: }مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً{ ]النساء: 143[

وما الشكّ إلا من الشيطان الذي لاينفك عن إغواء ابن آدم ليضلّه، إن استسلم له المرء عمى بصره وقَسا قلبه حتى لا يتأثر بكلام الله، وعليه يجب أن يختار الإنسان طريقًا من اثنين، فلا يمكن للإنسان أن يعيش بمرض الشك طوال عمره.

استحالة البقاء عند مفترق الطرق

الشك سلاح ذو حدين، إما أن يوصل إلى الهلاك باتباع طريق الشيطان، وقد ينتهي هذا الطريق في بعض الأحيان إلى الإلحاد، وهذا شأن الشك المذموم، يقول الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر] {النور:21].

وإما أن يوصل إلى طريق الحق واليقين، وهذا شأن الشك المحمود، ولا يُقصد بالمحمود أنه يجب على المرء أن يشك ليُبصر؛ إذ إن الشك يبقى مرضاً منهكاً للنفس، ولكن يقصَد به بأن تكون نهايته موصلةً للطمأنينة بالإسلام وتحقيق اليقين به.

فالمطلوب للإبصار الصحيح بدلًا من الوصول للعمى، البحثُ عن الحقيقة في مكانها الصحيح، فالبحث عنها بين المضلِّين لايوصل إلا إلى ضلال، وعندما يبحث الإنسان عن أجوبة لأسئلة ما، يذهب إلى أهل الاختصاص، وهكذا يجب على الشاكّ إن يذهب بأسئلته إلى أهل العلم ويبحث في كلام الله، وعليه أن لا يستسلم للشكوك ويترك تفسيراتها للعقل والرأي والهوى، فما الاستسلام لها  اب الميزان لما نراه من بل يجب التفقه لب متيقن مؤمن بخالقه وبشريعته حا ليعجب الجميع موع من المسلمين  ولا يمكإلا زيادة في الجهل وقلة في العلم بدين الله، فلا توجد شبهة  إلا ولها جواب داحضٌ من الكتاب والسنة وأقوال وردود العلماء، وذاك مصداقٌ لقوله تعالى: }ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{{البقرة:2}.

كيف أبعِدُ الشك؟

الشكُّ ابتلاء من الله سبحانه ليَميز به الخبيث من الطيّب، وهو يحتاج للصبر والثبات والتوقف عن الخوض بهذه الأفكار واللجوء لله سبحانه وتعالى بالدعاء والاستغفار، وإن كان الشاكّ خجِلًا من الله مما يفكر فيه، فإنّ الله قريب مجيب الدعاء قابلٌ لمن يلجأ إليه تائبًا باحثًا عن الحق، وهذا مما لا شك فيه، وإن بقيت تَحيك في الصدر الشبهات ولم يُتخلَّص منها، فسؤال أهل الذكر وطلب المساعدة من أهل الحكمة جزءٌ من عين الصواب.

كلما كان الإنسان للشيء أحوج، سهَّل الله طريقه إليه، وكلما كان الإنسان للحق أحوج، دعا الله فيّسر له الطريق، فيعينه الله في رحلة البحث عن الحقيقة والوصول لليقين، فيجب على الإنسان أن يجتهد في البحث عن الحقيقة ولايخضع لخطابات المشككين.

إن كثرة التعرض للشبهات والمعاصي والذنوب ومصاحبة رفاق السوء تقسِّي القلب وتفسد الفطرة السليمة وتعطل قدرة العقل على استيعاب الحقيقة وفهمها، فلا بدّ من المحاولة المستمرّة لإغلاق أبواب الشك والشبهات والمشتتات أولا، ثمّ اللجوء للعلم في محاربة الجهل وعدم المعرفة التي تبقي الإنسان في حيرة وتشكيك، فهو أفضل طريق للإنابة إلى الرحمن الرحيم بقلب سليم.

بناء اليقين

وهذا مايسعى إليه المسلم وحتى إن لم يكن شاكّا، فالوصول لليقين بالله يقي الإنسان من الانحراف عن الحق عند التعرض للكوارث والمصائب والشبهات حتى لو لم يجد جواباً لكل سؤال، ويبقي القلب مطمئناً متشرباً حب الله ورسوله، ومسلّماً تسليماً تاماً لشريعته وأوامره، فيكون من أولئك الموقنين، الذين امتدحهم الله تعالى في كتابه، فقال سبحانه: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا{ ] الحجرات:15[.

قال القرطبي في تفسيره عن قوله ( ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ): “أي لم يدخل قلوبهم شيء من الريب، ولا خالطهم شكّ من الشكوك”، وقال السعدي في تفسير الآية: “وشرَط تعالى في الإيمان عدم الريب، وهو الشك؛ لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني، بما أمر الله بالإيمان به، الذي لا يعتريه شك، بوجه من الوجوه”.

نسأل الله أن يثبتنا على دينه و يجعلنا من أهل اليقين الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمنزلة الرفيعة في الآخرة؛ حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لاَ يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ) ]صحيح مسلم[..


مراجع للإفادة:

كيف يُحصِّن المرء نفسه من الفتنة في دينه ؟

كيفية الثبات في زمن الفتن

فتن آخر الزمان والثبات على الحق

الشكوك النفسية المعاصرة ومعالجتها عند الشباب للأستاذ. أحمد السيد

https://www.youtube.com/watch?v=MPhRDy0BBu8

‫اليقين بالله l الدكتور محمد راتب النابلسي

https://www.youtube.com/watch?v=gj7XtqNrIDw

وننصح الإخوة الذين تساورهم بعض الشبهات، ويبحثون عن طريق لمواجهة ما يلقى إليهم من شكوك، أن يتوكلوا على الله ويقصدوا توفيقه لردّ ذلك كله، فبفضل من الله يوجد برامج كثيرة وكتب وفيرة، والعشرات من المواقع التي تعين المسلم على التخلص من الشكوك، وتؤمن له زادًا يصحبه في رحلة الوصول لليقين نذكر بعضا منها:

مقالات موقع السبيل وقناة الموقع على اليوتيوب

https://al-sabeel.net/

موقع المحاورون لرد الشبهات

https://almohaweron.com/

https://islamqa.info/ar

https://www.islamweb.net/ar/

كما يوجد برامج لتعزيز اليقين والعلم الشرعي مثل أكاديمية زاد للعلوم الشرعية، وبرنامج صناعة المحاور

https://www.zad-academy.com/

https://almohawer.org/

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أمسِك عليك نفسك ودينك!

ما كان لله سبحانه وتعالى بعد أن خلق عباده وصورهم وكرمهم ورزقهم أن يتركهم في تيه أو حيرة من خلقهم، أو أن يتركهم عُميًا عن نفوسهم التي ستكون لصيقة بهم طوال رحلتهم، وإنما بيّن لهم هذه النفس، وفصّل لهم أحوالها وآمالها وضعفها، وكذا عرّفهم أن هذه النفس قد تلتزم طريق الله فتسعد، أو أن تحيد عنه فتشقى. فكانوا على معرفة بها وبطريق هدايتها، والأدوات التي ستساعدها على التزام هذا الطريق، فالله سبحانه يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس، ٧]، {وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ} [البلد، ١٠]، والذي سواها سبحانه وتعالى وهو أعلم بها منها، وألهمها فجورها وتقواها، وخلق فيها القدرة على إتيان ما تشاء منهما، وأن تسلك أي النجدين تريد، قد قرر لها دِينا تتنزل منه شرائع متتالية بحسب الزمان والمكان.

البحث عن الحق

إن من مقاصد الشرائع الربانية ورسالات الأنبياء أن تَعْلم النفوس الخير فتطلبه، والشر فتحيد عنه، وأن تقف على عوامل التزكية والتقوى فتسعى لملء كيانها بها، وتقوم على سياسة النفس الإنسانية وترويضها، لئلا تطغى وتُجرم في حق نفسها أو في حق غيرها، فإن لم تتهذّب الأنفس بترغيب في الثواب، هُذبت بتخويف من العقاب، وإن لم يُجْدِ التخويف بعذاب الآخرة، عوقبت في الدنيا بما يزجرها ويمنعها عن تكرار الخطأ.

فإذا رفضت النفس الالتزام بالدين الذي يضبط أفعالها وأقوالها، ويأخذ بفطرتها إلى حيث تنفع وتنتفع، ويحد من جموحها ويهذب نياتها وإرادتها، ويحدد لها أهدافا عالية، تترفع بها وتمتاز عن غيرها من المخلوقات، اضطرت في أحسن الأحوال إلى تقنين قوانين تحاول بها ضبط معيشتها، وتنزلها منزلة المأمور المطيع، فما خلق العبد إلا ليكون في ميدان الامتحان، مطيعًا ساعيًا للخلاص في أدنى المراتب، وطالبًا للتميّز والقرب في أعلاها، فإذا حاول العبد أن يتملّص من عبوديته لله، فإن خلاصه من هذه العبودية لن يكون بالإنكار أو السعي للتملّص كما يظن، إذ إن الإنسان لن يجد بُدًّا من العبودية لشيء ما آخر غير الله الخالق، طوعًا أو كرها، إذ إن هذا ما جُبل عليه الإنسان، فإما أن يكون مخبِتًا لله، أو أن تستعبده تفاصيل أخرى في هذا الوجود، وما أكثر ما يستعبد الإنسان في هذه الدنيا.

يقول الله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم، ٣٠]. ومما ورد في تفسير هذه الآية ما ذكره الطبري في تفسيره بأن الله ينادي النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسدد وجهه نحو الوجه الذي وجهه إليه ربه ليكون رهن إشارته وطاعته، ومدار ذلك كله هو (الدين)، {حَنِيفًا} مستقيمًا لدينه وطاعته. {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، أي صنعة الله التي خلق الناس عليها، أي أن الله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أقم وجهك للدين حنيفا فإن الله فطر الناس على ذلك فطرة وجعلها في أصل تكوينهم.

{ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، إن إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مغير ولا مبدل هو الدين القويم المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة، {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، بأن الدين القيّم هو الدين الحق دون سائر الأديان غيره [جامع البيان عن تأويل آي القران، ج٦، ١٠٤].

ضبط أوتار الحياة

لنسأل أنفسنا، لو لم تكن هناك رسالات من الله إلى البشر، ولو لم يكن هناك أنبياء يبلّغون ما آتاهم الله للناس، فكيف ستكون أحوالهم وعباداتهم وعاداتهم؟

إن الناس بالرغم من وجود الرسل عاندوا وضلّوا وأضلوا، وسيكون حالهم بدون الدين أشد وأدهى، إذ سيكون تعاطي النفس البشرية مع المُجريات والظواهر حولها إما بضعف شديد أو بفجور شديد، وضعفها ينبع من هامشيتها في هذه الحال وعدم استنادها إلى منهاجها الذي قرره الله لتكتسب به القوة، فتكون منفعلة ومتأثرة على الدوام، بلا أثر ولا تأثير. ويكون فجورها نتيجة لأناها الكبيرة التي لا تعرف طريقا غير إرضاء شهواتها، فتفسد في الأرض وتقرر منهاجها الخاص الذي لا يرتضي إلا بالإنسان حكما وحاكما، ما يراه صوابا فهو الصواب وما يراه خطأً فهو الخطأ، وهذه هي بداية تشويه الفطرة والإفساد في الأرض.

إن خير دليل على ذلك، ما يُرى في أخلاقيات الإلحاد والملحدين ونزعات الإنسانوية المتطرفة وغيرها من انحرافات الإنسان عن هدي ربه، فكلها فضفاضة مائعة، تشكل الخير والشر والصواب والخطأ حسب رؤية الإنسان المتغيرة باستمرار بما يطوّع للإنسان تحقيق شهواته، ووضعه في المركز بعيدًا عن أي قبس إلهي، وهكذا فإن غياب الدين من حياة الناس يحط بهم إلى أسفل دركات الانحطاط، فلا هم يحيون الحياة على مراد الله، ولا هم يحيونها على مرادهم، فأي خير في ذلك؟

 

رحلة مع الغزالي في المنقذ من الضلال

يعدّ أبو حامد محمد الغزالي (450- 505 ه) أحد أهم العلماء في تاريخ الإسلام ممن امتدّ تأثيره قرونًا طويلة بعده، وما يزال بأفكاره ومؤلفاته حاضرًا في العالم الإسلامي في مختلف الموضوعات والعلوم، خاصةً العلوم العقلية في جانبي علم الكلام والفلسفة، أو علوم التزكية كالأخلاق والتصوف، أو في الاجتهاد الفقهي والأصولي من خلال دوره في نقل علم أصول الفقه عن المدرسة الشافعية وتطويره فيه.

إنّ المتأمّل لما تركه الغزالي من كتب سيلاحِظ –لا ريبَ- التنوّع الواسع في موضوعات كتبه وعددها الكبير، فلا يوازي كتبه من -حيث الكمّ- سوى عدد قليل من العلماء، إلا أن أهمّ من ذلك الكمّ هو المنهجية التي أوصلت الغزالي إلى اتباع مدرسة التصوّف التربويّ –بعيدًا عن التصوف الوجوديّ الفلسفي الذي يمثّل الحلاج والششتري نماذج راسخة فيه- سبيلًا للجمع بين العقل والقلب، أو ما يعرف في حقل الدراسات الفكرية بـ “البرهان والعرفان”، وذلك بهدف البرهنة على ما يراه حقيقة لا يمكن إدراكها بالعقل بعيدًا عن عيشها بالذوق، فينتصر بذلك للتصوف الملهَم أو الكشف اللدنّي، معتبرًا إياه الغاية من العلوم، والسبيل الذي تنجو به الأقدام من مزالق الضلال؟

لكن كيف حدث ذلك؟

إن كنت قد وصلت في قراءة المقال إلى هذه النقطة، فإني أدعوك لأن تكمل قراءة ما تبقّى منه لتضع يدكَ على أهم مفاصل الرحلة، أقصدُ رحلة الغزالي التي وصلتنا في كتابه المميّز، “المنقذُ من الضلال والموصلُ إلى ذي العزّة والجلال”.

بين يدي الرحلة، إشارة لا بد منها

يرى نيل ديغراس تايسون أن الغزالي كان سببًا في انهيار الحضارة الإسلامية، وذلك من خلال ادعاءات عريضة أولها محاربة “الفلسفة” وليس آخرها افتراؤه على الغزالي بأن “الرياضيات” من عمل الشيطان، ولذا لا بدّ من تحريمها، ومع تحريمها تراجع المسلمون في العلم وتوقفت عجلة الاختراعات.. وبالتالي انهارت الحضارة الإسلامية!. (1)

وأسرد لك ههنا ملاحظة سريعة، وهي أنّ الغزالي رحمه الله لم يحرّم الفلسفة بإطلاقها، بل كان يحرص على التعمّق في كل علمٍ يطّلع عليه، ويدعو لذلك استكمالاً لضرورات المنهج العلمي، وأن الموقف الذي تشدّد فيه الغزالي لم يكن الفلسفة الطبيعيّة “علوم الطبيعة والفيزياء والكيمياء والطبّ” أو التحليليّة “المنطق” و”سائر العلوم الإنسانية” وإنما تشدّد في آراء بعض الفلاسفة التي تناقِض دين الإسلام في صفات الإله وخلق الوجودِ من العدَم، فكان يرى أن أقوال ابن سينا والفارابي في هذه المسائل كفرٌ يخالف شرعَ الله ونصّه..

وهنا أنتهز الفرصة لأؤكّد أن الفلسفة التي يدّعي لفيفٌ من مناهضي الدين أن الغزالي أنهاها لا تدخل في حقل الفلسفة بمنظورهم أصلاً، لأنها في رأيهم داخلةٌ في جملة الأوهام والخرافات، فوقوف الغزالي ضدها يجب أن يحسَب له لا عليه.

إن الأساس الذي يبني هؤلاء موقفهم من الغزالي ليس مضمونَ فكره وإنّما أساسه، فبما أنه أعلى من شأن العقل تحت سطلة النصّ الإلهي فإن ذلك يعني موتًا للعقلانية التي لا تعتمد على النصوصِ، في محاكاةٍ لما كان عليه الحال من صراع بين الكنيسة والعلم في إرهاصات النهضة وما بعدها في أوروبا، وبالتالي فإنهم يتبنّون نموذج الصراع الأوروبي بين “الدين والعلم” ولا ينطلقون في فهم الغزالي وعصره من منطلقات منهجيّة، فهم بكل اختصار يرون أن ما يُعتَبَر تقدّمًا في أوروبا ضروريٌّ ليكون معيارًا للتقدّم في تاريخ المسلمين، وبالتالي فقد أصبح كتاب “تهافت الفلاسفة” ومن قبله “مقاصد الفلاسفة” للإمام الغزالي بالنسبة لهؤلاء محطة مفصلية حقًا؛ ليس لأن الغزاليّ يزاوج فيهما -ببراعة لم يُسبَق إليها- بين منهجيّة الفلسفة ودقة العلم، بل لأنهم يعتبرون التهافتَ النقطة التي بدأ فيها هدمُ انتشار العقائد المشوّهة عن الله جل في علاه بناءً على آراء فلسفيّة مأخوذة من التراث الفلسفيّ اليوناني، وبذلك حُمّل الغزاليُّ وحدَه مسؤولية انحطاط الفكر العلمي العقلاني في الحضارة الإسلامية في هذه العصور اللاحقة –بحسب رأي هؤلاء- دون الوقوف على الأسباب السياسيّة والاجتماعيّة والسياقات التاريخيّة التي أظهرت فيما بعدُ تطوّرات الدول الغربية بفعل الاستعمار وحركة الكشف الجغرافيّة.

محطّات رحلة الغزالي

لا يمكن فهم أيّ مفكّر دون معرفة الظروف التاريخية والسياسيّة والاجتماعيّة التي عاشها وتأثّر بها؛ فالمفكّر ابن عصره، يؤثّر فيها ويتأثر بها، فكيف إن كان هذا المفكّر هو الغزالي، الذي كان له مقامٌ عالٍ لدى هرم الدولة، ونذر نفسه لمتابعة تيّارات الفكر المختلفة وكشف تحريفاتها وفضح الباطل الذي جاءت به.

لقد تميز عصر الغزاليّ باضطرابات سياسيّة ودينيّة وفكريّة حادّة، وكثير من مواقفه وكتبه ارتبطت بما يجري في عصره سواء كانت من صراعات الأسرة السلجوقية، أو تمرّد الحركات الباطنية، بموازاة تعصّب المدارس السُّنّية ومعاداتها فيما بينها، واشتعال الفِتَنِ بين السُّنة وطوائف الشيعة، إلى جانب وقوع أكبر حوادث العصر في زمنه أي انطلاق الحملات الصليبيّة التي ما زالت بعض آثارها مستمرّة حتى اليوم.

يشرح لنا الغزالي، اقتحامه لجّة هذه الأحداث منذ عنفوان شبابه حتى بلوغه الخمسين من العمر، فيتفحّص عقائد الفرق، ويتعمّق في آراء كل طائفة، وكيف لا وهو الذي يقول: “قد كان التعطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزةً وفطرةً من الله وُضعتا في جِبِلّتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلّت عني رابطة التقليد، وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا” (2)

ولنقف عند شخصيّة الغزالي العميقة، يجب أن نعلم أنه إلى جانب ذكائه الحادّ فقد تتلمذَ على يدِ أهم علماء عصره، وكان من أبرزهم الإمام أبو المعالي الجويني الملقّب بـ “إمام الحرمين”، وقد كانت سعة اطلاعه وشدة ذكائه وشهرته في مناظراته سببًا في أن يوكّله “نظام الملك” وزير الدولة السلجوقية في عهد السلطانين “ألب أرسلان” وابنه “مَلِك شاه” بإدارة المدرسة النظاميّة في نيسابور..

لكن مهلاً، هل ترى أن الغزالي قد وصل إلى مراده؟

شهرة واسعة، وكتبٌ كثيرة، ومديرٌ لمدرسة ضخمةٍ بمقدراتها وأوقافها التي تساوي ميزانية جامعة مرموقة في هذا الزمان، وعلماءُ مرموقون ينتقلون من مختلف البلاد للجلوس بين يديه والسماع منه والعمل في مدرسته، كل هذا وهو لم يتجاوز بعدُ الخامسة والثلاثين، ألا يكفي كلّ هذا الغزاليّ الطَموح ليتوقف عنده..

في حقيقة الأمر فإن هذه الأجواء كانت الباعث لأن يمرّ الغزاليّ بأزمة روحيّة وفكريّة عصفت باستقراره النفسي، وهو في قمّة شهرته وأوج إنتاجه العلمي، وهنا نراه قبيل وفاته بسنوات قليلة –رحمه الله- يبتدرُ الكتابة بطريقة غير معهودة في ذلك العصر، فيسردُ أزمته بشكل أقرب للمذكّرات الشخصيّة والسيرة الذاتيّة بأمانة شديدة في كتابه “المنقذ من الضلال”.

أزمة الغزالي، معالمُ الضياع وخطوات اليقين

لندع الغزالي يقودُ دفّة الحديث، فهو أدرى بما عايشَ ورأى.

يذكر رحمه الله أن منشأ الأزمة جاء من تكرُّر سؤاله نفسه في تصدُّره التدريس، هل ذلك لله أم لغيره؟

نقدّر أن الأمر أخذ وقتًا وصراعًا منه، لكنه في ختام الأمر يقرّ بأن تدريسَه لم يكن خالصًا لوجه الله “بل كان باعثه ومحركه طلب الجاه وانتشار الصيت” وقاده هذا الجواب لأن يشعر بأنه بات “على جرفٍ هارٍ وأنه قد اقترب من النار”

عندما رأى الغزالي هشاشة حياته الروحيّة ترك منصبه المرموق، وانطلق للحج ومن مكّة اتجه إلى بلاد الشام بين دمشق والقدس فيعتزل الناس قرابة 10 سنوات في زاوية صغيرة في الجامع الأموي سنين عديدة، ليخرج من هناك بكتابه وسفره العظيم “إحياء علوم الدين” الذي يعيد قراءة العلوم الإسلامية المختلفة من مدخل روحانيٍّ نقديٍّ لأزمات تلك المرحلة، مبتدئًا الكتاب بالحديث عن العلم منتقدًا فيه علماء الدنيا، ومميّزًا بينهم وبين علماء الآخرة الذين يعتزلون المكاسب الدنيوية وظلّ السلاطين.

كتاب المنقذ من الضلال لصاحبه الغزالي

لا تقف أزمة الغزالي في “المنقذ” عند النطاق الروحي والنوايا الأخلاقية، بل تنتقل إلى أسس الفكر ذاته، فتغدو المسألة أكثر من معضلةٍ شخصيّة وأزمة روحيّة، متحوّلةً إلى هجمة شكٍّ يمكنها أن تهزّ أفكار أرسخ العلماء، فتدفعه لفحص أسس معرفته وعقائده.

هذا ما يذكره الغزالي الذي وصل للشكّ بكلّ شيء، فشكّ في الوجود الخارجي من حوله، وفي صحة الوسائل المستخدمة في العلوم الدينية والفكرية –سابقًا بذلك رينيه ديكارت في الشك بعدة قرون- ليصل بعدَ حوارات مطوّلة مع الذات إلى تأكيد أن العالِم ينطلق بالشك إلى المعرفة اليقينية على ضوء أدلّة العقل والإلهام الإلهي.

لعلّ أجمل ما في حوارات الغزالي صراحتُه، فهو لا يتوقف عند إلقاء الشبهات أمام الأديان الأخرى، بل يواجه نفسه بالشبهات ليبحث عن الحق، فعلى سبيل المثال حين يرى أن تديّن المجتمعات مغروس في أنفس الأطفال بفعل الآباء والأمهات، فإنه لم يتوقف هنا عند ضرب المثل باليهود والنصارى، وإنما ذكر إلى جانبهم المسلمين، لكنه يدعم هذا الاشتباه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه) [أخرجه البخاري] ومن هنا يرى أن التحرك لطلب الحقيقة مغروس في الفطرة الأصلية، وأن حقيقة العقائد العارضة آتٍ عن التقليد سواء للآباء أو المعلّمين وأن الحق يكون في البحث عن اليقين بالدليل.

يتجه الغزالي لعلاج الشكّ من خلال البحث عن حقائق الأمور، فـ “العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنُه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين مقارنة لو تحدّى بإظهار بطلانه – مثلاً – من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً، لم يورث ذلك شكًّا وإنكارًا” (3).

هنا يندفع الغزالي لتفتيش علومه، فكل ما خالف القاعدة السابقة يستبعده واحدًا تلو الآخر حتى يصل إلى نقض معارف الحواسّ وصولاً لبعض أفكار العقل الذي قد يخيّل للإنسان ما ليس بحقيقة كأنه حقيقة كرؤى الأحلام.

استمرت رحلة الشك شهران، إلا أن الغزالي وصل إلى اليقين الذاتي بدءًا من نفسه ثم وجود خالق له بفضلِ “نور قذفه الله تعالى في الصدر” (4)

صفوة القول، إن المنهج الشكي عند الغزالي يرتكز على محورين اثنين في تحقيق اليقين، أولهما، الإلهام الإلهي الذي يخصّ الله به عباده المتقين، وثانيهما: العلمُ اليقيني المبنيّ على الدليل، وهذه القاعدة –أي الثانية- كانت منهج الغزالي في تعلّم العلم، فهو القائل: “علمت يقيناً: أنّه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقفُ على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمَهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيدَ عليه، ويجاوز درجته فيطّلع على ما لم يطّلع عليه صاحب العلم، من غوره وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدّعيه من فساده حقًّا”. (5)

رحم الله الغزاليّ وعلماء المسلمين، ونفعنا بهم أجمعين.


الإحالات والمصادر:

(1) نيل ديغراس تايسون، يوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=pYn0uafJP-k

(2) المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، تعليق: د. عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، د.ت.ن. ط. ص: 110.

(3) المصدر السابق، ص: 111.

(4) المصدر السابق، ص: 115.

(5) المصدر السابق، ص: 126.

قراءة في كتاب “لماذا الدين ضرورة حتمية؟”

تمحورت كثير من كتابات د. هيوستن سميث اللاهوتي الأمريكي وأستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية، حول الأزمة الروحية الحاضرة لإنسان عصر الحداثة وما بعدها، وقدم في كتب متعددة دراسات نقدية وفلسفية واجتماعية وتاريخية تشرح ملامح تلك الأزمة وما أنتجته من تصور مادي للعالم يقلص وجود الإنسان ويحرمه من كل أبعاده الروحية، وما يتبع ذلك من اختناق روحي وفقدان للأمل وسيطرة للمادية والفردية والاستهلاكية والأنظمة القانونية المتنكرة للقيم الدينية والسياسات الحكومية المجردة من المبادئ الأخلاقية مشبهاً ذلك بنفق مظلم حبس فيه إنسان الحداثة الفاقد للإيمان.

نقصد في المراجعة الآتية التعرض لأحد أهم كتبه، “لماذا الدين ضرورة حتمية”[1]، باحثين عن أهم الأفكار التي نطقت بها كتاباته المدافعة عن الدين في وجه انبعاثات الإلحاد وامتداداته.

من هو د. هيوستن سميث؟
هو أستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية وصاحب مؤلّف “أديان العالم” أحد أكثر الكتب مبيعا ورواجا في الولايات المتحدة وعدة دول أخرى، وقد دافع في كتاباته ومحاضراته عن ضرورة وجود الدّين في حياة البشرية مؤكّدًا أنه الطريق الحتمي لمواجهة طغيان المادة وانحطاط الأخلاق، وركّز على في كتابه هذا على “بيان روح وحكمة أديان العالم وفلسفتها وجوهرها المشترك، ومخاطر عصر العلم والحداثة في ابتعاده عن الإيمان وخوائه الروحي الذي أغرق الغرب في نفق المادية المظلم وسجن الفردانية والأنانية التعيس.” كما يُلخّص ذلك مترجم الكتاب.

هيوستن سميث كاتب كتاب "لماذا الدين ضرورة حتمية؟"

هيوستن سميث

أعرب المؤلّف عن رفضه الشديد لفكرة انحصار النجاة بالديانة المسيحية التي تتردّد كثيرا في أوساط البروتستانتية، معتبرا إيّاها جهلا ذريعا بحقيقة ما يتضمنه معنى الدين الحقيقي من عُمق روحيّ أصيل، فقد أكسبت دراسة الكاتب للأديان الوضعية والسماوية آفاقًا متعددة في فهم دور الدين وضرورته في مواجهة التيارات المادية في الحضارة المعاصرة

أهمّ أفكار الكتاب:
ينطلق الكتاب من مقولة عالم الأحياء البريطاني “جوليان هوكسلي”[2] حوالي منتصف القرن الماضي أنّه عما: “قريب سيصبح من المستحيل لأي رجل أو امرأة ذكيّ ومتعلّم أن يعتقد بوجود الله كما هو من المستحيل اليوم الاعتقاد بأنّ الأرض مسطّحة” ومن ثمّ يبدأ بتفكيك هذه المقولة، ويؤكّد في سياقاته المختلفة قضية “لماذا الدين ضرورة حتمية؟”.

يشير الكاتب إلى أن الفكر المادي لا يتجاوز النظر فيما هو مادي محسوس إلى ما هو معنوي مُجرّد، وأنه يشبه إلى حدّ بعيد قدرات العقل في مراحل الإنسان الأولى حيث يسهل عليه استيعاب المفاهيم المادية ويصعب عليه إدراك المجرّد والمعنوي، إضافة إلى أن مقولة “جوليان” تتضمن الأفكار الثلاثة التي تقلقه –حسب تحليل مؤلّف الكتاب- وهي: نقد النظرية الداروينية، والاستدلال على أنّ الكون تمّ تصميمه بدقة عظيمة غير متناهية، والقبول بإمكانية أن يتدخّل الله في التاريخ.[3]

في معرض حديثه عن نظرية داروين، يقول الدكتور هوستن سميث: “في الواقع هناك نقاش مشتعل بشراسة بين العلماء أنفسهم حول نظرية دارون، وتغذّي ذلك النّقاش تعليقات مثل: “فريد هويل” المشهور اليوم، الذي يقول إنّ فرصة الاصطفاء الطبيعي لإنتاج إنزيم واحد تماثل فرصة أن يؤدي إعصار يهبّ على فناء صناعة إلى إنتاج طائرة بوينغ747، فنراه وغيره من العلماء متراصّين في دعم الداروينية عندما يظهر الدّين في الصورة.

الحاجة إلى بديل
لا شكّ أننا نحتاج إلى بديل، يحدث المؤلف قارئيه عن توماس تشارلمز الذي كان يلقي خطبه في الكنيسة، فتحدث في إحداها عن حادثة جرت معه عندما كان على متن عربة خيول تسير بهم في طريق جبلي، فعندما وصلت العربة إلى طريق ضيّق على حافة منحدر شديد، بدأ الحوذيّ (سائق العربة) بضرب خيوله بالسوط بشدة، الأمر الذي بدا لـ “تشارلمز” عملا خطيرا، لكن قائد العربة أوضح له أنّه كان عليه فِعْل ذلك ليصرف انتباه الخيول عن الخطر المُحدِق بهم في ذلك الطريق. إنّ لذع السياط جعلتهم ينشغلون بشيء آخر يُفكّرون به.

ينقل هيوستن عن تشارلمز قوله: إنّ الأمر لا يختلف بالنسبة للبشر. إنّ الناس لا يتخلّون أبدا عن عاداتهم المألوفة السيّئة بقوّة العقل ولا بقوة الإرادة، إنّهم يحتاجون إلى شيء جديد يُفكّرون به ويستجيبون له”، يعقب هيوستن في معرض استدلاله عن رأيه بأنه بدلًا من تضييع الوقت في تفنيد نظريات فرويد مثلا، فإنّ في فهم روعة البديل الآخر ما يُغنينا عن ذلك تماما كما فعلت لذعات السياط بالخيول.

بين التصوّر التقليدي والتصور المادي للعالم
هنا يستفيض هيوستن في الحديث عن مساوئ فكرة البديل إذا كان أسوأ من المستعاض عنه: فـ”إذا سعى شخص ما إلى صُنع مصيدة للفئران أفضل من المصائد المتوفّرة حاليا فإنّ هدفه مفهوم ومحترم ولا نملك إلاّ أن نرجو له التوفيق. ولكن إذا سعى أحدنا إلى صُنع مصيدة للفئران أسوأ من الموجود، فإنّ مسعاه قد يحتاج إلى تفسير يُقدّمه لنا طبيب نفساني. إذا نقلنا هذه الاستعارة إلى ساحة الإيمان بالغيبيات، فإنّ المعنى هو التالي: سواء كان التصور التقليدي للعالم حقا أم باطلا فإنّه تصوّر واضح وقابل للفهم على نحو شفّاف. أمّا التصوّر العلمي للعالم فإنّه ليس كذلك، لأنّه طالما أقصى العلة الأولى والنهائية من حسابه مطلقا، فإنّه يضعنا أمام طريق مسدود بشأن أسئلة ليس لديها أي إجابة عنها.” هنا يعلّق المترجم على هذا الكلام شارحا: لدينا تصور قديم للعالم  يعطينا إجابة عن كل شيء. سواء آمن به العلميون أم لم يؤمنوا، لا يحق لهم أن يطالبونا باستبداله إلاّ إذا كانوا بصدد إعطائنا تصورا أفضل منه.

لا يخفى أنّ هدف الكتاب الرئيسي هو تبيين قُصور التفسير المادي العلمي للعالم واقتناع صاحبه أنّ التفسير التقليدي (الديني) للعالم هو التفسير الأصحّ. فقد سعى الكاتب لحشد البراهين والنماذج الشاهدة على صحّة ما ذهب إليه.

فقد شبّه النظرة العلمية المادية للعالم بهذه الصورة في الحكاية الآتية:

تصوّر نفسك في بيت شعبي من طابق واحد في شمال الهند، وأنت أمام شباك زينة يُطلّ على منظر مدهش لجبال الهمالايا؛ إنّ ما فعلته الحداثة، في الواقع، مُشابه تماما لكونك تقوم بإسدال ستارة أمام تلك النافذة حتى مقدار بوصتين فقط فوق عتبتها وأرضيّتها. عندما أُمِيلت أعيُننا نحو الأسفل أصبح كلّ ما يُمكننا أن نراه الآن من الفضاء الخارجي هو الأرض التي بُنيَ عليها البيت.

في تشبيهنا هذا تُمثّل الأرض العالم الماديّ، ولكي نُعطي الأمور حقّها عندما تستحق ذلك بجدارة، نقول: إنّ العلم قد أظهر لنا العالم رائعا جدا بشكل لا يُصدّق. ولكن مع ذلك فإنّ هذا العالم الذي يظهر لنا، ليس جبل ايفريست.

إي إف سكيوماخر (من موقع جودريدز)

في موضع آخر ينقل حكاية عن دليل الحائر للكاتب “إي إف سكيوماخر” تحدث فيها عن تيهه وضلاله الطريق بينما كان يُشاهد معالم مدينة موسكو في العهد الستاليني. وبينما كان يبحث مرتبكا محتارا في خريطته، اقترب منه مرشد سياحي وأشار بأصبعه على الخريطة ليُبيّن له المكان الذي كانا يقفان فيه، فاعترض “سكيوماخر” قائلا:

– “ولكن أين تلك الكنائس الكبيرة التي نراها حولنا؟؟”

– أجابه المرشد السياحي بكل جفاف: “إنّها ليست مبيّنة على هذه الخريطة، نحن لا نُظهر مواضع الكنائس على خرائطنا.”

– “ولكن هذا غير صحيح، إنّ الكنيسة الموجودة هناك في زاوية الشارع، نجدها مُشارا إليها في الخريطة.” أصرّ “سكيوماخر” معترضا.

– أجابه المرشد السياحي: “أوه، هذه كانت كنيسة فيما سبق، أمّا الآن فهي متحف.”

ويُواصل “سكيوماخر” قائلا: حالتنا تشابه هذه القصة تماما. إنّ أغلب الأشياء التي اعتقد بها معظم البشرية، لا تظهر على خريطة الحقيقة التي حَصَلْتُ عليها من تعليمي في جامعة أكسفورد، أو لو ظهر شيء من تلك العقائد على الخريطة فإنّه يظهر كإشارات إلى متاحف، أي إلى أشياء اعتقد بها الجنس البشري في عهد طفولته (قبل أن ينضج)، ثمّ عندما بلغت البشرية سنّ الرشد، لم يَعُد الناس يؤمنون بها (صاروا ينظرون إليها كآثار الأسلاف كما ينظرون لآثار القدماء في المتاحف)” !!

 إنّ الغرض من هذه الحكاية ومن الصورة التي سبقتها: أن نستحضر في أذهاننا حقيقة أن العلم “في عملية إمطارنا بالمنافع المادية والمعرفة الهائلة بالكون المادي الطبيعي “محا وأزال الأمور الفائقة على المادة، من خريطتنا للحقيقة”

عندما ينكر العلماء –الماديون المقتنعون بالمادية- وجود أيّ شيء سوى الأشياء التي يمكنهم أن يُشغّلوا أدواتهم العلمية عليها، يجب أن يُوضّحوا أنّهم إنّما يُعبّرون في هذا الأمر عن آرائهم الشخصية كأيّ شخص آخر، ولا يدّعون حجية العلم في رأيهم هذا. ومن جهة أخرى، يجب على المتديّنين ألاّ يتدخّلوا في العلم طالما كان علما أصيلا لم يُنمّق ويُزخرف بالآراء الفلسفية التي هي من حقّ كل شخص.

ملاحظات وتنويهات عامة
يتألف الكتاب من جزأين وخاتمة ويتضمن كل جزءٍ عدداً من الفصول، أما الفصل الأول فيقدم تمهيداً تاريخياً متبعاً فيه المراحل التاريخية الثلاث التي أوصلتنا للمرحلة الحاضرة، ملقياً الضوء على الإنجازات والإخفاقات في كل عصر، والفصل الثاني يصف الأبعاد الروحية للعالم الذي كان يعيش فيه الناس قبل أن تحولهم القراءة الخاطئة للعلم الحديث إلى النفق المظلم وهي العبارة التي استخدمها المؤلف كاستعارة رئيسة في هذا الكتاب. وصف هذا النفق المظلم وجوانبه الأربعة يحتل الجزء الأول من الكتاب.

أما الجزء الثاني من الكتاب فينظر للمستقبل الذي رمز إليه المؤلف بالنور في آخر النفق، حيث تلامس فصوله الأولى بعض التنبؤات، ثم تستقر على مهمتها الأساسية وهي وصف ميزات ومعالم الرواية الدينية الواسعة الثابتة غير المتغيرة. والاستراتيجية المتبعة هي المعالجة الواضحة والمباشرة.

لعل مما يلفت انتباه القارئ العربي في الكتاب هو كثرة استطراد الكاتب في سرد تجاربه الشخصية لأجل توضيح أفكاره ونتائجه التي يُريد الوصول إليها ممّا يجعل الفهم سهلا في بعض الأحيان و مستعصيا في أخرى.

يقوم الكتاب على منهج الاستعانة بالكتب في معظم الفصول والمباحث التي ألّفها؛ فيختار لكل فصل كتابا يدعم فكرته ومن خلال مناقشته للكتاب يُوصل رأيه بسهولة ويُسر. فهو يُضفي على النص ثراءً ويعرّف القارئ بعناوين جديدة.

تحدّث الكاتب كذلك عن مساهمة الإعلام والتعليم الجامعي والقانون في تكريس النظرة المادية للعالم، فهذه الفصول من الكتاب تُعطي فكرة مجملة عمّا وصل إليه التفكير في المجتمعات الغربية حول الدين والإيمان، وهي من بين أهم الفصول الواردة في الكتاب.

في خاتمة كتابه توجّه د. سميث بانتقادات، على شكل نداء، للعلميين الذين يعتبرهم مجرّد قلّة قليلة. ذكّرهم في ذلك بعظماء بينهم أفضل منهم يحترمون الدين ويولونه أهمية. فعليهم إذا أن يحترموا الدين كما يحترم المهتمون بالدين العلم موجهًا خطابه لهم “هذه القراءة الخاطئة للعلم هي المسؤول الأوّل والرئيس عن إدخالنا في النفق –أي نفق المادية المظلم-، لأنّها تُقلّل من شأن الفن والدين والحبّ ومعظم الحياة التي نعيشها على نحوٍ مباشر عندما تنكر قدرة تلك العناصر على أن تعطينا أية بصائر، نحتاج إليها لإكمال ما يمُدّنا به العلم. هذا الموقف يُشبه أن نقول إنّ أهمّ ما في الإنسان هيكله العظمي كما يظهر على لوحة الأشعّة السينيّة !. إنّ خروجنا من النفق يتطلّب من العلم أن يُشارك في مشروع المعرفة مع سائر المناهج والطرق المعرفيّة الأخرى بدرجة متساوية لا سيما مشاركته منهج المعرفة الذي يتّبعه “طالبو الله”.


[1]  الكتاب من ترجمة د. سعد رستم وقد ترجمه ترجمة رفيعة وأثراه بإضافة الهوامش والتعليقات الجانبية التي تسهّل على القارئ العربي عملية الاستيعاب والتعرّف على أسماء جديدة، وقد نشرت الكتاب دار الجسور الثقافية، سوريا.ط1، 2005.

[2]  جوليان هوكسلي(1887-1975) عالم أحياء بريطاني اشتهر بإيضاحه المفاهيم العلمية لعامة الناس، متخرّج من جامعة اكسفورد.

[3]   د.هوستن سميث: مصدر سابق، ص103.

الإلحاد بين القديم والجديد

كانت العقائد الدينية المنزّلة السليمة – وحتى المحرّفة- ذات دلالة واضحة وكافية على وجود بارئ للكون والإنسان، إلّا أنّ انغماس النّفوس الضعيفة في الترويج للباطل يحثّ الناس على التشبّث بروح التّمرد على الدين، مما يزيد حجم مخالفة البشرية لنداء فطرتها، ويسهم في ازدياد الإعراض عن آيات الله في كونه وجحده خالقًا بارئًا، مما يفسّر جزءًا من ظهور الملاحدة في كل عصر ينادون بأفكارهم الشّاذة والترويج لآرائهم المناقضة للمنطق، وممانعة الحقّ بإنكار وجود الله عزّ وجل والعمى عن رؤية آياته.

لقد أنزل الله عزّ وجل آياته تدعو إلى الحق، وسخّر رجالاً في كلّ عصر يحملون لواء الدفاع عن دينه، ويصدّون أفكار المتمرّدين على رسالات الأنبياء بالحكمة والموعظة الحسنة، منعًا لانتشار تُرّهاتهم بين الناس، وإيقافًا لتسرّب ضلالاتهم فتعمل على إفساد إيمانهم.

الإلحاد بين الصعود والخفوت
إذا أردنا أن نعود إلى أصل نشأة الإلحاد في البشرية، فإننا نجد أنّ المشكلات التي يواجهها الإنسان على مرّ العصور لطالما كانت تأخذ طابعاً أخلاقياً ينمّ عن وجود خلل عقدي في النفس البشرية، والإلحاد مشكلة عقدية من أعظم المشكلات التي واجهها العالم قديماً، ومازال يواجهها في العصر الحديث، وهو السبب الرئيس لجميع المشكلات الأخرى والاضطرابات التي تواجه العالم، ولم يستطع التقدّم الحضاري أن يجد حلاًّ نهائيا لهذه المشكلة، وقد كان للإسلام دور عظيم في معالجتها، فقد اعترف القرآن الكريم بوجود الدهريين وأمر المسلمين بحوارهم والردّ على شبهاتهم ، وسجّل صوراً من جدلهم فقال: {وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموتُ ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدّهرُ ومالهم بذلك من علمٍ إن هم إلا يظنّون* وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات ما كان حجّتهم إلاّ أن قالوا ائتوا بآياتنا إن كنتم صادقين}[ الجاثية: 24-25].

وقد سبقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أفكار وفلسفات إلحادية، تَمثّلها من افترى التناقض بين الدين والفلسفة والعلم والعقل، وتطوّرت الأفكار الإلحادية مع الزمن إلى أن تبلورت بشكل مختلف تماماً عن حالها الأول، حيث أنشئت منظمات ومؤسّسات وجمعيات ومنتديات تجمع مفكّري الإلحادي تحت  مسمّى مذاهب وتيارات، وتبنّت الإلحاد دول عظمى –كالاتحاد السوفييتي المنحلّ- حرمت رعاياها من اقتناء أيّ كتاب مقدّس، وعدّت كل من اقتناها مجرماً يعاقَب قانونًا، مما جعل الملحدين يأخذون نفساً في كل مصرٍ وقطر، ويحاربون الدين باسم العلم ومن ورائهم دولٌ ومؤسسات ترعى حقوقهم.

شعار الاتحاد السوفييتي متبني الإلحاد

وها نحن نرى اليوم أن ملفّ الإلحاد لم يطوَ كاملاً، بل يلاحَظ أن حضوره يتصاعد وأن انتشاره يزداد منذ ركوب رجالاته وداعميه ثورة التكنولوجيا الرقمية وانتشار شبكات التواصل واستغلالهم أزمات البشرية وكوارث العالم للدعوة إليه وتشويه مبدأ التديّن والإيمان بالغيب تحت غطاء العقلانية.

دعاوى قاصرة حول الإلحاد
تواجه المجتمعات تحدّي انتشار ظاهرة الإلحاد اليوم، ويعود سبب كبير لهذه الظاهرة إلى غياب اهتمام أكثر المفكرين والعلماء عن إدراك أغلب المستجدات حيال هذا الملف؛ بل إن كثيراً منهم لا يكاد يخرج تصوّره عن واقع الإلحاد اليوم عن أحد تصورين:

الأول منهما يتلخص في القول: إن الإلحاد ما هو إلا مشهد استثنائي في البشرية وشذوذ نفسي، وأنه قلّما نجد ملحداً في مجموع الجنس البشري، فهم –برأيهم- قلة ضئيلة لا تكاد تذكر نسبتهم إلى مجموع البشر، وقد يسانَد هذا القول ببعض المقولات التراثية؛ كمقولة الإمام الشهرستاني: “أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فلست أراها مقالة، ولا عرفت عليها صاحب مقالة، إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدّهرية”.

أما التّصور الثاني: فيقول إنّ الإلحاد ما هو إلا حالة اقترنت في العهد القريب بالحالة الشيوعية، ففي الوقت الذي تمددّت فيه الظاهرة الشيوعية تمددت فيه الظاهرة الإلحادية، وحين تقلصت الشيوعية تقلّص الإلحاد، وبالتالي يستغرب أصحاب هذا الوصف الاهتمام بملف الإلحاد في هذا الوقت الذي انحسرت فيه ظاهرة الشيوعية منذ سنوات.

وللإنصاف فإنّ الدول التي تحللت من قبضة الشيوعية شهدت عودة كبيرة للتدين وترك الإلحاد، ولكن دولًا أخرى شهدت تمدُّدًا وتصاعدًا في ظاهرة الإلحاد، وهذه الموجة تستدعي رصدها وتسليط الضوء عليها للحدّ من انتشارها، كما أن هذا التصور لا يمكن قبوله بشكلٍ مطلق إذا ما نظرنا إلى الإلحاد ببعدها التاريخي، إذ إنه موجود قبل وجود الشيوعية في الواقع وبعدها.

الإلحاد في الغرب قديماً وحديثاً
لقد كان الإلحاد عند الغرب ناتجاً عن سيطرة الفكر المادّي، ومع إقرارنا بأنّه لا تعارض بين الكشوفات العلمية وقضية الوجود الإلهي، إلا أن الإلحاد استقطب قطاعاً عريضاً من الفلاسفة والمفكّرين الغربيّين وشرائح من الجماهير منذ الجاهليّة اليونانيّة إلى العصر الذي نعيش فيه، ويعيد دارسو الفلسفة القديمة ظاهرة الإلحاد إلى الفيلسوف اليوناني ديموقريطس (460 -370 ق م) الذي أعاد تولد العوالم وموتها إلى الضرورة والصيرورة، دون أن تحتاج إلى خلق الإله لها، ولعلنا نجد أهميته بوصف كارل ماركس (1818-1883م) له، فهو أوّل عقل موسوعي بين اليونانيّين –بتعبيره-، أما لينين (1870-1924م): فيرى أنّه ألمع دعاة المادّيّة في العالم القديم.

كارل ماركس متبني الإلحاد

كارل ماركس

 لقد صار –الإلحاد- مع تطوّر الحضارة الغربيّة مذهباً فلسفيّاً، وبلغ ذروته مع الماركسيّة بمادّيتها الجدليّة والتاريخيّة التي هيمنت على أحزاب وحكومات ومجتمعات مثّلت أكبر ظواهر الإلحاد في التّاريخ الإنساني، إلى أن جاء سقوطها المدوّي أوائل العقد الأخير من القرن العشرين.

ولا يُنكر بحال من الأحوال بأنّ ولادة الإلحاد في الغرب كانت أقدم من الكنيسة، إلا أنه انتشر بشكل واضح وعلني بعد أن وضعت الكنيسة قيودها على عقول الشعب، وأحكمت علهم الضغوطات الدينية، ففي منتصف القرن الثامن عشر وحتى بداية القرن التاسع عشر أصبح الإلحاد منهجاً وفلسفة يُبشّر بها على أيدي فلاسفة مختلفين بدؤوا بتحليل الظواهر العلمية والنفسية والاجتماعية بطريقة جديدة لا دور للخالق في هذه الظواهر.

ومع القرن العشرين انتشرت الفلسفات الوضعية التي يعدّ أوجست كونت (ت:1857م) المؤسّس الأول لها، فهي تتعامل مع الظواهر والوقائع المادية فقط وتتبنى شعار (ما لا يمكن رصده، لا وجود له) رافضة كل تفكير في الغيبيات وعلى رأسها الإله.

إلحاد متنامٍ بين الواقع والأسباب
لا بد من الإشارة إلى أنّ كثيرًا ممن ألحد من شباب العرب وشيبها في العقود الأخيرة لم يكن عن نتاج بحث وطول نقد وتفكير، وإنما انجرارًا مع التيّار أو ضياعًا مؤكّدًا لمن لا أساس علمي له أمام الشبهات الملقاة عليه، فالإلحاد المتصاعد لدى كثير من شباب العرب اليوم بعيد كلّ البعد عن دعاوى العقل والبحث، لأنه لم ينبع منهما بكل بساطة، وإنما كان مرآة لتقليد الغرب وانكسارًا أمام الشبهات.

عودة على وصف الإلحاد بأنه قليل وأهله “شرذمة” كما ورد في كلام الإمام الشهرستاني، إلا أنه لا يمكن القبول بهذا الوصف عن الإلحاد في المرحلة التاريخية القديمة له، إذ إن الواقع العقدي الذي نشهده اليوم مختلف تماماً عن واقع هذه المقولة، فانتشار الإلحاد في العالمَين الغربي والعربي واتساع خارطته يشي بأن أهله يزدادون وأنشطتهم تتصاعد وتأثيرهم ينمو في الواقع، فبحسب كتاب حقائق العالم الصادر عن CIA فإن نسبة معتنقي الإلحاد تجاوز 2،01%من مجموع الجنس البشري، ويمثل اللادينيون 9،66% وذلك بحسب إحصائية صدرت عام 2010م، هذا وفي الوقت الذي يمثّل فيه اليهود 0،22% فقط من مجموع البشر.

أما بالنسبة للعالم العربي فقد كانت نتائج الإحصائيات مخيفة بحسب ما أعلن معهد غالوب الدولي عام 2012م، بعد أن أجرى استطلاعًا في عدد من الدول العربية شمل ألوفًا من مختلف شرائح الشباب في هذه المجتمعات، أوضح أن نسبة الملحدين قاربت 6%من سكان المملكة العربية السعودية لتكون بذلك أول بلد عربي يتجاوز الإلحاد فيه نسبة 5% مقابل 75%من المتدينين و19% ممن يرون أنفسهم غير متدينين.

وبطبيعة الحال فإنّ هذه الأرقام تقفز سريعاً وبشكل كبير في أيامنا الحالية في عصر الانفتاح الالكتروني وتبادل الأخبار والعلوم والأفكار بسرعة لم يكن العقل الإنساني يتخيلها. إلا أن هذه الأرقام تؤكد بدورها أن ثمّة تغيراً كبيراً في طبيعة التوزيع الديموغرافي للملاحدة اليوم، وأن الإلحاد لم يعد تلك الحالة الشاذة في المشهد العقدي.

إن من أبرز الأسباب التي ساعدت في انتشار الإلحاد في تلك الفترة هي الظروف السياسية والاجتماعية، التي أودت بالشباب إلى إنكار وجود مدبر لهذا الكون، أو منشئ له، والمتهم هو الإسلام كما يدعي الفكر الإلحادي العربي، وعلى رأسهم من اتبع ايديولوجيات غربية إلى حد الماركسية، أو القلّة منهم التي قلدت الفئة الوجودية.

إنّ الإلحاد موجود بين البشر وليس بغريب عنهم؛ فهو ظاهرة قديمة متجددة تنمو تتطور بواقع الحال، ويجب أن نقرّ بوجودها إلا أنها حالةٌ غير شرعيّة لروح البشرية، وشذوذ عن الفطرة السليمة، ونشاز في تناغم الإنسان مع مطالب الروح، ولا بدّ من بذل الجهد في البحث عن أسباب هذه الظاهرة ووضع الحلول المناسبة لمكافحتها.


المصادر والمراجع:

  • الله والإلحاد، القس الدكتور أمير ثروت، النشر p t w ، مطبعة سان مارك.
  • الإلحاد في الغرب، رمسيس عوض، سينا للنشر، القاهرة، الانتشار العربي، بيروت ط1،1997م
  • الإلحاد مشكلة نفسيّة، عمرو شريف،ط1 نيوبوك للنشر والتوزيع، القاهرة، 1437ه/2016م
  • نظرات في الفكر الإلحادي الحديث، مشير عون.
  • الإلحاد في العصر الحاضر وموقف العقيدة الإسلامية منه، عبد العزيز المحمدي.
  • الملل والنحل، الشهرستاني، ت: محمد الكيلاني.

معجزة الخلق.. فيديو يصور للمرة الأولى طيّ الحمض النووي الريبي

على الرغم من وجود مقاطع فيديو كثيرة تمثّل عمليّة طيّ الحمض النووي الريبي (RNA)، إلا أنها ليست سوى نماذج تقديرية تولّدها الحواسيب مبنيّة –في مجملها- على التقديرات والافتراضات، مما يجعلها مليئة بالثغرات، إلا أن دراسة جديدة لفريق من جامعة نورث وسترن أظهرت فيديوهات تمثيلية دقيقة لكيفية طي جزيئات الحمض النووي الريبي حيث تلتئم الخلايا بعضها مع بعض بهدف أداء وظائف محددة، وذلك في إنجاز مذهل يمكن أن يساعد في تطوير علاجات للأمراض المرتبطة بالحمض النووي الريبي، بما في ذلك مرض ضمور عضلات العمود الفقري وفايروس كورونا الجديد.

في هذه الدراسة التي نُشرت في 15 يناير/كانون الثاني الجاري، في مجلة (Molecular Cell)، تمكّن العلماء من تطوير تقنية جديدة لتصوير مقاطع فيديو لـ”آر إن إيه” ‏-الجزيء الجيني الذي يخبر الخلايا عن كيفية بناء البروتينات- باستخدام البيانات التجريبية وخوارزمية حاسوبية،حيث طوّر فريق من الباحثين بقيادة جوليوس ب. لاكس برنامجًا حلل البيانات المتوفرة حول طي الحمض النووي الريبي أثناء تصنيعه، وذلك باستخدام أدوات حسابية لتنظيم هذه البيانات والكشف عن النقاط التي ينثني فيها الحمض النووي الريبي وما يحدث فيه بعد هذه العملية، لينتج الباحثون أول فيلم على الإطلاق يعتمد على البيانات حول كيفية طيات الحمض النووي الريبي كما تصنع بواسطة الآلات الخلوية، ومن خلال مشاهدة مقاطع الفيديو الخاصة بهذا الطي، اكتشف الباحثون أن الحمض النووي الريبي غالبًا ما ينثني بطرق مفاجئة مثل ربط نفسه في عقد- ثم فك الارتباط على الفور للوصول إلى بنيته النهائية.

وتُظهر مقاطع الفيديو الجديدة المذهلة كيف يتشابك “آر إن إيه” في عقدة غير منتظمة أثناء تشكلها ثم تفكيك نفسه في الثانية الأخيرة وذلك بطريقة أدهشت العلماء.

يقول لاكس: “يحدث الطي في جسمك أكثر من 10 كوادريليون مرة في الثانية” يحدث ذلك في كل مرة يتم فيها التعبير عن الجين في خلية، ومع ذلك فنحن لا نعرف سوى القليل عنها، تتيح لنا أفلامنا أخيرًا مشاهدة حدوث الطي للمرة الأولى “.

الحمض النووي الريبوزي
يقسم الحمض النووي لنوعين، أولهما الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين “دي إن إيه”(DNA)، الموجود في نواة الخلايا الحية، وثانيهما الحمض النووي الريبوزي “آر إن إيه” (RNA) الذي يوجد لدى ‏كل الكائنات الحية‎ ‎والفيروسات، إلا أنه لا توجد بنية مستقرة دائمة للحمض “آر إن إيه”، حيث يمكن له التسلسل ضمن عدد من البنى، ولوحظ أن لديه ما يزيد على 150 نوعا من الترابط، وتحتوي جينومات كثير من الفيروسات‎ على “آر إن إيه” فقط بصفته حاملا للمعلومات الوراثية، ‎وتوجد دراسات لاستخدام جزيئات “آر إن إيه” في العلاج وإنتاج اللقاحات؛ عبر استهداف الجينات الفيروسية لإسكاتها ومحاربة ‏العدوى والأمراض.

يقول جوليوس ب. لاكس قائد الفريق البحثي: “إن طي الحمض النووي الريبي عملية ديناميكية أساسية للحياة، كما أن الحمض النووي الريبي هو جزء مهم حقًا من التصميم التشخيصي والعلاجي، وكلما عرفنا المزيد عن تعقيدات وطي الحمض النووي الريبي، كان بإمكاننا تصميم العلاجات مستقبلاً بشكل أفضل”.

تصوير مقاطع الفيديو
استخدم الفريق من الحمض النووي الريبي في التجارب جزيء التعرف على الإشارة “إس آر بي” (SRP)- كنموذج، لكونه جزءًا أساسيًّا في عدد من أنواع الخلايا، ومن أجل تكبير كيفية بناء الخلايا لهذا الحمض النووي استخدم الفريق مواد كيميائية لإيقاف عملية البناء مؤقتا، ثم سجلوا كيفية تفاعل الجزيئات المكونة له داخل الخلية، وعن طريق التقاط البيانات الفردية طور الفريق ‏لقطات تتعلق بكيفية بناء الحمض النووي الريبي بشكل عام عبر الزمن‎.‎

لقد كانت هذه اللقطات بمنزلة إطارات فردية في حين ستصبح مقاطع الفيديو النهائية لتشكيل الحمض ‏النووي الريبي، بينما قامت الخوارزمية بشكل أساسي ‏بربط الإطارات الفردية معا في أفلام مصغرة وملء الفجوات بين الإطارات، وهنا لاحظ الفريق كيف أن تشابك الحمض النووي الريبي في عقد مربوطة سيجعل الجزيء كله عديم الفائدة.

يقول قائد الفريق البحثي يوليوس لاكس‎‎، في بيان صحفي  إن “الحمض النووي الريبي ‏لن يعمل بوجه صحيح إذا كان محاصرًا ممّا يعني وجود عقدة تعترض ‏شكله النهائي، وما كان مفاجئًا هو كيفية خروج أجزاء الحمض من هذا الفخ، وما نتج عنه من لدينا مقاطع فيديو عالية الدقة”.‏

الإلحاد ومبدأ التشويه

لا يُعَدّ الإلحاد الفرديّ ظاهرة طارئة على الفكر الإنسانيّ، إذ إنّه –بالرغم من ضعف انتشاره بشكلٍ عام في مختلف البلاد الإسلاميّة- موغِلٌ –كنزعات فرديّة- في التاريخ، بخلاف ظاهرة التديّن ذات الطابع الجماعيّ، إلا أنّه في شأنه التاريخيّ قديمٌ كشأن البحث والحديث في الإيمان والألوهيّة.

تتنوّع ركائز الإلحاد –بطبيعة الحال- بتنوّع الرؤى والسياقات والبواعث النفسيّة والاجتماعيّة التي تحيط بالشخص المتوجّه نحو “الإلحاد”، إلا أنه بالرغم من ذلك فإنّ انتشاره ظاهرةً متفشّيةً لم يرصَد تاريخيًّا إلا بالتوازي مع ظروف اجتماعيّة وتشوّهات معنوية ونفسيّة معينة، كما في انتشار ظاهرة الإلحاد والتفلّت من المعنى المطلق إلى النسبيّة المطلقة وظهورها في مدارس أدبية وفكريّة متعددة بالتوازي مع تصاعد الحروب مطلع القرن العشرين وانعكاساتها على الفكر البشري، أو كتسارع الوقوع في الشبهات مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضيّة في قرننا الحالي المتوازية مع الكوارث البشرية والطبيعية في العقدين الأخيرين .

الإلحاد وتشويه اليقين
يلاحَظ من خلال متابعة وفحص مقولات الإلحاد –بما هو موقف معرفيّ رافض للإيمان بوجود إله- وجود سمات مشتركة في خطاب الإلحاد باعتباره عقيدةً للتبرّؤ من الدين والإيمان بالغيبيات، وأبرز هذه السمات هي تشويه مرتكزات الخطاب الإيمانيّ، بدءًا من تشويه مبدأ الألوهية والإيجاد من العدم، مرورًا بتشويه العلم باستغلال منجزاته وتأويلها في سبيل تدعيم الحجج العقلية المتناقضة لرفض الإله وصولاً إلى تشويه الأخلاق والمرجعية الدينيّة المشتركة لها، وذلك في إطار السعي لإضفاء مشروعيّة للإلحادِ، باختراع افتراضات أغرب من الخيال، كفرضية الأكوان اللانهائية.

يبدأ الإلحاد بتشويه الميتافيزيقا والإيمان بالغيبيات، وتوجيه النظر إلى التفكير المادّي، ووصف العالم الطبيعي بأنّه خارج عن نطاق الإيمان، وتشويه البراهين اليقينية لوجود الإله وإدخالها في حيّز الفرضيات، واقتراح بدائل أرضيّة/مادّيّة لها، ثم تدعيم هذه الفرضيّات بالتطبيع والترويج المستمر ليغدو الإيمان بوجود الإله وجهة نظر قابلة للدحضِ لا يقينًا معرفيًّا وروحيًّا، وبالتالي سلب المعرفة أحد أهمّ أسبابها اليقينيّة، أي سلبها القدرة على الترجيح؛ إذ إن اليقين سواءً كان دينيًّا أو علميًّا يستند على البراهين العقلية الخارجة عن نطاق الحسّ ذاته، وبذلك فإن رفضها ونقضها تمهيد لنقض العلم نفسه بنفسه.

لا تقتصر آثار تشويه اليقين عند قضيّة الإيمان بالله، بل يمتدّ الأمر لتشويه الوعي والعمل على صناعة وعي زائف بواقع الحياة ومنظومة العلاقات التي تحكمها، وهذا ما نراه ماثلاً أمامنا من خلال التأثر المتصاعد بالشخصيات “الخطابية” التي تظهر إعلاميًّا منافحة في الندوات عن الإلحاد بالتوازي مع الضخ المنظّم لأفكارهم في المسلسلات والسينما والروايات بهدف تطبيع الأجيال الناشئة معها والوصول إلى مجتمعات ضائعة، مشوّهة الفطرة، خائبة المسعى.

تشويه الأخلاق
حسنًا؛ إن استطاع الإلحاد تشويه العقل وإفساد مبادئه، فالطريق الآن أهوَنُ أمام هدف تشويه سلوك الإنسان، فقد تحطّم أو تخلخل الأساس الذي تستند إليه قِيَم السلوك، بتفريغ الدين من الالتزام بأوامره ونواهيه الأخلاقية، وهو ما نراه جليًّا بإلقاء اللوم في مآسي البشرِ الناتجة عن الحروب والفقر والفساد البشري على مضامين العقائد الدينيّة، وبالتالي دفع الناس إلى بغض الدين وحذف الإيمان بمصدره من سجلّ الحياة، أو دفعه إلى أضيق زواياه في حال كان تحقيق الهدف الأول مستحيلًا.

إن السؤال الذي يفرض نفسه ههنا: في حال إزاحة الدين عن تصورات الفرد، فمن أين –إذن- يستمدّ الإنسان مبادئ تعامله مع الآخر، وطريقة عيشه مع نفسه ومن حوله؟

أَمِن العقل وحده؟ فعقول الناس لا تتناهى ولا تكاد تتفق دون سنَدٍ تنضبط إليه.

أم يُترَكُ الأمر على عواهنه دون مسار واضح فلا يُعلَم من المظلوم ولا الظالم، ولا يعرَف المذنبُ من البريء؟

يقرّ عامّة الملحدين بأن الطبيعة لا تخضع لحتميّة الخير أو الشر، فهي وجودٌ محضٌ محايدٌ لا يبالي بالبشر وتحوّلاتهم، ومن ثمّ فإنّ الإنسان –بحسب كهنوت الإلحاد- ليس إنسانًا أخلاقيًّا بطبعه، وإنما يتشكّل فهمه للعلاقات ومبادئها والأخلاق وآثارها ضمن المجتمع الذي ينشأ فيه.

هذا الادعاء ينطوي على تناقض داخلي يتجلّى بالنظر إلى مقدمة الكلام وخاتمته، فإن كانت الطبيعة أو المادة خالية من ثنائية الخير والشر، غير خاضعة لهما، فكيف يمكن القول بأن مصدر الأخلاق هو المجتمع الذي هو نتاج الطبيعة، فإذا ما كان الإنسان مادّةً أو ناتجًا عن مادّةٍ، فلماذا لا يتشكّل هو الآخر خاليًا عن ثنائية الخير والشر؟

وإذا ما كان مفهوم الأخلاق مستندًا إلى نسبية البشر وأفكارهم المتفاوتة، فإن ذلك يوصلنا إلى أن إصدار حكمٍ بتخطئة جهة ما أمر أقرب إلى الاستحالة، فيستوي نضال مانديلا بتعذيب سجّانيه، وجبروت هتلر بدماء مقتوليه، وهو ما اعترف به ريتشارد دوكنز بقوله: “داخل العالم الإلحادي المادي الحتمي لا يمكن تخطئة هتلر”[1]، ومن هنا نجد أنّ دوكنز يتّسق مع إلحاده ويلتزم بمآلاته، فيرفض صبغ الوجود بأيّ صفة قيميّة على الإطلاق، ففي هذا العالم لا يوجد شرّ ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرّحمة، ويقرّ في الوقت نفسه أنه من العسير جدًّا الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينيّة[2].

ما البديل لأخلاق الوحي
إن المصدر المطلق للقيم والأخلاق الدينية هو الوحي أو الرسالة التشريعية العامة التي أنزِلت إلى الأنبياء لهداية البشر، ولذلك فإن القدر المشترك والقيم الثابتة فيها يمكن أن تستغرق التاريخ كله، وتصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعه، أما مصدر القيم النظرية فهو العقل أو العرف، ومن ثمَّ فإنه لا يستنكَر فيها تغيّرها من مجتمع لآخر ومن إنسان آخر.

وإذا كان الإنسان المؤمن بالإله يرى قوة الإلزام الأخلاقي في الوحي نابعة من وجود الله وإيمانه به، فإنّ قوة الإلزام في القيم البشرية لا تستند لمبدأ العدالة وإنما إلى السياق الذي يفرض نمطًا معينًا من الأفكار والتوجّهات لدى نخبة من الناس، حيث يستندُ الفَرض إلى السلطة من وجه، وإلى القوة من وجوه أخرى.

هذا البديل المشوّه عن “أخلاق الفطرة” ينتج لنا مآسي لا تكاد تنتهي، بدءًا من تشويه الفطرة، وإباحة كلّ شيء –كما يقول دوستويفسكي-[3]، وصولًا إلى عدم التخطئة ودعم الشذوذ وكل ما يمكن فرضه بمنطق القوة، دون استنادٍ للحق أو العدل، وذلك تحت يافطة المساواة التي تصنَّعُ صنعًا في مطابخ التوجيه والترويج والتطبيع.

إن مبادئ الأخلاق من الأمانة والرحمة والصدق والعطف على الضعيف قد أودعها الله في فطرة المرء وغريزته منذ لحظات تكوينه الأولى، ويأتي دور الدين ههنا ليشذّبها ويدعّمها، وهو ما أشار إليه خاتم الأنبياء بقوله: (إنما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق) التي هي جزءٌ أصيل من الرسالة الربانية للبشر.

بهذا يتضح لنا أن مصدر الأخلاق إلهيّ؛ لأن الأخلاق ظاهرةً واقعية في الحياة الإنسانية، لا يمكن تفسيرها تفسيرًا عقليًّا، ولعل في هذا الحجّة الأولى والعملية للدين، فالسلوك الأخلاقي إما أنه بلا معنى، وإما أن له معنى في ظل الإيمان بوجود الله، وليس هناك اختيار ثالث. فإما أن نسقط الأخلاق باعتبارها كومة من التعصُّبات، أو أن نُدْخِل في المعادلة قيمةً يمكن أن نسميها الخلود، فإذا توافر شرط الحياة الخالدة، وأن هناك عالماً آخر غير هذا العالم، وأنّ الله موجود، بذلك يكون لسلوك الإنسان الأخلاقي معنىً وتبرير[4]

 ماذا بعد؟
ليس الأمر كما يشيع لدى بعض الناس، فقد يكون الإنسان ملحدًا وصاحب أفعال حسنةٍ وتعامل خلقيٍّ محترم بين الناس، إلا أنّ ذلك لا يستند –بالضرورة- إلى تشريعٍ إلحاديّ للأخلاق، وإنما إلى طَبْعٍ جبِل عليه المرء ذاته، أو إلى مؤثّرات أخرى، إذ إن التخطئة الأخلاقية في بنية الإلحاد أمر غير وارد، وما ينبغي التأكيد عليه هو أن الإلحاد بذاته ليس أخلاقيًّا ولا يمكن أن ينتج منظومة أخلاقيّة عادلة.

يصطدم الإلحاد –على الدوام- بأمرين لا مفرّ منهما، الإيمان بالإله والغيبيات، إضافة إلى رفض التعاليم الأخلاقية في الأديان، وذلك يقتضي هدم الأسس التي بني عليها الأمران، أي عقيدة الإيمان بوجود “الإله” المطلق، وذلك يوصلنا إلى التشويه الكامل لكل ما يمكن أن يجمع البشر.

إن الأصل في طبيعة الوجود الإنساني أنه لا وجود لأي انفصال بين الحياة والدين والأخلاق والواقع عملاً بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162- 163] ومن ثمّ فإنه لا يمكن للوجود الإنساني ومعارفه أن يصل إلى سويّة النضج واليقين إلا باستناده على الإيمان بالخالق الذي أنشأ الوجود، ولا يمكن أن نصل إلى الخلاص الدنيوي إلا باتباع التعاليم الإلهية التي تحدّد لنا الأفق الحضاري الذي يجب أن نتحرّك فيه، وإلا غدا الوجود عبثيًا بانقطاعه عن الصلة بالله.


[1] ينظر الرابط الآتي: https://bit.ly/37GB22J

[2] نقلاً عن: الأخلاق والإلحاد، إسماعيل عرفة، http://midan.aljazeera.net/intellect/philosophy/2017/9/19

[3] إذا لم يكن الإله موجودًا فكل شيء مباح، على لسان “إيفان” الملحة في رواية الإخوة كارمازوف.

[4] ينظر: الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزة بيغوفتش، ص: 178.

“ما لَم تُحِط بهِ خُبرًا”.. حكمة الابتلاء

لا أذكر أنّي قرأت عن خبر مؤلم أو صادفت حدثاً مؤلماً إلّا تبادر إلى ذهني في الوهلة الأولى سؤال الحكمة من وجود الشر، أُصابُ بذهولٍ لحظيّ عند السماع بخبر حَدَث أو جريمةٍ قاسية ثُمّ أعود لأذكّر نفسي بأنّنا لسنا في دار العدل ولا في دار الجزاء، ومن هنا يظهر أمام كُلٍّ منّا مفترق طُرق؛ فإمّا إنكار وجود الله أمام ذهولنا بما يحدث من شُرور، وإمّا السعيُ بحثاً عن علمٍ نُحيلهُ إلى عمل فيزداد الإيمان بوجوده تعالى ويترسّخ أكثرَ بالألم.

ملحدٌ جاد ومؤمنٌ جاد
يقول سيّد قطب: “ولماذا؟ -في هذا المقام- سؤالٌ لا يسأله مؤمن جاد ولا يسأله ملحد جاد.. المؤمن لا يسأله لأنّه أكثر أدباً مع الله -الذي يعرفه بذاته وصفاته وخصائصه- وأكثر معرفة بطبيعة إدراكه البشريّ وحدوده، وأنّه لم يُهيّأ للعمل في هذا المجال.. والملحد الجاد لا يسأله، لأنّه لا يعترف بالله ابتداءً، فإن هو اعترف بألوهيّته عرف معها أنّ هذا شأنُه سبحانه ومقتضى ألوهيّته، وأنّهُ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]، لأنّه وحده المُهيمن العليم بما يفعل.” [كُتيّب هذا الدين: ص ٨]

يؤسفني القول بأنّ هذا الكلام كان بديهياً أو فلنقل كان مُسلّماً به عند المسلمين في بدايات الإسلام، والقرآءة في السيرة تؤكِد على هذا، فكم من أحداث مؤلمة كان يقوم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- من بعدها ليواصل تبليغ رسالته، يُؤذَى ويموت أهله ويُحارَب، يحزن، ثم تتنزل عليه آيات الله تخبره عمّا لاقاه الأنبياء من أقوامهم ومن أهلهم، بل ويخبره عمّا لاقاه من هم أقلُ مقاماً من الأنبياء، عن آسية زوجة فرعون والسحرة التائبين، وعن أصحاب الأخدود، وتبقى الآيات محفوظة إلى يومنا مؤكدةً لنا مِراراً أن لسنا في دار الجزاء، فالقصة انتهت في عالم الشهادة بعد أن أُحرِقَ أصحاب الأخدود، لكن ما يزال لها بقيّة في عالم الغيب.

مع طغيان المادة اليوم، ومع بدء عبادة الناس لأهوائهم ومقتنياتهم وأموالهم، لم تعُد هذه الحقيقة مفهومة، فمنتهى أحلام الناس في الدنيا، وفي أسوء الأحوال يفرض علينا هذا العالم الماديّ صورة العجوز الشائب المستلقي على سريره، يده بيد زوجته العجوز، ثُمّ في قمة الأمن، تخرج روحه.

هذه الخاتمة التي ما زال روّاد العلم وعبدة المادة يسعون للحصول عليها وإقناع الناس بأنّهم لابدّ أن يتقلبوا طوال حياتهم بين ألوان النعيم ثمّ يختمونها بذاك المشهد، لكن عَبَثاً، نرى بأعيُينا كلّ يوم بأنّ محاولاتهم تعطي نتائج عكسية، نراهم في قمة الرفاه الدنيويّ وفي قمة ما يزعمون بأنّها حرية، يُنهون حياتهم بأيديهم وهم في مقتبل أعمارهم، وإن عدنا لسؤال الشر، فإننا ندرك بأنّه مهما حاول الإنسان أن يجد اللذة الدائمة فإنّه لن يصل إليها، لا بتقنيات ولا بعلم، فذات علم الكيمياء الذي يسهم في صناعة الدواء، يسهم في صنع القنابل.

وبين المؤمن والملحد، أستحضر مشهداً لأُمٍ قُتل ابنها الصغير ورأته أمام عينيها مضرجاً بالدماء، وقد اختارت الصبر واستحضرت عدالة الله، فروح ابنها في عليين بين يدي الإله الرحيم العادل، الذي شقّ سمع طفلها وبصره في رحمها، ومتّعها به سنيناً وأخذه رحمةً لحكمةٍ يعلمها وحده، ووعدها إن صبرت بأن تلقاه في الجنة وبأن يُبنى لها فيها بيتٌ اسمه الحمد.

وهذا المشهد يدفعني للحديث عن اليُسرِ داخل عمق العُسر.

أشدّ قُرباً
يقول ابن الجوزي: “فالحقّ عزّ وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طيّ البلاء، وإنّما البلاء المحض، ما يشغلك عنه، فأمّا ما يُقيمكَ بين يديه، ففيه جمالك.

وقد حُكي عن يحيى البكّاء: أنّه رأى ربّه عزّ وجل في المنام، فقال: يا رب؛ كم أدعوك ولا تجيبني؟ فقال: يا يحيى؛ إنّي أُحب أن أسمع صوتَك.” [صيد الخاطر: ص ٦٠].

ويقول تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(٦)}[الشرح]، كم منّا أساءَ فهم الآية، وكأنّما بدّل (مع) بـ(بعد)، لكنّ الآية تقول أنّ اليُسر في داخل العُسر نفسه، فكم من لذة قرب لله ومناجاة له لم نستطع تحصيلها إلا عند الشدائد، ولرُبما لكُل إنسانٍ يؤمن بالله قصة مع سجدة أو خلوة في الألم، دعى الله فيها واستسلم بين يديه كأنّه أمامه حقًّا، فأبدله الله في تلك اللحظة بألمه الشديد لذّة لا تشبه لذّات الدنيا، فكانت الأصوات من حوله تغيب، والمكان من حوله يُنسى، وصار بين يدي الله حاضراً بقلبه قبل جسده، ثمّ بعد انقضاء الشدة حاول العودة إلى تلك اللذة في الرخاء فلم يستطع تحصيلها، ولا يخفى أيضاً أنّ العسر يحمل بداخله الكثير من اليُسر الذي يتجلّى في صورٍ كثيرة، لكن إن لم يكن العسر يحمل إلا لذة القرب من الله فهذا يكفي، ويكفينا قول ابن تيمية لتلميذه ابن القيّم عن حبسه في السجن : “مايصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ إن رحت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بدلت ملء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، على ما سبّبوا لي فيه من الخير. ” [الوابل الصيّب].

المشهد الأخير
المشهد الأخير ليس هنا، حيث لا شيء يضمن العدل المُطلق، لا قانون ولا بشر ولا محاكم ولا مُنظمات، لا يمتلك العدل المطلق سوى الله، حيث يجمع الخلائق يوم القيامة، فلا يضيع حقُّ إنسان، بل ويقول صلى الله عليه وسلم: “لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء” [صحيح مسلم : (4/1997)]، فإذا كان حقُّ الشاة يُرد، فكيف بالبشر المظلومين، أو بمن قاسى أشدّ أنواع الألم، فلا بُدّ أن تُردّ الحقوق مهما صغرت، وسنرى حينها المجرمين يتساءلون مالِ هذا الكتاب لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرة، فلا مهرب اليوم، حيثُ تشهد الخلائق، وتشهد أعضاء الإنسان على ما فعل، فإمّا نعيمٌ مقيم وإمّا شقاء{وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:٤٤]

فإنّ الإجابة عن سؤال الشر لا نحصل عليها بالشكوى ولا بالهروب من النور إلى ظلمات الدنيا أو ظلمات الإلحاد، وإنّما نحتاج إلى عودةٍ حقيقيةٍ إلى الكتاب الذي أخبرنا بالهدف من وجودنا، ثمّ الإيمان بما فيه، والعمل، العلم لا يكفي دون عمل يتبعه ودون دعاءٍ مُستمر لله  بتثبيت قلوبنا على دينه ، أمّا الجهل وعبادة الهوى والتثاقل عن العمل، فكُلٌ منها تؤدي إلى التيه والحسرة وعدم الحصول على شيء، لذا يجدرُ بنا العمل لنكون ممن قِيلَ فيهم “وَعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: “قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ”. [رواه مسلم].